﴿اللیلة 901﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن السِّنَّوْر قال للفأر: ائذن لي أن أبيت عندك هذه
الليلة، ثم أروح إلى حال سبيلي. فلما سمع الفأر كلام السِّنَّوْر قال له: كيف تدخل
وكري وأنت لي عدوٌّ بالطبع، ومعاشك من لحمي؟ وأخاف أن تغدر بي لأن ذلك من شيمتك؛
لأنه لا عهد لك، وقد قيل: لا ينبغي الأمان للرجل الزاني على المرأة الحسناء، ولا
للفقير العائل على المال، ولا للنار على الحطب، وليس بواجب عليَّ أن استأمنك على
نفسي، وقد قيل: عداوة الطبع كلما ضَعُف صاحبها كانت أقوى. فأجاب السِّنَّوْر
قائلًا بأخمد صوت وأسوأ حال: إن الذي قلتَه من المواعظ حقٌّ ولستُ أُنكِر عليك،
ولكن أسألك الصفحَ عمَّا مضى من العداوة الطبيعية التي بيني وبينك؛ لأنه قد قيل:
مَن صفح عن مخلوقٍ مثله، صفح خالقه عنه. وقد كنتُ قبل ذلك عدوًّا لك، وها أنا
اليومَ طالِبٌ صداقتك، وقد قيل: إذا أردتَ أن يكون عدوُّكَ لكَ صديقًا، فافعل معه
خيرًا. وأنا يا أخي أعطيك عهد الله وميثاقه أني لا أضرُّكَ أبدًا، ومع هذا ليس لي
قدرةٌ على ذلك، فثِقْ بالله وافعل خيرًا واقبل عهدي وميثاقي. فقال الفأر: كيف أقبل
عهدَ مَن تأسَّسَتِ العداوة بيني وبينه، وعادتُه أن يغدر بي؟ ولو كانت العداوة
بيننا على شيءٍ من الأشياء غير الدم، لَهان عليَّ ذلك، ولكنها عداوة طبيعية بين
الأرواح، وقد قيل: مَن استأمن عدوَّه على نفسه، كان كمَن أدخَلَ يده في فم الأفعى.
فقال السِّنَّوْر وهو ممتلئ غيظًا: قد ضاق صدري وضعفَتْ نفسي، وها أنا في النزع،
وعن قليلٍ أموت على بابك، ويبقى إثمي عليك؛ لأنك قادرٌ على نجاتي ممَّا أنا فيه،
وهذا آخِر كلامي معك. فحصل للفأر خوفٌ من الله تعالى، ونزلت في قلبه الرحمة، وقال
في نفسه: مَن أرادَ المعونةَ من الله تعالى على عدوِّه، فَلْيصنع معه رحمةً
وخيرًا، وأنا متوكِّل على الله في هذا الأمر، وأُنقِذُ هذا السِّنَّوْرَ من الهلاك
لأكسب أجره.
فعند
ذلك خرج الفأر إلى السِّنَّوْر وأدخَلَه في وكْرِه سَحْبًا، فأقام عنده إلى أن
اشتَدَّ واستراح وتعافى قليلًا، فصار يتأسَّفُ على ضَعْفه وذهاب قوته وقلة
أصدقائه، فصار الفأر يترفَّقُ به ويأخذ بخاطره، ويتقرَّب منه ويسعى حوله، وأما
السِّنَّوْر فإنه زحف إلى الوكر حتى ملك المخرج خوفًا أن يخرج منه الفأر، فلما
أراد الخروج قرب من السِّنَّوْر على عادته، فلما صار قريبًا منه قبض عليه وأخذه
بين أظافره، وصار يعضُّه وينثره ويأخذه في فمه، ويرفعه عن الأرض ويرميه ويجري
وراءه، وينهشه ويعذِّبه، فعند ذلك استغاثَ الفأر وطلب الخلاص من الله، وجعل يعاتب
السِّنَّوْر ويقول: أين العهد الذي عاهدتَني به؟ وأين أقسامك التي أقسمتَ بها؟
أهذا جزائي منك وقد أدخلتُكَ وكري واستأمنتُكَ على نفسي؟ ولكنْ صدَقَ مَن قال: مَن
أخذ عهدًا من عدوه، فلا يبتغِ لنفسه نجاةً. ومَن قال: مَن أسلَمَ نفسَه لعدوِّه،
كان مستوجبًا لنفسه الهلاك. ولكن توكَّلْتُ على خالقي، فهو الذي يخلِّصني منك.
فبينما
هو على تلك الحالة مع السِّنَّوْر وهو يريد أن يهجم عليه ويفترسه، وإذا برجلٍ
صيادٍ معه كلاب جارحة معودة بالصيد، فمرَّ منهم كلب على باب الوكر، فسمع فيه
معركةً كبيرةً، فظنَّ أن فيه ثعلبًا يفترس شيئًا، فاندفع الكلب منحدِرًا ليصطاده،
فصادف السِّنَّوْر فجذبه إليه، فلما وقع السِّنَّوْر بين يدَيِ الكلب، التهى بنفسه
وأطلق الفأر حيًّا ليس فيه جرح، وأمَّا هو فإنه خرج به الكلب الجارح بعد أن قطع
عصبه ورماه ميتًا، وصدق في حقهما قول مَن قال: مَن رَحِمَ رُحِم آجِلًا، ومَن
ظَلَم ظُلِم عاجلًا.
هذا
ما جرى لهما أيها الملك، فلذلك لا ينبغي لأحدٍ أن ينقض عهدَ مَن استأمنه، ومَن غدر
وخان يحصل له مثل ما حصل للسِّنَّوْر؛ لأنه كما يدين الفتى يُدان، ومَن يرجع إلى
الخير يَنَلِ الثوابَ، ولكن لا تحزن أيها الملك ولا يشق عليك ذلك؛ لأن ولدك بعد
ظلمه وعسفه، ربما يعود إلى حُسْن سيرتك، وإن هذا العالِمَ الذي هو وزيرك شماس
أحَبَّ ألَّا يكتم عليك شيئًا فيما رمزه إليك، وذلك رشْدٌ منه؛ لأنه قد قيل: أكثر
الناس خوفًا أوسعهم علمًا وأغبطهم خيرًا.
فأذعَنَ
الملك عند ذلك، وأمر لهم بإكرامٍ جزيلٍ، ثم صرفهم وقام ودخل مكانه وصار يتفكَّر في
عاقبة أمره، فلما كانَ الليل أفضى إلى بعض نسائه، وكانت أكرمهن عنده وأحَبَّهن
إليه، فراقَدَها، فلما مضى لها نحو أربعة أشْهُر تحرَّك الحمل في بطنها، ففرحت
بذلك فرحًا شديدًا، وأعلمَتِ الملك بذلك فقال: صدقَتْ رؤياي والله المستعان.
ثم
إنه أنزَلَها أحسنَ المنازل، وأكرَمَها غايةَ الإكرام، وأعطاها إنعامًا جزيلًا
وخوَّلها بشيءٍ كثير، وبعد ذلك دعَا بأحد الغلمان وأرسَلَه ليحضر شماسًا، فلما حضر
حدَّثَه الملك بما صار من حمل زوجته وهو فرحان قائلًا: قد صدقَتْ رؤياي واتصل
رجائي، فلعل ذلك الحمل يكون ولَدًا ذكرًا، ويكون وارثًا لمُلْكي، فما تقول يا شماس
في ذلك؟ فسكَتَ شماس ولم ينطق بجوابٍ، فقال له الملك: ما لي أراكَ لا تفرح لفرحي،
ولا تردُّ لي جوابًا؟ يا تُرَى هل كارِهٌ لهذا الأمر يا شماس؟ فسجَدَ عند ذلك شماس
بين يدَيِ الملك وقال: أيها الملك أطالَ الله عمرك، ما الذي ينفع المستظل بشجرةٍ
إذا كانَتِ النارُ تخرج منها؟ وما لذة شارِب الخمر الصافي إذا حصل له بها
الشَّرَق؟ وما فائدة الناهِل من الماء العَذْب البارد إذا غرق فيه؟ وإنما أنا عبدٌ
للهِ ولك أيها الملك، ولكن قد قيل ثلاثة أشياء لا ينبغي للعاقل أن يتكلَّمَ في
شأنها إلا إذا تمَّتْ: المسافِر حتى يرجع من سفره، والذي في الحرب حتى يقهر
عدوَّه، والمرأة الحامل حتى تضع حملها. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام
المباح.
﴿اللیلة 902﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الوزير شماسًا لما قال للملك: ثلاثة أشياءٍ لا ينبغي
للعاقل أن يتكلَّم في شأنها إلا إذا تمَّتْ. قال له بعد ذلك: فاعلم أيها الملك أن
المتكلم في شأن شيءٍ لم يتمَّ مثل الناسك المدفوق على رأسه السمن. فقال له الملك:
وكيف حكاية الناسك؟ وما جرى له؟ فقال له: أيها الملك إنه كان إنسان ناسك عند شريف
من أشراف بعض المدن، وكان للناسك جِرايةٌ في كلِّ يوم من رزق ذلك الشريف، وهي
ثلاثة أرغفة مع قليلٍ من السمن والعسل، وكان السمن في ذلك البلد غاليًا، وكان
الناسك يجمع الذي يجيء إليه في جرَّةٍ عنده حتى ملأها وعلَّقها فوق رأسه خوفًا
واحتراسًا، فبينما هو ذات ليلةٍ من الليالي جالس على فراشه وعصاه في يده؛ إذ عرض
له فِكْر في أمر السمن وغلائه، فقال في نفسه: ينبغي أن أبيع هذا السمن الذي عندي
جميعه، وأشتري بثمنه نعجةً وأشارك عليها أحدًا من الفلاحين، فإنها في أول عام تلد
ذكرًا وأنثى، وثاني عام تلد أنثى وذكرًا، ولا تزال هذه الغنم تتوالد ذكورًا
وإناثًا حتى تصير شيئًا كثيرًا، وأقسم حصتي بعد ذلك وأبيع فيها ما شئتُ، وأشتري
الأرض الفلانية وأُنشِئ فيها غيطًا، وأبني فيها قصرًا عظيمًا، وأقتني ثيابًا
وملبوسًا، وأشتري عبيدًا وجواري، وأتزوَّج بنتَ التاجر الفلاني، وأعمل عرسًا ما
صار مثله قطُّ، وأذبح الذبائح وأعمل الأطعمة الفاخرة والحلويات والملبسات وغيرها،
وأجمع فيها أهل الملاعب والفنون وآلات السماع، وأجهز الأزهار والمشمومات وأصناف
الرياحين، وأدعو الأغنياء والفقراء والعلماء والرؤساء وأرباب الدولة، وكلُّ مَن
طلب شيئًا أحضرتُه إليه، وأجهِّزُ أنواعَ المآكل والمشارب، وأطلق مُنادِيًا ينادي:
مَن يطلب شيئًا يناله. وبعد ذلك أدخل على عروستي بعد جلائها، وأتمتَّع بحُسْنها
وجمالها، وآكل وأشرب وأطرب، وأقول لنفسي: قد بلغتِ مُنَاكِ. وأستريح من النسك
والعبادة، وبعد ذلك تحمل زوجتي وتلد غلامًا ذكرًا، أفرح به وأعمل له الولائم
وأربِّيه في الدلال، وأعلِّمه الحكمةَ والأدبَ والحسابَ، وأَشْهَرُ اسمَه بين
الناس وأفتخر به عند أرباب المجالس، وآمره بالمعروف فلا يخالفني، وأنهاه عن
الفاحشة والمنكر، وأوصيه بالتقوى وفعل الخير، وأعطيه العطايا الحسنة السنية، فإن
رأيته لزم الطاعة زدتُه عطايا صالحة، وإن رأيته مالَ إلى المعصية أنزل عليه بهذه
العصا. ورفَعَها ليضرب بها ولده، فأصابَتْ جرَّةَ السمنِ التي فوق رأسه فكسرَتْها،
فعند ذلك نزلت بشَقَفاتها عليه، وساح السمن على رأسه وعلى ثيابه وعلى لحيته، وصار
عبرةً.
فلأجل
ذلك أيها الملك لا ينبغي للإنسان أن يتكلَّم على شيءٍ قبل أن يصير. فقال له الملك:
لقد صدقتَ فيما قلتَ، ونِعْمَ الوزير أنتَ، لكَوْنِكَ بالصدق نطقتَ وبالخير
أَشَرْتَ، ولقد صارت رتبتك عندي على ما تحب ولم تزل مقبولًا. فسجد شماس لله
وللملك، ودَعَا له بدوام النِّعَم وقال له: أدام الله أيامك وأعلى شأنك، واعلم
أنني لستُ أكتم عنك شيئًا لا في السر ولا في العلانية، ورضاك رضاي وغضبك غضبي،
وليس لي فرح إلا بفرحك، ولا يمكنني أن أبيتَ وأنت ساخطٌ عليَّ؛ لأن الله تعالى
رزقني بكلِّ خيرٍ بإكرامك إياي، فأسأل الله تعالى أن يحرسك بملائكته، ويحسن ثوابك
عند لقائه. فابتهج الملك عند ذلك، ثم قام شماس وانصرف من عند الملك، ثم بعد مدة
وضعَتْ زوجة الملك غلامًا ذكرًا، فنهض المبشِّرون إلى الملك وبشَّروه بغلامه، ففرح
بذلك فرحًا شديدًا، وشكر الله شكرًا جزيلًا وقال: الحمد لله الذي رزقني ولدًا بعد
اليأس، وهو الشفوق الرءوف على عباده. ثم إن الملك كتب إلى سائر أهل مملكته
ليُعلِمهم بالخبر ويدعوهم إلى منزله، فحضر له الأمراء والرؤساء والعلماء وأرباب
الدولة الذين تحت أمره.
هذا
ما كان من أمر الملك، وأما ما كان من أمر ولده؛ فإنه قد دقَّتِ البشائر والأفراح
في سائر المملكة، وأقبَلَ أهلُها إلى الحضور من سائر الأقطار، وأقبَلَ أهل العلوم
والفلسفة والأدباء والحكماء ودخلوا جميعهم إلى الملك، ووصل كلٌّ منهم إلى حدِّ
مقامه، ثم أشار إلى الوزراء السبعة الكبار الذين رئيسهم شماس أن يتكلَّمَ كلُّ
واحد منهم على قدر ما عنده من الحكمة في شأنِ ما هو بصدده، فابتدأ رئيسهم الوزير
شماس واستأذن في الكلام فأذن له، فقال: الحمد لله الذي أنشأنا من العدم إلى
الوجود، المُنعِم على عباده الملوك، أهل العدل والإنصاف، بما أولاهم من الملك والعمل
الصالح، وبما أجراه على أيديهم لرعيتهم من الرزق، وخصوصًا مَلِكنا الذي أحيا به
مَوَاتَ بلادنا، بما أسداه الله علينا من النِّعَم، ورزقنا من سلامته برخاء العيش
والطمأنينة والعدل، فأي ملك يصنع بأهل مملكته ما صنع هذا الملك بنا، من القيام
بمصالحنا، وأداء حقوقنا، وإنصاف بعضنا من بعض، وقلة الغفلة عنَّا، وردِّ مظالمنا؟
ومن فضل الله على الناس أن يكون ملكهم متعهِّدًا لأمورهم، وحافظًا من عدوِّهم؛ لأن
العدوَّ غايةُ قصده أن يقهر عدوَّه، وأن يملكه في يده، وكثير من الناس يقدِّمون
أولادهم إلى الملوك خَدَمًا، فيصيرون عندهم بمنزلة العبيد لأجل أن يمنعوا عنهم
الأعداء، وأما نحن فلم يطأ بلادنا أعداءٌ في زمن مَلِكنا، لهذه النعمة الكبرى
والسعادة العظمى التي لم يقدر الواصِفون على وصفها، وإنما هي فوق ذلك؛ وأنت أيها
الملك حقيقٌ بأنك أهلٌ لهذه النعمة العظيمة، ونحن تحت كنفك وفي ظلِّ جناحك، أحسَنَ
اللهُ ثوابَك وأدام بقاءَك؛ لأننا كنَّا قبل ذلك نجدُّ في الطلب من الله تعالى أن
يمُنَّ علينا بالإجابة، ويُبقِيك لنا ويعطيك ولدًا صالحًا تقرُّ به عيناك، والله
سبحانه وتعالى قد تقبَّلَ منَّا واستجاب دعاءنا. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن
الكلام المباح.
﴿اللیلة 903﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الوزير شماسًا قال للملك: إن الله تعالى قد تقبَّلَ
منَّا واستجابَ دعاءنا، وآتانا الفرج القريب مثل ما آتى بعض السمك في غدير الماء.
فقال الملك: وما حكاية السمك؟ وكيف ذلك؟ فقال شماس: اعلم أيها الملك أنه كان في
بعض الأماكن غدير ماءٍ، وكان فيه بعض سمكات، فعرض لذلك الغدير أنه قلَّ ماؤه وصار
ينضمُّ بعضه إلى بعضٍ، ولم يَبْقَ من الماء ما يسعفها، فكادت أن تهلك وقالت: ما
عسى أن يكون من أمرنا؟ وكيف نحتال؟ ومَن نستشيره في نجاتنا؟ فقامت سمكة منهن وكانت
أكبرهن عقلًا وسنًّا، وقالت: ما لنا حيلة في خلاصنا إلا الطلب من الله، ولكن نلتمس
الرأي من السرطان، فإنه أكبرنا، فهلمُّوا بنا إليه لننظر ما يكون من رأيه؛ لأنه
أكثر منَّا معرفةً بحقائق الكلام. فاستحسنوا رأيها وجاءوا بأجمعهم إلى السرطان،
فوجدوه رابضًا في موضعه وليس عنده علمٌ ولا خبرٌ ممَّا هم فيه، فسلَّموا عليه
وقالوا له: يا سيدنا، أَمَا يعنيك أمرنا وأنت حاكمنا ورئيسنا؟ فأجابهم السرطان
قائلًا: وعليكم السلام، ما الذي بكم؟ وما تريدون؟ فقصُّوا عليه قصتهم وما دهاهم من
أمر نقص الماء، وأنه متى نشف حصل لهم الهلاك، ثم قالوا له: وقد جئناكَ منتظرين
رأيكَ وما يكون فيه النجاة؛ لأنك كبيرنا وأعرف منَّا. فعند ذلك أطرق رأسه مليًّا،
ثم قال: لا شكَّ أن عندكم نقص عقلٍ ليأسكم من رحمة الله تعالى وكفالته بأرزاق
خلائقه جميعًا، أَلَمْ تعلموا أن الله سبحانه وتعالى يرزق عباده بغير حساب،
وقدَّرَ أرزاقهم قبل أن يخلق شيئًا من الأشياء، وجعل لكلِّ شخص عمرًا محدودًا
ورزقًا مقسومًا بقدرته الإلهية، فكيف نحمل هَمَّ شيءٍ هو في الغيب مسطور؟ والرأي
عندي أنه لم يكن أحسن من الطلب من الله تعالى، فينبغي أنَّ كلَّ واحد منَّا يصلح
سريرته مع ربِّه في سرِّه وعلانيته، ويدعو الله أن يخلِّصنا وينقذنا من الشدائد؛
لأن الله تعالى لا يخيب رجاء مَن توكَّلَ عليه، ولا يردُّ طلبَ مَن توسَّلَ إليه،
فإذا أصلحنا أحوالنا استقامت أمورنا، وحصل لنا كلَّ خير ونعمة، وإذا جاء الشتاء
وغمر أرضنا بدعاء صالحنا، فلا يهدم الخير الذي بناه، فالرأي أن نصبر وننتظر ما
يفعله الله بنا، فإنْ كان يحصل لنا موت على العادة استرحنا، وإنْ كان يحصل لنا ما
يوجب الهروبَ هربنا ورحلنا من أرضنا إلى حيث يريد الله. فأجاب السمك جميعه من فم
واحد: صدقتَ يا سيدنا، جزاك الله عنَّا خيرًا. وتوجَّهَ كلُّ واحدٍ منهم إلى
موضعه، فما مضى إلا أيامٌ قلائل وأتاهم الله بمطرٍ شديدٍ حتى ملأ محلَّ الغدير
زيادةً عمَّا كان أولًا. وهكذا نحن أيها الملك كنَّا يائسين من أن يكون لك ولد،
وحيث مَنَّ الله علينا وعليك بهذا الولد المبارك، فنسأل الله تعالى أن يجعله ولدًا
مباركًا، وأن تقرَّ به عينك ويجعله خليفةً صالحًا، ويرزقنا منه مثلَ ما رزقنا منك،
فإن الله تعالى لا يخيِّب مَن قصده، ولا ينبغي لأحدٍ أن يقطع رجاءَه من رحمة الله.
ثم
قام الوزير الثاني وسلَّمَ على الملك، فأجابه الملك قائلًا: وعليكم السلام. فقال
ذلك الوزير: إن الملك لا يُسمَّى ملكًا إلا إذا أعطى وعدل وحكم وأكرَمَ وأحسَنَ
سيرته مع رعيته بإقامة الشرائع والسنن المألوفة بين الناس، وأنصف بعضهم من بعض،
وحقَنَ دماءَهم وكفَّ الأذى عنهم، ويكون موصوفًا بعدم الغفلة عن فقرائهم، وإسعاف
أعلاهم وأدناهم، وإعطائهم الحقَّ الواجب لهم حتى يصيروا جميعًا داعين له ممتثلين
لأمره؛ لأنه لا شكَّ أن الملك الذي بهذه الصفة محبوبٌ عند الرعية، مُكتسِبٌ من
الدنيا عُلاها، ومن الآخرة شرفها ورضا خالقها، ونحن معاشر العبيد معترِفون لك أيها
الملك بأن جميع ما وصفناه عندك كما قيل: خير الأمور أن يكون ملك الرعية عادلًا،
وحكيمها ماهرًا، وعالمها خبيرًا عاملًا بعلمه، ونحن الآن متنعِّمون بهذه السعادة،
وكنَّا قبل ذلك قد وقعنا في اليأس من حصول ولد لك يرث ملكك، ولكن الله جلَّ اسمه
لم يخيِّب رجاءَك وقبِلَ دعاءك لحُسْن ظنك به، وتسليم أمرك إليه، فنِعْم الرجاء
رجاؤك، وقد صار فيك ما صار للغراب والحية. فقال الملك: وكيف ذلك؟ وما حكاية الغراب
والحية؟
فقال
الوزير: اعلم أيها الملك أنه كان غراب ساكنًا في شجرةٍ هو وزوجته في أرغدِ عيشٍ
إلى أن بلغَا زمانَ تفريخهما وكان زمنَ القيظ، فخرجَتْ حيَّةٌ من وكْرِها وقصدَتْ
تلك الشجرة فتعلَّقت بفروعها إلى أن صعدت إلى عش الغراب وربضت فيه ومكثت مدة أيام
الصيف، وصار الغراب مطرودًا لا يجد له فرصةً ولا موضعًا يرقد فيه. فلما انقضت أيام
الحر ذهبَتِ الحيَّةُ إلى مَوْضعها، فقال الغراب لزوجته: نشكر الله تعالى الذي
نجَّانا وخلَّصنا من هذه الآفة، ولو كنا حُرِمنا من الزاد في هذه السنة؛ لأن الله
تعالى لا يقطع رجاءَنا، فنشكره على ما مَنَّ علينا من السلامة وصحة أبداننا، وليس
لنا اتِّكالٌ إلا عليه، وإذا أراد الله وعِشْنا إلى العام القابل عوَّضَ اللهُ
علينا نتاجَنا. فلما كان وقتُ تفريخِهما خرجَتِ الحيةُ من موضعها وقصدت الشجرة،
فبينما هي متعلِّقة ببعض أغصانها وهي قاصدة عُشَّ الغراب على العادة، وإذا بحَدَأة
قد انقضَّتْ عليها وضربَتْها في رأسها فخدشَتْها، فعند ذلك سقطت الحية على الأرض
مغشيًّا عليها وطلع عليها النمل فأكلها، وصار الغراب مع زوجته في سلامة وطمأنينة،
وفرَّخَا أولادًا كثيرة وشكرَا الله على سلامتهما وعلى حصول الأولاد. ونحن أيها الملك
يجب علينا شكر الله على ما أنعَمَ به عليك وعلينا بهذا المولود المبارك السعيد بعد
اليأس وقطع الرجاء، أحسَنَ الله ثوابَك وعاقبةَ أمرك. وأدرك شهرزاد الصباح،
فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 904﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الوزير الثاني لما فرغ من كلامه ختمه بقوله: أحسَنَ
الله ثوابك وعاقبة أمرك. ثم قام الوزير الثالث وقال: أبشِرْ أيها الملك العادل
بالخير العاجل والثواب الآجل؛ لأن كلَّ مَن يحبه أهل الأرض يحبه أهل السماء، والله
تعالى قسم لك المحبَّة وجعلها في قلوب أهل مملكتك، فله الشكر والحمد منَّا ومنك،
لكي يزيد نعمته عليك وعلينا بك، واعلم أيها الملك إن الإنسان لا يستطيع شيئًا إلا
بأمر الله تعالى، وإنه هو المعطي، وكل خير عند شخص إليه ينتهي، قسَّم النِّعَم على
عبيده كما يحب؛ فمنهم مَن أعطاه مواهب كثيرة، ومنهم مَن شغله بتحصيل القوت، ومنهم
مَن جعله رئيسًا، ومنهم مَن جعله زاهدًا في الدنيا راغبًا إليه؛ لأنه هو الذي قال:
أنا الضار النافع، أشفي وأُمرِض، وأُغنِي وأُفقِر، وأُمِيت وأُحِيي، وبيدي كلُّ
شيءٍ وإليَّ المصير، فواجب على جميع الناس شكره، وأنت أيها الملك من السعداء
الأبرار كما قيل: إن أسعد الأبرار مَن جمع الله له بين خيرَيِ الدنيا والآخرة،
ويقنع بما قسم الله له ويشكره على ما أقامه، ومَن تعدَّى وطلب غير ما قدَّرَ الله
له وعليه، يشبه حمار الوحش والثعلب. قال الملك: وما حديثهما؟
قال
الوزير: اعلم أيها الملك أن ثعلبًا كان يخرج كل يوم من وطنه ويسعى على رزقه،
فبينما هو ذات يوم في بعض الجبال وإذا بالنهار قد انقضى وقصد الرجوع، فاجتمع على
ثعلب رآه ماشيًا وصار كل منهما يحكي لصاحبه حكايته مع ما افترسه، فقال أحدهما:
إنني بالأمس وقعتُ في حمار وحش، وكنتُ جائعًا وكان لي ثلاثة أيام ما أكلت، ففرحت بذلك
وشكرت الله تعالى الذي سخَّره لي، ثم إني عمدتُ إلى قلبه فأكلته وشبعت، ثم رجعت
إلى وطني ومضى عليَّ ثلاثة أيام لم أجد شيئًا آكله، ومع ذلك أنا شبعان إلى الآن.
فلما سمع الثعلب الحكاية حسده على شبعه وقال في نفسه: لا بد لي من أكل قلب حمار
الوحش.
فترك
الأكل أيامًا حتى انهزل وأشرف على الموت وقصر سعيه واجتهاده وربض في وطنه، فبينما
هو في وطنه ذات يوم من الأيام، وإذا بصيادَيْن ماشيَيْن قاصدَيْن الصيد، فوقع لهما
حمار وحش، فأقامَا النهارَ كله في إثره طردًا، ثم إن أحدهما رماه بسهمٍ مشعب
فأصابه ودخل جوفه واتصل بقلبه فقتله مقابل وكر الثعلب المذكور، فأدركه الصيادان
فوجداه ميتًا، فأخرجا السهم الذي أصابه في قلبه فلم يخرج إلا العود وبقي السهم
مشعبًا في بطن حمار الوحش.
فلما
كان المساء خرج الثعلب من وطنه وهو يتضجر من الضَّعْف والجوع، فرأى حمار الوحش على
بابه طريحًا، ففرح فرحًا شديدًا حتى كاد يتضجر من الضعف والجوع فرأى حمار الوحش
على بابه طريحًا، ففرح فرحًا شديدًا حتى كاد أن يطير من الفرح، فقال: الحمد لله
الذي يسَّرَ لي شهوتي من غير تعب؛ لأني كنتُ لا أُومِل أني أصيب حمار وحش ولا
غيره، ولعل الله أوقع هذا وساقَهَ إليَّ في موضعي.
ثم
وثب عليه وشق بطنه وأدخل رأسه وصار يجول بفمه في أمعائه إلى أن وجد القلب
فالْتَقَمه بفمه وابتلعه، فلما صار داخل حلْقِه اشتبك شعب السهم في عظم رقبته ولم
يقدر على إدخاله في بطنه ولا على إخراجه من حلقه وأيقَنَ بالهلاك. فلهذا أيها
الملك ينبغي للإنسان أن يرضى بما قسمه الله له ويشكر نِعَمَه عليه ولا يقطع رجاءَه
من مولاه، وها أنت أيها الملك بحسن نيتك وإسداء معروفك رزَقَك الله ولدًا بعد
اليأس، فنسأل الله تعالى أن يرزقه عمرًا طويلًا وسعادة دائمة ويجعله خلفًا مباركًا
موفيًا بعهدك من بعدك بعد طول عمرك. ثم قام الوزير الرابع وقال: إن الملك إذا كان
فهيمًا عالمًا بأبواب الحكمة … وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 905﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الوزير الرابع لما قام وقال: إن الملك إذا كان فهيمًا
عالمًا بأبواب الحكمة والأحكام والسياسة، مع صلاح النية والعدل في الرعية، وإكرام
مَن يجب إكرامه وتوقير مَن يجب توقيره، والعفو عند القدرة فيما لا بد منه، ورعاية
الرؤساء والمرءوسين، والتخفيف عنهم والإنعام عليهم، وستر عوراتهم والوفاء بعهدهم؛
كان حقيقًا بالسعادة الدنيوية والأخروية، فإن ذلك مما يُعِيذه منهم ويُعِينه على
ثبات مُلْكه ونُصْرته على أعدائه وبلوغ مأموله، مع زيادة نعمة الله عليه وتوفيقه
لشكره والفوز بعنايته؛ وإن الملك إذا كان بخلاف ذلك، فإنه لم يَزَلْ في مصائب
وبلايا هو وأهل مملكته، لكَوْنِ جوره على الغريب والقريب، ويصير فيه ما صار لابن
الملك السائح. فقال الملك: وكيف كان ذلك؟
فقال
الوزير: اعلم أيها الملك أنه كان في بلاد الغرب ملِكٌ جائِر في حكمه، ظالمٌ غاشمٌ
عاسفٌ مضيِّعٌ لرعاية رعيته ومَن يدخل في مملكته، فكان لا يدخل في مملكته أحدٌ إلا
ويأخذ عِمالةً منه أربعة أخماس ماله ويبقون له الخمس لا غير، فقدَّرَ الله أنه كان
له ولد سعيد موفَّق، فلما رأى أحوالَ الدنيا غير مستقيمة، تركها وخرج سائحًا
عابدًا لله تعالى من صغره، ورفض الدنيا وما فيها، وخرج في طاعة الله تعالى يسرح في
البراري والقفار ويدخل المدن، ففي بعض الأيام دخل تلك المدينة، فلما وقف على
المحافظين أخذوه وفتَّشوه، فلم يروا معه شيئًا سوى ثوبَيْن؛ أحدهما جديد والآخَر
عتيق، فنزعوا منه الجديد وتركوا له العتيق بعد الإهانة والتحقير، فصار هو يشكو
ويقول: وَيْحكم أيها الظالمون، أنا رجل فقير وسائح، وما عسى أن ينفعكم من هذا
الثوب؟ وإذا لم تعطوه لي ذهبتُ للملك وشكوتُكم إليه. فأجابوه قائلين: إننا فعلنا
ذلك بأمر الملك، فما بَدَا لك أن تفعله فافعله. فصار السائح يمشي إلى أن وصَلَ
بلادَ الملك وأراد الدخول، فمنعه الحجَّاب، فرجع وقال في نفسه: ما لي إلا أني
أرصده حتى يخرج وأشكو إليه حالي وما أصابني. فبينما هو على تلك الحالة ينتظر خروجَ
الملك، إذ سمع أحد الأجناد يخبر عنه، فأخذ يتقدَّمُ قليلًا قليلًا حتى وقف قبال
الباب، فما شعر إلا والملك خارج، فعارَضَه السائح ودعا له بالنصر، وأخبَرَه بما
وقع له من المحافظين وشكا إليه حاله، وأخبره أنه رجل من أهل الله، رفض الدنيا وخرج
طالبًا رِضاء الله تعالى، فصار سائحًا في الأرض، وكلُّ مَن وفد عليه من الناس
أحسَنَ إليه بما أمكَنَه، وصار يدخل كل مدينة وكل قرية وهو على هذه الحالة. ثم
قال: فلما دخلتُ هذه المدينة ترجَّيْتُ أن يفعل بي أهلها مثل ما يُفعَل بغيري من
السائحين، فعارَضني أتباعك ونزعوا أحد أثوابي وألهبوني ضربًا، فانظر في شأني وخذ
بيدي وخلِّص لي ثوبي، وأنا لا أقيم بهذه المدينة ساعةً واحدةً. فأجابه الملك
الظالم قائلًا: مَن أشارَ عليك بدخولك هذه المدينة وأنت غير عالِمٍ بما يفعل
ملِكها؟ فقال: بعد أن آخذ ثوبي افعل بي مرادك. فلما سمع ذلك الملك الظالم من
السائح هذا الكلام، حصل عنده تغيُّر مزاجٍ، فقال: أيها الجاهل، نزعنا عنك ثوبك لكي
تذلَّ، وحيث وقع منك مثل هذا الصياح عندي، فأنا أنزع نفسك منك. ثم أمر بسجنه.
فلما
دخل السجن جعل يندم على ما وقع منه من الجواب، وعنَّفَ نفسه حيث لم يترك ذلك ويفوز
بروحه. فلما كان نصف الليل قامَ وصلى صلاةً مطولةً وقال: يا الله، إنك أنت الحَكَم
العادل، تعلم بحالي وما انطوى عليه أمري مع هذا الملِك الجائر، وأنا عبدك المظلوم
أسألك من فيض رحمتك أن تنقذني من يد هذا الملك الظالم وتحل به نقمتك؛ لأنك لا تغفل
عن ظُلْمِ كل ظالمٍ، فإن كنتَ تعلم أنه ظلمني فاحللْ نقمتَكَ عليه في هذه الليلة،
وأنزِلْ به عذابك؛ لأن حُكْمك عدل وأنت غيَّاث كل ملهوفٍ، يا مَن له القدرة
والعظمة إلى آخِر الدهر. فلما سمع السجَّان دعاء هذا المسكين، صار جميع ما فيه من
الأعضاء مرعوبًا، فبينما هو كذلك وإذا بنارٍ اتَّقَدَتْ في القصر الذي فيه الملك،
فأحرقَتْ جميعَ ما فيه حتى باب السجن، ولم يخلص سوى السجَّان والسائح، فانطلق
السائح وسار هو والسجَّان ولم يزالَا سائرين حتى وصَلَا إلى غير تلك المدينة، وأما
مدينة الملك الظالم فإنها احترقَتْ عن آخِرها بسبب جور ملِكها. وأما نحن أيها
الملك السعيد فما نمسي ونصبح إلا ونحن داعون لك، وشاكرون الله تعالى على فضله
بوجودك، مطمئنين بعدلك وحُسْن سيرتك، وكان عندنا غمٌّ كثير لعدم وجود ولد لك يرث
ملكك؛ خوفًا أن يصير علينا ملك غيرك من بعدك، والآن قد أنعَمَ الله تعالى بكرمه
علينا وأزالَ عنَّا الغمَّ وأتانا بالسرور بوجود هذا الغلام المبارك، فنسأل الله
تعالى أن يجعله خليفةً صالحًا، ويرزقه العزَّ والسعادة الباقية والخير الدائم. ثم
قام الوزير الخامس وقال: تبارَكَ الله العظيم … وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن
الكلام المباح.
﴿اللیلة 906﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الوزير الخامس قال: تبارَكَ الله العظيم، مانِحَ
العطايا الصالحة والمواهب السنية؛ وبعدُ، فإنَّا تحقَّقنا أن الله يُنعِم على مَن
يشكره ويحافظ على دينه، وأنت أيها الملك السعيد الموصوف بهذه المناقب الجليلة
والعدل والإنصاف بين رعيتك بما يُرضِي الله تعالى، فلأجل ذلك أعلى الله شأنك
وأسعَدَ أيامك، ووهبك هذه العطية الصالحة التي هي هذا الولد السعيد بعد اليأس،
وصار لنا بذلك الفرح الدائم والسرور الذي لا ينقطع؛ لأننا قبل ذلك كنَّا في همٍّ
شديدٍ وغمٍّ زائد بسبب عدم وجود ولد لك، وفي أفكار فيما أنت منطوٍ عليه من عدلك
ورأفتك بنا، وخوفًا أن يقضي الله عليك بالموت ولم يكن لك مَن يخلفك ويرث المُلْك
من بعدك، فيختلف رأينا ويقع بيننا الشقاق، ويصير بيننا ما صار للغراب. فقال الملك:
وما حكاية الغراب؟
فأجابه
الوزير قائلًا: اعلم أيها الملك السعيد، أنه كان في بعض البراري وادٍ متسع، وكان
به أنهار وأشجار وأثمار، وبه أطيار تسبِّح الله الواحد القهَّار، خالق الليل
والنهار، وكان من جملة الطيور غربان، وكانوا في أطيب عيش، وكان المقدَّم عليهم
والحاكم بينهم غرابٌ رءوف بهم شفوقٌ عليهم، وكانوا معه في أمانٍ وطمأنينة، ومن
حُسْن تصريفهم فيما بينهم لم يكن أحدٌ من الطيور يقدر عليهم، فاتفق أن مُقدَّمهم
تُوفِّي وجاءه الأمر المحتوم على سائر الخلق، فحزنوا عليه حزنًا شديدًا، ومن زيادة
حزنهم أنه لم يكن فيهم أحدٌ مثله يقوم مقامه، فاجتمعوا جميعًا وَأْتمَرُوا فيما
بينهم على مَن يقوم عليهم بحيث يكون صالحًا؛ فطائفةً منهم اختارت غرابًا وقالوا:
إن هذا يصلح أن يكون ملكًا علينا، وآخَرون اختلفوا فيه ولم يريدوه، فوقع بينهم
الشقاق والجدال، وعظمت الفتنة بينهم، وبعد ذلك حصل بينهم توافُقٌ وتعاهدوا على أن
يناموا تلك الليلة ولا يبكر أحدٌ إلى السروح في طلب المعيشة غدًا، بل يصبرون
جميعًا إلى الصباح، وعند الفجر يكونون مجتمعين في موضع واحد، ثم ينظرون إلى كلِّ
طيرٍ يسبق في الطيران، وقالوا: إنه هو الذي يكون مختارًا عندنا للمُلْك، فنجعله
ملِكًا علينا ونولِّيه أمرنا. فرَضُوا كلهم بذلك وعاهَدَ بعضهم بعضًا، واتفقوا على
هذا العهد. فبينما هم على ذلك الحال إذ طلع باز، فقالوا له: يا أبا الخير، نحن
اخترناك واليًا علينا لتنظر في أمرنا، فرضِيَ الباز بما قالوه، وقال لهم: إن شاء
الله تعالى سيكون لكم مني خير عظيم. ثم إنهم بعدما ولَّوْه عليهم صار كل يوم إذا
سرح وسرح الغربان يستفرد بأحدهم ويضربه، ويأكل دماغه وعينَيْه ويترك الباقي، ولم
يَزَلْ يفعل معهم هكذا حتى فطنوا به، فرأوا غالبهم قد هلك، فأيقنوا بالهلاك وقال
بعضهم لبعض: كيف نصنع وقد هلك أكثرنا، وما انتبهنا حتى هلك أكابرنا؟ فينبغي لنا أن
نتحفَّظ لأنفسنا. فلما أصبحوا نفروا منه وتفرَّقوا من حوله. ونحن الآن نخشى أن يقع
لنا مثل هذا، ويصير علينا مَلِك غيرك، ولكن قد مَنَّ الله علينا بهذه النعمة ووجهك
إلينا، ونحن واثقون الآن بالصلاح، وجمع الشمل والأمن والأمانة والسلامة في الوطن،
فتبارك الله العظيم، وله الحمد والشكر والثناء الجميل، وبارَكَ الله للملك ولنا
معشر الرعية، ورزقنا وإياه السعادة العظمى، وجعله سعيدَ الوقت قائمَ الجد.
ثم
قام الوزير السادس وقال: هنَّأَكَ الله أيها الملك بأحسن الهناء في الدنيا
والآخرة، فقد تقدَّمَ من قول المتقدمين أن مَن صلَّى وصام وقام بحقوق الوالدين
وعدل في حكمه، لقي ربَّه وهو راضٍ عنه، وقد وُلِّيتَ علينا فعدلتَ، فكنتَ بذلك
سعيد الحركات، فنسأل الله تعالى أن يجزل ثوابك ويأجرك على إحسانك، وقد سمعت ما قال
هذا العالم فيما نتخوَّف من حرمان حظنا بعدم الملك، وبوجود ملك آخَر لا يكون
نظيره، فيعظم اختلافنا بعده ويقع البلاء في الاختلاف، وإذا كان الأمر على ما
ذكرنا، فالواجب علينا أن نبتهل إلى الله تعالى بالدعاء لعله يهب للملك ولدًا
سعيدًا ويجعله وارثًا للملك بعده. ثم بعد ذلك ربما كان الذي يحبه الإنسان من
الدنيا ويشتهيه مجهول العاقبة له، وحينئذٍ لا ينبغي للإنسان أن يسأل ربه أمرًا لا
يدري عاقبته؛ لأنه ربما كان ضررُ ذلك أقربَ إليه من نفعه، فيكون هلاكه في مطلوبه،
ويصيبه مثل ما أصاب الحاوي وزوجته وأولاده وأهل بيته. وأدرك شهرزاد الصباح،
فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 907﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الوزير السادس لما قال للملك: إن الإنسان لا ينبغي له
أن يسأل ربه شيئًا لا يدري عاقبته؛ لأنه ربما كان ضررُ ذلك أقربَ إليه من نفعه،
فيكون هلاكه في مطلوبه، ويصيبه ما أصاب الحاوي وأولاده وزوجته وأهل بيته.
فقال
الملك: وما حكاية الحاوي وأولاده وزوجته وأهل بيته؟
فقال
الوزير: اعلم أيها الملك أنه كان إنسان حاويًا، وكان يربِّي الحيَّات، وهذه كانت
صنعته، وكان عنده سلة كبيرة فيها ثلاث حيَّات لم يعلم بها أهل بيته، وكان كل يوم
يخرج يدور بها في المدينة، ويتسبَّب بها لتحصيل رزقه ورزق عياله، ويرجع عند المساء
إلى بيته ويضع الأحناش في السلة سرًّا، وعند الصباح يأخذها ويدور بها في المدينة،
فكان هذا دأبه على الدوام، ولم يعرف أهل بيته بما في السلة، فاتفق أنه لما عاد
الحاوي إلى بيته على جري عادته، سألته زوجته وقالت له: ما في هذه السلة؟ فقال لها
الحاوي: وما مرادك منها؟ أَلَيس الزاد عندكم كثيرًا زائدًا؟ فاقنعي بما قسم الله
لك ولا تسألي عن غيره. فسكتَتْ عنه تلك المرأة وصارت تقول في نفسها: لا بد لي أن
أفتِّشَ هذه السلة وأعرف ما فيها. وصمَّمَتْ على ذلك وأعلمَتْ أولادها، وأكَّدَتْ
عليهم أن يسألوا والدهم عن تلك السلة ويُلِحُّوا عليه في السؤال لأجل أن يخبرهم،
فعند ذلك تعلَّقَ خاطر الأولاد بأن فيها شيئًا يُؤكَل، فصار الأولاد كلَّ يومٍ
يطلبون من أبيهم أن يُرِيَهم ما في السلة، وكان أبوهم يُدافِعهم ويُراضِيهم
وينهاهم عن هذا السؤال، فمضت لهم مدة وهم على ذلك الحال، وأمهم تحثُّهم على ذلك،
ثم اتفقوا معها على أنهم لا يذوقون طعامًا ولا يشربون شرابًا لوالدهم حتى يبلغهم
طِلْبتهم ويفتح لهم السلة.
فبينما
هم كذلك ذات ليلةٍ، إذ حضر الحاوي ومعه شيء كثير من الأكل والشرب، فقعد ودعاهم ليأكلوا
معه، فأَبَوا الحضورَ إليه وبيَّنُوا له الغيظ، فجعل يلاطفهم بالكلام الحسن ويقول
لهم: انظروا ماذا تريدون حتى أجيء به إليكم أكلًا أو شربًا أو ملبوسًا. فقالوا له:
يا والدنا، ما نريد منك إلا فتح هذه السلة لننظر ما فيها، وإلا قتلنا أنفسنا. فقال
لهم: يا أولادي، ليس لكم فيها خير، وإنما فتحها ضرر لكم. فعند ذلك ازدادوا غيظًا،
فلما رآهم على هذه الحالة أخذ يهدِّدهم ويشير لهم بالضرب إن لم يرجعوا عن تلك
الحالة، فلم يزدادوا إلا غيظًا ورغبةً في السؤال، فعند ذلك غضب عليهم وأخذ عصًا
ليضربهم بها، فهربوا قدامه في الدار، وكانت السلة حاضرة لم يُخفِها الحاوي في
مكانٍ، فخلَّتِ المرأةُ الرجلَ مشغولًا بالأولاد وفتحَتِ السلة بسرعةٍ لكي تنظر ما
فيها، وإذا بالحيَّات قد خرجَتْ من السلة ولدغَتِ المرأةَ أولًا فقتلتها، ثم دارت
في الدار وأهلكَتِ الكبار والصغار، ما عدا الحاوي، فترك الحاوي الدارَ وخرج. فلما
تحقَّقت ذلك أيها الملك السعيد، علمت أن الإنسان ليس له أن يتمنَّى شيئًا لم
يُرِده الله تعالى، بل يَطِيب نفسًا بما قدَّره الله له وأراده، وها أنت أيها
الملك مع غزارة علمك وجودة فهمك، أقرَّ اللهُ عينَكَ بحضور ولدٍ لك بعد اليأس
وطيَّبَ قلبك، ونحن نسأل الله تعالى أن يجعله من الخلفاء العادلين المُرضِين لله
تعالى والرعية.
