﴿اللیلة 951﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الشاب لما أخبر الخليفة بقضية التجار، وبالجراب وما
فيه من سائر أنواع الجواهر قال: يا أمير المؤمنين، ثم إن واحدًا من الرجلين
الجالسَيْن على الكراسي التفت إلى التجار وقال لهم: يا معاشر التجار، أنا ما أبيع
في يومي هذا لأني تعبان. فتزايدت التجار في الثمن حتى بلغ مقداره أربعمائة دينار،
فقال لي صاحب الجراب وكان بيني وبينه معرفة قديمة: لماذا لم تتكلَّم ولم تزوِّد
مثل التجار؟ فقلت له: والله يا سيدي ما بقي عندي شيء من الدنيا سوى مائة دينار. واستحييت
منه ودمعت عيني، فنظر إليَّ وقد عسر عليه حالي، ثم قال للتجار: اشهدوا عليَّ أني
بعتُ جميع ما في الجراب من أنواع الجواهر والمعادن لهذا الرجل بمائة دينار، وأنا
أعرف أنه يساوي كذا وكذا ألف دينار، وهو هدية مني إليه. فأعطاني الخرج والجراب
والبساط وجميع ما عليه من الجواهر، فشكرته على ذلك، وجميع مَن حضر من التجار
أثنَوْا عليه، ثم أخذتُ ذلك ومضيت به إلى سوق الجواهر، وقعدت أبيع وأشتري، وكان من
جملة هذه المعادن قرص تعويذ صنعة المعلمين، زِنتُه نصفُ رطل، وكان أحمر شديد
الحُمْرة، وعليه أسطر مثل دبيب النمل من الجانبَيْن، ولم أعرف منفعته، فبعتُ
واشتريت مدة سنة كاملة، ثم أخذتُ قرصَ التعويذ وقلت: هذا له عندي مدة لا أعرفه ولا
أعرف منفعته. فدفعتُه إلى الدلَّال فأخذه ودار به، ثم عاد وقال: ما دفع فيه أحد من
التجار سوى عشرة دراهم. فقلت: ما أبيعه بهذا القدر! فرماه في وجهي وانصرف، ثم
عرضتُه للبيع يومًا آخر فبلغ ثمنه خمسة عشر درهمًا، فأخذته من الدلَّال مغضبًا،
ورميته عندي.
فبينما
أنا جالس يومًا، إذ أقبل عليَّ رجل فسلَّم عليَّ وقال لي: عن إذنك، هل أقلِّب ما
عندك من البضائع؟ قلت: نعم. وأنا يا أمير المؤمنين مغتاظ من كساد قرص التعويذ،
فقلَّبَ الرجل البضاعة ولم يأخذ منها سوى قرص التعويذ، فلما رآه يا أمير المؤمنين
قبَّلَ يده وقال: الحمد لله! ثم قال: يا سيدي، أتبيع هذا؟ فازداد غيظي وقلت له:
نعم. فقال لي: كم ثمنه؟ فقلت له: كم تدفع أنت فيه؟ قال: عشرين دينارًا. فتوهَّمتُ
أنه يستهزئ بي، فقلت: اذهب إلى حال سبيلك. فقال لي: هو بخمسين دينار. فلم أخاطبه،
فقال: بألف دينار. هذا كله يا أمير المؤمنين وأنا ساكت ولم أُجِبه، وهو يضحك من
سكوتي ويقول: لأي شيء لم تردَّ عليَّ؟ فقلت له: اذهب إلى حال سبيلك. وأردت أن
أخاصمه وهو يزيد ألفًا بعد ألف، ولم أردَّ عليه حتى قال: أتبيعه بعشرين ألف دينار؟
وأنا أظن أنه يستهزئ بي، فاجتمع علينا الناس وكلٌّ منهم يقول لي: بِعْه، وإن لم
يشترِ فنحن الكل عليه، ونضربه ونُخرِجه من البلد. فقلت له: هل أنت تشتري أو
تستهزئ؟ فقال: هل أنت تبيع أو تستهزئ؟ قلت له: أبيع. قال: هو بثلاثين ألف دينار،
خذها وأمضِ البيع. فقلت للحاضرين: اشهدوا عليه، ولكن بشرط أن تخبرني ما فائدته،
وما نفعه. قال: أمضِ البيع وأنا أخبرك بفائدته ونفعه. فقلت: بِعتُك. فقال: الله
على ما أقول وكيل. ثم أخرَجَ الذهب وقبَّضني إياه، وأخذ قرص التعويذ ووضعه في
جيبه، ثم قال لي: هل رضيتَ؟ قلت: نعم. فقال: اشهدوا عليه أنه أمضى البيع وقبض
الثمن ثلاثين ألف دينار. ثم إنه التفت إليَّ وقال لي: يا مسكين، والله لو أخَّرتَ
البيع لزدناك إلى مائة ألف دينار، بل إلى ألف ألف دينار. فلمَّا سمعت يا أمير
المؤمنين هذا الكلام نفر الدم من وجهي، وعلا عليه هذا الاصفرار الذي أنت تنظره من
ذلك اليوم. ثم قلت له: أخبرني ما سبب ذلك؟ وما نفع هذا القرص؟ فقال: اعلم أن ملك
الهند له بنت لم يُرَ أحسن منها، وبها داء الصداع، فأحضر الملك أرباب الأقلام وأهل
العلوم والكهان، فلم يرفعوا عنها ذلك، فقلتُ له — وكنت حاضرًا بالمجلس: أيها
الملك، أنا أعرف رجلًا يُسمَّى سعد الله البابلي، ما على وجه الأرض أعرَفُ منه
بهذه الأمور، فإن رأيتَ أن ترسلني إليه فافعل. فقال: اذهب إليه. فقلت له: أَحضِر
إليَّ قطعة من العقيق. فأحضر لي قطعة كبيرة من العقيق ومائة ألف دينار وهدية،
فأخذت ذلك وتوجَّهت إلى بلاد بابل، فسألت عن الشيخ فدلُّوني عليه، ودفعت له المائة
ألف دينار والهدية، فأخذ ذلك مني، ثم أخذ القطعة العقيق وأحضر حكَّاكًا فعملها هذا
التعويذ، ومكث الشيخ سبعة أشهر يرصد النجم حتى اختار وقتًا للكتابة وكتب عليه هذه
الطلاسم التي تنظرها، ثم جئت به إلى الملك. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن
الكلام المباح.
﴿اللیلة 952﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الشاب قال لأمير المؤمنين: إن الرجل قال لي: أخذتُ
هذا التعويذ وجئتُ به إلى الملك، فلما وضعه على ابنته بَرِئت من ساعتها، وكانت
مربوطة في أربع سلاسل، وكل ليلة تبيت عندها جارية فتصبح مذبوحة، فمن حين وُضِع
عليها هذا التعويذ بَرِئت لوقتها، وفرح الملك بذلك فرحًا شديدًا، وخلع عليَّ
وتصدَّق بمال كثير، ثم وضعه في عقدها، فاتفق أنها نزلت يومًا في مركب هي وجواريها
تتنزَّه في البحر، فمدَّت جارية يدها إليها لتلاعبها، فانقطع العقد وسقط في البحر،
فعاد من ذلك الوقت العارضُ لابنة الملك، فحصل للملك ما حصل من الحزن، فأعطاني
مالًا كثيرًا وقال لي: اذهب إلى الشيخ ليعمل لها تعويذًا عِوضًا عنه، فسافرت إليه
فوجدتُه قد مات، فرجعت إلى الملك وأخبرته، فبعثني أنا وعشرة أنفس نطوف في البلاد لعلنا
نجد لها دواءً، فأوقعني الله به عندك. فأخذه مني يا أمير المؤمنين وانصرف، فكان
ذلك الأمر سببًا للاصفرار الذي في وجهي.
ثم
إني توجَّهت إلى بغداد ومعي جميع مالي، وسكنت في الدار التي كنت فيها، فلما أصبح
الصباح لبستُ ثيابي وجئت إلى بيت طاهر بن العلاء لعلي أرى مَن أحبها؛ فإن حبها لم
يَزَل يتزايد في قلبي. فلما وصلتُ إلى داره رأيت الشباك قد انهدم، فسألت غلامًا
وقلت له: ما فعل الله بالشيخ؟ فقال: يا أخي، إنه قَدِم عليه في سنة من السنين رجل
تاجر يقال له أبو الحسن العماني، فأقام مع ابنته مدة من الزمان، ثم بعدما ذهب ماله
أخرَجَه الشيخ من عنده مكسورَ الخاطر، وكانت الصبيَّة تحبه حبًّا شديدًا، فلما
فارَقَها مرضتْ مرضًا شديدًا حتى بلغت الموت، وعرف أبوها بذلك فأرسَلَ خلفَه في
البلاد، وقد ضمن لمَن يأتي به مائة ألف دينار، فلم يَرَه أحد، ولم يقع له على أثر،
وهي إلى الآن مشرفةٌ على الموت. قلت: وكيف حال أبيها؟ قال: باع الجواري من عِظَم
ما أصابه. فقلت له: هل أدلُّك على أبي الحسن العماني؟ فقال: بالله عليك يا أخي أن
تدلَّني عليه. فقلت له: اذهب إلى أبيها وقل له: البشارة عندك؛ فإن أبا الحسن
العماني واقف على الباب. فذهب الرجل يهرول كأنه بغل انطلق من طاحون، ثم غاب ساعة
وجاء وصحبته الشيخ، فلما رآني رجع إلى داره وأعطى الرجل مائة ألف دينار، فأخذها
وانصرف وهو يدعو لي، ثم أقبل الشيخ وعانقني وبكى وقال: يا سيدي، أين كنتَ في هذه
الغيبة؟ قد هلكتِ ابنتي من أجل فراقك، فادخل معي إلى المنزل. فلما دخلتُ سجد شكرًا
لله تعالى وقال: الحمد لله الذي جمعنا بك. ثم دخل لابنته وقال لها: قد شفاكِ الله
من هذا المرض. فقالت: يا أبتِ، ما أبرأ من مرضي إلا إذا نظرتُ وجهَ أبي الحسن.
فقال: إذا أكلتِ أكلةً ودخلتِ الحمام جمعتُ بينكما. فلما سمعت كلامه قالت: أصحيح
ما تقول؟ قال لها: والله العظيم إن الذي قلته صحيح. فقالت: والله إن نظرتُ وجهه
فما أحتاج إلى أكل. فقال لغلامه: أحضِرْ سيدك. فدخلت، فلما نظرتْ إليَّ يا أمير
المؤمنين وقعتْ مغشيًّا عليها، فلما أفاقتْ أنشدَتْ هذا البيت:
وَقَدْ
يَجْمَعُ اللهُ الشَّتِيتَيْنِ بَعْدَمَا
يَظُنَّانِ كُلَّ الظَّنِّ أنْ
لَا تَلَاقِيَا
ثم
استوتْ جالسةً وقالت: والله يا سيدي ما كنتُ أظن أني أرى وجهك إلا إن كان منامًا.
ثم إنها عانقَتْني وبكت، وقالت: يا أبا الحسن، الآن آكل وأشرب. فأحضروا الطعام
والشراب، ثم صرتُ عندهم يا أمير المؤمنين مدةً من الزمان وعادت لِمَا كانت عليه من
الجمال، ثم إن أباها استدعى بالقاضي والشهود وكتب كتابها عليَّ، وعمل وليمة عظيمة،
وهي زوجتي إلى الآن.
ثم
إن ذلك الفتى قام من عند الخليفة ورجع إليه بغلام بديع الجمال، بقدٍّ ذي رشاقة
واعتدال، وقال له: قبِّلِ الأرضَ بين أيادي أمير المؤمنين. فقبَّل الأرض بين يدي
الخليفة، فتعجَّب الخليفة من حُسنه وسبَّح خالقه، ثم إن الرشيد انصرف هو وجماعته
وقال: يا جعفر، ما هذا إلا شيء عجيب، ما رأيت ولا سمعت بأغرب منه! فلما جلس الرشيد
في دار الخلافة قال: يا مسرور. قال: لبيك يا سيدي. قال: اجعل في هذا الإيوان خراج
البصرة وخراج بغداد وخراج خراسان. فجمعه فصار مالًا عظيمًا لا يُحصِي عددَه إلا
الله. ثم قال الخليفة: يا جعفر. قال: لبيك. قال: أحضِرْ لي أبا الحسن. قال: سمعًا
وطاعة. ثم أحضره، فلما حضر قبَّلَ الأرض بين يدي الخليفة وهو خائف أن يكون طلبه له
بسبب خطأ وقع منه وهو عنده بمنزله، فقال الرشيد: يا عماني. قال له: لبيك يا أمير
المؤمنين، خلَّد الله نِعَمه عليك. فقال: اكشف هذه الستارة. وكان الخليفة أمرهم أن
يضعوا مال الثلاثة أقاليم ويسبلوا عليه الستارة. فلما كشف العماني الستارة عن
الإيوان اندهش عقله من كثرة المال، فقال الخليفة: يا أبا الحسن، أهذا المال أكثر
أم الذي فاتك من قرص التعويذ؟ فقال: بل هذا يا أمير المؤمنين أكثر بأضعاف كثيرة.
قال الرشيد: اشهدوا يا مَن حضر أني وهبت هذا المال لهذا الشاب. فقبَّلَ الأرض
واستحى وبكى من شدة الفرح بين يدي الرشيد، فلما بكى جرى الدمع من عينه على خده،
فرجع الدم إلى محله، فصار وجهه كالبدر ليلة تمامه، فقال الخليفة: لا إله إلا الله،
سبحان مَن يغيِّر حالًا بعد حال وهو باقٍ لا يتغير! ثم أتى بمرآة وأراه وجهه فيها،
فلما رآه سجد شكرًا لله تعالى، ثم أمر الخليفة أن يُحمَل إليه المال، وسأله أنه لا
ينقطع عنه لأجل المنادمة. فصار يتردد إليه إلى أن تُوفِّي الخليفة إلى رحمة الله
تعالى، فسبحان الحي الذي لا يموت ذي الملك والملكوت.
ومما
يُحكى أيضًا أيها الملك السعيد، أن الخصيب صاحب مصر كان له ولد ولم يكن في زمانه
أحسن منه، وكان من خوفه عليه لا يمكِّنه من الخروج إلا لصلاة الجمعة، فمرَّ وهو
خارج من صلاة الجمعة على رجل كبير وعنده كتب كثيرة، فنزل عن فَرَسه وجلس عنده،
وقلَّبَ الكتب وتأمَّلها، فرأى فيها صورة امرأة تكاد أن تنطق، ولم يَرَ أحسن منها
على وجه الأرض، فسلبت عقله وأدهشت لبَّه، فقال له: يا شيخ، بِعْني هذه الصورة.
فقبَّل الأرضَ بين يديه، ثم قال: يا سيدي، بغير ثمن. فدفع له مائة دينار، وأخذ
الكتاب الذي فيه هذه الصورة وصار ينظر إليها ويبكي ليله ونهاره، وامتنع من الطعام
والشراب والمنام، وقال في نفسه: لو سألتُ الكُتُبي عن صانع هذه الصورة مَن هو
لَربما أخبرني، فإن كانت صاحبتها في الحياة توصَّلتُ إليها، وإن كانت صورةً مطلقة
تركتُ التولُّعَ بها، ولا أعذِّب نفسي بشيء لا حقيقةَ له. وأدرك شهرزاد الصباح،
فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 953﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الشاب لما قال في نفسه: لو سألت الكُتبي عن هذه
الصورة لربما أخبرني، فإن كانت صورةً مُطلَقةً تركتُ التولُّع بها، ولا أعذِّب
نفسي بشيء لا حقيقة له. فلما كان يوم الجمعة مرَّ على الكُتبي، فنهض إليه قائمًا،
فقال له: يا عمِّ، أخبرني مَن صنع هذه الصورة؟ قال: يا سيدي، صنعها رجل من أهل
بغداد يُقال له أبو القاسم الصندلاني، في حارة الكرخ، وما أعلم صورةَ مَن هي. فقام
الغلام من عنده ولم يُعلِم بحاله أحدًا من أهل مملكته، ثم صلَّى الجمعة وعاد إلى
البيت، فأخذ جرابًا وملأه من الجواهر والذهب، وقيمة الجواهر ثلاثون ألف دينار، ثم
صبر إلى الصباح وخرج ولم يُعلِم أحدًا، ولحق قافلة فرأى بدويًّا، فقال له: يا
عمِّ، كم بيني وبين بغداد؟ فقال له: يا ولدي، أين أنت وأين بغداد؟! بينك وبينها
مسيرة شهرين. فقال له: يا عمِّ، إن وصَّلتني إلى بغداد أعطيتك مائة دينار، وهذه
الفرس التي تحتي وقيمتها ألف دينار. فقال له البدوي: الله على ما تقول وكيل، ولكن
لا تنزل في هذه الليلة إلا عندي. فأجابه إلى قوله وبات عنده، فلما لاح الفجر أخذه
البدوي ثم سار به سريعًا في طريق قريب؛ طمعًا في تلك الفرس التي وعده بها، وما
زالا سائرَيْن حتى وصلا إلى حيطان بغداد، فقال له البدوي: الحمد لله على السلامة
يا سيدي، هذه بغداد. ففرح الغلام فرحًا شديدًا، ونزل عن الفرس وأعطاها للبدوي هي
والمائة دينار، ثم أخذ الجراب وسار يسأل عن حارة الكرخ، وعن محل التجار، فساقه
القدر إلى درب فيه عشر حجر، خمس تقابل خمسًا، وفي صدر الدرب باب بمصراعين، له حلقة
من فضة، وفي الباب مصطبتان من الرخام مفروشتان بأحسن الفرش، وفي إحداهما رجل جالس
وهو مُهابٌ حسن الصورة، وعليه ثياب فاخرة، وبين يديه خمسة مماليك كأنهم أقمار.
فلما رأى الغلام ذلك عرف العلامة التي ذكرها له الكُتبي، فسلَّم على الرجل، فردَّ
عليه السلام ورحَّب به، وأجلسه وسأله عن حاله، فقال له الغلام: أنا رجل غريب،
وأريد من إحسانك أن تنظر لي في هذا الدرب دارًا لأسكن فيها. فصاح الرجل وقال: يا
غزالة. فخرجت إليه جارية وقالت: لبيك يا سيدي. فقال: خذي معك بعض خدم واذهبوا إلى
حجرة ونظِّفوها وافرشوها وحطُّوا فيها جميع ما يحتاج إليه من آنية وغيرها لأجل هذا
الشاب الحسن الصورة. فخرجت الجارية وفعلت ما أمرها به، ثم أخذه الشيخ وأراه الدار،
فقال له الغلام: يا سيدي، كم أجرة هذه الدار؟ فقال له: يا صَبيح الوجه، أنا ما آخذ
منك أجرة ما دمتَ فيها. فشكره على ذلك.
ثم
إن الشيخ نادى جارية أخرى، فخرجت جارية كأنها الشمس، فقال لها: هاتي الشطرنج. فأتت
به، ففرش المملوك الرقعة وقال الشيخ للغلام: أتلعب معي؟ قال: نعم. فلعب معه مرات
والغلام يغلبه، فقال: أحسنت يا غلام، ولقد كملت صفاتك، والله ما في بغداد مَن
يغلبني، وقد غلبتني أنت. ثم بعد أن هيَّئوا الدار بالفرش وسائر ما يحتاج إليه،
سلَّم إليه المفاتيح وقال له: يا سيدي، ألا تدخل منزلي وتأكل عيشي فنتشرَّف بك؟
فأجابه الغلام إلى ذلك، ومشى معه، فلما وصلا إلى الدار رأى دارًا حَسَنة جميلة
مزركشة بالذهب، وفيها من جميع التصاوير، وفيها من أنواع الفرش والأمتعة ما يعجز عن
وصفه اللسان. ثم صار يحييه وأمر بإحضار الطعام، فأتوا بمائدة من شغل صنعاء اليمن،
فوُضِعت، وأتوا بالطعام ألوانًا غريبة لم يوجد أفخر منها ولا ألذُّ، فأكل الغلام
حتى اكتفى، ثم غسل يديه، وصار الغلام ينظر إلى الدار والفرش، ثم التفت إلى الجراب
الذي كان معه فلم يَرَه، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أكلتُ
لقمةً تساوي درهمًا أو درهمين فذهب مني جراب فيه ثلاثون ألف دينار، ولكن استعنتُ
بالله. ثم سكت ولم يقدر أن يتكلم. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 954﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الغلام لما رأى الجراب مفقودًا حصل له غمٌّ كبير،
فسكت ولم يقدر أن يتكلم، فقدَّم الشيخ الشطرنج وقال للغلام: هل تلعب معي؟ قال:
نعم. فلعب فغلبه الشيخ، فقال الغلام: أحسنتَ. ثم ترك اللعب وقام، فقال له: ما لكَ
يا غلام؟ فقال: أريد الجراب. فقام وأخرجه له وقال: ها هو يا سيدي، هل ترجع إلى
اللعب معي؟ قال: نعم. فلعب معه فغلبه الغلام، فقال الرجل: لمَّا اشتغل فكرك
بالجراب غلبتُك، فلما جئت به إليك غلبتَني. ثم قال له: يا ولدي، أخبِرني من أي
البلاد أنت؟ فقال: من مصر. فقال له: وما سبب مجيئك إلى بغداد؟ فأخرج له الصورة
وقال: اعلم يا عمِّ أني ولد الخصيب صاحب مصر، وقد رأيت هذه الصورة عند رجل كُتبي
فسلبَتْ عقلي، فسألتُ عن صانعها فقيل لي: إن صانعها رجل من بغداد بِحارة الكرخ
يُقال له أبو القاسم الصندلاني، بدربٍ يُعرَف بدرب الزعفران، فأخذت معي شيئًا من
المال وجئت وحدي ولم يعلم بحالي أحد، وأريد من تمام إحسانك أن تدلَّني عليه حتى
أسأله عن سبب تصويره لهذه الصورة، وصورة مَن هي، ومهما أراده مني فإني أعطيه إياه.
فقال: والله يا ابني إني أنا أبو القاسم الصندلاني، وهذا أمر عجيب! كيف ساقتك
المقادير إليَّ؟ فلما سمع الغلام كلامه قام إليه وعانَقَه وقبَّلَ رأسه ويديه،
وقال له: بالله عليك أن تخبرني بصورة مَن هي؟ فقال: سمعًا وطاعةً. ثم قام وفتح
خزانة وأخرج منها عدة كتب كان صوَّر فيها هذه الصورة، وقال: اعلم يا ولدي أن
صاحبةَ هذه الصورة ابنةُ عمي، وهي في البصرة، وأبوها حاكم البصرة يُقال له أبو
الليث، وهي يُقال لها جميلة، وما على وجه الأرض أجمل منها، ولكنها زاهدة في
الرجال، ولم تقدر أن تسمع ذِكْرَ رجلٍ في مجلسها، وقد ذهبتُ إلى عمي بقصد أنه
يزوِّجني بها، وبذلتُ له الأموال فلم يُجِبني إلى ذلك، فلما علمَتِ ابنتُه بذلك
اغتاظتْ وأرسلت إليَّ كلامًا من جملته أنها قالت: إن كان لك عقل فلا تُقِم بهذه
البلدة وإلا تهلك ويكون ذنبك في عنقك. وهي جبَّارة من الجبابرة، فخرجت من البصرة
وأنا منكسر الخاطر، وعملت هذه الصورة في الكُتب وفرَّقتها في البلاد؛ لعلها تقع في
يد غلامٍ حَسَن الصورة مثلك فيتحيَّل في الوصول إليها؛ لعلها تعشقه، وأكون قد أخذت
عليه العهد أنه إذا تمكَّنَ منها يُريني إياها ولو نظرة من بعيد. فلما سمع إبراهيم
بن الخصيب كلامه أطرق رأسه ساعةً وهو يتفكَّر، فقال له الصندلاني: يا ولدي، إني ما
رأيت ببغداد أحسن منك، وأظن أنها إذا نظرَتْك تحبك، فهل يمكنك إذا اجتمعتَ بها
وظفرتَ بها أن تريني إياها ولو نظرةً من بعيد؟ فقال: نعم. فقال: إذا كان الأمر
كذلك فأقِمْ عندي إلى أن تسافر. فقال: لا أقدر على المقام؛ فإنَّ في قلبي من
عِشْقها نارًا زائدة. فقال له: اصبر حتى أجهِّز لك مركبًا في ثلاثة أيام لتذهب فيه
إلى البصرة. فصبر حتى جهَّز له مركبًا ووضع فيه كلَّ ما يحتاج إليه من مأكول
ومشروب وغير ذلك. وبعد الثلاثة أيام قال للغلام: تجهَّزْ للسفر؛ فقد جهَّزتُ لك
مركبًا فيه سائر ما تحتاج إليه، والمركب ملكي، والملَّاحون من أتباعي، وفي المركب
ما يكفيك إلى أن تعود، وقد وصَّيتُ الملَّاحين أن يخدموك إلى أن ترجع بالسلامة.
فنهض الغلام ونزل في المركب، وودَّعه وسار حتى وصل إلى البصرة، فأخرج الغلام مائة
دينار للملَّاحين، فقالوا له: نحن أخذنا الأُجرة من سيدنا. فقال لهم: خذوها
إنعامًا وأنا لا أخبره بذلك. فأخذوها منه ودعوا له.
ثم
دخل الغلام البصرة وسأل: أين مسكن التجار؟ فقالوا له: في خان يُسمَّى خان حمدان.
فمشى حتى وصل إلى السوق الذي فيه الخان، فامتدت إليه الأعين بالنظر من فرط حُسْنه
وجماله. ثم دخل الخان مع رجل ملَّاح وسأل عن البواب، فدلُّوه عليه، فرآه شيخًا
كبيرًا مُهابًا، فسلَّم عليه، فردَّ عليه السلام، فقال: يا عمِّ، هل عندك حجرة
ظريفة؟ قال: نعم. ثم أخذه هو والملَّاح وفتح لهما حجرةً ظريفة مزركشة بالذهب،
وقال: يا غلام، إن هذه الحجرة تصلُح لك. فأخرج الغلام دينارين وقال له: خُذْ هذين
حلوان المفتاح. فأخذهما ودعا له وأمر الغلامُ الملَّاحَ بالذهاب إلى المركب، ثم
دخل الحجرة، فاستمرَّ عنده بواب الخان وخدَمَه، وقال له: يا سيد، حصل لنا بك
السرور. فأعطاه الغلام دينارًا وقال له: هاتِ لنا به خبزًا ولحمًا وحلوى وشرابًا.
فأخذه وذهب إلى السوق ورجع إليه، وقد اشترى ذلك بعشرة دراهم وأعطاه الباقي، فقال
له الغلام: اصرفه على نفسك. ففرح بوَّاب الخان بذلك فرحًا عظيمًا. ثم إن الغلام
أكل مما طلبه قرصًا واحدًا بقليل من الأُدُم، وقال لبوَّاب الخان: خُذْ هذا إلى
أهل منزلك. فأخذه وذهب به إلى أهل منزله، وقال لهم: ما أظن أن أحدًا على وجه الأرض
أكرم من الغلام الذي سكن عندنا في هذا اليوم ولا أحلى منه، فإن دام عندنا حصل لنا
الغنى. ثم إن بوَّاب الخان دخل على إبراهيم فرآه يبكي، فقعد وصار يكبِّس رجلَيْه،
ثم قبَّلهما وقال: يا سيدي، لأي شيء تبكي، لا أبكاك الله؟ فقال: يا عمِّ، أريد أن
أشرب أنا وأنت في هذه الليلة. فقال له: سمعًا وطاعة. فأخرج له خمسة دنانير وقال
له: اشترِ لنا بها فاكهة وشرابًا. ثم دفع له خمسة دنانير أخرى وقال له: اشترِ لنا
بهذه نقلًا ومشمومًا وخمس دجاجات سمان، وأحضر لي عودًا. فخرج واشترى له ما أمره
به، وقال لزوجته: اصنَعي هذا الطعام، وصفِّي لنا هذا الشراب، وليكن ما تصنعينه جيدًا؛
فإن هذا الغلام قد عمَّنا بإحسانه. فصنعت زوجته ما أمرها به على غاية المراد، ثم
أخذه ودخل به على إبراهيم ابن السلطان. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام
المباح.