ثم
قام الوزير السابع وقال: أيها الملك، إني قد علمتُ وتحقَّقْتُ ما ذكره لك إخوتي
هؤلاء الوزراء العلماء الحكماء، وما تكلَّموا به في حضرتك أيها الملك، وما وصفوه
من عدلك وحسن سيرتك، وما تميَّزْتَ به عمَّنْ سواك من الملوك، حيث فضَّلوك عنهم،
وذلك من بعض الواجب علينا أيها الملك، وأما أنا فأقول: الحمد لله الذي تولاك
لنعمته، وأعطاك صلاح الملك برحمته، وأعانك وإيانا على أن نزيده شكرًا وما ذاك إلا
بوجودك، وما دمتَ فينا لم نتخوَّفْ جورًا ولا نبغي ظلمًا، ولا يستطيع أحدٌ أن
يستطيل علينا مع ضَعْفنا، وقد قيل: إن أحسن الرعايا مَن كان ملكهم عادلًا، وشرهم
مَن كان ملكهم جائرًا. وقيل أيضًا: السكنى مع الأسود الكواسر ولا السكنى مع
السلطان الجائر. فالحمد لله تعالى على ذلك حمدًا دائمًا؛ حيث أنعَمَ علينا بوجودك،
ورزَقَك هذا الولد المبارَك بعد اليأس والطعن في السن؛ لأن أجمل العطايا في الدنيا
الولد الصالح، وقد قيل: مَن لا ولد له، لا عاقبةَ له ولا ذِكْر. وأنت بقويم عدلك
وحسن ظنك بالله تعالى أُعطِيت هذا الولد السعيد، فجاءك هذا الولد المبارك مِنَّةً
من الله تعالى علينا وعليك، بحسن سيرتك وجميل صبرك، وصار فيك ذلك مثل ما صار في
العنكبوت والريح. فقال الملك: وما حكاية العنكبوت والريح؟ وأدرك شهرزاد الصباح،
فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 908﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك قال للوزير: وما حكاية العنكبوت والريح؟ فقال
الوزير: اعلم أيها الملك أن عنكبوتة تعلَّقَتْ في بابٍ متنحٍّ عالٍ وعملت لها
بيتًا وسكنت فيه بأمانٍ، وكانت تشكر اللهَ تعالى الذي يسَّرَ لها هذا المكان وآمن
خوفها من الهوام، فمكثَتْ على هذا الحال مدة من الزمان، وهي شاكرة لله على راحتها
واتصال رزقها، فامتحنها خالِقها بأن أخرَجَها لينظر شكرها وصبرها، فأرسل إليها
ريحًا عاصفًا شرقية فحملتها ببيتها ورمتها في البحر، فجرَّتْها الأمواج إلى البر،
فعند ذلك شكرَتِ الله تعالى على سلامتها وجعلت تعاتب الريح قائلةً لها: أيتها
الريح، لِمَ فعلتِ بي ذلك؟ وما الذي حصل لك من الخير في نقلي من مكاني إلى هنا؟
وقد كنتُ آمِنةً مطمئنةً في بيتي بأعلى ذلك الباب؟ فقالت لها الريح: انتهي عن
العتاب، فإني سأرجع بكِ وأوصلكِ إلى مكانك كما كنتِ أولًا. فلبثَتِ العنكبوتة
صابرةً على ذلك راجيةً أن ترجع إلى مكانها حتى ذهبت ريح الشمال ولم ترجع بها،
وهبَّتْ ريح الجنوب فمرَّتْ بها واختطفتها وطارت بها إلى جهة ذلك البيت، فلما
مرَّتْ به عرفته فتعلَّقَتْ به. ونحن نسأل اللهَ الذي أثاب الملك على وحدته وصبره
ورزَقَه هذا الغلامَ بعد يأسه وكبر سنِّه، ولم يُخرِجه من هذه الدنيا حتى رزَقَه
قرَّةَ عين، ووهب له ما وهب من المُلْك والسلطان، فرحم رعيته وأولاهم نعمته. فقال
الملك: الحمد لله فوق كلِّ حمدٍ، والشكر له فوق كلِّ شكرٍ، لا إله إلا هو خالق كل
شيءٍ، الذي عرَّفنا بنور آثاره وجلال عظمته، يُؤتِي المُلْكَ والسلطان مَن يشاء من
عباده في بلاده؛ لأنه ينتخب منهم مَن يشاء ليجعله خليفةً ووكيلًا على خلقه، ويأمره
فيهم بالعدل والإنصاف وإقامة الشرائع والسنن، والعمل بالحق والاستقامة في أمورهم
على ما أحَبَّ وأحَبُّوا، فمَن عمِلَ منهم بما أمر الله كان لحَظِّه مصيبًا ولأمرِ
ربِّه مُطِيعًا، فيكفيه هولَ دنياه ويُحسِن جزاءه في أُخرَاه، إنه لا يضيع أجر
المحسنين؛ ومَن عمل منهم بغير ما أمر الله أخطأ خطأً بليغًا، وعصى ربه وآثَرَ
دنياه على أُخرَاه، فليس له في الدنيا مآثِر ولا في الآخرة نصيب؛ لأن الله لا يمهل
أهل الجور والفساد ولا يهمل أحدًا من العباد، وقد ذكر وزراؤنا هؤلاء أنَّ مِن
عدلنا بينهم وحُسْن تصرُّفنا معهم، أنعم علينا وعليهم بالتوفيق لشكره المستوجب
لمزيد إنعامه، وكل واحد منهم قال ما ألهَمَه الله في ذلك، وبالغوا في الشكر لله
تعالى والثناء عليه بسبب نعمته وفضله، وأنا أشكر الله لأني إنما أنا عبدٌ مأمورٌ،
وقلبي بيده ولساني تابع له، راضٍ بما حكم الله عليَّ وعليهم بأي شيءٍ صار؛ وقد قال
كلُّ واحدٍ منهم ما خطر بباله من أمر هذا الغلام، وذكروا ما كان من متجدِّد النعمة
علينا حين بلغتُ من السن حدًّا يغلب معه اليأس وضَعْف اليقين، والحمد لله الذي
نجَّانا من الحرمان واختلاف الحكَّام كاختلاف الليل والنهار، وقد كان ذلك إنعامًا
عظيمًا عليهم وعلينا، فنحمد الله تعالى الذي رزقنا هذا الغلام سميعًا مطيعًا،
وجعله وارثًا من الخلافة محلًّا رفيعًا، نسأله من كرمه وحلمه أن يجعله سعيدَ
الحركات موفَّقًا للخيرات، حتى يصير ملِكًا وسلطانًا على رعيته بالعدل والإنصاف،
حافظًا لهم من هلكات الاعتساف، بمَنِّه وكرمه وجوده.
فلما
فرغ الملك من كلامه، قام الحكماء والعلماء وسجدوا لله وشكروا الملك وقبَّلوا
يدَيْه، وانصرف كلُّ واحدٍ منهم إلى بيته، فعند ذلك دخل الملك بيته وأبصَرَ
الغلام، ودَعَا له وسمَّاه وردخان، فلما مضى له من العمر اثنتا عشرة سنة، أراد
الملك أن يعلِّمه العلومَ، فبنى له قصرًا في وسط المدينة وبنى فيه ثلاثمائة وستين
مقصورةً، وجعل الغلام فيه، ورتَّبَ له ثلاثةً من الحكماء والعلماء وأمرهم ألَّا
يغفلوا عن تعليمه ليلًا ولا نهارًا، وأن يجلسوا معه في كل مقصورة يومًا، ويحرصوا
على ألَّا يكونَ علمٌ إلا ويعلِّمونه إياه، حتى يصير بجميع العلوم عارفًا، ويكتبون
على باب كل مقصورة ما يعلِّمونه له فيها من أصناف العلوم، يرفعون إليه في كلِّ
سبعة أيام ما عرفه من العلوم.
ثم
إن العلماء أقبلوا على الغلام وصاروا لا يفترون عن تعليمه ليلًا ولا نهارًا، ولا
يؤخِّرون عنه شيئًا ممَّا عندهم من العلوم، فظهر للغلام من ذكاء العقل وجودة الفهم
وقبول العلم ما لم يظهر لأحدٍ قبله، وجعلوا يرفعون للملك في كل أسبوع مقدارَ ما
تعلَّمَه ولده وأتقنه، فكان الملك يستظهر من ذلك علمًا حسنًا وأدبًا جميلًا، وقال
العلماء: إننا ما رأينا قطُّ مَن أُعطِي فهمًا مثل هذا الغلام، فبارَكَ الله لكَ
فيه ومتَّعَكَ بحياته. فلما أتَمَّ الغلام مدة اثنتي عشرة سنة حفظَ من كلِّ علمٍ
أحسنَه، وفاقَ جميعَ العلماء والحكماء الذين في زمانه، فأتى به العلماء إلى الملك
والده وقالوا له: أقرَّ اللهُ عينيك أيها الملك بهذا الولد السعيد، وقد أتيناكَ به
بعد أن تعلَّمَ كلَّ علمٍ، حتى لم يكن أحدٌ من علماء الوقت وحكمائه بلغ ما بلغه.
ففرح الملك بذلك فرحًا شديدًا، وزاد في شكر الله تعالى وخَرَّ ساجدًا له عز وجل،
وقال: الحمد لله على نِعَمِه التي لا تُحصَى. ثم دعا بشماس الوزير وقال له: اعلم
يا شماس أن العلماء قد أتوني وأخبروني أن ابني هذا قد تعلَّمَ كلَّ علمٍ، ولم
يَبْقَ من العلوم علمٌ إلا وقد علَّموه له حتى فاق مَن تقدَّمه في ذلك، فما تقول
يا شماس؟ فسجَدَ عند ذلك لله عز وجل وقبَّلَ يدَيِ الملك وقال: أَبَتِ الياقوتةُ
ولو كانَتْ في الجبل الأصم، إلا أن تكون مضيئةً كالسراج، وابنك هذا جوهرة، فما
تمنعه حداثته من أن يكون حكيمًا والحمد لله على ما أولاه، وأنا إن شاء الله تعالى
في غدٍ أسأله وأستنطقه بما عنده في مجمعٍ أجمَعَه له من خواص العلماء والأمراء.
وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 909﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك جليعاد لما سمع كلام شماس أمَرَ جهابذة العلماء
وأذكياء الفضلاء ومَهَرة الحكماء أن يحضروا إلى قصر الملك في غدٍ، فحضروا جميعًا،
فلما اجتمعوا على باب الملك أذِنَ لهم بالدخول، ثم حضر شماس الوزير وقبَّلَ يدَيِ
ابن الملك، فقام ابن الملك وسجد للشماس، فقال له الشماس: ليس يجب على شبل الأسد أن
يسجد لأحدٍ من الوحوش، ولا ينبغي أن يقترنَ النورُ بالظلام. قال الغلام: إن شبل
الأسد لما رأى وزير الملك سجَدَ له. فعند ذلك قال شماس: أخبرني ما الدائم المطلق
وما كوناه؟ وما الدائم من كونَيْه؟ قال الغلام: أما الدائم المطلق فهو الله عزَّ
وجلَّ؛ لأنه أول بلا ابتداء، وآخِر بلا انتهاء، وأما كوناه فالدنيا والآخرة، وأما
الدائم من كونَيْه فهو نعيم الآخرة. قال شماس: صدقتَ فيما قلتَ وقبلته منك، غير
أني أحب أن تخبرني من أين علمتَ أن أحد الكونين هو الدنيا وثانيهما هو الآخرة؟ قال
الغلام: لأن الدنيا خُلِقت ولم يكن من شيءٍ كائنٍ، فآلَ أمرها إلى الكون الأول،
غير أنها عَرَض سريع الزوال متوجِّب الجزاء على الأعمال، وذلك يستدعي إعادةَ
الفاني، فالآخرة هي الكون الثاني. قال شماس: صدقتَ فيما قلتَ وقبلتُه منكَ، غير أني
أحبُّ أن تخبرني من أين علمتَ أن نعيم الآخرة هو الدائم من الكونَيْن؟ قال الغلام:
علمتُ ذلك من أنها دار الجزاء على الأعمال التي أعَدَّها الباقي بلا زوال. قال
شماس: أخبرني أي أهل الدنيا أحمد عملًا؟ قال الغلام: مَن يُؤثِر آخِرتَه على
دنياه. قال شماس: ومَن الذي يُؤثِر آخرتَه على دنياه؟ فقال الغلام: مَن كان يعلم
أنه في دارٍ منقطعةٍ، وأنه ما خُلِق إلا للفناء، وأنه بعد الفناء يُحاسَب، وأنه لو
كان في هذه الدنيا أحدٌ مخلَّدٌ أبدًا، لا يُؤثِر الدنيا على الآخرة. قال شماس:
أخبرني هل تستقيم آخِرة بغير دنيا؟ قال الغلام: مَن لم يكن له دنيا فلا آخِرة له،
ولكن رأيتُ الدنيا وأهلَها والمعادَ الذي هم صائرون إليه كمثل أهل هؤلاء الضياع
الذين ابتنَى لهم أميرٌ بيتًا ضيِّقًا وأدخَلَهم فيه، وأمرهم بعملٍ يعملونه، وضرب
لكلِّ واحدٍ منهم أجلًا ووكَّلَ به شخصًا، فمَن عمل منهم ما أُمِر به أخرَجَه
الشخص الموكل به من ذلك الضِّيق، ومَن لم يعمل ما أُمِر به وقد انقضى الأجل
المضروب له عُوقِب؛ فبينما هم كذلك إذ رشح لهم من شقوق البيت عسل، فلما أكلوا من
العسل وذاقوا طعمه وحلاوته، توانَوْا في العمل الذي أُمِروا به ونبذوه وراء
ظهورهم، وصبروا على ما هم فيه من الضِّيق والغَمِّ، مع ما علموا من تلك العقوبة
التي هم صائرون إليها، وقنعوا بتلك الحلاوة اليسيرة، وصار الموكل بهم لا يدع أحدًا
منهم إذا جاء أجله إلا ويُخرِجه من ذلك البيت، فعرفنا أن الدنيا دارٌ تتحيَّرُ
فيها الأبصارُ، وتسرب لأهلها فيها الآجال، فمَن وجد الحلاوة القليلة التي تكون في
الدنيا وأشغَلَ نفسه بها، كان من الهالكين؛ حيت آثَرَ أمرَ دنياه على آخِرته، ومَن
يُؤثِر آخِرتَه على دنياه ولم يلتفت إلى تلك الحلاوة القليلة، كان من الفائزين.
قال
شماس: قد سمعتُ ما ذكرتَ من أمر الدنيا والآخرة وقبلتُ ذلك منك، ولكني قد رأيتُهما
مسلَّطَتَيْن على الإنسان، فلا بد له من إرضائهما معًا وهما مختلفتان، فإنْ أقبَلَ
العبد على طلب المعيشة، فذلك إضرار بروحه في المعاد، وإنْ أقبَلَ على الآخرة، كان
ذلك إضرارًا بجسده، وليس له سبيل إلى إرضاء المتخالِفَيْن معًا.
قال
الغلام: إنه مَن حصل المعيشة في الدنيا تقوِّيه على الآخرة، فإني رأيتُ أمرَ
الدنيا والآخرة مثل ملِكَيْن: عادلٍ وجائرٍ، وكانت أرض الملك الجائر ذات أشجار
وأثمار ونبات، وكان ذلك الملِك لا يَدَعُ أحدًا من التجار إلا أخذ ماله وتجارته،
وهم صابرون على ذلك لما يصيبون من خصبِ تلك الأرض في المعيشة؛ وأما الملك العادل
فإنه بعث رجلًا من أهل أرضه وأعطاه مالًا وافرًا، وأمره أن ينطلق إلى أرض الملك
الجائر ليبتاع به جواهر منها، فانطلَقَ ذلك الرجل بالمال حتى دخل تلك الأرض، فقيل
للملك: إنه جاء إلى أرضك رجلٌ تاجرٌ ومعه مالٌ كثيرٌ يريد أن يبتاع به جواهر منها.
فأرسَلَ إليه وأحضَرَه وقال له: مَن أنت؟ ومن أين أتيتَ؟ ومَن جاء بك إلى أرضي؟
وما حاجتك؟ فقال له: إني من أرض كذا وكذا، وإن ملِكَ تلك الأرض أعطاني مالًا
وأمرني أن أبتاع له به جواهر من هذه الأرض، فامتثلتُ أمره وجئتُ. فقال له الملك:
ويحكَ! أَمَا علمتَ صنعي بأهل أرضي من أني آخذ مالهم في كل يوم؟ فكيف تأتيني
بمالِكَ وها أنت مقيمٌ في أرضي منذ كذا وكذا؟ فقال له التاجر: إن المال ليس لي منه
شيء، وإنما هو أمانة تحت يدي حتى أوصله إلى صاحبه. فقال له: إني لستُ بتاركِكَ
تأخذ معيشتك من أرضي حتى تفدي نفسك بهذا المال جميعه. وأدرك شهرزاد الصباح،
فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 910﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك الجائر قال للتاجر الذي يريد أن يشتري الجواهر
من أرضه: لا يمكن أن تأخذ معاشًا من أرضي حتى تفدي نفسك بهذا المال أو تهلك. فقال
الرجل في نفسه: قد وقعتُ بين ملكَيْن، وقد علمتُ أن جورَ هذا الملك عامٌّ على كلِّ
مَن أقام بأرضه، فإن لم أُرْضِه كان هلاكي وذهاب المال لا بد منهما ولم أُصِبْ
حاجتي، وإنْ أعطيتُه جميعَ المال كان هلاكي عند الملك صاحب المال لا بد منه، وليس
لي حيلةٌ سوى أني أعطيه من هذا المال جزءًا يسيرًا، وأُرضِيه به وأدفع عن نفسي وعن
هذا المال الهلاك، وأُصِيب من خصب هذه الأرض قوتَ نفسي حتى أبتاع ما أريد من
الجواهر، وأكون قد أرضيتُه بما أعطيتُه، وآخذ نصيبي من أرضه هذه وأتوجَّهُ إلى
صاحب المال بحاجته، فإني أرجو من عدله وتجاوزه ما لا أخاف معه عقوبة فيما أخَذَه
هذا الملِك من المال، خصوصًا إذا كان يسيرًا. ثم إن التاجر دعَا الملِك وقال له:
أيها الملِك، أنا أفتدي نفسي وهذا المال بجزء صغير من منذ دخلتُ أرضك حتى أخرج
منها. فقبل الملك منه ذلك وخلَّى سبيله سنةً، فاشترى الرجل بماله جميعه جواهرَ
وانطلق إلى صاحبه. فالملك العادل مثال للآخرة، والجواهر التي بأرض الملك الجائر
مثال للحسنات والعمل الصالح، والرجل صاحب المال مثال لمَن طلب الدنيا، والمال الذي
معه مثال لحياة الإنسان، فلما رأيتُ ذلك علمتُ أنه ينبغي لمَن يطلب المعيشة في
الدنيا ألَّا يخلي يومًا عن طلب الآخرة، فيكون قد أرضَى الدنيا بما ناله من خصب
الأرض، وأرضَى الآخرة بما يصرف من حياته في طلبها.
قال
شماس: فأخبرني هل الجسد والروح سواء في الثواب والعقاب، أم إنما يختصُّ بالعقاب
صاحب الشهوات وفاعل الخطيئات؟ قال الغلام: قد يكون الميل إلى الشهوات والخطيئات
موجِبًا للثواب بحبس النفس عنها والتوبة منها، والأمر بيدِ مَن يفعل ما يشاء،
وبضدها تتميَّزُ الأشياء، على أن المعاش لا بد منه للجسد، ولا جسد إلا بالروح،
وطهارة الروح بإخلاص النية في الدنيا والالتفات إلى ما ينفع في الآخرة، فهما
فرَسَا رهان ورضيعَا لبان، ومشتركان في الأعمال، وباعتبار النية تفصيل الإجمال،
وكذلك الجسد والروح مشتركان في الأعمال، وفي الثواب والعقاب.
وذلك
مثل الأعمى والمُقعَد اللذين أخذهما رجلٌ صاحب بستان، وأدخلهما بستانه وأمرهما
ألَّا يفسدَا فيه ولا يصنعَا فيه أمرًا يضرُّ به، فلما طابَتْ أثمار البستان قال
المُقعَد للأعمى: وَيْحك! إني أرى أثمارًا طيبة وقد اشتهيتها، ولستُ أقدر على
القيام إليها لآكل منها، فقُمْ أنت لأنك صحيح الرِّجْلين وَأْتنا منها بما نأكل.
فقال الأعمى: وَيْحك! قد ذكرتَها لي، وقد كنتُ عنها غافلًا، ولستُ أقدر على ذلك
لأني لستُ أبصرها، فما الحيلة في تحصيل ذلك؟ فبينما هما كذلك إذ أتاهما الناظر على
البستان، وكان رجلًا عالمًا، فقال له المُقعَد: وَيْحك يا ناظر! إنَّا قد اشتهينا
شيئًا من هذه الثمار ونحن كما ترى؛ أنا مُقعَد وصاحبي هذا أعمى لا يبصر شيئًا، فما
حيلتنا؟ فقال لهما الناظر: وَيْحكما! أَلَسْتُما تعلمان ما قد عاهَدَكما عليه
صاحبُ البستان من أنكما لا تتعرَّضان لشيءٍ مما يؤثِّر فيه الفساد؟ فانتهِيَا ولا
تفعلَا. فقالَا له: لا بد لنا من أن نصيب من هذه الثمار ما نأكله، فأخبِرْنا بما
عندك من الحيلة. فلما لم ينتهيَا عن رأيهما، قال لهما: الحيلة في ذلك أن يقوم
الأعمى ويحملك أيها المُقعَد على ظهره ويُدنِيك من الشجرة التي تعجبك أثمارها، حتى
إذا أدناك منها تجني أنت ما أصبتَ من الثمار. فقام الأعمى وحمل المُقعَد، وجعل
المُقعَد يهديه إلى السبيل حتى أدناه إلى شجرة، فصار المُقعَد يأخذ منها ما
أحَبَّ، ولم يزل ذلك دأبهما حتى أفسدَا ما في البستان من الشجر، وإذا بصاحب
البستان قد جاء وقال لهما: وَيْحكما! ما هذه الفِعال؟ أَلَمْ أعاهِدْكما على ألَّا
تفسِدَا في هذا البستان؟ فقالَا له: قد علمتَ أننا لا نقدر أن نصل إلى شيءٍ من
الأشياء لأن أحدنا مُقعَد لا يقوم، والآخر أعمى لا يبصر ما بين يديه، فما ذنبنا؟
فقال لهما صاحب البستان: لعلكما تظنان أني لستُ أدري كيف صنعتما وكيف أفسدتما في
بستاني؟ كأني بك أيها الأعمى قد قمتَ وحملتَ المُقعَد على ظهرِكَ، وصار يهديك
السبيل حتى أوصلتَه إلى الشجرة. ثم إنه أخذهما وعاقبهما عقوبةً شديدةً وأخرجهما من
البستان؛ فالأعمى مثال للجسد لأنه لا يُبصِر إلا بالنفس، والمُقعَد مثال للنفس
التي لا حركةَ لها إلا بالجسد، وأما البستان فإنه مثال للعمل الذي يُجازَى به
العبد، والناظر مثال للعقل الذي يأمر بالخير وينهى عن الشر، فالجسد والروح مشتركان
في الثواب والعقاب. قال له شماس: صدقتَ وقد قبلتُ قولك هذا، فأخبرني أي العلماء
عندك أحمد؟ قال الغلام: مَن كان بالله عالمًا وينفعه علمه. قال شماس: ومَن ذلك؟
قال الغلام: مَن يلتمس رضا ربه ويتجنَّبُ سخطه. قال: فأيهم أفضل؟ قال الغلام: مَن
كان بالله أعلم. قال شماس: فمَن أشدهم اختبارًا؟ قال: مَن كان على العمل بالعلم
صبَّارًا. قال شماس: أخبرني مَن أرقُّهم قلبًا؟ قال: أكثرهم استعدادًا للموت
وذكرًا، وأقلهم أملًا؛ لأن مَن أدخل على نفسه طوارقَ الموت كان مثل الذي ينظر في
المرآة الصافية، فإنه يعرف الحقيقة، ولا تزداد المرآة إلا صفاءً وبريقًا. قال
شماس: أي الكنوز أحسن؟ قال: كنوز السماء. قال: فأي كنوز السماء أحسن؟ قال: تعظيم
الله وتحميده. قال: فأي كنوز الأرض أفضل؟ قال: اصطناع المعروف. وأدرك شهرزاد
الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 911﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الوزير شماس لما قال لابن الملك: أي كنوز الأرض أفضل؟
قال له: اصطناع المعروف. قال: صدقتَ وقد قبلتُ قولك هذا، فأخبرني عن الثلاثة
المختلفة: العلم والرأي والذهن، وعن الذي يجمع بينها؟ قال الغلام: إنما العلم من
التعلُّم، وأما الرأي فإنه من التجارب، وأما الذهن فإنه من التفكُّر، وثباتها
واجتماعها في العقل، فمَن اجتمعَتْ فيه هذه الثلاث خصال كان كاملًا، ومَن جمع
إليهن تقوى الله كان مصيبًا. قال شماس: صدقتَ وقد قبلتُ منك ذلك، فأخبرني عن
العالم العليم ذي الرأي السديد والفطنة الوقَّادة والذهن الفائق الرائق، هل
يغيِّره الهوى والشهوةُ عن هذه الحالات التي ذكرت؟ قال الغلام: إن هاتين الخصلتين
إذا دخلتَا على الرجل غيَّرَتَا علمه وفهمه ورأيه وذهنه، وكان مثل العُقاب الكاسر
الذي عن القنص محاذر، المقيم في السماء لفرط حذقه، فبينما هو كذلك إذ نظر رجلًا
صيادًا قد نصب شَرَكه، فلما فرغ الرجل من نصب الشَّرَك وضَعَ فيه قطعة لحمٍ، فعند
ذلك أبصَرَ العُقاب قطعةَ اللحم، فغلب عليه الهوى والشهوة حتى نسي ما شاهَدَ من
الشَّرَك ومن سوء الحال لكلِّ مَن وقع من الطير، فانقَضَّ من جو السماء حتى وقع
على قطعة اللحم، فاشتبك في الشَّرَك، فلما جاء الصياد رأى العُقاب في شَرَكه
فتعجَّبَ عجبًا شديدًا وقال: أنا نصبتُ شَرَكي ليقع فيه حمامٌ أو نحوه من الطيور
الضعيفة، فكيف وقع فيه هذا العقاب؟ وقد قيل: إن الرجل العاقل إذا حمله الهوى
والشهوة على أمرٍ، يتدبَّر عاقبةَ ذلك الأمر بعقله فيمتنع ممَّا حسَّنَاه، ويقهر
بعقله شهوته وهواه، فإذا حمله الهوى والشهوة على أمرٍ، ينبغي أن يجعل عقلَه مثل
الفارس الماهر في فروسيته، إذا ركب الفرس الأرعن فإنه يجذبه باللجام الشديد حتى
يستقيم ويمضي معه على ما يريد، وأما مَن كان سفيهًا لا علمَ له ولا رأي عنده،
والأمور مشتبهة عليه والهوى والشهوة مسلَّطان عليه، فإنه يعمل بشهوته وهواه فيكون
من الهالكين، ولا يكون في الناس أسوأ حالًا منه.
قال
شماس: صدقتَ فيما قلتَ وقد قبلتُ ذلك منك، فأخبرني متى يكون العلم نافعًا، والعقل
لوبال الهوى والشهوة دافعًا؟ قال الغلام: إذا صرَفَهما صاحبهما في طلب الآخرة؛ لأن
العقل والعلم كلَيْهما نافعان، ولكن ليس ينبغي لصاحبهما أن يصرفهما في طلب الدنيا
إلا بمقدار ما يصيب به قوته منها، ويدفع عن نفسه شرَّها ويصرفهما في عمل الآخرة.
قال: فأخبرني ما أحقُّ أن يلزم الإنسان ويشغل به قلبه؟ قال: العمل الصالح. قال:
فإذا فعل الرجل ذلك شغله عن معاشه، فكيف يفعل في المعيشة التي لا بد له منها؟ قال
الغلام: إن نهاره أربعٌ وعشرون ساعة، فينبغي له أن يجعل منها جزءًا واحدًا في طلب
المعيشة، وجزءًا واحدًا للدَّعَة والراحة، ويصرف الباقي في طلب العلم؛ لأن الإنسان
إذا كان عاقلًا وليس عنده علم، فإنما هو كالأرض المجدبة التي ليس فيها موضع للعمل
والغرس والنبات؛ فإذا لم تُهيَّأ للعمل وتُغرَس، لا ينفع فيها ثمر، وإذا هُيِّئَتْ
للعمل وغُرِست أنبتَتْ ثمرًا حسنًا؛ كذلك الإنسان بغير علمٍ لا نفْعَ به حتى
يُغرَس فيه العلم، فإذا غُرِس فيه العلم أثمَرَ. قال شماس: فأخبرني عن العلم بغير
عقلٍ ما شأنه؟ قال: كعلم البهيمة التي تعلَّمَتْ أوانَ مطعمها ومشربها وأوانَ
يقظتها ولا عقل لها. قال شماس: قد أوجزتَ في الإجابة عن ذلك، ولكنْ قد قبلتُ منك
هذا الكلام، فأخبرني كيف ينبغي أن أتوقَّى السلطان؟ قال الغلام: لا تجعل له عليك
سبيلًا. قال: وكيف أستطيع ألَّا أجعل له عليَّ سبيلًا وهو مسلَّط عليَّ وزمام أمري
بيده؟ قال الغلام: إنما سلطانه عليك بحقوقه التي قبلك، فإذا أعطيتَه حقَّه فلا
سلطان له عليك. قال شماس: ما حق الملك على الوزير؟ قال: النصيحة والاجتهاد في
السرِّ والعلانية، والرأي السديد، وكتم سره، وألَّا يُخفِي عنه شيئًا ممَّا هو
حقيق بالاطِّلَاع عليه، وقلة الغفلة عمَّا قلَّدَه إياه من قضاء حوائجه، وطلب رضاه
بكلِّ وجهٍ، واجتناب سخطه عليه. قال شماس: فأخبرني ما الذي يفعله الوزير مع الملك؟
قال الغلام: إذا كنتَ وزيرًا للملك وأحببتَ أن تَسْلم منه، فَلْيكن سمعك وكلامك له
فوق ما يؤمله منك، وَلْيكن طلبك منه الحاجة على قدر منزلتك عنده، واحذَرْ أن
تُنزِلَ نفسَك منزلةً لم يَرَكَ لها أهلًا، فيكون ذلك منك مثل الجَراءة عليه.
فإذا
اغتررتَ بحلمه ونزَّلتَ نفسك منزلةً لم يَرَكَ لها أهلًا، تكون مثل الصياد الذي
يصطاد الوحوش فيسلخ جلودها لحاجته إليها ويطرح لحومها، فجعل الأسد يأتي إلى ذلك
المكان فيأكل من تلك الجيفة، فلما كثر تردُّدُه إلى ذلك المحل، استأنس بالصياد
وألِفَه، وأقبَلَ الصيادُ يرمي إليه ويمسح يده على ظهره وهو يلعب بذيله، فعندما
رأى الصيادُ سكونَ الأسدِ له واستئناسَه به وتذلُّله إليه، قال في نفسه: إنَّ هذا
الأسد قد خضع إليَّ وملكتُه، وما أرى إلا أني أركبه وأسلخ جلده مثل غيره من
الوحوش، فتجاسَرَ الصياد ووثَبَ على ظهر الأسد وطمع فيه، فلما رأى الأسد ما صنع الصياد،
غضب غضبًا شديدًا، ثم رفع يده وضرب الصياد فدخلت مخالبه في أمعائه، ثم طرحه تحت
قوائمه ومزَّقَه تمزيقًا؛ فمن ذلك علمتُ أنه ينبغي للوزير أن يكون عند الملك على
حسب ما يرى من حاله، ولا يتجاسر عليه لفضل رأيه فيتغيَّر الملك عليه. وأدرك شهرزاد
الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 912﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الغلام ابن الملك جليعاد قال لشماس الوزير: ينبغي
للوزير أن يكون عند الملك على حسب ما يرى من حاله، ولا يتجاسر عليه لفضل رأيه،
فيتغيَّر الملك عليه. قال شماس: فأخبرني ما الذي يتزيَّنُ به الوزير عند الملك؟
قال الغلام: أداء الأمانة التي فُوِّضَ إليه أمرُها من النصيحة وسداد الرأي
وتنفيذه لأوامره. قال له شماس: أمَّا ما ذكرتَ من أن حقَّ الملك على الوزير أن
يجتنبَ سخطه ويفعل ما يقتضي رضاه ويهتم بما قلَّدَه إياه، فإنه أمرٌ واجبٌ، ولكن
أخبرني ما الحيلة إذا كان الملك إنما رضاه بالجور وارتكاب الظلم والعسف؟ فما حيلة
الوزير إذا هو ابتُلِيَ بعِشْرة ذلك الملِك الجائر؟ فإنه إنْ أرادَ أن يصرفه عن
هواه وشهوته ورأيه، فلا يقدر على ذلك، وإنْ هو تابَعَه على هواه وحسَّنَ له رأيه،
حملَ وزْرَ ذلك وصار للرعية عدوًّا، فما تقول في هذا؟ فأجابه الغلام قائلًا: إنَّ
ما ذكرتَ أيها الوزير من الوزْرِ والإثم، إنما هو إذا تابَعَه على ما ارتكبه من
الخطأ، ولكن يجب على الوزير إذا شاوَرَه الملِك في مثل هذا أن يبيِّنَ له طريقَ
العدل والإنصاف، ويحذِّره من الجور والاعتساف، ويعرِّفه حُسْن السيرة في الرعية،
ويرغِّبه فيما في ذلك من الثواب، ويحذِّره ممَّا يلزمه من العقاب، فإنْ مال وعطف
إلى كلامه حصل المراد، وإلا فلا حيلةَ له إلا بمفارَقته إياه بطريقةٍ لطيفة؛ لأن
في المفارَقة لكلِّ واحدٍ منهما الراحة. قال الوزير: فأخبرني ما حق الملِك على
الرعية؟ وما حق الرعية على الملِك؟ قال: الذي يأمرهم به يعملونه بنيةٍ خالصة،
ويطيعونه فيما يرضيه ويرضي الله ورسوله، وحقُّ الرعية على الملِك حفْظُ أموالهم
وصوْنُ حريمهم، كما أن للملك على الرعيةِ السمعَ والطاعة، وبذْلَ الأنفس دونه،
وإعطاءَه واجبَ حقه، وحُسْنَ الثناء عليه بما أولاهم من عدله وإحسانه. قال شماس:
قد بيَّنْتَ لي ما سألتُكَ عنه من حقِّ الملك والرعية، فأخبرني هل بقي للرعية شيءٌ
على الملِك غير ما قلتَ؟ قال الغلام: نعم، حق الرعية على الملِك أوجبُ من حق
الملِك على الرعية، وهو أن ضياع حقهم عليه أضرُّ من ضياع حقه عليهم؛ لأنه لا يكون
هلاك الملِك وزوال مُلْكه ونعمته إلا من ضياع حقِّ الرعية، فمَن تولَّى مُلْكًا
يجب عليه أن يلازم ثلاثة أشياء، وهي: إصلاح الدِّين، وإصلاح الرعية، وإصلاح
السياسة، فبملازمة هذه الثلاثة يدوم ملكه. قال: فأخبرني كيف ينبغي أن يستقيم في
إصلاح الرعية؟ قال: بأداء حقِّهم وإقامة سنتهم، واستعمال العلماء والحكماء
لتعليمهم وإنصاف بعضهم من بعضٍ، وحَقْن دمائهم، والكف عن أموالهم، وتخفيف الثقل
عنهم، وتقوية جيوشهم. قال: فأخبرني ما حق الوزير على الملك؟ قال الغلام: ليس على
الملك حقٌّ لأحدٍ من الناس أوجب من الحق الواجب عليه للوزير لثلاث خصال؛ الأولى:
لِلَّذي يصيبه معه عند خطأ الرأي والانتفاع العام للملك والرعية عند سداد الرأي.
والثانية: ليعلم الناس حُسْنَ منزلة الوزير عند الملك، فتنظر إليه الرعية بعين
الإجلال والتوقير وخفض الجناح. والثالثة: أن الوزير إذا شاهَدَ ذلك من الملك
والرعية، دفع عنهم ما يكرهونه ووفى لهم بما يحبونه. قال شماس: قد سمعتُ جميعَ ما
قلتَه لي من صفات الملِك والوزير والرعية وقبلته منك، فأخبرني ما ينبغي لحفْظِ
اللسان عن الكذب والسفاهة وسبِّ العِرْض والإفراط في الكلام؟ قال الغلام: ينبغي
للإنسان ألَّا يتكلم إلا بالخير والحسنات، ولا ينطق في شأن ما لا يعنيه، ويترك
النميمة ولا ينقل عن أحدٍ حديثًا سمعه منه لعدوِّه، ولا يطلب لصديقه ولا لعدوه
ضرورة عند سلطانه، ولا يَعْبأ بمَن يرتجي خيره ويتقي شره إلا الله تعالى؛ لأنه هو
الضار النافع على الحقيقة، ولا يذكر لأحدٍ عيبًا ولا يتكلَّم بجهلٍ لئلا يلزمه
الوزر والإثم من الله والبغض بين الناس، واعلم أن الكلام مثل السهم إذا نفَذَ لا
يقدر أحدٌ على ردِّه، وَلْيحذر أن يودع سرَّه عند مَن يفشيه، فربما يقع في ضرر
إفشائه بعد أن يكون على ثقةٍ من الكتمان، وأن يكون مُخفِيًا لسرِّه عن صديقه أكثر
من إخفائه عن عدوه، فإن كتمان السر عن جميع الناس من أداء الأمانة. قال شماس:
فأخبرني عن حُسْن الخُلُق مع الأهل والأقارب؟ قال الغلام: إنه لا راحةَ لبني آدم
إلا بحُسْن الخُلُق، ولكن ينبغي أن يصرف إلى الأهل ما يستحقونه، وإلى إخوانه ما
يجب لهم. قال: فأخبرني ما الذي يجب أن يصرفه إلى الأهل؟ قال: أمَّا الذي يصرفه
للوالدين، فخفض الجناح، وحلاوة اللسان، ولِين الجانب، والإكرام والوقار، وأما الذي
يصرفه للإخوان فالنصيحة، وبَذْل المال، ومساعدتهم على أسبابهم، والفرح لفرحهم،
والإغضاء عمَّا يقع منهم من الهفوات، فإذا عرفوا منه ذلك قابَلُوه بأعزِّ ما عندهم
من النصيحة، وبذلوا الأنفسَ دونه، فإذا كنتَ من أخيكَ على ثقة، فابذلْ له ودَّكَ
وكُنْ مساعِدًا له على جميع أموره. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح
﴿اللیلة 913﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الغلام ابن الملك جليعاد لما سأله الوزير شماس عن
المسائل المتقدِّمة ورَدَّ له أجوبتها، قال له الوزير شماس: إني أرى الإخوان
صنفَيْن: إخوان ثقة، وإخوان معاشَرة، أما إخوان الثقة فإنه يجب لهم ما وصفتَ،
فأسألكَ عن غيرهم من إخوان المعاشَرة. قال الغلام: أمَّا إخوان المعاشَرة فإنك
تصيب منهم لذةً وحُسْنَ خلقٍ وحلاوةَ لفظ وحُسْنَ معاشَرة، فلا تقطع منهم
لذَّاتِكَ، بل ابذُلْ مثلَ ما يبذلونه لكَ، وعامِلْهم بمثل ما يعاملونك به من
طلاقة الوجه وعذوبة اللسان، فيطيب عيشك ويكون كلامك مقبولًا عندهم.
قال
شماس: قد عرفنا هذه الأمور كلها، فأخبرني عن الأرزاق المقدَّرة للخلق من الخالق،
هل هي مقسومة بين الناس والحيوان، لكلِّ واحد رزقٌ إلى تمام أجله؟ وإذا كان الأمر
كذلك، فما الذي يحمل طالِبَ المعيشة على ارتكاب المشقَّة في طلب ما عرف أنه إنْ
كان مقدَّرًا له فلا بد من حصوله، وإنْ لم يرتكب مشقَّةَ السعي، وإنْ لم يكن
مقدَّرًا له فلا يتحصَّل له ولو سعى إليه غاية السعي؟ فهل يترك السعي ويكون على
ربه متوكِّلًا ولجسده ونفسه مُرِيحًا؟ قال الغلام: إنَّا قد رأينا لكلِّ واحدٍ
رزقًا مقسومًا وأجلًا محتومًا، ولكنْ لكلِّ رزقٍ طريق وأسباب، فصاحِبُ الطلب يصيب
في طلبه الراحةَ بترك الطلب، ومع ذلك لا بد من طلب الرزق، غير أن الطالب على
ضربَيْن: إما أن يصيب، وإما أن يُحرَم. فراحة المُصِيب في الحالتين إصابةُ رزقه،
وكونُ عاقبة طلبه حميدة. وراحة المحروم في ثلاث خصال: الاستعداد لطلب رزقه،
والتنزُّه عن أن يكون كَلًّا على الناس، والخروج عن عهدة الملامة. قال شماس:
أخبرني عن باب طلب المعيشة؟ قال الغلام: يستحلُّ الإنسان ما أحَلَّه اللهُ،
ويحرِّم ما حرَّمه الله عزَّ وجلَّ.
وانقطَعَ
بينهما الكلام لمَّا وصلَا إلى هذا الحد، ثم قام شماس هو ومَن حضر من العلماء
وسجدوا للغلام وعظَّموه وبجَّلوه، وضمَّه أبوه إلى صدره، ثم بعد ذلك أجلَسَه على
سرير الملك وقال: الحمد لله الذي رزقني ولدًا تقرُّ به عيناي في حياتي. ثم قال
الغلام لشماس ومَن حضر من العلماء: أيها العالم صاحب المسائل الروحانية، إن لم يكن
فتَحَ الله عليَّ من العلم إلا بشيء قليل، فإني قد فهمتُ قصدك في قبولك مني ما
أتيتُ به جوابًا عمَّا سألتَني، سواء كنتُ فيه مصيبًا أو مخطئًا، ولعلك صفحتَ عن
خطئي، وأنا أريد أن أسألك عن شيء عجَزَ عنه رأيي، وضاق منه ذَرْعي، وكَلَّ عن وصفه
لساني؛ لأنه أشكَلَ عليَّ إشكالَ الماء الصافي في الإناء الأسود، فأحِبُّ منك أن
تشرحه لي حتى لا يكون شيء منه مبهمًا على مثلي فيما يستقبل، مثل إبهامه عليَّ فيما
مضى؛ لأن الله كما جعل الحياة بالماء، والقوة بالطعام، وشفاء المريض بمداواة
الطبيب؛ جعل شفاءَ الجاهل بعلم العالِم، فأنصِتْ إلى كلامي. قال شماس: أيها المضيء
العقل، صاحب المسائل الصالحة، ومَن شهد له العلماء كلهم بالفضل لحُسْن تفضيلك
للأشياء وتقسيمك إياها، وحُسْن إصابتك في إجابتك عمَّا سألتُكَ عنه، قد علمت أنكَ
لستَ تسألني عن شيءٍ إلا وأنت في تأويله أصوب رأيًا وأصدق مقالًا؛ لأن الله قد
آتاكَ من العلم ما لم يُؤْتِ أحدًا من الناس، فأخبرني عن هذه الأشياء التي تريد أن
تسألني عنها؟ قال الغلام: أخبرني عن الخالق جلَّتْ قدرته، من أي الأشياء خلَقَ
الخَلْق؟ ولم يكن قبل ذلك شيء، وليس يُرَى في هذه الدنيا شيءٌ إلا مخلوق من شيءٍ،
والبارئ تبارَكَ وتعالى قادِرٌ على أن يخلق الأشياءَ من لا شيء، ولكن اقتضَتْ
إرادته مع كمال القدرة والعظمة، أنه لم يخلق شيئًا إلا من شيءٍ. قال الوزير شماس:
أمَّا صنَّاع الآلات من الفخار وغيره من الصنائع، فلا يقدرون على ابتداعِ شيءٍ إلا
من شيء؛ إذ هم مخلوقون، وأما الخالق الذي صنَعَ العالَمَ بهذه الصنعة العجيبة، فإن
شئتَ أن تعرف قدرته تبارك وتعالى على إيجاد الأشياء، فأطِلِ الفِكْرَ في أصناف
الخلق، فإنك ستجد آياتٍ وعلاماتٍ دالةً على كمال قدرته، وأنه قادر على أن يخلق
الأشياء من لا شيء، بل أوجَدَها بعد العدم المحض؛ لأن العناصر التي هي مادة
الأشياء كانت عدمًا محضًا، وقد أوضحتُ لك ذلك حتى لا تكون في شكٍّ منه، ويبين ذلك
آية الليل والنهار، فإنهما يتعاقبان حتى إذا ذهب النهار وجاء الليل، خفي علينا
النهار ولم نعرف له مقرًّا، وإذا ذهب الليل بظلمته ووحشته جاء النهار ولم نعرف
لليل مقرًّا، وإذا أشرقَتْ علينا الشمس لا نعرف أين يُطوَى نورها، وإذا غربت لم
نعرف مستقرَّ غروبها، وأمثال ذلك من أفعال الخالق - عزَّ اسمه وجلَّتْ قدرته -
كثيرةٌ مما يحيِّر أفكارَ الأذكياء من المخلوقات.
قال
الغلام: أيها العالم، إنك عرَّفتني من قدرة الخالق ما لا يستطاع إنكاره، ولكن
أخبرني كيف إيجاده لخلقه؟ قال شماس: إنما الخلق مخلوقٌ بكلمته التي هي موجودة قبل
الدهر، وبها خلق جميع الأشياء. قال الغلام: إن الله تعاظَمَ اسمه وارتفعَتْ قدرته،
إنما أرادَ إيجادَ الخلق قبل وجودهم. قال شماس: وبإرادته خلَقَهم بكلمته، فلولا
أنَّ له نطقًا وأظهر كلمة، لم تكن الخليقة موجودة. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ
عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 914﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الغلام لما سأل شماسًا عن المسائل المتقدِّمة، أجابَه
عنها، ثم قال له: يا بني، إنه لا يخبرك أحدٌ من الناس بغير ما قلته إلا بتحريف
الكلام الوارد في الشرائع عن موضعه، وصرْفِ الحقائق عن وجوهها، ومن ذلك قولك: إن
الكلمة لها استطاعة، أعوذ بالله من هذه العقيدة، بل قولنا في الله عز وجل: إنه
خلَقَ الخلْقَ بكلمته، معناه أنه تعالى واحدٌ في ذاته وصفاته، وليس معناه أن كلمة
الله لها قدرةٌ، بل القدرة صفة لله، كما أن الكلام وغيره من صفات الكمال صفات لله
تعالى شأنه وعزَّ سلطانه، فلا يُوصَف هو دون كلمته، ولا تُوصَف كلمته دونه، فالله
جلَّ ثناؤه خلق بكلمته جميعَ خلقه، وبغير كلمته لم يخلق شيئًا، وإنما خلق الأشياء
بكلمته الحق، فبالحق نحن مخلوقون. قال الغلام: قد فهمتُ من أمر الخالق وعِزَّة
كلمته ما ذكرت، وقبلتُ ذلك منك بفهمٍ، ولكني سمعتُكَ تقول: إنما خلَقَ الخلْقَ
بكلمته الحق، والحق ضد الباطل، فمن أين عرض الباطل؟ وكيف يمكن عروضه للحق حتى
يشتبه به ويلتبس على المخلوقين، فيحتاجون إلى الفصل بينهما؟ وهل الخالق عزَّ
وجَلَّ محِبٌّ لهذا الباطل أم باغض له؟ فإن قلتَ إنه محِبٌّ للحق وبه خلق خلقه،
وباغض للباطل، فمِن أين دخَلَ هذا الذي يبغضه الخالق على ما يحبه وهو الحق؟ قال
شماس: إن الله لما خلق الإنسانَ بالحق، ولم يكن الإنسان محتاجًا إلى توبةٍ، حتى
دخل الباطل على الحق الذي هو مخلوق به، بسبب الاستطاعة التي جعلها الله في الإنسان
وهي الإرادة والميل المسمَّى بالكسب، فلما دخل الباطل على الحق بهذا الاعتبار
التبَسَ الباطلُ بالحقِّ بسبب إرادة الإنسان واستطاعته والكسب الذي هو الجزء
الاختياري مع نصف طبيعة الإنسان، فخلَقَ اللهُ له التوبة لتصرِفَ عنه ذلك الباطل وتثبِّتُه
على الحق، وخلق له العقوبة إن هو أقام على مُلابَسة الباطل.