﴿اللیلة 955﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن بوَّاب الخان لمَّا صنعت زوجتُهُ الطعام والشراب أخذه
ودخل به على ابن السلطان، فأكلا وشرِبا وطرِبا، فبكى الغلام وأنشد هذين البيتين:
يَا
صَاحِبِي لَوْ بَذَلْتَ الرُّوحَ مُجْتَهِدًا وَجُمْلَةَ الْمَالِ وَالدُّنْيَا وَمَا
فِيهَا
وَجَنَّةَ
الْخُلْدِ وَالْفِرْدَوْسَ أَجْمَعَهَا
بِسَاعَةِ الْوَصْلِ كَانَ الْقَلْبُ شَارِيهَا
ثم
شهق شهقةً عظيمة وخَرَّ مغشيًّا عليه، فتنهَّد بوَّاب الخان، فلما أفاق قال له
بواب الخان: يا سيدي، ما يُبكِيك؟ ومَن هي التي تريدها بهذا الشِّعر؟ فإنها لا
تكون إلا ترابًا لأقدامك. فقام الغلام وأخرَجَ بقجة من أحسن ملابس النساء، وقال
له: خُذْ هذه إلى حريمك. فأخذها منه ودفعها إلى زوجته، فأتت معه ودخلت على الغلام،
فإذا هو يبكي، فقالت له: فتَّتَّ أكبادنا، فعرِّفنا بأي مليحة تريدها، وهي لا تكون
إلا جارية عندك. فقال: يا عمِّ، اعلم أني أنا ابن الخصيب صاحب مصر، وأني متعلِّق
بجميلة بنت الليث العميد. فقالت زوجة بواب الخان: الله الله يا أخي أن تترك هذا
الكلام لئلا يسمع بنا أحدٌ فنهلك؛ فإنه ما على وجه الأرض أجبرُ منها ولا يقدر أحدٌ
أن يذكر لها اسم رجل؛ لأنها زاهدة في الرجال. فيا ولدي، اعدلْ عنها لغيرها. فلما
سمع كلامها بكى بكاءً شديدًا، فقال له بواب الخان: ما لي سوى روحي، فأنا أخاطر بها
في هواك، وأُدبِّر لكَ أمرًا فيه بلوغ مرادك. ثم خرجا من عنده، فلما أصبح الصباح
دخل الحمَّام ولبس حلة من ملبوس الملوك، وإذا ببوَّاب الخان هو وزوجته قَدِما عليه
وقالا له: يا سيدي، اعلم أن هنا رجلًا خيَّاطًا أحدب، وهو خيَّاط السيدة جميلة،
فاذهبْ إليه وأخبره بحالك، فعساه يدلُّك على ما فيه وصولك إلى أغراضك. فقام الغلام
وقصد دكان الخياط الأحدب، فدخل عليه فوجد عنده عشرة مماليك كأنهم الأقمار، فسلَّم
عليهم فردُّوا عليه السلام، وفرحوا به وأجلسوه وتحيَّروا في محاسنه وجماله، فلما
رآه الأحدب اندهش عقله من حُسْن صورته، فقال له الغلام: أريد أن تخيط لي جيبي.
فتقدَّم الخياط وأخذ فتلةً من الحرير وخاطه، وكان الغلام قد فتق جيبه عمدًا، فلما
خاطه أخرج له خمسة دنانير وأعطاها له، وانصرف إلى حجرته، فقال الخياط: أي شيء عملته
لهذا الغلام حتى أعطاني الخمسة دنانير؟! ثم بات ليلته يفكِّر في حُسْنه وكرمه،
فلما أصبح الصباح ذهب إلى دكان الخياط الأحدب، ثم دخل وسلَّم عليه، فردَّ عليه
السلام وأكرمه ورحَّب به، فلما جلس، قال للأحدب: يا عمِّ، خيِّط لي جيبي، فإنه
فُتِق ثانيًا. فقال له: يا ولدي، على الرأس والعين. ثم تقدَّم وخاطه، فدفع له عشرة
دنانير، فأخذها وصار مبهوتًا من حُسنه وكرمه، ثم قال: والله يا غلام، إن فعلك هذا
لا بد له من سبب، وما هذا خبر خياطة جيب، ولكن أخبرني عن حقيقة أمرك، فإن كنتَ
عشقت واحدًا من هؤلاء الأولاد، فوالله ما فيهم أحسن منك، وكلهم تراب أقدامك، وها
هم عبيدك بين يديك، وإن كان غير هذا فأخبرني. فقال: يا عمِّ، ما هذا محل الكلام،
فإنَّ حديثي عجيب وأمري غريب. قال: فإذا كان الأمر كذلك فقُمْ بنا في خلوة.
ثم
نهض الخيَّاط وأخذ بيده ودخل معه حجرة في داخل الدكان، وقال له: يا غلام، حدِّثني.
فحدَّثه بأمره من أوله إلى آخره، فبُهِت من كلامه وقال: يا غلام، اتقِ الله في
نفسك، فإن التي ذكرتَها جبَّارة زاهدة في الرجال، فاحفظْ يا أخي لسانك، وإلا فإنك
تهلك نفسك. فلما سمع الغلام كلامه بكى بكاءً شديدًا، ولزم ذيل الخياط وقال: أجِرني
يا عم، فإني هالك، وقد تركت مُلكي ومُلك أبي وجَدِّي وصرت في البلاد غريبًا
وحيدًا، ولا صبرَ لي عنها. فلما رأى الخياط ما حلَّ به رَحِمه وقال: يا ولدي، ما
عندي إلا نفسي، فأخاطر بها في هواك، فإنك قد جرحتَ قلبي، ولكن في غدٍ أُدبِّر لك
أمرًا يطيب به قلبك. فدعا له وانصرف إلى الخان، فحدَّثَ بوَّابَ الخان بما قاله
الأحدب، فقال له: قد فعل معك جميلًا. فلما أصبح الصباح لبس الغلام أفخر ثيابه،
وأخذ معه كيسًا فيه دنانير، وأتى إلى الأحدب فسلَّم عليه وجلس، ثم قال له: يا
عمِّ، أنجز وعدي. فقال له: قُم في هذه الساعة وخُذْ ثلاثَ دجاجات سمان وثلاث أواقٍ
من السكر النبات، وكوزَيْن لطيفَيْن واملأهما شرابًا، وخذْ قدحًا وضَعْ ذلك في
كارة، وانزل بعد صلاة الصبح في زورق مع ملَّاح وقل له: أريد أن تذهب بي تحت
البصرة. فإن قال لك: ما أقدر أن أعدِّي أكثر من فرسخ، فقل له: الرأي لك. فإذا
عدَّى فرغِّبه بالمال حتى يوصلك، فإذا وصلتَ فأول بستان تراه فإنه بستان السيدة
جميلة، فإذا رأيته فاذهب إلى بابه تَرَ درجتين عاليتين عليهما فرش من الديباج،
وجالس عليهما رجل أحدب مثلي، فاشْكُ إليه حالك، وتوسَّل به، فعساه أن يرثي لحالك
ويوصلك إلى أن تنظرها ولو نظرة من بعيد، وما بيدي حيلة غير هذا. وأما إذا لم يرثِ
لحالك فقد هلكتُ أنا وأنت، وهذا ما عندي من الرأي، والأمر إلى الله تعالى. فقال
الغلام: استعنتُ بالله، ما شاء الله كان ولا حول ولا قوة إلا بالله. ثم قام من عند
الخياط الأحدب وذهب إلى حجرته، وأخذ ما أمره به في كارة لطيفة، ثم إنه لما أصبح
جاء إلى شاطئ الدجلة، وإذا هو برجل ملَّاح نائم، فأيقَظَه وأعطاه عشرة دنانير وقال
له: عَدِّني إلى تحت البصرة. فقال له: يا سيدي، بشرط أني لا أعدِّي أكثر من فرسخ،
وإن تجاوزتُه شبرًا هلكتُ أنا وأنت. فقال له: الرأي لك. فأخذه وانحدر به، فلما قرب
من البستان قال: يا ولدي، من هنا ما أقدر أن أعدِّي، فإن تعديتُ هذا الحد هلكتُ
أنا وأنت. فأخرَجَ له عشرة دنانير أخرى وقال له: خُذْ هذه النفقة لتستعين بها على
حالك. فاستحى منه وقال: سلَّمتُ الأمرَ لله تعالى. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ
عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 956﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الغلام لما أعطى للملَّاح العشرة دنانير الأخرى أخذها
وقال: سلَّمتُ الأمر لله تعالى. وانحدر به، فلما وصل إلى البستان نهض الغلام من
فرحته، ووثب من الزورق وثبةً مقدار رمية رمح، ورمى نفسه، فرجع الملاح هاربًا، ثم
تقدَّم الغلام فرأى جميع ما وصفه له الأحدب من البستان، ورأى بابه مفتوحًا، وفي
الدهليز سرير من العاج جالس عليه رجل أحدب لطيف المنظر، عليه ثياب مذهَّبة، وفي
يده دبوس من فضة مطلي بالذهب. فنهض الغلام مسرعًا وانكبَّ على يده وقبَّلها، فقال
له: مَن أنت؟ ومِن أين أتيت؟ ومَن أوصلك إلى ها هنا يا ولدي؟ وكان ذلك الرجل لما
رأى إبراهيم بن الخصيب انبهر من جماله، فقال له إبراهيم: يا عمِّ، أنا صبي جاهل
غريب. ثم بكى، فرقَّ له وأصعده على السرير، ومسح له دموعه وقال له: لا بأس عليك،
إن كنتَ مديونًا قضى الله دَيْنك، وإنْ كنتَ خائفًا آمن الله خوفك. فقال: يا عمِّ،
ما بي خوف ولا عليَّ دَيْن، ومعي مال جزيل بحمد الله وعونه. فقال له: يا ولدي، ما
حاجتك حتى خاطرتَ بنفسك وجمالك إلى محلٍّ فيه الهلاك؟ فحكى له حكايته، وشرح له
أمره، فلما سمع كلامه أطرق رأسه ساعةً إلى الأرض وقال: هل الذي دلَّك عليَّ الخياط
الأحدب؟ قال له: نعم. قال: هذا أخي، وهو رجل مبارك. ثم قال: يا ولدي، لولا أن
محبَّتك نزلتْ في قلبي ورحمتك لَهلكْتَ أنت وأخي وبوَّاب الخان وزوجته. ثم قال:
اعلم أن هذا البستان ما على وجه الأرض مثله، وأنه يُقال له بستان اللؤلؤة، وما
دخَلَه أحدٌ مدةَ عمري إلا السلطان وأنا وصاحبته جميلة، وأقمتُ فيه عشرين سنة، فما
رأيت أحدًا جاء إلى هذا المكان، وكل أربعين يومًا تأتي في المركب إلى ها هنا وتصعد
بين جواريها في حلة أطلس، تحمل أطرافها عشرُ جوارٍ بكلاليب من الذهب إلى أن تدخل،
فلم أرَ منها شيئًا، ولكن أنا ما لي إلا نفسي فأخاطر بها من أجلك. فعند ذلك قبَّل
الغلام يده، فقال له: اجلس عندي حتى أدبِّر لك أمرًا. ثم أخذ بيد الغلام وأدخله
البستان.
فلما
رأى إبراهيم ذلك البستان ظنَّ أنه الجنة ورأى الأشجار ملتفَّة، والنخيل باسقة،
والمياه متدفقة، والأطيار تناغي بأصوات مختلفة، ثم ذهب به إلى قبَّة وقال له: هذه
التي تقعد فيها السيدة جميلة. فتأمَّلَ تلك القبة فوجَدَها من أعجب المتنزهات،
وفيها سائر التصاوير بالذهب واللازورد، وفيها أربعة أبواب يصعد إليها بخمس درج،
وفي وسطها بركة ينزل إليها بدرج من الذهب، وتلك الدرج مرصَّعة بالمعدن، وفي وسط
البركة سلسبيل من الذهب فيه صور كبار وصغار، والماء يخرج من أفواهها، فإذا صفقت
الصور عند خروج الماء بأصوات مختلفة تخيل لسامعها أنه في الجنة. وحول القبة ساقية
قواديسها من الفضة، وهي مكسوَّة بالديباج، وعلى يسار الساقية شباك من الفضة مطلٌّ
على برج أخضر فيه من سائر الوحوش والغزلان والأرانب، وعلى يمينها شباك مطل على
ميدان فيه من سائر الطيور، وكلها تغرِّد بأصوات مختلفة تدهش السامع. فلما رأى
الغلام ذلك أخذه الطرب، وقعد في باب البستان وقعد البستاني بجانبه، فقال له: كيف
ترى بستاني؟ فقال له الغلام: هو جنة الدنيا. فضحك البستاني، ثم قام وغاب عنه ساعة
وعاد ومعه طبق فيه دجاج وسمان ومأكول مليح وحلوى من السكر، فوضعه بين يدي الغلام
وقال له: كُلْ حتى تشبع. قال إبراهيم: فأكلت حتى اكتفيت. فلما رآني أكلتُ فرح
وقال: والله، هكذا شأن الملوك أولاد الملوك. ثم قال: يا إبراهيم، أي شيء معك في
هذه الكارة؟ فحللتها بين يديه، فقال: احملها معك، فإنها تنفعك إذا حضرت السيدة
جميلة، فإنها إذا جاءت لا أقدر أن أدخل لك بما تأكل. ثم قام وأخذ بيدي وأتى بي إلى
مكان قبالَ قبةِ جميلة، فعمل عريشة بين الأشجار وقال: اصعد هنا، فإذا جاءت فإنك
تنظرها وهي لا تنظرك، وهذا أكثر ما عندي من الحيلة، وعلى الله الاعتماد، فإذا
غنَّت فاشرب على غنائها، فإذا ذهبت فارجع من حيث جئتَ إن شاء الله مع السلامة.
فشكره الغلام وأراد أن يقبِّل يده، فمنعه. ثم إن الغلام وضع الكارة في العريشة
التي عملها له، ثم قال له البستاني: يا إبراهيم، تفرَّجْ في البستان، وكُلْ من
أثماره، فإن ميعاد حضور صاحبتك في غد. فصار إبراهيم يتنزَّه في البستان ويأكل من
أثماره، وبات ليلته عنده، فلما أصبح الصباح وأضاء بنوره ولاح، صلَّى إبراهيم
الصبح، وإذا بالبستاني جاءه وهو مُصفرَّ اللون، وقال له: قم يا ولدي واصعد إلى
العريشة، فإن الجواري قد أتينَ ليفرشْنَ المكان، وهي تأتي بعدهن. وأدرك شهرزاد
الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 957﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الخولي لما دخل على إبراهيم بن الخصيب في البستان قال
له: قُمْ يا ولدي اصعد إلى العريشة، فإن الجواري قد أتَيْن ليفرشن المكان، وهي
تأتي بعدهن، واحذرْ من أن تبصق أو تمخط أو تعطس، فنهلك أنا وأنت. فقام الغلام وصعد
إلى العريشة، وذهب الخولي وهو يقول: رزقكَ الله السلامة يا ولدي. فبينما الغلام
قاعد، وإذا بخمسِ جوارٍ أقبلن لم يَرَ مثلهن أحد، فدخلن القبة وقلعن ثيابهن وغسلن
القبة ورششنها بماء الورد، وأطلقْنَ العود والعنبر وفرشْنَ الديباج، وأقبل بعدهن
خمسون جارية ومعهن آلات الطرب، وجميلة بينهن من داخل خيمة حمراء من الديباج،
والجواري رافعات أذيال الخيمة بكلاليب من الذهب حتى دخلت القبة، فلم يَرَ الغلام
منها ولا من أثوابها شيئًا، فقال في نفسه: والله إنه ضاع جميع تعبي، ولكنْ لا بد
لي من أن أصبر حتى أنظر كيف يكون الأمر. فقدَّمت الجواري الأكل والشرب، ثم أكلن
وغسلن أيديهن، ونصبن لها كرسيًّا فجلست عليه، ثم ضربن بآلات الملاهي جميعهن،
وغنَّين بأصوات مطربة لا مثل لها، ثم خرجت عجوز قهرمانة فصفقت ورقصت، فجذبها
الجواري، وإذا بالسِّتر قد رُفِع وخرجت جميلة وهي تضحك، فرآها إبراهيم وعليها
الحلي والحلل، وعلى رأسها تاج مرصَّع بالدر والجوهر، وفي جِيدِها عِقدٌ من اللؤلؤ،
وفي وسطها منطقة من قبضان الزبرجد وحبالها من الياقوت واللؤلؤ، فقام الجواري
وقبَّلْنَ الأرض بين يديها وهي تضحك، قال إبراهيم بن الخصيب: فلما رأيتُها غِبت عن
وجودي، واندهش عقلي وتحيَّر فكري بما بهرني من جمال لم يكن على وجه الأرض مثله،
ووقعت مغشيًّا عليَّ، ثم أفقت باكي العينين وأنشدت هذين البيتين:
أَرَاكَ
فَلَا أَرُدُّ الطَّرْفَ كَيْ لَا تَكُونَ
حِجَابَ رُؤْيَتِكِ الْجُفُونُ
وَلَوْ
أَنِّي نَظَرْتُ بِكُلِّ لَحْظٍ لَمَا
اسْتَوْفَتْ مَحَاسِنَكَ الْعُيُونُ
فقالت
العجوز للجواري: ليَقُم منكن عشرٌ يرقصْنَ ويغنِّين. فلما رآهن إبراهيم قال في
نفسه: أشتهي أن ترقص السيدة جميلة. فلما انتهى رقص العشر جوارٍ أقبلن حولها وقلن:
يا سيدتنا، نشتهي أن ترقصي في هذا المجلس ليتم سرورنا بذلك؛ لأننا ما رأينا أطيب
من هذا اليوم. فقال إبراهيم بن الخصيب في نفسه: لا شك أن أبواب السماء قد فُتِحت
واستجاب الله دعائي. ثم قبَّل الجواري أقدامها وقلن لها: والله ما رأينا صدرك
مشروحًا مثل هذا اليوم. فما زلن يرغِّبنها حتى قلعت أثوابها وصارت بقميص من نسيج
الذهب مطرَّز بأنواع الجواهر، وأبرزت نهودًا كأنهن الرمان، وأسفرت عن وجه كالبدر
ليلة تمامه، فرأى إبراهيم من الحركات ما لم يَرَ في عمره مثلها، ولِمَا أتت في
رقصها بأسلوب غريب وابتداع عجيب حتى أنستنا رقص الحبب في الكئوس، وأذكرتنا ميل
العمائم عن الرءوس، وهي كما قال فيها الشاعر:
كَمَا
اشْتَهَتْ خُلِقَتْ حَتَّى إِذَا اعْتَدَلَتْ فِي قَالِبِ الْحُسْنِ لَا طُولٌ وَلَا
قِصَرُ
كَأَنَّهَا
خُلِقَتْ مِنْ مَاءِ لُؤْلُؤَةٍ فِي
كُلِّ جَارِحَةٍ مِنْ حُسْنِهَا قَمَرُ
وكما
قال الآخر:
وَرَاقِصٍ
مِثْلُ غُصْنِ الْبَانِ قَامَتُهُ تَكَادُ
تَذْهَبُ رُوحِي مِنْ تَنَقُّلِهِ
لَا
يَسْتَقِرُّ لَهُ فِي رَقْصِهِ قَدَمٌ
كُأَنَّمَا نَارُ قَلْبِي تَحْتَ أَرْجُلِهِ
قال
إبراهيم: فبينما أنا أنظر إليها؛ إذ لاحت منها التفاتة إليَّ فرأتني، فلما نظرتني
تغيَّر وجهها، فقالت لجواريها: غنُّوا أنتم حتى أجيء إليكن. ثم عمدت إلى سكين
قَدْر نصف ذراع، وأخذتها وأتت نحوي، ثم قالت: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم. فلما قربتْ مني غِبتُ عن الوجود، فلمَّا رأتني ووقع وجهها في وجهي وقعت
السكين من يدها وقالت: سبحان مقلِّب القلوب! ثم قالت لي: يا غلام، طِب نفسًا، ولك
الأمان مما تخاف. فصرتُ أبكي وهي تمسح دموعي بيدها وقالت: يا غلام، أخبرني مَن
أنت؟ وما جاء بك إلى هذا المكان؟ فقبَّلتُ الأرض بين يديها ولزمتُ ذيلها، فقالت:
لا بأس عليك، فواللهِ ما ملأتُ عيني من ذَكَر غيرك، فقُلْ لي مَن أنت؟ قال
إبراهيم: فحدَّثتها بحديثي من أوله إلى آخره، فتعجَّبَتْ من ذلك وقالت لي: يا
سيدي، أناشدك الله، هل أنت إبراهيم بن الخصيب؟ قلت: نعم. فانكبَّت عليَّ وقالت: يا
سيدي، أنت الذي زهَّدتني في الرجال؛ لأنني لمَّا سمعتُ أنه وُجِد في مصر صبي لم
يكن على وجه الأرض أجمل منه، هويتُك بالوصف، وتعلَّقَ قلبي بحبك لِمَا بلغني عنك
من الجمال الباهر، وصرتُ فيك كما قال الشاعر:
أُذْنِي
لَقَدْ سَبَقَتْ فِي عِشْقِهِ بَصَرِي
وَالْأُذْنُ تَعْشَقُ قَبْلَ الْعَيْنِ أَحْيَانًا
فالحمد
لله الذي أراني وجهك، والله لو كان أحد غيرك لكنتُ صلبتُ البستاني وبوَّاب الخان
والخياط ومَن يلوذ بهم. ثم قالت لي: كيف أحتال على شيء تأكله من غير اطِّلاع
جواريَّ؟ فقلت لها: إن معي ما نأكل وما نشرب. ثم حللت الكارة بين يديها، فأخذت
دجاجة وصارت تلقِّمني وألقِّمها، فلما رأيتُ ذلك منها توهَّمت أنه منام، ثم قدَّمت
الشراب فشربنا، كل ذلك وهي عندي والجواري تغني، وما زلنا كذلك من الصبح إلى الظهر،
ثم قامت وقالت: قُمِ الآن هيِّئ لك مركبًا وانتظرني في المحل الفلاني حتى أجيء
إليك، فما بقي لي صبر على فراقك. فقلت: يا سيدتي، إن معي مركبًا، وهي ملكي،
والملَّاحون في إجارتي، وهم في انتظاري. فقالت: هذا هو المراد. ثم مضت إلى
الجواري. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 958﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن السيدة جميلة لما مضت إلى الجواري قالت لهن: قُمْن
بنا لنروح إلى قصرنا. فقلن لها: كيف نقوم في هذه الساعة وعادتنا أننا نقعد ثلاثة
أيام؟ فقالت: إني أجد في نفسي ثقلًا عظيمًا كأني مريضة، وأخاف أن يثقل عليَّ ذلك.
فقلن لها: سمعًا وطاعة. فلبسن ثيابهن، ثم توجَّهن إلى الشاطئ ونزلن في الزورق،
وإذا بالبستاني قد أقبل على إبراهيم وما عنده عِلْم بالذي جرى له، فقال: يا
إبراهيم، ما لك حظٌّ في التلذُّذ برؤيتها؛ فإن من عادتها أن تقيم هنا ثلاثة أيام،
وأنا أخاف أن تكون رأتك. فقال إبراهيم: ما رأتني ولا رأيتها ولا خرجتُ من القبة.
قال: صدقتَ يا ولدي، فإنها لو رأتك لكنَّا هلكنا، ولكن اقعد عندي حتى تأتي في
الأسبوع الثاني وتراها وتشبع من النظر إليها. فقال إبراهيم: يا سيدي، إن معي مالًا
وأخاف عليه، وورائي رجال فأخاف أن يستغيبوني. فقال: يا ولدي، إنه يعزُّ عليَّ
فراقك. ثم عانَقَه وودَّعه. ثم إن إبراهيم توجَّه إلى الخان الذي كان نازلًا فيه،
وقابَلَ بواب الخان وأخذ ماله، فقال له بواب الخان: خبرُ خيرٍ إن شاء الله. فقال
له إبراهيم: إني ما وجدتُ إلى حاجتي سبيلًا، وأريد أن أرجع إلى أهلي. فبكى بوَّاب
الخان وودَّعه وحمل أمتعته ووصَّله إلى المركب، وبعد ذلك توجَّه إلى المحل الذي
قالت له عليه وانتظرها فيه، فلما جنَّ الليل إذا بها قد أقبلت عليه وهي في زي رجل
شجاع بلحية مستديرة ووسط مشدود بمنطقة، وفي إحدى يديها قوس ونشاب، وفي الأخرى سيف
مجرد، وقالت له: هل أنت ابن الخصيب صاحب مصر؟ فقال لها إبراهيم: هو أنا. فقالت له:
وأيُّ علق أنت حتى جئت تفسد بنات الملوك؟ قُمْ كلِّم السلطان. قال إبراهيم: فوقعتُ
مغشيًّا عليَّ، وأما الملاحون فإنهم ماتوا في جلودهم من الخوف. فلما رأت ما حلَّ
بي خلعتْ تلك اللحية ورمت السيف وحلَّت المنطقة، فرأيتها هي السيدة جميلة، فقلت لها:
والله إنك قطَّعت قلبي.
ثم
قلت للملاحين: أسرعوا في سير المركب. فحَلُّوا الشِّراع وأسرعوا في السير، فما كان
إلا أيام قلائل حتى وصلنا إلى بغداد، وإذا بمركب واقفة على جانب الشط، فلما رآنا
الملاحون الذين فيها صاحوا على الملاحين الذين معنا وصاروا يقولون: يا فلان، ويا
فلان، نهنِّيكم بالسلامة. ثم دفعوا مركبهم على مركبنا فنظرنا فإذا فيها أبو القاسم
الصندلاني، فلما رآنا قال: إن هذا هو مطلوبي، امضوا في وداعة الله، وأنا أريد
التوجُّه إلى غرض. وكان بين يديه شمعة، ثم قال لي: الحمد لله على السلامة، هل
قضيتَ حاجتك؟ قلت: نعم. فقرَّب الشمعة منَّا، فلما رأته جميلة تغيَّر حالها،
واصفرَّ لونها، ولما رآها الصندلاني قال: اذهبوا في أمان الله، أنا رايح إلى
البصرة في مصلحة للسلطان، ولكن الهدية لمَن حضر. ثم أحضر عُلبة من الحلويات ورماها
في مركبنا، وكان فيها البنج. فقال إبراهيم: يا قرَّة عيني، كُلِي من هذا. فبكت
وقالت: يا إبراهيم، أتدري مَن هذا؟ قلت: نعم، هذا فلان. قالت: إنه ابن عمي، وكان
سابقًا خطبني من والدي، فما رضيت به، وهو متوجِّه إلى البصرة، فربما يعرِّف أبي
بنا. فقلت: يا سيدتي، هو لا يصل إلى البصرة حتى نصل نحن إلى الموصل - ولم يعلما
بما هو مخبوء لهما في الغيب - فأكلتُ شيئًا من الحلاوة، فما نزلت جوفي حتى ضربتُ
الأرض برأسي، فلما كان وقت السَّحَر عطست فخرج البنج من منخري، وفتحت عيني فرأيت
نفسي عريانًا مرميًّا في الخراب، فلطمت على وجهي وقلت في نفسي: إن هذه حيلة عملها
عَلَيَّ الصندلاني! فصرت لا أدري أين أذهب وما عليَّ سوى سروال، فقمت وتمشيت
قليلًا، وإذا بالوالي أقبل عليَّ ومعه جماعة بسيوف ومطارق، فخفت، فرأيت حمَّامًا
خربًا، فتواريت فيه، فعَثَرَتْ رِجلي في شيء، فوضعتُ يدي عليه فتلوَّثتْ بالدم،
فمسحتها في سروالي ولم أعلم ما هو، ثم مددت يدي إليه ثانيًا فجاءت على القتيل،
وطلعت رأسه في يدي فرميتها وقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ثم دخلت
زاوية من زوايا الحمام، وإذا بالوالي وقف على باب الحمام وقال: ادخلوا هذا المكان
وفتِّشوا. فدخل منهم عشرة بالمشاعل، فمن خوفي دخلت وراء حائط، فتأمَّلت ذلك
المقتول فرأيتُه صبيَّةً ووجهها كالبدر، ورأسها في ناحية وجثتها في ناحية، وعليها
ثياب ثمينة، فلما رأيتها وقعت الرجفة في قلبي، ودخل الوالي وقال: فتِّشوا جهات
الحمام. فدخلوا الموضع الذي أنا فيه، فنظرني رجل منهم فجاءني وبيده سكين طولها نصف
ذراع، فلما قرب مني قال: سبحان الله خالق هذا الوجه الحسن! يا غلام، من أين أنت؟
ثم أخذ بيدي وقال: يا غلام، لأي شيء قتلتَ هذه المقتولة؟ فقلت: والله ما قتلتها،
وما أعرف مَن قتلها، وما دخلت هذا المكان إلا فزعًا منكم. وأخبرته بقصتي وقلت له:
بالله عليك لا تظلمني، فإني مشغول بنفسي. فأخذني وقدَّمني إلى الوالي، فلما رأى
على يدي أثر الدم، قال: هذا لا يحتاج إلى بيِّنة، فاضربوا عنقه. وأدرك شهرزاد
الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 959﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن ابن الخصيب قال: فلما قدَّموني إلى الوالي ورأى على
يدي أثر الدم، قال: هذا لا يحتاج إلى بيِّنة، فاضربوا عنقه. فلما سمعت هذا الكلام
بكيتُ بكاءً شديدًا، وجرت مني دموع العين، وأنشدتُ هذين البيتين:
مَشَيْنَاهَا
خُطًى كُتِبَتْ عَلَيْنَا وَمَنْ
كُتِبَتْ عَلَيْهِ خُطًى مَشَاهَا
وَمَنْ
كَانَتْ مَنِيَّتُهُ بِأَرْضٍ فَلَيْسَ
يَمُوتُ فِي أَرْضٍ سِوَاهَا
ثم
شهقتُ شهقة فوقعتُ مغشيًّا عليَّ، فرقَّ لي قلب الجلاد وقال: والله ما هذا وجه
قتل! فقال الوالي: اضربوا عنقه. فأجلسوني في نطع الدم وشدُّوا على عيني غطاءً،
وأخذ السيَّاف سيفه واستأذن الوالي وأراد أن يضرب عنقي، فصحت: وا غربتاه! وإذا
بخَيْلٍ قد أقبلت وقائل يقول: دعوه، امنعْ يدَك يا سيَّاف. وكان لذلك سبب عجيب
وأمر غريب، وهو أن الخصيب صاحب مصر كان قد أرسَلَ حاجبَه إلى الخليفة هارون الرشيد
ومعه هدايا وتُحَف، وصحبتُه كتابٌ يذكر له فيه: إن ولدي قد فُقِد من منذ سنة، وقد
سمعتُ أنه ببغداد، والمقصود من إنعام خليفة الله أن يفحص عن خبره ويجتهد في طلبه
ويرسله إليَّ مع الحاجب. فلما قرأ الخليفة الكتابَ أمر الوالي أن يبحث عن حقيقة
خبره، فلم يزل الوالي والخليفة يسألان عنه حتى قيل له بالبصرة، فأُخبِرَ الخليفةُ
بذلك، فكتب الخليفة كتابًا وأعطاه للحاجب المصري، وأمره أن يسافر إلى البصرة ويأخذ
معه جماعةً من أتباع الوزير. فمِن حرص الحاجب على ولد سيده خرج من ساعته فوجد
الغلامَ في نطع الدم مع الوالي، فلما رأى الوالي الحاجبَ وعرفه ترجَّلَ إليه، فقال
له الحاجب: ما هذا الغلام؟ وما شأنه؟ فأخبره بالخبر، فقال الحاجب والحال أنه لم
يعرف أنه ولد السلطان: إن وجه هذا الغلام وجه مَن لا يَقتل. وأمره بحلِّ وثاقه،
فحَلَّه، فقال: قدِّمْه إليَّ. فقدَّمه إليه، وكان قد ذهب جماله من شدةِ ما قاساه
من الأهوال، فقال له الحاجب: أخبِرْني بقضيتك يا غلام. وما شأن هذه المقتولة معك؟
فلما نظر إبراهيم إلى الحاجب عرفه، فقال له: ويلك! أَمَا تعرفني؟! أَمَا أنا
إبراهيم ابن سيدك؟ فلعلك جئتَ في طلبي. فأمعَنَ الحاجب فيه النظرَ فعرَفَه غايةَ
المعرفة، فلما عرفه انكبَّ على أقدامه، فلما رأى الوالي ما حصل من الحاجب اصفرَّ
لونه، فقال له الحاجب: ويلك يا جبَّار! هل كان مرادك أن تقتل ابن سيدي الخصيب صاحب
مصر؟ فقبَّلَ الوالي ذيل الحاجب وقال له: يا مولاي، من أين أعرفه؟ وإنما رأيناه
على هذه الصفة، ورأينا الصبية مقتولةً بجانبه. فقال له: ويلك! إنك لا تصلح
للولاية، هذا غلامٌ له من العمر خمسة عشر عامًا، وما قتل عصفورًا، فكيف يقتل
قتيلًا؟ هلا أمهلَتْه وسألَتْه عن حاله! ثم قال الحاجب والوالي: فتِّشوا على قاتل
الصبية. فدخلوا الحمَّام ثانيًا فرأوا قاتلها، فأخذوه وأتوا به إلى الوالي، فأخذه
وتوجَّهَ به إلى دار الخلافة وأعلم الخليفة بما جرى، فأمر الرشيد بقتل قاتل
الصبية، ثم أمر بإحضار ابن الخصيب، فلمَّا تمثَّلَ بين يديه تبسَّمَ الرشيد وقال
له: أخبرني بقصتك وما جرى لك. فحدَّثه بحديثه من أوله إلى آخره، فعَظُم ذلك عنده،
فنادى مسرورًا السياف وقال: اذهبْ في هذه الساعة واهجمْ على دار أبي القاسم
الصندلاني، وائتني به وبالصبيَّة. فمضى من ساعته وهجم على داره، فرأى الصبيَّة في
وثاق من شعرها، وهي في حالة التلف، فحلَّها مسرور وأتى بها وبالصندلاني، فلما رآها
الرشيد تعجَّبَ من جمالها، ثم التفت إلى الصندلاني وقال: خذوه واقطعوا يدَيْه
اللتين ضرب بهما هذه الصبيَّة، واصلبوه وسلِّموا أمواله وأملاكه إلى إبراهيم.