قال
الغلام: فأخبرني ما سبب عروض هذا الباطل للحق حتى التَبَسَ به؟ وكيف وجبَتِ
العقوبةُ على الإنسان حتى احتاجَ إلى التوبة؟ قال شماس: إن الله لما خلق الإنسانَ
بالحق جعله مُحِبًّا له، ولم يكن له عقوبة ولا توبة، واستمَرَّ كذلك حتى ركَّبَ
الله فيه النفس التي هي من كمال الإنسانية مع ما هي مطبوعة عليه من الميل إلى
الشهوات، فنشأ من ذلك عروض الباطل والتباسه بالحق الذي خُلِق الإنسان به وطُبِع
على حبِّه، فلما صار الإنسان إلى هذه الغاية زاغَ عن الحق بالمعصية، ومَن زاغَ عن
الحق إنما يقع في الباطل. قال الغلام: إن الحق إنما دخل عليه الباطل بالمعصية
والمخالفة. قال شماس: وهو كذلك؛ لأن الله يحب الإنسانَ، ومن زيادة محبته له خلَقَ
الإنسانَ محتاجًا إليه، وذلك هو الحق بعينه، ولكن ربما استرخى الإنسان عن ذلك بسبب
ميل النفس إلى الشهوات، ومال إلى الخلاف، فصار إلى ذلك الباطل بالمعصية التي بها
عصى ربه فاستوجب العقوبة، وبإزاحة الباطل عنه بتوبته ورجوعه إلى محبة الحق،
استوجَبَ الثواب.
قال
الغلام: أخبرني عن مبدأ المخالفة مع أن الخلق مرجعهم جميعًا إلى أن وجد بني آدم،
وقد خلَقَه الله بالحق، فكيف جلب المعصيةَ لنفسه؟ ثم قُرِنت معصيته بالتوبة بعد
تركيب النفس فيه لتكون عاقبته الثواب أو العقاب، ونحن نرى بعض الخلق مقيمًا على
المخالفة، مائلًا إلى ما لا يحبه، مخالفًا لمقتضى أصل خلقته من حبِّ الحق،
مستوجبًا لسخط ربه عليه، ونرى بعضهم مُقِيمًا على رضا خالقه وطاعته مستوجبًا
للرحمة والثواب؛ فما سبب الاختلاف الحاصل بينهم؟ قال شماس: إنَّ أول نزول هذه
المعصية بالخلق إنما كان بسبب إبليس الذي كان أشرَفَ ما خلق الله جلَّ اسمه من
الملائكة والإنس والجن، وكان مطبوعًا على المحبة لا يعرف غيرها، فلما انفرَدَ بهذا
الأمر داخَلَه العُجْب والعظمة والتجبُّر والتكبُّر عن الإيمان والطاعة لأمر
خالقه، فردَّه الله دون الخلائق جميعهم، وأخرَجَه من المحبة وصيَّرَ مَثْواه إلى
نفسه في المعصية، فحين علم أن اللهَ جلَّ اسمه لا يحبُّ المعصية، ورأى آدمَ وما هو
فيه من ذلك الحق والمحبة والطاعة لخالقه، داخَلَه الحسدُ فاستعمل الحيلةَ في صرفه
لآدم عن الحق، ليكون مشتركًا معه في الباطل، فلزم آدم العقوبة لميله إلى المعصية
التي زيَّنَها له عدوُّه وانقياده إلى هواه؛ حيث خالَفَ وصيةَ ربه بسبب عروض
الباطل، ولما علم الخالق - جلَّ ثناؤه وتقدَّست أسماؤه - ضَعْفَ الإنسان وسرعةَ
ميله إلى عدوِّه وتركه الحق، جعل له الخالق برحمته التوبةَ لينهض بها من ورطة
الميل إلى المعصية، ويحمل سلاحَ التوبة فيقهر به عدوه إبليس وجنوده، ويرجع إلى
الحقِّ الذي هو مطبوع عليه، فلما نظر إبليس أن اللهَ جلَّ ثناؤه وتقدَّسَتْ أسماؤه
قد جعل له أمدًا ممتدًّا، بادَرَ إلى الإنسان بالمحارَبة، وأدخَلَ عليه الحِيَلَ
ليُخرِجه من نعمة ربه ويجعله شريكًا له في السخط الذي استوجبه هو وجنوده، فجعل
الله جلَّ ثناؤه للإنسان استطاعةً للتوبة، وأمره أن يلزمَ الحقَّ ويداوِمَ عليه،
ونهاه عن المعصية والخلاف، وألهَمَه أنَّ له على الأرض عدوًّا محارِبًا لا يفتر
عنه ليله ولا نهاره؛ فبذلك استحَقَّ الإنسانُ ثوابًا إنْ لازَمَ الحقَّ الذي
جُبِلت طبيعتُه على حبِّه، وعقابًا إن غلبَتْه نفسُه ومالَتْ به إلى الشهوات.
وأدرَكَ شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 915﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أنَّ الغلام لما سأل شماس عن المسائل المتقدمة وأجابه
عنها، قال له بعد ذلك: أخبرني بأي قوة استطاع الخلْقُ أن يخالفوا خالِقَهم وهو في
غاية العظمة كما وصفتَ، مع أنه لا يقهره شيء ولا يخرج عن إرادته، أَلَا ترى أنه
قادرٌ على صرف خلقه عن هذه المعصية وإلزامهم المحبة دائمًا؟ قال شماس: إن الله
تعالى جلَّ اسمه عادلٌ مُنصِفٌ رءوفٌ بأهل محبته، قد بيَّنَ لهم طريق الخير ومنحهم
الاستطاعة والقدرة على فعل ما أرادوا من الخير، فإن عملوا بخلاف ذلك صاروا إلى
الهلاك والمعصية. قال الغلام: إذا كان الخالقُ هو الذي منحهم الاستطاعةَ وهم
بسببها قادرون على فعل ما أرادوا، فلأي شيء لم يَحُلْ بينهم وبين ما يريدون من
الباطل حتى يردَّهم إلى الحق؟ قال شماس: ذلك لِعظيم رحمته وباهر حكمته؛ لأنه كما
سبق منه لإبليس السخطُ ولم يرحمه كذلك، سبقت منه لآدم الرحمةُ بالتوبة فرضِيَ عنه
بعد سخطه عليه. قال الغلام: هذا هو الحق بعينه؛ لأنه هو المجازي لكلِّ أحد على
عمله، وليس خالقٌ غير الله له القدرة على كل شيء. ثم قال الغلام: هل خلق الله ما
يحبُّ وما لا يحبُّ، أم إنما خلق ما يحب لا غيره؟ قال شماس: قد خلق كلَّ شيء ولم
يَرْضَ إلا ما يحبُّ. قال الغلام: ما بال هذين الشيئين، أحدهما يُرضِي الله
ويُوجِب الثواب لصاحبه، والآخَر يُغضِب اللهَ فيحلُّ العذاب بصاحبه؟ قال شماس:
بيِّنْ لي هذين الأمرين وفهِّمْني إياهما حتى أتكلَّمَ في شأنهما. قال الغلام: هما
الخير والشر المركبان في الجسم والروح. قال شماس: أيها العاقل، أراك قد علمتَ أن
الخير والشر من الأعمال التي يعملها الجسد والروح، فسُمِّيَ الخير منهما خيرًا
لكونه فيه رضا الله، وسُمِّيَ الشرُّ شرًّا لكونه فيه سخط الله، وقد وجب عليك أن
تعرف الله وترضيه بفعل الخير؛ لأنه أمَرَنا بذلك ونهانا عن فعل الشر.
قال
الغلام: إني أرى هذين الشيئين، أعني الخير والشر، إنما يعملهما الحواسُّ الخمس
المعروفة في جسد الإنسان، وهي محل الذوق الناشئ عنه الكلام والسمع والبصر والشم
واللمس، فأحِبُّ أن تعرِّفني هل هذه الحواسُّ الخمس خُلِقت للخير جميعًا أم للشر؟
قال شماس: افهَمْ أيها الإنسان بيانَ ما سألتَ عنه، وهو الحجة الواضحة، وضَعْها في
ذهنك وأَشْرِبها قلبَكَ، وهو أن الخالق تبارك وتعالى خلق الإنسان بالحق، وطبعه على
حبه ولم يصدر منه مخلوق إلا بالقدرة العلية المؤثرة في كل حادثٍ، ولا ينسب تبارك
وتعالى إلا إلى الحكم بالعدل والإنصاف والإحسان، وقد خلق الإنسان لمحبته وركَّبَ
فيه النَّفْس المطبوعة على الميل إلى الشهوات، وجعل له الاستطاعة، وجعل هذه
الحواسَّ الخمس سببًا للنعيم أو الجحيم. قال الغلام: وكيف ذلك؟ قال شماس: لأنه خلق
اللسان للنطق، واليدين للعمل، والرِّجْلين للمشي، والبصر للنظر، والأذنين للسماع،
وقد أعطى كلَّ واحدةٍ من هذه الحواسِّ استطاعةً وهيَّجَها على العمل والحركة، وأمر
كلَّ واحدة منها ألَّا تعمل إلا برضائه، والذي يرضيه من النطق الصدقُ وتركُ ما هو
ضده الذي هو الكذب؛ وممَّا يرضيه من البصر صرفُ النظر إلى ما يحبه الله، وترك ضده
وهو صرف النظر إلى ما يكرهه الله، كالنظر إلى الشهوات؛ ومما يرضيه من السمع ألَّا
يستمع إلا إلى الحق كالموعظة وما في كُتُب الله، وترك ضده وهو أن يسمع ما يُوجِب
سخط الله؛ ومما يرضيه من اليدين ألَّا يقبضَا ما خولَّهما الله، بل يصرفاه على وجهٍ
يرضيه، وترك ضده وهو الإمساك أو صرف ما خوَّلهما الله في معصية؛ ومما يرضيه من
الرِّجْلين أن يكون سعيهما في الخير كقصد التعليم، وترك ضده وهو أن يمشيَا في غير
سبيل الله، وما سوى ذلك من الشهوات التي يعملها الإنسان، فإنه يصدر من الجسد بأمر
الروح؛ ثم الشهوة التي تصدر من الجسد نوعان: شهوة التناسُل وشهوة البطن، فالذي
يرضي الله من شهوة التناسُل أنها لا تكون إلا حلالًا، وسخطه أن تكون حرامًا، وأما
شهوة البطن فالأكل والشرب، والذي يرضي الله من ذلك ألَّا يتعاطى منه كلُّ أحد إلا
ما أحَلَّه له، قليلًا كان أو كثيرًا، ويحمد الله ويشكره، والذي يغضب الله منه أن
يتناول ما ليس له بحقٍّ، وما سوى ذلك من هذه الأحكام باطل. وقد عملت أن الله خلق
كلَّ شيء ولا يرضى إلا بالخير، وأمر كلَّ عضو من أعضاء الجسد أن يفعل ما أوجَبَه
عليه؛ لأنه هو العليم الحكيم.
قال
الغلام: فأخبرني هل سبق في علم الله جلَّتْ قدرته أن آدم سبب للأكل من الشجرة التي
نهاه الله عنها حتى كان من أمره ما كان، وبذلك خرج من الطاعة إلى المعصية؟ قال
شماس: نعم أيها العالم، قد سبق ذلك في علم الله تعالى قبل أن يخلق آدم، وبيان ذلك
ودليله ما تقدَّمَ له من التحذير عن الأكل وإعلامه بأنه إذا أكَلَ منها يكون
عاصيًا، وذلك من طريق العدل والإنصاف لئلا يكون لآدم حجةٌ يحتَجُّ بها على ربه،
فلما أن سقط في الورطة والهفوة وعظمت عليه المعيرة والمعتبة، جرى ذلك في نسله من
بعده، فبعث الله تعالى الأنبياء والرسل وأعطاهم كُتبًا، فأعلمونا بالشرائع وبيَّنوا
لنا ما فيها من المواعظ والأحكام، وفصَّلوه لنا وأوضحوا لنا السبيلَ الموصل،
وبيَّنوا لنا ما يجب أن نفعله وما يجب أن نتركه، فنحن مسلَّطون بالاستطاعة؛ فمَن
عمل بهذه الحدود فقد أصاب وربح، ومَن تعدَّى هذه الحدود وعمل بغير هذه الوصايا فقد
خالَفَ وخسر في الدارين، وهذه سبيل الخير والشر، فقد علمت أن الله قادر على جميع
الأشياء، وما خلق الشهوات لنا إلا برضائه وإرادته، وأمرنا أن نأخذها على وجه
الحلال لتكون لنا خيرًا، وإذا استعملناها على وجه الحرام فإنها تكون لنا شرًّا،
فما أصابنا من حسنةٍ فمن الله تعالى، وما أصابنا من سيئةٍ فمن أنفسنا معاشر
المخلوقين لا من الخالق تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا. وأدرك شهرزاد الصباح،
فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 916﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الغلام ابن الملك جليعاد لما سأل الوزير شماسًا عن
هذه المسائل ورَدَّ له أجوبتها، قال له: ما وصفته لي ممَّا يُنسَب إلى الله تعالى
وممَّا يُنسَب إلى خلقه فقد فهمته، فأخبرني عن هذا الأمر الذي حيَّرَ عقلي فرط
التعجب منه، فأني عجبتُ من ولد بني آدم وغفلتهم عن الآخرة وتركهم الذكرى لها
ومحبتهم للدنيا، وقد علموا أنهم يتركونها ويخرجون منها وهم صاغرون. قال شماس: نعم،
فإن الذي تراه من تغيُّرها وغدْرِها بأهلها دليلٌ أنه لا يدوم لصاحب النعيم نعيمه،
ولا لصاحب البلاء بلاؤه، فليس يأمن صاحبها تغيُّرها وإن كان قادرًا عليها ومغتبطًا
بها، فلا بد أن يتغيَّرَ حاله ويسرع إليه الانتقال، وليس الإنسان منها على ثقةٍ،
ولا ينتفع بما هو فيه من زخرفها؛ وحيث عرفنا ذلك عرفنا أن أسوأ الناس حالًا مَن
اغتَرَّ بها وسَهَا عن الآخرة، وأن ذلك النعيم الذي قد أصابه لا يعادل ذلك الخوف
والمشقة والأهوال التي تحصل له بعد الانتقال منها، وعلمنا أنه لو كان العبد يعلم
ما يصيبه عند حضور الموت وفراقه ما هو فيه من اللذات والنعيم، لَكان رفَضَ الدنيا
وما فيها وتيقَّنَّا أن الآخرة خير لنا وأنفع. قال الغلام: أيها العالم، قد زالَتْ
هذه الظلمةُ التي كانت على قلبي بمصباحك المضيء، وأرشدتني إلى السبيل التي سلكتها
من اتِّباع الحق، وأعطيتني سراجًا أنظر به.
فعند
ذلك قام أحد الحكماء الذين كانوا بالحضرة وقال: إنه إذا كان زمان الربيع، فلا بد
أن يطلب الأرنب مع الفيل مرعًى، وقد سمعتُ منكما أشياء من المسائل والتفاسير ما لم
أَرَ أني أسمعه أبدًا، فدعاني ذلك إلى أن أسألكما عن شيءٍ، فأخبراني ما خير مواهب
الدنيا؟ قال الغلام: صحة الجسم، ورزق حلال، وولد صالح. قال: فأخبراني ما الكبير
وما الصغير؟ قال الغلام: أمَّا الكبير فهو ما صبر له أصغر منه، وأما الصغير فهو ما
صبر لأكبر منه. قال: فأخبراني ما الأربعة أشياء التي تجتمع الخلائق فيها؟ قال
الغلام: تجتمع الخلائق في الطعام والشراب، ولذة النوم، وشهوة النساء، وفي سكرات
الموت. قال: فما الثلاثة أشياء لا يقدر أحدٌ على تنحية القباحة عنها؟ قال الغلام:
الحماقة، وخِسَّة الطبع، والكذب. قال: فأي الكذب أحسن مع أنه كله قبيح؟ قال
الغلام: الكذب الذي يضع عن صاحبه الضررَ ويجرُّ نفْعًا. قال: وأي الصدق قبيح، وإنْ
كان كله حسَنًا؟ قال الغلام: كبر الإنسان بما عنده وإعجابه به. قال: وما أقبح
القبيح؟ قال الغلام: إذا أُعجِب الإنسان بما ليس عنده. قال: فأي الرجال أحمق؟ قال
الغلام: مَن كان ليس له همة إلا في شيء يضعه في بطنه.
قال
شماس: أيها الملك، أنت ملكنا، ولكنْ نحبُّ أن تعهد لولدك بالمُلْك من بعدك، ونحن
الخول والرعية. فعند ذلك حثَّ الملك مَن حضَرَ من العلماء والناس على أن ما سمعوه
منه يحفظونه ويعملون به، وأمرهم أن يمتثلوا أمرَ ابنه، فإنه جعله ولي عهده من بعده
ليكون خليفةً على ملك والده، وأخذ العهد على جميعِ أهل مملكته من العلماء والشجعان
والشيوخ والصبيان وبقية الناس ألَّا يتخلَّفوا عليه ولا ينكثوا عليه أمره.
فلما
أتى على ابن الملك سبع عشرة سنة، مرض الملك مرضًا شديدًا حتى أشرَفَ على الموت،
فلما أيقَنَ الملك أن الموت قد نزل به، قال لأهله: هذا داءُ الموت قد نزل بي،
فادعوا لي أقاربي وولدي، واجمعوا لي أهلَ مملكتي، حتى لا يبقى منهم أحدٌ إلا
ويحضر. فخرجوا ونادوا الناس القريبين، وأجهروا بالنداء للناس البعيدين حتى حضروا
بأجمعهم ودخلوا على الملك، ثم قالوا له: كيف أنت أيها الملك؟ وكيف ترى لنفسك من
مرضك هذا؟ قال لهم الملك: إنَّ مرضي هذا هو الذي فيه القاضية، وقد نفذ السهم بما
قدَّرَه الله تعالى عليَّ، وأنا الآن في آخِر يومٍ من أيام الدنيا، وأول يوم من
أيام الآخرة. ثم قال لابنه: ادْنُ مني. فدنا منه الغلام وهو يبكي بكاءً شديدًا حتى
كاد أن يبلَّ فراشه، والملك قد دمعت عيناه، وبكى كلُّ مَن حضر، ثم قال الملك
لولده: لا تَبْكِ يا ابني، فإني لستُ بأول مَن جرى له هذا المحتوم؛ لأنه سائر على
جميع ما خلقه الله، فاتَّقِ الله واعمل خيرًا يسبقك إلى الموضع الذي تقصده جميع
الخلائق، ولا تُطِعِ الهوى واشغلْ نفسك بذِكْر الله في قيامك وقعودك ويقظتك ونومك،
واجعل الحقَّ نصْبَ عينك، وهذا آخر كلامي معك والسلام. وأدرك شهر زاد الصباح،
فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 917﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك جليعاد لما أوصى ولده بهذه الوصية، وعهد له
الملك من بعده، قال الغلام لأبيه: قد علمت يا أبتي أني لم أزَلْ لكَ مطيعًا،
ولوصيتك حافظًا، ولأمرك منفِّذًا، ولرضاك طالبًا، وأنت لي نِعْمَ الأب؛ فكيف أخرج
بعد موتك عمَّا ترضى به، وأنت بعد حُسْنِ تربيتي مفارِق لي، ولا أقدر على ودِّك
عليَّ؟ فإذا حفظتُ وصيتك صرتُ بها سعيدًا، وصار لي النصيب الأكبر. فقال له الملك
وهو في غاية الاستغراق من سكرات الموت: يا بني، الزم عشْرَ خصال ينفعك الله بها في
الدنيا والآخرة، وهن: إذا اغتظْتَ فاكظم غيظك، وإذا بُلِيت فاصبر، وإذا نطقت
فاصدقْ، وإذا وعدْتَ فأوفِ، وإذا حكمتَ فاعدلْ، وإذا قدرتَ فاعفُ، وأكرم قُوَّادك،
واصفح عن أعدائك، وابذل معروفك لعدوِّكَ، وكُفَّ أذاكَ عنه. والزم أيضًا عشْرَ
خصال أخرى ينفعك الله بها في أهل مملكتك، وهي: إذا قسمتَ فاعدل، وإذا عاقَبْتَ
بحقٍّ فلا تَجُرْ، وإذا عاهَدْتَ فأوفِ بعهدك، واقبَلِ النُّصْح، واتركِ
اللَّجاجة، والزمِ الرعية بالاستقامة على الشرائع والسنن الحميدة، وكُنْ حاكمًا
عادلًا بين الناس حتى يحِبَّكَ كبيرهم وصغيرهم ويخافك عاتيهم ومُفسِدهم. ثم قال
للحاضرين من العلماء والأمراء الذين كانوا حاضرين عهْدَه لولده بالمُلْك من بعده:
إياكم ومخالَفة أمر ملككم، وترك الاستماع لكبيركم؛ فإن في ذلك هلاكًا لأرضكم،
وتفريقًا لجَمْعكم، وضررًا لأبدانكم، وتلفًا لأموالكم، فتشمت بكم أعداؤكم، وها
أنتم علمتهم ما عاهدتموني عليه، فهكذا يكون عهدكم مع هذا الغلام، والميثاق الذي
بيني وبينكم يكون أيضًا بينكم وبينه، وعليكم بالسمع والطاعة لأمره؛ لأن في ذلك
صلاح أحوالكم، واثبتوا معه على ما كنتم معي فتستقيم أموركم ويحسن حالكم، وها هو ذا
ملِكُكم وولي نعمتكم والسلام.
ثم
بعد هذا اشتدَّتْ به سكرات الموت والْتَجَم لسانه، فضَمَّ ابنه إليه وقبَّلَه وشكر
الله، ثم قضى نحبه وطلعَتْ روحه، فناح عليه جميعُ رعيته وأهل مملكته، ثم إنهم
كفَّنوه ودفنوه بإكرامٍ وتبجيلٍ وإعظامٍ، ثم رجعوا والغلام معهم فألبسوه حلةَ
الملك وتوَّجُوه بتاجِ والده، وألبسوه الخاتمَ في أصبعه وأجلسوه على سرير الملك،
فسار الغلام فيهم بسِيرة أبيه من الحلم والعدل والإحسان مدةً يسيرة، ثم تعرَّضَتْ
له الدنيا وجذبَتْه بشهواتها، فاستغنم لذَّاتها، وأقبَلَ على زخارف أمورها، وترك
ما كان قلَّدَه به أبوه من المواثيق، ونبذ الطاعة لوالده وأهمل مملكته، ومشى فيما
فيه هلاكه، واشتدَّ به حبُّ النساء، فصار لا يسمع بامرأة حسناء إلا ويرسل إليها
ويتزوَّج بها، فجمع من النساء عددًا أكثر ممَّا جمع سليمان بن داود ملك بني
إسرائيل، وصار يختلي كلَّ يوم بطائفةٍ منهن، ويستمر مع مَن يختلي بهِنَّ شهرًا
كاملًا، لا يخرج من عندهن ولا يسأل عن مُلْكه ولا عن حكمه، ولا ينظر في مَظْلمة
مَن يشكو إليه من رعيته، وإذا كاتبوه فلا يردُّ لهم جوابًا، فلما رأوا منه ذلك
وعَايَنوا ما هو منطوٍ عليه من ترْكِ النظر في أمورهم، وإهماله لأمور دولته وأمور
رعيته، تحقَّقوا أنهم عن قليلٍ يحلُّ بهم البلاءُ، فشقَّ ذلك عليهم وأقبَلَ بعضهم
على بعض يتلاومون، فقال بعضهم لبعض: امشوا بنا إلى شماس كبير وزرائه، نقصُّ عليه
أمرنا ونعرِّفه ما يكون من أمر هذا الملك لينصحه، وإلا فعن قليلٍ يحلُّ بنا
البلاء، فإن هذا الملك قد أدهشَتْه الدنيا بلذَّاتها، وختنته بأشطانها. فقاموا
وأتوا شماسًا وقالوا له: أيها العالم الحكيم، إن هذا الملك قد أدهَشَتْه الدنيا
بلذَّاتها، وختنته بأشطانها، فأقبَلَ على الباطل وسعى في فساد مملكته، وبفساد
المملكة تفسد العامة ويصير أمرنا إلى الهلاك، وسببه أننا نمكث شهرًا وأيامًا ما
نراه، ولا يبرز إلينا من عنده أمرٌ لا للوزير ولا لغيره، ولا يمكن أن تُرفَع إليه
حاجةٌ، ولا ينظر في حكومةٍ، ولا يتعهَّد حالَ أحدٍ من رعيته لغفلته عنهم، وإننا قد
أتينا إليك لنخبرك بحقيقة الأمور لأنك أكبرنا وأكمل منَّا، وليس ينبغي أن يكون
بلاءٌ في أرضٍ أنت مقيمٌ بها؛ لأنك أقدر أحد على إصلاح هذا الملك؛ فانطلِقْ
وكلِّمْه لعله يقبل كلامك ويرجع إلى الله.
فقام
شماس ومضى إلى حيث اجتمَعَ بمَن يمكنه الوصول إليه وقال له: أيها الولد الجيد،
أسألك أن تستأذن لي في الدخول على الملك؛ لأن عندي أمرًا أريد أنظر وجهه وأُخبِره
به، وأسمع ما يجيبني به عنه. فأجاب الغلام قائلًا: والله يا سيدي، من منذ شهر لم
يأذن لأحدٍ في الدخول عليه ولا أنا، فطول هذه المدة ما رأيتُ له وجهًا، ولكنْ
أدلُّكَ على مَن يستأذنه لكَ، وهو أنك تتعلَّق بالوصيف الفلاني الذي يقوم على رأسه
ويأخذ له الطعام من المطبخ، فإذا خرج إلى المطبخ ليأخذ الطعام أسأله عمَّا بَدَا
لكَ، فإنه يفعل لكَ ما تريد. فانطلق شماس إلى باب المطبخ وجلس قليلًا، وإذا
بالوصيف قد أقبَلَ وأراد الدخول في المطبخ، فكلَّمَه شماس قائلًا له: يا بني
أحِبُّ أن أجتمِعَ بالملك لأخبره بكلامٍ يخصُّه، فمن فضلك إذا فرغ من غدائه
وطابَتْ نفسه أن تكلِّمَه لي وتأخذ لي منه إذنًا بالدخول عليه، لكي أكلِّمه بما
يليق به. فقال الوصيف: سمعًا وطاعة. فلما أخذ الوصيف الطعامَ وتوجَّهَ به إلى الملك
وأكل منه، فلمَّا طابَتْ نفسه قال له الوصيف: إن شماسًا واقف بالباب يريد منك
الإذنَ في الدخول عليك ليُعلِمك بأمورٍ تختصُّ بك. ففزع الملك وارتابَ من ذلك،
وأمر الوصيف بإدخاله عليه. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 918﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك لما أمَرَ الوصيفَ بإدخال شماس عليه، خرج
الوصيف إلى شماس ودعاه إلى الدخول، فلما دخل على الملك خرَّ لله ساجدًا وقبَّلَ
يدي الملك ودعا له، فقال الملك: ما أصابَكَ يا شماس حتى طلبْتَ الدخول عليَّ؟ فقال
له: إنَّ لي مدةً لم أَرَ وجهَ سيدي الملك، وقد اشتقتُ إليك كثيرًا، فها أنا
شاهدتُ طلعتك وجئتُ إليك بكلامٍ أذكره لك أيها الملك المؤيَّد بكل نعمة. فقال له:
قُلْ ما بَدَا لك. فقال شماس: اعلم أيها الملك أن الله تعالى رزقك من العلم
والحكمة على حداثة سنِّكَ ما لم يرزقه أحدًا من الملوك قبلك، وأن الله تمَّمَ لك
ذلك بالملك، وأن الله يحب أنك لا تخرج عمَّا خوَّلَكَ إياه إلى غيره بسبب عصيانك
له، فلا تحاربه بذخائرك، بل ينبغي أن تكون لوصاياه حافظًا ولأموره طائعًا؛ لأني قد
رأيتُكَ منذ أيام قلائل نسيتَ أباك ووصيتَه، ورفضت عهده وأضعْتَ نُصْحَه وكلامه،
وزهدتَ عدله وأحكامه، ولم تذكر نعمةَ الله عليك ولم تقيدها بشكره. قال الملك: وكيف
ذلك؟ وما سببه؟ قال شماس: سببه أنك تركتَ تعهُّدَ أمورِ مملكتك، وما قلَّدَكَ الله
إياه من أمور رعيتك، وأقبلتَ على النَّفْس فيما حسَّنته لك من قليل شهوات الدنيا،
وقد قيل: إن إصلاح الملك والدين والرعية ممَّا ينبغي للملك أن يحافظ عليه. والرأي
عندي أيها الملك أن تُحسِنَ النظرَ في عاقبتك، فإنك تجد السبيل الواضح الذي فيه
النجاة، ولا تُقبِلْ على اللذة القليلة الفانية الموصلة إلى ورطة الهلاك، فيصيبك
ما أصاب صيَّاد السمك. فقال له الملك: وكيف كان ذلك؟
قال
شماس: قد بلغني أن صيَّادًا قد أتى إلى نهرٍ ليصطاد منه على عادته، فلما وصل إلى
النهر ومشى على الجسر أبصَرَ سمكةً عظيمةً، فقال في نفسه: ليس لي حاجة بالمقام ها
هنا، فأنا أمشي وأتبع هذه السمكة إلى حيث تذهب حتى آخذها، وهي تُغنِيني عن الصيد
مدةَ أيام، فتعرَّى من ثيابه ونزل خلف السمكة فأخذه جريانُ الماء إلى أن ظفر
بالسمكة وقبض عليها، ثم التفَتَ فوجَدَ نفسه بعيدًا عن الشاطئ، فلما رأى ما قد صنع
به جريانُ الماء لم يترك السمكة ويرجع، بل خاطَرَ بنفسه وقبض عليها بيده، وترك
جسده سابحًا مع جريان الماء، فما زال يسحبه الماء إلى أن رماه في وسط دوَّامة لا
يدخلها أحدٌ ويخلص منها، فصار يصيح ويقول: أنقذوا الغريق! فأتاه ناس من المحافظين
على البحر وقالوا له: ما شأنك؟ وما دهاك حتى ألقيتَ نفسك في هذا الخطر العظيم؟
فقال لهم: أنا الذي تركتُ السبيلَ الواضح الذي فيه النجاة وأقبلتُ على الهوى
والهَلَكة. فقالوا: يا هذا، كيف تركتَ سبيلَ النجاة وأدخلْتَ نفسك في هذه
الهَلَكة؟ وأنت تعرف من قديمٍ أنه ما دخل ها هنا أحدٌ وسلم، فما الذي منعك عن رمي
ما في يدك ونجاة نفسك، فكنت تنقذ روحك ولا تقع في هذا الهلاك الذي لا نجاة منه.
والآن ليس أحدٌ منَّا ينقذك من هذه الهَلَكة. فقطع الرجل الرجاء من حياته وفقَدَ
ما كان بيده ممَّا حملته نفسه عليه، وهلك هلاكًا عظيمًا. وما ضربتُ لكَ أيها الملك
هذا المثلَ إلا لأجلِ أن تَدَعَ هذا الأمرَ الحقير الذي فيه اللهو عن مصالحك،
وتنظر فيما أنت متقلِّده من سياسة رعيتك والقيام بنظام ملكك، حتى لا يرى أحدٌ فيك
عيبًا. قال الملك: فما الذي تأمرني به؟ قال شماس: إذا كان في غدٍ وأنت بخيرٍ
وعافية، فَائْذن للناس بالدخول عليك وانظر في أحوالهم واعتذر إليهم، ثم عِدْهم من
نفسك بالخير وحُسْن السيرة. فقال الملك: يا شماس، إنك تكلَّمْتَ بالصواب، وإني
فاعل ما نصحتني به في غدٍ إن شاء الله تعالى.
فخرج
شماس من عنده وأعلم الناس بكلِّ ما ذكره، فلما أصبح الصباح خرج الملك من حجابه
وأذِنَ للناس في الدخول عليه، وصار يعتذر إليهم ووعدهم أن يصنع لهم ما يحبون،
فرضوا بذلك وانصرفوا وصار كلُّ واحد إلى منزله. ثم إن إحدى نساء الملك وكانت أحبهن
إليه وأكرمهن عنده قد دخلَتْ عليه، فرأَتْه متغيِّرَ اللون متفكِّرًا في أموره
بسبب ما سمعه من كبير وزرائه، فقالت له: ما لي أراك أيها الملك قَلِق النفس؟ هل
تشتكي شيئًا؟ فقال لها: لا، وإنما استغرقتني اللذَّات عن شئوني، فما لي ولهذه
الغفلة عن أحوالي وعن أحوال رعيتي؟ وإنِ استمررت على ذلك فعن قليلٍ يخرج ملكي من
يدي. فأجابته قائلةً: إني أراكَ أيها الملك مع عمَّالك ووزرائك مغشوشًا، فإنهم
إنما يريدون نكايتك وكيدك، حتى لا تحصل لك من ملكك هذه اللذة، ولا تغنم نعيمًا ولا
راحة، بل يريدون أن تقضي عمرَك في أن تدفع المشقة عنهم، حتى إنَّ عمرك يفنى
بالنَّصَب والتعب، وتكون مثل الذي قتل نفسه لإصلاح غيره، أو تكون مثل الفتى
واللصوص. فقال الملك: وكيف كان ذلك؟ فقالت: ذكروا أن سبعةً من اللصوص خرجوا ذات
يوم يسرقون على عادتهم، فمروا على بستانٍ فيه جوز رطب، فدخلوا ذلك البستان، وإذا
هم بولدٍ صغيرٍ واقِفٍ بينهم، فقالوا له: يا فتى، هل لكَ أن تدخل معنا هذا البستان
وتطلع هذه الشجرة وتأكل من جوزها كفايتك، وترمي لنا منها جوزًا؟ فأجابهم الفتى إلى
ذلك ودخل معهم. وأدرك شهر زاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 919﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الفتى لما أجابَ اللصوصَ ودخل معهم، قال بعضهم لبعض:
انظروا إلى أخفِّنا وأصغرنا فأصعدوه. فقالوا: ما نرى فينا ألطف من هذا الفتى. فلما
أصعدوه قالوا: يا فتى، لا تلمس من الشجرة شيئًا لئلا يراك أحدٌ فيؤذيك. فقال
الفتى: وكيف أفعل؟ فقالوا له: اقعد في وسطها وحرِّكْ كلَّ غصنٍ منها تحريكًا
قويًّا حتى يتناثر ما فيه فنلتقطه، وإذا فرغ ما فيها ونزلتَ إلينا فخُذْ نصيبَكَ
مما التقطناه. فلما صعد الفتى على الشجرة صار يحرِّك كلَّ غصن وحده والجوز يتناثر
منه واللصوص يجمعونه، فبينما هم كذلك وإذا بصاحب الشجرة واقِف عندهم وهم على ذلك
الحال، فقال لهم: ما لكم ولهذه الشجرة؟ فقالوا له: لم نأخذ منها شيئًا، غير أننا
مررنا بها فرأينا هذا الولد فوقها، فاعتقدنا أنه صاحبها فطلبنا منه أن يُطعِمنا
منها، فهزَّ بعضَ الأغصان حتى انتثر منها الجوز، ونحن ما لنا ذنب. فقال صاحب
الشجرة للغلام: فما تقول أنت؟ فقال: كذِبَ هؤلاء، ولكن أنا أقول لك الحقَّ، وهو
أننا أتينا جميعًا إلى هنا، فأمروني بالصعود على هذه الشجرة لأهزَّ الأغصانَ كي
ينتثر عليهم الجوز، فامتثلتُ أمرهم. فقال صاحب الشجرة: لقد ألقيتَ نفسك في بلاء
عظيم، وهل انتفعتَ بأكل شيء منها؟ فقال الغلام: ما أكلتُ منها شيئًا. فقال له صاحب
الشجرة: لقد علمت الآن حماقتك وجهلك، وهو أنك سعيتَ في تلفِ نفسك لإصلاح غيرك. ثم
قال للصوص: ما لي عليكم سبيل، امضوا إلى حال سبيلكم. وقبض على الولد وعاقبه. وهكذا
وزراؤك وأهل دولتك، يريدون أن يُهلِكوك لإصلاح أمرهم، ويفعلوا بك مثل ما فعل
اللصوص بالفتى. فقال الملك: حقًّا ما قلتِه، ولقد صدقتِ في خبرك، فأنا لا أخرج
إليهم ولا أترك لذَّاتي. ثم بات مع زوجته في أرغد عيش إلى أن أصبح الصباح.
فلما
أصبح الصباح قام الوزير وجمع أرباب الدولة مع مَن حضر معهم من الرعية، ثم جاءوا
إلى باب الملك مستبشِرين فَرِحين، فلم يفتح لهم الباب ولم يخرج إليهم ولم يأذن لهم
بالدخول عليه، فلمَّا يئسوا من ذلك قالوا لشماس: أيها الوزير الفاضل والحكيم،
أَمَا ترى حالَ هذا الصبي الصغير السن القليل العقل الذي قد جمع إلى ذنوبه الكذب؟
فانظرْ وعدَه لكَ كيف أخلَفَه ولم يوفِ بما وعد، وهذا ذنب يجب أن تضيفه إلى ذنوبه،
ولكن نرجو أن تدخل إليه ثانيًا وتنظر ما السبب في تأخيره ومنعه عن الخروج، فإنَّا
غير مُنكِرين على طباعه الذميمة مثل هذا الأمرَ، فإنه بلغ غايةَ القساوة. ثم إن
شماسًا توجَّهَ إليه ودخل عليه وقال: السلام عليك أيها الملك، ما لي أراكَ قد
أقبلْتَ على شيءٍ يسيرٍ من اللذة، وتركتَ الأمرَ الكبيرَ الذي ينبغي الاعتناء به؟
وكنتَ مثل الذي له ناقة وهو منطوٍ على لبنها، فألهاه حُسْن لبنها عن ضبط زمامها،
فأقبَلَ يومًا على حلبها ولم يعتنِ بزمامها، فلما أحَسَّتِ الناقةُ بترك الزمام،
جذبَتْ نفسها وطلبَتِ الفضاء، فصار الرجل فاقِدَ اللبن والناقة، مع أن ضررَ ما
لقيه أكثر من نفعه؛ فانظر أيها الملك فيما فيه صلاح نفسك ورعيتك، فإنه ليس ينبغي
للرجل أن يديم الجلوسَ على باب المطبخ من أجل حاجته إلى الطعام، ولا ينبغي له أن
يُكثِر الجلوس مع النساء من أجل ميله إليهن، وكما أن الرجل يبتغي من الطعام ما
يدفع ألمَ الجوع، ومن الشراب ما يدفع ألم العطش، كذلك ينبغي للرجل العاقل أن يكتفي
من هذه الأربع والعشرين ساعة بساعتين مع النساء في كل نهار، ويصرف الباقي في مصالح
نفسه وفي مصالح رعيته، ولا يطيل المكثَ مع النساء ولا الخلوة بهن أكثر من ساعتين،
فإن ذلك فيه مضرَّةٌ لعقله وبدنه؛ لأنهن لا يأمرْنَ بخيرٍ ولا يرشدْنَ إليه، ولا
ينبغي أن يقبل منهن قولًا ولا فعلًا، وقد بلغني أن ناسًا كثيرة هلكوا بسبب نسائهم،
فمنهم رجل هلك من اجتماعه بزوجته لكونه أطاعها فيما أمرته. فقال الملك: وكيف كان
ذلك؟
قال
شماس: زعموا أن رجلًا كان له زوجة وكان يحبها وكانت مكرَّمة عنده، فكان يسمع قولها
ويعمل برأيها، وكان له بستان غرَسَه بيده جديدًا، فكان يأتي إليه في كلِّ يوم
ليُصلِحه ويسقيه، فقالت له زوجته يومًا من الأيام: أيَّ شيءٍ غرستَ في بستانك؟
فقال لها: كل ما تحبينه وتريدينه، وها أنا مجتهد في إصلاحه وسقيه. فقالت له: هل
لكَ أن تأخذني وتفرِّجني فيه حتى أراه وأدعو لك دعوة صالحة، فإن دعائي مستجاب.
فقال: نعم، أمهليني حتى آتي إليك في غدٍ وآخذك. فلما أصبح الرجل أخذ زوجته معه
وتوجَّهَ بها إلى البستان ودخلَا فيه، وفي حال دخولهما نظر إليهما اثنان من الشباب
على بُعْدٍ، فقال أحدهما للآخَر: إن هذا الرجل زانٍ وإن هذه المرأة زانية، وما
دخلَا هذا البستان إلا ليزنيَا فيه. فتبعاهما لينظرَا ما يكون من أمرهما، فأما
الشابان فإنهما وقفَا على جانب البستان، وأما الرجل وزوجته فإنهما لما دخلَا
البستان واستقرَّا فيه، قال الرجل لزوجته: ادعي لي الدعوةَ التي وعدتِني بها.
فقالت: لا أدعو لكَ حتى تقوم بحاجتي التي تبتغيها النساء من الرجال. فقال لها:
ويحك أيتها المرأة! أَمَا كان مني في البيت كفاية؟ وها هنا أخاف على نفسي من
الفضيحة، وربما أشغلتِني عن مصالحي، أَمَا تخافين أن يرانا أحدٌ؟ قالت: فلا نبالي
من ذلك؛ لأننا لم نرتكب فاحشة ولا حرامًا، وأمَّا سَقْي هذا البستان ففيه مهلة،
وأنت قادر على سَقْيه في أي وقت أردتَ. ولم تقبل منه عذرًا ولا حجةً، وألَّحَتْ
عليه في طلب النكاح، فعند ذلك قام ونام معها، فعندما أبصرهما الشابان المذكوران
وثَبَا عليهما وأمسكاهما وقالا لهما: لا نطلقكما؛ لأنكما من الزُّنَاة، وإن لم
نواقِعِ المرأةَ نرفع أمركما إلى الحاكم. فقال لهما الرجل: ويحكما! إن هذه زوجتي
وأنا صاحب البستان. فما سمعَا له كلامًا بل نهضَا على المرأة، فعند ذلك صاحَتْ
واستغاثَتْ بزوجها قائلةً له: لا تَدَعِ الرجال يفضحونني. فأقبَلَ نحوهما وهو
يستغيث، فرجع إليه واحد منهما وضربه بخنجره فقتله، وأتَيَا المرأةَ وفضحَاها.
وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 920﴾
قالت: بلغني أيها الملك السعيد،
أن الشاب لما قتل زوج المرأة رجع الشابان إلى المرأة وفضحاها، وإنما قلنا لك هذا
أيها الملك لتعلم أنه ليس ينبغي للرجل أن يسمع من امرأةٍ كلامًا، ولا يطيعها في
أمرٍ ولا يقبل لها رأيًا في مشورةٍ، فإياك أن تلبس ثوبَ الجهل بعد ثوب الحكمة
والعلم، أو تتبع الرأي الفاسد بعد معرفتك للرأي الرشيد النافع، فلا تتبعْ لذةً
يسيرة مصيرها إلى الفساد ومآلها إلى الخسران الزائد الشديد. فلما سمع الملك ذلك من
شماس قال له: أنا في غدٍ أخرج إليهم إن شاء الله تعالى. فخرج شماس إلى الحاضرين من
كبراء المملكة وأعلَمَهم بما قال الملك، فبلغ المرأة ما قاله شماس فدخلَتْ على
الملك وقالت له: إنما الرعية عبيد للملك، والآن رأيت أنك أيها الملك عبدٌ لرعيتك،
بحيث تهابهم وتخاف شرَّهم، وهم إنما يريدون أن يختبروا باطنك، فإن وجدوك ضعيفًا
تهاوَنوا بك، وإنْ وجدوكَ شجاعًا هابوك، وكذلك يفعل وزراء السوء بمَلِكهم؛ لأن
حِيَلَهم كثيرة، وقد أوضحْتُ لكَ حقيقةَ كيدهم، فإن وافقْتَهم على ما يريدون
أخرجوك من أمرك إلى مرادهم، ولم يزالوا ينقلونك من أمرٍ إلى أمرٍ حتى يوقعوك في
الهَلَكة، ويكون مثلك مثل التاجر واللصوص. فقال الملك: وكيف كان ذلك؟
قالت:
بلغني أنه كان تاجر له مال كثير، فانطلق بتجارة ليبيعها في بعض المدن، فلما انتهى
إلى المدينة اكترى له بها منزلًا ونزل فيه، فنظره لصوصٌ كانوا يراقبون التجَّارَ
لسرقة متاعهم، فانطلقوا إلى منزل ذلك التاجر واحتالوا في الدخول عليه، فلم يجدوا
لهم سبيلًا إلى ذلك، فقال لهم رئيسهم: أنا أكفيكم أمره. ثم إنه انطلق فلبس ثياب
الأطباء، وجعل على عاتقه جرابًا فيه شيء من الدواء، وأقبَلَ ينادي: مَن يحتاج إلى
طبيب؟ حتى وصل إلى منزل ذلك التاجر، فرآه جالسًا على غدائه، فقال له: أتريد لك
طبيبًا؟ فقال: لستُ محتاجًا إلى طبيب، ولكن اقعد وكُلْ معي. فقعد اللص مقابلَه
وجعل يأكل معه، وكان ذلك التاجر جيد الأكل، فقال اللص في نفسه: لقد وجدتُ فرصتي.
ثم التفَتَ إلى التاجر وقال له: لقد وجب عليَّ نصيحتك لما حصل لي من إحسانك، وليس
يمكن أن أخفي عليك نصيحة، وهو أني أراكَ رجلًا كثيرَ الأكل، وهذا سببه مرض في
معدتك، فإن لم تبادِرْ بالسعي على دوائك وإلا آلَ أمرُكَ إلى الهلاك. فقال التاجر:
إن جسمي صحيح، ومعدتي سريعة الهضم، وإنْ كنتُ جيدَ الأكل فليس ببدني مرضٌ ولله
الحمد والشكر. فقال له اللص: إنما ذلك بحسب ما يظهر لكَ، وإلا فقد عرفتُ أن في باطنك
مرضًا خفيًّا، فإنْ أنت أطعْتَني فداوِ نفسك. فقال التاجر: وأين أجد مَن يعرف
دوائي؟ فقال له اللص: إنما المداوي هو الله، ولكن الطبيب مثلي يعالج المريض على
قدر إمكانه. فقال له التاجر: أَرِني الآن دوائي وأعطني منه شيئًا. فأعطاه سفوفًا
فيه صبر كثير وقال له: استعمِلْ هذا في هذه الليلة. فأخذه منه، ولما كان الليل
تعاطَى منه شيئًا، فرآه صبرًا كريه الطعم، فلم ينكر منه شيئًا، فلما تعاطاه وجد
منه خفةً في تلك الليلة. فلما كانت الليلة الثانية جاء اللص ومعه دواء فيه صبرٌ
أكثر من الأول، فأعطاه منه شيئًا، فلما تعاطاه أسهله تلك الليلة، ولكنه صبر على
ذلك ولم ينكره. فلما رأى اللص أن التاجر اعتنى بقوله واستأمَنَه على نفسه وتحقَّقَ
أنه لا يخالفه، انطلق وجاءه بدواءٍ قاتلٍ وأعطاه له، فأخذه منه التاجر وشربه،
فعندما شرب ذلك الدواءَ نزل ما كان في بطنه، وتقطَّعَتْ أمعاؤه وأصبح ميتًا، فقام
اللصوص وأخذوا جميعَ ما كان للتاجر. وإني أيها الملك ما قلتُ لكَ هذا إلا لأجل أنك
لا تقبل من هذا المخادع كلامًا، فيُلحِقك أمورًا تهلك بها نفسك. فقال الملك: صدقتِ
فأنا لا أخرج إليهم.
فلما
أصبح الصباح اجتمَعَ الناس وجاءوا إلى باب الملك وقعدوا أكثر النهار حتى يئسوا من
خروجه، ثم رجعوا إلى شماس وقالوا له: أيها الفيلسوف الحكيم والماهر العليم، أَمَا
ترى هذا الولد الجاهل لا يزداد إلا كذِبًا علينا؟ وأن إخراج المُلْكِ من يده
واستبدال غيره به فيه الصواب، فتنتظم بذلك أحوالنا وتستقيم أمورنا؟ ولكن ادخل إليه
ثالثًا وأعلِمْه أنه لا يمنعنا من القيام عليه ونزع المُلْك منه إلا إحسانُ والده
إلينا، وما أخذه علينا من العهود والمواثيق، ونحن مجتمعون في غدٍ عن آخِرنا
بسلاحنا ونهدم باب هذا الحصن، فإن خرج إلينا وصنع لنا ما نحبُّ، فلا بأس وإلا
دخلنا عليه وقتلناه، وجعلنا المُلْكَ في يد غيره. فانطلق الوزير شماس ودخل على
الملك وقال له: أيها الملك المنهمِك في شهواته ولهوه، ما هذا الذي تصنعه بنفسك؟
فيا هل ترى مَن يُغرِيك على هذا؟ فإن كنتَ أنت الجاني على نفسك، فقد زال ما نعهده
لكَ من الصلاحية والحكمة والفصاحة، فليت شعري مَن الذي حوَّلَكَ ونقلَكَ من العلم
إلى الجهل، ومن الوفاء إلى الجفاء، ومن اللين إلى القسوة، ومن قبولك مني إلى
إعراضك عني، فكيف أنصحك ثلاثَ مرات ولا تقبل نصيحتي؟! وأشير عليك بالصواب وتخالِف
مشورتي؟! فأخبرني ما هذه الغفلة؟ وما هذا اللهو؟ ومَن أغراك عليه؟ اعلمْ أن أهل
مملكتك قد تواعَدُوا على أنهم يدخلون عليك ويقتلونك ويعطون مُلْكَك لغيرك، فهل لك
قوةٌ على جميعهم والنجاة من أيديهم؟ أو تقدر على حياة نفسك بعد قتلها؟ فإنْ كنتَ
أعطيتَ هذا كله، أمنت من قبله فلا حاجة لك بكلامي، وإن كانت حاجتك إلى الدنيا
والملك فأَفِقْ لنفسك واضبط ملكك، وأظهِرْ للناس قوةَ بأسك وأعلمهم بأعذارك، فإنهم
يريدون انتزاعَ ما في يدك وتسليمه إلى غيرك، وقد عزموا على العصيان والمخالَفة،
وصار دليل ذلك ما يعلمونه من صِغَر سنك، ومن انكبابك على اللهو والشهوات، فإن
الحجارة إذا طال مكثها في الماء متى أُخرِجت منه وضرب بعضها بعضًا انقدحت منها
النار، والآن رعيتُكَ خلق كثير، وهم يتوازرون عليك ويريدون نقل المُلْك منك إلى
غيرك، ويبلغون فيك ما يريدون من هلاكك، ويكون مثلك مثل الثعلب والذئب. وأدرك
شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 921﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الوزير شماسًا قال للملك: ويبلغون فيك ما يريدون من
هلاكك، ويكون مثلك مثل الثعلب والذئب. فقال الملك: وكيف كان ذلك؟ قال: زعموا أن
جماعةً من الثعالب خرجوا ذات يوم يطلبون ما يأكلون، فبينما هم يجولون في طلب ذلك،
وإذا هم بجملٍ ميت، فقالوا في أنفسهم: قد وجدنا ما نعيش به زمانًا طويلًا، ولكن
نخاف أن يَبْغي بعضنا على بعض، ويميل القوي بقوته على الضعيف فيهلك الضعيف منَّا،
فينبغي لنا أن نطلب حَكَمًا يحكم بيننا ونجعل له نصيبًا، فلا يكون للقوي سُلْطة
على الضعيف، فبينما هم يتشاورون في شأن ذلك، وإذا بذئبٍ أقبَلَ عليهم، فقال بعضهم
لبعض: إنْ أصاب رأيكم فاجعلوا هذا الذئبَ حكَمًا بيننا؛ لأنه أقوى الناس وأبوه
سابقًا كان سلطانًا علينا، ونحن نرجو من الله أن يَعْدل بيننا. ثم إنهم توجَّهوا
إليه وأخبروه بما صار إليه رأيهم وقالوا: لقد حكَّمناك بيننا لأجلِ أن تعطي كلَّ
واحدٍ منَّا ما يقوته في كل يوم على قدر حاجته، لئلا يبغي قويُّنا على ضعيفنا
فيُهلِك بعضنا بعضًا. فأجابهم الذئب إلى قولهم وتعاطى أمورهم، وقسَّم عليهم في ذلك
اليوم ما كفاهم.
فلما
كان من الغد قال الذئب في نفسه: إن قسمة هذا الجمل بين هؤلاء العاجزين لا يعود
عليَّ منها شيء إلا الجزء الذي جعلوه لي، وإنْ أكلتُه وحدي فهم لا يستطيعون لي
ضرًّا، مع أنهم غنم لي ولأهل بيتي، فمَن الذي يمنعني عن أخذ هذا لنفسي؟ ولعل الله
مسبِّبه لي بغير جميلة منهم! فالأحسن لي أن أختصَّ به دونهم، ومن هذا الوقت لا
أعطيهم شيئًا. فلما أصبَحَ الثعالبُ جاءوا إليه على العادة يطلبون منه قوتهم،
فقالوا له: يا أبا سرحان، أعْطِنا مئونة يومنا. فأجابهم قائلًا: ما بقي عندي شيء
أعطيه لكم. فذهبوا من عنده على أسوأ حال، ثم قالوا: إنَّ الله أوقعنا في همٍّ
عظيمٍ مع هذا الخائن الخبيث الذي لا يتَّقِي اللهَ ولا يخافه، وليس لنا حول ولا
قوة. ثم قال بعضهم لبعض: إنما حمله على هذا الأمر ضرورة الجوع، فدعوه اليومَ يأكل
حتى يشبع وفي غدٍ نذهب إليه. فلما أصبحوا توجَّهوا إليه وقالوا له: يا أبا سرحان،
إنما ولَّيناك علينا لأجل أن تدفع لكلِّ واحد منَّا قوتَه وتنصف الضعيف من القوي،
وإذا فرغ تجتهد لنا في تحصيل غيره، ونصير دائمًا تحت كنفك ورعايتك، وقد مسَّنا
الجوعُ ولنا يومان ما أكلنا، فأعْطِنا مئونتَنا وأنت في حلٍّ من جميع ما تتصرَّف
فيه من دون ذلك. فلم يردَّ عليهم جوابًا، بل ازداد قسوةً، فراجَعُوه فلم يرجع،
فقال بعضهم لبعض: ليس لنا حيلة إلا أننا ننطلق إلى الأسد ونرمي أنفسنا عليه، ونجعل
له الجمل، فإنْ أحسَنَ لنا بشيء منه كان من فضله، وإلا فهو أحقُّ به من هذا
الخبيث. ثم انطلقوا إلى الأسد وأخبروه بما حصل لهم مع الذئب، ثم قالوا له: نحن
عبيدك، وقد جئناك مستجيرين بك لتخلِّصنا من هذا الذئب ونصير لك عبيدًا. فلما سمع
الأسد كلامَ الثعالب أخذَتْه الحَمِيَّة وغار لله تعالى، ومضى معهم إلى الذئب،
فلما رأى الذئبُ الأسدَ مُقبِلًا طلب الفرار من قدامه، فجرى الأسد خلفه وقبض عليه
ومزَّقه قطعًا، ومكَّنَ الثعالبَ من فريستهم؛ فمن هذا عرفنا أنه لا ينبغي لأحدٍ من
الملوك أن يتهاوَنَ في أمر رعيته، فاقبلْ نصيحتي وصدِّقِ القولَ الذي قلتُه لكَ،
واعلم أن أباك قبل وفاته قد أوصاكَ بقبول النصيحة، وهذا آخِر كلامي معك والسلام.
فقال الملك: إني سامع منك، وفي غدٍ إن شاء الله تعالى أطلع إليهم. فخرج شماس من
عنده وأخبرهم بأن الملك قبِلَ نصيحته ووعده أنه في غدٍ يخرج إليهم.
فلما
سمعت زوجة الملك ذلك الكلامَ منقولًا عن شماس وتحقَّقَتْ أنه لا بد من خروج الملك
إلى الرعية، أقبلَتْ على الملك مُسرِعةً وقالت له: ما أكثر تعجُّبِي من إذعانك
وطاعتك لعبيدك؟ أَمَا تعلم أن وزراءَكَ هؤلاء عبيدك؟ فلأي شيء رفعتَهم هذه الرفعة
العظيمة حتى أوهَمْتَهم أنهم هم الذين أعطوك هذا المُلْك ورفعوك هذه الرفعة، وأنهم
أعطوك العطايا مع أنهم لم يقدروا أن يفعلوا معك أدنى مكروه، فكان من حقك عدم
الخضوع لهم، بل من حقهم الخضوع لك وتنفيذ أمورك، فكيف تكون مرعوبًا منهم هذا الرعب
العظيم؟ وقد قيل إذا لم يكن قلبك مثل الحديد، لا تصلح أن تكون ملِكًا، وهؤلاء
غَرَّهم حِلْمك حتى تجاسَرُوا عليك ونبذوا طاعتك، مع أنه ينبغي أن يكونوا مقهورين
على طاعتك، مجبورين على الانقياد إليك؛ فإنْ أنت سارعْتَ لقبول كلامهم وأهملتهم
على ما هم فيه، وقضيتَ لهم أدنى حاجة على غير مرادك، ثقلوا عليك وطمعوا فيك، وتصير
لهم هذه عادة، فإن أطعْتَني لا ترفع لأحدٍ منهم شأنًا، ولا تقبل لأحدٍ منهم
كلامًا، ولا تطمعهم في التجاسُرِ عليك، فتصير مثل الراعي واللص. فقال لها الملك:
وكيف كان ذلك؟
قالت:
زعموا أنه كان رجل راعي غنم، وكان محافِظًا على رعايتها، فأتاه لص ذات ليلة يريد
أن يسرق من غنمه شيئًا، فرآه محافظًا عليها لا ينام ليلًا ولا يغفل نهارًا، فصار
يحاوله طول ليله فلم يظفر منه بشيء، فلما أعْيَتْه الحيلة انطلَقَ إلى البرية واصطاد
أسدًا وسلخ جلده وحشاه تِبْنًا، ثم أتى به ونصبه على محلٍّ عالٍ في البرية، بحيث
يراه الراعي ويتحقَّقه، ثم أقبَلَ اللص على الراعي وقال له: إن هذا الأسد قد
أرسلني إليك يطلب عشاءً من هذا الغنم. فقال له الراعي: وأين الأسد؟ فقال له اللص:
ارفعْ بصرك ها هو واقف. فرفع الراعي رأسه فرأى صورة الأسد، فلما رآها ظنَّ أنها
أسد حقيقة، ففزع منها فزعًا شديدًا. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام
المباح.
﴿اللیلة 922﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الراعي لما رأى صورة الأسد ظنَّ أنها أسد حقيقة، ففزع
منها فزعًا شديدًا، وأخذه الرعب وقال للص: يا أخي، خُذْ ما شئتَ ليس عندي مخالَفة،
فأخذ اللص من الغنم حاجته وازداد طمعه في الراعي بسبب شدة خوفه، فصار كلَّ قليلٍ
يأتي إليه ويرعبه ويقول له: إن الأسد يحتاج إلى كذا وقصده أن يفعل كذا. ثم يأخذ من
الغنم كفايته، ولم يزل اللص مع الراعي على هذه الحالة حتى أفنى غالب الغنم. وإنما
قلتُ لك هذا الكلام أيها الملك لئلا يغترَّ كبراءُ دولتك هؤلاء بحِلْمك ولِين
جانِبك، فيطمعوا فيك، والرأي السديد أن يكون موتهم أقرب ممَّا يفعلونه بك. فقبل
الملك قولها وقال: إني قبلتُ منك هذه النصيحة، ولستُ مطيعًا لمشورتهم ولا خارجًا
إليهم.
فلما
أصبح الصباح اجتمَعَ الوزراء وأكابر الدولة ووجهاء الناس، وحمل كلُّ واحدٍ منهم
سلاحَه معه وتوجَّهوا إلى بيت الملك ليهجموا عليه ويقتلوه ويولُّوا غيره، فلما
وصلوا إلى بيت الملك سألوا البوَّاب أن يفتح لهم الباب، فلم يفتح لهم، فأرسلوا
ليحضروا نارًا فيحرقوا بها الأبواب ثم يدخلوا، فسمع البوَّاب منهم هذا الكلام،
فانطلق بسرعة وأعلم الملك أن الخلق مجتمعون على الباب، وقال له: إنهم سألوني أن
أفتح لهم فأبَيْتُ، فأرسلوا ليُحضِروا نارًا فيُحرِقوا بها الأبواب، ثم يدخلوا
عليك ويقتلوك، فماذا تأمرني؟ فقال الملك في نفسه: إني وقعتُ في الهَلَكة العظيمة.
ثم أرسَلَ خلف المرأة فحضرَتْ، فقال: إن شماسًا لم يخبرني بشيء إلا وقد وجدتُه
صحيحًا، وقد حضر الخاص والعام من الناس يريدون قتلي وقتلكم، ولمَّا لم يفتح لهم
البوَّابُ أرسلوا ليُحضِروا النار يحرقون الأبواب فيحترق البيت ونحن داخله، فماذا
تُشِيرين علينا؟ فقالت له المرأة: لا بأس عليك ولا يهولنك أمرهم، فإن هذا الزمان
يقوم فيه السفهاء على ملوكهم. فقال لها الملك: فما تُشِيرين به عليَّ لأفعله؟ وما
الحيلة في هذا الأمر؟ فقالت: الرأي عندي أنك تعصب رأسَك بعصابة وتظهر أنك مريض، ثم
ترسل إلى الوزير شماس فيحضر إليك ويرى حالك الذي أنت فيه، فإذا حضر فقُلْ له: قد
أردتُ الخروجَ إلى الناس في هذا اليوم، فمنعني هذا المرض، فاخرجْ إلى الناس
وأخبرهم بما أنا فيه، وأخبرهم أني في غدٍ أخرج إليهم وأقضي حوائجهم وأنظر في
أحوالهم ليطمئنوا ويسكن غيظهم، وإذا أصبحتَ فاستدْعِ بعشرة من عبيد أبيك، يكونون
من أهل البأس والقوة، وتكون آمِنًا على نفسك منهم، ويكونون سامعين لقولك طائعين
لأمرك كاتمين لسرك حافظين لودِّكَ، ثم أَوقِفْهم على رأسك وَأْمرهم ألَّا يمكِّنوا
أحدًا من الدخول عليك إلا واحدًا بعد واحدٍ، فإذا دخل واحد فقُلْ لهم: خذوه
واقتلوه. وإذا اتفقوا معك على ذلك، فأصبحْ ناصبًا كرسيك في ديوانك وافتح بابك،
فإنهم إذا رأوك فتحتَ الباب طابَتْ نفوسهم، وأتوا لك بقلبٍ سليمٍ واستأذنوا في
الدخول عليك، فَأْذن لهم في الدخول واحدًا بعد واحد كما قلتُ لكَ، وافعل بهم
مرادك، ولكن ينبغي أن تبدأ بقتل شماس الكبير أولهم، فإنه هو الوزير الأعظم، وهو
صاحب الأمر، فاقتله أولًا، ثم بعد ذلك اقتل الجميع واحدًا بعد واحد، ولا تُبْقِ
منهم مَن تعرف أنه ينكث لكَ عهدًا، وكذلك كل مَن تخاف صولته؛ فإنك إذا فعلتَ بهم
ذلك، فإنهم لا يبقى لهم قوة عليك، وتستريح منهم الراحة الكلية، ويصفو لك المُلْك
وتعمل ما تحب، واعلم أنه لا حيلةَ لكَ أنفع من هذه الحيلة. فقال لها الملك: إن
رأيك هذا سديد، وأمرك فيه رشيد، فلا بد أن أعمل ما ذكرتِ.
ثم
أمر بعِصابة فشدَّ بها رأسه وتضاعَفَ وأرسل إلى شماس، فلما حضر بين يدَيْه قال له:
يا شماس، قد علمتَ أني لك مُحِبٌّ ولرأيك مطيع، وأنت لي كالأخ والوالد دون كلِّ
أحد، وتعرف أني أقبل منك جميع ما أمرتني به، وقد كنتَ أمرتني بالخروج إلى الرعية
والجلوس لأحكامهم، وتحقَّقت أنها نصيحة منك لنا، وقد أردتُ الخروجَ إليهم بالأمس
فعرض لي هذا المرض، ولستُ أستطيع الجلوس، وقد بلغني أن أهل المملكة متنغِّصون من
عدم خروجي إليهم، وهموا أن يفعلوا بي ما لا يليق من شرِّهم، فإنهم غير عالمين بما
أنا فيه من المرض، فاخرج إليهم وأعلمهم بحالي وما أنا فيه، واعتذر إليهم عني، فإني
تابع لما يقولون وفاعل ما يحبون، فأصلِحْ هذا الأمر واضمن لهم عني ذلك، فإنك نصيح
لي ولوالدي من قبلي، وعادتك الإصلاح بين الناس، وإن شاء الله تعالى في غدٍ أخرج
إليهم، ولعلَّ مرضي أن يزول عني في هذه الليلة ببركة صالح نيتي، وما أضمرتُه لهم
من الخير في سريرتي. فسجد شماس لله ودعا للملك وقبَّلَ يدَيْه وفرح بذلك، وخرج إلى
الناس وأخبرهم بما سمعه من الملك ونهاهم عمَّا أرادوه، وأعلَمَهم بالعُذْر وسبب
امتناع الملك عن الخروج، وأخبرهم أنه وعده في غدٍ بالخروج إليهم، وأنه يصنع لهم ما
يحبون، فانصرفوا عند ذلك إلى منازلهم. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام
المباح.
﴿اللیلة 923﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن شماسًا خرج إلى الدولة وقال لهم: إن الملك في غدٍ
يخرج إليكم ويصنع لكم ما تحبون. فانصرفوا إلى منازلهم. هذا ما كان من أمرهم، وأما
ما كان من أمر الملك، فإنه بعث إلى العشرة عبيد الجبابرة الذين اختارهم من جبابرة
أبيه، وكانوا ذوي عزمٍ جليد وبأسٍ شديد، وقال لهم: قد علمتم ما كان لكم عند والدي
من الحظوة ورفعة الشأن والإحسان إليكم، مع لطفه بكم وإكرامه إياكم، فأنا أنزلكم
بعده عندي في درجةٍ أرفع من تلك الدرجة، وسأعرِّفكم سببَ ذلك وأنتم في أمان الله
مني، ولكن أسألكم عن مسألةٍ، هل تكونون معي فيها طائعين لأمري فيما أقوله لكم،
كاتمين لسري عن جميع الناس، ولكم مني الإحسانُ فوق ما تريدون حيث امتثلتم أمري؟
فأجابه العشرة من فمٍ واحدٍ وكلام متوارد قائلين: جميع ما تأمرنا به يا سيدنا نحن
به عاملون، ولا نخرج عمَّا تشير به علينا مطلقًا، وأنت وليُّ أمرنا. فقال لهم:
أحسَنَ الله لكم، فأنا الآن أعرِّفكم سببَ اختصاصكم بمزيد الإكرام عندي؛ هو أنكم
قد علمتم ما كان يفعله أبي بأهل مملكته من الإكرام، وما عاهَدَهم عليه من أمري
وإقرارهم له بأنهم لا ينكثون لي عهدًا ولا يخالفون أمري، وقد نظرتم ما كان منهم
بالأمس حيث اجتمعوا جميعًا حولي يريدون قتلي، وأنا أريد أن أصنع بهم أمرًا؛ وذلك
أني نظرت ما كان منهم بالأمس، فرأيتُ أنه لا يزجرهم عن مثله إلا نكالهم، فلا بد أن
أوكلكم بقتل مَن أشير لكم بقتله سرًّا حتى أدفع الشر والبلاء عن بلادي بقتل أكابرهم
ورؤسائهم، وطريقة ذلك أني أقعد في هذا المقعد في هذه المقصورة في غدٍ، وآذن لهم
بالدخول عليَّ واحدًا بعد واحد، وأن يدخلوا من بابٍ ويخرجوا من آخَر، فقفوا أنتم
العشرة بين يدَيْ فاهمين لإشارتي، وكلما يدخل واحد فخذوه وادخلوا به هذا البيت
واقتلوه وأَخْفوا جثته. فقالوا: سمعًا لقولك وطاعة لأمرك. فعند ذلك أحسَنَ إليهم
وصرفهم وبات.
فلما
أصبح طلَبَهم، وأمر بنصب السرير، ثم لبس ثياب الملك وأخذ في يده كتابَ القضاء وأمر
بفتح الباب ففُتِح، وأوقف العشرة عبيد بين يدَيْه، ونادى المنادي: مَن كان له
حكومة فَلْيحضر إلى بساط الملك. فأتى الوزراء والقوَّاد والحجَّاب ووقف كلُّ واحدٍ
في مرتبته، ثم أمر بالدخول واحدًا بعد واحدٍ، فدخل شماس الوزير أولًا كما هي عادة
الوزير الأكبر، فلما دخل واستقَرَّ قدام الملك لم يشعر إلا والعشرة عبيد محتاطون
به وأخذوه وأدخلوه البيت وقتلوه، وأقبلوا على باقي الوزراء، ثم العلماء، ثم
الصلحاء، فصاروا يقتلونهم واحدًا بعد واحد حتى فرغوا من الجميع، ثم دعا بالجلادين
وأمرهم بحطِّ السيف فيمَن بقي منهم من أهل الشجاعة وقوة البأس، فلم يتركوا أحدًا
ممَّن يعرفون أن له شهامةً إلا قتلوه، ولم يتركوا إلا سَفَلةَ الناس ورعاعهم، ثم
طردوهم ولحق كلُّ واحد منهم بأهله، ثم بعد ذلك اختلى الملك بلذاته وأعطى نفسه
شهواتها، واتَّبَع البَغْي والجَوْر والظلم حتى سبق مَن تقدَّمه من أهل الشر،
وكانت بلاد هذا الملك معدن الذهب والفضة والياقوت والجواهر، وجميع مَن حوله من
الملوك يحسدونه على هذه المملكة ويتوقَّعون له البلاء، فقال في نفسه بعضُ الملوك
المجاورين له: إني ظفرتُ بما كنتُ أريد من أخذ هذه المملكة من يد هذا الولد
الجاهل، بسبب ما حصل من قَتْله لأكابر دولته وأهل الشجاعة والنجدة الذين كانوا في
أرضه، فهذا هو وقت الفرصة وانتزاع ما في يده لكونه صغيرًا، ولا درايةَ له بالحرب
ولا رأي له، ولم يَبْقَ عنده مَن يرشده ولا يُعضِّده، فأنا اليوم أفتح معه باب
الشرِّ، وهو أني أكتب له كتابًا وأعبث به فيه، وأبكِّتُه على ما حصل منه، وأنظر ما
يكون من جوابه.
فكتب
له مكتوبًا مضمونه: «بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فقد بلغني ما فعلتَ بوزرائك
وعلمائك وجبابرتك، وما أوقعتَ نفسك فيه من البلاء حتى لم يَبْقَ لكَ طاقة ولا قوة
على دَفْع مَن يصول عليك حين طغيتَ وأفسدت، وإن الله قد أعطاني النصرَ عليك وظفرني
بك، فاسمع كلامي وامتثِلْ أمري وابْنِ لي قصرًا منيعًا في وسط البحر، وإن لم تقدر
على ذلك فاخرجْ من بلادك وفُزْ بنفسك، فإني باعث إليك من أقصى الهند اثني عشر
كردوسًا، كل كردوس اثنا عشر ألف مقاتل، فيدخلون بلادك، وينهبون أموالك، ويقتلون
رجالك، ويَسْبون حريمك، وأجعل قائدهم بديعًا وزيري وآمُره أن يرسخ عليها محاصِرًا
إلى أن يملكها، وقد أمرتُ هذا الغلام المرسَل إليك أنه لا يقيم عندك غير ثلاثة
أيام، فإنِ امتثلتَ أمري نجوتَ، وإلا أرسلتُ إليك ما ذكرتُه لك». ثم ختم الكتاب
وأعطاه للرسول، فسار به حتى وصل إلى تلك المدينة ودخل على الملك وأعطاه الكتاب،
فلما قرأه الملك ضعُفَتْ قوته وضاق صدره، والتبس عليه أمره وتحقَّق الهلاك، ولم
يجد مَن يستشيره ولا مَن يستعين به ولا مَن ينجده، فقام ودخل على زوجته وهو
متغيِّر اللون، فقالت له: ما شأنك أيها الملِك؟ فقال لها: لستُ اليومَ بملِكٍ
ولكني عبدٌ للملِك. ثم فتَحَ الكتاب وقرأه عليها، فلما سمعته أخذتْ في البكاء
والنحيب وشقَّتْ ثيابها، فقال لها الملك: هل عندك شيء من الرأي والحيلة في هذا
الأمر العسير؟ فقالت له: وما عند النساء من الحيلة في الحروب؟ والنساء لا قوةَ لهن
ولا رأيَ لهن، وإنما القوة والحيلة للرجال في مثل هذا الأمر. فلما سمع الملك منها
ذلك الكلام حصل له غاية الندم والتأسُّف والكآبة على ما فرط منه في حقِّ جماعته
ورؤساء دولته. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 924﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك لما سمع من زوجته ذلك الكلام حصل له غاية الندم
والتأسُّف على ما فرط منه من قتل وزرائه وأشراف رعيته، وتمنَّى الموت لنفسه قبل أن
يَرِدَ عليه مثلُ هذا الخبر الفظيع، ثم قال لنسائه: لقد وقع لي منكن ما وقع
للدُّرَّاج مع السلاحف. فقلن له: وكيف كان ذلك؟ فقال الملك: زعموا أن سلاحف كانت
في جزيرة من الجزائر، وكانت تلك الجزيرة ذات أشجار وأثمار وأنهار، فاتفق أن
دُرَّاجًا اجتازَ بها يومًا، وقد أصابه الحر والتعب، فلما أضرَّ به ذلك حطَّ من
طيرانه في تلك الجزيرة التي بها تلك السلاحف، فلما رأى السلاحف التجَأَ إليها ونزل
عندها، وكانت السلاحف ترعى في جهات الجزيرة، ثم ترجع إلى مكانها، فلما رجعتْ من
مسارحها إلى مكانها رأت الدُّرَّاج فيه، فلما رأته أعجَبَها وزيَّنه الله لها،
فسبَّحَتْ خالقها وأحَبَّتْ هذا الدُّرَّاج حبًّا شديدًا وفرحت به، ثم قال بعضها
لبعض: لا شكَّ أن هذا أحسن الطيور. فصارت كلها تلاطفه وتجنح إليه، فلما رأى منها
عين المحبة مالَ إليها واستأنَسَ بها، وصار يطير إلى أي جهة أراد وعند المساء يرجع
إلى المبيت عندها، فإذا أصبَحَ الصباح يطير إلى حيث أراد، وصارت هذه عادته
واستمرَّ على هذا الحال مدةً من الزمان، فلما رأت السلاحف أن غيابه عنها يوحشها
وتحقَّقَتْ أنها لا تراه إلا في الليل، وإذا أصبح طار مبادرًا ولا تشعر به مع
زيادة حبِّها له، قال بعضها لبعض: إن هذا الدُّرَّاج قد أحببناه وصار لنا صديقًا،
وما بقي لنا قدرة على فراقه، فما يكون من الحيلة الموصلة إلى إقامته عندنا دائمًا؛
لأنه إذا طار يغيب عنَّا النهار كله ولا نراه إلا في الليل؟ فأشارَتْ عليها واحدة
قائلة: استريحوا يا أخواتي وأنا أجعله لا يفارقنا طرفةَ عين. فقال لها الجميع: إن
فعلتِ ذلك صرنا لكِ كلنا عبيدًا.
فلما
حضر الدُّرَّاج من مسرحه وجلس بينهم، تقرَّبَتْ منه السلحفاة المحتالة ودعَتْ له
وهنَّأته بالسلامة، وقالت له: يا سيدي، اعلم أن الله قد رزقك منَّا المحبةَ، وكذلك
أودع قلبك محبتنا، وصرتَ لنا في هذا القفر أنيسًا، وأحسن أوقات المحبين إذا كانوا
مجتمعين، والبلاء العظيم في البُعْد والفراق، ولكنك تتركنا عند طلوع الفجر ولا
تعود إلينا إلا عند الغروب، فيصير عندنا وحشة زائدة، وقد شقَّ علينا ذلك كثيرًا
ونحن في وَجْدٍ عظيم لهذا السبب. فقال لها الدُّرَّاج: نعم، أنا عندي محبة لكنَّ،
واشتياق عظيم إليكن، زيادة على ما عندكن، وفراقُكن ليس سهلًا عندي، ولكنْ ما بيدي
حيلة في ذلك لكوني طيرًا بأجنحة، فلا يمكنني المقام معكن دائمًا؛ لأن هذا ليس من
طبعي، فإن الطير ذا الأجنحة ليس له مستقرٌّ إلا في الليل لأجل النوم، وإذا أصبح
طار وسرح في أي موضع أعجبه. فقالت له السلحفاة: صدقتَ، ولكنْ ذو الأجنحة في غالب
الأوقات لا راحةَ له، لكونه لا يناله من الخير ربع ما يحصل له من المشقة، وغاية
المقصود للشخص الرفاهية والراحة، ونحن قد جعل الله بيننا وبينك المحبةَ والألفة،
ونخشى عليك ممَّن يصطادك من أعدائك فتهلك ونُحرَم من رؤية وجهك. فأجابها
الدُّرَّاج قائلًا: صدقتِ، ولكن ما عندك من الرأي والحيلة في أمري؟ فقالت له:
الرأي عندي أن تنتف سواعدك التي تسرع بطيرانك، وتقعد عندنا مستريحًا، وتأكل من
أكلنا وتشرب من شربنا في هذه السرحة الكثيرة الأشجار اليانعة الأثمار، ونقيم نحن
وأنت في هذا الموضع المُخصِب، ويتمتَّع كلٌّ منَّا بصاحبه. فمال الدُّرَّاج إلى
قولها وقصد الراحة، ثم نتف ريشه واحدة بعد واحدة حكم ما استحسنه من رأي السلحفاة،
واستقر عندهن عائشًا معهن، ورضي باللذة اليسيرة والطرب الزائل.
فبينما
هم على تلك الحالة، وإذا بابن عرس قد مرَّ عليه، فرمقه بعينه وتأمَّله، فرآه مقصوص
الجناح لا يستطيع النهوض، فلما رآه على تلك الحالة فَرِحَ به فرحًا شديدًا وقال في
نفسه: إن هذا الدُّرَّاج سمين اللحم قليل الريش. ثم دنا منه ابن عرس وافترسه، فصاح
الدُّرَّاج وطلب النجدة من السلاحف، فلم يَنجدْنَه بل تباعدْنَ عنه وانكمشْنَ في
بعضهن لمَّا رأيْنَ ابن عرس قابضًا عليه، وحيث رأيْنَ ابن عرس يعذِّبه خنقهنَّ
البكاء عليه، فقال لهن الدُّرَّاج: هل عندكن شيء غير البكاء؟ فقلن له: يا أخانا،
ليس لنا قوة ولا طاقة ولا حيلة في أمر ابن عرس. فحزن الدُّرَّاج عند ذلك وقطع
الرجاء من حياة نفسه، وقال لهن: ليس لكنَّ ذنب، إنما الذنب لي حيث أطعتكنَّ ونتفتُ
أجنحتي التي أطيرُ بها، فأنا أستحق الهلاكَ لمطاوعتي لكنَّ، ولا ألومكنَّ في شيءٍ.
وأنا الآن لا ألومكنَّ أيتها النساء بل ألوم نفسي وأؤدِّبها؛ حيث لم أتذكَّر أنكن
سبب الهفوة التي حصلَتْ من أبينا آدم، ولأجلها خرج من الجنة، ونسيت أنكنَّ أصلُ كل
شرٍّ، فأطعتكنَّ بجهلي وخطأ رأيي وسوء تدبيري، وقتلتُ وزرائي وحكَّام مملكتي الذين
كانوا إليَّ نصحاء في كلِّ الأمور، وكانوا عزَّتي وقوَّتي على كلِّ أمرٍ أهمني،
فأنا الآن لم أجد عوضًا عنهم، ولا أرى أحدًا يقوم مقامهم، وقد وقعتُ في الهلاك
العظيم. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 925﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك لامَ نفسه وقال: أنا الذي أطعتكنَّ بجهلي،
وقتلتُ وزرائي ولم أجد عوضًا عنهم يقوم مقامهم، وإنْ لم يفتح الله عليَّ بمَن له
رأي سديد يرشدني إلى ما فيه خلاصي وقعتُ في الهَلَكة العظيمة. ثم إنه قام ودخل
مرقده بعد أن نعى الوزراء والحكماء قائلًا: يا ليت هؤلاء الأُسُود عندي في هذا
الوقت ولو ساعة واحدة، حتى أعتذر إليهم وأنظرهم وأشكو إليهم أمري وما حصل بي
بعدهم. ولم يزل غريقًا في بحر الهمِّ طولَ نهاره ولا يأكل ولا يشرب، فلما جنَّ
الليل قام وغيَّرَ لباسه ولبس ثيابًا رديئة، وتنكَّرَ وخرج يسوح في المدينة لعله
يسمع من أحدٍ كلمةً يرتاح بها، فبينما هو يطوف في الشوارع، وإذا هو بغلامين
مختليَيْن بأنفسهما، جالسين بجانب حائطٍ وهما مستويان في السن، عمر كل واحد منهما
اثنتا عشرة سنة، فسمعهما يتحدثان مع بعضهما، فدنا منهما الملك بحيث يسمع كلامهما
ويفهمه، فسمع واحد منهما يقول للآخَر: اسمع يا أخي ما حكاه لي والدي ليلةَ أمسِ من
أجل ما وقع له في زرعه ويبسه قبل أوانه بسبب عدم المطر وكثرة البلاء الحاصل في هذه
المدينة. فقال له الآخر: أتعرف ما سبب هذا البلاء؟ قال له: لا، فإن كنتَ تعرفه أنت
فاذكره لي. فأجابه قائلًا: نعم، أعرفه وأخبرك به؛ اعلم أنَّ أحد أصحاب والدي قال
لي: إن ملكنا قد قتَلَ وزراءه وعظماء دولته من غير ذنب جنَوْه، بل من أجل حبِّه
للنساء وميله إليهن، وإن الوزراء نهَوْه عن ذلك فلم ينتهِ وأمر بقتلهم طاعةً
لنسائه، حتى إنه قتل شماسًا والدي وزيره ووزير والده من قبله، وكان صاحب مشورته،
ولكن سوف تنظر ما يفعل الله به بسبب ذنوبه فسينتقم لهم منه. فقال الغلام: وما عسى
أن يفعل الله به بعد هلاكهم؟ قال له: اعلم أن ملك الهند الأقصى قد استخَفَّ
بمَلِكنا وبعث إليه كتابًا يوبِّخه فيه ويقول له: ابنِ لي قصرًا في وسط البحر، وإن
لم تفعل ذلك فأنا أُرسِلُ إليك اثني عشر كردوسًا، كل كردوس فيه مائة ألف مقاتل،
وأجعل قائد هذه العساكر بديعًا وزيري فيأخذ مُلْكك ويقتل رجالك ويسبيك مع حريمك.
فلما جاء رسول ملك الهند الأقصى بهذا الكتاب أمهَلَه ثلاثة أيام، واعلم يا أخي أن
ذلك الملِك جبَّار عنيد ذو قوةٍ وبأسٍ شديد، وفي مملكته خلق كثير، وإن لم يحتَلْ
ملِكُنا فيما يمنعه منه وقع في الهَلَكة، وبعد هلاك مَلِكنا يأخذ هذا المَلِك
أرزاقنا ويقتل رجالنا ويسبي حريمنا.
فلما
سمع الملك منهما هذا الكلام زاد اضطرابًا ومال إليهما وقال في نفسه: إن هذا الغلام
لَحكيم لكونه أخبر عن شيء لم يبلغه مني، فإن الكتاب الذي جاء من ملك أقصى الهند
عندي، والسر معي ولم يطَّلِع أحدٌ على هذا الخبر غيري، فكيف علِمَ هذا الغلام به؟
ولكن أنا ألتجئ إليه وأكلِّمه وأسأل الله أن يكون خلاصنا لديه. ثم إن الملك دَنَا
من الغلام بلطفٍ وقال له: أيها الولد الحبيب، ما هذا الذي ذكرتَه من أجل مَلِكنا؟
فإنه قد أساء كلَّ الإساءة في قتل وزرائه وكبراء دولته، لكنه في الحقيقة قد أساء
إلى نفسه ورعيته، وأنت صدقتَ فيما قلتَه، ولكن عرِّفني أيها الولد من أين عرفتَ أن
ملك الهند الأقصى كتب إلى ملكنا كتابًا ووبَّخه فيه، وقال له هذا الكلام الصعب
الذي قلتَه؟ قال له الغلام: قد علمت هذا من قول القدماء: إنه ليس يخفى على الله
خافية، والخلق من بني آدم فيهم روحانية تُظهِر لهم الأسرارَ الخفية. فقال له:
صدقتَ يا ولدي، لكن هل لمَلِكنا حيلةٌ أو تدبير يدفع به عن نفسه وعن مملكته هذا
البلاء العظيم؟ فأجاب الغلام قائلًا: نعم، إذا أرسَلَ الملِك إليَّ وسألني ماذا
يصنعه ليدفع به عدوَّه وينجو من كيده، أخبرته بما فيه نجاته بقوة الله تعالى. قال
له الملِك: ومَن يُعلِم الملِكَ بذلك حتى يُرسِلَ إليك ويدعوك؟ فأجابه قائلًا: إني
سمعتُ عنه أنه يفتِّش على أهل الخبرة والرأي الرشيد، وإذا أرسَلَ إليَّ سرتُ معهم
إليه وعرَّفْتُه بما فيه صلاحه ودفع البلاء عنه، وإنْ أهمَلَ هذا الأمرَ العسيرَ
واشتغل بلهوه مع نسائه، وأردتُ أني أُعلِمه بما فيه نجاته وتوجَّهت إليه من تلقاء
نفسي، فإنه يأمر بقتلي مثل أولئك الوزراء، وتكون معرفتي به سببًا لهلاكي، وتستقل
الناس بي ويستنقصون عقلي، وأكون من مضمون قول مَن قال: مَن كان علمه أكثر من عقله
هلَكَ ذلك العالم بجهله.
فلما
سمع الملك كلام الغلام تحقَّقَ حكمته وتبيَّن فضيلته وتيقَّنَ أن النجاة تحصل له
ولرعيته على يدَيْه، فعند ذلك أعاد الملِك الكلام على الغلام وقال له: من أين أنت؟
وأين بيتك؟ فقال له الغلام: إن هذه الحائط توصل إلى بيتنا. فتعهَّدَ الملك ذلك
المكان، ثم إنه ودَّعَ الغلام ورجع إلى مملكته مسرورًا، فلما استقَرَّ في بيته لبس
ثيابه ودعا بالطعام والشراب، ومنع عنه النساء وأكل وشرب وشكر الله تعالى وطلب منه
النجاة والمعونة والمغفرة والعفو عمَّا فعل بعلماء دولته ورؤسائهم، ثم تاب إلى
الله توبةً خالصةً، وافترض على نفسه الصومَ والصلاةَ الكثيرة بالنذر، ودعا بأحد
غلمانه الخواص ووصف له مكان الغلام، وأمره أن ينطلق إليه ويُحضِره بين يدَيْه
برفقٍ، فمضى ذلك العبد إلى الغلام وقال له: الملِك يدعوك لخيرٍ يصل إليك من
قِبَله، ويسألك سؤالًا ثم تعود في خيرٍ إلى منزلك. فأجاب الغلام قائلًا: وما حاجة
الملك التي دعاني من أجلها؟ قال له الخادم: إن حاجة مولاي التي دعاك من أجلها هي
سؤال وجواب. فقال له الغلام: ألف سمع وألف طاعة لأمر الملك. ثم سار معه حتى وصل
إلى الملك، فلما صار بين يدَيْه سجد لله ودعا للملك بعد أن سلَّمَ عليه، فردَّ
الملك عليه السلام وأمره بالجلوس فجلس. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام
المباح.
﴿اللیلة 926﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الغلام لما جاء إلى الملك وسلَّمَ عليه أمره بالجلوس
فجلس، فقال له: هل تعرف مَن تكلَّمَ معك بالأمس؟ قال الغلام: نعم. قال له: فأين
هو؟ فأجابه بقوله: هو الذي يكلِّمني في هذا الوقت. فقال له الملك: لقد صدقتَ أيها
الحبيب. ثم أمر الملك بوضع كرسي بجانب كرسيه وأجلسه عليه وأمر بإحضار أكل وشرب، ثم
امتزجَا في الحديث إلى أن قال الملك للغلام: إنك أيها الوزير حدَّثْتَني بالأمس
حديثًا وذكرتَ فيه أن معك حيلةً تدفع بها عنَّا كيدَ ملك الهند، فما هي الحيلة؟
وكيف التدبير في دفع شَرِّه عنَّا؟ فأخبرني لكي أجعلك أولَّ مَن يتكلَّم معي في
المُلْك وأصطفيك وزيرًا لي، وأكون تابعًا لرأيك في كلِّ ما أشرتَ به عليَّ، وأجيزك
جائزة سنية. فقال له الغلام: جائزتك لك أيها الملك، والمشورة والتدبير عند نسائك
اللاتي أشرْنَ عليك بقتل والدي شماس مع بقية الوزراء. فلما سمع الملك منه ذلك خجل
وتنهَّدَ وقال: أيها الولد الحبيب، وهل شماس والدك كما ذكرتَ؟ فأجابه الغلام
قائلًا: إن شماسًا والدي حقًّا، وأنا ولده صدقًا. فعند ذلك خشع الملك ودمعت عيناه
واستغفر الله وقال: أيها الغلام، إني فعلتُ ذلك بجهلي وسوء تدبير النساء وكيدهن
عظيم، ولكن أسألك أن تكون مسامِحًا لي، وإني جاعلك في موضع أبيك وأعلى مقامًا من
مقامه، وإذا زالت هذه النقمة النازلة بنا طوَّقتك بطوق الذهب، وأركبتُكَ أعزَّ
مركوبٍ، وأمرتُ المنادي أن ينادي قدامك قائلًا: هذا الولد العزيز صاحب الكرسي
الثاني بعد الملك. وأما ما ذكرتَ من أمر النساء، فإني أضمرتُ الانتقامَ منهن
وجعلته في الوقت الذي يريده الله تعالى، فأخبِرْني بما عندك من التدبير ليطمئن
قلبي. فأجابه الغلام قائلًا: أعطِني عهدًا أنك لا تخالِف رأيي فيما أذكره لك، وأن
أكون ممَّا أخشاه في أمان. فقال له الملك: هذا عهد الله بيني وبينك، إني لا أخرج
عن كلامك وإنك عندي صاحب المشورة، ومهما أمرتَني به فعلتُه، والشاهد بيني وبينك
على ما أقول هو الله تعالى.