ففعلوا ذلك، فبينما هم كذلك وإذا بأبي الليث عامل البصرة والِد السيدة جميلة قد
أقبَلَ عليهم يستغيث بالخليفة من إبراهيم بن الخصيب صاحب مصر، ويشكو إليه أنه أخذ
ابنته، فقال له الرشيد: إنه كان سببًا في خلاصها من العذاب والقتل. وأمر بإحضار
ابن الخصيب، فلما حضر قال لأبي الليث: ألَا ترضى أن يكون هذا الغلامُ ابنُ سلطان
مصر بَعْلًا لابنتك؟ فقال: سمعًا وطاعةً لله ولك يا أمير المؤمنين. فدعا الخليفة
بالقاضي والشهود وزوَّج الصبيَّة بإبراهيم بن الخصيب، ووهب له جميع أموال
الصندلاني وجهَّزه إلى بلاده، وعاش معها في أتمِّ سرورٍ وأوفى حبور إلى أن أتاهم
هادم اللذات ومفرِّق الجماعات، فسبحان الحي الذي لا يموت!
ومما
يُحكى أيضًا أيها الملك السعيد، أن المعتضد بالله كان عاليَ الهمة شريف النفس،
وكان له ببغداد ستمائة وزير، وما كان يخفى عليه من أمور الناس شيء، فخرج يومًا هو
وابن حمدون يتفرَّجان على الرعايا، ويسمعان ما يتجدَّد من أخبار الناس، فحمي
عليهما الحر والهجير، وقد انتهيا إلى زقاق لطيف في شارع، فدخلا ذلك الزقاق، فرأيا
في صدر الزقاق دارًا حسنة شامخة البناء، تُفصِح عن صاحبها بلسان الثناء، فقعدا على
الباب يستريحان فخرج من تلك الدار خادمان كالقمرين في ليلة أربعة عشر، فقال أحدهما
لصاحبه: لو استأذن اليومَ ضيفٌ؛ لأن سيدي لم يأكل إلا مع الضيفان، وقد صرنا إلى
هذا الوقت ولم أرَ أحدًا. فتعجَّب الخليفة من كلامهما، وقال: إن هذا دليل على كرم
صاحب الدار، ولا بد أن ندخل داره وننظر مروءته، ويكون ذلك سببًا في نعمة تصل إليه
منا. ثم قال للخادم: استأذن سيدك في قدوم جماعة أغراب. وكان الخليفة في ذلك الزمان
إذا أراد الفرجة على الرعية تنكَّرَ في زي التجار، فدخل الخادم على سيده وأخبره،
ففرح وقام وخرج إليهما بنفسه، وإذا به جميل الوجه حَسن الصورة، وعليه قميص
نيسابوري ورداء مذهَّب، وهو مضمَّخ بالطِّيب، وفي يده خاتم من الياقوت، فلما رآهما
قال: أهلًا وسهلًا بالسادة المنعِمين علينا غاية الإنعام بقدومهم. فلما دخلا تلك
الدار رأياها تُنسِي الأهل والأوطان، كأنها قطعة من الجِنَان. وأدرك شهرزاد الصباح،
فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 960﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الخليفة لمَّا دخل الدار هو ومَن معه ورأياها تُنسِي
الأهل والأوطان، كأنها قطعة من الجِنان، ومن داخلها بستان فيه من سائر الأشجار،
وهي تُدهِش الأبصار، وأماكنها مفروشة بنفائس الفرش، فجلسوا وجلس المعتضد يتأمل
الدار والفرش، فقال ابن حمدون: فنظرتُ إلى الخليفة فرأيت وجهَه قد تغيَّر، وكنتُ
أعرف من وجهه حال الرضا والغضب، فلما رأيته قلت في نفسي: يا تُرَى ما باله حتى
غضب؟ ثم جاءوا بطشت من الذهب، فغلسنا أيدينا، ثم جاءوا بسفرة من الحرير وعليها مائدة
من الخيزران، فلما انكشفت الأغطية عن الأواني رأينا طعامًا كزهر الربيع في عز
الأوان صِنوانًا وغير صِنوان، ثم قال صاحب الدار: باسم الله يا سادتنا، والله إن
الجوع قد أمَضَّني، فأنعِموا عليَّ بالأكل من هذا الطعام كما هو أخلاق الكرام.
وصار صاحب الدار يَفسخ الدجاج ويضعه بين أيدينا ويضحك، ويُنشِد الأشعار ويُورِد
الأخبار ويتكلم بلطائف ما يليق بالمجلس. قال ابن حمدون: فأكلنا وشربنا، ثم نُقِلنا
إلى مجلس آخر يدهش الناظرين، تفوح منه الروائح الزكية، ثم قدَّم لنا سفرة فاكهةٍ
جَنِيَّة، وحلويات شهيَّة، فزادت أفراحنا وزالت أتراحنا. قال ابن حمدون: ومع ذلك
لم يَزَلِ الخليفة في عُبوس، ولم يتبسَّم لما فيه فرح النفوس، مع أن عادته أنه يحب
اللهو والطرب ودفع الهموم، وأنا أعرف أنه غير حَسُود ولا ظَلُوم، فقلتُ في نفسي:
يا تُرَى ما سبب عبوسه وعدم زوال بؤسه؟
ثم
جاءوا بطبق الشراب ومجمع شمل الأحباب، وأحضروا الشراب المروق وبواطي الذهب والبلور
والفضة، وضرب صاحب الدار على باب مقصورة بقضيب من الخيزران، وإذا بباب المقصورة قد
فُتِح وخرج منه ثلاث جوارٍ نُهد أبكار، وجوههن كالشمس في رابعة النهار، وتلك
الجواري ما بين عوَّادة وجنكية ورقاصة، ثم قدَّم لنا النُّقْل والفواكه. قال ابن
حمدون: فضرب بيننا وبين الثلاث جوارٍ ستارة من الديباج، وشراريبها من الإبريسم،
وحلقاتها من الذهب، فلم يلتفت الخليفة إلى هذا جميعه، وصاحب الدار لم يعلم مَن هو
الذي عنده. فقال الخليفة لصاحب الدار: شريفٌ أنت؟ قال: لا يا سيدي، إنما أنا رجل
من أولاد التجار، أُعرَف بين الناس بأبي الحسن علي بن أحمد الخراساني. فقال له
الخليفة: أتعرفني يا رجل؟ قال: والله يا سيدي لم يكن لي معرفة بأحدٍ من جنابكم.
فقال له ابن حمدون: يا رجل، هذا أمير المؤمنين المعتضد بالله حفيد المتوكل على
الله. فقام الرجل وقبَّلَ الأرض بين يدَي الخليفة وهو يرتعد من خوفه، وقال: يا
أمير المؤمنين، بحق آبائك الطاهرين، إن كنتَ رأيتَ مني تقصيرًا أو قلة أدب بحضرتك
أن تعفو عني. فقال الخليفة: أمَّا ما صنعتَه معنا من الإكرام فلا مزيدَ عليه، وأما
ما أنكرتُه عليك هنا، فإن أصدقتَني حديثَه واستقرَّ ذلك بعقلي نجوتَ مني، وإن لم
تعرِّفني حقيقته أخذتُك بحجة واضحة، وعذَّبتك عذابًا لم أعذِّب أحدًا مثله. قال:
معاذ الله أن أحدِّث بالمحال، وما الذي أنكرتَه عليَّ يا أمير المؤمنين؟ فقال
الخليفة: أنا من حين دخلت الدار وأنا أنظر إلى حسنها وأوانيها وفِراشها وزينتها،
حتى ثيابك، فإذا عليها اسم جدي المتوكل على الله. قال: نعم، اعلم يا أمير المؤمنين
- أيَّدَك الله - أن الحق شعارك والصدق رداؤك، ولا قدرة لأحد على أن يتكلم بغير
الصدق في حضرتك. فأمره بالجلوس فجلس، فقال له: حدِّثني. فقال: اعلم يا أمير
المؤمنين - أيدك الله بنصره وحفَّك بلطائف أمره - أنه لم يكن ببغداد أحد أيسر مني
ولا من أبي، ولكن أخلِ لي ذهنك وسمعك وبصرك حتى أحدِّثك بسبب ما أنكرته عليَّ.
فقال له الخليفة: قل حديثك.
فقال:
اعلم يا أمير المؤمنين أنه كان أبي بسوق الصيارف والعطارين والبزازين، وكان له في كل
سوق حانوت ووكيل وبضائع من سائر الأصناف، وكان له حجرة داخل الدكان التي بسوق
الصيارف لأجل الخلوة فيها، وجعل الدكان لأجل البيع والشراء، وكان ماله يكثر عن
العد، ويزيد عن الحد، ولم يكن له ولد غيري، وكان محبًّا لي وشفوقًا عليَّ، فلما
حضرتْهُ الوفاةُ دعاني وأوصاني بوالدتي وبتقوى الله تعالى، ثم مات رحمه الله تعالى
وأبقى أمير المؤمنين، فاشتغلت باللَّذات وأكلت وشربت، ثم اتخذت الأصحاب والأصدقاء،
وكانت أمي تنهاني عن ذلك وتلومني عليه، فلم أسمع منها كلامًا حتى ذهب المال جميعه
وبعت العقارات، ولم يبقَ لي شيء غير الدار التي أنا فيها، وكانت دارًا حسنة يا
أمير المؤمنين، فقلت لأمي: أريد أن أبيع الدار. فقالت: يا ولدي، إن بعتها تفتضح،
ولا تعرف لك مكانًا تأوي إليه. فقلت: هي تساوي خمسة آلاف دينار، فأشتري من جملة
ثمنها دارًا بألف دينار، ثم أتَّجر بالباقي. فقالت: أتبيعني هذه الدار بهذا
المقدار؟ قلت: نعم. فجاءت إلى طابق وفتحته وأخرجت منه إناءً من الصيني فيه خمسة
آلاف دينار، فتخيَّل لي أن الدار كلها ذهب. فقالت لي: يا ولدي، لا تظن أن هذا
المال مال أبيك، والله يا ولدي إنه من مال أبي، وكنت ادَّخرته لوقت الحاجة إليه؛
فإني كنت في زمن أبيك غنيةً عن الاحتياج إلى هذا المال. فأخذت المال منها يا أمير
المؤمنين وعدتُ لما كنتُ عليه من المأكل والمشرب والصحبة حتى نفدت الخمسة آلاف
دينار، ولم أقبل من أمي كلامًا ولا نصيحة، ثم قلت لها: مرادي أن أبيع الدار.
فقالت: يا ولدي، قد نهيتك عن بيعها لعلمي أنك محتاج إليها، فكيف تريد بيعها
ثانيًا؟ فقلت لها: لا تُطيلي عليَّ الكلام، فلا بد من بيعها. فقالت: بِعني إياها
بخمسة عشر ألف دينار، بشرط أن أتولى أمورك بنفسي. فبعتها لها بذلك المبلغ على أن
تتولَّى أموري بنفسها، فطلبتْ وكلاءَ أبي وأعطت كلَّ واحد منهم ألف دينار، وجعلت
المال تحت يدها، والأخذ والعطاء معها، وأعطتني بعضًا من المال لأتَّجر فيه، وقالت
لي: اقعد أنت في دكان أبيك. ففعلت ما قالت أمي يا أمير المؤمنين، وجئت إلى الحجرة
التي في سوق الصيارف، وجاء أصحابي وصاروا يشترون مني وأبيع لهم، وطاب لي الربح
وكثر مالي، فلما رأتني أمي على تلك الحالة الحسنة أظهرتْ لي ما كان مدَّخرًا عندها
من جوهر ومعدن ولؤلؤ وذهب، ثم عادت لي أملاكي التي كان وقع فيها التفريط، وكثر
مالي كما كان، ومكثت على هذه الحال مدةً، وجاء وكلاء أبي فأعطيتهم البضائع.
ثم
بنيتُ حجرة ثانية من داخل الدكان، فبينما أنا قاعد فيها على عادتي يا أمير
المؤمنين، وإذا بجارية قد أقبلت عليَّ، لم تَرَ العيون أجمل منها منظرًا، فقالت:
هذه حجرة أبي الحسن علي بن أحمد الخراساني؟ قلت لها: نعم. قالت: أين هو؟ فقلت: هو
أنا. ولكن اندهش عقلي من فرط جمالها يا أمير المؤمنين. ثم إنها جلست وقالت لي:
قُلْ لغلامك يَزِن لي ثلاثمائة دينار. فأمرته أن يزن لها ذلك المقدار، فوزنه لها
فأخذته وانصرفت وأنا ذاهل العقل. فقال لي غلامي: أتعرفها؟ قلت: لا والله. قال:
فلِمَ قلت لي: زِنْ لها؟ فقلت: والله إني لم أدرِ ما أقول مما بهرني من حسنها
وجمالها. فقام الغلام وتبعها من غير علمي، ثم رجع وهو يبكي وبوجهه أثر ضربة، فقلت
له: ما بالك؟ فقال: إني تبعت الجارية لأنظر أين تذهب، فلما أحسَّتْ بي رجعت
وضربتني هذه الضربة، فكادت أن تتلف عيني. ثم مكثتُ شهرًا لم أرَها ولم تأتِ، وأنا
ذاهل العقل في هواها يا أمير المؤمنين. فلما كان آخر الشهر، وإذا بها جاءت وسلَّمت
عليَّ، فكدت أن أطير فرحًا، فسألتني عن خبري وقالت: لعلك قلت في نفسك: ما شأن هذه
المحتالة؟ كيف أخذت مالي وانصرفت؟ فقلت: والله يا سيدتي إن مالي وروحي ملك لك.
فأسفرتْ عن وجهها وجلستْ لتستريح والحلي والحلل تلعب على وجهها وصدرها، ثم قالت
لي: زِنْ لي ثلاثمائة دينار. فقلت: سمعًا وطاعة. ثم وزنتُ لها الدنانير، فأخذتها
وانصرفت، فقلت للغلام: اتبعها. فتبِعها، ثم عاد لي وهو مبهوت. ومضت مدة وهي لم
تأتِ، فبينما أنا جالس في بعض الأيام، وإذا بها قد أقبلت عليَّ وتحدثت ساعة، ثم
قالت لي: زِنْ لي خمسمائة دينار؛ فإني قد احتجت إليها. فأردت أن أقول لها: على أي
شيء أُعطيكِ مالي؟ فمنعني فرط الغرام من الكلام، وأنا يا أمير المؤمنين كلما
رأيتها ترتعد مفاصلي ويصفرُّ لوني وأنسى ما أريد أن أقول وأصير كما قال الشاعر:
فَمَا
هُو إِلَّا أَنْ أَرَاهَا فُجَاءَةً
فَأُبْهَتْ حَتَّى لَا أَكَادَ أُجِيبُ
ثم
وزنت لها الخمسمائة دينار، فأخذتها وانصرفت، فقمت وتبعتها بنفسي إلى أن وصلت إلى
سوق الجواهر، فوقفتْ على إنسان فأخذتْ منه عقدًا، والتفتت فرأتني، فقالت: زِنْ لي
خمسمائة دينار. فلما نظرني صاحب العقد قام إليَّ وعظَّمني، فقلت له: أعْطِها
العقدَ وثمنُه عليَّ. فقال: سمعًا وطاعة. فأخذتِ العقد وانصرفتْ. وأدرك شهرزاد
الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 961﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن أبا الحسن الخراساني قال: فقلت له أعطِها العقد
وثمنُهُ عليَّ. فأخذتِ العقد وانصرفتْ، فتبعتُها حتى جاءت إلى الدجلة، ونزلتْ في
مركب، فأوميت إلى الأرض لأقبِّلها بين يديها، فذهبت وضحكتْ، ومكثتُ واقفًا أنظرها
إلى أن دخلت قصرًا، فتأملته فإذا هو قصر الخليفة المتوكل، فرجعت يا أمير المؤمنين
وقد حلَّ بقلبي كل همٍّ في الدنيا، وكانت قد أخذت مني ثلاثة آلاف دينار، فقلت في
نفسي: قد أخذت مالي وسلبت عقلي، وربما تَلِفت نفسي في هواها! ثم رجعتُ إلى داري،
وقد حدَّثتُ أمي بجميع ما جرى لي، فقالت لي: يا ولدي، إياك أن تتعرَّض لها بعد ذلك
فتهلك! فلما رحت إلى دكاني جاءني وكيلي الذي بسوق العطارين، وكان شيخًا كبيرًا،
فقال لي: يا سيدي، ما لي أراكَ متغير الحال يظهر عليك أثر الكآبة؟ فحدِّثني بخبرك.
فحدَّثته بجميع ما جرى لي معها، فقال لي: يا ولدي، إن هذه من جواري قصر أمير
المؤمنين، وهي محظية الخليفة، فاحتسب المال لله تعالى ولا تشغل نفسك بها، وإذا
جاءتك فاحذر أن تتعرَّض لك، وأعلمني بذلك حتى أدبِّر لك أمرًا لئلا يحصل لك تلف.
ثم تركني وذهب وفي قلبي لهيب النار. فلما كان آخر الشهر وإذا بها قد أقبلت عليَّ،
ففرحت بها غاية الفرح، فقالت لي: ما حملك على أنك تبعتني؟ فقلت لها: حملني على ذلك
فرط الوَجْد الذي بقلبي. وبكيتُ بين يديها، فبكتْ رحمةً لي وقالت: والله ما في
قلبك شيء من الغرام إلا وفي قلبي أكثر منه، ولكن كيف أعمل؟ والله ما لي من سبيل
غير أني أراكَ في كل شهر مرة. ثم دفعت إليَّ ورقةً وقالت: خذ هذه إلى فلان
الفلاني، فإنه وكيلي، واقبض منه ما فيها. فقلت: ليس لي حاجة بمال، ومالي وروحي
فداك. فقالت: سوف أدبِّر لك أمرًا يكون فيه وصولك إليَّ، وإن كان فيه تعب لي. ثمَّ
ودَّعتني وانصرفت.
فجئتُ
إلى الشيخ العطار وأخبرته بما جرى لي، فجاء معي إلى دار المتوكل، فرأيتها هي
المكان الذي دخلت فيه الجارية، فصار الشيخ العطار متحيِّرًا في حيلة يفعلها، ثم
التفت فرأى خيَّاطًا قبالَ الشباكِ المطلِّ على الشاطئ وعنده صنَّاع. فقال: بهذا
تنال مرادك، ولكن افتق جيبك وتقدَّم إليه وقُلْ له أن يخيطه لك، فإذا خاطه فادفعْ
له عشرة دنانير. فقلت له: سمعًا وطاعة. ثم توجَّهت إلى ذلك الخياط وأخذتُ معي
شقَّتين من الديباج الرومي وقلت له: فصِّلْ هاتين أربعة ملابس؛ اثنين فرجية واثنين
غير فرجية. فلما فرغ من تفصيل الملابس وخياطتها أعطيته أجرتها زيادةً عن العادة
بكثير، ثم مدَّ يده إليَّ بتلك الملابس فقلت: خذها لك ولمَن حضر عندك. وصرت أقعد
عنده وأطيل القعود معه، ثم فصَّلت عنده غيرها وقلت له: علِّقه على وجه الدكان لمن
ينظره فيشتريه. ففعل، وصار كلُّ مَن خرج من قصر الخليفة وأعجبه شيء من الملابس
وهبتُه له حتى البوَّاب. فقال لي الخياط يومًا من الأيام: أريد يا ولدي أن
تَصْدُقني حديثك؛ لأنك فصَّلت عندي مائة حلَّة ثمينة، وكل حلَّة تساوي جملةً من
المال، ووهبتَ غالبها للناس، وهذا ما هو فعل تاجر؛ لأن التاجر يحاسب على الدرهم،
وما مقدار رأس مالك حتى تعطي هذه العطايا؟ وما يكون مكسبك في كل عام؟ فأخبرني
خبرًا صحيحًا حتى أعاونك على مرادك. ثم قال: أناشدك الله، أَمَا أنت عاشق؟ قلت:
نعم. فقال: لمَن؟ قلت: لجارية من جواري قصر الخليفة. فقال: قبَّحهن الله! كم
يفتنَّ الناس! ثم قال لي: فهل تعرف اسمها؟ قلت: لا. فقال: صِفها لي. فوصفتها له.
فقال: ويلاه! هذه عوَّادة الخليفة المتوكل المحظية عنده، لكن لها مملوك فاجعل بينك
وبينه صداقة لعله يكون سببًا في اتصالك بها.
فبينما
نحن في الحديث، وإذا بالمملوك مُقبل من باب الخليفة وهو كأنه القمر في ليلة أربعة
عشر، وبين يديَّ الثياب التي خاطها لي الخياط، وكانت من الديباج من سائر الألوان،
فصار ينظر إليها ويتأمَّل، ثم أقبَلَ عليَّ فقمتُ إليه وسلَّمت عليه، فقال: مَن أنت؟
فقلت: رجل من التجار. قال: أتبيع هذه الثياب؟ قلت: نعم. فأخذ منها خمسة وقال: بكم
هذه الخمسة؟ فقلت: هي هدية مني إليك، عقد صحبة بيني وبينك. ففرح بها، ثم جئتُ إلى
بيتي وأخذتُ له ملبوسًا مرصَّعًا بالجواهر واليواقيت قيمته ثلاثة آلاف دينار،
وتوجَّهت به إليه، فقبِلَه مني، ثم أخذني ودخل بي حجرة في داخل القصر وقال لي: ما
اسمك بين التجار؟ فقلت له: رجل منهم. فقال: قد رابني أمرك. فقلت: لماذا؟ قال: لأنك
أهديت لي شيئًا كثيرًا ملكتَ به قلبي، وقد صحَّ عندي أنك أبو الحسن الخراساني
الصيرفي. فبكيت يا أمير المؤمنين، فقال لي: لِمَ تبكي؟ فوالله إن التي تبكي من
أجلها عندها من الغرام بك أكثر مما عندك من الغرام بها وأعظم، وقد شاع عند جميع
جواري القصر خبرها معك. ثم قال لي: وأيُّ شيء تريد؟ فقلت: أريد أنك تساعدني على
بليَّتي. فوعدني إلى غدٍ، فمضيت إلى داري، فلما أصبحت توجَّهت إليه ودخلت حجرته،
فلما جاء قال: اعلم أنها لما فرغتْ من خدمتها عند الخليفة بالأمس ودخلت حجرتها
حدَّثتها بحديثك جميعه، وقد عزمت على الاجتماع بك، فاقعد عندي إلى آخر النهار.
فقعدت عنده، فلما جنَّ الليل إذا بالمملوك أتى ومعه قميص منسوج من الذهب، وحُلَّة
من حُلَل الخليفة، فألبسني إياها وبخَّرني، فصرت أُشبه الخليفة، ثم أخذني إلى محل
فيه الحُجَر صفين من الجانبين، وقال لي: هذه حُجَر الجواري الخواص، فإذا مررتَ
عليها فضع على كل باب من الأبواب حبَّةً من الفول؛ لأن من عادة الخليفة أن يفعل
هكذا في كل ليلة. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 962﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن المملوك لمَّا قال لأبي الحسن: فإذا مررتَ عليها فضع
على كل باب من الأبواب حبَّةً من الفول؛ لأن من عادة الخليفة أن يفعل هكذا إلى أن
تأتي إلى الدرب الثاني الذي على يدك اليمنى، فترى حجرةً عتبةُ بابها من المرمر،
فإذا وصلت إليها فمسَّها بيدك، وإن شئتَ فعُدَّ الأبواب فهي كذا وكذا بابًا،
فادخُلِ الباب الذي علامته كذا وكذا، فتراك صاحبتك وتأخذك عندها، وأما خروجك فإن
الله يهوِّن عليَّ فيه، ولو أُخرِجكَ في صندوق. ثم تركني ورجع، وصرتُ أمشي وأعُدُّ
الأبواب وأضع على كل بابٍ حبةَ فول، فلما صرتُ في وسط الحُجَر سمعت ضجة عظيمة،
ورأيت ضوء شموع، وأقبل ذلك الضوء نحوي حتى قرب مني، فتأمَّلته فإذا هو الخليفة
وحوله الجواري ومعهن الشمع، فسمعت واحدة منهن تقول لصاحبتها: يا أختي، هل نحن لنا
خليفتان؟ إن الخليفة قد جاز حجرتي وشممت منه رائحة العطر والطيب، ووضع حبة الفول
على حجرتي كعادته، وفي هذه الساعة أرى ضوء شموع الخليفة وها هو مُقبِل معه! فقالت:
إن هذا أمر عجيب؛ لأن التزيي بزي الخليفة لا يجسر عليه أحد! ثم قرب الضوء مني
فارتعدتْ أعضائي، وإذا بخادم يصيح على الجواري ويقول: ها هنا. فانعطفوا إلى حجرة
من الحُجَر ودخلوا، ثم خرجوا ومشوا حتى وصلوا إلى بيت صاحبتي، فسمعت الخليفة يقول:
هذه حجرة مَن؟ فقالوا: هذه حجرة شجرة الدر. فقال: نادوها. فنادوها فخرجت وقبَّلت
أقدام الخليفة. فقال لها: أتشربين الليلة؟ فقالت: إن لم يكن لحضرتك والنظر إلى
طلعتك فلا أشرب؛ فإنني لا أميل إلى الشراب في هذه الليلة. فقال للخادم: قل للخازن
يدفع لها العقد الفلاني. ثم أمر بالدخول إلى حجرتها، فدخلتْ بين يديه الشموع، وإذا
بجارية أمامهم وضوء وجهها غالب على ضوء الشمعة التي بيدها، فقربت مني وقالت: مَن
هذا؟ ثم قبضت عليَّ وأخذتني إلى حجرة من الحُجَر وقالت لي: مَن أنت؟ فقبَّلت الأرض
بين يديها وقلت لها: أناشدك الله يا مولاتي أن تحقني دمي وترحميني وتتقرَّبي إلى
الله بإنقاذ مهجتي. وبكيت فزعًا من الموت، فقالت: لا شك أنك لص. فقلت: لا والله،
ما أنا لص، فهل ترَيْن عليَّ أثرَ اللصوص؟ فقالت: أَصْدِقني خبرك وأنا أجعلك في
أمان. فقلت: أنا عاشق جاهل أحمق، قد حملَتْني الصبابة وجهلي على ما ترين مني حتى
وقعتُ في هذه الورطة. فقالت: قف هنا حتى أجيء إليك. ثم خرجت وجاءتني بثياب جارية
من جواريها، وألبستني تلك الثياب في تلك الزاوية وقالت: اخرج خلفي. فخرجت خلفها
حتى وصلت إلى حجرتها وقالت: ادخل هنا. فدخلت حجرتها، فجاءت بي إلى سرير وعليه فرش
عظيم وقالت: اجلس لا بأس عليك، أَمَا أنت أبو الحسن الخراساني الصيرفي؟ قلت: بلى.