فعند
ذلك انشرَحَ صدر الغلام واتسع عنده مجال الكلام فقال: أيها الملك، إن التدبيرَ
والحيلةَ عندي أنك تنظر الوقت الذي يحضر لك فيه الساعي طالب الجواب بعد المهلة
التي أمهلته إياها، فإذا حضر بين يدَيْكَ وطلب الجواب، فادفعه عنك وأمهله إلى يوم
آخَر، فعند ذلك يعتذر إليك أن ملكه حدَّدَ عليه أيامًا معلومة ويراجعك في كلامك،
فاطرحه وأمْهِلْه إلى يومٍ آخَر ولا تعيِّن له ذلك اليوم؛ فيخرج من عندك غضبانًا
ويتوجَّه إلى وسط المدينة ويتكلَّم جهرًا بين الناس ويقول: يا أهل المدينة، إني
ساعي ملك الهند الأقصى، وهو صاحب بأسٍ شديدٍ وعزمٍ يلين الحديد، قد أرسلني بكتابٍ
إلى ملك هذه المدينة وحدَّدَ لي أيامًا وقال: إنْ لم تحضر عقبَ الأيام التي
حدَّدْتُها لكَ حلَّتْ بك نقمتي، وها أنا جئتُ إلى ملِك هذه المدينة وأعطيتُه
الكتابَ، فلما قرأه أمهلني ثلاثة أيام، ثم يعطيني جوابَ ذلك الكتاب، فأجبتُه إلى
ذلك لطفًا به ورعاية لخاطره، وقد مضَتِ الثلاثة أيام وأتيتُ أطلب منه الجواب،
فأمهلني إلى يوم آخَر، وأنا ليس عندي صبر، فها أنا منطلق إلى سيدي ملك الهند
الأقصى وأخبره بما وقع لي، وأنتم أيها القوم شاهِدون بيني وبينه. فعند ذلك يبلغك
كلامه فأرسِلْ إليه وأحضِرْه بين يدَيْكَ وكلِّمه بلطفٍ وقُلْ له: أيها الساعي
لإتلاف نفسه، ما الذي حملك على ملامتنا بين رعيتنا؟ لقد استحقَقْتَ منَّا التلفَ عاجلًا،
ولكن قالت القدماء: العفو من شِيَم الكرام. واعلم أن تأخيرَ الجواب عنك ليس عجزًا
منَّا، وإنما هو لزيادة أشغالنا وقلة تفرُّغنا لكتابة جواب ملِكِكم. ثم اطلب
الكتابَ واقرأه ثانيًا، وبعد أن تفرغ من قراءته أكثِرْ من الضحك وقُلْ له: هل معك
كتاب غير هذا الكتاب فنكتب جوابًا له أيضًا؟ فيقول لك: ليس معي كتاب غير هذا
الكتاب. فأَعِدْ عليه القولَ ثانيًا، فيقول لك: ليس معي غيره أصلًا. فقُلْ له: إن
ملِكَكم هذا معدوم العقل حيث ذكر في هذا الكتاب كلامًا ما يريد به تقويم نفوسنا
لأجل أن نتوجَّهَ بعسكرنا إليه فنغزو بلاده ونأخذ مملكته، ولكن لا نؤاخذه في هذه
المرة على إساءة أدبه بهذا المكتوب؛ لأنه قاصِر العقل ضعيف الحزم، فالمناسب
لمقدرتنا أننا ننذره أولًا ونحذِّره من أن يعود لمثل هذه الهذيانات، فإن خاطَرَ
بنفسه وعاد إلى مثلها استحَقَّ البلاءَ عاجلًا، وأظنُّ أن الملِك الذي أرسَلَكَ
جاهلٌ أحمق غير مفكِّر في العواقب، وليس له وزير عاقل سديد الرأي يستشيره، ولو كان
عاقلًا لاستشارَ وزيرًا قبل أن يرسل إلينا مثل هذا الكلام السخرية، ولكن له عندي
جواب مثل كتابه وأزيد، وأنا أدفع كتابه لبعض صبيان المكتب ليُجِيبه. ثم أرسِلْ
إليَّ واطلبني، فإذا حضرتُ بين يدَيْكَ فَأْذَنْ لي بقراءة الكتاب وردِّ جوابه.
فعند
ذلك انشرَحَ صدر الملك واستحسن رأي الغلام، وأعجبته حيلته، فأنعَمَ عليه وخوَّلَه
رتبة والده وصرفه مسرورًا، فلما انقضَتِ الثلاثة أيام التي جعلها مهلةً للساعي،
جاء الساعي ودخل على الملك وطلب الجواب، فأمهله الملك إلى يوم آخَر، فخرج الساعي
إلى آخِر البساط وتكلَّمَ بكلامٍ غير لائق مثلما قال الغلام، ثم خرج إلى السوق
وقال: يا أهل هذه المدينة، إني رسول ملك الهند الأقصى إلى ملِكِكم، جئْتُه برسالةٍ
وهو يماطلني في جوابها، وقد انقضَتِ المدة التي حدَّدَها لي ملِكُنا، ولم يَبْقَ
لملِكِكم عذرٌ، فأنتم تكونون شهداء على ذلك. فلما بلغ الملك هذا الكلام أرسَلَ إلى
ذلك الساعي وأحضَرَه بين يدَيْه وقال له: أيها الساعي في إتلاف نفسه، ألستَ ناقلًا
كتابًا من ملك إلى ملك وبينهما أسرار، فكيف تخرج بين الناس وتُظهِر أسرارَ الملوك
على العامة؟! لقد استحقَقْتَ منَّا القصاص، ولكن نحن نتحمَّل ذلك لأجل عود جوابك
لهذا الملك الأحمق، والأنسب ألَّا يردَّ له جوابًا عنَّا إلا أقل صبيان المكتب.
ودعا بحضور ذلك الغلام فحضر، ولما دخل على الملك والساعي حاضِر، سجَدَ لله ودعا
للملك بدوام العز والبقاء، فعند ذلك رمى الملك الكتابَ للغلام وقال له: اقرأ هذا
الكتاب واكتب جوابه بسرعةٍ. فأخذ الغلام الكتابَ وقرأه وتبسَّمَ بالضحك وقال
للملك: هل إرسالك خلفي لأجل جواب هذا الكتاب؟ فقال له: نعم. فأجاب: بمزيد السمع
والطاعة. وأخرج الدواةَ والقرطاسَ وكتب … وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام
المباح.
﴿اللیلة 927﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الغلام لما أخَذَ الكتابَ وقرأه، أخرَجَ في الوقت
دواةً وقرطاسًا، وكتب: «بسم الله الرحمن الرحيم، السلام على مَن فاز بالأمان ورحمة
الرحمن. أما بعدُ، فإني أُعلِمُكَ أيها المدعوُّ ملِكًا كبيرًا اسمًا لا رسمًا،
أنه قد وصل إلينا كتابُكَ وقرأناه وفهمنا ما فيه من الخرافات وغريب الهذيانات،
فتحقَّقْنا جهلك وبغيك علينا، وقد مددتَ يدَيْكَ إلى ما لا تقدر عليه، ولولا أن
الرأفة أخذتنا على خلق الله والرعية لما تأخَّرْنا عنكَ، وأمَّا رسولك فإنه خرج
إلى السوق ونشر أخبار كتابك على الخاص والعام فاستحقَّ منَّا القصاص، ولكن أبقيناه
رحمةً منَّا له لكونه معذورًا معك، ولم نترك قصاصه وقارًا لك، فأما ما ذكرتَه في
كتابِكَ من قتلي لوزرائي وعلمائي وكبراء مملكتي فإن ذلك حقٌّ، ولكن لسببٍ قام
عندي، وما قتلتُ من العلماء واحدًا إلا وعندي من جنسه ألفٌ أعلم منه وأفهم وأعقل،
وليس عندي طفل إلا وهو ممتلئ من العلوم، وعندي عوضًا عن كلِّ واحد من المقتولين من
فضلاء نوعه ما لا أقدر أن أحصيه، وكل واحد من عسكري يقاوِم كردوسًا من عسكرك؛ وأما
من جهة المال، فإن عندي معمل الذهب والفضة، وأما المعادن فإنها عندي كقِطَع
الحجارة، وأما أهل مملكتي فإني لا أقدر أن أصف لك حسنهم وجمالهم وغناهم، فكيف
تجاسَرْتَ علينا وقلتَ لنا: ابْنِ لي قصرًا في وسط البحر؟ فإن هذا أمر عجيب، ولعله
ناشئ عن سخافة عقلك؛ لأنه لو كان لك عقل لَكنتَ فحصْتَ عن دفعات الأمواج وحركات
الرياح وأنا أبني لك القصر؛ وأمَّا زعمك أنك تظفر بي، فحاشا لله من ذلك، كيف يبغي
علينا مثلك ويظفر بملكنا؟ بل إن الله تعالى أظفرني بك لكونك متعدِّيًا وباغيًا
عليَّ بغير حقٍّ، فاعلم أنك قد استوجبْتَ العذاب من الله ومني، ولكن أنا أخاف الله
فيك وفي رعيتك، ولا أركب عليك إلا بعد النذارة، فإن كنتَ تخشى الله فعجِّلْ لي
بإرسال خراج هذه السنة، وإلا لَأرجع عن الركوب عليك ومعي ألف ألف ومائة ألف مقاتل
كلهم جبابرة بأفيالٍ فأسردهم حول وزيرنا وآمره أن يقيم على محاصرتك ثلاثَ سنوات
نظير الثلاثة أيام التي أمهلتها لقاصدك، وأتملك مملكتك بحيث لا أقتل منها أحدًا
غير نفسك، ولا أسبي منها غير حريمك». ثم صوَّرَ الغلامُ في المكتوب صورتَه وكتب
بجانبها: «إن هذا الجواب كتَبَه أصغر أولاد الكتَّاب». ثم ختمه وسلَّمَه إلى
الملك، فأعطاه الملك للساعي، فأخذه الساعي وقبَّلَ يدَيِ الملك ومضى من عنده
شاكرًا لله تعالى وللملك على حِلْمه عليه، وانطلق وهو يتعجَّبُ مما رأى من حذق
الغلام.
فلما
وصل إلى ملِكه وكان دخوله عليه في اليوم الثالث بعد الثلاثة أيام المحدودة له،
وكان الملك في ذلك الوقت ناصِب الديوان بسبب تأخير الساعي عن المدة المحدودة له،
فلما دخل عليه سجَدَ بين يدَيْه، ثم أعطاه الكتابَ، فأخذه وسأل الساعي عن سببِ
إبطائه، وعن أحوال الملك وردخان، فقَصَّ عليه القصةَ وحكى له جميعَ ما نظره بعينه
وسمعه بأذنه، فاندهَشَ عقل الملك وقال للساعي: ويحك! ما هذه الأخبار التي تخبرني
بها عن مثل هذا الملك؟ فأجابه الساعي قائلًا: أيها الملك العزيز، ها أنا بين
يدَيْكَ فافتح الكتاب واقرأه يظهر لك الصدق من الكذب. فعند ذلك فتح الملك الكتابَ
وقرأه ونظَرَ فيه صورةَ الغلام الذي كتبه، فأيقَنَ بزوال مُلْكِه وتحيَّرَ فيما
يكون من أمره، ثم التفَتَ إلى وزرائه وعظماء دولته وأخبرهم بما جرى وقرأ عليهم
الكتابَ، فارتاعوا لذلك وارتعبوا رعبًا عظيمًا، وصاروا يسكِّنون روعَ الملك بكلامٍ
من ظاهر اللسان وقلوبهم تتمزَّقُ من الخفقان، ثم إن بديعًا الوزير الكبير قال:
اعلم أيها الملك أن الذي يقوله إخوتي من الوزراء لا فائدةَ فيه، والرأي عندي أنك
تكتب لهذا الملك كتابًا وتعتذر إليه فيه، وتقول له: «أنا مُحِبٌّ لك ولوالدك من
قبلك، وما أرسلنا إليك الساعي بهذا الكتاب إلا على طريقِ الامتحان لكَ لننظر
عزائمك وما عندك من الشجاعة والأمور العلمية والرموز الخفية، وما أنت منطوٍ عليه
من الكمالات الكلية، ونسأل الله تعالى أن يبارِكَ لكَ في مملكتك، ويشيد حصونَ
مدينتك، ويزيد في سلطانك حيثما كنتَ حافظًا لنفسك، فتتمُّ أمور رعيتك» وأرْسِلْه
له مع ساعٍ آخَر. فقال الملك: والله العظيم إنَّ في هذا لَعجبًا عظيمًا، كيف يكون
هذا ملِكًا عظيمًا معتدًّا للحرب بعد قتله لعلماء مملكته وأصحاب رأيه ورؤساء جنده،
وتكون مملكته عامرة بعد ذلك، ويخرج منها هذه القوة العظيمة؟! وأعجب من هذا أن صغار
مكاتبها يردُّون عن ملكها مثل هذا الجواب! لكن أنا بسوء طمعي أشعلتُ هذه النار
عليَّ وعلى أهل مملكتي، ولا أدري ما يُطفِئها إلا رأي وزيري هذا.
ثم
إنه جهَّزَ هديةً ثمينةً وخَدَمًا وحشمًا كثيرة، وكتب كتابًا مضمونه: «بسم الله
الرحمن الرحيم، أما بعد، أيها الملك العزيز وردخان ولد الأخ العزيز جليعاد رحمه
الله وأبقاك، لقد حضر لنا جوابُ كتابنا، فقرأناه وفهمنا ما فيه، فرأينا فيه ما
يسرنا وهذا غاية طلبنا لك من الله، ونسأله أن يُعلِي شأنك ويشيد أركان مملكتك،
وينصرك على أعدائك الذين يريدون بك السوء، واعلم أيها الملك أن أباك كان لي أخًا،
وبيني وبينه عهود ومواثيق مدة حياته، وما كان يرى منَّا إلا خيرًا، وكنَّا نحن
كذلك لا نرى منه إلا خيرًا، ولمَّا تُوفِّي وجلستَ أنت على كرسي مملكته، حصل عندنا
غاية الفرح والسرور، ولمَّا بلغنا ما فعلتَ بوزرائك وأكابر دولتك، خشينا أن يصل
خبر ذلك إلى ملِكٍ غيرنا فيطمع فيك، وكنَّا نظن أنك في غفلةٍ عن مصالحك وحفظ
حصونك، مُهمِلًا لأمور مملكتك، فكاتَبْناك بما ننبِّهك به، فلما رأيناك قد رددتَ
لنا مثل هذا الجواب، اطمأن قلبنا عليك، متَّعَكَ الله بمملكتك، وجعلك معانًا على
شأنك والسلام» ثم جهَّزَ له الهدية وأرسلها إليه مع مائة فارس. وأدرك شهرزاد
الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 928﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن ملك الهند الأقصى لما جهَّزَ الهديةَ إلى الملك
وردخان أرسَلَها له مع مائة فارسٍ، فساروا إلى أن أقبلوا على الملك وردخان
وسلَّموا عليه، ثم أعطوه الكتابَ فقرأه وفهم معناه، ثم أنزل رئيسَ المائة فارس في
محلٍّ يصلح له وأكرَمَه، وقبِلَ الهديةَ منه وشاع خبرها عند الناس، وفرح الملك
بذلك فرحًا شديدًا، ثم أرسَلَ إلى الغلام ابن شماس وأحضره بين يدَيْه وأكرمه،
وأرسل إلى رئيس المائة فارس، ثم طلب الكتاب الذي أحضَرَه من ملكه وأعطاه للغلام،
ففتحه وقرأه فسُرَّ الملك بذلك سرورًا كبيرًا، وصار يعاتِبُ رئيسَ المائة فارسٍ
وهو يقبِّل يدَيْه ويعتذر إليه ويدعو له بدوام البقاء وخلود النِّعَم عليه، فشكره
الملك على ذلك وأكرمه إكرامًا زائدًا، وأعطاه وأعطى جميعَ مَن معه ما يليق بهم،
وجهَّزَ معهم هدايا، وأمر الغلام أن يكتب ردَّ الجواب، فعند ذلك كتب الغلام
الجوابَ وأحْسَنَ الخطابَ وأوجَزَ في باب الصلح، وذكر أدبَ الرسولِ ومَن معه من
الفرسان، فلما تمَّمَ الكتابَ عرضه على الملك، فقال له الملك: اقرأه أيها الولد
العزيز لكي نعرف ما كُتِب فيه. فعند ذلك قرأ الغلام بحضرة المائة فارس، فأعجب
الملِكَ هو وكل مَن حضَرَ نظامُه ومعناه، ثم ختمه الملك وسلَّمَه إلى رئيس المائة
فارس وصرفه، وأرسَلَ معه من عسكره طائفةً توصلهم إلى أطراف بلادهم.
هذا
ما كان من أمر الملك والغلام، وأما ما كان من أمر رئيس المائة فارس، فإنه اندهَشَ
عقله ممَّا رآه من أمر الغلام ومعرفته، وشكر الله تعالى على قضاء مصلحته بسرعةٍ
وعلى قبول الصلح، ثم إنه سار إلى أن وصل إلى ملك أقصى الهند وقدَّمَ إليه الهدايا
والتحف، وأوصل إليه العطايا وناوَلَه الكتابَ وأخبره بما نظر، ففرح الملك بذلك
فرحًا شديدًا، وشكر الله تعالى وأكرَمَ رئيسَ المائة فارس، وشكَرَ همَّتَه على
فعله، ورفع درجته، وصار من ذلك الوقت في أمنٍ وأمانٍ وطمأنينةٍ وزيادة انشراح.
هذا
ما كان من أمر ملك أقصى الهند، وأما ما كان من أمر الملك وردخان، فإنه استقام مع
الله ورجع عن طريقته الرديئة، وتاب إلى الله توبةً خالصةً عمَّا كان فيه، وترك
النساء جملةً ومالَ بكليته إلى صلاحِ مملكته والنظر بخوف الله إلى رعيته، وجعل ولد
شماس وزيرًا عوضًا عن والده، وصاحِبَ الرأي المقدَّم عنده في المملكة، وكاتمًا
لسرِّه، وأمر بزينة مدينته سبعة أيام وكذلك بقية المدائن، ففرحت الرعية بذلك وزال
الخوف والرعب عنهم، واستبشروا بالعدل والإنصاف، وابتهلوا بالدعاء للملك والوزير
الذي أزالَ عنه وعنهم هذا الغمَّ، وبعد ذلك قال الملك للوزير: ما الرأي عندك في
إتقان المملكة وإصلاح الرعية ورجوعها إلى ما كانت عليه أولًا من وجود الرؤساء
والمدبرين؟ فعند ذلك أجابه الوزير قائلًا: أيها الملك العزيز الشأن، الرأي عندي
أنك قبل كل شيء تبتدئ بقَطْع أمر المعاصي من قلبك، وتترك ما كنتَ فيه من اللهو
والعسف والاشتغال بالنساء؛ لأنك إنْ رجعتَ إلى أصل المعاصي تكون الضلالةُ الثانية
أشدَّ من الأولى. فقال الملك: وما هي أصل المعاصي التي ينبغي أن أقلع عنها؟ فأجابه
ذلك الوزير الصغير السن الكبير العقل قائلًا: أيها الملك الكبير، اعلم أن أصل
المعصية اتِّبَاع هوى النساء، والميل إليهن وقبول رأيهن وتدبيرهن؛ لأن محبتهن
تغيِّر العقولَ الصافية وتفسد الطباع السليمة، والشاهد على قولي من دلائل واضحة لو
تفكَّرْتَ فيها وتتَّبَعْتَ وقائعها بإمعانِ النظر، لَوجدتَ لك ناصحًا من نفسك
واستغنيتَ عن قولي جملةً، فلا تشغل قلبَك بذِكْرهن واقطع من ذهنك رسمهن؛ لأن الله
تعالى أمَرَ بعدم الإكثار منهن على يد نبيه موسى، حتى قال أحد الملوك الحكماء
لولده: يا ولدي، إذا استقمتَ في الملك من بعدي، فلا تستكثر من النساء لئلا يضلَّ
قلبك ويفسد رأيك بالجملة، فالاستكثار منهن يُفضِي إلى حبِّهن، وحبُّهن يُفضِي إلى
فساد الرأي، والبرهان على ذلك ما جرى لسيدنا سليمان بن داود عليهما السلام، الذي
خصَّه الله بالعلم والحكمة والمُلْك العظيم، ولم يُعْطِ أحدًا من الملوك التي
تقدَّمت مثل ما أعطاه، فكانت النساء سببًا لهفوة والده، ومثل هذا كثير أيها الملك،
وإنما ذكرتُ لك سليمان لتعرف أنه ليس لأحد أن يملك مثل ما ملك حتى أطاعه جميع ملوك
الأرض. واعلم أيها الملك أن محبة النساء أصل كلِّ شر، وليس لإحداهن رأي، فينبغي
للإنسان أن يقتصر منهن على قدر الضرورة، ولا يميل إليهن كلَّ الميل، فإن ذلك
يُوقِعه في الفساد والهَلَكة، فإن أطعتَ قولي أيها الملك استقامَتْ لك جميع أمورك،
وإن تركته ندمتَ حيث لا ينفعك الندم. فأجابه الملك قائلًا: لقد تركتُ ما كنتُ فيه
من فرط الميل إليهن. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 929﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك وردخان لما قال لوزيره: إني قد تركتُ ما كنتُ
فيه من الميل إليهن، وأعرضتُ عن الاشتغال بالنساء جميعًا، ولكن ماذا أصنع فيهن
جزاءً على ما فعلن؟ لأن قتْلَ شماس والدك كان من كيدهن، ولم يكن ذلك مرادي، ولا
عرفت كيف جرى لي في عقلي حتى وافقتهن على قتله. ثم تأوَّهَ وصاح قائلًا: وا أسفاه
على فقْدِ وزيري وسداد رأيه وحسن تدبيره، وعلى فقد نظرائه من الوزراء ورؤساء
المملكة وحُسْن آرائهم الرشيدة. فأجابه الوزير قائلًا: اعلم أيها الملك أن الذنبَ
ليس للنساء وحدهن؛ لأنهن مثل بضاعة مستحسنة تميل إليها شهوات الناظرين، فمَن اشتهى
واشترى باعوه، ومَن لم يشترِ لم يجبره أحدٌ على الشراء، ولكنَّ الذنبَ لمَن اشترى،
وخصوصًا إذا كان عرفًا بمضرَّة تلك البضاعة، وقد حذَّرتك ووالدي من قبلي كان
يحذِّرك ولم تقبل منه نصيحةً. فأجابه الملك: إنني أوجبتُ على نفسي الذنبَ كما قلت
أيها الوزير، ولا عذر لي إلا التقادير الإلهية. فقال الوزير: اعلم أيها الملك أن
الله تعالى خلقنا وخلق لنا استطاعةً، وجعل لنا إرادةً واختيارًا، فإنْ شئنا فعلنا
وإنْ شئنا لم نفعل، ولم يأمرنا الله بفعل ضررٍ لئلا يلزمنا ذنبٌ، فيجب علينا حساب
فيما يكون فعله صوابًا؛ لأنه تعالى لا يأمرنا إلا بالخير على سائر الأحوال، وإنما
ينهانا عن الشر، ولكن نحن بإرادتنا نفعل ما نفعله، صوابًا كان أو خطأً. فقال له
الملك: صدقتَ، وإنما كان خطئي مني لميلي إلى الشهوات، وقد حذَّرتُ نفسي من ذلك
مرارًا، وحذَّرني والدك شماس مرارًا، فغلبَتْ نفسي على عقلي، فهل عندك شيء يمنعني
عن ارتكابِ هذا الخطأ حتى يكون عقلي غالبًا على شهوات نفسي؟ فأجاب الوزير: نعم،
إني أرى شيئًا يمنعك من ارتكاب هذا الخطأ، وهو أنك تنزع عنك ثوبَ الجهل وتلبس ثوب
العدل، وتعصي هواك وتطيع مولاك، وترجع إلى سيرة الملك العادل أبيكَ، وتعمل ما يجب عليك
من حقوق الله تعالى وحقوق رعيتك، وتحافظ على دينك وعلى رعيتك وعلى سياسة نفسك وعلى
عدم قتل رعيتك، وتنظر في عواقب الأمور، وتنزل عن الظلم والجور والبغي والفساد،
وتستعمل العدلَ والإنصافَ والخضوع، وتمتثل أوامرَ الله تعالى وتلازِمُ الشفقةَ على
خليقته الذين استخلفك عليهم، وتواظِب على ما يُوجِب دعاءَهم لك؛ لأنك إذا دامَ لك
ذلك صفَا وقتك وعفَا الله برحمته عنك، وجعلك مُهابًا عند كلِّ مَن يراك، وتتلاشى
أعداؤك ويهزم الله تعالى جيوشهم، وتصير عند الله مقبولًا، وعند خلقه مُهابًا
محبوبًا.
فقال
له الملك: لقد أحييتَ فؤادي ونوَّرْتَ قلبي بكلامك الحلو، وجليتَ عين بصيرتي بعد
العمى، وأنا عازم على أن أفعل جميعَ ما ذكرتَه لي بمعونة الله تعالى، وأترك ما
كنتُ عليه من البغي والشهوات، وأُخرِج نفسي من الضِّيق إلى السعة، ومن الخوف إلى
الأمن، وينبغي أن تكون بذلك فَرِحًا مسرورًا؛ لأني صرتُ لك ابنًا مع كبر سني،
وصرتَ أنت لي والدًا حبيبًا على صِغَر سنِّكَ، وصار من الواجب عليَّ بذْلُ المجهود
فيما تأمرني به، وأنا أشكر فضْلَ الله تعالى وفضلك، فإن الله تعالى أولاني بك من
النِّعَم وحُسْن الهداية وسداد الرأي ما يدفع همي وغمي، وقد حصلَتْ سلامة رعيتي
على يدَيْك بشرف معرفتك وحسن تدبيرك، فأنت الآن مدبِّر لملكي، لا أتشرف عليك بسوى
الجلوس على الكرسي، وكل ما تفعله جائزٌ عليَّ ولا رادَّ لكلمتك وإنْ كنتَ صغيرَ
السن؛ لأنك كبير العقل كثير المعرفة، فأشكر الله الذي يسَّرَكَ لي حتى هديتني إلى
سبيل الاستقامة بعد الاعوجاج المهلك.
قال
الوزير: أيها الملك السعيد، اعلم أنه لا فضلَ لي عليك في بذل النصيحة لك؛ لأن قولي
من بعض ما يلزمني حيث كنتُ غريسَ نعمتك، وليس هكذا أنا وحدي، بل والدي من قبلي
مغمورٌ بجزيل نعمتك، فنحن الجميع مُقِرُّون بجميلك وفضلك، فكيف لا نقر بذلك وأنت
أيها الملك راعينا وحاكمنا ومحارِبٌ عنَّا أعداءَنا، ومتولٍ حفْظَنا وحارِسنا
وباذِل جهدك في سلامتنا؟ وإننا لو بذلنا أرواحَنا في طاعتك لم نقم بواجب شكرك،
ولكن نتضرَّع إلى الله تعالى الذي ولَّاك علينا وحكَّمك فينا، ونسأله أن يهِبَ لك
العمرَ الطويل، ويمنحك النجاحَ في جميع أعمالك، ولا يمتحنك بمحنةٍ في زمانك،
ويبلغك مرادك ويجعلك مُهابًا إلى حين مماتك، ويبسط بالكرم سواعدك حتى تقود كل عالم
وتقهر كل معاند، ويوجد بك في مملكتك كل عالم وشجاع، وينزع منها كلَّ جاهل وجبان،
ويرفع عن رعيتك الغلاء والبلاء، ويزرع بينهم الألفة والمحبة، ويمتِّعك من الدنيا
بفَلَاحها، ومن الآخرة بصلاحها، بمَنِّه وكرمه وخفِيِّ لُطْفِه، آمين؛ إنه على كل
شيء قدير، وليس عليه أمر عسير، وإليه المرجع والمصير. فلما سمع الملك منه هذا
الدعاء، حصل عنده غاية الفرح ومال إليه كلَّ الميل، وقال له: اعلم أيها الوزير أنك
صرتَ عندي في مقام الأخ والولد، وليس يفصلني عنك إلا الموت، وجميع ما تملكه يدي لك
التصرُّف فيه، وإن لم يكن لي خَلَفٌ تجلس على تختي عوضًا عني، فأنت أولى من جميع
أهل مملكتي، فأولِّيك مُلْكي بحضرة أكابر مملكتي، وأجعلك وليَ عهدي من بعدي إن شاء
الله تعالى. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 930﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك وردخان قال لابن شماس الوزير: سوف أستخلفك عني
وأجعلك ولي عهدي من بعدي، وأُشهِد على ذلك أكابرَ مملكتي بعون الله تعالى. ثم بعد
ذلك دعَا بكاتبه فحضر بين يدَيْه، فأمره أن يكتب إلى سائر كبراء دولته بالحضور
إليه، وأجهر بالنداء في مدينته للحاضرين الخاص والعام، وأمر أن يجتمع الأمراء
والقوَّاد والحجَّاب وسائر أرباب الخدم إلى حضرة الملك، وكذلك العلماء والحكماء،
وعمل الملك ديوانًا عظيمًا وسماطًا لم يُعمَل مثله قطُّ، وعزم جميع الناس من الخاص
والعام، فاجتمع الجميع على حظٍّ وأكلٍ وشربٍ مدة شهر، وبعد ذلك كسَا جميعَ حاشيته
وفقراء مملكته، وأعطى العلماء عطايا وافرة، فاختار جملةً من العلماء والحكماء
بمعرفة ابن شماس وأدخَلَهم عليه، وأمره أن ينتخب منهم سبعةً ليجعلهم وزراء من تحت
كلمته، ويكون هو الرئيس عليهم؛ فعند ذلك اختار الغلام ابن شماس منهم أكبرهم سنًّا
وأكملهم عقلًا وأكثرهم درايةً وأسرعهم حفظًا، ورأى مَن بهذه الصفات ستة أشخاص،
فقدَّمَهم إلى الملك وألبسهم ثياب الوزراء وكلَّمَهم قائلًا: أنتم تكونون وزرائي
تحت طاعة ابن شماس، وجميع ما يقوله لكم أو يأمركم به وزيري هذا ابن شماس لا تخرجوا
عنه أبدًا، ولو كان هو أصغركم سنًّا لأنه أكبركم عقلًا. ثم إن الملك أجلَسَهم على
كراسي مزركشة على عادة الوزراء، وأجرى إليهم الأرزاقَ والنفقاتَ، ثم أمرهم أن
ينتخبوا من أكابر الدولة الذين اجتمعوا عنده في الوليمة مَن يصلح لخدمة المملكة من
الأجناد، ليجعل منهم رؤساء ألوف ورؤساء مئين ورؤساء عشرات، ورتَّبَ لهم المرتبات
وأجرى إليهم الأرزاق على عادة الكبراء، ففعلوا ذلك في أسرع وقت، وأمرهم أيضًا أن
يُنعِموا على بقية مَن حضر بالإنعامات الجزيلة، وأن يصرفوا كلَّ واحد إلى أرضه
بعزٍّ وإكرام، وأمر عمَّاله بالعدل في الرعية وأوصاهم بالشفقة على الفقراء
والأغنياء، وأمر بإسعافهم من الخزنة على قدر درجاتهم، فدعَا له الوزراء بدوام
العزِّ والبقاء، ثم إنه أمر بزينة المدينة ثلاثةَ أيام شكرًا لله تعالى على ما حصل
له من التوفيق.
هذا
ما كان من أمر الملك ووزيره ابن شماس في ترتيب المملكة وأمرائها وعمَّالها، وأما
ما كان من أمر النساء المحظيات من السراري وغيرهن، اللاتي كنَّ سببًا لقتل الوزراء
وفساد المملكة بحِيَلهن وخداعهن، فإنه لما انصرف جميع مَن كان في الديوان من
المدينة والقرى إلى محله واستقامت أمورهم، أمر الملك الوزير الصغير السن الكبير
العقل الذي هو ابن شماس أن يحضر بقية الوزراء، فلما حضروا جميعًا بين يدَيِ الملك
اختلى بهم وقال لهم: اعلموا أيها الوزراء أني كنتُ حائدًا عن الطريق المستقيم،
مستغرِقًا في الجهل، مُعرِضًا عن النصيحة، ناقضًا للعهود والمواثيق، مخالفًا لأهل
النصح، وسبب ذلك كله ملاعَبة هؤلاء النساء وخداعهن إياي، وزخرفة كلامهن وباطلهن لي
وقبولي لذلك؛ لأني كنتُ أظن أن كلامهن نصح بسبب عذوبته ولينه، فإذا هو سمٌّ قاتل،
والآن قد تقرَّرَ عندي أنهن لم يُرِدْنَ لي إلا الهلاك والتلف، فقد استحقَقْنَ
العقوبةَ والجزاءَ مني على جهة العدل، حتى أجعلهن عبرةً لمَن اعتبَرَ، لكن فما
الرأي السديد في إهلاكهن؟ فأجابه الوزير ابن شماس قائلًا: أيها الملك العظيم
الشأن، إنني قلتُ لك أولًا أن الذنب ليس مختصًّا بالنساء وحدهن، بل هو مشترك بينهن
وبين الرجال الذين يطيعونهن، لكن النساء يستوجبن الجزاءَ على كلِّ حالٍ لأمرين:
الأول تنفيذ قولك لكونك الملك الأعظم، والثاني لتجاسرهنَّ عليك وخداعهن لك،
ودخولهن فيما لا يعنيهن وما لا يصلحن للتكلُّم فيه، فهن أحقُّ بالهلاك، ولكن كفاهن
ما هو نازل بهن، ومن الآن اجعلهن بمنزلة الخَدَم، والأمر إليك في ذلك وغيره.
ثم
إن أحد الوزراء أشار على الملك بما قاله ابن شماس، وأحد الوزراء تقدَّمَ إلى الملك
وسجد له وقال: أدام الله أيام الملك، إنْ كان لا بد أن تفعل بهن فعلةً لهلاكهن،
فافعل ما أقوله لك. فقال الملك: ما الذي تقوله لي؟ فقال له: أن تأمر إحدى محاظيك
بأن تأخذ النساء اللاتي خدعنك وتُدخِلهن البيتَ الذي حصل فيه قتل الوزراء
والحكماء، وتسجنهن هناك، وتأمر أن يُعطَى لهنَّ قليلٌ من الطعام والشراب قدر ما
يمسك أبدانهن، ولا يُؤذَن إليهن في الخروج من ذلك الموضع أصلًا، وكلُّ مَن ماتت
بنفسها تبقى بينهن على حالها إلى أن يَمُتْنَ عن آخِرهن، وهذا أقل جزائهن؛ لأنهن
كُنَّ سببًا لهذه الفتنة العظيمة، بل وأصل جميع البلايا والفتن التي وقعت في
الزمان، وصدق عليهن قولُ القائل: إنَّ مَن حفر بئرًا لأخيه وقع فيها، ولو طالَتْ
سلامته. فقبِلَ الملك رأيه وفعل كما قال له، وأرسل خلف أربع محظيات جبَّارات
وسلَّمَ إليهن النساء، وأمرهن أن يُدخِلنهن محلَّ القتلى ويسجنهن فيه، وأجرى لهن
طعامًا دنيئًا قليلًا وشرابًا رديئًا، فكان من أمرهن أنهن حزنَّ حزنًا عظيمًا،
وندمن على ما فرط منهن، وتأسَّفْنَ تأسُّفًا كثيرًا، وأعطاهن الله جزاءَهن في
الدنيا من الخزي، وأعَدَّ لهن العذابَ في الآخرة، ولم يزلْنَ في ذلك الموضع المظلم
المنتن الرائحة، وفي كل يوم تموت ناس منهن حتى هلكن عن آخِرهن، وشاع خبر هذه
الواقعة في جميع البلاد والأقطار، وهذا ما انتهى إليه أمر الملك ووزرائه ورعيته،
والحمد لله مُفنِي الأمم ومحيي الرمم، المستحق للتجليل والإعظام والتقديس على
الدوام.
ومما
يُحكَى أيضًا أن رجلين كانَا في مدينة الإسكندرية، وكان أحدهما صبَّاغًا واسمه أبو
قير، وكان الثاني مزيِّنًا واسمه أبو صير، وكانَا جارين لبعضهما في السوق، وكان
دكَّان المزيِّن في جانب دكان الصبَّاغ، وكان الصبَّاغ نصَّابًا كذَّابًا صاحِبَ
شرٍّ قويٍّ، كأنما صدغه منحوت من الجلمود أو مشتق من عتبة كنيسة اليهود، لا يستحي
من عيبة يفعلها بين الناس، وكان من عادته أنه إذا أعطاه أحدٌ قماشًا ليصبغه يطلب
منه الكِراء أولًا، ويوهمه أنه يشتري به أجزاء ليصبغ بها، فيعطيه الكِراء
مقدَّمًا، فإذا أخذه منه يصرفه على أكل وشرب، ثم يبيع القماش الذي أخذه بعد ذهاب
صاحبه ويصرف ثمنه في الأكل والشرب وغير ذلك، ولا يأكل إلا طيبًا من أفخر المأكول،
ولا يشرب إلا من أجود ما يُذهِب العقول، فإذا أتاه صاحب القماش يقول له: في غدٍ
تجيء لي من قبل الشمس فتلقى حاجتك مصبوغة. فيروح صاحب الحاجة ويقول في نفسه: يوم
من يوم قريب. ثم يأتيه في ثاني يوم على الميعاد فيقول له: تعالَ في غدٍ، فإني أمسِ
ما كنتُ فاضيًا؛ لأنه كان عندي ضيوف فقمتُ بواجبهم حتى راحوا، وفي غدٍ قبل الشمس
تعالَ خذ قماشك مصبوغًا. فيروح ويأتيه في ثالث يوم فيقول له: إني كنتُ أمسِ
معذورًا؛ لأن زوجتي ولدت بالليل، وطول النهار وأنا أقضي مصالح، ولكن في غدٍ من
كلٍّ بد تعالَ خذ حاجتك مصبوغة. فيأتي له على الميعاد فيطلع له بحِيلة أخرى من حيث
كان ويحلف له. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 931﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الصبَّاغ صار كلما أتى له صاحب الشيء يطلع له بحيلةٍ
من حيث كان ويحلف له، ولم يزل يَعِدُه ويخلف إذا جاءه، حتى يقلق الزبون ويقول له:
كَمْ تقول لي في غدٍ! أعْطِني حاجتي فإني لا أريد صباغًا. فيقول: والله يا أخي أنا
مستحٍ منك، ولكن أخبرك بالصحيح والله يؤذي كلَّ مَن يؤذي الناس في أمتعتهم. فيقول
له: أخبرني ماذا حصل؟ فيقول: أمَّا حاجتك فإني صبغتُها صبغًا ليس له نظيرٌ،
ونشرتُها على الحبل فسُرِقت ولا أدري مَن سرقها. فإن كان صاحب الحاجة من أهل
الخير، يقل له: يعوِّض الله عليَّ. وإن كان من أهل الشر يستمرُّ معه في هتيكة وجرسة،
ولا يحصل منه على شيء ولو اشتكاه إلى الحاكم، ولم يزل يفعل هذه الفِعال حتى شاع
ذِكْره بين الناس، وصار الناس يحذِّر بعضهم بعضًا من أبي قير، ويضربون به الأمثال،
وامتنعوا عنه جميعًا، وصار لا يقع معه إلا الجاهل بحاله، ومع ذلك لا بد له كلَّ
يوم من جرسة وهتيكة من خلق الله، فحصل له كساد بهذا السبب، فصار يأتي إلى دكان
جاره المزيِّن أبي صير ويقعد في داخلها قصاد المصبغة، فإنْ رأى أحدًا جاهلًا بحاله
واقفًا على باب المصبغة ومعه شيء يريد صبغه، يَقُم من دكان المزين ويقول: ما لك يا
هذا؟ فيقول له: خذ اصبغ لي هذا الشيء. فيقول له: أي لون تطلبه؟ لأنه مع هذه الخصال
الذميمة كان يخرج من يده أن يصبغ سائر الألوان، ولكنه لم يصدق مع أحدٍ قطُّ،
والشقاوة غالبة عليه، ثم يأخذ الحاجة منه ويقول له: هاتِ الكِراء لقدام وفي غدٍ
تعالَ خذها. فيعطيه الأجرة ويروح، وبعد أن يتوجَّهَ صاحب الشيء إلى حال سبيله،
يأخذ هو ذلك الشيء ويذهب إلى السوق فيبيعه ويشتري بثمنه اللحم والخضار والدخان
والفاكهة وما يحتاج إليه، وإذا رأى أحدًا واقفًا على الدكان من الذين أعطوه حاجةً
ليصبغها، فلا يظهر إليه ولا يُرِيه نفسه، ودام على هذه الحالة سنين.
فاتفق
له في يومٍ من الأيام أنه أخذ حاجةً من رجل جبَّار، ثم باعها وصرف ثمنها، وصار
صاحبها يجيء إليه في كلِّ يوم فلم يَرَه في الدكان؛ لأنه متى رأى أحدًا له عنده
شيء يهرب منه في دكان المزين أبي صير، فلما لم يجده ذلك الجبَّار في دكانه وأعياه
ذلك، ذهب إلى القاضي وأتاه برسولٍ من طرفه وسمَّرَ باب الدكان بحضرة جماعةٍ من
المسلمين وختمه؛ لأنه لم يَرَ فيها غيرَ بعض مواجير مكسَّرة، ولم يجد فيها شيئًا
يقوم مقام حاجته، ثم أخذ الرسول المفتاح وقال للجيران: قولوا له يجيء بحاجة هذا
الرجل ويأتي ليأخذ مفتاح دكانه. ثم ذهب الرجل والرسول إلى حالهما، فقال أبو صير
لأبي قير: ما داهيتك؟ فإنَّ كلَّ مَن جاء لك بحاجةٍ تعدمه إياها، أين راحت حاجة
هذا الرجل الجبَّار؟ قال: يا جاري، إنها سُرِقت مني. قال أبو صير: عجائب، كلُّ مَن
أعطاك حاجةً يسرقها منك لصٌّ، هل أنت مُعادٍ جميعَ اللصوص؟ ولكن أظن أنك تكذب،
فأخبرني بقصتك. قال: يا جاري، ما أحد سرق مني شيئًا. فقال أبو صير: وما تفعل في
متاع الناس؟ فقال له: كلُّ مَن أعطاني حاجةً أبيعها وأصرف ثمنها. فقال له: أبو صير
أيحلُّ لكَ هذا من الله؟ قال له أبو قير: إنما أفعل هذا من الفقر؛ لأن صنعتي
كاسدة، وأنا فقير وليس عندي شيء. ثم صار يذكر له الكسادَ وقلةَ السبب، وصار أبو
صير يذكر له كسادَ صنعته أيضًا ويقول: أنا أسطى ليس لي نظير في هذه المدينة، ولكن
لا يحلق عندي أحدٌ لكوني رجلًا فقيرًا، وكرهت هذه الصنعة يا أخي. فقال له أبو قير
الصبَّاغ: وأنا أيضًا كرهت صنعتي من الكساد، ولكن يا أخي ما الداعي لإقامتنا في
هذه البلدة؟ فأنا وأنت نسافر منها نتفرج في بلاد الناس، وصنعتنا في أيدينا رائجة
في جميع البلاد، فإذا سافرنا نشم الهواءَ ونرتاح من هذا الهمِّ العظيم. وما زال
أبو قير يحسِّن السفرَ لأبي صير حتى رغب في الارتحال، ثم إنهما اتفَقَا على السفر.
وأدرك شهر زاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 932﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن أبا قير ما زال يحسِّن السفرَ لأبي صير حتى رغب في
الارتحال، ثم إنهما اتفقا على السفر، وفرح أبو قير بأن أبا صير رغب في أن يسافر،
وأنشد قول الشاعر:
تَغَرَّبْ
عَنِ الْأَوْطَانِ فِي طَلَبِ الْعُلَا
وَسَافِرْ فَفِي الْأَسْفَارِ خَمْسُ فَوَائِدِ
تَفَرُّجُ
هَمٍّ وَاكْتِسَابُ مَعِيشَةٍ وَعِلْمٌ
وَآدَابٌ وَصُحْبَةُ مَاجِدِ
وَإِنْ
قِيلَ فِي الْأَسْفَارِ غَمٌّ وَكُرْبَةٌ
وَتَشْتِيتُ شَمْلٍ وَارْتِكَابُ شَدَائِدِ
فَمَوْتُ
الْفَتَى خَيْرٌ لَهُ مِنْ حَيَاتِهِ
بِدَارِ هَوَانٍ بَيْنَ وَاشٍ وَحَاسِدِ
وحين
عزمَا على السفر قال أبو قير لأبي صير: يا جاري نحن صرنا أخوين، ولا فرق بيننا،
فينبغي أن نقرأ الفاتحة على أن عاملَنا يكتسب ويُطعِم بطَّالنا، ومهما فضل نضعه في
صندوق، فإذا رجعنا إلى الإسكندرية نقسمه بيننا بالحقِّ والإنصاف. قال أبو صير: وهو
كذلك. وقرأ الفاتحة على أن العامل يكتسب ويُطعِم البطَّال، ثم إن أبا صير قفل
الدكان وأعطى المفاتيح لصاحبها، وأبو قير ترك المفتاح عند رسول القاضي وترك الدكان
مقفولةً مختومةً، وأخَذَا مصالِحَها وأصبحَا مسافرين، ونزلَا في غليون في البحر
المالح وسافَرَا في ذلك النهار، وحصل لهما إسعاف، ومن تمام سعدِ المزيِّن أن جميع
مَن كان في الغليون لم يكن معهم أحدٌ من المزيِّنين، وكان فيه مائة وعشرون رجلًا
غير الريس والبحرية، ولما حَلُّوا قلوعَ الغليون قام المزيِّن وقال للصباغ: يا
أخي، هذا بحر نحتاج فيه إلى الأكل والشرب، وليس معنا إلا قليل من الزاد، وربما
يقول لي أحدٌ: تعال يا مزيِّن احلق لي. فأحلق له برغيفٍ وبنصف فضة أو بشربة ماء،
فأنتفع بذلك أنا وأنت. فقال له الصباغ: لا بأس. ثم حطَّ رأسه ونام، وقام المزيِّن
وأخذ عدَّتَه والطاسةَ ووضع على كتفه خرقةً تغني عن الفوطة؛ لأنه فقير وشقَّ بين
الركاب، فقال له واحد: تعالَ يا أسطى احلق لي. فحلق له، فلما حلق لذلك الرجل أعطاه
نصف فضة، فقال له المزيِّن: يا أخي، ليس لي حاجة بهذا النصف الفضة، ولو كنتَ
أعطيتني رغيفًا كان أبرك في هذا البحر؛ لأن لي رفيقًا وزادنا شيء قليل. فأعطاه
رغيفًا وقطعةَ جبن، وملأ له الطاسة ماءً حلوًا، فأخذ ذلك وأتى إلى أبي قير وقال
له: خذ هذا الرغيف وكله بالجبن، واشرب ما في الطاسة. فأخذ ذلك منه وأكل وشرب.
ثم
إن أبا صير المزيِّن بعد ذلك حمل عدَّتَه وأخذ الخرقة على كتفه والطاسة في يده،
وشقَّ في الغليون بين الركاب، فحلق لإنسانٍ برغيفين، ولآخَر بقطعة جبن، ووقع عليه
الطلب، وصار كلُّ مَن يقول له: احلق لي يا أسطى. يشرط عليه رغيفين ونصف فضة، وليس
في الغليون مزيِّن غيره، فما جاء المغرب حتى جمع ثلاثين رغيفًا وثلاثين نصف فضة،
وصار عنده جبن وزيتون وبطارخ، وصار كلما يطلب حاجة يعطونه إياها، حتى صار عنده شيء
كثير، وحلق للقبطان وشكَا له قلةَ الزاد في السفر، فقال له القبطان: مرحبًا بك،
هات رفيقك في كلِّ ليلة وتعشَّيَا عندي، ولا تحملَا همًّا ما دمتما مسافرين معنا.