قالت: قد حقن الله دمك إن كنتَ صادقًا ولم تكن لصًّا؛ فإنك تهلك لا سيما وأنت في
زي الخليفة ولباسه وبخوره، وأما إن كنتَ أبا الحسن الخراساني الصيرفي فإنك قد
أمنت، ولا بأس عليك؛ لأنك صاحب شجرة الدر التي هي أختي، فإنها لا تقطع ذِكْرَك
أبدًا، وتخبرنا كيف أخذت منك المال ولم تتغير، وكيف جئتَ خلفها إلى الشاطئ وأوميت
لها إلى الأرض تعظيمًا، وفي قلبها منك النار أكثر مما في قلبك منها، ولكن كيف
وصلتَ إلى ها هنا؟ أبأمرها أم بغير أمرها؟ بل خاطرت بنفسك! وما مرادك من الاجتماع
بها؟ فقلت: والله يا سيدتي إني أنا الذي خاطرت بنفسي، وما غرضي من الاجتماع بها
إلا النظر والاستماع لحديثها. فقالت: أحسنت. فقلت: يا سيدتي، الله شهيد على ما
أقول، إن نفسي لم تحدِّثني في شأنها بمعصية. فقالت: بهذه النية نجَّاك الله ووقعت
رحمتك في قلبي. ثم قالت لجاريتها: يا فلانة، امضي إلى شجرة الدر وقولي لها: إن
أختك تسلِّم عليكِ وتدعوكِ، فتفضَّلي عندها في هذه الليلة على جري عادتك؛ فإن
صدرها ضيق. فتوجَّهتْ إليها ثم عادت وأخبرتها أنها تقول: متَّعني الله بطول حياتك
وجعلني فداك، والله لو دعوتِني إلى غير هذا ما توقَّفت، لكن يضرني صداع الخليفة،
وأنت تعلمين منزلتي عنده. فقالت للجارية: ارجعي إليها وقولي لها: إنه لا بد من
حضورك لسرٍّ بينك وبينها. فتوجَّهت إليها الجارية، وبعد ساعة جاءت مع الجارية
ووجهها يضيء كأنه البدر، فقابلَتْها واعتنقَتْها وقالت: يا أبا الحسن، اخرج إليها
وقبِّل يديها. وكنت في مخدع في داخل الحجرة، فخرجتُ إليها يا أمير المؤمنين، فلما
رأتني ألقتْ نفسها عليَّ وضمَّتْني إلى صدرها، وقالت لي: كيف صرتَ بلباس الخليفة
وزِينتِه وبخوره؟ ثم قالت: حدِّثني بما جرى لك. فحدَّثتها بما جرى لي وبما قاسيتُه
من خوف وغيره، فقالت: يعزُّ عليَّ ما قاسيتَه من أجلي، والحمد لله الذي جعل
العاقبة إلى السلامة، وتمام السلامة دخولك في منزلي ومنزل أختي. ثم أخذَتْني إلى
حجرتها وقالت لأختها: إني قد عاهدته ألَّا أجتمع معه في الحرام، ولكن كما خاطَرَ
بنفسه وارتكب هذا الهول لَأكوننَّ أرضًا لوطء قدمَيْه وترابًا لنعلَيْه. وأدرك
شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 963﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية قالت لأختها: إني قد عاهدتُه أني لا أجتمع
معه في الحرام، ولكن كما خاطر بنفسه وارتكب هذه الأهوال لَأكونن أرضًا لوطء
قدمَيْه وترابًا لنعلَيْه. فقالت لها أختها: بهذه النية نجَّاه الله تعالى. فقالت:
سوف ترَيْن ما أصنع حتى أجتمع معه في الحلال، فلا بد أن أبذل مهجتي في التحيُّل
على ذلك. فبينما نحن في الحديث، وإذا بضجة عظيمة، فالتفتنا فرأينا الخليفة قد جاء
يريد حجرتها من كثرة ما هو كَلِف بها. فأخذتني يا أمير المؤمنين وحطَّتْني في
سرداب وطبقَتْه عليَّ، وخرجت تقابل الخليفة فلاقته، ثم جلس، فوقفت بين يديه
وخدمته، ثم أمرت بإحضار الشراب، وكان الخليفة يحب جاريةً اسمها البنجة، وهي أم
المعتز بالله، وكانت تلك الجارية قد هجرَتْه وهجرها، فلِعزِّ الحُسْن والجمال لا
تصالحه، والمتوكل لعزَّة الخلافة والمُلك لا يصالحها، ولا يكسر نفسه لها، مع أن في
قلبه منها لهيب النار، ولكنه تشاغَلَ عنها بنظرائها من الجواري والدخول إليهن في
حجراتهن. وكان يحب غناء شجرة الدر، فأمرها بالغناء، فأخذت العود وشدَّت الأوتار
وغنَّت بهذه الأشعار:
عَجِبْتُ
لِسَعْيِ الدَّهْرِ بَيْنِي وَبَيْنَهَا
فَلَمَّا انْقَضَى مَا بَيْنَنَا سَكَنَ الدَّهْرُ
هَجَرْتُكِ
حَتَّى قِيلَ لَا يَعْرِفُ الْهَوَى
وَزُرْتُكِ حَتَّى قِيلَ لَيْسَ لَهُ صَبْرُ
فَيَا
حُبَّهَا زِدْنِي جَوًى كُلَّ لَيْلَةٍ
وَيَا سَلْوَةَ الْأَيَّامِ مَوْعِدُكِ الْحَشْرُ
لَهَا
بَشَرٌ مِثْلُ الْحَرِيرِ وَمَنْطِقٌ
رَخِيمُ الْحَوَاشِي لَا هُرَاءُ وَلَا نَذْرُ
وَعَيْنَانِ
قَالَ اللهُ كُونَا فَكَانَتَا فَعُولَانِ
بِالْأَلْبَابِ مَا تَفْعَلُ الْخَمْرُ
فلما
سمعها الخليفة طَرِب طربًا شديدًا، وطربتُ أنا يا أمير المؤمنين في السرداب، ولولا
لطْفُ الله تعالى لَصِحتُ وافتضحنا، ثم أنشدتْ أيضًا هذه الأبيات:
أُعَانِقُهُ
وَالنَّفْسُ بَعْدُ مَشُوقَةٌ إِلَيْهِ
وَهَلْ بَعْدَ الْعِنَاقِ تَدَانِ
وَأَلْثُمُ
فَاهُ كَيْ تَزُولَ حَرَارَتِي فَيَنْشُدُ
مَا أَلْقَى مِنَ الْهَيَمَانِ
كَأَنَّ
فُؤَادِي لَيْسَ يَشْفِي غَلِيلَهُ سِوَى
أَنْ يَرَى الرُّوحَيْنِ يَمْتَزِجَانِ
فطرب
الخليفة وقال: تمنَّيْ عليَّ يا شجرة الدر. فقالت: أتمنى عليك عِتقي يا أمير
المؤمنين لما فيه من الثواب. فقال: أنتِ حُرَّة لوجه الله تعالى. فقبَّلت الأرض
بين يديه. فقال: خذي العود وقولي لنا شيئًا في شأن جاريتي التي أنا متعلِّق بهواها
والناس تطلب رضاي وأنا أطلب رضاها. فأخذت العود وأنشدت هذين البيتين:
أَيَا
رَبَّةَ الْحُسْنِ الَّتِي أَذْهَبَتْ نُسْكِي عَلَى كُلِّ أَحْوَالِي فَلَا بُدَّ لِي
مِنْكِ
فَإِمَّا
بِذُلٍّ وَهْوَ أَلْيَقُ بِالْهَوَى وَإِمَّا بِعِزٍّ وَهْوَ أَلْيَقُ بِالْمُلْكِ
فطرب
الخليفة وقال: خدي العود وغنِّي شعرًا يتضمن شرحَ حالي مع ثلاث جوارٍ مَلَكْنَ
قيادي ومنعن رقادي وهنَّ: أنتِ وتلك الجارية الهاجرة وأخرى لا أسمِّيها ليس لها
مناظرة. فأخذت العود وأطربت بالنغمات وأنشدت هذه الأبيات:
مَلَكَ
الثَّلَاثُ الْآنِسَاتُ عِنَانِي وَحَلَلْنَ
مِنْ قَلْبِي أَعَزَّ مَكَانِ
مَا
لِي تُطَاوِعُنِي الْبَرِيَّةُ كُلُّهَا
وَأُطِيعُهُنَّ وَهُنَّ فِي عِصْيَانِي
مَا
ذَاكَ إِلَّا أَنَّ سُلْطَانَ الْهَوَى
وَبِهِ غَلَبْنَ أَعَزُّ مِنْ سُلْطَانِي
فتعجَّبَ
الخليفة من موافَقة هذا الشعر لحاله غاية العجب، ومالَ به إلى مصالحة الجارية
الهاجرة الطربُ، ثم خرج وقصد حجرتها، فسبقت جارية وأخبرتها بقدوم الخليفة،
فاستقبلته وقبَّلت الأرض بين يدَيْه، ثم قبَّلت قدمَيْه، فصالَحَها وصالحته.
هذا
ما كان من أمره، وأما ما كان من أمر شجرة الدر، فإنها جاءت إليَّ وهي فرحانة
وقالت: إني صرتُ حُرَّةً بقدومك المبارك، ولعل الله يُعِينني على ما أدبِّره حتى
أجتمع بك في الحلال. فقلت: الحمد لله. فبينما نحن في الحديث، وإذا بخادمها قد دخل
علينا، فحدَّثناه بما جرى لنا، فقال: الحمد لله الذي جعل آخِره خيرًا، ونسأل الله
أن يتم ذلك بخروجك سالمًا. فبينما نحن في الحديث، وإذا بالجارية أختها قد جاءت،
وكان اسمها فاتر، فقالت: يا أختي، كيف نعمل حتى نُخرِجه من القصر سالمًا؛ فإن الله
تعالى مَنَّ عليَّ بالعتق وصرت حرَّةً ببركة قدومه. فقالت لها: ليس لي حيلة في
خروجه إلا بأن أُلبِسَه ثياب النساء. ثم جاءت ببدلة من ثياب النساء فألبَسَتْنيها،
ثم خرجتُ يا أمير المؤمنين في ذلك الوقت، فلما جئتُ إلى وسط القصر وإذا بأمير
المؤمنين جالس والخدم بين يديه، فنظر إليَّ وأنكرني غاية الإنكار، وقال لحاشيته: أسرعوا
وائتوني بهذه الجارية. فلما أتوا بي رفعوا نقابي، فلما رآني عرفني، وسألني،
فأخبرته بالخبر ولم أُخْفِ عليه شيئًا، فلما سمع حديثي تفكَّر في أمري، ثم قام من
وقته وساعته ودخل حجرة شجرة الدر، فقال: كيف تختارين عليَّ بعض أولاد التجار؟
فقبَّلت الأرض بين يديه وحدَّثته بحديثها من أوله إلى آخره على وجه الصدق، فلما
سمع كلامها رحمها ورقَّ قلبه لها، وعذرها في العشق وأحواله، ثم انصرف، ودخل عليها
خادمها وقال: طِيبي نفْسًا، إن صاحبك لما حضر بين يدي الخليفة سأله فأخبره كما
أخبرتِه حرفًا بحرف. ثم رجع الخليفة وأحضرني بين يديه وقال لي: ما حملك على
التجاري على دار الخلافة؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، حملني على ذلك جهلي والصبابة
والإقبال على عفوك وكرمك. ثم بكيت وقبَّلت الأرض بين يديه. فقال: عفوت عنكما. ثم
أمرني بالجلوس، فجلست، فدعا بالقاضي أحمد بن أبي دؤاد وزوَّجني بها، وأمر بحمل جميع
ما عندها إليَّ، وزفُّوها في حجرتها، وبعد ثلاثة أيام خرجت ونقلت جميع ذلك إلى
بيتي، فجميع ما تنظره يا أمير المؤمنين في بيتي وتنكره كله من جهازها.
ثم
إنها قالت لي يومًا من الأيام: اعلم أن المتوكل رجل كريم، وأخاف أن يتذكَّرنا أو
يذكرنا عنده أحدٌ من الحساد، فأريد أن أعمل شيئًا يكون فيه الخلاص من ذلك. قلت:
وما هو؟ قالت: أريد أن أستأذنه في الحج والتوبة من الغناء. فقلت لها: نِعْم الرأي
الذي أشرتِ إليه. فبينما نحن في الحديث، وإذا برسول الخليفة قد جاءني في طلبها؛
لأنه كان يحب غناءها، فمضت وخدمته. فقال لها: لا تنقطعي عنا. فقالت: سمعًا وطاعة.
فاتفق أنها ذهبت إليه في بعض الأيام، وكان قد أرسل إليها على جري العادة، فلم أشعر
إلا وقد جاءت من عنده ممزَّقةَ الثياب باكيةَ العين، ففزعتُ من ذلك وقلت: إنا لله
وإنا إليه راجعون! وتوهَّمتُ أنه أمر بالقبض علينا، فقلت لها: هل المتوكل غضب
علينا؟ فقالت: وأين المتوكل؟ إن المتوكل قد انقضى حكمه وانمحى رسمه. فقلت: أخبريني
بحقيقة الأمر. فقالت: إنه كان جالسًا وراء الستارة يشرب وعنده الفتح بن خاقان
وصدقة بن صدقة، فهجم عليه المنتصر هو وجماعة من الأتراك فقتله، وانقلب السرور
بالشرور، والحظُّ الجميل بالبكاء والعويل، فهربت أنا والجارية وسلَّمنا الله. ثم
قمت في الحال يا أمير المؤمنين وانحدرت إلى البصرة، وجاءني الخبر بعد ذلك بوقوع
الحرب بين المنتصر والمستعين، فخفت فنقلت زوجتي وجميع مالي إلى البصرة. وهذه
حكايتي يا أمير المؤمنين لا زدتها حرفًا ولا نقصتها حرفًا. فجميع ما نظرتَهُ في
بيتي يا أمير المؤمنين مما عليه اسم جَدِّك المتوكل هو من نعمته علينا؛ لأن أصل
نعمتنا من أصولك الأكرمين، وأنتم أهل النِّعَم ومعدن الكرم. ففرح الخليفة بذلك
فرحًا شديدًا، وتعجَّب من حديثه، ثم أخرجتُ للخليفة الجارية وأولادي منها فقبَّلوا
الأرض بين يديه، فتعجَّبَ من جمالهم، واستدعى بدَوَاةٍ وكتب لنا برفع الخراج عن
أملاكنا عشرين سنة. ففرح الخليفة واتخذه نديمًا إلى أن فرَّق الدهر بينهم وسكنوا
القبور بعد القصور، فسبحان الملك الغفور!
ومما
يُحكى أيضًا أيها الملك السعيد أنه كان في قديم الزمان رجلٌ تاجر اسمه عبد الرحمن،
قد رزقه الله بنتًا وولدًا، فسمَّى البنتَ كوكب الصباح؛ لشدة حُسنها وجمالها،
وسمَّى الولد قمر الزمان لشدة حُسنه، ولما نظر ما أعطاهما الله من الحُسْن والجمال
والبهاء والاعتدال خاف عليهما من أعين الناظرين وألسنة الحاسدين ومكر الماكرين
وتحيُّل الفاسقين، فحجبهما عن الناس في قصرٍ مدةَ أربعَ عشرةَ سنة، ولم يَرَهما
أحدٌ غير والدَيْهما وجارية تتعاطى خدمتهما، وكان والدهما يقرأ القرآن كما أنزله
الله، وكذلك أمهما تقرأ القرآن، فصارت الأم تُقرئ بنتها والرجل يُقرئ ولده حتى
حفِظَا القرآن، وتعلَّما الخط والحساب والفنون والآداب من أبيهما وأمهما، ولم
يحتاجا إلى معلم، فلما بلغ الولد مبلغ الرجال قالت للتاجر زوجتُه: إلى متى وأنت
حاجبٌ ولدَك قمر الزمان عن أعين الناس؟ أهو بنت أو غلام؟ فقال لها: غلام. قالت:
حيث كان غلامًا لِمَ لم تأخذه معك إلى السوق وتُقعِده في الدكان حتى يعرف الناس
ويعرفوه لأجل أن يشتهر عندهم أنه ابنك، وتعلِّمه البيع والشراء؟ وربما يحصل لك أمر
فيكون الناس قد عرفوا أنه ولدك، فيضع يده على مخلَّفاتك، وأما إذا متَّ على هذه
الحالة وقال للناس: أنا ابن التاجر عبد الرحمن. فإنهم لا يصدِّقونه، بل يقولون له:
ما رأيناك ولا نعرف أن له ولدًا. وتأخذ أموالَك الحكَّام ويصير ولدك محرومًا،
وكذلك البنت، مرادي أن أُشهِرَها عند الناس؛ لعل أحدًا كفوًا لها يخطبها فنزوِّجها
له ونفرح بها. فقال لها: مخافةً عليهما من أعين الناس. وأدرك شهرزاد الصباح،
فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 964﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن زوجة التاجر لما قالت له ذلك الكلام، قال لها: مخافةً
عليهما من أعين الناس؛ لأني محبٌّ لهما، والمُحِبُّ شديدُ الغيرات، وقد أحسَنَ مَن
قال هذه الأبيات:
أَغَارُ
عَلَيْكَ مِنْ نَظَرِي وَمِنِّي وَمِنْكَ
وَمِنْ مَكَانِكَ وَالزَّمَانِ
وَلَوْ
أَنِّي وَضَعْتُكَ فِي عُيُونِي دَوَامًا
مَا سَئِمْتُ مِنَ التَّدَانِي
وَلَوْ
وَاصَلْتَنِي فِي كُلِّ يَوْمٍ إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا كَفَانِي
فقالت
له زوجته: توكَّل على الله، ولا بأس على مَن يحفظه الله، وخذه في هذا اليوم معك
إلى الدكان. ثم إنها ألبسته بدلة من أفخر الملابس، فصار فتنة للناظرين وحسرة في
قلوب العاشقين، وأخذه أبوه معه ومضى به إلى السوق، فصار كل مَن رآه يفتتن به
ويتقدَّم إليه ويبوس يده ويسلِّم عليه، وصار أبوه يشتم الناس حيث تبعوه لقصد
الفرجة، وصار البعض من الناس يقول: إن الشمس قد طلعت في المحل الفلاني وأشرقت في
السوق. والبعض يقول: مطلع البدر في الجهة الفلانية. والبعض يقول: ظهر هلال العيد
على عباد الله. وصاروا يلمِّحون إلى الولد بالكلام ويدعون له، وقد حصل لأبيه خجل
من كلام الناس، ولا يقدر أن يمنع أحدًا منهم عن الكلام، وصار يشتم أمه ويدعو
عليها؛ لأنها هي التي كانت سببًا في خروجه. والتفت أبوه فرأى الخلائق مزدحمين عليه
خلفه وقدامه، وهو ماشٍ إلى أن وصل إلى الدكان، ففتح الدكان وجلس وأجلس ولده قدامه،
والتفت إلى الناس فرآهم قد سدوا الطريق، وصار كلُّ مَن مرَّ به من رائح وغادٍ يقف
قدام الدكان وينظر إلى ذلك الوجه الجميل، ولا يقدر أن يفارقه. وانعقد عليه إجماع
النساء والرجال متمثلين بقول مَن قال:
خَلَقْتَ
الْجَمَالَ لَنَا فِتْنَةً وَقُلْتَ
لَنَا يَا عِبَادِي اتَّقُونْ
فَأَنْتَ
جَمِيلٌ تُحِبُّ الْجَمَالَ فَكَيْفَ
عِبَادُكَ لَا يَعْشَقُونْ
فلما
رأى التاجر عبد الرحمن الناس مزدحمين عليه وواقفين صفوفًا نساءً ورجالًا لديه،
شاخصين لولده، خجل غاية الخجل وصار متحيرًا في أمره، ولم يدرِ ماذا يصنع. فلم يشعر
إلا ورجل درويش من السياحين وعليه شعار عباد الله الصالحين قد أقبل عليه من طرف
السوق، ثم تقدَّمَ إلى الغلام وصار ينشد الأشعار ويُرخِي الدموع الغِزار، فلما رأى
قمر الزمان جالسًا كأنه قضيب البان، نابت على كثيب من الزعفران، أفاض دمع العين
وأنشد هذين البيتين:
رَأَيْتُ
غُصْنًا عَلَى كَثِيبٍ شَبِيهَ
بَدْرٍ إِذَا تَلَالَا
فَقُلْتُ:
مَا الاسْمُ؟ قَالَ: لُولُو فَقُلْتُ:
لِي لِي. فَقَالَ: لَالَا
ثم
إن الدرويش صار يمشي الهوينا ويمسح شيبته بيده اليمنى، فانشقَّ لِهَيْبتِه قلبُ
الزحام، فلما نظر إلى الغلام اندهش منه العقل والنظر، وانطبق عليه قول الشاعر:
فَبَيْنَمَا
ذَاكَ الْمَلِيحُ فِي مَحَلْ مِنْ
وَجْهِهِ هِلَالُ عِيدِ الْفِطْرِ طَلْ
إِذَا
بِشَيْخٍ ذِي وَقَارٍ قَدْ أَهَلْ يَمْشِي
وَلَكِنْ مَشْيُهُ عَلَى مَهَلْ
يُرَى
عَلَيْهِ أَثَرٌ لِلزُّهْ
قَدْ
مَارَسَ الْأَيَّامَ وَاللَّيَالِي وَخَاضَ
فِي الْحَرَامِ وَالْحَلَالِ
وَهَامَ
بِالنِّسَاءِ وَالرِّجَالِ وَرَقَّ
حَتَّى صَارَ كَالْخِلَالِ
وَعَادَ
عَظْمًا بَالِيًا فِي جِلْدِ
وَكَانَ
فِي ذَا الْفَنِّ أَعْجَمِيَّا الشَّيْخُ
عِنْدَهُ يُرَى صَبِيَّا
وَفِي
مَحَبَّةِ النِّسَاءِ عُذْرِيَّا فِي
الْخَصْلَتَيْنِ مَاهِرًا غَوِيَّا
فَزَيْنَبٌ
لَدَيْهِ مِثْلُ زَيْدِ
يَهِيمُ
بِالْحَسْنَا وَيَهْوَى الْحُسْنَا وَيَنْدُبُ
الرَّبْعَ وَيَبْكِي الدِّمَنَا
تَخَالُهُ
مِنْ فَرْطِ شَوْقٍ غُصْنَا مَعَ
الصِّبَا إِلَى هُنَاكَ أَوْ هُنَا
إِنَّ
الْجُمُودَ مِنْ طِبَاعِ الصَّلْدِ
وَكَانَ
فِي فَنِّ الْهَوَى خَبِيرًا مُسْتَيْقِظًا
فِي أَمْرِهِ بَصِيرَا
وَجَابَ
مِنْهُ السَّهْلَ وَالْعَسِيرَا وَعَانَقَ
الظَّبْيَةَ وَالْغَرِيرَا
وَهَامَ
بِالشَّيْبِ مَعًا وَالْمُرْدِ
ثم
تقدَّم إلى الولد وأعطاه عرق ريحان، فمدَّ أبوه يده إلى جيبه وأخرَجَ له ما
تيسَّرَ من الدراهم، وقال: خذ نصيبك يا درويش واذهبْ إلى حال سبيلك. فأخذ منه
الدراهم وجلس على مصطبة الدكان قدام الولد، وصار ينظر إلى الولد ويبكي ويتحسَّر
حسرات متتابعة ودموعه كالعيون النابعة، فصارت الناس تنظر إليه وتعترض عليه، وبعضهم
يقول: كل الدراويش فسَّاق. وبعضهم يقول: إن الدرويش في قلبه من عشق للولد احتراق.
وأما أبوه فإنه لما عاين هذا الحال قام وقال: قُمْ يا ولدي حتى نقفل الدكان ونروح
إلى بيتنا، ولا يتبقى لنا في هذا اليوم بيع ولا شراء، الله تعالى يجازي أمك بما
فعلت معنا؛ فإنها هي التي تسبَّبت في هذا كله. ثم قال: يا درويش، قم حتى أقفل
الدكان. فقام الدرويش وقفل التاجر دكانه وأخذ ولده ومشى. فتبعهما الدرويش والناس
إلى أن وصلا إلى منزلهما، فدخل الولد المنزل، والتفت التاجر إلى الدرويش وقال له:
ما تريد يا درويش؟ وما لي أراكَ تبكي؟ فقال: يا سيدي، أريد أن أكون ضيفك في هذه
الليلة، والضيف ضيف الله تعالى. فقال: مرحبًا بضيف الله، ادخل يا درويش. وأدرك
شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 965﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الدرويش لما قال للتاجر والد قمر الزمان: أنا ضيف
الله. فقال له التاجر: مرحبًا بضيف الله، ادخل يا درويش. وقال التاجر في نفسه: إن
كان هذا الدرويش عاشقًا للولد وطلب منه فاحشة فلا بد أن أقتله في هذه الليلة،
وأُخفي قبره، وإن كان ما عنده فساد، فإن الضيف يأكل نصيبه. ثم إنه أدخل الدرويش هو
وقمر الزمان في قاعة وقال سرًّا لقمر الزمان: يا ولدي، اجلس بجانب الدرويش وناغشه
ولاعبه بعد أن أخرج من عندكما، فإن طلب منك فسادًا فأنا أكون ناظرًا لكما من
الطاقة المطلة على القاعة، فأنزل إليه وأقتله. ثم إن الولد لما اختلى به الدرويش
في تلك القاعة قعد بجانب الدرويش، فصار الدرويش ينظر إليه ويتحسَّر ويبكي، وإذا
كلَّمه الولد يرد عليه برفق وهو يرتعش ويلتفت إلى الولد ويتنهد ويبكي، إلى أن أتى
العشاء، فصار يأكل وعينه من الولد ولا يفتر عن البكاء، فلما مضى ربع الليل وفرغ
الحديث وجاء وقت النوم، قال أبو الولد: يا ولدي، تقيَّد بخدمة عمك الدرويش ولا
تخالفه. وأراد أن يخرج، فقال له الدرويش: يا سيدي، خذ ولدك معك أو نَمْ عندنا.
قال: لا، وها هو ولدي نائم عندك، ربما تشتهي نفسك شيئًا فولدي يقضي حاجتك ويقوم بخدمتك.
ثم خرج وخلَّاهما وقعد في قاعة ثانية فيها طاقة تطل على القاعة التي هما فيها.
هذا
ما كان من أمر التاجر، وأما ما كان من أمر الولد، فإنه تقدَّم إلى الدرويش، وصار
يناغشه ويعرض نفسه عليه، فاغتاظ الدرويش وقال له: ما هذا الكلام يا ولدي؟ أعوذ
بالله من الشيطان الرجيم! اللهم إن هذا منكر لا يرضيك، ابعد عني يا ولدي! ثم قام
الدرويش من مكانه وقعد بعيدًا عن الولد، فتبعه الولد ورمى روحه عليه وقال له: لأي
شيء يا درويش تحرم نفسك من لذَّةِ وِصالي وأنا قلبي يحبك؟ فازداد غيظ الدرويش وقال
له: إن لم تمتنع عني ناديتُ أباك وأخبره بخبرك! فقال له: إن أبي يعرف أنني بهذه
الصفة، ولا يمكن أن يمنعني، فاجبر بخاطري، لأي شيء تمتنع عني؟ أَمَا أعجبتك؟ فقال
له: والله يا ولدي ما أفعل ذلك ولو قُطِّعتُ بالسيوف البواتر. وأنشد قول الشاعر:
إِنَّ
قَلْبِي يَهْوَى الْمِلَاحَ ذُكُورًا
وَإِنَاثًا وَلَسْتُ بِالْمُتَوَانِي
بَلْ
أَرَاهُمْ أَصَائِلًا وَبُكُورًا لَمْ
أَكُنْ لَائِطًا وَلَا أَنَا زَانِي
ثم
بكى وقال له: قم افتح لي الباب حتى أروح إلى حال سبيلي، أنا ما بقيت أنام في هذا
المكان. ثم قام على قدميه، فتعلَّق به الولد وصار يقول له: انظر لإشراق وجهي
وحُمْرة خدِّي ولِين مَعاطفي ورِقَّة شفايفي. ثم كشف له عن ساقٍ تُخجِل الخَمْر
والساقي، ورَنَا إليه بلَحْظٍ يُعجِز السِّحْر والراقي، وكان بديعَ الجمال رخيمَ
الدلال كما قال فيه بعض مَن قال:
لَمْ
أَنْسَهُ مُذْ قَامَ يَكْشِفُ عَامِدًا
عَنْ سَاقِهِ كَاللُّؤْلُؤِ الْبَرَّاقِ
لَا
تَعْجَبُوا مِنْ أَنْ تَقُومَ قِيَامَتِي
إِنَّ الْقِيَامَةَ يَوْمَ كَشْفِ السَّاقِ
ثم
بيَّنَ له الغلام صدره وصار يقول له: انظر إلى نهودي، فإنها أحسن من نهود البنات،
وريقي أحلى من السكر النبات، فدَعِ الورع والزهادة وخلِّنا من النسك والعبادة،
واغتنم وصالي وتملَّ بجمالي، ولا تخَفْ من شيء أبدًا، وعليك الأمان من الردى،
واترك هذه البلادة فإنها بئسَتِ العادة. وصار يريه ما خفي من محاسنه ويبديه ويثني
عنان عقله بتثنيه، والدرويش يلفت وجهه ويقول: أعوذ بالله! استحِ يا ولدي، إن هذا
شيء حرام لا أفعله ولا في المنام. فشدَّد عليه الغلام، فانفلت منه الدرويش واستقبل
القِبلة وصار يصلي، فلما رآه يصلِّي تركه حتى صلَّى ركعتين وسلَّم وأراد أن
يتقدَّم إليه فنوى الصلاة ثاني مرة، وصلَّى ركعتين، ولم يَزَل يفعل هكذا ثالثًا
ورابعًا وخامسًا. فقال له الولد: وما هذه الصلاة؟ وهل مرادك أن تطير على السحاب؟
أضعت حظنا وأنت طول الليل في المحراب. ثم إن الغلام ارتمى عليه وصار يبوسه بين
عينيه. فقال له: يا ولدي، اخزِ عنك الشيطان، وعليك بطاعة الرحمن. فقال له: إن لم
تفعل بي ما أريد أنادي أبي وأقول له إن الدرويش يريد أن يفعل بي الفاحشة، فيدخل
عليك ويضربك حتى يكسر عظمك على لحمك. كل هذا وأبوه ينظر بعينه ويسمع بأذنه، فثبت
عند أبي الولد أن الدرويش ما عنده فساد، وقال في نفسه: لو كان هذا الدرويش مفسودًا
ما كان يتحمَّل هذه المشقة كلها. ثم إن الولد صار يحاول الدرويش، وكلما نوى الصلاة
قطعها عليه حتى اغتاظ الدرويش غاية الغيظ، وأغلظ على الولد وضربه، فبكى الولد،
فدخل عليه أبوه ومسح دموعه وأخذ بخاطره، وقال للدرويش: يا أخي، حيث كنت على هذه
الحالة، لأي شيء تبكي وتتحسَّر حين رأيتَ ولدي؟ هل لهذا من سبب؟ قال له: نعم. فقال
له: أنا لما رأيتك تبكي عند رؤيته ظننتُ فيك السوء، فأمرت الولد بهذا الأمر حتى
أجرِّبك، وأضمرتُ أني إذا رأيتك تطلب منه فاحشةً أدخل عليك وأقتلك، فلما رأيتُ ما
وقع منك عرفتُ أنك من الصلاح على غاية، ولكن بالله عليك أن تخبرني بسبب بكائك.
فتنهَّد الدرويش وقال له: يا سيدي، لا تحرِّك عليَّ ساكن الجراح. فقال: لا بد أن
تخبرني. فقال: اعلم أنني درويش سَيَّاح في البلاد والأقطار؛ لأعتبر بآثار خالق
الليل والنهار، فاتفق أنني دخلت مدينة البصرة في يوم جمعة ضحوة النهار … وأدرك
شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 966﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الدرويش لما قال للتاجر: اعلم أنني درويش سَيَّاح،
فاتفق أني دخلتُ مدينة البصرة في يوم جمعة ضحوية النهار، فرأيت الدكاكين مفتوحة
وفيها من سائر الأصناف والبضائع والمأكول والمشروب، وهي خالية ليس فيها رجل ولا
امرأة ولا بنت ولا ولد، وليس في الشوارع والأسواق كلاب ولا قطط ولا حس حسيس ولا
إنس، فتعجَّبت من ذلك وقلت: يا ترى، أين راح أهل هذه المدينة بقططهم وكلابهم؟ وما
فعل الله بهم؟ وكنت جائعًا فأخذت عيشًا سخنًا من فرن خباز ودخلت دكان زيات
وبسَسْتُ العيش بالسمن والعسل، وأكلت، وطلعت دكان شربات فشربت ما أردت، ورأيت
القهوة مفتوحة فدخلتها ورأيت فيها البكارج على النار ممتلئة بالقهوة، وليس فيها
أحد فشربت كفايتي، وقلت: إن هذا الشيء عجيب! كأنَّ أهل هذه المدينة أتاهم الموت
فماتوا كلهم في هذه الساعة، أو خافوا من شيء نزل بهم فهربوا وما قدروا أن يقفلوا
دكاكينهم. فبينما أنا أفكر في هذا الأمر، وإذا بصوت نوبة تدق، فخفت واختفيت حصة من
الزمان، وصرت أنظر من خلال الخروق، فرأيت جواريَ كأنهن الأقمار وقد مشين في السوق
زوجًا زوجًا من غير غطاء، بل مكشوفات الوجوه، وهنَّ أربعون زوجًا بثمانين جارية،
ورأيت وليدة راكبة على جواد لا يقدر أن ينقل أقدامه مما عليه وعليها من الذهب
والفضة والجواهر، وتلك الوليدة مكشوفة الوجه من غير غطاء وهي مزيَّنة بأفخر الزينة
ولابسة أفخر الملبوس، وفي عنقها عقد من الجوهر، وفي صدرها قلائد من الذهب، وفي
يديها أساور تضيء كالنجوم، وفي رجلَيْها خلاخل من الذهب مرصَّعة بالمعادن،
والجواري قدامها وخلفها وعن يمينها وشمالها، وبين يديها جارية مقلَّدة بسيف عظيم
قبْضتُهُ من زمرد وعلائقه من ذهب مرصَّع بالجواهر، فلما وصلت تلك الصبية إلى الجهة
التي قدامي حبستْ عنان الجواد وقالت: يا بنات، إني قد سمعت حس شيء في داخل هذا
الدكان، ففتِّشْنَه لئلا يكون فيه أحد مستخفٍ ومراده أن يتفرج علينا ونحن مكشوفات
الوجوه. ففتَّشْنَ الدكان الذي قدام القهوة التي أنا مستخفٍ فيها، وبقيت أنا
خائفًا، فرأيتهن قد خرجْنَ برجل وقلن لها: يا سيدتنا، قد رأينا هنا رجلًا، وها هو
بين يديك. فقالت للجارية التي معها السيف: ارمي عنقه. فتقدَّمت إليه الجارية وضربت
عنقه، ثم تركْنَه مطروحًا على الأرض ومضَيْنَ. ففزعتُ أنا لمَّا رأيت هذه الحالة،
ولكن تعلَّقَ قلبي بعشق الصبية، وبعد ساعة ظهر الناس وصار كلُّ مَن كان له دكان
يدخلها، ودرجت الناس في الأسواق والتمُّوا على المقتول يتفرَّجون عليه، فخرجتُ أنا
من المكان الذي كنت فيه سرًّا، ولم ينتبه لي أحد، ولكن تملَّك قلبي عشق تلك
الصبية، فصرت أتجسَّس عليها سرًّا، فلم يخبرني أحد عنها بخبر. ثم إني خرجت من
البصرة وفي قلبي من عشقها حسرة، فلما رأيت ابنك هذا رأيته أشبه الناس بتلك الصبية،
فأذكرني بها وهيَّج عليَّ نار الغرام، وأضرم بقلبي لهيبًا، وهذا سبب بكائي. ثم إنه
بكى بكاءً شديدًا ما عليه من مزيد، وقال: يا سيدي، بالله عليك أن تفتح لي الباب
حتى أذهب إلى حال سبيلي. ففتح له الباب وخرج.
هذا
ما كان من أمره، وأما ما كان من أمر قمر الزمان، فإنه لما سمع كلام الدرويش اشتغل
باله بعشق تلك الصبيَّة، وتمكَّن منه الغرام، وهاج به الوَجْد والهيام، فلما أصبح
الصباح قال لأبيه: كل أولاد التجار يسافرون البلاد لتحصيل المراد، وليس منهم واحد
إلا وأبوه يجهِّز له بضاعة فيسافر بها ويربح فيها. ولأي شيء يا أبي لم تجهِّز لي
تجارة حتى أسافر بها وأنظر سعدي؟ فقال له: يا ولدي، إن التجار مقلُّون من المال،
فيسفِّرون أولادهم من أجل الفوائد والمكاسب وجلب الدنيا، وأما أنا فعندي أموال
كثيرة، وليس عندي طمع، فكيف أغرِّبك وأنا لا أقدر على فراقك ساعة؟ خصوصًا وأنت
فريد في الجمال والحُسن والكمال وأخاف عليك. فقال له: يا أبي، لا يمكن إلا أن تجهز
لي متجرًا لأسافر به، وإلا أغافلك وأهرب ولو من غير مال ولا تجارة، وإن أردت تطييب
خاطري فجهِّز لي بضاعة حتى أسافر وأتفرج على بلاد الناس. فلما رآه أبوه متعلقًا
بالسفر أخبر زوجته بهذا الخبر وقال لها: إن ولدك يريد أن أجهِّز له متجرًا ليسافر
به إلى بلاد الغربة، مع أن الغربة كربة. فقالت له زوجته: ماذا يضرك من ذلك؟ إن هذه
عادة أولاد التجار؛ فكلهم يتفاخرون بالأسفار والمكاسب. فقال لها: إن غالب التجار
فقراء يطلبون كثرة المال، وأما أنا فمالي كثير. فقالت له: زيادة الخير لا تضر، وإن
كنتَ أنت لا تسمح له بذلك فأنا أجهِّز له متجرًا من مالي. فقال التاجر: إني أخاف
عليه من الغربة؛ لأنها بئست الكربة. قالت: لا بأس بالاغتراب الذي فيه الاكتساب،
وإلا يذهب ولدنا ونطلبه فلا نراه ونفتضح بين الناس. فقبل التاجر كلام زوجته
وجهَّزَ متجرًا لولده بتسعين ألف دينار، وأعطته أمه كيسًا فيه أربعون فصًّا من
ثمين الجواهر، أقل قيمة الواحد خمسمائة دينار، وقالت: يا ولدي، احتفظْ بهذه
الجواهر فإنها تنفعك. فأخذ قمر الزمان جميع ذلك وسافَرَ إلى البصرة. وأدرك شهرزاد
الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 967﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن قمر الزمان أخذ جميع ذلك وسافر إلى البصرة، وكان
وضَعَ الجواهر في كمرٍ وشدَّه على وسطه، ولم يزل مسافرًا حتى لم يبْقَ بينه وبين
البصرة إلا مرحلة واحدة، فخرج عليه العرب وعرَّوْه وقتلوا رجاله وخَدَمه، فرقد بين
قتيلَيْن ولطَّخ روحه بالدم، فظنَّ العرب أنه مقتول، فتركوه ولم يتقرَّب منه أحد،
ثم أخذوا أمواله وراحوا، فلما راح العرب إلى حال سبيلهم قام قمر الزمان من بين
القتلى ومشى وهو لا يملك شيئًا غير الفصوص التي على حزامه، ولم يزل سائرًا حتى دخل
البصرة، فاتفق أن دخوله كان في يوم جمعة، وكانت المدينة خالية من الناس كما أخبر
الدرويش، فرأى الأسواق خالية والدكاكين مفتوحة وهي ممتلئة بالبضائع، فأكل وشرب
وصار يتفرَّج. فبينما هو كذلك إذ سمع النوبة تدق، فاختفى في دكان إلى أن جاءت
البنات، فتفرَّج عليهن، ولما رأى الصبيَّة راكبة أخذه العشق والغرام وملكه الوَجْد
والهيام، حتى صار لا يستطيع القيام. وبعد حصة من الزمان ظهرت الناس وملأت الأسواق،
فذهب إلى السوق وتوجَّه إلى رجل جوهري، وأخرج له حجرًا من الأربعين يساوي ألف
دينار، فباعه له ورجع إلى محله، ثم بات تلك الليلة، فلما أصبح الصباح غيَّرَ
حوائجه ودخل الحمام وطلع كأنه البدر التمام. ثم باع أربعة فصوص بأربعة آلاف دينار،
وصار يتفرَّج في شوارع البصرة وهو لابس أفخر الملابس حتى وصل إلى سوق، فرأى فيه
رجلًا مزينًا، فدخل عنده وحلق رأسه وعمل معه صحبة، ثم قال: يا والدي، أنا غريب
البلاد، وبالأمس دخلت هذه المدينة فرأيتها خالية من السكان وما فيها أحد من إنس
ولا جان، ثم إني رأيت بناتًا وبينهن صبيَّة راكبة في موكب … وأخبره بما رأى، فقال
له: يا ولدي، هل أخبرتَ غيري بهذا الخبر؟ قال: لا. فقال له: يا ولدي، إياك أن تذكر
هذا الكلام قدَّام أحد غيري، فإن كل الناس لا يكتمون الكلام والأسرار، وأنت ولد
صغير فأخاف عليك أن ينتقل الكلام من ناسٍ إلى ناس حتى يصل إلى أصحابه فيقتلوك،
واعلم يا ولدي أن هذا الذي رأيته ما أحد رآه ولا يعرفه في غير هذه المدينة، وأما
أهل البصرة فإنهم يموتون بهذه الحسرة، وفي كل يوم جمعة عند ضحوة النهار يحبسون الكلاب
والقطط ويمنعونها عن المشي في الأسواق، وجميع أهل المدينة يدخلون الجوامع ويغلقون
عليهم الأبواب، ولا يقدر أحد منهم أن يمر في السوق، ولا أن يطل من طاقة، ولا يعرف
أحدٌ ما سبب هذه البليَّة، ولكن يا ولدي في هذه الليلة أسأل زوجتي عن سببها؛ فإنها
داية تدخل بيوت الأكابر وتعرف أخبار هذه المدينة، فإن شاء الله تعالى تأتي عندي في
غدٍ وأنا أخبرك بما تخبرني به. فكبش كبشة من الذهب وقال: يا والدي، خذ هذا الذهب
وأعطِهِ لزوجتك، فإنها صارت أمي. وكبش كبشة ثانية وقال: خذ هذا لك. فقال المزين:
يا ولدي، اجلس مكانك حتى أروح إلى زوجتي وأسألها وأجيء إليك بالخبر الصحيح.
ثم
تركه في الدكان وراح إلى زوجته وأخبرها بشأن الغلام، وقال لها: مرادي أن تخبريني
بحقيقة أمر هذه المدينة حتى أخبر بها هذا الشاب التاجر؛ فإنه متولِّع بالاطِّلاع
على حقيقة أمرها من امتناع الناس والحيوانات عن الأسواق في ضحوة يوم الجمعة، وأظن
أنه عاشق وهو كريم سخي، فإذا أخبرناه يحصل لنا منه خير كثير. فقالت له: رُحْ هاتِه
وقل له: تعالَ كلِّم أمك زوجتي، فإنها تُقرئك السلام وتقول لك: إن الحاجة مقضية.
فذهب إلى الدكان فرأى قمر الزمان قاعدًا ينتظره، فأخبره بالخبر وقال له: يا ولدي،
اذهب بنا إلى أمك زوجتي، فإنها تقول لك: إن الحاجة مقضية. ثم أخذه وسار به حتى دخل
على زوجته، فرحَّبت به وأجلسته، ثم إنه أخرج مائة دينار وأعطاها لها وقال لها: يا
أمي، أخبريني عن هذه الصبيَّة مَن تكون؟ فقالت: يا ولدي، اعلم أن سلطان البصرة قد
جاءته جوهرة من عند ملك الهند، فأراد أن يثقبها، فأحضر جميع الجوهرجية وقال لهم:
أريد منكم أن تثقبوا لي هذه الجوهرة، والذي يثقبها له عليَّ تَمْنية، فمهما
تمنَّاه أعطيته له، وإنْ كسرها فإني أرمي رأسه. فخافوا وقالوا: يا ملك الزمان، إن
الجوهر سريع العطب، وقلَّ أن يثقبه أحد ويسلم؛ لأن الغالب عليه الكسر، فلا
تحمِّلنا ما لا نطيق، فنحن لا يخرج من أيدينا أن نثقب هذه الجوهرة، وإنما شيخنا
أخبر منا. فقال الملك: ومَن شيخكم؟ قالوا له: المعلم عبيد، وهو أخبر منَّا بهذه
الصناعة، وعنده أموال كثيرة، وله معرفة جيدة، فأرسِلْ إليه وأحضِرْه بين يديك،
وأمره أن يثقب لك هذه الجوهرة. فأرسل إليه وأمره بثقبها، وشرط عليه الشرط المذكور،
فأخذها وثقبها على مزاج الملك، فقال له: تمنَّ عليَّ يا معلم. فقال: يا ملك
الزمان، أمهلني إلى غدٍ. والسبب في ذلك أنه أراد أن يشاور زوجته، وكانت زوجته تلك
الصبية التي رأيتها في الموكب، وكان يحبها محبةً شديدة، ومِن عِظَمِ محبته لها أنه
كان لا يفعل شيئًا إلا إذا شاوَرَها فيه، ولأجل ذلك أمهل التمنية حتى يشاورها.
فلما أتى إليها قال لها: إني ثقبت للملك جوهرة وأعطاني تمنية، وقد أمهلتها حتى
أشاورك، فأي شيء تريدين حتى أتمناه؟ قالت: نحن عندنا أموال لا تأكلها النيران،
ولكن إن كنت تحبني فتمنَّ على الملك أنه ينادي في شوارع البصرة أن أهلها يدخلون
الجوامع يوم الجمعة قبل الصلاة بساعتين، ولا يبقَ في البلد كبير ولا صغير حتى يكون
في المسجد أو في البيت، وتُقفَل عليهم أبواب المساجد والبيوت ويَتركون دكاكين
البلد مفتوحة، وأنا أركب بجواريَّ وأشق في المدينة ولا ينظرني أحد من طاقة ولا من
شباك، وكل مَن عثرتُ به قتلته. فراح إلى الملك وتمنَّى عليه هذه الأمنية، فأعطاه
ما تمنَّاه، ونادى بين أهل البصرة … وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام
المباح.
﴿اللیلة 968﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك لما أعطى الجوهري ما تمنَّاه، ونادى بين أهل
البصرة بما تمنَّاه، قالوا: إننا نخاف على البضائع من القطط والكلاب. فأمر الملك
بحبسها في ذلك اليوم حتى تخرج الناس من صلاة الجمعة، وصارت تلك الجارية تخرج في كل
يوم جمعة قبل الصلاة بساعتين وتركب بجواريها في شوارع البصرة، ولا يقدر أحد أن يمر
في السوق ولا أن يطل من طاقة ولا من شباك. فهذا هو السبب، وقد عرَّفتك بالجارية،
ولكن يا ولدي هل مرادك معرفة خبرها أو مرادك الاجتماع بها؟ فقال: يا أمي، مرادي
الاجتماع بها. فقالت: أخبرني بما عندك من الذخائر الفاخرة. فقال: يا أمي، عندي من
ثمين المعادن أربعة أصناف؛ صنف ثمن كل واحد منه خمسمائة دينار، وصنف ثمن كل واحد
منه سبعمائة دينار، وصنف ثمن كل واحد منه ثمانمائة دينار، وصنف ثمن كل واحد منه
ألف دينار. قالت له: وهل تسمح نفسك بأربعة منها؟ قال: نفسي تسمح بالجميع. قالت:
قُمْ يا ولدي من غير مطرود، وأخرج منها فصًّا يكون ثمنه خمسمائة دينار، واسأل عن
دكان المعلم عبيد شيخ الجوهرية، واذهب إليه تَرَه جالسًا في دكانه وعليه ثياب
فاخرة وتحت يده الصناع، فسلِّم عليه واجلس على الدكان وأخرج الفص وقل له: يا معلم،
خذ هذا الحجر وصِغْه لي خاتمًا بالذهب، ولا تجعله كبيرًا، بل اجعله قدر مثقال من
غير زيادة، واصنعه صنعًا جيدًا. ثم أعطِهِ عشرين دينارًا وأعطِ الصنَّاع كلَّ واحد
دينارًا، واقعد عنده حصةً وتحدَّث معه، وإذا أتاك سائل فأعطِهِ دينارًا، وأظهِرِ
الكرمَ حتى يتولَّع بمحبتك، ثم قُمْ من عنده ورُحْ إلى منزلك وبِتْ هناك، فإذا
أصبحت فهاتِ معك مائة دينار وأعطها لأبيك فإنه فقير. قال: وهو كذلك. ثم خرج من
عندها وذهب إلى الوكالة وأخذ فصًّا ثمنه خمسمائة دينار، وعمد به إلى سوق الجواهر
وسأل عن دكان المعلم عبيد شيخ الجوهرية، فدلُّوه على دكانه، فلما وصل إلى الدكان
رأى شيخ الجوهرية رجلًا مهابًا، وعليه ثياب فاخرة وتحت يده أربعة صناع، فقال لهم:
السلام عليكم. فردَّ عليه السلام ورحَّب به وأجلسه، فلما جلس أخرج له الفص وقال
له: يا معلم، أريد منك أن تصوغ لي هذا الحجر خاتمًا بالذهب، ولكن اجعله قدر مثقال
من غير زيادة، وصِغْه صياغة طيبة. ثم أخرج له عشرين دينارًا وقال له: خذ هذه في
نظير نقشه، والأجرة باقية. ثم أعطى كل صانع دينارًا، فأحبَّه الصنَّاع وأحبَّه
المعلم عبيد، وقعد يتحدَّث معه، وصار كلُّ مَن أتاه من السائلين يعطيه دينارًا،
فتعجبوا من كرمه. ثم إن المعلم عبيد كان عنده عدة في بيته مثل العدة التي في
الدكان، وكان من عادته أنه إذا أراد أن يصنع شيئًا غريبًا يشغله في بيته، حتى إن
الصنَّاع لا يتعلَّمون منه الصنعة الغريبة. وكانت الصبيَّة زوجته تجلس قدامه، فإذا
كانت قدامه ونظر إليها فإنه يصنع كل شيء غريب في صناعته، بحيث لا يليق إلا
بالملوك. فقعد يصنع هذا الخاتم صنعة عجيبة في البيت، فلما رأته زوجته قالت له: ما
مرادك أن تصنع بهذا الفص؟ قال: أريد أن أصوغه خاتمًا بالذهب، فإن ثمنه خمسمائة
دينار. فقالت له: لمن؟ قال: لغلام تاجر جميل الصورة له عيون تجرح وخدود تقدح، وله
فم كخاتم سليمان، ووجنتان كشقائق النعمان، وشفايف حمر كالمرجان، وله عنق مثل أعناق
الغزلان، وهو أبيض مشرب بحمرة، ظريف لطيف كريم، فعل كذا وكذا. وصار تارةً يصف لها
حُسْنَه وجماله، وتارةً يصف لها كرمه وكماله، وما زال يذكر لها محاسنه وكرم أخلاقه
حتى عشَّقها فيه، ولم يكن أحد أعرص من الذي يصف لزوجته إنسانًا بالحُسْن والجمال
وفرط سخائه بالمال! فلما فاض بها الغرام قالت له: هل يوجد فيه شيء من محاسني؟ فقال
لها: جميع محاسنك كلها فيه، وهو شبيهك في الصفة، وربما كان عمره قدر عمرك، ولولا
أني أخاف على خاطرك لَقلتُ: إنه أحسن منك بألف مرة. فسكتت، ولكن التهبت نار محبته
في قلبها. ثم إن الصايغ لم يزل يتحدث في تعداد محاسنه حتى فرغ من صياغة هذا
الخاتم، ثم ناوله لها فلبسته، فجاء على قدر إصبعها، فقالت له: يا سيدي، إن قلبي حب
هذا الخاتم، وأشتهي أنه يكون لي ولا أنزعه من إصبعي. فقال لها: اصبري، فإن صاحبه
كريم، وأنا أطلب أن أشتريه منه، فإن باعني إياه جئت به إليك، وإن كان عنده حجر آخر
أشتريه لك وأصوغه مثله. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 969﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الجوهري قال لزوجته: اصبري، فإن صاحبه كريم وأنا أطلب
أن أشتريه منه، فإن باعني إياه جئت به إليك، وإن كان عنده حجر آخر أشتريه وأصوغه
لك مثله.
هذا
ما كان من أمر الجوهري وزوجته، وأما ما كان من أمر قمر الزمان فإنه بات في منزله،
فلما أصبح أخذ مائة دينار وأتى إلى العجوز زوجة المزين وقال لها: خذي هذه المائة
دينار. فقالت له: أعطِها لأبيك. فأعطاها له، ثم إنها قالت له: هل فعلت كما قلت لك؟
قال: نعم. قالت له: قُمْ وتوجَّه الآن إلى شيخ الجوهرية، فإذا أعطاك الخاتم فضعه
في رأس إصبعك وانزعه بسرعة وقل له: يا معلم، أخطأتَ، إن الخاتم جاء ضيِّقًا. فيقول
لك: يا تاجر، هل أكسره وأصوغه واسعًا؟ فقل له: لا أحتاج إلى كسره وصياغته ثانيًا،
ولكن خذه وأعطِهِ لجارية من جواريك. وأخرِجْ له حجرًا آخَر يكون ثمنه سبعمائة
دينار وقل له: خذ هذا الحجر صِغْه لي، فإنه أحسن من ذلك. وأعطِهِ ثلاثين دينارًا
وأعطِ لكل صانع دينارين وقل له: هذه الدنانير في نظير نقشه، والأجرة باقية. ثم
ارجع إلى منزلك وبت هناك وتعالَ في الصباح ومعك مائتا دينار وأنا أكمل لك بقية
الحيلة. ثم إنه ذهب إلى الجوهري فرحَّب به وأجلسه على الدكان، فلما جلس قال له:
قضيتَ الحاجة؟ قال: نعم. وأخرج له الخاتم، فأخذه وحطَّه في رأس إصبعه، ثم نزعه
سريعًا وقال له: أخطأتَ يا معلم! ورماه له وقال له: إنه ضيِّق على إصبعي. فقال له
الجوهري: يا تاجر، هل أوسِّعه؟ قال: لا، ولكن خذه إحسانًا وألبِسْه لإحدى جواريك،
فإن ثمنه تافه؛ لأنه خمسمائة دينار، فلا يحتاج إلى صياغته ثانيًا. ثم أخرَجَ له فصًّا
آخر ثمنه سبعمائة دينار وقال له: اصنع هذا. ثم أعطاه ثلاثين دينارًا وأعطي كل صانع
دينارين. فقال له: يا سيدي، لمَّا نصوغ الخاتم نأخذ أجرته. قال: هؤلاء في نظير
نقشه، والأجرة باقية. ثم تركه ومضى، فاندهش الجوهري من شدة كرم قمر الزمان وكذلك
الصنَّاعُ. ثم إن الجوهري ذهب إلى زوجته وقال لها: يا فلانة، ما رأت عيني أكرم من
هذا الشاب، وأنت بختك طيب؛ لأنه أعطاني الخاتم بلا ثمن وقال لي: أعطِهِ لبعض
جواريك. وحكى لها القصة، ثم قال لها: أظن أن هذا الولد ما هو من أولاد التجار،
وإنما هو من أولاد الملوك والسلاطين. وصار كلما مدَحَه تزداد فيه غرامًا ووَجْدًا
وهيامًا. ثم لبست الخاتم والجوهري صاغ له الثاني أوسع من الأول بقليل، فلما فرغ من
صناعته لبسته في إصبعها من داخل الخاتم الأول، ثم قالت: يا سيدي، انظر، ما أحسنَ
الخاتمين في إصبعي! فأشتهي أن يكون الخاتمان لي. فقال لها: اصبري، لعلي أشتري
الثاني لك. ثم بات، فلما أصبح أخذ الخاتم وتوجَّه إلى الدكان.