ثم رجع إلى الصبَّاغ فرآه لم يزل نائمًا فأيقظه، فلما أفاق أبو قير رأى عند رأسه
شيئًا كثيرًا من عيش وجبن وزيتون وبطارخ، فقال له: من أين لك ذلك؟ فقال: من فيض
الله تعالى. فأراد أن يأكل، فقال له أبو صير: لا تأكل يا أخي من هذا واتركه ينفعنا
في وقتٍ آخَر، واعلم أني حلقتُ للقبطان وشكوتُ إليه قلةَ الزوادة، فقال لي: مرحبًا
بك، هات رفيقك كلَّ ليلة وتعشَّيَا عندي. فأول عشائنا عند القبطان في هذه الليلة.
فقال له أبو قير: أنا دائخ من البحر ولا أقدر أن أقوم من مكاني، فدَعْني أتعشَّى
من هذا الشيء، ورُحْ أنت وحدك عند القبطان. فقال له: لا بأس بذلك. ثم جلس يتفرَّج
عليه وهو يأكل، فرآه يقطع اللقمة كما يقطع الحجار من الجبل، ويبتلعها ابتلاعَ
الفيل الذي له أيام ما أكل، ويلتهم اللقمةَ قبل ازدراد التي قبلها، ويحملق عينَيْه
فيما بين يدَيْه حملقةَ الغول، وينفخ نفخ الثور الجائع على التبن والفول، وإذا
بنوتي جاء وقال: يا أسطى، يقول لك القبطان: هاتِ رفيقك وتعالَ للعشاء. فقال أبو
صير لأبي قير: أتقوم بنا؟ فقال له: أنا لا أقدر على المشي. فراح المزيِّن وحده،
فرأى القبطان جالسًا وقدامه سفرة فيها عشرون لونًا أو أكثر، وهو وجماعته ينتظرون
المزيِّن ورفيقه، فلما رآه القبطان قال له: أين رفيقك؟ فقال له: يا سيدي، إنه دائخ
من البحر. فقال له القبطان: لا بأس عليه، ستزول عنه الدوخة، تعالَ أنت تعشَّ معنا،
فإني كنتُ في انتظارك. ثم إن القبطان عزل صحن كباب وحطَّ فيه من كل لونٍ، فصار
يكفي عشرة، وبعد أن تعشَّى المزيِّن قال له القبطان: خُذْ هذا الصحن معك إلى
رفيقك. فأخذه أبو صير وأتى إلى أبي قير، فرآه يطحن بأنيابه فيما عنده من الأكل مثل
الجمل، ويلحق اللقمة باللقمة على عجلٍ، فقال له أبو صير: أَمَا قلتُ لك لا تأكل،
فإن القبطان خيره كثير؟ فانظر أي شيء بعث إليك لمَّا أخبرته بأنك دائخ. فقال له:
هات. فناوَلَه الصحنَ فأخذه منه وهو ملهوف عليه وعلى غيره من الأكل مثل الكلب
الكاشر أو السبع الكاسر، أو الرخِّ إذا انقَضَّ على الحمام، أو الذي كاد أن يموت
من الجوع ورأى شيئًا من الطعام، وصار يأكل، فتركه أبو صير وراح إلى القبطان وشرب
القهوة هناك، ثم رجع إلى أبي قير، فرآه قد أكل جميعَ ما في الصحن ورماه فارغًا.
وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 933﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن أبا صير لما رجع إلى أبي قير رآه قد أكل كلَّ ما في
الصحن ورماه فارغًا، فأخذه وأوصله إلى بعض أتباع القبطان ورجع إلى أبي قير ونام
إلى الصباح، فلما كان ثاني الأيام صار أبو صير يحلق، وكلما جاء له شيء يعطيه لأبي
قير، وأبو قير يأكل ويشرب، وهو قاعد لا يقوم إلا لإزالة الضرورة، وكلَّ ليلةٍ يأتي
له بصحنٍ ملآن من عند القبطان، واستمرَّا على هذه الحالة عشرين يومًا، حتى رسَا
الغليون على ميناء مدينة، فطلعَا من الغليون ودخلَا تلك المدينة، وأخذَا لهما حجرة
في خانٍ وفرشها أبو صير، واشترى جميعَ ما يحتاجان إليه وجاء بلحمٍ وطبخه، وأبو قير
نائم من حين دخل الحجرة، ولم يستيقظ حتى أيقَظَه أبو صير ووضع السفرة بين يده،
فلما أفاق أكل وبعد ذلك قال له: لا تؤاخذني فإني دائخ. ثم نام، واستمرَّا على هذه
الحالة أربعين يومًا، وكلَّ يوم يحمل المزيِّن العدةَ ويدور في المدينة، فيعمل
بالذي فيه النصيب، ويرجع فيجد أبا قير نائمًا، فينبِّهه وحين ينتبه يُقبِل على
الأكل بلهفةٍ، فيأكل أكل مَن لا يشبع ولا يقنع، ثم ينام، ولم يزل كذلك مدة أربعين
يومًا أخرى، وكلما يقول له أبو صير: أجلس أرتاح، واخرج تفسَّحْ في المدينة، فإنها
فرجة وبهجة وليس لها نظير في المدائن. يقول له أبو قير الصبَّاغ: لا تؤاخذني فإني
دائخ. فلا يرضى أبو صير المزيِّن أن يكدِّرَ خاطِرَه ولا يُسمِعه كلمةً تؤذيه، وفي
اليوم الحادي والأربعين مرض المزيِّن ولم يقدر أن يسرح، فسخَّرَ بوَّاب الخان،
فقضى لهما حاجتهما وأتى لهما بما يأكلان وما يشربان، كل ذلك وأبو قير يأكل وينام،
وما زال المزيِّن يسخِّر بوَّاب الخان في قضاء حاجته مدة أربعة أيام، وبعد ذلك
اشتدَّ المرض على المزيِّن حتى غاب عن الوجود من شدة مرضه، وأما أبو قير فإنه
أحرَقَه الجوع، فقام وفتَّشَ في ثياب أبي صير، فرأى معه مقدارًا من الدراهم، فأخذه
وقفل بابَ الحجرة على أبي صير ومضى ولم يُعلِم أحدًا، وكان البوَّاب في السوق فلم
يَرَه حين خروجه.
ثم
إن أبا قير عمد إلى السوق وكسا نفسه ثيابًا نفيسة، وصار يدور في المدينة ويتفرج،
فرآها مدينةً ما وجد مثلها في المدائن، وجميع ملبوسها أبيض وأزرق من غير زيادة،
فأتى إلى صبَّاغ فرأى جميع ما في دكانه أزرق، فأخرج له محرمة وقال له: يا معلم، خذ
هذه المحرمة وأصبغها، وخذ أجرتك. فقال له: إن أجرة صبغ هذه عشرون درهمًا. فقال له:
نحن نصبغ هذه في بلادنا بدرهمين. فقال: رُحِ اصبغها في بلادكم، وأمَّا أنا فلا
أصبغها إلا بعشرين درهمًا لا تنقص عن هذا القدر شيئًا. فقال له أبو قير: أي لون
تريد صبغها؟ قال له الصباغ: أصبغها زرقاء. قال له أبو قير: أنا مرادي أن تصبغها لي
حمراء. قال له: لا أدري صباغ الأحمر. قال: خضراء. قال: لا أدري صباغ الأخضر. قال:
صفراء. قال له: لا أدري صباغ الأصفر. وصار أبو قير يُعدِّد له الألوانَ لونًا بعد
لون، فقال له الصباغ: نحن في بلادنا أربعون معلمًا لا يزيدون واحدًا ولا ينقصون
واحدًا، وإذا مات منَّا واحد نعلِّم ولده، وإن لم يخلِّف ولدًا نبقى ناقصين
واحدًا، والذي له ولدان نعلِّم واحدًا منهما، فإن مات علَّمنا أخاه، وصنعتنا هذه
مضبوطة ولا نعرف أن نصبغ غير الأزرق من غير زيادة. فقال له أبو قير الصباغ: اعلم
أني أنا صبَّاغ، وأعرف أن أصبغ سائرَ الألوان، ومرادي أن تخدمني عندك بالأجرة،
وأنا أعلِّمك جميعَ الألوان لأجل أن تفتخر بها على كل طائفة الصبَّاغين. فقال له:
نحن لا نقبل غريبًا يدخل في صنعتنا أبدًا. فقال له: وإذا فتحتُ لي مصبغةً وحدي؟
فقال له: لا يمكنك ذلك أبدًا. فتركه وتوجَّهَ إلى الثاني، فقال له كما قال له
الأول، ولم يَزَلْ ينتقل من صبَّاغ إلى صبَّاغ حتى طاف على الأربعين معلمًا، فلم
يقبلوه لا أجيرًا ولا معلِّمًا، فتوجَّهَ إلى شيخ الصبَّاغين وأخبره، فقال له:
إننا لا نقبل غريبًا يدخل في صنعتنا. فحصل عند أبي قير غيظٌ عظيمٌ، وطلع يشكو إلى
ملك تلك المدينة وقال له: يا ملك الزمان، أنا غريب وصنعتي الصباغة، وجرى لي مع
الصباغين ما هو كذا وكذا، وأنا أصبغ الأحمرَ ألوانًا مختلفةً كورديٍّ وعنَّابيٍّ،
والأخضر ألوانًا مختلفة كزرعي وفستقي وجناح الدرة، والأسود ألوانًا مختلفة كفحمي
وكحلي، والأصفر ألوانًا مختلفة كنارنجي … وصار يذكر له سائر الألوان، ثم قال: يا
ملك الزمان، كلُّ الصبَّاغين الذين في مدينتك لا يخرج من أيديهم أن يصبغوا شيئًا
من هذه الألوان، ولا يعرفون إلا صبغ الأزرق، ولم يقبلوني أن أكون عندهم معلمًا ولا
أجيرًا. فقال له الملك: قد صدقتَ في ذلك، ولكن أنا أفتح لك مصبغةً وأعطيك رأسَ مال
وما عليك منهم، وكلُّ مَن تعرَّضَ لك شنقتُه على باب دكانه. ثم أمر البنَّائين
وقال لهم: امضوا مع هذا المعلِّم وشقُّوا أنتم وإياه في المدينة، وأي مكان أعجبه
فأَخرِجوا صاحبه منه، سواء كان دكانًا أو خانًا أو غير ذلك، وابنوا له مصبغة على
مراده، ومهما أمَرَكم به فافعلوه ولا تخالفوه فيما يقول. ثم إن الملك ألْبَسَه
بدلةً مليحةً، وأعطاه ألفَ دينار وقال له: اصرفها على نفسك حتى تتمَّ البناية.
وأعطاه مملوكَيْن من أجل الخدمة، وحصانًا بعدَّةٍ مزركشة، فلبس البدلةَ وركب
الحصانَ وصار كأنه أمير، وأخلى له الملك بيتًا وأمر بفرشه، ففرشوه له. وأدرك
شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 934﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك أخلى بيتًا لأبي قير وأمَرَ بفرشه، ففرشوه له
وسكن فيه وركب في ثاني يومٍ وشقَّ في المدينة والمهندسون قدامه، ولم يزل يتأمَّل
حتى أعجَبَه مكان فقال: هذا المكان طيِّبٌ. فأخْرَجُوا صاحبه منه وأحضروه إلى
الملك، فأعطاه ثمن مكانه زيادةً على ما يرضيه، ودارت فيه البناية وصار أبو قير
يقول للبنَّائين: ابنوا كذا وكذا، وافعلوا كذا وكذا. حتى بنوا له مصبغةً ليس لها
نظيرٌ، ثم حضر إلى الملك وأخبره بأن المصبغة تمَّ بناؤها، وإنما يحتاج لثمنٍ من
أجل إدارتها، فقال له الملك: خذ هذه الأربعة آلاف دينار واجعلها رأسَ مالٍ،
وأَرِني ثمرةَ مصبغتك. فأخذها ومضى إلى السوق، فرأى النيلة كثيرة، وليس لها ثمن،
فاشترى جميعَ ما يحتاج إليه من حوائج الصباغة، ثم إن الملك أرسَلَ إليه خمسمائة
شقة من القماش، فدوَّرَ الصبغ فيها وصبغها من سائر الألوان، ثم نشرها قدام باب
المصبغة، فلما مرَّ الناس عليها رأوا شيئًا عجيبًا عمرهم ما رأوا مثله، فازدحمت
الخلائق على باب المصبغة، وصاروا يتفرَّجون ويسألونه ويقولون له: يا معلم، ما اسم
هذه الألوان؟ فيقول لهم: هذا أحمر، وهذا أصفر، وهذا أخضر … ويذكر لهم أسامي
الألوان، فصاروا يأتونه بشيءٍ من القماش ويقولون له: اصبغ لنا مثل هذا وهذا، وخذ
ما تطلب. ولما فرغ من صبغ قماش الملك، أخذه وطلع به إلى الديوان، فلما رأى الملك
ذلك الصبغ فرح به وأنعَمَ عليه إنعامًا زائدًا، وصار جميعُ العسكر يأتون إليه
بالقماش ويقولون له: اصبغ لنا هكذا. فيصبغ لهم على أغراضهم ويرمون عليه بالذهب
والفضة، ثم إنه شاع ذكره وسُمِّيت مصبغته مصبغة السلطان، ودخل عليه الخيرُ من كل
باب، وجميع الصبَّاغين لم يقدر أحدٌ منهم أن يتكلَّمَ معه، وإنما كانوا يأتونه
ويقبِّلون يدَيْه ويعتذرون إليه مما سبق منهم في حقِّه، ويعرضون أنفسهم عليه
ويقولون له: اجعلنا خَدَمًا عندك. فلم يرْضَ أن يقبل واحدًا منهم، وصار عنده عبيدٌ
وجوارٍ، وجمع مالًا كثيرًا.
هذا
ما كان من أمر أبي قير، وأما ما كان من أمر أبي صير، فإنه لما قفل عليه أبو قير
باب الحجرة بعد أن أخذ دراهمه، وراح وخلاه وهو مريض غائب عن الوجود، فصار مرمِيًّا
في تلك الحجرة والباب مقفول عليه، واستمرَّ كذلك ثلاثة أيام، فانتبَهَ بوَّاب
الخان إلى باب الحجرة، فرآه مقفولًا ولم يَرَ أحدًا من هذين الاثنين إلى المغرب،
ولم يعلم لهما خبرًا، فقال في نفسه:
لعلهما
سافَرَا ولم يدفعَا أجرةَ الحجرة، أو ماتَا أو ما خبرهما؟ ثم إنه أتى إلى باب
الحجرة فرآه مقفولًا، وسمع أنينَ المزيِّن في داخلها، ورأى المفتاح في الضبة، ففتح
الباب ودخل، فرأى المزيِّن يَئِنُّ، فقال له: لا بأس عليك، أين رفيقك؟ فقال له:
والله إني ما أفقتُ من مرضي إلا في هذا اليوم، وصرتُ أنادي وما أحد يردُّ عليَّ
جوابًا، بالله عليك يا أخي أن تنظر الكيس تحت رأسي، وتأخذ منه خمسةَ أنصاف وتشتري
لي بها شيئًا أقتاتُ به، فإني في غاية الجوع. فمدَّ يده وأخذ الكيس فرآه فارغًا،
فقال للمزيِّن: إن الكيس فارغ ما فيه شيء. فعرف أبو صير المزيِّن أن أبا قير أخذ
ما فيه وهرب، فقال له: أَمَا رأيتَ رفيقي؟ فقال له: من مدة ثلاثة أيام ما رأيتُه،
وما كنتُ أظن إلا أنك سافرتَ أنت وإياه. فقال له المزين: ما سافرنا، وإنما طمع في
فلوسي فأخذها وهرب حين رآني مريضًا. ثم إنه بكى وانتحب، فقال له بواب الخان: لا
بأس عليك، وهو يَلقَى فعله من الله.
ثم
إن بوَّاب الخان راح وطبخ له شوربةً، وغرف له صحنًا وأعطاه إياه، ولم يزل يتعهَّده
مدةَ شهرين وهو يكلفه من كيسه حتى عرق وشفاه الله من المرض الذي كان به، ثم قام
على أقدامه وقال لبواب الخان: إن أقدرني الله تعالى جازيتُكَ على ما فعلتَ من
الخير، ولكن لا يجازي إلا الله من فضله. فقال له بواب الخان: الحمد لله على
العافية، أنا ما فعلتُ معك ذلك إلا ابتغاءَ وجه الله الكريم. ثم إن المزيِّنَ خرج
من الخان وشقَّ في الأسواق، فأتت به المقادير إلى السوق الذي فيه مصبغةُ أبي قير،
فرأى الأقمشة ملوَّنة بالصباغ منشورة في باب المصبغة، والخلائق مزدحمة يتفرجون
عليها، فسأل رجلًا من أهل المدينة وقال له: ما هذا المكان؟ وما لي أرى الناسَ
مزدحمين؟ فقال له المسئول: إن هذه مصبغة السلطان التي أنشأها لرجلٍ غريب اسمه أبو
قير، وكلما صبغ ثوبًا نجتمع عليه ونتفرَّج على صبغه؛ لأن بلادنا ما فيها صبَّاغون
يعرفون صبغ هذه الألوان، وجرى له مع الصبَّاغين الذين في البلد ما جرى، وأخبره بما
جرى بين أبي قير وبين الصبَّاغين، وأنه شكاهم إلى السلطان، فأخذ بيده وبنى له هذه
المصبغة وأعطاه كذا وكذا، وأخبره بكل ما جرى، ففرح أبو صير وقال في نفسه: الحمد
لله الذي فتح عليه وصار معلمًا، والرجل معذور لعله التهى عنك بالصنعة ونسيك، ولكن
أنت عملت معه معروفًا وأكرمته وهو بطَّال، فمتى رآك فَرِحَ بك وأكرمك في نظيرِ ما
أكرمتَه. ثم إنه تقدَّمَ إلى جهة باب المصبغة، فرأى أبا قير جالسًا على مرتبة
عالية فوق مصطبة في باب المصبغة، وعليه بدلة من ملابس الملوك، وقدامه أربعة عبيد
وأربعة مماليك بيض لابسين أفخر الملابس، ورأى الصنائعية عشرة عبيد واقفين يشتغلون؛
لأنه حين اشتراهم علَّمهم صنعة الصباغة، وهو قاعد بين المخدات كأنه وزير أعظم أو
ملك أفخم، لا يعمل شيئًا بيده، وإنما يقول لهم افعلوا كذا وكذا، فوقف أبو صير
قدامه وهو يظن أنه إذا رآه يفرح به ويسلِّم عليه ويكرمه ويأخذ بخاطره، فلما وقعَتِ
العينُ في العين، قال له أبو قير: يا خبيث، كم مرة وأنا أقول لك لا تقف في باب هذا
الدولاب؟ هل مرادك أن تفضحني مع الناس يا حرامي؟ أمسكِوه. فجرت خلفه العبيد وقبضوا
عليه، وقام أبو قير على حيله وأخذ عصًا وقال: ارموه. فرموه فضربه على ظهره مائة،
ثم قلبوه فضربه على بطنه مائة وقال له: يا خبيث يا خائن، إنْ نظرتُكَ بعد هذا
اليوم واقفًا على باب هذه المصبغة، أرسلتُكَ إلى الملك في الحال فيسلِّمك إلى
الوالي ليرمي عنقك، امشِ لا بارَكَ الله لك. فذهب من عنده مكسورَ الخاطر بسبب ما
حصل له من الضرب والترذيل، فقال الحاضرون لأبي قير الصبَّاغ: أي شيء عمل هذا
الرجل؟ فقال لهم: إنه حرامي يسرق أقمشةَ الناس. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن
الكلام المباح.
﴿اللیلة 935﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن أبا قير ضرب أبا صير وطرده وقال للناس: إن هذا حرامي
يسرق أقمشةَ الناس، فإنه سرق مني كم مرة من القماش، وأنا أقول في نفسي سامَحَه
الله فإنه رجل فقير، ولم أرْضَ أن أشوِّشَ عليه، وأعطي الناس ثمنَ أقمشتهم وأنهاه
بلطفٍ فلم ينتهِ، فإن رجع مرةً غير هذه المرة أرسلتُه إلى الملك، فيقتله ويريح
الناس من أذاه، فصار الناس يشتمونه بعد ذهابه. هذا ما كان من أمر أبي قير، وأما ما
كان من أمر أبي صير، فإنه رجع إلى الخان وجلس يتفكَّر فيما فعل به أبو قير، ولم
يزل جالسًا حتى برد عليه الضرب، ثم خرج وشقَّ في أسواق المدينة، فخطر بباله أن
يدخل الحمَّام، فسأل رجلًا من أهل المدينة وقال له: يا أخي، من أين طريق الحمَّام؟
فقال: وما يكون الحمَّام؟ فقال له: موضع تغتسل فيه الناس ويزيلون ما عليهم من
الأوساخ، وهو من أطيب طيبات الدنيا. فقال له: عليك بالبحر. قال: أنا مرادي
الحمَّام. قال له: نحن لم نعرف الحمَّام، كيف يكون؟ فإننا كلنا نروح إلى البحر حتى
الملك إذا أراد أن يغتسل فإنه يروح إلى البحر. فلما علم أبو صير أن المدينة ليس
فيها حمَّامًا وأهلها لا يعرفون الحمام ولا كيفيته، مضى إلى ديوان الملك ودخل عليه
وقبَّلَ الأرض بين يدَيْه ودعَا له وقال له: أنا رجل غريب البلاد وصنعتي حمَّامي،
فدخلتُ مدينتك وأردتُ الذهاب إلى الحمَّام، فما رأيتُ فيها ولا حمَّامًا واحدًا،
والمدينة التي تكون بهذه الصفة الجميلة كيف تكون من غير حمَّام؟ مع أنه من أحسن
نعيم الدنيا. فقال له الملك: أي شيء يكون الحمَّام؟ فصار يحكي له أوصاف الحمَّام
وقال له: لا تكون مدينتك كاملةً إلا إذا كان بها حمَّام. فقال له الملك: مرحبًا
بك. وألبسه بدلهً ليس لها نظير، وأعطاه حصانًا وعبدين، ثم أنعَمَ عليه بأربع جوارٍ
ومملوكين، وهيَّأ له دارًا مفروشة وأكرمه أكثر من الصبَّاغ، وأرسل معه البنَّائين
وقال لهم: الموضع الذي يعجبه ابنوا له فيه حمَّامًا. فأخذهم وشقَّ بهم في وسط
المدينة حتى أعجبه مكان، فأشار لهم عليه فدوَّروا فيه البناية، وصار يرشدهم إلى
كيفيته حتى بنوا له حمَّامًا ليس له نظير، ثم أمرهم بنقشه فنقشوه نقشًا عجيبًا حتى
صار بهجةً للناظرين، ثم طلع إلى الملك وأخبره بفراغ بناء الحمام ونقشه، وقال له:
إنه ليس ناقصًا غير الفرش. فأعطاه الملك عشرة آلاف دينار، فأخذها وفرش الحمَّامَ
وصَفَّ فيه الفوط على الحبال، وصار كلُّ مَن مرَّ على باب الحمَّام يشخص له ويحتار
فكره في نقشه، وازدحمت الخلائق على ذلك الشيء الذي ما رأوا مثله في عمرهم، وصاروا
يتفرجون عليه ويقولون: أي شيء هذا؟ فيقول لهم أبو صير: هذا حمَّام. فيتعجبون منه،
ثم إنه سخَّن الماء ودوَّر الحمَّام وعمل سلسبيلًا في الفسقية يأخذ عقلَ كلِّ مَن
رآه من أهل المدينة، وطلب من الملك عشرة مماليك دون البلوغ، فأعطاه عشرة مماليك
مثل الأقمار، فصار يكيسهم ويقول لهم: افعلوا مع الزبائن هكذا. ثم أطلق البخورَ
وأرسَلَ مناديًا ينادي في المدينة ويقول: يا خلق الله، عليكم بالحمَّام، فإنه
يُسمَّى حمَّام السلطان. فأقبلت عليه الخلائق وجعل يأمر المماليك أن يغسلوا أجساد
الناس، وصار الناس ينزلون المغطس ويطلعون، وبعد طلوعهم يجلسون في الليوان
والمماليك تكبِّسهم مثل ما علَّمهم أبو صير، واستمرَّ الناس يدخلون الحمام ويقضون
حاجتهم منه، ثم يخرجون بلا أجرةٍ مدةَ ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع عزم الملك على
الذهاب إلى الحمَّام، فركب هو وأكابر دولته وتوجَّهوا إلى الحمَّام، فقلع ودخل،
فدخل أبو صير وكبَّسَ الملك، وأخرَجَ من جسده الوسخ مثل الفتائل، وصار يُرِيه له،
ففرح الملك وصار لوضْعِ يده على بدنه صوتٌ من النعومة والنظافة، وبعد أن غسل جسده
مزَجَ له ماءَ الورد بماء المغطس، فنزل الملك في المغطس، ثم خرج وجسده قد ترطَّبَ
فحصل له نشاطٌ عمره ما رآه، ثم بعد ذلك أجلَسَه في الليوان وصار المماليك
يكبِّسونه والمباخر تفوح بالعود الند، فقال الملك: يا معلم، أهذا هو الحمَّام؟
قال: نعم. فقال له: وحياة رأسي إن مدينتي ما صارت مدينة إلا بهذا الحمَّام. ثم قال
له: أنت تأخذ على كل رأسٍ أي شيء أجرة؟ قال أبو صير: الذي تأمر لي به آخذه. فأمر
له بألف دينار، وقال له: كلَّ مَن اغتسل عندك خذ منه ألف دينار. فقال: العفو يا
ملك الزمان، إن الناس ليسوا سواء، بل فيهم الغني وفيهم الفقير، وإذا أخذتُ من كل
واحد ألفَ دينار يبطل الحمَّام، فإن الفقير لا يقدر على الألف دينار. قال الملك:
وكيف تفعل في الأجرة؟ قال: اجعل الأجرة بالمروءة؛ فكلُّ مَن يقدر على شيء وسمحَتْ
به نفسه يعطيه، فنأخذ من كلِّ إنسان على قدر حاله، فإن الأمر إذا كان كذلك تأتي
إلينا الخلائق، والذي يكون غنيًّا يعطي على قدر مقامه، والذي يكون فقيرًا يعطي على
قدر ما تسمح به نفسه، فإذا كان الأمر كذلك يدور الحمَّام ويبقى له شأن عظيم، وأما
الألف دينار فإنها عطية الملك، ولا يقدر عليها كل أحدٍ. فصدَّقَ عليه أكابر الدولة
وقالوا: هذا هو الحق يا ملك الزمان، أتحسب أن الناس كلهم مثلك أيها الملك العزيز؟
قال الملك: إن كلامكم صحيح، ولكن هذا رجل غريب فقير، وإكرامه واجب علينا، فإنه عمل
في مدينتنا هذا الحمَّام الذي عمرنا ما رأينا مثله، ولا تزيَّنَتْ مدينتنا وصار
لها شأن إلا به، فإذا أكرمناه بزيادة الأجرة ما هو كثير. فقالوا: إذا كنتَ تكرمه
فأكرمه من مالك، وإكرام الفقير من الملك بقلة أجرة الحمَّام لأجل أن تدعو لك
الرعية، وأما الألف دينار فنحن أكابر دولتك ولا تسمح أنفسنا بإعطائها، فكيف تسمح
بذلك نفوس الفقراء؟ فقال الملك: يا أكابر دولتي، كلٌّ منكم يعطيه في هذه المرة
مائة دينار ومملوكًا وجارية وعبدًا. فقالوا: نعم نعطيه ذلك، ولكن بعد هذا اليوم
كلُّ مَن دخل لا يعطيه إلا ما تسمح به نفسه. فقال: لا بأس بذلك. فجعل الأكابر
يعطيه كلُّ واحدٍ منهم مائة دينار وجارية ومملوكًا وعبدًا، وكان عدد الأكابر الذين
اغتسلوا مع الملك في هذا اليوم أربعمائة نفس. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن
الكلام المباح.
﴿اللیلة 936﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أنه كان عدد الأكابر الذين اغتسلوا مع الملك في ذلك
اليوم أربعمائة نفس، فصار جملة ما أعطوه من الدنانير أربعين ألف دينار، ومن
المماليك أربعمائة مملوك، ومن العبيد أربعمائة عبد، ومن الجواري أربعمائة جارية،
وناهيك بهذه العطية، وأعطاه الملك عشرة آلاف دينار، وعشرة مماليك، وعشر جواري،
وعشرة عبيد، فتقدَّمَ أبو صير وقبَّلَ الأرض بين أيادي الملك، وقال له: أيها الملك
السعيد صاحب الرأي الرشيد، أي مكان يسعني بهذه المماليك والجواري والعبيد؟ فقال له
الملك: أنا ما أمرتُ دولتي بذلك إلا لأجل أن تجمع لك مقدارًا عظيمًا من المال؛
لأنك ربما تفكَّرْتَ بلادك وعيالك، واشتقتَ إليهم وأردتَ السفرَ إلى أوطانك، فتكون
أخذتَ من بلادنا مقدارًا جسيمًا من المال تستعين به على وقتك في بلادك. قال: يا
ملك الزمان أعزَّك الله، إن هذه المماليك والجواري والعبيد الكثيرة شأن الملوك،
ولو كنتَ أمرتَ لي بمال نقد لَكان خيرًا لي من هذا الجيش، فإنهم يأكلون ويشربون
ويلبسون، ومهما حصَّلته من المال لا يكفيهم في الإنفاق عليهم. فضحك الملك وقال:
والله إنك قد صدقتَ، فإنهم صاروا عسكرًا جرَّارًا، وأنت ليس لك مقدرة على الإنفاق
عليهم، ولكن أتبيعهم لي كلَّ واحدٍ بمائة دينار؟ فقال: بعتك إياهم بهذا الثمن.
فأرسَلَ الملك إلى الخازندار ليحضر له المال، فأحضره وأعطاه ثمنَ الجميع بالتمام
والكمال، ثم بعد ذلك أنعَمَ بهم على أصحابهم، وقال: كلُّ مَن يعرف عبده أو جاريته
أو مملوكه، فَلْيأخذه فإنهم هدية إليكم. فامتثلوا أمر الملك وأخذ كلُّ واحدٍ منهم
ما يخصُّه، فقال له أبو صير: أراحَكَ الله يا ملك الزمان كما أرحتني من هؤلاء
الغيلان، الذين لا يقدر أن يُشبِعَهم إلا الله. فضحك الملك من كلامه وصدَّقَ عليه،
ثم أخذ أكابر دولته وذهب من الحمام إلى سرايته، وبات تلك الليلة أبو صير وهو يصرد
الذهب ويضعه في الأكياس ويختم عليه، وكان عنده عشرون عبدًا وعشرون مملوكًا وأربعُ
جوارٍ برسم الخدمة، فلما أصبَحَ الصباح فتح الحمَّام وأرسَلَ مناديًا ينادي ويقول:
كلُّ مَن دخل الحمَّام واغتسل، فإنه يعطي ما تسمح به نفسه وما تقتضيه مروءته. وقعد
أبو صير عند الصندوق وهجمَتْ عليه الزبائن، وصار كلُّ مَن طلع يحطُّ الذي يهون
عليه، فما أمسى المساء حتى امتلأ الصندوق من خير الله تعالى.
ثم
إن الملكة طلبَتْ دخولَ الحمام، فلما بلغ أبا صير ذلك، قسم النهار من أجلها قسمَيْن،
وجعل من الفجر إلى الظهر قسم الرجال، ومن الظهر إلى المغرب قسم النساء، ولما أتَتِ
الملكة أوقف جاريةً خلف الصندوق، وكان علَّمَ أربعَ جوارٍ البلانة حتى صرن بلانات
ماهرات، فلما دخلت الملكة أعجبها ذلك وانشرح صدرها، وحطت ألف دينار، وشاع ذكره في
المدينة، وصار كلُّ مَن دخل يُكرِمه سواء كان غنيًّا أو فقيرًا، فدخل عليه الخير
من كل باب، وتعرَّفَ بأعوان الملك، وصار له أصحابٌ وأحبابٌ، وصار الملك يأتي إليه
في الجمعة يومًا ويعطيه ألفَ دينار، وبقية أيام الجمعة للأكابر والفقراء، وصار
يأخذ بخاطر الناس ويلاطفهم غايةَ الملاطفة، فاتفق أنَّ قبطان الملك دخل عليه في
الحمَّام يومًا من الأيام، فقلع أبو صير ودخل معه وصار يكبِّسه ولاطَفَه ملاطفةً
زائدةً، ولما خرج من الحمَّام عمل له الشربات والقهوة، فلما أراد أن يعطيه شيئًا
حلف أنه لا يأخذ منه شيئًا، فحمل القبطان جميله لما رأى من مزيدِ لطفه به وإحسانه
إليه، وصار متحيِّرًا فيما يهديه إلى ذلك الحمَّامي في نظير إكرامه له.
هذا
ما كان من أمر أبي صير، وأما ما كان من أمر أبي قير، فإنه سمع جميعَ الخلائق
يلهجون بذكر الحمَّام، وكلٌّ منهم يقول: إن هذا الحمَّام نعيم الدنيا بلا شك، إن
شاء الله يا فلان تدخل بنا غدًا هذا الحمَّام النفيس. فقال أبو قير في نفسه: لا بد
أن أروح مثل الناس، وأنظر هذا الحمَّام الذي أخذ عقولَ الناس. ثم إنه لبس أفخرَ ما
كان عنده من الملابس، وركب بغلةً وأخذ معه أربعةَ عبيد وأربعةَ مماليك يمشون خلفه
وقدامه، وتوجَّهَ إلى الحمَّام، ثم إنه نزل في باب الحمَّام، فلما صار عند الباب
شمَّ رائحة العود والند، ورأى ناسًا داخلين وناسًا خارجين، ورأى المساطب ملآنة من
الأكابر والأصاغر، فدخل الدهليزَ فرآه أبو صير، فقام إليه وفرح به، فقال له أبو
قير: هل هذا شرط أولاد الحلال؟ وأنا فتحتُ لي مصبغةً وبقيت معلِّمَ البلد،
وتعرَّفْتُ بالملك وصرتُ في سعادةٍ وسيادةٍ، وأنت لا تأتي عندي ولا تسأل عني، ولا
تقول أين رفيقي؟ وأنا عجزتُ وأنا أفتش عليك وأبعث عبيدي ومماليكي يفتِّشون عليك في
الخانات وفي سائر الأماكن، فلا يعرفون طريقك، ولا أحد يخبرهم بخبرك. فقال له أبو
صير: أَمَا جئتُ إليك وجعلتني لصًّا وضربتني وهتكتني بين الناس؟ فاغتمَّ أبو قير
وقال: أي شيء هذا الكلام؟ هل هو أنت الذي ضربتك؟ فقال أبو صير: نعم هو أنا. فحلف
له أبو قير ألف يمين أنه ما عرفه، وقال: إنما كان واحد شبيهك يأتي في كلِّ يوم
ويسرق قماشَ الناس، فظننتُ أنك هو. وصار يتندَّم ويضرب كفًّا على كفٍّ ويقول: لا
حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، قد أسأناك، ولكن يا ليتك عرَّفتني بنفسك
وقلتَ أنا فلان، فالعيب عندك لكونك لم تعرِّفني بنفسك، خصوصًا وأنا مدهوش من كثرة
الأشغال. فقال له أبو صير: سامَحَك الله يا رفيقي، وهذا الشيء كان مقدَّرًا في
الغيب والجبر على الله، ادخل اقلع ثيابك واغتسل وانبسط. فقال له: بالله عليك أن
تسامحني يا أخي. فقال له: أبرأ الله ذمتك وسامَحَك، فإنه كان أمرًا مقدَّرًا عليَّ
في الأزل. ثم قال له أبو قير: ومن أين لك هذه السيادة؟ فقال له: الذي فتح عليك فتح
عليَّ، فإني طلعتُ إلى الملك وأخبرتُه بشأن الحمَّام، فأمر لي ببنائه. فقال له أبو
قير: وكما أنك معرفة الملك فأنا الآخر معرفته. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن
الكلام المباح.
﴿اللیلة 937﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن أبا قير لما تعاتب هو وأبو صير قال له: كما أنت معرفة
الملك أنا الآخَر معرفته، وإن شاء الله تعالى أنا أخليه يحبك ويكرمك زيادةً على
هذا الإكرام من أجلي، فإنه لم يعرف أنك رفيقي، فأنا أعرِّفه بأنك رفيقي وأوصيه
عليك. فقال له: ما أحتاج إلى وصية، فإن المحنن موجود، وقد أحَبَّني الملك هو وجميع
دولته، وأعطاني كذا وكذا وأخبره بالخبر. ثم قال له: اقلع ثيابك خلف الصندوق وادخل
الحمام، وأنا أدخل معك لأجل أن أكبِّسك. فخلع ما عليه ودخل الحمام ودخل معه أبو
صير وكبَّسه وصبَّنه وألبسه واشتغل به حتى خرج، فلما خرج أحضَرَ له الغداءَ
والشربات، وصار جميع الناس يتعجَّبون من كثرة إكرامه له، ثم بعد ذلك أراد أبو قير
أن يعطيه شيئًا، فحلف أنه لا يأخذ منه شيئًا وقال له: استحِ من هذا الأمر وأنت
رفيقي وليس بيننا فرق. ثم إن أبا قير قال لأبي صير: يا رفيقي، والله إن هذا
الحمَّام عظيم، ولكن صنعتك فيه ناقصة. فقال له: وما نقصها؟ فقال له: الدواء الذي
هو عقد الزرنيخ والجير الذي يزيل الشعر بسهولة، فاعمل هذا الدواء، فإذا أتى الملك
فقدِّمه إليه وعلِّمه كيف يُسقِط به الشعر، فيحبك حبًّا شديدًا ويكرمك. فقال له:
صدقتَ، إن شاء الله أصنع ذلك. ثم إن أبا قير خرج وركب بغلته وذهب إلى الملك ودخل
عليه وقال له: أنا ناصح لكَ يا ملك الزمان. فقال له: وما نصيحتك؟ فقال: بلغني خبر
وهو أنك بنيتَ حمامًا. قال: نعم، قد أتاني رجل غريب فأنشأتُه له كما أنشأتُ لكَ
هذه المصبغة، وهو حمام عظيم، وقد تزيَّنَتْ مدينتي به. وصار يذكر له محاسنَ ذلك
الحمام، فقال له أبو قير: وهل دخلْتَه؟ قال: نعم. قال: الحمد لله الذي نجَّاكَ من
شرِّ هذا الخبيث عدو الدين وهو الحمَّامي. فقال له الملك: وما شأنه؟ قال أبو قير:
اعلم يا ملك الزمان أنك إنْ دخلتَه بعد هذا اليوم فإنك تهلك. فقال له: لأي شيء؟
فقال له: إن الحمامي عدوُّكَ وعدو الدين، فإنه ما حملك على إنشاء هذا الحمام إلا
لأن مراده أن يُدخِل عليك فيه السمَّ، فإنه صنع لك شيئًا، وإذا دخلتَه يأتيك به
ويقول لك: هذا دواءٌ، كلُّ مَن دهن به تحته يرمي الشعر منه بسهولة، وليس هو بدواء
بل هو داء عظيم وسمٌّ قاتل، وإن هذا الخبيث قد وعده سلطان النصارى أنه إنْ قتَلَكَ
يفكُّ له زوجته وأولاده من الأسر، فإن زوجته وأولاده مأسورون عند سلطان النصارى،
وكنتُ مأسورًا معه في بلادهم، ولكن أنا فتحتُ مصبغةً وصبغت لهم ألوانًا فاستعطفوا
عليَّ قلبَ الملك، فقال لي الملك: أي شيء تطلب؟ فطلبتُ منه العتق، فأعتقني وجئتُ
إلى هذه المدينة ورأيتُه في الحمَّام، فسألته وقلتُ له: كيف كان خلاصك وخلاص زوجتك
وأولادك؟ فقال: لم أَزَلْ أنا وزوجتي وأولادي مأسورين، حتى إنَّ ملك النصارى عمل
ديوانًا، فحضرتُ في جملةِ مَن حضر وكنتُ واقفًا من جملة الناس، فسمعتهم فتحوا
مذاكرة الملوك إلى أن ذكروا ملك هذه المدينة، فتأوَّهَ ملك النصارى وقال: ما قهرني
في الدنيا إلا ملك المدينة الفلانية، فكلُّ مَن تحيَّلَ لي على قتله، فإني أعطيه
كلَّ ما يتمنَّى. فتقدَّمْتُ أنا إليه وقلتُ له: إذا تحيَّلْتُ لك على قتله هل
تعتقني أنا وزوجتي وأولادي؟ فقال لي: نعم، أعتقكم وأعطيك كلَّ ما تتمنَّى. ثم إني
اتفقتُ أنا وإياه على ذلك، وأرسلني في غليون إلى هذه المدينة، وطلعت إلى هذا الملك
فبنى لي هذا الحمَّامَ، وما بقي عليَّ إلا أن أقتله وأروح إلى ملك النصارى وأفدي
أولادي وزوجتي وأتمنَّى عليه. فقلتُ: وما الحيلة التي دبَّرْتَها في قتله حتى
تقتله؟ قال لي: هي حيلة سهلة أسهل ما يكون، فإنه يأتي إليَّ في هذا الحمام، وقد
اصطنعتُ له شيئًا فيه سمٌّ، فإذا جاء أقول له: خذ هذا الدواء وادهن به تحتك، فإنه
يُسقِط الشعر. فيأخذه ويدهن به تحته فيلعب السمُّ فيه يومًا وليلة، حتى يسري إلى
قلبه فيهلكه والسلام. فلما سمعتُ منه هذا الكلام خفتُ عليك؛ لأن خيرك عليَّ، وقد
أخبرتُكَ بذلك.
فلما
سمع الملك هذا الكلام غضب غضبًا شديدًا وقال للصباغ: اكتمْ هذا السر. ثم طلب
الرواح إلى الحمَّام حتى يقطع الشك باليقين، فلما دخل الملك الحمَّام تعرَّى أبو
صير على جري عادته، وتقيَّدَ بالملك وكبَّسه، وبعد ذلك قال له: يا ملك الزمان، إني
عملتُ دواءً لتنظيف الشعر التحتاني. فقال له: أحضره لي. فأحضره بين يدَيْه فرأى
رائحته كريهة، فصحَّ عنده أنه سمٌّ، فغضب وصاح على الأعوان وقال: أمسكوه. فقبض
عليه الأعوان وخرج الملك وهو ممتزج بالغضب، ولا أحد يعرف سبب غضبه، ومن شدة غضب
الملك لم يخبر أحدًا ولم يتجاسر أحدٌ على أن يسأله. ثم إنه لبس وطلع الديوان، ثم
أحضَرَ أبا صير بين يدَيْه وهو مكتَّفٌ، ثم طلب القبطان فحضر، فلما حضر القبطان
قال له الملك: خذ هذا الخبيث وحطَّه في زكيبة، وحط في الزكيبة قنطارين جيرًا من
غير طفي، واربط فمها عليه هو والجير، ثم ضعها في الزورق وتعال تحت قصري، فتراني
جالسًا في شبَّاكه، وقُلْ لي: هل أرميه؟ فأقول لك: ارمه. فإذا قلتُ لك ذلك فارْمِه
حتى ينطفئ الجير عليه لأجل أن يموت غريقًا حريقًا. فقال: سمعًا وطاعة. ثم أخذه من
قدام الملك إلى جزيرة قُبالَ قصر الملك، وقال لأبي صير: يا هذا، أنا جئتُ عندك مرة
واحدة في الحمَّام فأكرمتني، وقمت بواجبي وانبسطت منك كثيرًا، وحلفتَ أنك لم تأخذ
مني أجرة، وأنا قد أحببتُك محبةً شديدةً، فأخبرني ما قضيتك مع الملك؟ وأي شيء
صنعتَ معه من المكاره حتى غضب عليك وأمرني أن تموت هذه الموتة الرديئة؟ فقال له:
والله ما عملتُ شيئًا، وليس عندي علم بذنبٍ فعلتُه معه يستوجب هذا. وأدرك شهرزاد
الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 938﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن القبطان لما سأل أبا صير عن سبب غضب الملك عليه، قال
له: والله يا أخي ما عملتُ معه شيئًا قبيحًا يستوجب هذا. فقال له القبطان: إنَّ لك
عند الملك مقامًا عظيمًا ما ناله أحدٌ قبلك، وكل ذي نعمة محسود، فلعل أحدًا حسدك
على هذه النعمة ورمى في حقِّكَ بعضَ كلامٍ عند الملك، حتى إن الملك غضب عليك هذا
الغضب، ولكن مرحبًا بك وما عليك من بأس، فكما أنك أكرمْتَني من غير معرفةٍ بيني
وبينك، فأنا أخلِّصك، ولكن إذا خلصتُكَ تقيم عندي في هذه الجزيرة حتى يسافر من هذه
المدينة غليون إلى ناحية بلادك، فأرسلك معه. فقبَّلَ أبو صير يدَ القبطان وشكره
على ذلك، ثم إنه أحضر الجيرَ ووضعه في زكيبة ووضع فيها حجرًا كبيرًا قدر الرجل،
وقال: توكَّلْتُ على الله. ثم إن القبطان أعطى أبا صير شبكةً وقال له: ارمِ هذه
الشبكةَ في البحر لعلك تصطاد شيئًا من السمك؛ لأن سمك مطبخ الملك مرتَّب عليَّ في
كل يوم، وقد اشتغلتُ عن الصيد بهذه المصيبة التي أصابَتْكَ، فأخاف أن تأتي غلمان
الطباخ ليطلبوا السمكَ فلا يجدوه، فإن كنتَ تصطاد شيئًا فإنهم يجدونه حتى أروح
أعمل الحيلةَ تحت القصر، وأجعل أني رميتك. فقال له أبو صير: أنا أصطاد ورُحْ أنت
والله يعينك. فوضع الزكيبة في الزورق، وسار إلى أن وصل تحت القصر، فرأى الملك
جالسًا في الشبَّاك، فقال: يا ملك الزمان هل أرميه؟ فقال له: ارْمِه. وأشارَ بيده،
وإذا بشيء برق، ثم سقط في البحر، وإذا بالذي سقط في البحر خاتم الملك، وكان
مرصودًا بحيث إذا غضب الملك على أحدٍ وأراد قتله يشير عليه باليد اليمنى التي فيها
الخاتم، فيخرج من الخاتم بارقة فتصيب الذي يشير عليه، فيقع رأسه من بين كتفَيْه،
وما أطاعته العساكر ولا قهر الجبابرة إلا بسبب هذا الخاتم، فلما وقع الخاتم من
إصبعه كتم أمره ولم يقدر أن يقول خاتمي وقع في البحر؛ خوفًا من العسكر أن يقوموا
عليه فيقتلوه، فسكَتَ.