هذا
ما كان من أمره، وأما ما كان من أمر قمر الزمان فإنه أصبح متوجِّهًا إلى العجوز
زوجة المزين، وأعطاها مائتي دينار، فقالت له: توجَّه إلى الجوهري، فإذا أعطاك
الخاتم فضَعْه في إصبعك وانزعه سريعًا وقل: أخطأتَ يا معلم، إن الخاتم جاء واسعًا،
والمعلم الذي يكون مثلك إذا أتاه مثلي بشغل ينبغي له أن يأخذ القياس، فلو كنتَ
أخذتَ قياس إصبعي ما أخطأتَ! وأخرِجْ له حجرًا آخر يكون ثمنه ثمانمائة دينار وقل
له: خذ هذا اصنعه، وأعطِ هذا الخاتم إلى جارية من جواريك. ثم أعطِهِ أربعين
دينارًا، وأعطِ كل صانع ثلاثة دنانير وقل له: هذا في نظير نقشه، وأما الأجرة فإنها
باقية. وانظر ماذا يقول لك، ثم تعالَ ومعك ثلاثمائة دينار وأعطِها لأبيك يستعين
بها على وقته؛ فإنه رجل فقير الحال. فقال: سمعًا وطاعة. ثم إنه توجه إلى الجوهري
فرحَّبَ به وأجلسه، ثم أعطاه الخاتم فوضعه في إصبعه ونزعه بسرعة وقال له: ينبغي
للمعلم الذي مثلك إذا أتاه مثلي بشغل أن يأخذ قياسه، فلو كنتَ أخذتَ قياس إصبعي ما
أخطأت، ولكن خذه وأعطِهِ لإحدى جواريك. ثم أخرَجَ له حجرًا ثمنه ثمانمائة دينار
وقال له: خذ هذا واصنعه لي خاتمًا على قدر إصبعي. فقال: صدقتَ والحق معك. فأخذ
القياس وأخرَجَ له أربعين دينارًا وقال له: خذ هذه في نظير نقشه والأجرة باقية.
فقال له: يا سيدي، كم أجرة أخذناها منك، فإحسانك علينا كثير! فقال له: لا بأس. ثم
إنه تحدَّث معه حصة وصار كلما يمرُّ به سائل يعطيه دينارًا، وبعد ذلك تركه وانصرف.
هذا
ما كان من أمره، وأما ما كان من أمر الجوهري فإنه توجَّهَ إلى بيته وقال لزوجته:
ما أكرم هذا الشاب التاجر! فما رأيت أكرم منه ولا أجمل منه ولا أحلى من لسانه!
وصار يذكر لها محاسنه وكرمه ويبالغ في مدحه، فقالت له: يا عديم الذوق، حيث كنتَ
تعرف فيه هذه الصفات، وقد أعطاك خاتمين مثمَّنين ينبغي لك أن تعزمه وتعمل له ضيافة
وتتودَّد إليه، فإذا رأى منك المودة وجاء منزلنا ربما تنال منه خيرًا كثيرًا، وإن
كنتَ لا تسمح له بضيافة، فاعزمه وأنا أعمل له الضيافة من عندي. فقال لها: هل أنت
تعرفين أنني بخيل حتى تقولي هذا الكلام؟! قالت له: ما أنت بخيل ولكنك عديم الذوق،
فاعزمه في هذه الليلة ولا تَجِئْ بدونه، وإن امتنع فاحلف عليه بالطلاق وأكِّد
عليه. فقال لها: على الرأس والعين. ثم إنه صاغ الخاتم ونام وأصبح في ثالث يوم
متوجهًا إلى الدكان وجلس فيها.
هذا
ما كان من أمره، وأما ما كان من أمر قمر الزمان فإنه أخذ ثلاثمائة دينار وتوجه إلى
العجوز وأعطاها لزوجها، فقالت له: ربما يعزم عليك في هذا اليوم، فإذا عزم عليك
وبتَّ عنده فمهما جرى لك فأخبرني به في الصباح، وهاتِ معك أربعمائة دينار وأعطها
لأبيك. فقال: سمعًا وطاعة. وصار كلما فرغت منه الدراهم يبيع من الأحجار، ثم إنه
توجَّه إلى الجوهري فقام له وأخذه بالأحضان وسلَّم عليه، وعقد معه صحبة، ثم إنه
أخرج له الخاتم فرآه على قدر إصبعه. فقال له: بارك الله فيك يا سيد المعلمين، إن
الصياغة موافقة، ولكن الفص ليس على مرادي. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام
المباح.
﴿اللیلة 970﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن قمر الزمان لما قال للجوهري: إن الصياغة موافقة، ولكن
الفص ليس على مرادي؛ لأن عندي أحسن منه، فخذه وأعطِهِ لإحدى جواريك. وأخرَجَ له
غيره وأخرَجَ له مائة دينار وقال له: خذ أجرتك، ولا تؤاخذنا فإننا أتعبناك. فقال
له: يا تاجر، إن الذي تعبنا فيه قد أعطيتنا إياه، وتفضَّلت علينا بشيء كثير، وأنا
قلبي تعلَّق بحبك، ولا أقدر على فراقك، فبالله عليك أن تكون ضيفي في هذه الليلة
وتجبر بخاطري. فقال: لا بأس، ولكن لا بد أن أتوجَّه إلى الخان لأجل أن أوصي أتباعي
وأخبرهم بأنني غير بائت في الخان حتى لا ينتظروني. فقال له: أنت نازل في أي خان؟
قال: في الخان الفلاني. فقال: أجيء إليك هناك. فقال: لا بأس. ثم إن الجوهري توجَّه
إلى ذلك الخان قبل المغرب خوفًا من غضب زوجته عليه إن دخل البيت بدونه، ثم إنه أخذه
ودخل به في بيته، وجلسا في قاعة ليس لها نظير، وكانت الصبيَّة رأته حين دخوله
فافتتنت به، ثم صارا يتحدثان إلى أن جاء العشاء، فأكلا وشربا وبعد ذلك جاءت القهوة
والشربات، ولم يزل يسامره إلى وقت العشاء فصلَّيَا الفريضة، ثم دخلت عليهما جارية
ومعها فنجانان من المشروب، فلما شربا غلب عليهما النوم فنامَا، ثم جاءت الصبيَّة
فرأتهما نائمَيْن، فنظرت في وجه قمر الزمان فاندهش عقلها من جماله، وقالت: كيف
ينام من عشِقَ المِلَاح؟ ثم قلبته على قفاه وركبت على صدره، ومن شدة غيظها من
غرامه نزلت على خدوده بعلقة بوس حتى أثَّر ذلك في خده، فاشتدت حمرته وزهت وجنته،
ونزلت على شفته بالمص، ولم تزل تمصُّ شفته حتى خرج الدم من فمها، ومع ذلك لم تنطفئ
نارها، ولم يُرْوَ أوارها. ولم تزل معه بين بوس وعناق والتفاف ساق على ساق حتى
أشرَقَ جبين الصباح، وتبلَّج الفجر ولاح، ثم وضعتْ في جيبه أربعة عواشق وتركته
وراحت، وبعد ذلك أرسلت جاريتها بشيء مثل النشوق فوضعَتْه في مناخيرهما، فعطسا
وأفاقا، فقالت لهما الجارية: اعلموا يا أسيادي أن الصلاة وجبتْ، فقوموا لصلاة
الصبح. وأتت لهما بالطشت والإبريق، ثم قال قمر الزمان: يا معلم، إن الوقت جاء، وقد
تجاوزنا الحد في النوم. فقال الجوهري للتاجر: يا صاحبي، إن نوم هذه القاعة ثقيل،
كلما أنام فيها يجري لي هذا الأمر. فقال: صدقتَ. ثم إن قمر الزمان أخذ يتوضأ، فلما
وضع الماء على وجهه أحرقته خدوده وشفته. فقال: عجائب! إذا كان هواء القاعة ثقيلًا
واستغرقنا في النوم فما بال خدودي وشفتي تحرقني؟! ثم قال: يا معلم، إن خدودي وشفتي
تحرقني. فقال: أظن أن هذا من أكل الناموس. فقال: عجائب! وهل يجري لك فيها مثلي؟
قال: لا، ولكن إذا كان عندي ضيف مثلك يصبح يشكو من قرص الناموس، ولا يكون ذلك إلا
إذا كان الضيف مثلك أمرد، وأما إذا كان ملتحيًا فلا يعفُّ عليه الناموس، وما منع
الناموس عني إلا لحيتي، كأن الناموس لا يهوى أصحاب اللحى. فقال له: صدقتَ.
ثم
إن الجارية جاءت لهما بالفطور، فأفطرا وخرجا وراح قمر الزمان إلى العجوز، فلما
رأته قالت له: إني أرى آثار الحظ على وجهك، فأخبرني بما رأيت. قال: ما رأيت شيئًا،
وإنما تعشَّيت أنا وصاحب المحل في قاعة وصلينا العشاء، ثم نمنا، فما أفقنا إلا
الصبح. فضحكت وقالت: ما هذا الأثر الذي في خدك وعلى شفتك؟ قال لها: إن ناموس
القاعة فعل معي هذه الفعال. فقالت: صدقتَ، وهل جرى لصاحب البيت مثل ما جرى لك؟
قال: لا، ولكنه أخبرني أن ناموس تلك القاعة لا يضرُّ أصحاب اللحى، ولا يعفُّ إلا
على المُرْد، وكلما يكون عنده ضيف، فإن كان أمرد يصبح يشكو من قرص الناموس، وإن
كان ملتحيًا فلا يجري له شيء من ذلك. فقالت: صدقتَ، فهل رأيتَ شيئًا غير هذا؟ قال:
رأيت في جيبي أربعة عواشق. قالت: أرني إياها. فأعطاها لها، فأخذتها وضحكت وقالت:
إن معشوقتك قد وضعت هذه العواشق في جيبك. قال: وكيف ذلك؟ قالت: إنها تقول لك
بالإشارة: لو كنتَ عاشقًا ما نمت، فإن الذي يعشق لا ينام، ولكن أنت لم تزل صغيرًا
ولا يليق بك إلا اللعب بهذه العواشق، فما حمَلَك على عِشْق المِلَاح؟ وقد جاءتك في
الليل فرأتك نائمًا فقطَّعت خدودك بالبوس، وحطَّت لك هذه الأمارة، ولكنها لا
يكفيها منك ذلك، بل لا بد أن ترسل إليك زوجها فيعزم عليك في هذه الليلة، فإذا رحت
معه فلا تنَمْ عاجلًا، وهاتِ معك خمسمائة دينار وتعالَ أخبرني بما حصل، وأنا أكمل
لك الحيلة. قال لها: سمعًا وطاعة. ثم توجَّه إلى الخان.
هذا
ما كان من أمره، وأما ما كان من أمر زوجة الجوهري فإنها قالت لزوجها: هل راح
الضيف؟ قال: نعم، ولكن يا فلانة إن الناموس شوَّشَ عليه في هذه الليلة وقطَّع
خدوده وشفته، وأنا استحيت منه. فقالت: هذه عادة ناموس قاعتنا؛ فإنه لا يهوى إلا
المُرْد، ولكن اعزمه في الليلة الآتية. فتوجَّهَ إليه في الخان الذي هو فيه وعزمه
وأتى به إلى القاعة، فأكلا وشربا وصلَّيَا العشاء، فدخلت عليهما الجارية وأعطت كل
واحد فنجانًا. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 971﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية دخلتْ عليهما وأعطت كل واحد فنجانًا، فشربا
وناما، فأتت الصبية وقالت له: يا علق، كيف تنام وتدَّعِي أنك عاشق، والعاشق لا
ينام؟ ثم ركبت على صدره ولا زالت نازلة عليه ببوس وعض ومص وهراش إلى الصباح، ثم
حطَّت له في جيبه سكينًا وأرسلت جاريتها عند الصباح فنبَّهَتْهما، وخدوده كأنها
ملتهبة بالنار من شدة الاحمرار وشفاهه كالمرجان بسبب المص والتقبيل. فقال له
الجوهري: لعل الناموس شوَّش عليك. قال: لا، لأنه لما عرف النكتة ترك الشكاية، ثم
إنه رأى السكين في جيبه فسكت، ولما أفطر وشرب القهوة خرج من عند الجوهري وتوجَّهَ
إلى الخان، وأخذ خمسمائة دينار وذهب إلى العجوز، وأخبرها بما رأى، وقال لها: إني
نمت غصبًا عني، ولما أصبحت ما رأيت شيئًا غير سكين في جيبي. فقالت له: الله يحميك
منها في الليلة القابلة، إنها تقول لك: إن نمتَ مرةً أخرى ذبحتك. وأنت معزوم عندهم
الليلة القابلة، فإن نمتَ ذبحَتْك. فقال: وكيف يكون العمل؟ فقالت: أخبرني بما
تأكله وما تشربه قبل النوم. قال: نتعشى على عادة الناس، ثم تدخل علينا جارية بعد
العشاء وتعطي كل واحد منَّا فنجانًا، فمتى شربت فنجاني نمت ولا أفيق إلا في
الصباح. فقالت له: إن الداهية في الفنجان، فخذه منها ولا تشربه حتى يشرب سيدها
ويرقد، وحين تعطيه لك الجارية قل لها: اسقيني ماءً. فتذهب لتجيء إليك بالقلة فكبَّ
الفنجان خلف المخدة واجعل روحك نائمًا، فلما ترجع إليك بالقلة تظن أنك نمتَ بعد أن
شربت الفنجان، فتروح عنك، وبعد حصةٍ يظهر لك الحال، وإياك أن تخالف أمري. فقال:
سمعًا وطاعة. ثم توجه إلى الخان.
هذا
ما كان من أمره، وأما ما كان من أمر زوجة الجوهري، فإنها قالت لزوجها: إكرام الضيف
ثلاث ليالٍ، فاعزمه مرةً ثالثة. فتوجَّهَ إليه وعزمه وأخذه ودخل به إلى القاعة،
فلما تعشَّيَا وصلَّيَا العشاء وإذا بالجارية دخلت وأعطت كلَّ واحد فنجانًا، فشرب
سيدها ورقد، وأما قمر الزمان فإنه لم يشرب، فقالت له الجارية: أَمَا تشرب يا سيدي؟
فقال لها: أنا عطشان، هاتي القلة. فذهبت لتجيء إليه بالقلة، فكبَّ الفنجان خلف
المخدة ورقد، فلما رجعت الجارية رأته راقدًا، فأخبرت سيدتها بذلك وقالت: إنه لما
شرب الفنجان رقد. فقالت الصبيَّة في نفسها: إن موته أحسن من حياته. ثم أخذت سكينًا
ماضية ودخلت عليه وهي تقول: ثلاثَ مرات وأنت لم تلحظ الإشارة يا أحمق! الآن أشق
بطنك. فلما رآها مقبلة عليه وفي يدها السكين فتح عينيه وقام ضاحكًا، فقالت له: ما
فهْمُ هذه الإشارةِ من فطنتك، بل بدلالةِ ماكرٍ، فأخبرني من أين لك هذه المعرفة؟
قال: من عجوز، وجرى لي معها كذا وكذا … وأخبرها بالخبر. فقالت له: في غدٍ اخرج من
عندنا ورُحْ إلى العجوز وقل لها: هل بقي معك من الحِيَل زيادة عن هذا المقدار؟ فإن
قالت لك: معي. فقل لها: اجتهدي في الوصول إليها جهارًا. وإن قالت: ما لي مقدرة
وهذا آخِر ما معي، فاتركها عن بالك وفي ليلةِ غدٍ يأتي إليك زوجي ويعزمك، فتعالَ
معه وأخبرني وأنا أعرف بقية التدبير. فقال: لا بأس.
ثم
بات معها بقية الليلة على ضمٍّ وعناق وأعمال حرف الجر باتفاق، واتصال الصلة
بالموصول، وزوجها كتنوين الإضافة معزول، ولم يزالا على هذه الحالة إلى الصباح، ثم
قالت له: أنا ما يكفيني منك ليلة ولا يوم ولا شهر ولا سنة، وإنما قصدي أن أقيم معك
بقية العمر، ولكن اصبر حتى أعمل لك مع زوجي حِيَلًا تحيِّر ذوي الألباب ونبلغ بها
الآراب، وأُدخِل عليه الشكَّ حتى يطلِّقني وأتزوَّج بك وأروح معك إلى بلادك، وأنقل
جميع ماله وذخائره عندك، وأتحيَّل لك على خراب دياره ومحو آثاره، ولكن اسمع كلامي
وطاوِعْني فيما أقوله لك ولا تخالفني. فقال لها: سمعًا وطاعة، وما عندي خلاف.
فقالت له: رُحْ إلى الخان، وإن جاء زوجي وعزمك فقل له: يا أخي، إن ابن آدم ثقيل،
ومتى أكثَرَ الترداد اشمأزَّ منه الكريمُ والبخيل، وكيف أروح عندك كلَّ ليلة وأرقد
أنا وأنت في القاعة؟ فإن كنتَ أنت لا تغتاظ مني فربما يغتاظ حريمك مني بسبب منعك
عنهن، فإن كان مرادك عشرتي فخذ لي بيتًا بجانب بيتك، وتبقى أنت تارةً تسهر عندي
إلى وقت النوم، وأنا تارةً أسهر عندك إلى وقت النوم، ثم أروح إلى منزلي وأنت تدخل
مع حريمك، وهذا الرأي أحسن من حجبك عن حريمك كل ليلة. فإنه بعد ذلك يأتي إليَّ
ويشاورني فأشير عليه أن يُخرِج جارنا، فإن البيت الذي هو ساكن فيه بيتنا، والجار
ساكن بالكِرا، ومتى أتيت البيتَ يهون الله علينا بقية تدبيرنا. ثم إنها قالت له:
رُحِ الآن وافعل كما أمرتك. فقال لها: سمعًا وطاعة. ثم تركته وراحت وهو جعل روحه
نائمًا، وبعد مدة أتت الجارية فنبَّهَتْهما، فلما أفاق الجوهري قال: يا تاجر، لعل
الناموس شوَّشَ عليك. قال: لا. فقال الجوهري: لعلك اعتدت عليه. ثم إنهما أفطرا
وشربا القهوة وخرجا إلى أشغالهما، وتوجَّه قمر الزمان إلى العجوز وأخبرها بما جرى.
وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 972﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن قمر الزمان لمَّا توجَّه إلى العجوز وأخبرها بما جرى
وقال لها: إنها قالت لي كذا وكذا، وقلتُ لها كذا وكذا، فهل عندك أكثر من هذا
التدبير حتى توصليني إلى الاجتماع بها جهارًا؟ فقالت: يا ولدي، إلى هنا انتهى
تدبيري وفرغت حيلي. فعند ذلك تركها وتوجَّهَ إلى الخان، ولما أصبح الصباح توجَّه
إليه الجوهري عند المساء وعزمه. فقال له: لا يمكن أني أروح معك. فقال له: لماذا
وأنا أحببتك وما بقيت أقدر على فراقك؟ فبالله عليك أن تمضي معي. فقال له: إن كان
مرادك طول العشرة معي ودوام الصحبة بيني وبينك فخذ لي بيتًا بجانب بيتك، وإنْ شئتَ
تسهر عندي وأنا أسهر عندك، وعند النوم يروح كلٌّ منا إلى بيته وينام فيه. فقال له:
إن عندي بيتًا بجانب بيتي، وهو ملكي، فامضِ معي في هذه الليلة وفي غدٍ أخليه لك.
فمضى معه وتعشَّيَا وصلَّيَا العشاء، وشرب زوجها الفنجان الذي فيه العمل فرقَدَ،
وفنجان قمر الزمان لا غشَّ فيه، فشربه ولم يرقد، فجاءته وقعدت تسامره إلى الصباح
وزوجها مَرْميٌّ مثل الميت. ثم إنه صحا من النوم على العادة وأرسَلَ أحضر الساكن
وقال له: يا رجل، أخلِ لي بيتي فإني قد احتجت إليه. فقال له: على الرأس والعين.
فأخلاه له وسكن فيه قمر الزمان ونقل جميع مصالحه فيه. وفي تلك الليلة سهر الجوهري
عند قمر الزمان، ثم راح إلى بيته، وفي ثاني يوم أرسلت الصبيَّة إلى معماري ماهر،
فأحضرته وأرغبته بالمال حتى عمل لها سردابًا من قصرها يوصل إلى قمر الزمان، وجعل
له طابقًا تحت الأرض، فما يشعر قمر الزمان إلا وهي داخلة عليه ومعها كيسان من
المال. فقال لها: من أين جئتِ؟ فأرته السرداب وقالت له: خذ هذين الكيسين من ماله.
وقعدت تهارشه وتلاعبه إلى الصباح، ثم قالت له: انتظرني حتى أروح له وأنبِّهه ليذهب
إلى دكانه وآتي لك. فقعد ينتظرها وانصرفت لزوجها وأيقظته، وتوضَّأَ وصلى وذهب إلى
الدكان، وبعد ذهابه أخذت أربعة أكياس وراحت إلى قمر الزمان من السرداب وقالت له:
خذ هذا المال. وجلست عنده، ثم انصرف كلٌّ منهما إلى حال سبيله، فتوجَّهَتْ إلى
بيتها وتوجَّهَ قمر الزمان إلى السوق، ولما رجع في وقت المغرب رأى عنده عدة أكياس
وجواهر وغير ذلك، ثم إن الجوهري جاءه في بيته وأخذه إلى القاعة، وسهر فيها هو
وإياه، فدخلت الجارية على العادة وأسقتهما، فرقد سيدها، وقمر الزمان ما أصابه شيء
لأن فنجانه سالم لا غشَّ فيه، ثم أقبلت إليه الصبيَّة وجلست تلاعبه، وصارت الجارية
تنقل المصالح إلى بيته من السرداب، ولم يزالوا على هذه الحالة إلى الصباح، ثم إن
الجارية نبَّهت سيدها وأسقَتْهما القهوة، وكلٌّ منهما راح إلى حال سبيله، وفي ثالث
يوم أخرجتْ له سكينًا كانت لزوجها وهي صياغته بيده وكلفها خمسمائة دينار، لم يوجد
لها مثيل في حسن الصياغة، ومن كثرة ما طلبها منه الناس وضعها في صندوق ولم تسمح
نفسه ببيعها لأحد من المخلوقين، ثم قالت له: خذ هذه السكين وحطَّها في حزامك،
ورُحْ إلى زوجي واجلس عنده وأخرِجْها من حزامك وقل له: يا معلم، انظر هذه السكين،
فإني اشتريتها في هذا اليوم، وأخبِرْني هل أنا مغلوب فيها أو غالب؟ فإنه يعرفها
ويستحي أن يقول لك: هذه سكيني، فإن قال لك: من أين اشتريتها؟ وبكم أخذتها؟ فقل له:
رأيت اثنين من اللاوندية يتقاتلان مع بعضهما، فقال واحد منهما للآخر: أين كنتَ؟
قال: كنت عند صاحبتي، وكلما أجتمع معها تعطيني دراهم، وفي هذا اليوم قالت لي: إن
يدي لا تطول دراهم في هذا الوقت، ولكن خذ هذه السكين فإنها سكين زوجي، فأخذتُها
منها ومرادي بيعها، فأعجبَتْني السكين، ولما سمعتُه يقول ذلك قلت له: أتبيعها لي؟
فقال: اشترِ. فأخذتها منه بثلاثمائة دينار. فيا ترى هل هي رخيصة أو غالية؟ وانظر
ما يقول لك، ثم تحدَّثْ معه مدةً وقُمْ من عنده وتعالَ إليَّ بسرعةٍ فتراني قاعدة
في فم السرداب أنتظرك، فأَعْطِني السكين. فقال لها: سمعًا وطاعة. ثم أخذ تلك
السكين وحطَّها في حزامه وراح إلى دكان الجوهري، فسلَّمَ عليه، فرحَّب به وأجلسه،
فرأى السكين في حزامه فتعجَّبَ وقال في نفسه: إن هذه سكيني، ومَن أوصَلَها إلى هذا
التاجر؟ وصار يفكِّر في نفسه ويقول: يا تُرَى هي سكيني أو سكين تشابهها؟ وإذا بقمر
الزمان أخرَجَها وقال: يا معلم، خذ هذه السكين تفرَّج عليها. فلما أخذها من يده
عرفها حقَّ المعرفة، واستحى أن يقول هذه سكيني. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن
الكلام المباح.
﴿اللیلة 973﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الجوهري لما أخذ السكين من قمر الزمان عرفها، واستحى
أن يقول هذه سكيني، ثم قال له: من أين اشتريتها؟ فأخبره بما أوصته به الصبيَّة.
فقال له: هذه بهذا الثمن رخيصة؛ لأنها تساوي خمسمائة دينار. واتقدت النار في قلبه
وارتبطت أياديه عن الشغل في صنعته، وصار يتحدَّث معه وهو غريق في بحر الأفكار،
وكلما كلَّمه الغلام خمسين كلمة يردُّ عليه بكلمة واحدة، وصار قلبه في عذاب وجسمه
في اضطراب، وتكدَّر منه الخاطر وصار كما قال الشاعر:
لَمْ
أَدْرِ قَوْلًا إِذَا حَبُّوا مُكَالَمَتِي
أَوْ كَلَّمُونِي يَرَوْنِي غَائِبَ الْفِكْرِ
غَرْقَانُ
فِي بَحْرِ فِكْرٍ لَا قَرَارَ لَهُ
لَا أَفْرُقُ النَّاسَ أُنْثَاهَا مِنَ الذَّكَرِ
فلما
رآه تغيَّرت حالته قال له: لعلك مشغول في هذه الساعة. ثم قام من عنده وتوجَّهَ إلى
البيت بسرعة، فرآها واقفةً في باب السرداب تنتظره، فلما رأته قالت له: هل فعلتَ
كما أمرتُك؟ قال: نعم. قالت له: ما قال لك؟ قال لها: قال لي إنها رخيصة بهذا
الثمن؛ لأنها تساوي خمسمائة دينار، ولكن تغيَّرت أحواله فقمتُ من عنده ولم أدرِ ما
جرى له بعد ذلك. فقالت: هاتِ السكين وما عليك منه. ثم أخذت السكين وحطَّتْها في
موضعها وقعدت.
هذا
ما كان من أمرها، وأما ما كان من أمر الجوهري فإنه بعد ذهاب قمر الزمان من عنده
التهبتْ بقلبه النار، وكثر عنده الوسواس وقال في نفسه: لا بدَّ أن أقوم وأتفقَّد
السكين وأقطع الشك باليقين. فقام وأتى البيت ودخل على زوجته وهو ينفخ مثل الثعبان،
فقالت له: ما لك يا سيدي؟ فقال لها: أين سكيني؟ قالت: في الصندوق. ثم دقَّتْ صدرها
بيدها وقالت: يا همِّي، لعلك تخاصَمْتَ مع أحد فأتيتَ تطلب السكين لتضربه بها! قال
لها: هاتي أَرِيني إياها. قالت: حتى تحلف أنك لا تضرب بها أحدًا. فحلف لها، ففتحت
الصندوق وأخرجَتْها له، فصار يقلِّبها ويقول: إن هذا شيء عجيب! ثم إنه قال لها:
خذيها وحطِّيها في مكانها. قالت له: أخبرني ما سبب ذلك؟ قال لها: إني رأيت مع
صاحبنا سكينًا مثلها … وأخبرها بالخبر كله، ثم قال لها: ولما رأيتها في الصندوق
قطعتُ الشكَّ باليقين. فقالت له: لعلك ظننتَ بي سوءًا وجعلْتَني صاحبةَ اللاوندي
وأعطيتُه السكين؟! فقال لها: نعم، إني شككتُ في هذا الأمر، ولكن لما رأيت السكين
ارتفع الشك من قلبي. فقالت له: يا رجل، أنت ما بقي فيك خير. فصار يعتذر إليها حتى
أرضاها، ثم خرج وتوجَّه إلى دكانه، وفي ثاني يوم أعطت قمر الزمان ساعة زوجها، وكان
صنَعَها بيده، ولم يكن عند أحد مثلها، ثم إنها قالت له: رُحْ إلى دكانه واجلس عنده
وقل له: إن الذي رأيته بالأمس رأيته في هذا اليوم وفي يده ساعة، وقال لي: أتشتري
هذه الساعة؟ فقلت له: من أين لك هذه الساعة؟ قال: كنت عند صاحبتي فأعطتني إياها.
فاشتريتها منه بثمانية وخمسين دينارًا، فانظر هل هي رخيصة بهذا الثمن أو غالية؟
وانظر ما يقول لك، وإذا قمت من عنده فأتني بسرعة وأعطني إياها. فراح إليه قمر
الزمان وفعل معه ما أمرته به، فلما رآها الجوهري قال: هذه تساوي سبعمائة دينار!
وداخَلَه الهَمُّ، ثم إن الغلام تركه وراح إلى الصبيَّة وأعطاها تلك الساعة، وإذا
بزوجها دخل ينفخ وقال لها: أين ساعتي؟ قالت له: ها هي حاضرة. قال لها: هاتيها.