هذا
ما كان من أمر الملك، وأما ما كان من أمر أبي صير، فإنه بعد ذهاب القبطان أخذ
الشبكة وطرحها في البحر وسحبها، فطلعت ملآنة سمكًا، ثم طرحها ثانيةً فطلعت ملآنة
سمكًا أيضًا، ولم يزل يطرحها وهي تطلع ملآنة سمكًا حتى صار قدامه كوم كبير من
السمك. فقال في نفسه: والله إن لي مدة طويلة ما أكلتُ السمك. ثم إنه نقَّى له
سمكةً كبيرةً سمينةً وقال: لما يأتي القبطان أقول له يقلي لي هذه السمكة لأتغذَّى
بها. ثم إنه ذبحها بسكين كانت معه، فعلقت السكين في نخشوشها، فرأى خاتمَ الملك
فيه؛ لأنها كانت ابتلعَتْه، ثم ساقَتْها القدرة إلى تلك الجزيرة، ووقعت في الشبكة،
فأخذ الخاتم ولبسه في خنصره وهو لا يعلم ما فيه من الخواص، وإذا بغلامين من خدام
الطباخ أتيَا لطلب السمك، فلما صارَا عند أبي صير قالَا: يا رجل، أين راح القبطان؟
فقال: لا أدري. وأشار بيده اليمنى، وإذا برأسي الغلامين وقعَا من بين أكتافهما حين
أشار إليهما وقال: لا أدري. فتعجب أبو صير من ذلك وجعل يقول: يا تُرَى مَن قتلهما؟
وصعبَا عليه وصار يتفكَّر في ذلك، وإذا بالقبطان أقبَلَ فرأى كومًا كبيرًا من
السمك، ورأى الاثنين مقتولين، ورأى الخاتم في إصبع أبي صير، فقال له: يا أخي، لا
تحرِّك يدك التي فيها الخاتم، فإنك إنْ حرَّكْتَها قتلتني. فتعجَّبَ من قوله لا
تحرِّك يدك التي فيها الخاتم، لأنك إن حرَّكتها قتلتني، فلما وصل له القبطان قال:
مَن قتل هذين الغلامين؟ قال له أبو صير: والله يا أخي لا أدري. قال: صدقتَ، ولكن
أخبرني عن هذا الخاتم من أين وصل إليك؟ قال: رأيتُه في نخشوش هذه السمكة. قال:
صدقتَ، فإني رأيتُه نازلًا يبرق من قصر الملك حتى سقط في البحر وقت أن أشارَ إليك
وقال لي: ارمه. فإنه لما أشار رميتُ الزكيبة، وكان سقط من إصبعه ووقع في البحر
فابتعلَتْه هذه السمكة، وساقها الله إليك حتى اصطدْتَها فهذا نصيبك، ولكن هل تعرف
خواص هذا الخاتم؟ قال أبو صير: لا أدري له خواصَّ. فقال القبطان: اعلم أن عسكر
ملكنا ما أطاعوه إلا خوفًا من هذا الخاتم؛ لأنه مرصود، فإذا غضب الملك على أحدٍ
وأراد قتله، يشير به عليه فيقع رأسه من بين كتفَيْه، فإن بارقةً تخرج من هذا
الخاتم ويتصل شعاعها بالمغضوب عليه فيموت لوقته. فلما سمع أبو صير هذا الكلام
فرِحَ فرحًا شديدًا، وقال للقبطان: ردَّني إلى المدينة. فقال له القبطان: أردُّكَ؛
فإني ما بقيتُ أخاف عليك من الملك، فإنك متى أشرتَ بيدك وأضمرت على قتله، فإن رأسه
تقع بين يديكَ، ولو كنتَ تطلب قتل الملك وجميع العسكر فإنك تقتلهم من غير عاقةٍ.
ثم أنزله في الزورق وتوجَّهَ به إلى المدينة. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن
الكلام المباح.
﴿اللیلة 939﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن القبطان لما أنزل أبا صير في الزورق توجَّهَ به إلى
المدينة، فلما وصل إليها طلع إلى قصر الملك، ثم دخل الديوان، فرأى الملك جالسًا
والعسكر بين يدَيْه وهو في غمٍّ عظيمٍ من شأن الخاتم، ولم يقدر أن يخبر أحدًا من
العسكر بضياع الخاتم، فلما رآه الملك قال له: أَمَا رميناكَ في البحر؟ كيف فعلتَ
حتى خرجتَ منه؟ فقال له: يا ملك الزمان، لما أمرتَ برميي في البحر، أخذني قبطانك
وسار بي إلى جزيرة، وسألني عن سبب غضبك عليَّ وقال لي: أيَّ شيء صنعتَ مع الملك
حتى أمر بموتك؟ فقلت له: والله ما أعلم أني عملتُ معه شيئًا قبيحًا. فقال لي: إنَّ
لك مقامًا عظيمًا عند الملك، فلعل أحدًا حسَدَكَ ورمى فيك كلامًا عند الملك حتى
غضب عليك، ولكن أنا جئتُكَ في حمَّامك فأكرمتني، ففي نظير إكرامك إياي في حمَّامك
أنا أخلِّصُكَ وأرسلك إلى بلادك. ثم حطَّ في الزورق حجرًا عوضًا عني ورماه في
البحر، ولكن حين أشرتَ له عليَّ وقع الخاتم من يدك في البحر، فابتلعَتْه سمكة
وكنتُ أنا في الجزيرة أصطاد سمكًا، فطلعَتْ تلك السمكة في جملة السمك، فأخذتها
وأردتُ أن أشويها، فلما فتحتُ جوفَها رأيتُ الخاتمَ فيه، فأخذتُه وجعلتُه في
إصبعي، فأتاني اثنان من خدَّام المطبخ وطلبَا السمك، فأشرت إليهما وأنا لا أدري
خاصيةَ الخاتم، فوقع رأساهما، ثم أتى القبطان فعرف الخاتم وهو في إصبعي، وأخبرني
برصده، فأتيتُ به إليك؛ لأنك عملتَ معي معروفًا وأكرمتني غاية الإكرام، وما عملتُه
معي من الجميل لم يضع عندي، وهذا خاتمك فخُذْه وإنْ كنتُ فعلتُ معك شيئًا يُوجِب
القتلَ، فعرِّفني بذنبي واقتلني، وأنت في حلٍّ من دمي. ثم خلع الخاتم من إصبعه
وناوَلَه للملك، فلما رأى الملك ما فعل أبو صير من الإحسان، أخذ الخاتم منه وتمتم
به، ورُدَّتْ له روحه، وقام على أقدامه واعتنق أبا صير، وقال: يا رجل، أنت من خواص
أولاد الحلال، فلا تؤاخذني وسامحني ممَّا صدر مني في حقِّكَ، ولو كان أحدٌ غيرك
ملك هذا الخاتم ما كان أعطاني إياه. فقال: يا ملك الزمان، إنْ أردتَ أن أسامحك
فعرِّفني بذنبي الذي أوجَبَ غضبك عليَّ حتى أمرتَ بقتلي. فقال له: والله إنه ثبت
عندي أنك بريء، وليس لك ذنب في شيء، حيث فعلتَ هذا الجميل، وإنما الصبَّاغ قد قال
لي كذا وكذا. وأخبره بما قاله الصبَّاغ، فقال له أبو صير: والله يا ملك الزمان،
أنا لا أعرف ملك النصارى ولا عمري رحتُ بلاد النصارى، ولا خطر ببالي أني أقتلك،
ولكن هذا الصبَّاغ كان رفيقي وجاري في مدينة إسكندرية، وضاق بنا العيش هناك،
فخرجنا منها لضيق المعاش وقرأنا مع بعضنا فاتحة على أن العامل يُطعِم البطَّال،
وجرى لي معه كذا وكذا. وأخبره بجميع ما قد جرى له مع أبي قير الصبَّاغ، وكيف أخذ
دراهمه وفاته ضعيفًا في الحجرة التي في الخان، وأن بوَّاب الخان كان ينفق عليه وهو
مريض حتى شفاه الله، ثم طلع وسرح في المدينة بعدَّتِه على العادة، فبينما هو في
الطريق إذا رأى مصبغةً عليها ازدحام، فنظر في باب المصبغة فرأى أبا قير جالسًا على
مصطبةٍ هناك، فدخل ليسلِّم عليه، فوقع له منه ما وقع من الضرب والإساءة، وادَّعَى
عليه أنه حرامي وضربه ضربًا مؤلمًا. وأخبر الملك بجميع ما جرى له من أوله إلى
آخِره، ثم قال: يا ملك الزمان، هو الذي قال لي اعمل الدواءَ وقدِّمْه للملك، فإن
الحمَّام كامل من جميع الأمور إلا أن هذا الدواء مفقود منه، واعلم يا ملك الزمان
أن هذا الدواء لا يضرُّ، ونحن نصنعه في بلادنا وهو من لوازم الحمَّام، وأنا كنتُ
نسيتُه، فلما أتاني الصبَّاغ وأكرمتُه ذكَّرني به وقال لي اعمل الدواء، وأرسِلْ يا
ملكَ الزمان هات بوَّاب الخان الفلاني وصنائعية المصبغة، واسأل الجميعَ عمَّا
أخبرتُكَ به. فأرسَلَ الملكُ إلى بوَّاب الخان وإلى صنائعية المصبغة، فلما حضر
الجميع سألهم فأخبروه بالواقع، فأرسل إلى الصبَّاغ وقال: هاتوه حافيًا مكشوف الرأس
مكتَّفًا، وكان الصبَّاغ جالسًا في بيته مسرورًا بقتل أبي صير، فلم يشعر إلا
وأعوان الملك هجموا عليه وأوقعوا الضرب في قفاه، ثم كتَّفوه وحضروا به قدام الملك،
فرأى أبا صير جالسًا في جنب الملك وبوَّاب الخان وصنائعية المصبغة واقفين أمامه،
فقال له بوَّاب الخان: أَمَا هذا رفيقك الذي سرقتَ دراهِمَه وتركْتَه عندي في
الحجرة ضعيفًا، وفعلتَ معه ما هو كذا وكذا. وقال له صنائعية المصبغة: أَمَا هذا
الذي أمرتنا بالقبض عليه وضربناه؟ فتبيَّنَ للملك قباحة أبي قير، وأنه يستحق ما هو
أشد من تشديد منكر ونكير، فقال الملك: خذوه وجرِّسوه في المدينة. وأدرك شهرزاد
الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 940﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك لما سمع كلامَ بوَّاب الخان وصنائعية المصبغة
تحقَّق عنده خبثُ أبي قير، فأقام عليه النكير، وقال لأعوانه: خذوه وجرِّسوه في
المدينة وحطُّوه في زكيبة وارموه في البحر. فقال أبو صير: يا ملك الزمان، شفِّعني
فيه، فإني سامحتُه من جميع ما فعل بي. فقال الملك: إنْ كنتَ سامحْتَه في حقِّك،
فأنا لا يمكن أن أسامحه في حقي. ثم صاح وقال: خذوه وجرِّسوه. وبعد ذلك وضعوه في
زكيبة ووضعوا معه الجير ورموه في البحر، فمات غريقًا حريقًا، وقال الملك: يا أبا
صير تمنَّ عليَّ تُعطَ. قال له: تمنَّيْتُ عليك أن تُرسِلني إلى بلادي، فإني ما
بقي لي رغبة في القعود ها هنا. فأعطاه شيئًا كثيرًا زيادة على ماله ونواله
ومواهبه، ثم أنعَمَ عليه بغليون مشحون بالخيرات، وكان بحريته مماليك، فوهبهم له
أيضًا، بعد أن عرض عليه أن يجعله وزيرًا فما رضي، ثم ودَّعَ الملك وسافَرَ وجميع
ما في الغليون ملكه، حتى النواتية مماليكه، وما زال سائرًا حتى وصل إلى أرض
إسكندرية، ورسوا على جانب إسكندرية وخرجوا إلى البر، فرأى مملوكٌ من مماليكه
زكيبةً في جانب البر، فقال: يا سيدي، إنَّ في جنب شاطئ البحر زكيبة كبيرة ثقيلة،
وفمها مربوط، ولا أدري ما فيها. فأتى أبو صير وفتَحَها، فرأى فيها أبا قير قد
دفَعَه البحر إلى جهة إسكندرية، فأخرَجَه ودفنه بالقرب من إسكندرية، وعمل له
مزارًا ووقف عليه أوقافًا، وكتب على باب الضريح هذه الأبيات:
الْمَرْءُ
يُعْرَفُ فِي الْأَنَامِ بِفِعْلِهِ
وَفَعَائِلُ الْحُرِّ الْكَرِيمِ كَأَصْلِهِ
لَا
تَسْتَغِبْ فَتُسْتَغَابُ فَرُبَّمَا
مَنْ قَالَ شَيْئًا قِيلَ فِيهِ بِمِثْلِهِ
وَتَجَنَّبِ
الْفَحْشَاءَ لَا تَنْطِقْ بِهَا مَا
دُمْتَ فِي جِدِّ الْكَلَامِ وَهَزْلِهِ
فَالْكَلْبُ
إِنْ حَفِظَ الْمَكَارِمَ يُقْتَنَى
وَغَدَا الْهِزَبْرُ مُسَلْسَلًا مِنْ جَهْلِهِ
وَالْبَحْرُ
تَعْلُو فَوْقَهُ جِيَفُ الْفَلَا وَالدُّرُّ
مَنْبُوذٌ بِأَسْفَلِ رَمْلِهِ
مَا
كَانَ عُصْفُورٌ يُزَاحِمُ بَاشِقًا
إِلَّا لِطَيْشَتِهِ وَخِفَّةِ عَقْلِهِ
فِي
الْجَوِّ مَكْتُوبٌ عَلَى صُحُفِ الْهَوَى
مَن يَفْعَلِ الْمَعْرُوفَ فَازَ بِمِثْلِهِ
إِيَّاكَ
تَجْنِي سُكَّرًا مِنْ حَنْظَلٍ فَالشَّيْءُ
يَرْجَعُ فِي الْمَذَاقِ لِأَصْلِهِ
ثم
إن أبا صير أقام مدةً وتوفَّاه الله، فدفنوه بجوار قبر رفيقه أبي قير، ومن أجل ذلك
سُمِّي هذا المكان بأبي قير وأبي صير، واشتهر الآن بأنه أبو قير، وهذا ما بلغنا من
حكايتهما، فسبحان الباقي على الدوام، وبإرادته تصرف الليالي والأيام.
ومما
يُحكَى أيضًا أنه كان رجلٌ صيَّاد اسمه عبد الله، وكان كثيرَ العيال، وله تسعة
أولاد وأمهم، وكان فقيرًا جدًّا لا يملك إلا الشبكة، وكان يروح كلَّ يومٍ إلى
البحر ليصطاد، فإذا اصطاد قليلًا يبيعه وينفقه على أولاده بقدر ما رزقه الله، وإنِ
اصطاد كثيرًا يطبخ طبخةً طيبةً ويأخذ فاكهةً، ولم يزل يصرفه حتى لا يبقى معه شيء
ويقول في نفسه: رزق غدٍ يأتي في غدٍ. فلما وضعَتْ زوجته صاروا عشرة أشخاص، وكان
الرجل في ذلك اليوم لا يملك شيئًا أبدًا، فقالت له زوجته: يا سيدي، انظر لي شيئًا
أتقوَّت به. فقال لها: ها أنا سارح على بركة الله تعالى إلى البحر في هذا اليوم
على بخت هذا المولود الجديد، حتى ننظر سعده. فقالت له: توكَّلْ على الله. فأخذ
الشبكة وتوجَّهَ إلى البحر، ثم إنه رمى الشبكة على بخت ذلك الطفل الصغير وقال:
اللهم اجعل رزقَه يسيرًا غير عسير، وكثيرًا غير قليل. وصبر عليها مدةً ثم سحبها،
فخرجَتْ ممتلئة عفشًا ورملًا وحصًى وحشيشًا، ولم يَرَ فيها شيئًا من السمك لا
كثيرًا ولا قليلًا، فرماها ثاني مرة وصبر عليها، ثم سحبها فلم يَرَ فيها سمكًا،
فرمى ثالثًا ورابعًا وخامسًا فلم يطلع فيها سمك، فانتقَلَ إلى مكانٍ آخَر وجعل
يطلب رزقه من الله تعالى، ولم يزل على هذه الحالة إلى آخِر النهار، فلم يصطد ولا
صِيرة، فعتجَّبَ في نفسه وقال: هل هذا المولود خلقه الله تعالى من غير رزقٍ؟ فهذا
لا يكون أبدًا؛ لأن الذي شقَّ الأشداق تكفَّلَ لها بالأرزاق، فالله تعالى كريم
رزَّاق. ثم إنه حمل الشبكة ورجع مكسورَ الخاطر وقلبه مشغول بعياله، فإنه تركهم
بغير أكل ولا سيما زوجته نفساء، وما زال يمشي وهو يقول في نفسه: كيف العمل؟ وماذا
أقول للأولاد في هذه الليلة؟ ثم إنه وصل قدام فرن خبَّاز، فرأى عليه زحمة، وكان
الوقت وقت غلاء، وفي تلك الأيام لا يوجد عند الناس من المئونة إلا قليل، والناس
يعرضون الفلوس على الخباز وهو لا ينتبه لأحدٍ منهم من كثرة الزحام، فوقف ينظر
ويشمُّ رائحةَ العيش السخن، فصارت نفسه تشتهيه من الجوع، فنظر إليه الخبَّاز وصاح
عليه وقال: تعال يا صياد. فتقدَّمَ إليه، فقال له: أتريد عيشًا؟ فسكَتَ، فقال له:
تكلَّمْ ولا تستحِ فالله كريم، إن لم يكن معك دراهم فأنا أعطيك وأصبر عليك حتى
يجيئَكَ الخيرُ. فقال له: يا معلم، ما معي دراهم، لكن أعطني عيشًا كفايةَ عيالي
وارهن عندك هذه الشبكة إلى غدٍ. فقال له: يا مسكين، إن هذه الشبكة دكانك وباب
رزقك، فإذا رهنتها بأي شيء تصطاد؟ فأخبرني بالقدر الذي يكفيك. قال: بعشرة أنصاف
فضة. فأعطاه خبزًا بعشرة أنصاف، ثم أعطاه عشرة أنصاف فضة وقال له: خُذْ هذه العشرة
أنصاف واطبخ لك بها طبخة، فيبقى عندك عشرون نصفَ فضة، وفي غدٍ هات لي بها سمكًا،
وإنْ لم يحصل لك شيء تعالَ خذ عيشك وعشرة أنصاف، وأنا أصبر عليك حتى يأتيك الخير.
وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 941﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الخباز قال للصياد: خذ ما تحتاج إليه وأنا أصبر عليك
حتى يأتيك الخير، وبعد ذلك هات بما أستحقه عندك سمكًا. فقال له: آجرك الله تعالى
وجزاك عني كل خير. ثم أخذ العيشَ والعشرة أنصاف فضة وراح مسرورًا، واشترى له ما
تيسَّرَ ودخل على زوجته، فرآها قاعدة تأخذ بخاطر الأولاد وهم يبكون من الجوع وتقول
لهم: في هذا الوقت يأتي أبوكم بما تأكلونه. فلما دخل عليهم حطَّ لهم العيش، فأكلوا
وأخبر زوجته بما حصل له، فقالت له: الله كريم. وفي ثاني يوم حمل شبكته وخرج من
داره وهو يقول: أسألك يا رب أن ترزقني في هذا اليوم بما يبيِّض وجهي مع الخباز.
فلما وصل إلى البحر صار يطرح الشبكة ويجذبها، فلم يخرج فيها سمك، ولم يزل كذلك إلى
آخِر النهار ولم يحصل شيء، فرجع وهو في غمٍّ عظيمٍ، وكان طريق بيته على فرن
الخباز، فقال في نفسه: من أين أروح إلى داري؟ ولكنْ أُسرِع خطاي حتى لا يراني
الخباز. فلما وصل إلى فرن الخباز رأى زحمة، فأسرَعَ في المشي من حيائه من الخباز
حتى لا يراه، وإذا بالخباز وقع بصره عليه فصاح وقال: يا صياد، تعال خذ عيشك
ومصروفك، فإنك نسيت. قال: لا والله ما نسيت، وإنما استحيتُ منك، فإني لم أصطد
سمكًا في هذا اليوم. فقال له: لا تستحِ، أَمَا قلتُ لك على مهلك حتى يأتيك الخير؟
ثم أعطاه العيش والعشرة أنصاف وراح إلى زوجته وأخبرها بالخبر، فقالت له: الله
كريم، إن شاء الله يأتيك الخير وتوفيه حقَّه. ولم يزل على هذه الحالة مدة أربعين
يومًا، وهو في كل يوم يروح إلى البحر من طلوع الشمس إلى غروبها ويرجع بلا سمك،
ويأخذ عيشًا ومصروفًا من الخباز، ولم يذكر له السمكَ يومًا من الأيام ولم يهمله
مثل الناس، بل يعطيه العشرة أنصاف والعيش، وكلما يقول له: يا أخي حاسبني. يقول له:
رُحْ ما هذا وقت الحساب حتى يأتيك الخير فأحاسبك. فيدعو له ويذهب من عنده شاكرًا
له، وفي اليوم الحادي والأربعين قال لامرأته: مرادي أن أقطع هذه الشبكة وأرتاح من
هذه المعيشة. فقالت له: لأي شيء؟ قال لها: كأنَّ رزقي انقطَعَ من البحر، فإلى متى
هذا الحال؟ والله إني ذبت حياءً من الخباز، فأنا ما بقيتُ أروح إلى البحر حتى لا
أجوز على فرنه، فإنه ليس لي طريق إلا على فرنه، وكلما جزتُ عليه يناديني ويعطيني
العيشَ والعشرة أنصاف، وإلى متى وأنا أتداين منه؟ قالت له: الحمد لله تعالى الذي
عطف قلبه عليك فيعطيك القوت، وأي شيء تكره من هذا؟ قال: بقي له قدر عظيم من
الدراهم، ولا بد أنه يطلب حقَّه. قالت له زوجته: هل آذاك بكلامٍ؟ قال: لا، ولم
يرضَ أن يحاسبني ويقول لي: حتى يأتيك الخير. قالت: فإذا طالَبَكَ قُلْ له: حتى
يأتي الخير الذي نرتجيه أنا وأنت. فقال لها: متى يجيء الخير الذي نرتجيه؟ قالت له:
الله كريم. قال: صدقتِ.
ثم
حمل شبكته وتوجَّهَ إلى البحر وهو يقول: يا رب ارزقني ولو بسمكة واحدة حتى أهديها
إلى الخباز. ثم إنه رمى الشبكة في البحر ثم سحبها فوجدها ثقيلة، فما زال يعالج
فيها حتى تعب تعبًا شديدًا، فلما أخرَجَها رأى فيها حمارًا ميتًا منفوخًا ورائحته
كريهة، فسئمت نفسه، ثم خلَّصه من الشبكة وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم، قد عجزتُ وأنا أقول لهذه المرأة ما بقي لي رزق في البحر، دعيني أترك هذه
الصنعة، وهي تقول لي الله كريم سيأتيك الخير، فهل هذا الحمار الميت هو الخير؟ ثم
إنه حصل له غمٌّ شديدٌ، وتوجَّهَ إلى مكانٍ آخَر ليبعد عن رائحة الحمار، وأخذ
الشبكة ورماها وصبر عليها ساعة زمانية، ثم جذبها فرآها ثقيلة، فلم يزل يعالج فيها
حتى خرج الدم من كفَّيْه، فلما أخرج الشبكة رأى فيها آدميًّا، فظنَّ أنه عفريت من
عفاريت السيد سليمان الذين كان يحبسهم في قماقم النحاس ويرميهم في البحر، فلما
انكسَرَ القمقم من طول السنين خرج منه ذلك العفريت وطلع في الشبكة، فهرب منه وصار
يقول: الأمان الأمان يا عفريت سليمان. فصاح عليه الآدمي من داخل الشبكة وقال: تعال
يا صياد لا تهرب مني، فإني آدمي مثلك، فخلِّصني لتنال أجري. فلما سمع كلامه الصياد
اطمأنَّ قلبه وجاءه، وقال له: ما أنت عفريت من الجن؟ قال: لا، إنما أنا إنسيٌّ
مؤمن بالله ورسوله. قال له: ومَن رماك في البحر؟ قال له: أنا من أولاد البحر، كنت
دائرًا فرميْتَ عليَّ الشبكةَ، ونحن أقوام مطيعون لأحكام الله، ونشفق على خلق الله
تعالى، ولولا أني أخاف وأخشى أن أكون من العاصين لَقطعتُ شبكتك، ولكن رضيتُ بما
قدَّرَ الله عليَّ، وأنت إذا خلَّصْتَني تصير مالكًا لي، وأنا أصير أسيرك، فهل لك
أن تعتقني ابتغاءَ وجهِ الله تعالى، وتعاهدني وتبقى صاحبي؟ أجيئك كل يوم في هذا
المكان وأنت تأتيني وتجيء لي معك بهدية من ثمار البر، فإن عندكم عنبًا وتينًا
وبطيخًا وخوخًا ورمَّانًا وغير ذلك، وكل شيء تجيء به إليَّ مقبول منك، ونحن عندنا
مرجان ولؤلؤ وزبرجد وزمرد وياقوت وجواهر، فأنا أملأ لك المشنة التي تجيء لي فيها
بالفاكهة معادن من جواهر البحر، فما تقول يا أخي في هذا الكلام؟ قال له الصياد:
الفاتحة بيني وبينك على هذا الكلام. فقرأ كلٌّ منهما الفاتحةَ وخلَّصه من الشبكة،
ثم قال له الصياد: ما اسمك؟ قال: اسمي عبد الله البحري، فإذا أتيتَ إلى هذا المكان
ولم ترني فنادِ وقُلْ: أين أنت يا عبد الله يا بحري؟ فأكون عندك في الحال. وأدرك
شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 942﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن عبد الله البحري قال له: إذا أتيتَ إلى هذا المكان
ولم تَرَني فنادِ وقل: أين أنت يا عبد الله يا بحري؟ فأكون عندك في الحال. وأنت ما
اسمك؟ فقال الصياد: اسمي عبد الله. قال: أنت عبد الله البري وأنا عبد الله البحري،
فقف هنا حتى أروح وآتيك بهدية. فقال له: سمعًا وطاعة. فراح عبد الله البحري في
البحر، فعند ذلك ندم عبد الله البري على كونه خلَّصه من الشبكة، وقال في نفسه: من
أين أعرف أنه يرجع إليَّ؟ وإنما هو ضحك عليَّ حتى خلَّصته، ولو أبقيتُه كنتُ
أفرِّج عليه الناس في المدينة وآخذ عليه الدراهم من جميع الناس وأدخل به بيوت
الأكابر! فصار يتندَّم على إطلاقه ويقول لنفسه:
راح
صيدُك من يدك! فبينما هو يتأسَّف على خلاصه من يده، وإذا بعبد الله البحري رجع
إليه ويداه مملوءتان لؤلؤًا ومرجانًا وزمردًا وياقوتًا وجواهرَ، وقال له: خُذْ يا
أخي، ولا تؤاخذني؛ فإنه ما عندي مشنَّة كنت أملؤها لك. فعند ذلك فَرِح عبد الله
البري وأخذ منه الجواهر وقال له: كل يوم تأتي إلى هذا المكان قبل طلوع الشمس. ثم
ودَّعه وانصرف ودخل البحر. وأما الصياد فإنه دخل المدينة وهو فرحان، ولم يزل
ماشيًا حتى وصل إلى فرن الخباز، وقال له: يا أخي، قد أتانا الخير فحاسبني. قال له:
ما يحتاج إلى حساب، إن كان معك شيء فأعطِني، وإن لم يكن معك شيء فخذ عيشك ومصروفك
ورُحْ إلى أن يأتيك الخير. فقال له: يا صاحبي، قد أتاني الخير من فيض الله، وقد
بقي لك عندي جملة كثيرة، ولكن خذ هذا. وكَبَش له كبشة من لؤلؤ ومرجان وياقوت
وجواهر، وكانت تلك الكبشة نصف ما معه، فأعطاها للخباز وقال له: أعطِني شيئًا من
المعاملة أصرفه في هذا اليوم حتى أبيع هذه المعادن. فأعطاه كل ما كان تحت يده من
الدراهم وجميع ما في المشنَّة التي كانت عنده من الخبز. وفرح الخباز بتلك المعادن
وقال للصياد: أنا عبدك وخدَّامك. وحمل جميع العيش الذي عنده على رأسه ومشى خلفه
إلى البيت، فأعطى العيش لزوجته وأولاده، ثم راح إلى السوق وجاء باللحم والخضار
وسائر أصناف الفاكهة، وترك الفرن وأقام طول ذلك اليوم وهو يتعاطى خدمة عبد الله
البري ويقضي له مصالحه. فقال له الصياد: يا أخي، أتعبتَ نفسك! قال له الخباز: هذا
واجب عليَّ؛ لأني صرت خدَّامك، وإحسانك قد غمرني. فقال له: أنت صاحب الإحسان عليَّ
في الضيق والغلاء. وبات معه تلك الليلة على أكل طيِّب. ثم إن الخباز صار صديقًا
للصياد، وأخبر زوجته بوقعته مع عبد الله البحري، ففرحت وقالت له: اكتُمْ سرَّك
لئلا تتسلَّط عليك الحكَّام. فقال لها: إن كتمتُ سرِّي عن جميع الناس فلا أكتمه عن
الخباز.
ثم
إنه أصبح في ثاني يوم وكان قد ملأ مشنة فاكهة من سائر الأصناف في وقت المساء، ثم
حملها قبل الشمس وتوجَّه إلى البحر، وحطَّها على جنب الشاطئ، وقال: أين أنت يا عبد
الله يا بحري؟ وإذا به يقول له: لبيك! وخرج إليه، فقدَّم له الفاكهة، فحملها ونزل
بها وغطس في البحر، وغاب ساعة زمانية، ثم خرج ومعه المشنة ملآنة من جميع أصناف
المعادن والجواهر، فحملها عبد الله البري على رأسه وذهب بها، فلما وصل إلى فرن
الخباز قال له: يا سيدي، قد خبزتُ لك أربعين كفَّ شريك وأرسلتها إلى بيتك، وها أنا
أخبز العيش الخاص، فمتى خلص أوصله إلى البيت وأروح لأجيء لك بالخضار واللحم. فكبش
له من المشنة ثلاث كبشات، وأعطاه إياها وتوجَّه إلى البيت وحطَّ المشنة، وأخذ من
كل صنف من أصناف الجواهر جوهرة نفيسة، ثم ذهب إلى سوق الجواهر ووقف على دكان شيخ
السوق وقال: اشترِ مني هذه الجواهر. فقال له: أرِني إياها. فأراه إياها، فقال له:
هل عندك غير هذا؟ قال: عندي مشنة ممتلئة. قال: أين بيتك؟ قال له: في الحارة
الفلانية. فأخذ منه الجواهر وقال لأتباعه: أمسكوه؛ فإنه هو الحرامي الذي سرق مصالح
الملكة زوجة السلطان. ثم أمرهم أن يضربوه، فضربوه وكتَّفوه، وقام الشيخ هو وجميع
أهل سوق الجواهر وصاروا يقولون: مسكنا الحرامي. وبعضهم يقول: ما سرق متاع فلان إلا
هذا الخبيث. وبعضهم يقول: ما سرق جميع ما في بيت فلان إلا هو. وبعضهم يقول كذا،
وبعضهم يقول كذا. كل ذلك وهو ساكت ولم يردَّ على أحد منهم جوابًا، ولم يُبْدِ له
خطابًا، حتى أوقفوه قدام الملك، فقال الشيخ: يا ملك الزمان، لما سُرِق عقد الملكة
أرسلتَ أعلمتنا وطلبت منا وقوع الغريم، فاجتهدت أنا من دون الناس وأوقعت لك
الغريم، وها هو بين يديك، وهذه الجواهر خلَّصناها من يده. فقال الملك للطواشي: خذ
هذه المعادن وأرِها للملكة، وقل لها: هل هذا متاعك الذي ضاع من عندك؟ فأخذها
الطواشي ودخل بها قدام الملكة، فلما رأتها تعجَّبتْ منها وأرسلتْ تقول للملك: إني
رأيت عقدي في مكاني، وهذا ما هو متاعي، ولكن هذه الجواهر أحسن من جواهر عقدي، فلا
تظلم الرجل. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 943﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن زوجة الملك لما أرسلت تقول له: هذا ما هو متاعي، ولكن
هذه الجواهر أحسن من جواهر عقدي، فلا تظلم الرجل، وإن كان يبيعها فاشترِها منه
لبنتك أم السعود؛ لنضعها لها في عقد. فلما رجع الطواشي وأخبر الملك بما قالته
الملكة، لعن شيخَ الجوهرية هو وجماعته لعنةَ عاد وثمود، فقالوا: يا ملك الزمان،
إنَّا كنا نعرف أن هذا الرجل صياد فقير، فاستكثرنا ذلك عليه، وقد ظننا أنه سرقها.
فقال: يا قبحاء، أتستكثرون النعمةَ على مؤمن؟! فلأي شيء لم تسألوه؟ ربما رزَقَه
الله تعالى بها من حيث لا يحاسب! فكيف تجعلونه حراميًّا وتفضحونه بين العالم؟
اخرجوا، لا باركَ الله فيكم! فخرجوا وهم خائفون.
هذا
ما كان من أمرهم، وأما ما كان من أمر الملك، فإنه قال: يا رجل، بارَكَ الله لك
فيما أنعم به عليك، وعليك الأمان، ولكن أخبرني بالصحيح، من أين لك هذه الجواهر؟
فإني ملك ولا يوجد عندي مثلها. فقال: يا ملك الزمان، أنا عندي مشنَّة ممتلئة منها،
وهو أن الأمر كذا وكذا. وأخبره بصحبته لعبد الله البحري، وقال له: إنه قد صار بيني
وبينه عهد على أنني كل يوم أملأ له المشنة فاكهة وهو يملؤها لي من هذه الجواهر.
فقال له: يا رجل، هذا نصيبك، ولكن المال يحتاج إلى الجاه، فأنا أدفع عنك تسلُّط
الناس عليك في هذه الأيام، ولكن ربما عُزِلتُ أو متُّ وتولَّى غيري، فإنه يقتلك من
أجل حب الدنيا والطمع، فمرادي أن أزوِّجك ابنتي وأجعلك وزيري، وأُوصِي لك بالمُلك
من بعدي حتى لا يطمع فيك أحد بعد موتي. ثم إن الملك قال: خذوا هذا الرجل وأدخلوه
الحمَّام. فأخذوه وغسلوا جسده وألبسوه ثيابًا من ثياب الملوك، وأخرجوه قدام الملك
فجعله وزيرًا له، وأرسل السعاة وأصحاب النوبة وجميع نساء الأكابر إلى بيته،
فألبَسوا زوجته ملابس نساء الملوك هي وأولادها، وأركبوها في تختروان، ومشت قدامها
جميع نساء الأكابر والعساكر والسعاة وأصحاب النوبة، وأتوا بها إلى بيت الملك
والطفل الصغير في حضنها، وأدخلوا أولادها الكبار على الملك، فأكرمهم وأخذهم على
حِجره، وأجلسهم في جانبه، وهم تسعة أولاد ذكور. وكان الملك معدوم الذُّرِّية، ما
رُزق غير تلك البنت التي اسمها أم السعود. أما الملكة فإنها أكرمت زوجة عبد الله
البري، وأنعمت عليها وجعلتها وزيرة عندها، وأمر الملك بكتب كتاب عبد الله البري
على ابنته، وجعل مهرها جميع ما كان عنده من الجواهر والمعادن. وفتحوا باب الفرح،
وأمر الملك أن يُنادَى بزينة المدينة من أجل فرح ابنته. وفي اليوم الثاني بعد أن
دخل على بنت الملك وأزال بكارتها، طلَّ الملك من الشباك فرأى عبد الله حاملًا على
رأسه مشنَّة ممتلئة فاكهة، فقال له: ما هذا الذي معك يا نسيبي؟ وإلى أين تذهب؟
فقال: إلى صاحبي عبد الله البحري. فقال له: يا نسيبي، ما هذا وقت الرواح إلى صاحبك!
فقال: أخاف أن أُخلف معه الميعاد فيَعُدَّني كذَّابًا ويقول لي: إن الدنيا ألهتْك
عني. قال: صدقتَ، رُحْ إلى صاحبك، أعانك الله. فمشى في البلد وهو متوجِّه إلى
صاحبه، وكانت الناس قد عرفته، فصار يسمع الناس يقولون: هذا نسيب الملك رايح يبدل
الأثمار بالجواهر. والذي يكون جاهلًا به ولا يعرفه يقول: يا رجل، بكم الرطل؟
تَعالَ بِعني. فيقول له: انتظرني حتى أرجع إليك. ولا يغمُّ أحدًا. ثم راح واجتمع
بعبد الله البحري وأعطاه الفاكهة، وأبدلها له بالجواهر.
ولم
يزل على هذه الحالة، وفي كل يوم يمر على فرن الخباز فيراه مقفولًا، ودام على ذلك
مدة عشرة أيام، فلما لم يَرَ الخباز ورأى فرنه مقفولًا قال في نفسه: إن هذا شيء
عجيب! يا تُرَى أين راح الخباز؟! ثم إنه سأل جاره فقال له: يا أخي، أين جارك
الخباز؟ فما فعل الله به؟ قال: يا سيدي، إنه مريض لا يخرج من بيته. قال له: أين
بيته؟ قال له: في الحارة الفلانية. فعمد إليه وسأل عنه، فلما طرق الباب طلَّ
الخباز من الطاقة فرأى صاحبه الصياد وعلى رأسه مشنَّة ممتلئة، فنزل إليه وفتح له
الباب ورمى روحه عليه، وعانقه وقال له: كيف حالك يا صاحبي؟ فإني كلَّ يوم أمرُّ
على الفرن فأراه مقفولًا، ثم سألتُ جارك فأخبرني أنك مريض، فسألت عن البيت لأجل أن
أراك. فقال له الخباز: جزاك الله عني كل خير، فليس بي مرض، وإنما بلغني أن الملك
أخذك لأن بعض الناس كذب عليه وادَّعى أنك حرامي، فخفتُ أنا وقفلتُ الفرن واختفيت.
قال: صدقتَ. ثم إنه أخبره بقصته وما وقع له مع الملك وشيخ سوق الجواهر، وقال: إن
الملك قد زوَّجني ابنته وجعلني وزيره. ثم قال له: خذ ما في هذه المشنة نصيبك، ولا
تخَف. ثم خرج من عنده بعد أن أذهَبَ عنه الخوف، وراح إلى الملك بالمشنة فارغة،
فقال له الملك: يا نسيبي، كأنك ما اجتمعت برفيقك عبد الله البحري في هذا اليوم!
فقال: رحتُ، والذي أعطاه لي أعطيته إلى صاحبي الخبَّاز؛ فإنَّ له عليَّ جميلًا.
قال: مَن يكون هذا الخباز؟ قال: إنه رجل صاحب معروف، وجرى لي معه في أيام الفقر ما
هو كذا وكذا، ولم يهملني يومًا ولا كسر خاطري. قال الملك: ما اسمه؟ قال: اسمه عبد
الله الخباز، وأنا اسمي عبد الله البري، وصاحبي اسمه عبد الله البحري. قال الملك:
وأنا اسمي عبد الله، وعَبيد الله كلهم إخوان، فأرسِلْ إلى صاحبك الخبَّاز هاتِه
لنجعله وزير مَيْسرة. فأرسَلَ إليه، فلما حضر بين يدَي الملك ألبسه بدلة وزير
وجعله وزير المَيْسرة، وجعل عبد الله البري وزير المَيْمنة. وأدرك شهرزاد الصباح،
فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 944﴾
قالت: بلغني أيها الملك السعيد،
أن الملك جعل عبد الله البري نسيبه وزير المَيْمنة وعبد الله الخبَّاز وزير
المَيْسرة، واستمر عبد الله على تلك الحالة سنةً كاملة، وهو في كل يوم يأخذ
المشنَّة ممتلئة فاكهة ويرجع بها ممتلئة جواهر ومعادن، ولما فرغت الفواكه من البساتين
صار يأخذ زبيبًا ولوزًا وبندقًا وجوزًا وتينًا وغير ذلك، وجميع ما يأخذه له يقبله
منه ويرد له المشنة ممتلئةً جواهرَ على عادته، فاتفق يومًا من الأيام أنه أخذ
المشنة ممتلئة نقلًا على عادته، فأخذها منه وجلس عبد الله البري على الشاطئ وجلس
عبد الله البحري في الماء قرب الشاطئ، وصارا يتحدثان مع بعضهما، ويتداولان الكلام
بينهما، حتى انجرَّا إلى ذكر المقابر، فقال البحري: يا أخي، إنهم يقولون إن
النبي ﷺ مدفون عندكم في البر، فهل تعرف قبره؟ قال: نعم. قال له: في أي
مكان هو؟ قال له: في مدينةٍ يُقال لها طيبة. قال: وهل تزوره الناس أهل البر؟ قال:
نعم. قال: هنيئًا لكم يا أهل البر بزيارة هذا النبي الكريم الرءوف الرحيم، الذي
مَن زاره استوجب شفاعته. وهل أنت زرته يا أخي؟ قال: لا؛ لأني كنت فقيرًا ولا أجد
ما أنفقه في الطريق، وما استغنيت إلا من حين عرفتك وتصدَّقتَ عليَّ بهذا الخير، ولكن
قد وجبت عليَّ زيارته بعد أن أحجَّ بيت الله الحرام، وما منعني عن ذلك إلا محبتك؛
فإني لا أقدر أن أفارقك يومًا واحدًا. فقال له: وهل تُقدِّم محبتي على زيارة قبر
محمد ﷺ الذي يشفع فيك يومَ العرض على الله، وينجِّيك من النار وتدخل
الجنة بشفاعته؟ وهل من أجل حب الدنيا تترك زيارة قبر نبيِّك محمد ﷺ؟ فقال: لا
والله، إن زيارته مقدَّمة عندي على كل شيء، ولكن أريد منك إجازة أن أزوره في هذا
العام. قال: أعطيك الإجازة بزيارته، وإذا وقفتَ على قبره فأَقْرِئه مني السلام،
وعندي أمانة، فادخل معي في البحر حتى آخذك إلى مدينتي وأُدخِلك بيتي وأضيِّفك
وأعطيك الأمانة لتضعها على قبر النبي ﷺ، وقل له: يا رسول الله، إن عبد الله
البحري يُقرِئك السلام، وقد أهدى إليك هذه الهدية، وهو يرجو منك الشفاعة من النار.
فقال له البري: يا أخي، أنت خُلِقت في الماء، ومسكنك الماء، وهو لا يضرك، فهل إذا
خرجتَ منه إلى البر يحصل لك ضرر؟ قال: نعم، ينشف بدني، وتهب عليَّ نسمات البر
فأموت. قال له: وأنا كذلك، خُلِقت في البر، ومسكني البر، فإذا دخلتُ البحر يدخل
الماء في جوفي ويخنقني فأموت. قال له: لا تخَفْ من ذلك؛ فإني آتيك بدهنٍ تدهن به
جسمك، فلا يضرك الماء ولو كنتَ تقضي بقية عمرك وأنت دائر في البحر، وتنام وتقوم في
البحر ولا يضرك شيء. قال: إذا كان الأمر كذلك فلا بأس، هاتِ لي الدهان حتى
أجرِّبه. قال: وهو كذلك. ثم أخذ المشنة ونزل في البحر وغاب قليلًا، ثم رجع ومعه
شحم مثل شحم البقر، لونه أصفر كلون الذهب، ورائحته زكية، فقال له عبد الله البري:
ما هذا يا أخي؟ فقال له: هذا شحمُ
كبدِ صنفٍ من أصناف السمك يُقال له الدندان، وهو أعظم أصناف السمك خِلْقة، وهو أشد
أعدائنا علينا، وصورته أكبر صورة توجد عندكم من دواب البر، ولو رأى الجَمَل أو
الفيل لَابتلَعَه. فقال له: يا أخي، وما يأكل هذا المشئوم؟ فقال له: يأكل من دواب
البحر، أَمَا سمعت أنه يقال في المثل: مثل سمك البحر القوي يأكل الضعيف؟! قال:
صدقتَ، ولكن هل عندكم من هذا الدندان في البحر كثير؟ قال: عندنا شيء لا يحصيه إلا
الله تعالى. قال عبد الله البري: إني أخاف إذا نزلت معك أن يصادفني هذا النوع
فيأكلني. قال له عبد الله البحري: لا تخَفْ؛ فإنه متى رآك عرف أنك ابن آدم فيخاف
منك ويهرب، ولا يخاف من أحد في البحر مثل ما يخاف من ابن آدم؛ لأنه متى أكل ابن
آدم مات من وقته وساعته؛ فإن شحم ابن آدم سمٌّ قاتل لهذا النوع، ونحن ما نجمع شحم
كبده إلا من أجل ابن آدم إذا وقع في البحر غريقًا، فإنه تتغيَّر صورته وربما
تمزَّق لحمه فيأكله الدندان لظنِّه أنه من حيوان البحر فيموت، فنعثر به ميتًا
فنأخذ شحم كبده وندهن به أجسامنا وندور في البحر، فأي مكان كان فيه ابن آدم إذا
كان فيه مائة أو مائتان أو ألف أو أكثر من ذلك النوع وسمعوا صيحة ابن آدم، فإن
الجميع يموتون لوقتهم من صيحته مرةً واحدة. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن
الكلام المباح.
﴿اللیلة 945﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن عبد الله البحري قال لعبد الله البري: وإذا سمع ألف
من هذا النوع أو أكثر من ابن آدم صيحةً واحدة يموتون لوقتهم ولا يقدر أحدٌ منهم أن
ينتقل من مكانه. فقال عبد الله البري: توكَّلت على الله. ثم قلع ما كان عليه من
الملبوس، وحفر في شاطئ البحر ودفن ثيابه، وبعد ذلك دهن جسمه من فرقه إلى قدمه بهذا
الدهن، ثم نزل في الماء وغطس وفتح عينيه فلم يضره الماء، فمشى يمينًا وشمالًا، ثم
جعل إن شاء يعلو وإن شاء ينزل إلى القرار، ورأى ماء البحر مخيمًا عليه مثل الخيمة
ولا يضره، فقال له عبد الله البحري: ماذا ترى يا أخي؟ قال له: أرى خيرًا يا أخي،
وقد صدقتَ فيما قلت؛ فإن الماء ما ضرني. قال له: اتبعني. فتبعه، وما زالا يمشيان
من مكان إلى مكان وهو يرى أمامه وعن يمينه وعن شماله جبالًا من الماء، فصار يتفرج
عليها وعلى أصناف السمك وهي تلعب في البحر، البعض كبير والبعض صغير، وفيه شيء يشبه
الجاموس، وشيء يشبه البقر، وشيء يشبه الكلاب، وشيء يشبه الآدميين، وكل نوع قرب منه
يهرب حين يرى عبد الله البري، فقال للبحري: يا أخي، ما لي أرى كل نوع قربنا منه
يهرب منَّا؟ فقال له: مخافةً منك؛ لأن جميع ما خلقه الله يخاف من ابن آدم. وما زال
يتفرَّج على عجائب البحر حتى وصلا إلى جبل عالٍ، فمشى عبد الله البري بجانب ذلك
الجبل، فلم يشعر إلا وصيحة عظيمة، فالتفت فرأى شيئًا أسود منحدرًا عليه من ذلك
الجبل، وهو قدر الجمل أو أكبر، وصار يصيح، فقال له: ما هذا يا أخي؟ قال له البحري:
هذا الدندان؛ فإنه نازل في طلبي، مراده أن يأكلني، فَصِحْ عليه يا أخي قبل أن يصل
إلينا فيخطفني ويأكلني. فصاح عليه عبد الله البري وإذا هو وقع ميتًا، فلما رآه
ميتًا قال: سبحان الله وبحمده، أنا لا ضربته بسيف ولا بسكين! كيف هذه العَظَمة
التي فيها هذا المخلوق ولم يحمل صيحتي، بل مات؟ فقال له عبد الله البحري: لا تعجب،
فوالله يا أخي، لو كان من هذا النوع ألف أو ألفان لم يحملوا صيحة ابن آدم.