فأتت له بها، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فقالت له: يا رجل، ما
أنت بلا خبر، فأخبرني بخبرك. فقال لها: ماذا أقول؟ إني تحيَّرت في هذه الحالات. ثم
أنشد هذه الأبيات:
تَحَيَّرْتُ
وَالرَّحْمَنُ لَا شَكَّ فِي أَمْرِي
وَحَاقَتْ بِيَ الْأَحْزَانُ مِنْ حَيْثُ لَا أَدْرِي
سَأَصْبِرُ
حَتَّى يَعْلَمَ الصَّبْرُ أَنَّنِي
صَبَرْتُ عَلَى شَيْءٍ أَمَرَّ مِنَ الصَّبْرِ
وَمَا
مِثْلُ مُرِّ الصَّبْرِ صَبْرِي وَإِنَّمَا
صَبَرْتُ عَلَى شَيْءٍ أَحَرَّ مِنَ الْجَمْرِ
وَمَا
الْأَمْرُ أَمْرِي فِي الْمُرَادِ وَإِنَّمَا أُمِرْتُ بِحُسْنِ الصَّبْرِ مِنْ
صَاحِبِ الْأَمْرِ
ثم
قال: يا امرأة، إني رأيت مع التاجر صاحبنا أولًا سكيني، وقد عرفتُها لأنَّ صياغتها
اختراع من عقلي، وليس يوجد مثلها، وأخبَرَني بأخبارٍ تغمُّ القلب، وأتيتُ فرأيتها،
ورأيت معه الساعة ثانيًا وصياغتها أيضًا اختراع من عقلي، وليس يوجد مثلها في
البصرة، وأخبَرَني أيضًا بأخبارٍ تغمُّ القلب، فتحيَّرتُ في عقلي وما بقيتُ أعرف
ما جرى لي. فقالت له: مقتضى كلامك أني أنا خليلةُ ذلك التاجر وصاحبته وأعطيته
مصالحك وجوَّزت خيانتي، فجئتَ تسألني، ولو كنتَ ما رأيت السكين والساعة عندي كنتَ
أثبَتَّ خيانتي! لكن يا رجل، حيث إنك ظننتَ بي هذا الظن ما بقيتُ أُواكِلُك في
زادٍ ولا أشارِبُك في ماءٍ بعدَ هذا، فإني كرهتك كراهةَ التحريم. فصار يأخذ
بخاطرها حتى أرضاها، ثم خرج وتندَّمَ على مقابلتها بهذا الكلام، وتوجَّهَ إلى
دكانه وجلس. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 974﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الجوهري لما خرج من عند زوجته صار يتندَّم على هذا
الكلام، ثم ذهب إلى الدكان وجلس معه في الدكان، وصار في قلق شديد، وفِكْرٍ ما عليه
من مزيد، وهو ما بين مصدِّق ومكذِّب. وعند المساء أتى إلى البيت وحده، ولم يأتِ
بقمر الزمان معه، فقالت له الصبية: أين التاجر؟ قال: في منزله. قالت: هل بردتِ
الصحبةُ التي بينك وبينه؟ قال: والله إني كرهته مما جرى منه. فقالت له: قم هاتِه
من شأن خاطري. فقام ودخل عليه بيته فرأى حوائجه منشورة فيه فعرفها، فاتقدت النار
في قلبه وصار يتنهَّد. فقال قمر الزمان: ما لي أراك في فِكْر؟ فاستحى أن يقول له:
إن حوائجي عندك! مَن أوصلها إليك؟ وإنما قال له: حصل عندي تشويش، ولكن قم بنا إلى
البيت لنتسلَّى هناك. فقال: دَعْني في محلِّي، فلا أروح معك. فحلف عليه وأخذه، ثم
تعشَّى معه وسهرا تلك الليلة، وصار يتحدث معه وهو غريق في بحر الأفكار، وإذا
تكلَّم الغلام التاجر مائة كلمة يرد عليه الجوهري بكلمة واحدة، ثم دخلت عليهما
الجارية بفنجانين على العادة، فلما شربا رقد التاجر ولم يرقد الغلام؛ لأن فنجانه
غير مغشوش، ثم دخلت الصبية على قمر الزمان وقالت له: كيف رأيت هذا القرنان الذي هو
في غفلته سكران، ولا يعرف مكائد النسوان؟ فلا بد أن أخدعه حتى يطلِّقني، ولكن في
غدٍ أتهيأ بهيئة جارية وأروح خلفك إلى الدكان، وقل له: يا معلم، إني دخلت اليوم
خان اليسيرجية فرأيت هذه الجارية فاشتريتها بألف دينار. فانظرها لي هل هي رخيصة
بهذا الثمن أو غالية؟ ثم اكشف له عن وجهي ونهودي وفرِّجه عليَّ، ثم خذني وارجع بي
إلى منزلك، وأنا أدخل بيتي من السرداب حتى أنظر آخر أمرنا معه. ثم إنهما أمضيا
ليلتهما على أنس وصفاء ومنادَمة وهراش وبسط وانشراح إلى الصباح، وبعد ذلك ذهبت إلى
مكانها وأرسلت الجارية فأيقظتْ سيدها وقمر الزمان، فقاما وصلَّيا الصبح وأفطرا
وشربا القهوة وخرج الجوهري إلى دكانه وقمر الزمان دخل بيته، وإذا بالصبيَّة خرجت
له من السرداب وهي بصفة جارية، وكان أصلها جارية، ثم توجَّه إلى دكان الجوهري ومشت
خلفه، ولم يزل ماشيًا وهي خلفه حتى وصل بها إلى دكان الجوهري، فسلَّم عليه وجلس وقال:
يا معلم، إني دخلت اليوم خان اليسيرجية بقصد الفرجة فرأيت هذه الجارية في يد
الدلَّال، فأعجبتني فاشتريتها بألف دينار، وقصدي أن تتفرج عليها وتنظرها هل هي
رخيصة بهذا الثمن أم لا؟ وكشف له عن وجهها فرآها زوجته وهي لابسة أفخر ملبوسها
ومتزينة بأحسن الزينة ومكحلة ومخضَّبة كما كانت تتزين قدامه في بيته، فعرفها حق
المعرفة بوجهها وملبوسها وصيغتها؛ لأنه صاغها بيده، ورأى الخواتم التي صاغها
جديدًا لقمر الزمان في إصبعها، وتحقَّق عنده أنها زوجته من سائر الجهات. فقال لها:
ما اسمك يا جارية؟ قالت: حليمة. وزوجته اسمها حليمة، فذكرت له الاسم بعينه،
فتعجَّبَ من ذلك، وقال له: بكم اشتريتها؟ قال: بألف دينار. قال: إنك أخذتها بلا
ثمن؛ لأن الألف دينار أقلُّ من ثمن الخواتم وملبسها ومصاغها بلا شيء. فقال له:
بشَّرَك الله بالخير، وحيث أعجبتك فأنا أذهب بها إلى بيتي. فقال: افعل مرادك. فأخذها
وراح إلى بيته ونزلت من السرداب وقعدت في قصرها.
هذا
ما كان من أمرها، وأما ما كان من أمر الجوهري، فإن النار اشتعلت في قلبه، وقال في
نفسه: أنا أروح أنظر زوجتي، فإن كانت في البيت تكون هذه الجارية شبيهتها، وجلَّ
مَن ليس له شبيه، وإن لم تكن زوجتي في البيت تكون هي من غير شك. ثم إنه قام يجري
إلى أن دخل البيت، فرآها قاعدة بملبسها وزينتها التي رآها بها في الدكان، فضرب
يدًا على يد وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فقالت له: يا رجل، هل
حصل لك جنون؟ أو ما خبرك؟ فما هذه عادتك، لا بد أن يكون لك أمر من الأمور. فقال
لها: إذا كان مرادك أن أخبرك فلا تغتَمِّي. فقالت له: قل. قال: التاجر صاحبنا
اشترى جارية قدُّها مثل قدِّك، وطولها مثل طولك، واسمها مثل اسمك، وملبسها مثل
ملبسك، وهي تشبهك في جميع صفاتك، وفي إصبعها خواتم مثل خواتمك، ومصاغها مثل مصاغك،
فلما فرَّجني عليها ظننت أنها أنت، وقد تحيَّرت في أمري، ليتنا ما رأينا هذا
التاجر ولا صاحبناه ولا جاء من بلاده ولا عرفناه؛ فإنه كدَّر عيشتي بعد الصفاء،
وكان سببًا في الجفاء بعد الوفاء، وأدخَلَ الشك في قلبي. فقالت له: طُلَّ في وجهي
لعلي أكون أنا التي كنتُ معه والتاجر صاحبي، وقد تلبَّستُ بصفة جارية واتفقت معه
على أن يفرِّجك عليَّ حتى يكيدك. فقال: أي شيء هذا الكلام؟! أنا ما أظن بك أن
تفعلي مثل هذه الفعال. وكان ذلك الجوهري مغفَّلًا عن مكايدة النساء وما يفعلْنَ مع
الرجال، ولم يسمع بقول مَن قال:
طَحَا
بِكَ قَلْبٌ فِي الْحِسَانِ طَرُوبُ
بُعَيْدَ الشَّبَابِ عَصْرَ حَانَ مَشِيبُ
يُكَلِّفُنِي
لَيْلِي وَقَدْ شَطَّ وَلْيُهَا وَعَادَتْ
عَوَادٍ بَيْنَنَا وَخُطُوبُ
وَإِنْ
تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي
خَبِيرٌ بَأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ
إِذَا
شَابَ رَأْسُ الْمَرْءِ أَوْ قَلَّ مَالُهُ
فَلَيْسَ لَهُ مِنْ وُدِّهِنَّ نَصِيبُ
وقول
الآخر:
اعْصِ
النِّسَاءَ فَتِلْكَ الطَّاعَةُ الْحَسَنَةْ فَلَنْ يَفُوزَ فَتًى يُعْطِي النِّسَا
رَسَنَهْ
يُعِقْنَهُ
عَنْ كَمَالٍ فِي فَضَائِلِهِ وَلَوْ
سَعَى طَالِبًا لِلْعِلْمِ أَلْفَ سَنَهْ
وقول
الآخر:
إِنَّ
النِّسَاءَ شَيَاطِينٌ خُلِقْنَ لَنَا
نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ كَيْدِ الشَّيَاطِينِ
وَمَنْ
بِهِنَّ رَمَاهُ الْعِشْقُ مُبْتَلِيًا
قَدْ ضَيَّعَ الْحَزْمَ مِنْ دُنْيَا وَمِنْ دِينِ
ثم
قالت له: ها أنا قاعدة في قصري، ورُحْ أنت إليه في هذه الساعة واطرق الباب واحتَلْ
على الدخول عليه بسرعة، فإذا دخلتَ ورأيتَ الجارية عنده تكون جاريته تشبهني، وجلَّ
مَن ليس له شبيه، وإنْ لم ترَ الجارية عنده أكون أنا الجارية التي رأيتها معه،
ويكون ظنك بي السوء محقَّقًا. فقال: صدقتِ. ثم تركها وخرج، فقامت هي ونزلت من
السرداب، وقعدت عند قمر الزمان وأخبرته بذلك، وقالت له: افتح الباب بسرعة وفرِّجْه
عليَّ. فبينما هما في الكلام، وإذا بالباب يطرق، فقال: مَن بالباب؟ قال: أنا
صاحبك؛ فإنك فرَّجتني على الجارية في السوق وفرحت لك بها، ولكن ما كملت فرحتي بها،
فافتح الباب وفرِّجني عليها. قال: لا بأس بذلك. ثم فتح له الباب فرأى زوجته قاعدة،
فقامت وقبَّلت يده ويد قمر الزمان، وتفرَّج عليها وتحدَّث معه مدة، فرآها لا تتميز
عن زوجته بشيء. فقال: يخلق الله ما يشاء. ثم إنه خرج وكثر في قلبه الوسواس، ورجع
إلى بيته فرأى زوجته جالسة؛ لأنها سبقته من السرداب حين خرج من الباب. وأدرك
شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 975﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الصبيَّة سبقت زوجها من السرداب حين خرج من الباب، ثم
قعدت في قصرها، فلما دخل عليها زوجها، قالت له: أي شيء رأيتَ؟ قال: رأيتها عند
سيدها وهي تشبهك. فقالت: توجَّه إلى دكانك وحسبك سوء الظن، فما بقيت تظن بي سوءًا.
فقال لها: الأمر كذلك، فلا تؤاخذيني بما صدر مني. قالت: سامحك الله. ثم قبَّلها
ذات اليمين وذات الشمال، وراح إلى دكانه، فنزلت من السرداب إلى قمر الزمان ومعها
أربعة أكياس، وقالت له: جهِّز حالك لسرعة السفر، واستعِدَّ لتحميل المال بلا
إمهال، حتى أفعل لك ما عندي من الحِيَل. فطلع واشترى بغالًا وحمَّل أحمالًا وجهَّز
تختروانًا واشترى مماليك وخَدَمًا، وأخرَجَ الجميع من البلد وما بقي له عاقة، وأتى
وقال: إني تمَّمت أموري. فقالت له: وأنا الأخرى قد نقلت بقية ماله وجميع ذخائره
عندك، وما خلَّيت له قليلًا ولا كثيرًا ينتفع به، وكل هذا محبةً فيك يا حبيب قلبي،
فأنا أفديك ألف مرة بزوجي، ولكن ينبغي أن تذهب إليه وتودِّعه وتقول له: أنا أريد
السفر بعد ثلاثة أيام، وجئتُ لأودِّعك، فاحسب ما انجمل لك عندي من أجرة البيت حتى
أورده لك وتُبرئ ذمتي. وانظر ما يكون من جوابه، وارجع إليَّ وأخبرني، فإني عجزتُ
وأنا أحتال عليه وأغيظه لأجل أن يطلِّقني، فما أراه إلا متعلقًا بي، وما بقي لنا
أحسن من السفر إلى بلادك. فقال لها: يا حبَّذا، إن صحت الأحلام. ثم راح إلى دكانه
وجلس عنده وقال: يا معلم، أنا مسافر بعد ثلاثة أيام، وما جئت إلا لأودعك، والمراد
أنك تحسب ما انجمل لك عندي من أجرة البيت حتى أعطيه لك وتُبرئ ذمتي. فقال له: ما
هذا الكلام؟ إن فضلك عليَّ، والله ما آخذ منك شيئًا من أجرة البيت، وحلَّت
البركات، ولكنك توحشنا بسفرك، ولولا أنه يحرم عليَّ لتعرَّضت لك ومنعتك عن عيالك
وبلادك. ثم ودَّعه وتباكَيَا بكاءً شديدًا ما عليه من مزيد، وقفل الدكان من ساعته
وقال في نفسه: ينبغي أن أشيِّع صاحبي. وصار كلما راح يقضي حاجة يروح معه، وإذا دخل
بيت قمر الزمان يجدها فيه، وتقف بين أيديهما وتخدمهما، وإذا رجع إلى بيته يراها
قاعدة هناك. ولم يزل يراها في بيته إذا دخله ويراها في بيت قمر الزمان إذا دخله
مدة الثلاثة أيام، ثم إنها قالت له: إني نقلت جميع ما عنده من الذخائر والأموال
والفروش، ولم يبقَ عنده إلا الجارية التي تدخل عليكما بالشراب، ولكني لا أقدر على
فراقها؛ لأنها قريبتي وعزيزة عندي وكاتمة لسري، ومرادي أن أضربها وأغضب عليها،
وإذا أتى زوجي أقول له: أنا ما بقيت أقبل هذه الجارية ولا أقعد أنا وإياها في
بيتٍ، فخُذْها وبِعها. فيأخذها ليبيعها، فاشترِها أنت حتى نأخذها معنا. فقال: لا
بأس. ثم إنها ضربتها، فلما دخل زوجها رأى الجارية تبكي، فسألها عن سبب بكائها،
فقالت: إن سيدتي ضربتني. فدخل وقال: ما فعلتْ هذه الجارية الملعونة حتى ضربتِها؟
فقالت له: يا رجل، إني أقول لك كلمة واحدة، أنا ما بقيت أقدر أن أنظر هذه الجارية،
فخُذْها وبِعها، وإلا فطلِّقْني. فقال: أبيعها ولا أخالِف لكِ أمرًا. ثم إنه أخذها
معه وهو خارج إلى الدكان، ومرَّ بها على قمر الزمان، وكانت زوجته بعد خروجه
بالجارية مرقت من السرداب بسرعة إلى قمر الزمان، فأدخلها في التختروان قبل أن يصل
إليه الشيخ الجوهري. فلما وصل إليه ورأى قمر الزمان الجارية معه، قال له: ما هذه؟
قال: جاريتي التي كانت تسقينا الشراب، ولكنها خالفت سيدتها فغضبت عليها وأمرتني أن
أبيعها. فقال: إنها حيث بغضتها سيدتها ما بقي لها قعود عندها، ولكن بِعها لي حتى
أشمَّ رائحتكَ فيها، وأجعلها خادمة لجاريتي حليمة. فقال: لا بأس، خذها. فقال له:
بكم؟ فقال: أنا لا آخذ منك شيئًا؛ لأنك تفضَّلت علينا. فقبِلَها منه وقال
للصبيَّة: قبِّلي يد سيدك. فبرزت له من التختروان وقبَّلت يده، ثم ركبت في
التختروان وهو ينظر إليها، ثم قال له قمر الزمان: أستودعك الله يا معلم عبيد، أبرئ
ذمتي. فقال له: أبرأ الله ذمتك، وحملك بالسلامة إلى عيالك. وودَّعه وتوجَّه إلى
دكانه وهو يبكي، وقد عزَّ عليه فراق قمر الزمان؛ لكونه كان رفيقًا له، والرفيق له
حق، ولكنه فرح بزوال الوهم الذي حصل عنده من أمر زوجته؛ حيث سافر ولم يتحقَّق ما
ظنه في زوجته.
هذا
ما كان من أمره، وأما ما كان من أمر قمر الزمان، فإن الصبيَّة قالت له: إن أردتَ
السلامة فسافِرْ بنا على غير طريق معهودة. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام
المباح.
﴿اللیلة 976﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن قمر الزمان لمَّا سافر، قالت له الصبيَّة: إن أردتَ
السلامة فسافِرْ بنا على غير طريق معهودة. فقال: سمعًا وطاعة. ثم سلك طريقًا غير
الطريق التي تعهَّدَ الناس المشي فيها. ولم يزل مسافرًا من بلاد إلى بلاد حتى وصل
إلى حدودِ قُطْرِ مصر، ثم كتب كتابًا وأرسله إلى والده مع ساعٍ، وكان والده التاجر
عبد الرحمن قاعدًا في السوق بين التجار، وفي قلبه من فراق ولده لهيب النار؛ لأنه
من يومِ توجَّهَ ما أتاه من عنده خبر. فبينما هو كذلك، وإذا بالساعي مقبل وقال: يا
سادتي، مَن فيكم اسمه التاجر عبد الرحمن؟ فقالوا له: ما تريد منه؟ قال لهم: إن معي
كتابًا من عند ولده قمر الزمان، وقد فارقتُه عند العريش. ففرح وانشرح، وفرح له
التجار وهنَّوه بالسلامة، ثم أخذ الكتاب وقرأه، فرآه مِن عند قمر الزمان إلى
التاجر عبد الرحمن، وبعد السلام عليك وعلى جميع التجار، فإن سألتم عنَّا فلله
الحمد والمنة، وقد بعنا واشترينا وكسبنا، ثم قدِمْنا بالصحة والسلامة والعافية.
فعند ذلك فتح باب الفرح وعمل الولائم وأكثر الضيافات والعزائم، وأحضَرَ آلات
الطرب، وأتى في الفرح بأنواع العجب، فلما وصل ولده الصالحية، خرج إلى مقابلته أبوه
وجميع التجار، فقابلوه واعتنقه والده وضمَّه إلى صدره وبكى حتى أُغمِي عليه، ولما
أفاق قال له: يوم مبارك يا ولدي؛ حيث جمَعَنا بك المهيمِن القادر. ثم أنشد قول
الشاعر:
وَقُرْبُ
الْحَبِيبِ تَمَامُ السُّرُور وَكَأْسُ
الْهَنَاءِ عَلَيْنَا يَدُورْ
فَأَهْلًا
وَسَهْلًا يَلِي مَرْحَبًا بِنُورِ
الزَّمَانِ وَبَدْرِ الْبُدُورْ
ثم
أفاضَ من شدة الفرحِ دمعَ العين، وأنشد هذين البيتين:
قَمَرُ
الزَّمَانِ يَلُوحُ فِي إِسْفَارِهِ
إِشْرَاقُهُ إِذْ جَاءَ مِنْ أَسْفَارِهِ
فَشُعُورُهُ
فِي اللَّوْنِ لَيْلُ غِيَابِهِ لَكِنْ
شُرُوقُ الشَّمْسِ مِنْ أَزْرَارِهِ
ثم
إن التجار تقدَّموا إليه وسلَّموا عليه، فرأوا معه أحمالًا كثيرة وخدمًا
وتختروانًا، وهو في دائرة واسعة، فأخذوه ودخلوا به البيت، فلما خرجت الصبيَّة من
التختروان رآها أبوه فتنةً لمَن يراها، ففتحوا لها قصرًا عاليًا كأنه كنز نُحِلت
عنه الطلاسم، ولما رأتها أمه افتتنت بها وظنَّتْ أنها مَلِكة من زوجات الملوك،
وفرحت بها وسألتها، فقالت لها: أنا زوجة ولدك. قالت: حيث تزوَّجَ بكِ ينبغي لنا
أننا نقيم لكِ فرحًا عظيمًا حتى نفرح بك وبولدي.
هذا
ما كان من أمرها، وأما ما كان من أمر التاجر عبد الرحمن، فإنه بعد انفضاض الناس
ورواح كل واحد إلى حال سبيله، اجتمع بولده وقال له: يا ولدي، ما تكون هذه الجارية
عندك؟ وبكم اشتريتها؟ فقال له: يا والدي، إنها ليست جارية، وإنما هي التي كانت سبب
غربتي. قال والده: وكيف ذلك؟ قال: إنها التي كان يصفها لنا الدرويش ليلةَ ما بات
عندنا، فإن آمالي تعلَّقت بها من ذلك الوقت، ولا طلبتُ السفر إلا من أجلها حتى
تعرَّيت في الطريق وأخذتِ العربُ أموالي، وما دخلتُ البصرةَ إلا وحدي، وحصل لي كذا
وكذا … وصار يحكي لوالده من المبتدأ إلى المنتهى. فلما فرغ من حديثه قال له: يا
ولدي، وبعد ذلك كله هل تزوجتَها؟! قال: لا، ولكن وعدتها أن أتزوَّج بها. قال له:
هل مرادك الزواج بها؟ قال: إنْ كنتَ تأمرني أفعل ذلك، وإلا فلا أتزوَّجها. قال له:
إن تزوَّجتَ بها أكون بريئًا منك في الدنيا والآخرة، وأغضب عليك غضبًا شديدًا! كيف
تتزوَّج بها وهي عملت هذه الفعال مع زوجها؟ وكما عملتها مع زوجها على شأنك تعمل
معك مثلها على شأن غيرك؛ فإنها خائنة، والخائن ليس له أمان. فإن كنتَ تخالفني أكون
غضبانًا عليك، وإن سمعتَ كلامي أفتِّش لك على بنتٍ أحسن منها، تكون طاهرةً زاكية،
فأزوِّجك بها ولو كنتُ أنفقُ عليها جميع مالي، وأعمل لك فرحًا ليس له نظير، وأفتخر
بك وبها، وإذا قال الناس: فلان تزوَّج بنت فلان، أحسن من أن يقولوا تزوَّج جارية
معدومة النَّسَب والحسب. وصار يرغِّب ولده في عدم زواجها، ويذكر له في شأن ذلك
عبارات ونكتًا وأشعارًا وأمثالًا ومواعظ، فقال قمر الزمان: يا والدي، حيث كان
الأمر كذلك، فلا علاقةَ لي بزواجها. فلما قال قمر الزمان ذلك الكلام قبَّله أبوه
بين عينيه، وقال له: أنت ولدي حقًّا، وحياتك يا ولدي لا بدَّ لي من أن أزوِّجك
بنتًا ليس لها نظير. ثم إن التاجر عبد الرحمن حطَّ زوجة عبيد الجوهري وجاريتها في
قصر عالٍ، وقفل عليهما، وقيَّد بهما جارية سوداء توصِّل لهما أكلهما وشربهما، وقال
لها: أنتِ وجاريتك تستمران محبوستين في هذا القصر حتى أنظر لكما مَن يشتريكما
وأبيعكما له، وإن خالفتِ قتلتُك أنتِ وجاريتك؛ فإنك خائنة ولا خيرَ فيكِ. فقالت
له: افعل مرادك؛ فإني أستحقُّ جميع ما تفعله معي. ثم قفل عليهما الباب ووصَّى
عليهما حريمه، وقال: لا يطلع عندهما أحد ولا يكلِّمهما غير الجارية السوداء التي
تعطيهما أكلهما وشربهما من طاقة القصر. فقعدت هي وجاريتها تبكي وتتندَّم على ما
فعلت بزوجها.
هذا
ما كان من أمرها، وأما ما كان من أمر التاجر عبد الرحمن، فإنه أرسل الخُطَّاب
يخطبون بنتًا ذات حَسَبٍ ونَسَبٍ لولده، فلا زلن يفتشن، وكلما رأين واحدة يسمعن
بأحسن منها، حتى دخلن بيت شيخ الإسلام، فرأيْنَ بنته لم يكن لها نظير في مصر، وهي
ذات حُسْن وجمال، وقَدٍّ واعتدال؛ لأنها أحسن من زوجة عبيد الجوهري بألف طبقة.
فأخبرته بها، فذهب هو والأكابر إلى والدها وخطبوها منه، وكتبوا الكتاب وعملوا لها
فرحًا عظيمًا، ثم عمل الولائم وعزم في أول يوم الفقهاء، فعملوا مولدًا شريفًا.
وثاني يوم عزم التجار تمامًا، ثم دُقَّت الطبول وزمرت الزمور وزُيِّنت الحارة
والخط بالقناديل، وفي كل ليلة تأتي سائر أرباب الملاعب ويلعبون بأنواع اللعب، وكل
يوم يعمل ضيافة لصنف من أصناف الناس حتى عزم العلماء والأمراء والصناجق والحكام،
ولم يزل الفرح قائمًا مدة أربعين يومًا، وكل يوم يقعد التاجر ويستقبل الناس، وولده
يقعد بجانبه ليتفرَّج على الناس وهم يأكلون من السماط. وكان فرحًا ليس له نظير.
وفي آخر يوم عزم الفقراء والمساكين، غريبًا وقريبًا، فصاروا يأتون زُمُرًا
ويأكلون، والتاجر جالس وابنه بجنبه. فبينما هم كذلك، وإذا بالشيخ عبيد زوج
الصبيَّة داخل في جملة الفقراء وهو عريان تعبان، وعلى وجهه أثر السفر، فلما رآه
قمر الزمان عرفه، فقال لأبيه: انظر يا أبي إلى هذا الرجل الفقير الذي دخل من
الباب. فنظر إليه فرآه رثَّ الثياب وعليه خلق جلباب يساوي درهمين، وفي وجهه اصفرار
يعلوه غبار، وهو مثل مقاطيع الحجاج، ويئِنُّ أنينَ المريض المحتاج، ويمشي بتهافُت
في مشْيِه ذات اليمين وذات الشمال، وتحقَّق فيه قول مَن قال:
الْفَقْرُ
يُزْرِي بِالْفَتَى دَائِمًا كَمَا
اصْفِرَارُ الشَّمْسِ عِنْدَ الْمَغِيبْ
يَمُرُّ
بَيْنَ النَّاسِ مُسْتَخْفِيًا وَإِنْ
خَلَا يَبْكِي بِدَمْعٍ صَبِيبْ
وَإِنْ
يَغِبْ فَلَيْسَ يُعْنَى بِهِ وَمَا
لَهُ عِنْدَ حُضُورٍ نَصِيبْ
وَاللهِ
مَا الْإِنْسَانُ فِي أَهْلِهِ إِذَا
ابْتَلَى بِالْفَقْرِ إِلَّا غَرِيبْ
ويقول
الآخر:
يَمْشِي
الْفَقِيرُ وَكُلُّ شَيْءٍ ضِدَّهُ وَالْأَرْضُ
تُغْلِقُ دُونَهُ أَبْوَابَهَا
وَتَرَاهُ
مَمْقُوتًا وَلَيْسَ بِمُذْنِبٍ وَيَرَى
الْعَدَاوَةَ لَا يَرَى أَسْبَابَهَا
حَتَّى
الْكِلَابُ إِذَا رَأَتْ ذَا نِعْمَةٍ
أَوْمَتْ إِلَيْهِ وَحَرَّكَتْ أَذْنَابَهَا
وَإِذَا
تَرَى يَوْمًا فَقِيرًا بَائِسًا نَبَحَتْ
عَلَيْهِ وَكَشَّرَتْ أَنْيَابَهَا
وما
أحسن قول الشاعر:
إِذَا
صَحِبَ الْفَتَى عِزًّا وَسَعْدًا تَحَامَتْهُ
الْمَكَارِهُ وَالْخُطُوبُ
وَوَاصَلَهُ
الْحَبِيبُ بِغَيْرِ وَعْدٍ طُفْيْلِيًّا
وَقَادَ لَهُ الرَّقِيبُ
وَعَدَّ
النَّاسُ ضَرْطَتَهُ غِنَاءً وَقَالُوا
إِنْ فَسَا قَدْ فَاحَ طِيبُ
وأدرك
شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 977﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن التاجر عبد الرحمن لما قال له ولده: انظر إلى هذا
الرجل الفقير. قال: يا ولدي، مَن هذا؟ قال له: هذا المعلم عبيد الجوهري زوج المرأة
المحبوسة عندنا. فقال له: هذا الذي كنتَ تحدِّثني عنه؟ قال: نعم، وقد عرفتُه معرفةً
جيدة. وكان السبب في مجيئه أنه لما ودَّعَ قمر الزمان توجَّهَ إلى دكانه، فجاءته
دقة شغل فأخذها واشتغلها في بقية النهار، وعند المساء قفل الدكان وذهب إلى البيت،
ووضع يده على الباب فانفتح، فدخل فلم يرَ زوجته ولا الجارية، ورأى البيت في أسوأ
الحال، منطبقًا عليه قول مَن قال:
كَانَتْ
خَلِيَّاتِ نَحْلٍ وَهْيَ عَامِرَةٌ
لَمَّا خَلَا نَحْلُهَا عَادَتْ خَلِيَّاتِ
كَأَنَّهَا
الْيَوْمَ بِالسُّكَّانِ مَا عَمَرَتْ
أَوْ غَالَ سُكَّانَهَا فَصْلُ الْمَنِيَّاتِ
فلما
رأى الدار خالية التفَتَ يمينًا وشمالًا، ثم دار فيه مثل المجنون، فلم يجد أحدًا،
وفتح خزينته فلم يجد فيها شيئًا من ماله ولا من ذخائره، فعند ذلك فاق من سكرته
وتنبَّه من غشيته، وعرف أن زوجته هي التي كانت تتقلَّب عليه بالحِيَل حتى غدرته،
فبكى على ما حصل له، ولكنه كتم أمره حتى لا يشمت به أحدٌ من أعدائه، ولا يتكدَّر
أحد من أحبابه، وعلم أنه إذا باحَ بالسرِّ لا يناله إلا الهتيكة والتعنيف من
الناس، وقال في نفسه: يا فلان، اكتم ما حصل لك من الخبال والوبال، وعليك بالعمل
بقول مَن قال:
إِذَا
كَانَ صَدْرُ الْمَرْءِ بِالسِّرِّ ضَيِّقًا فَصَدْرُ الَّذِي يُسْتَوْدَعُ السِّرَّ
أَضْيَقُ
ثم
إنه قفل بيته وقصد الدكان ووكَّل بها صانعًا من صنَّاعه، وقال له: إن الغلام
التاجر صاحبي عزم عليَّ أن أروح معه على مصر بقصد الفرجة، وحلف أنه ما يرحل حتى
يأخذني معه بحريمي، وأنت يا ولدي وكيلي في الدكان، وإن سألكم عني الملِك فقولوا
له: توجَّهَ بحريمه إلى بيت الله الحرام. ثم باع بعض مصالحه واشترى له جِمَالًا
وبِغالًا ومماليك، واشترى له جارية وحطَّها في تختروان وخرج من البصرة بعد عشرة
أيام، فودَّعه أحبابه وسافر والناس لا يظنون إلا أنه أخذ زوجته وتوجَّه إلى الحج.