ثم
مشيا إلى مدينة فرأيا أهلها جميعًا بنات وليس فيهن ذكور، فقال: يا أخي، ما هذه
المدينة؟ وما هذه البنات؟ فقال له: هذه مدينة البنات؛ لأن أهلها من بنات البحر.
قال: هل فيهن ذكور؟ قال: لا. قال: وكيف يحبلنَ ويَلِدنَ من غير ذكور؟! قال: إن ملك
البحر ينفيهن إلى هذه المدينة، وهن لا يحبلن ولا يَلِدنَ، وإنما كل واحدة غضب
عليها من بنات البحر يرسلها إلى هذه المدينة ولا تقدر أن تخرج منها، فإن خرجتْ
منها فإن كل ما رآها من دوابِّ البحر يأكلها، وأما غير هذه المدينة ففيه رجال
وبنات. قال له: هل في البحر مدن غير هذه المدينة؟ قال له: كثير. قال: وهل عليكم
سلطان في البحر؟ قال له: نعم. قال له: يا أخي، إني رأيت في البحر عجائب كثيرة. قال
له: وأي شيء رأيتَ من العجائب؟ أَمَا سمعتَ صاحب المثل يقول: عجائب البحر أكثر من
عجائب البر؟! قال:
صدقتَ.
ثم إنه صار يتفرَّج على هذه البنات، فرأى لهن وجوهًا مثل الأقمار، وشعورًا مثل
شعور النساء، ولكنْ لهن أيادٍ وأرجل في بطونهن، ولهن أذناب مثل أذناب السمك، ثم
إنه فرَّجه على أهل تلك المدينة، وخرج به ومشى قدامه إلى مدينة أخرى، فرآها
ممتلئةً خلائق؛ إناثًا وذكورًا، صورهم مثل صور البنات ولهم أذناب، ولكن ليس عندهم
بيع ولا شراء مثل أهل البر، وليسوا لابسين، بل الكل عرايا مكشوفو العورة، فقال له:
يا أخي، إني أرى الإناث والذكور مكشوفي العورة! فقال له: لأن أهل البحر لا قماش
عندهم. فقال له: يا أخي، كيف يصنعون إذا تزوَّجوا؟ فقال له: هم لا يتزوَّجون، بل
كلُّ مَن أعجبَتْه أنثى يقضي مرادَه منها. قال له: إن هذا شيء حرام! ولأي شيء لا
يخطبها ويمهرها ويقيم لها فرَحًا ويتزوَّجها بما يرضي الله ورسوله؟! قال له: ليس
كلنا مِلَّة واحدة، فإنَّ فينا مسلمين موحِّدين، وفينا نصارى ويهودًا وغير ذلك،
والذي يتزوَّج منا خصوص المسلمين. فقال: أنتم عريانون ولا عندكم بيع ولا شراء، فأي
شيء يكون مهر نسائكم؟ هل تعطونهن جواهر ومعادن؟ قال له: إن الجواهر أحجار ليس لها
عندنا قيمة، وإنما الذي يريد أن يتزوَّج يجعلون عليه شيئًا معلومًا من أصناف السمك
يصطاده قدر ألف أو ألفين أو أكثر أو أقل بحسب ما يحصل عليه الاتفاق بينه وبين أبي
الزوجة. فلمَّا يُحضِر المطلوبَ يجتمع أهل العريس وأهل العروسة ويأكلون الوليمة،
ثم يُدخِلونه على زوجته، وبعد ذلك يصطاد من السمك ويُطعِمها، وإذا عجز تصطاد هي
وتُطعِمه. قال: وإن زنا بعضهم ببعض كيف يكون الحال؟ قال: إن الذي يثبت عليه هذا
الأمر، إنْ كانت أنثى ينفوها إلى مدينة البنات، فإذا كانت حاملًا من الزنا فإنهم
يتركونها إلى أن تَلِد، فإن ولدتْ بنتًا ينفوها معها وتُسمَّى زانية بنت زانية،
ولم تزل بنتًا حتى تموت، وإن كان المولود ذكرًا فإنهم يأخذونه إلى الملك سلطان
البحر فيقتله. فتعجَّب عبد الله البري من ذلك.
ثم
إن عبد الله البحري أخذه إلى مدينة أخرى وبعدها أخرى وهكذا، وما زال يفرِّجه حتى
فرَّجه على ثمانين مدينة، وكل مدينة يرى أهلها لا يشبهون أهل غيرها من المدن، فقال
له: يا أخي، هل بقي في البحر مدائن؟ قال: وأي شيء رأيت من مدائن البحر وعجائبه؟
وحق النبي الكريم الرءوف الرحيم لو كنتُ فرَّجتك ألف عام كل يوم على ألف مدينة،
وأريتك في كل مدينة ألف أعجوبة، ما أريتك قيراطًا من أربعة وعشرين قيراطًا من
مدائن البحر وعجائبه، وإنما فرَّجتك على ديارنا وأرضنا لا غير. فقال له: يا أخي،
حيث كان الأمر كذلك يكفيني ما تفرَّجت عليه، فإني سئمتُ من أكل السمك، ومضى لي في
صحبتك ثمانون يومًا، وأنت لا تُطعِمني صباحًا ومساءً إلا سمكًا طريًّا، لا مشويًّا
ولا مطبوخًا. فقال له: أي شيء يكون المطبوخ والمشوي؟ قال له عبد الله البري: نحن
نشوي السمك في النار ونطبخه ونجعله أصنافًا ونصنع منه أنواعًا كثيرة. فقال له
البحري: ومن أين تأتي لنا النار؟ فنحن لا نعرف المشوي ولا المطبوخ ولا غير ذلك.
فقال له البري: نحن نقليه بالزيت والشيرج. فقال له البحري: ومن أين لنا الزيت
والشيرج ونحن في هذا البحر لا نعرف شيئًا مما ذكرته؟ قال: صدقت، ولكن يا أخي قد
فرَّجتني على مدائن كثيرة ولم تفرِّجني على مدينتك. قال له: أما مدينتي فإننا
فُتناها بمسافة، وهي قريبة من البر الذي أتينا منه، وإنما تركتُ مدينتي وجئت بك
إلى هنا لأني قصدتُ أن أفرِّجك على مدائن البحر. قال له: يكفيني ما تفرَّجت عليه،
ومرادي أن تفرِّجني على مدينتك. قال له: وهو كذلك. ثم رجع به إلى مدينته، فلما وصل
إليها قال له: هذه مدينتي. فرآها مدينة صغيرة عن المدائن التي تفرَّج عليها، ثم
دخل المدينة ومعه عبد الله البحري إلى أن وصل إلى مغارة. قال له: هذا بيتي، وكل
بيوت هذه المدينة كذلك؛ مغارات كبار وصغار في الجبال، وكذلك جميع مدائن البحر على
هذه الصفة، فإن كل مَن أراد أن يُصنَع له بيت يروح إلى الملك ويقول له: مرادي أن
أتخذ بيتًا في المكان الفلاني. فيرسل الملك معه طائفة من السمك يُسمَّون
النَّقَّارين، ويجعل كراهم شيئًا معلومًا من السمك، ولهم مناقير تفتِّت الحجر
الجلمود، فيأتون إلى الجبل الذي أراده صاحب البيت وينقرون فيه البيت، وصاحب البيت
يصطاد لهم من السمك ويلقِّمهم حتى تتم المغارة، فيذهبون وصاحب البيت يسكنه. وجميع
أهل البحر على هذه الحالة، لا يتعاملون مع بعضهم إلا بالسمك، وكلهم سمك. ثم قال
له: ادخل. فدخل، فقال عبد الله البحري: يا بنتي. وإذا ببنته أقبلتْ عليه ولها وجه
مدوَّر مثل القمر، ولها شعر طويل ثقيل وطَرْف كحيل وخَصْر نحيل، لكنها عريانة ولها
ذَنَب، فلما رأت عبد الله البري مع أبيها قالت له: يا أبي، ما هذا الأزعر الذي
جئتَ به معك؟ فقال لها: يا بنتي، هذا صاحبي البري الذي كنتُ أجيء لك من عنده
بالفاكهة البرية، تعالَي سلِّمي عليه. فتقدَّمتْ وسلَّمتْ عليه بلسان فصيح وكلام
بليغ، فقال لها أبوها: هاتي زادًا لضيفنا الذي حلَّت علينا بقدومه البركة. فجاءت
له بسمكتين كبيرتين، كل واحدة منهما مثل الخروف، فقال له: كُلْ. فأكل غصبًا عنه من
الجوع؛ لأنه سئم من أكل السمك وليس عندهم شيء غير السمك. فما مضى حصة إلا وامرأة
عبد الله البحري أقبلت، وهي جميلة الصورة ومعها ولدان، ولد في يده فرخ سمك يقرش
فيه كما يقرش الإنسان في الخيارة. فلما رأت عبد الله البري مع زوجها قالت: أي شيء
هذا الأزعر؟ وتقدَّم الولدان وأختهما وأمهم وصاروا ينظرون إلى دُبُر عبد الله
البري ويقولون: إي والله، إنه أزعر! ويضحكون عليه. فقال له عبد الله البري: يا
أخي، هل أنت جئتَ بي لتجعلني سخريةً لأولادك وزوجتك؟! وأدرك شهرزاد الصباح،
فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 946﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن عبد الله البري قال لعبد الله البحري: يا أخي، هل أنت
جئتَ بي لتجعلني سخريةً لأولادك وزوجتك؟! فقال له عبد الله البحري: العفو يا أخي؛
فإن الذي لا ذَنَبَ له غير موجود عندنا، وإذا وُجِد واحد من غير ذَنَب يأخذه
السلطان ليضحك عليه، ولكن يا أخي لا تُؤاخِذ هؤلاء الأولاد الصِّغار والمرأة، فإن
عقولهم ناقصة. ثم صرخ عبد الله البحري على عياله وقال لهم: اسكتوا. فخافوا وسكتوا،
وجعل يأخذ بخاطره. فبينما هو يتحدث معه، وإذا بعشرة أشخاص كبار شداد غلاظ أقبلوا
عليه وقالوا: يا عبد الله، إنه بلغ الملك أن عندك أزعرَ من زُعْر البر. فقال لهم:
نعم، وهو هذا الرجل، فإنه صاحبي أتاني ضيفًا، ومرادي أن أُرجِعَه إلى البر. قالوا
له: إننا لا نقدر أن نروح إلا به، فإن كان مرادك كلامًا فقم وخذه واحضر به قدام
الملك، والذي تقوله لنا قُلْه للملِك. فقال عبد الله البحري: يا أخي، العذر واضح،
ولا يمكننا مخالَفة الملِك، ولكن امضِ معي للملِك وأنا أسعى في خلاصك منه إن شاء
الله، ولا تخَفْ؛ فإنه متى رآك عرف أنك من أولاد البر، ومتى علم أنك برِّي فلا بد
أنه يكرمك ويردُّك إلى البر. فقال عبد الله البري: الرأي رأيك، فأنا أتوكَّل على
الله وأمشي معك. ثم أخذه ومضى به إلى أن وصل إلى الملِك، فلما رآه الملِك ضحك
وقال: مرحبًا بالأزعر. وصار كل مَن كان حول الملك يضحك عليه ويقول: إي والله، إنه
أزعر! فتقدَّم عبد الله البحري إلى الملك وأخبره بأحواله، وقال له: هذا من أولاد
البر وصاحبي، وهو لا يعيش بيننا؛ لأنه لا يحب أكل السمك إلا مقليًّا أو مطبوخًا،
والمراد أنك تأذن لي في أن أردَّه إلى البر. فقال له الملك: حيث كان الأمر كذلك،
لا يعيش عندنا، فقد أذنتُ لك في أن تردَّه إلى مكانه بعد الضيافة. ثم إن الملك
قال: هاتوا الضيافة. فأتوا له بسمك أشكالًا وألوانًا، فأكل امتثالًا لأمر الملك،
ثم قال له الملك: تمنَّ عليَّ. فقال عبد الله البري: أتمنَّى أن تعطيني جواهر.
فقال: خذوه إلى دار الجوهر ودعوه ينقِّي ما يحتاج إليه. فأخذه صاحبه إلى دار
الجوهر ونقَّى على قدر ما أراد، ثم رجع به إلى مدينته وأخرَجَ له صرَّة وقال له:
خذ هذه أمانة أوصِلها إلى قبر النبي ﷺ. فأخذها وهو لا يعلم ما فيها،
ثم خرج معه ليوصله إلى البر، فرأى في طريقه غناءً وفرحًا وسماطًا ممدودًا من
السمك، والناس يأكلون ويغنون وهم في فرح عظيم، فقال عبد الله البري لعبد الله
البحري: ما لهؤلاء الناس في فرح عظيم؟ هل عندهم عُرس؟ فقال البحري: ليس عندهم
عُرس، وإنما مات عندهم ميت. فقال له: أنتم إذا مات عندكم ميت تفرحون له وتغنون
وتأكلون؟! قال: نعم. وأنتم يا أهل البر ماذا تفعلون؟ قال البري: إذا مات عندنا ميت
نحزن عليه ونبكي، والنساء يلطمْنَ وجوهَهنَّ ويشققْنَ جيوبَهنَّ حزنًا على مَن
مات. فحملق عبد الله البحري عينيه في عبد الله البري وقال له: هاتِ الأمانة!
فأعطاها له، ثم أخرَجَه إلى البر وقال: قد قطعتُ صحبتَك وودَّك، فبعد هذا اليوم لا
تراني ولا أراك. فقال له: لماذا هذا الكلام؟ فقال له: أَمَا أنتم يا أهل البر
أمانةُ الله؟ فقال البري: نعم. قال: لا يهون عليكم أن الله يأخذ أمانته، بل تبكون
عليها! وكيف أعطيك أمانة النبي ﷺ؟ وأنتم إذا أتاكم المولود تفرحون به مع أن
الله يضع فيه الروح أمانة، فإذا أخذها كيف تصعب عليكم وتبكون وتحزنون؟ فما لنا في
رفقتكم حاجة. ثم تركه وراح إلى البحر.
ثم
إن عبد الله البري لبس حوائجه وأخذ جواهره وتوجَّه إلى الملك، فتلقَّاه باشتياق
وفرح به وقال له: كيف أنت يا نسيبي؟ وما سبب غيابك عني هذه المدة؟ فأخبره بقصته
وما رآه من العجائب في البحر، فتعجَّب الملك من ذلك، ثم أخبره بما قاله عبد الله
البحري، فقال له: هل أنت الذي أخطأت في خبرك بهذا الخبر؟ ثم إنه استمر مدة من
الزمان وهو يروح إلى جانب البحر ويصيح على عبد الله البحري، فلم يرد عليه، ولم
يأتِ إليه، فقطع عبد الله البري الرجاء منه، وأقام هو والملك نسيبه وأهلهما في
أسرِّ حال وحسن أعمال حتى أتاهم هادم اللذات ومفرِّق الجماعات وماتوا جميعًا.
فسبحان الحي الذي لا يموت، ذي المُلْك والمَلَكوت، وهو على كل شيء قدير، وبعباده
لطيف خبير.
ومما
يُحكى أيضًا أن الخليفة هارون الرشيد أَرِق ذات ليلة أرقًا شديدًا فاستدعى مسرورًا
فحضر، فقال: ائتني بجعفر بسرعة. فمضى وأحضره، فلما وقف بين يديه قال: يا جعفر، إنه
قد اعتراني في هذه الليلة أرقٌ فمنع عني النوم، ولا أعلم ما يزيله عني. قال: يا
أمير المؤمنين، قد قالت الحكماء: النظر إلى المرآة ودخول الحمَّام واستعمال الغناء
يُزِيل الهمَّ والفكر. فقال: يا جعفر، إني فعلت هذا كله فلم يُزِل عني شيئًا، وأنا
أقسم بآبائي الطاهرين إن لم تتسبَّب فيما يزيل عني ذلك لأضربَنَّ عنقك. قال: يا
أمير المؤمنين، هل تفعل ما أشير به عليك؟ قال: وما الذي تشير به عليَّ؟ قال: أن
تنزل بنا في زورق وتنحدر به في بحر الدجلة مع الماء إلى محل يُسمَّى قرن الصراط،
لعلنا نسمع ما لم نسمع، أو ننظر ما لم ننظر، فإنه قد قيل: تفريج الهم بواحد من
ثلاثة أمور: أن يرى الإنسان ما لم يكن رآه، أو يسمع ما لم يكن سمعه، أو يطأ أرضًا
لم يكن وطئها. فلعل ذلك يكون سببًا لزوال القلق عنك يا أمير المؤمنين. فعند ذلك
قام الرشيد من موضعه وصُحبته جعفر وأخوه الفصل وإسحاق النديم وأبو نواس وأبو دلف
ومسرور السياف. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 947﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الخليفة لما قام من موضعه وصُحبته جعفر وباقي جماعته،
دخلوا حجرة الثياب ولبسوا كلهم ملابس التجار، وتوجَّهوا إلى الدجلة ونزلوا في زورق
مزركش بالذهب، وانحدروا مع الماء حتى وصلوا إلى الموضع الذي يريدونه، فسمعوا صوت
جارية تغني على العود وتنشد هذه الأبيات:
أَقُولُ
لَهُ وَقَدْ حَضَرَ العُقَارُ وَقَدْ
غَنَّى عَلَى الْأَيْكِ الهَزَارُ
إِلَى
كَمْ ذَا التَّأَنِّي عَنْ سُرُورٍ أَفِقْ
مَا الْعُمْرُ إِلَّا مُسْتَعَارُ
فَخُذْهَا
مِنْ يَدَيْ خِلٍّ عَزِيزٍ بِجَفْنَيْهِ
فُتُورٌ وَانْكِسَارُ
زَرَعْتُ
بِخَدِّهِ وَرْدًا طَرِّيًّا فَأَثْمَرَ
فِي السَّوَالِفِ جُلَّنَارُ
وَتَحْسَبُ
مَوْضِعَ التَّخْمِيشِ فِيهِ رَمَادًا
خَامِدًا وَالْخَدُّ نَارُ
يَقُولُ
لِي الْعَذُولُ تَسَلَّ عَنْهُ فَمَا
عُذْرِي وَقَدْ نَمَّ الْعِذَارُ
فلما
سمع الخليفة هذا الصوت قال: يا جعفر، ما أحسنَ هذا الصوت! قال جعفر: يا مولانا، ما
طرق سمعي أطيب ولا أحسن من هذا الغناء، ولكن يا سيدي إن السماع من وراء جدارٍ نصفُ
سماع، فكيف بالسماع من خلفِ سِتْر؟ فقال: انهضْ بنا يا جعفر حتى نتطفَّل على صاحب
هذه الدار؛ لعلنا نرى المغنية عِيانًا. قال جعفر: سمعًا وطاعة. فصعدوا من المركب
واستأذنوا في الدخول، وإذا بشابٍّ مليحِ المنظر عذْبِ الكلام فصيحِ اللسان قد خرج
إليهم وقال: أهلًا وسهلًا يا سادةَ المُنعِمين عليَّ، ادخلوا بالرَّحْب والسعة.
فدخلوا وهو بين أيديهم، فرأَوا الدار بأربعة أوجه، وسقفها بالذهب، وحيطانها منقوشة
باللازورد، وفيها إيوان به سدلة جميلة وعليها مائة جارية كأنهنَّ أقمار، فصاح
عليهن فنزلْنَ عن أَسِرَّتهن، ثم الْتفَتَ ربُّ المنزل إلى جعفر وقال: يا سيدي،
أنا ما أعرف منكم الجليلَ من الأجلِّ، باسم الله ليتفضَّل منكم مَن هو أعلى في
الصدر، ويجلس إخوانه كلُّ واحد في مرتبته. فجلس كل واحد في منزلته، وقام مسرور في
الخدمة بين أيديهم، ثم قال لهم صاحب المنزل: يا أضيافي، عن إذنكم، هل أحضر لكم
شيئًا من المأكول؟ قالوا له: نعم. فأمر الجواري بإحضار الطعام، فأقبَلَ أربعُ
جوارٍ مشدودات الأوساط بين أيديهن مائدة وعليها من غرائب الألوان، مما درَجَ وطار
وسبح في البحار، من قطًا وسمَّان وأفراخ وحمام، ومكتوب على حواشي السفرة من
الأشعار ما يناسب المجلس، فأكلوا على قدر كفايتهم، ثم غسلوا أيديهم، فقال الشاب:
يا سادتي، إن كان لكم حاجة فأخبرونا بها حتى نتشرَّف بقضائها. قالوا: نعم، فإننا
ما جئنا منزلك إلا لأجلِ صوتٍ سمعناه من وراء حائط دارك، فاشتهينا أن نسمعه ونعرف
صاحبته، فإن رأيتَ أن تُنعِم علينا بذلك كانَ من مكارم أخلاقك، ثم نعود من حيث
جئنا. فقال: مرحبًا بكم. ثم التفت إلى جارية سوداء وقال: أحضِري سيدتك فلانة.
فذهبت الجارية ثم جاءت ومعها كرسي فوضعَتْه، ثم ذهبت ثانيًا وأتَتْ ومعها جارية
كأنها البدر في تمامه، فجلست على الكرسي. ثم إن الجارية السوداء ناولتها خرقةً من
أطلس، فأخرجت منها عودًا مرصَّعًا بالجواهر واليواقيت وملاويه من الذهب. وأدرك
شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 948﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية لما أقبلت جلست على الكرسي وأخرجت العود من
الخريطة، وإذا هو مرصَّع بالجواهر واليواقيت وملاويه من الذهب، فشدَّت أوتاره
لرنَّات المزاهر، وهي كما قال فيها وفي عودها الشاعر:
حَضَنَتْهُ
كَالْأُمِّ الشَّفِيقَةِ بِابْنِهَا
فِي حِجْرِهَا وَجَلَا عَلَيْهِ مُلَاوِيَه
مَا
حَرَّكَتْ يَدَهَا الْيَمِينَ لِجَسِّهِ
إِلَّا وَأَصْلَحَتِ الْيَسَارُ مُلَاوِيَه
ثم
ضمَّت العود إلى صدرها وانحنت عليه انحناء الوالدة على ولدها، وجسَّت أوتاره
فاستغاث كما يستغيث الصبي بأمه، ثم ضربت عليه وجعلت تنشد هذه الأبيات:
جَادَ
الزَّمَانُ بِمَنْ أُحِبُّ فَأَعْتَبَا
يَا صَاحِبِي فَأَدِرْ كُئُوسَكَ وَاشْرَبَا
مِنْ
خَمْرَةٍ مَا مَازَجَتْ قَلْبَ امْرِئٍ
إِلَّا وَأَصْبَحَ بِالْمَسَرَّةِ مُطْرَبَا
قَامَ
النَّسِيمُ بِحَمْلِهَا فِي كَأْسِهَا
أَرَأَيْتَ بَدْرَ التِّمِّ يَحْمِلُ كَوْكَبَا
كَمْ
لَيْلَةٍ سَامَرْتُ فِيهَا بَدْرَهَا
مِنْ فَوْقِ دِجْلَةَ قَدْ أَضَاءَ الْغَيْهَبَا
وَالْبَدْرُ
يَجْنَحُ لِلْغُرُوبِ كَأَنَّمَا قَدْ
مَدَّ فَوْقَ الْمَاءِ سَيْفًا مُذْهَبَا
فلما
فرغتْ من شِعرها بكت بكاءً شديدًا، وصاح كل مَن في الدار بالبكاء حتى كادوا أن
يهلكوا، وما منهم أحد إلا وغاب عن وجوده ومزَّق أثوابه ولطم على وجهه لحسن غنائها.
فقال الرشيد: إن غناء هذه الجارية يدل على أنها عاشقة مفارِقة. فقال سيدها: إنها
ثاكلة لأمها وأبيها. فقال الرشيد: ما هذا بكاء مَن فقد أباه وأمه، وإنما هو شجو
مَن فقد محبوبه. وطرب الرشيد من غنائها، وقال لإسحاق: والله، ما رأيت مثلها. فقال
إسحاق: يا سيدي، إني لَأعجبُ منها غايةَ العجب، ولا أملك نفسي من الطرب. وكان الرشيد
مع ذلك كله ينظر إلى صاحب الدار ويتأمَّل في محاسنه وظرف شمائله، فرأى في وجهه
أثرَ اصفرار، فالتفت إليه وقال له: يا فتى. فقال: لبيك يا سيدي. فقال له: هل تعلم
مَن نحن؟ قال: لا. فقال له جعفر: أتحبُّ أن نخبرك عن كل واحد باسمه؟ فقال: نعم.
فقال جعفر: هذا أمير المؤمنين وابن عم سيد المرسلين. وذكر له بقية أسماء الجماعة،
وبعد ذلك قال الرشيد: أشتهي أن تخبرني عن هذا الاصفرار الذي في وجهك؛ هل هو مكتسَب
أو أصلي من حين ولادتك؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن حديثي غريب وأمري عجيب، لو
كُتِب بالإبر على آماق البصر لَكانَ عبرةً لمَن اعتبر. قال: أعلِمني به؛ لعل شفاك
يكون على يدي. قال: يا أمير المؤمنين، أرْعِني سمعك وأخلِ لي ذرعك. قال: هاتِ
فحدِّثني، فقد شوَّقتَني إلى سماعه. فقال: اعلم يا أمير المؤمنين أني رجل تاجر من
تجار البحر، وأصلي من مدينة عمان، وكان أبي تاجرًا كثير المال، وكان له ثلاثون
مركبًا تعمل في البحر، أُجْرتُها في كل عام ثلاثون ألف دينار، وكان رجلًا كريمًا،
وعلَّمني الخط وجميع ما يحتاج إليه الشخص، فلما حضرَتْه الوفاة دعاني وأوصاني بما
جرت به العادة، ثم توفَّاه الله تعالى إلى رحمته وأبقى الله أمير المؤمنين. وكان
لأبي شركاء يتَّجرون في ماله ويسافرون في البحر، فاتفق في بعض الأيام أني كنتُ
قاعدًا في منزلي مع جماعة من التجار، إذ دخل عليَّ غلام من غلماني وقال: يا سيدي،
إن بالباب رجلًا يطلب الإذن في الدخول عليك. فأذِنْتُ له، فدخل وهو حامل على رأسه
شيئًا مغطًّى، فوضعه بين يدي وكشفه، فإذا فيه فواكه بغير أوانٍ وملح وطرائف ليست
في بلادنا، فشكرته على ذلك وأعطيته مائة دينار، وانصرف شاكرًا، ثم فرَّقت ذلك على
كل مَن كان حاضرًا من الأصحاب، ثم سألت التجار: من أين هذا؟ فقالوا: إنه من
البصرة. وأثنَوْا عليه وصاروا يَصِفون حُسْنَ البصرة، وأجمعوا على أنه ليس في
البلاد أحسن من بغداد ومن أهلها، وصاروا يَصِفون بغداد وحُسْنَ أخلاق أهلها، وطِيب
هوائها، وحُسْن تركيبها، فاشتاقتْ نفسي إليها، وتعلقتْ آمالي برؤيتها، فقمت وبعت
العقارات والأملاك، وبعت المراكب بمائة ألف دينار، وبعت العبيد والجواري، وجمعتُ مالي
فصار ألف ألف دينار غير الجواهر والمعادن، واكتريتُ مركبًا وشحنته بأموالي وسائر
مَتاعي، وسافرتُ به أيامًا وليالي حتى جئتُ إلى البصرة، فأقمتُ بها مدة، ثم
استأجرت سفينة ونزلت ما لي فيها، وسرنا منحدرين أيامًا قلائل حتى وصلنا إلى بغداد،
فسألت أين تسكن التجار؟ وأي موضع أطيب للسكان؟ فقالوا: في حارة الكرخ. فجئت إليها
واستأجرت دارًا في دربٍ يُسمَّى الزعفران، ونقلت جميع ما لي إلى تلك الدار، وأقمت
فيها مدة، ثم توجَّهتُ في بعض الأيام إلى الفرجة ومعي شيء من المال، وكان ذلك
اليوم يوم الجمعة، فأتيت إلى جامعٍ يُسمَّى جامع المنصور تُقام فيه الجمعة، وبعد
أن خلصنا من الصلاة خرجتُ مع الناس إلى موضع يُسمَّى قرن الصراط، فرأيت في ذلك
المكان موضعًا عاليًا جميلًا وله روشن مطِلٌّ على الشاطئ، وهناك شباك، فذهبت في
جملة الناس إلى ذلك المكان، فرأيت شيخًا جالسًا وعليه ثياب جميلة وتفوح منه رائحة
طيبة، وقد سرَّح لحيته فافترقت على صدره فرقتين كأنها قُضُب من لُجَيْن، وحوله
أربع جوارٍ وخمسة غلمان، فقلت لشخص: ما اسم هذا الشيخ؟ وما صنعته؟ فقال: هذا طاهر
بن العلاء وهو صاحب الفتيان، كل مَن دخل عنده يأكل ويشرب وينظر إلى الملاح. فقلت
له: والله إنَّ لي زمانًا أدور على مثل هذا. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن
الكلام المباح.
﴿اللیلة 949﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الشاب لما قال: والله إن لي زمانًا وأنا أدور على مثل
هذا. ثم قال: فتقدَّمتُ إليه يا أمير المؤمنين وسلَّمت عليه وقلت له: يا سيدي، إن لي
عندك حاجة. فقال: ما حاجتك؟ قلت: أشتهي أن أكون ضيفك في هذه الليلة. فقال: حبًّا
وكرامة. ثم قال: يا ولدي، عندي جوارٍ كثيرة، منهن مَن ليلتها بعشرة دنانير، ومنهن
مَن ليلتها بأربعين دينارًا، ومنهن مَن ليلتها بأكثر، فاختَرْ مَن تريد. فقلت:
أختار التي ليلتها بعشرة دنانير. ثم وزنتُ له ثلاثمائة دينار عن شهر، فسلَّمني
لغلام، فأخذني ذلك الغلام وذهب بي إلى الحمَّام في القصر، وخدمني خدمةً حسنة،
فخرجت من الحمَّام، وأتى بي إلى مقصورة وطرَقَ الباب، فخرجتْ له جارية، فقال لها:
خذي ضيفك. فتلقَّتني بالرحب والسعة، ضاحكة مستبشرة، وأدخلتني دارًا عجيبة مزركشة
بالذهب، فتأمَّلت في تلك الجارية فرأيتها كالبدر ليلة تمامه، وفي خدمتها جاريتان
كأنهما كوكبان، ثم أجلستني وجلست بجانبي، ثم أشارت إلى الجواري فأتيْنَ بمائدة
فيها من أنواع اللحوم من دجاج وسمان وقطًا وحمام، فأكلنا حتى اكتفينا، وما رأيت في
عمري ألذَّ من ذلك الطعام، فلما أكلنا رفعتْ تلك المائدة وأحضرت مائدة الشراب
والمشموم والحلوى والفواكه، وأقمت عندها شهرًا على هذا الحال، فلما فرغ الشهر دخلت
الحمَّام وجئت إلى الشيخ وقلت له: يا سيدي، أريد التي ليلتها بعشرين دينارًا،
فقال: زِنِ الذهب. فمضيت وأحضرت الذهب، فوزنتُ له ستمائة دينار عن شهر، فنادى
غلامًا وقال له: خذ سيدك. فأخذني وأدخلني الحمَّام، فلما خرجت أتى بي إلى باب
مقصورة وطرقه، فخرجت منه جارية، فقال لها: خذي ضيفك. فتلقَّتْني بأحسن ملتقى، وإذا
حولها أربعُ جوارٍ، ثم أمرت بإحضار الطعام، فحضرت مائدة عليها من سائر الأطعمة،
فأكلت، ولما فرغت من الأكل ورفعت المائدة، أخذتِ العود وغنَّت بهذه الأبيات:
أَيَا
نَفَحَاتِ الْمِسْكِ مِنْ أَرْضِ بَابِلِ
بِحَقِّ غَرَامِي أَنْ تُؤَدِّي رَسَائِلِي
عَهِدْتُ
بِهَاتِيكَ الْأَرَاضِي مَنَازِلًا لِأَحْبَابِنَا
أَكْرِمْ بِهَا مِنْ مَنَازِلِ
وَفِيهَا
الَّتِي فِي حُبِّهَا كُلُّ عَاشِقٍ
تَغَنَّى وَلَمْ يَرْتَدَّ مِنْهَا بِطَائِلِ
فأقمتُ
عندها شهرًا، ثم جئت إلى الشيخ وقلت: أريد صاحبة الأربعين دينارًا. فقال: زِنْ لي
الذهب. فوزنتُ له عن شهرٍ ألفًا ومائتَيْ دينار، ومكثتُ عندها شهرًا كأنه يوم واحد
لِمَا رأيت من حسن المنظر وحسن العِشرة، ثم جئت إلى الشيخ وكنا قد أمسينا، فسمعت
ضجة عظيمة وأصواتًا عالية، فقلت له: ما الخبر؟ فقال لي الشيخ: إن هذه الليلة عندنا
أشهر الليالي، وجميع الخلائق يتفرجون على بعضهم فيها، فهل لك أن تصعد على السطح
وتتفرج على الناس؟ فقلت: نعم. وطلعت على السطح فرأيت ستارة حسنة، ووراء الستارة
محل عظيم وفيه سدلة وعليها فرش مليح، وهناك صَبيَّة تدهش الناظرين حُسْنًا وجمالًا
وقدًّا واعتدالًا، وبجانبها غلام يده على عنقها وهو يقبِّلها وتقبِّله، فلما
رأيتهما يا أمير المؤمنين لم أملك نفسي ولم أعرف أين أنا لِمَا بهرني من حسن
صورتها، فلما نزلتُ سألت الجارية التي أنا عندها وأخبرتها بصفتها، فقالت: ما لك
وما لها؟ فقلت: والله، إنها أخذتْ عقلي! فتبسَّمت وقالت: يا أبا الحسن، ألك فيها
غرض؟ فقلت: إي والله، فإنها تملَّكتْ قلبي ولبِّي. فقالت: هذه ابنة طاهر بن
العلاء، وهي سيدتنا، وكلنا جواريها. أتعرف يا أبا الحسن بكم ليلتها ويومها؟ قلت:
لا. قالت: بخمسمائة دينار، وهي حسرة في قلوب الملوك. فقلت: والله لَأُذهبنَّ مالي
كله على هذه الجارية. وبتُّ أكابد الغرام طولَ ليلي، فلما أصبحت دخلت الحمَّام
ولبست أفخر ملبوس من ملابس الملوك، وجئت إلى أبيها وقلت: يا سيدي، أريد التي
ليلتها بخمسمائة دينار. فقال: زِنِ الذهب. فوزنت له عن كل شهر خمسة عشر ألف دينار،
فأخذها، ثم قال للغلام: اعمد به إلى سيدتك فلانة، فأخذني وأتى بي إلى دارٍ لم تَرَ
عيني أظرف منها على وجه الأرض، فدخلتها فرأيت الصبيَّة جالسة، فلما رأيتها أدهشتْ
عقلي بحُسْنها يا أمير المؤمنين، وهي كالبدر في ليلة أربعة عشر. وأدرك شهرزاد
الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 950﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الشاب لما حدَّث أمير المؤمنين بصفات الجارية قال له:
وهي كالبدر في ليلة أربعة عشر، ذات حُسْن وجمال، وقَدٍّ واعتدال، وألفاظ تفضح رنات
المزاهر، كأنها المقصودة بقول الشاعر:
قَالَتْ
وَقَدْ لَعِبَ الْغَرَامُ بِعِطْفِهَا
فِي جُنْحِ لَيْلٍ سَابِلِ الْأَحْلَاكِ
يَا
لَيْلُ هَلْ لِي فِي دُجَاكَ مُسَامِرٌ
أَوْ هَلْ لِهَذَا الْكُسِّ مِنْ نَيَّاكَ
ضَرَبَتْ
عَلَيْهِ بِكَفِّهَا وَتَنَهَّدَتْ كَتَنَهُّدِ
الْأَسِفِ الْحَزِينِ الْبَاكِي
وَالثَّغْرُ
بِالْمِسْوَاكِ يَظْهَرُ حُسْنُهُ وَالْأَيْرُ
لِلْأَكْسَاسِ كَالْمِسْوَاكِ
يَا
مُسْلِمُونَ أَمَا تَقُومُ أُيُورُكُمْ
مَا فِيكُمُ أَحَدٌ يَغِيثُ الشَّاكِي
فَانْقَضَّ
مِنْ تَحْتِ الْغَلَائِلِ قَائِمًا أَيْرِي
وَقَالَ لَهَا: أَتَاكِ أَتَاكِ
وَحَلَلْتُ
عِقْدَ إِزَارِهَا فَتَفَزَّعَتْ مَنْ
أَنْتَ؟ قُلْتُ: فَتًى أَجَابَ نِدَاكِ
وَغَدَوْتُ
أَرْهِسُهَا بِمِثْلِ ذِرَاعِهَا رَهْسَ
اللَّطِيفِ يَضُرُّ بِالْأَوْرَاكِ
حَتَّى
إِذَا مَا قُمْتُ بَعْدَ ثَلَاثَةٍ قَالَتْ:
هَنَاكَ النَّيْكُ؟ قُلْتُ: هَنَاكِ
وما
أحسن قول الآخر:
وَلَوْ
أَنَّهَا لِلْمُشْرِكِينَ تَعَرَّضَتْ
لَبَاءُوا بِهَا مِنْ دُونِ أَصْنَامِهِمْ رَبَّا
وَلَوْ
تَفَلَتْ فِي الْبَحْرِ وَالْبَحْرُ مَالِحٌ لَأَصْبَحَ مَاءُ الْبَحْرِ مِنْ
رِيقِهَا عَذْبَا
وَلَوْ
أَنَّهَا فِي الشَّرْقِ لَاحَتْ لِرَاهِبٍ
لَخَلَّى سَبِيلَ الشَّرْقِ وَاتَّبَعَ الْغَرْبَا
وما
أحسن قول الآخر:
نَظَرْتُ
إِلَيْهَا نَظْرَةً فَتَحَيَّرَتْ دَقَائِقُ
فِكْرِي فِي بَدِيعِ صِفَاتِهَا
فَأَوْحَى
إِلَيْهَا الْوَهْمُ أَنِّي أُحِبُّهَا
فَأَثَّرَ ذَاكَ الْوَهْمُ فِي وَجَنَاتِهَا
فسلَّمت
عليها فقالت: أهلًا وسهلًا ومرحبًا. وأخذتْ بيدي يا أمير المؤمنين وأجلستني إلى
جانبها. فمن فرط الاشتياق بكيتُ مخافةَ الفراق، وأسبلتُ دمع العين، وأنشدتُ هذين
البيتين:
أُحِبُّ
لَيَالِي الْهَجْرِ لَا فَرِحًا بِهَا
عَسَى الدَّهْرُ يَأْتِي بَعْدَهَا بِوِصَالِ
وَأَكْرَهُ
أَيَّامَ الْوِصَالِ لِأَنَّنِي أَرَى
كُلَّ شَيْءٍ مُعْقَبًا بِزَوَالِ
ثم
إنها صارت تؤانسني بلطف الكلام، وأنا غريق في بحر الغرام، خائف في القرب ألمَ
الفراقِ من فرط الوَجْد والاشتياق، وتذكَّرتُ لوعة النوى والبَيْنِ فأنشدتُ هذين
البيتين:
فَكَّرْتُ
سَاعَةَ وَصْلِهَا فِي هَجْرِهَا فَجَرَتْ
مَدَامِعُ مُقْلَتي كَالْعَنْدَمِ
فَطَفِقْتُ
أَمْسَحُ مُقْلَتي فِي جِيدِهَا مِنْ
عَادَةِ الْكَافُورِ إِمْسَاكُ الدَّمِ
ثم
أمرتْ بإحضار الأطعمة، فأقبلتْ أربع جوارٍ نُهْدٌ أبكار، فوضعْنَ بين أيدينا من
الأطعمة والفاكهة والحلوى والمشموم والمُدَام ما يصلح للملوك، فأكلنا يا أمير
المؤمنين وجلسنا على المُدَام وحولنا الرياحين في مجلس لا يصلح إلا للملك، ثم
جاءتها يا أمير المؤمنين جارية بخريطة من الإِبْرِيسَم، فأخذَتْها وأخرجتْ منها
عودًا فوضعَتْه في حِجْرها، وجسَّت أوتاره فاستغاث كما يستغيث الصبي بأمه، وأنشدت
هذين البيتين:
لَا
تَشْرَبِ الرَّاحَ إِلَّا مِنْ يَدَيْ رَشَأ
تَحْكِيهِ فِي رِقَّةِ الْمَعْنَى
وَيَحْكِيهَا
إِنَّ
المُدَامَةَ لَا يَلْتَذُّ شَارِبُهَا
حَتَّى يَكُونَ نَقِيَّ الْخَدِّ سَاقِيهَا
فأقمتُ
يا أمير المؤمنين عندها على هذه الحالة مدةً من الزمان حتى نفدَ جميع مالي،
فتذكَّرتُ وأنا جالس معها مُفارَقتها، فنزلتْ دموعي على خدي كالأنهار، وصرتُ لا
أعرف الليل من النهار، فقالت: لأي شيء تبكي؟ فقلت لها: يا سيدتي، من حين جئتُ إليك
وأبوك يأخذ مني في كل ليلة خمسمائة دينار، وما بقي عندي شيء من المال، وقد صدق
الشاعر حيث قال:
الْفَقْرُ
فِي أَوْطَانِنَا غُرْبَةٌ وَالْمَالُ
فِي الْغُرْبَةِ أَوْطَانُ
فقالت:
اعلم أن أبي من عادته أنه إذا كان عنده تاجر وافتقر فإنه يضيفه ثلاثة أيام، ثم بعد
ذلك يُخرِجه فلا يعود إلينا أبدًا، ولكن اكتمْ سرَّك وأخفِ أمرَك وأنا أعمل حيلة
في اجتماعي بك إلى ما شاء الله، فإن لك في قلبي محبةً عظيمة. واعلم أن جميع مال
أبي تحت يدي، وهو لا يعرف قدره، فأنا أعطيك في كل يومٍ كيسًا فيه خمسمائة دينار،
وأنت تعطيه لأبي وتقول له: ما بقيت أعطي الدراهم إلا يومًا بيوم. وكلما دفعتَه
إليه فإنه يدفعه إليَّ وأنا أعطيه لك، ونستمر هكذا إلى ما شاء الله. فشكرتها على ذلك
وقبَّلت يدها، ثم أقمت عندها يا أمير المؤمنين على هذه الحالة مدة سنة كاملة،
فاتفق في بعض الأيام أنها ضربت جاريتها ضربًا وجيعًا، فقالت لها: والله لَأوجعنَّ
قلبك كما أوجعتِني. ثم مضت تلك الجارية إلى أبيها وأعلمَتْه بأمرنا من أوله إلى
آخره، فلما سمع طاهر بن العلاء كلام الجارية قام من ساعته ودخل عليَّ وأنا جالس مع
ابنته، وقال لي: يا فلان! قلت له: لبيك. قال: عادتنا أنه إذا كان عندنا تاجر
وافتقر أننا نضيفه عندنا ثلاثة أيام، وأنت لك سنة عندنا تأكل وتشرب وتفعل ما تشاء.
ثم التفت إلى غلمانه وقال: اخلعوا ثيابه. ففعلوا وأعطوني ثيابًا رديئة قيمتها خمسة
دراهم، ودفعوا إليَّ عشرة دراهم، ثم قال لي: اخرج، فأنا لا أضربك ولا أشتمك، واذهب
إلى حال سبيلك، وإنْ أقمتَ في هذه البلدة كان دمك هَدَرًا. فخرجتُ يا أمير
المؤمنين برغم أنفي، ولا أعلم أين أذهب، وحلَّ في قلبي كلُّ همٍّ في الدنيا،
وأشغلني الوسواس، وقلت في نفسي: كيف أجيء في البحر بمائة ألف ألف من جملتها ثمن
ثلاثين مركبًا ويذهب هذا كله في دارِ هذا الشيخ النحس، وبعد ذلك أخرج من عنده
عريانًا مكسور القلب؟! فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! ثم أقمت في بغداد
ثلاثة أيام لم أذُق طعامًا ولا شرابًا، وفي اليوم الرابع رأيت سفينة متوجِّهة إلى
البصرة، فنزلت فيها واستكريت مع صاحبها إلى أن وصلَتِ البصرة، فدخلتُ السوق وأنا
في شدة الجوع، فرآني رجل بقَّال، فقام إليَّ وعانقني؛ لأنه كان صاحبًا لي ولأبي من
قبلي، وسألني عن حالي، فأخبرته بجميع ما جرى لي، فقال: والله ما هذه فِعَال عاقل!
ومع هذا الذي جرى لك فأي شيء في ضميرك تريد أن تفعله؟ فقلت له: لا أدري ماذا أفعل.
فقال: أتجلس عندي وتكتب خرجي ودخلي، ولك في كل يوم درهمان زيادة على أكلك وشربك؟
فأجبته إلى ذلك وأقمت عنده يا أمير المؤمنين سنةً كاملة أبيع وأشتري إلى أن صار
معي مائة دينار، فاستأجرت غرفةً على شاطئ البحر؛ لعل مركبًا يأتي ببضاعة فأشتري
بالدنانير بضاعة وأتوجَّه بها إلى بغداد. فاتفق في بعض الأيام أن المركب جاء،
وتوجَّه إليه جميع التجار يشترون، فرُحتُ معهم، وإذا برجلَيْن قد خرجَا من بطن
المركب ونصبا لهما كرسيَّيْن وجلسا عليهما، ثم أقبل التجار عليهما لأجل الشراء،
فقالا لبعض الغلمان: أحضِرُوا البساط. فأحضَرُوه وجاء واحد بخُرجٍ فأخرج منه
جرابًا وفتحه وكبَّه على البساط، وإذا به يخطف البصر لما فيه من الجواهر واللؤلؤ
والمرجان والياقوت والعقيق من سائر الألوان. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن
الكلام المباح.