وفرحت الناس وقد أنقذهم الله من حبسهم في المساجد والبيوت في كل يوم جمعة، وصار
بعض الناس يقول: لا ردَّه الله إلى البصرة مرةً أخرى حتى لا نُحبَس في المساجد
والبيوت في كل يوم جمعة؛ لأن هذه الخصلة أورثت أهل البصرة حسرةً عظيمة. وبعضهم
يقول: أظنُّه لا يرجع من سفره بسبب دعاء أهل البصرة عليه. وبعضهم يقول: إن رجع لا
يرجع إلا منكَّس الحال. وفرح أهل البصرة بسفره فرحًا عظيمًا بعد أن كانوا في حسرة
عظيمة حتى ارتاحت قططهم وكلابهم، فلما أتى يوم الجمعة نادى المنادي في البلد على
العادة بأنهم يدخلون المساجد قبل صلاة الجمعة بساعتين أو يستخفون في البيت، وكذلك
القطط والكلاب، فضاقت صدورهم، فاجتمعوا جميعًا وتوجَّهوا إلى الديوان ووقفوا بين
يدي الملك وقالوا له: يا ملك الزمان، إن الجوهري أخذ حريمه وسافر إلى حج بيت الله
الحرام، وزال السبب الذي كنا نُحبَس لأجله. فبأي سبب نُحبَس الآن؟ فقال الملك: كيف
سافَرَ هذا الخائن ولم يُعلِمْني؟! لكن إذا جاء من سفره لا يكون إلا خيرًا، روحوا
إلى دكاكينكم وبيعوا واشتروا؛ فقد ارتفعت عنكم هذه الحالة.
هذا
ما كان من أمر الملك وأهل البصرة، وأما ما كان من أمر المعلم عبيد الجوهري، فإنه
سافر عشرة مراحل فحلَّ به ما حلَّ بقمر الزمان قبل دخوله البصرة، وطلعت عليه عرب
بغداد فعرَّوْه وأخذوا ما كان معه، وجعل روحه ميتًا حتى خلص، وبعد ذهاب العرب قام
ومشى وهو عريان إلى أن دخل بلدًا، فحنَّن الله عليه أهل الخير، فستروا عورته
بقِطَع من الثياب الخَلقة، وصار يسأل ويتقوَّت من بلد إلى بلد حتى وصل إلى مصر
المحروسة، فأحرَقَه الجوع فدار يسأل في الأسواق، فقال له رجل من أهل مصر: يا فقير،
عليك ببيت الفرح، كُلْ واشرب، فإن هناك في هذا اليوم سماطَ الفقراء والغرباء.
فقال: لا أعرف طريق الفرح. فقال له: اتبعني وأنا أريه لك. فتبعه إلى أن وصل إلى
البيت. فقال له: هذا هو بيت الفرح، فادخل ولا تخَفْ، فما على باب الفرح من حجَّاب.
فلما دخل رآه قمر الزمان فعرفه وأخبر به أباه. ثم إن التاجر عبد الرحمن قال لولده:
يا ولدي، اتركه في هذه الساعة، ربما يكون جائعًا، فدَعْه يأكل حتى يشبع ويسكن روعه
وبعد ذلك نطلبه. فصبرا عليه حتى أكل واكتفى وغسل يديه وشرب القهوة والشربات السكر
الممزوجة بالمسك والعنبر، وأراد أن يخرج، فأرسل خلفه والد قمر الزمان، فقال له
الرسول: تعالَ يا غريب كلِّم التاجر عبد الرحمن. فقال: ما يكون هذا التاجر؟ فقال
له: صاحب الفرح. فرجع وظن أنه يعطيه إحسانًا، فلما أقبل التاجر رأى صاحبه قمر
الزمان، فغاب عن الوجود من الحياء منه، وقام له قمر الزمان على الأقدام، وأخذه
بالأحضان، وسلَّمَ عليه، وتباكَيَا بكاءً شديدًا، ثم إنه أجلَسَه بجانبه. فقال له
أبوه: يا عديمَ الذوق، ما هذا شأن ملاقاة الأصحاب! أرسِلْه أولًا إلى الحمام،
وأرسِلْ إليه بدلةً تليق به، وبعد ذلك اقعد معه وتحدَّث أنت وإياه. فصاحَ على بعض
الخدَّام وأمرهم أن يُدخِلوه الحمام، وأرسَلَ إليه بدلة من خاص الملبوس تساوي ألف
دينار وأكثر من ذلك المبلغ، وغسلوا جسده وألبسوه البدلة، فصار كأنه شاه بندر
التجار. وكان الحاضرون سألوا قمر الزمان عنه حين غيابه في الحمام وقالوا: مَن هذا؟
ومن أين تعرفه؟ فقال: هذا صاحبي، وقد أنزلني في بيته، وله عليَّ إحسان لا يُحصَى؛
فإنه أكرمني إكرامًا زائدًا، وهو من أهل السعادة والسيادة، وصنعته جوهري ليس له
نظير، وملك البصرة يحبه حبًّا كثيرًا، وله عنده مقام عظيم وكلام نافذ. وصار يبالغ
لهم في مدحه ويقول: إنه فعل معي كذا وكذا، وأنا صرتُ في حياءٍ منه، ولا أدري ما
أجازيه به في مقابلة ما صنعه معي من الإكرام. ولم يزل يُثنِي عليه حتى عظُمَ
قدْرُه عند الحاضرين، وصار مُهابًا في أعينهم. فقالوا: نحن كلنا نقوم بواجبه وإكرامه
من شأنك، ولكن مرادنا أن نعرف ما سبب مجيئه إلى مصر؟ وما سبب خروجه من بلاده؟ وما
فعل الله به حتى صار في هذه الحالة؟ فقال لهم: يا ناس، لا تتعجبوا، إن ابن آدم تحت
القضاء والقدر، وما دام في هذه الدنيا لا يسلم من الآفات، وقد صدق مَن قال هذه
الأبيات:
الدَّهْرُ
يَفْتَرِسُ الرِّجَالَ فَلَا تَكُنْ
مِمَّنْ تُطَيِّشُهُ الْمَنَاصِبُ وَالرُّتَبْ
وَاحْذَرْ
مِنَ الزَّلَّاتِ وَاجْتَنِبِ الْأَسَى
وَاعْلَمْ بِأَنَّ الدَّهْرَ شِيمَتُهُ الْعَطَبْ
كَمْ
نِعْمَةٍ زَالَتْ بِأَصْغَرِ نِقْمَةٍ
وَلِكُلِّ شَيْءٍ فِي تَقَلُّبِهِ سَبَبْ
اعلموا
أني أنا دخلت البصرة في أسوأ من هذه الحالة، وأشد من هذا النكال؛ لأن هذا الرجل
دخل مصر مستور العورة بالخلقان، وأما أنا فإني دخلت بلاده مكشوف العورة، يد من خلف
ويد من قدام، ولا نفعني إلا الله وهذا الرجل العزيز، والسبب في ذلك أن العرب
عرَّوني وأخذوا جمالي وبغالي وأحمالي وقتلوا غلماني ورجالي، ورقدت بين القتلى
فظنوا أني ميت، فذهبوا وفاتوني، وبعد ذلك قمت ومشيت عريانًا إلى أن دخلت البصرة،
فقابلني هذا الرجل وكساني وأنزلني في بيته وقوَّاني بالمال، وجميع ما أتيت به معي
ليس إلا من خير الله وخيره. فعندما سافرت أعطاني شيئًا كثيرًا ورجعت إلى بلادي
مجبور الخاطر، وفارقته وهو في سيادة وسعادة، فلعله حدث له بعد ذلك نكبة من نكبات
الزمان أوجبت له فراق الأهل والأوطان، وجرى له في الطريق مثل ما جرى لي، ولا عجب
في ذلك، ولكن ينبغي لي الآن أن أجازيه على ما صنع معي من كريم الفعال، وأعمل بقول
مَن قال:
يَا
مُحْسِنًا بِالزَّمَانِ ظَنًّا هَلْ
تَدْرِي مَا يَفْعَلُ الزَّمَانُ
مَا
شِئْتَ فَاصْنَعْ جَمِيلَ فِعْلٍ كَمَا
يَدِينُ الْفَتَى يُدَانُ
فبينما
هم في هذا الكلام وأمثاله، وإذا بالمعلم عبيد مقبلٌ عليهم كأنه شاه بندر التجار،
فقام إليه الجميع وسلموا عليه وأجلسوه في الصدر، وقال له قمر الزمان: يا صاحبي،
نهارك مبارك سعيد، لا تحكِ لي على شيء جرى عليَّ قبلك، فإن كان العرب عرَّوك
وأخذوا منك مالًا، فإن المال فدى الأبدان، فلا تغمَّ نفسك، فإني دخلت بلادك
عريانًا، وقد كسوتني وأكرمتني ولك عليَّ الإحسان الكثير فأنا أجازيك. وأدرك شهرزاد
الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 978﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن قمر الزمان لما قال للمعلم عبيد الجوهري: إني دخلت
بلادك عريانًا، وقد كسوتني ولك عليَّ الإحسان الكثير، فأنا أجازيك وأفعل معك كما
فعلت معي، بل أكثر من ذلك، فطِبْ نفسًا وقرَّ عينًا. وصار يأخذ بخاطره ومنعه من
الكلام لئلا يذكر زوجته وما فعلت معه، ولم يزل يعِظه بمواعظ وأمثال وأشعار ونكت
وحكايات وأخبار ويسليه، حتى لحظ الجوهري ما أشار عليه قمر الزمان من الكتمان، فكتم
ما عنده وتسلَّى بما سمعه من الأخبار والنوادر، وأنشد قول الشاعر:
فِي
جَبْهَةِ الدَّهْرِ سَطْرٌ لَوْ نَظَرْتُ لَهُ أَبْكَاكَ مَضْمُونُهُ مِنْ مُقْلَتَيْكَ
دِمَا
مَا
سَلَّمَ الدَّهْرُ بِالْيُمْنَى عَلَى أَحَدٍ إِلَّا وَيُسْرَاهُ تَسْقِيهِ الرَّدَى
كَظِمَا
ثم
إن قمر الزمان ووالده التاجر عبد الرحمن أخذا الجوهري ودخلا به في قاعة الحريم،
واختليا به، فقال له التاجر عبد الرحمن: نحن ما منعناك من الكلام إلا خوفًا من
الفضيحة في حقك وحقنا، ولكن نحن الآن في خلوة، فأخبرني بما جرى بينك وبين زوجتك وولدي.
فأخبره بالقضية من المبتدأ إلى المنتهى، فلما فرغ من قصته، قال له: هل الذنب من
زوجتك أو من ولدي؟ قال له: والله إن ولدك ما عنده ذنب؛ لأن الرجال لها الطمع في
النساء، والنساء عليهن أن يمتنعن من الرجال، فالعيب عند زوجتي التي خانتني وفعلت
معي هذه الفعال. فقام التاجر واختلى بولده وقال له: يا ولدي، إننا اختبرنا زوجته
وعرفنا أنها خائنة، ومرادي الآن أن أختبره وأعرف هل هو صاحب عِرْض ومروءة أو هو
دَيُّوث؟ فقال له: وكيف ذلك؟ فقال: مرادي أن أحمله على الصلح مع زوجته، فإن رضي
بالصلح وسامحها فإني أضربه بالسيف فأقتله، وبعد ذلك أقتلها هي وجاريتها؛ لأنْ لا
خيرَ في حياة الدَّيُّوث والزانية، وإن نفر منها فإني أزوِّجه أختك وأعطيه بأكثر
من ماله الذي أخذتَه منه. ثم إنه رجع إليه وقال له: يا معلم، إن معاشرة النساء
تحتاج إلى طول البال، ومَن كان يهواهن فإنه يحتاج إلى سعة الصدر؛ لأنهن يعربدن في
الرجال ويؤذينهم لعزتهن عليهم بالحُسْن والجمال، فيستعظمن أنفسَهن ويستحقرن
الرجال، ولا سيما إذا بانت لهن المحبة من بعولهن، فيقابلنهم بالتيه والدلال وكريه
الفعال من جميع الجهات، فإن كان الرجل يغضب كلما رأى من زوجته ما يكره فلا يحصل
بينه وبينها عشرة، ولا يوافقهن إلا مَن كان واسعَ البال كثيرَ الاحتمال، وإن لم
يتحمَّل الرجل زوجته ويقابل إساءتها بالسماح فإنه لا يحصل له في عِشْرتها نجاح،
وقد قيل في حقهن: لو كنَّ في السماء لَمالتْ إليهن أعناق الرجال. ومَن قدر وعفى
كان أجره على الله. وهذه المرأة زوجتك ورفيقتك، وطالت عشرتها معك، فينبغي أن يكون
عندك لها السماح، وهذا في العِشرة من علامات النجاح. والنساء ناقصات عقل ودين، وهي
إن أساءت فإنها قد تابت، وإن شاء الله لا ترجع إلى فعل ما كانت تفعله أولًا.
فالرأي عندي أنك تصطلح أنت وإياها، وأنا أرد لك أكثر من مالك، وإنْ أقمت عندي
فمرحبًا بك وبها، وليس لكما إلا ما يسُرُّكما، وإن كنتَ تطلب التوجُّهَ إلى بلادك
فأنا أعطيك ما يرضيك. وها هو التختروان حاضر فركِّب زوجتك وجاريتها فيه وسافر إلى
بلادك، والذي يجري بين الرجل وزوجته كثير، فعليك بالتيسير، ولا تسلك سبيل التعسير.
فقال الجوهري: يا سيدي، وأين زوجتي؟ فقال له: ها هي في هذا القصر، فاطلع إليها
واستوصِ بها من شأني، ولا تشوِّش عليها، فإن ولدي لما جاء بها وطلب زواجها منعته،
وحطَطْتُها في هذا القصر وقفلت عليها الباب وقلت في نفسي: ربما يجيء زوجها
فأسلِّمها إليه؛ لأنها جميلة الصورة، والتي مثل هذه لا يمكن زوجها أن يفوتها،
والذي حسبته حصل والحمد لله تعالى على اجتماعك بزوجتك. وأما من جهة ابني فإني خطبت
له وزوَّجته غيرها، وهذه الولائم والضيافات من أجل فرحه، وفي هذه الليلة دُخْلتُه
على زوجته. وها هو مفتاح القصر الذي فيه زوجتك، فخُذْه وافتح الباب وادخل على
زوجتك وجاريتك وانبسط معها، ويأتيكم الأكل والشرب، ولا تنزل من عندها حتى تشبع
منها. فقال له: جزاك الله عني كل خير يا سيدي. ثم أخذ المفتاح وطلع فرحانًا، فظن
التاجر أن هذا الكلام أعجبه، وأنه رضي به، فأخذ السيف وتبعه من خلفه بحيث لم يرَه،
ثم وقف ينظر ما يحصل بينه وبين زوجته.
هذا
ما كان من أمر التاجر عبد الرحمن، وأما ما كان من أمر الجوهري، فإنه دخل على زوجته
فرآها تبكي بكاءً شديدًا بسبب أن قمر الزمان تزوَّج بغيرها، ورأى الجارية تقول
لها: كم نصحتك يا سيدتي وقلت لك إن هذا الغلام لا ينالك منه خير فاتركي عِشْرته،
فما سمعتِ كلامي حتى نهبتِ جميعَ مال زوجك وأعطيتِه له، وبعد ذلك فارقتِ مكانك
وتعلَّقتِ في هواه وجئتِ معه في هذه البلاد، وبعد ذلك رماكِ من باله وتزوَّج
بغيرك، ثم جعل آخِر تعلُّقِك به الحبس. فقالت لها: اسكتي يا ملعونة، فإنه وإنْ
تزوَّجَ بغيري لا بد أن أخطر يومًا على باله، فأنا لا أسلو مسامرته، وأنا على كل
حال أتسلَّى بقول مَن قال:
يَا
سَادَتِي هَلْ يَخْطُرَنَّ بِبَالِكُمْ
مَنْ لَيْسَ يَخْطُرُ غَيْرُكُمْ فِي بَالِهِ
حَاشَاكُمُ
أَنْ تَغْفَلُوا عَنْ حَالِ مَنْ هُوَ
غَافِلٌ فِي حَالِكُمْ عَنْ حَالِهِ
فلا
بد أن يتذكَّر عِشْرتي وصُحْبتي ويسأل عني، وأنا لا أرجع عن محبته، ولا أُحوَّل عن
هواه ولو متُّ في السجن؛ فإنه حبيبي وطبيبي، وعشمي فيه أن يرجع إليَّ ويعمل معي
انبساطًا. فلمَّا سمعها زوجها تقول هذا الكلام دخل عليها وقال لها: يا خائنة، إن
عشمك فيه مثل عشم إبليس في الجنة! كل هذه العيوب فيكِ وأنا ما عندي خبر؟! ولو
علمتُ أن فيكِ عيبًا من هذه العيوب ما كنتُ قنيتك عندي ساعةً واحدة، ولكن حيث
تيقَّنتُ فيك ذلك ينبغي أن أقتلك ولو قتلوني فيكِ يا خائنة. ثم قبض عليها بيدَيْه
الاثنتين وأنشَدَ هذين البيتين:
يَا
مِلَاحًا أَذْهَبْتُمُ صِدْقَ وُدِّي
بِالتَّجَنِّي وَلَمْ تُرَاعُوا حُقُوقَا
كَمْ
بِكُمْ صَبْوَةٍ عَلِقْتُ وَلَكِنْ بَعْدَ
هَذَا الْأَسَى كَرِهْتُ الْعُلُوقَا
ثم
اتَّكَأ على زمارة حلقها وكسرها، فصاحت الجارية: وا سيدتاه! فقال لها: يا عاهرة،
العيب كله منك؛ حيث كنتِ تعرفين أن فيها هذه الخصلة ولم تخبريني. ثم قبض على
الجارية وخنقها، كل ذلك حصل والتاجر ماسك السيف بيده وهو واقف خلف الباب يسمع
بأذنه ويرى بعينه. ثم إن عبيدًا الجوهري لما خنقهما في قصر التاجر كثرت عليه
الأوهام، وخاف عاقبة الأمر، وقال في نفسه: إن التاجر إذا علم أني قتلتهما في قصره
لا بد أنه يقتلني، ولكن أسأل الله أن يجعل قبض روحي على الإيمان. وصار متحيرًا في
أمره ولم يدرِ ماذا يفعل. فبينما هو كذلك، وإذا بالتاجر عبد الرحمن دخل عليه وقال
له: لا بأس عليك، إنك تستأهل السلامة، وانظر هذا السيف الذي في يدي، فإني كنتُ
ضامرًا على أن أقتلك إن صالحتها ورضيت عليها وأقتل الجارية، وحيث فعلت هذه الفعال
فمرحبًا بك، ثم مرحبًا، وما جزاؤك إلا أن أزوِّجك ابنتي أخت قمر الزمان. ثم إنه
أخذه ونزل به وأمر بإحضار الغاسلة، وشاع الخبر أن قمر الزمان ابن التاجر عبد
الرحمن جاء بجاريتين معه من البصرة فماتتا، فصار الناس يعزُّونه ويقولون له: تعيش
رأسك وعوَّض الله عليك. ثم غسَّلوهما وكفَّنوهما ودفنوهما ولم يعرف أحد حقيقة
الأمر.
هذا
ما كان من أمر عبيد الجوهري وزوجته وجاريته، وأما ما كان من أمر التاجر عبد
الرحمن، فإنه أحضر شيخ الإسلام وجميع الأكابر وقال: يا شيخ الإسلام، اكتب كتاب
بنتي كوكب الصباح على المعلم عبيد الجوهري، ومهرها قد وصلني بالتمام والكمال. فكتب
الكتاب وسقاهم الشربات وجعلوا الفرح واحدًا، وزفُّوا بنت شيخ الإسلام زوجة قمر
الزمان وأخته كوكب الصباح زوجة المعلم عبيد الجوهري في تختروان واحد في ليلة
واحدة. وفي المساء زفوا قمر الزمان والمعلم عبيدًا سواءً، وأدخلوا قمر الزمان على
بنت شيخ الإسلام، وأدخلوا المعلم عبيدًا على بنت التاجر عبد الرحمن، فلما دخل
عليها رآها أحسن من زوجته وأجمل منها بألف طبقة، ثم إنه أزال بكارتها، ولما أصبح
دخل الحمام مع قمر الزمان، ثم أقام عندهم مدةً في فرح وسرور. وبعد ذلك اشتاق إلى
بلاده، فدخل على التاجر عبد الرحمن وقال: يا عمِّ، إني اشتقت إلى بلادي، ولي فيها
أملاك وأرزاق، وكنت أقمت فيها صانعًا من صنَّاعي وكيلًا عني، وفي خاطري أن أسافر
إلى بلادي لأبيع أملاكي وأرجع إليك، فهل تأذن لي في التوجه إلى بلادي من أجل ذلك؟
فقال له: يا ولدي، قد أذنت لك، ولا لومَ عليك في هذا الكلام، فإن حب الوطن من
الإيمان، والذي ما له خير في بلاده ما له خير في بلاد الناس، وربما أنك إذا سافرت
بغير زوجتك ودخلت بلادك يطيب لك فيها القعود وتصير متحيرًا بين رجوعك إلى زوجتك
وقعودك في بلادك، فالرأي الصواب أن تأخذ زوجتك معك، وبعد ذلك إن شئتَ الرجوع إلينا
فارجع أنت وزوجتك، ومرحبًا بك وبها؛ لأننا ناس لا نعرف طلاقًا، ولا تتزوج منا
امرأة مرتين، ولا نهجر إنسانًا بطرًا. فقال: يا عمِّ، أخاف أنَّ ابنتك لا ترضى
بالسفر معي إلى بلادي. فقال له: يا ولدي، نحن ما عندنا نساء تخالف بعولهن، ولا
نعرف امرأةً تغضب على بعلها. فقال له: بارك الله فيكم وفي نسائكم. ثم إنه دخل على
زوجته وقال لها: أنا مرادي السفر إلى بلادي فما تقولين؟ قالت: إن أبي لا زال يحكم
عليَّ ما دمت بكرًا، وحيث تزوَّجت فقد صار الحكم كله في يد بعلي فإني لا أخالفه.
فقال لها: بارك الله فيك وفي أبيك، ورحم الله بطنًا حملك وظهرًا ألقاك. ثم بعد ذلك
قطع علائقه وأخذ في أسباب السفر، فأعطاه عمه شيئًا كثيرًا، وودَّعا بعضهما، ثم أخذ
زوجته وسافر، ولم يزل مسافرًا حتى دخل البصرة، فخرجت لملاقاته الأقارب والأصحاب
وهم يظنون أنه كان في الحجاز، وصار بعض الناس فرحانًا بقدومه وبعضهم مغمومًا
لرجوعه إلى البصرة، وقال الناس لبعضهم: إنه يضيِّق علينا في كل جمعة بحسب العادة،
ويحبسنا في الجوامع والبيوت وحتى يحبس قططنا وكلابنا.
هذا
ما كان من أمره، وأما ما كان من أمر ملك البصرة، فإنه لما علم بقدومه غضب عليه
وأرسل إليه وأحضره بين يديه، وعنَّفه وقال له: كيف تسافر ولم تُعلمني بسفرك؟ فهل
كنتَ عاجزًا عن شيء أعطيه لك لتستعين به على الحج إلى بيت الله الحرام؟ فقال له:
العفو يا سيدي، والله ما حججت، ولكن جرى لي كذا وكذا … وأخبره بما جرى له مع زوجته
ومع التاجر عبد الرحمن المصري، وكيف زوَّجه ابنته، إلى أن قال له: وقد جئت بها إلى
البصرة. فقال له: والله، لولا أني أخاف من الله تعالى لَقتلتُكَ وتزوَّجت بهذه
البنت الأصيلة من بعدك، ولو كنتُ أنفِقُ عليها خزائن الأموال؛ لأنها لا تصلح إلا
للملوك، ولكن جعلها الله من نصيبك، وبارك لك فيها، فاستوصِ بها خيرًا. ثم إنه أنعم
على الجوهري، ونزل من عنده وقعد معها خمس سنوات، وبعد ذلك تُوفي إلى رحمة الله
تعالى، فخطبها الملك، فما رضيت وقالت: أيها الملك، أنا ما وجدت في طائفتي امرأة
تزوَّجت بعد بعلها، فأنا لا أتزوج أحدًا بعد بعلي، فلا أتزوجك ولو كنت تقتلني.
فأرسل يقول لها: هل تطلبين التوجُّهَ إلى بلادك؟ فقالت: إذا فعلتَ خيرًا تُجازَى
به. فجمع لها جميع أموال الجوهري، وزادها من عنده على قدر مقامه، ثم أرسل معها
وزيرًا من وزرائه مشهورًا بالخير والصلاح، وأرسل معه خمسمائة فارس، فسار بها ذلك
الوزير حتى أوصلها إلى أبيها، وأقامت من غير زواج حتى ماتت ومات الجميع. وإذا كانت
هذه المرأة ما رضيتْ أن تبدِّل زوجها بعد موته بسلطان، كيف تستوي بمَن تبدِّله في
حال حياته بغلام مجهول الأصل والنَّسَب؟ وخصوصًا إذا كان ذلك في السِّفاح وعلى غير
طريق سُنَّة النكاح! ومَن ظن أن النساء كلهن سواء، فإن داء جنونه ليس له دواء.
فسبحان مَن له الملك والملكوت، وهو الحي الذي لا يموت.
وممَّا
يُحكى أيضًا أيها الملك السعيد، أن الخليفة هارون الرشيد تفقَّدَ خراج البلاد
يومًا من الأيام، فرأى خراج جميع الأقطار والبلاد جاء إلى بيت المال إلا خراج
البصرة، فإنه لم يأتِ في ذلك العام، فنصب ديوانًا لهذا السبب، وقال: عليَّ بالوزير
جعفر. فحضر بين يديه، فقال له: إن خراج جميع الأقطار جاء إلى بيت المال إلا خراج
البصرة، فإنه لم يأتِ منه شيء. فقال: يا أمير المؤمنين، لعل نائب البصرة حصل له
أمر ألهاه عن إرسال الخراج. فقال: إن مدة حضور الخراج عشرون يومًا، فما عذره في
هذه المدة حتى لم يرسل الخراج أو يرسل بإقامة العذر؟ فقال له: يا أمير المؤمنين،
إن شئتَ أرسلنا إليه مرسالًا. فقال: أرسِلْ له أبا إسحاق الموصلي النديم. فقال:
سمعًا وطاعة لله ولك يا أمير المؤمنين. ثم إن الوزير جعفر نزل إلى داره وأحضر أبا
إسحاق الموصلي النديم، وكتب له خطًّا شريفًا، وقال له: امضِ إلى عبد الله بن فاضل
نائب مدينة البصرة، وانظر ما الذي ألهاه عن إرسال الخراج، ثم تسلَّمْ منه خراج
البصرة بالتمام والكمال، وائتني به سريعًا، فإن الخليفة تفقَّدَ خراجَ الأقطار
فوجده قد وصل إلَّا خراج البصرة، وإنْ رأيتَ الخراج غير حاضر واعتذر إليك بعذرٍ
فهاتِهِ معك ليخبر الخليفة بالعذر من لسانه. فأجاب بالسمع والطاعة، وأخذ خمسة آلاف
فارس من عسكر الوزير وسافر حتى وصل إلى مدينة البصرة، فعلم بقدومه عبد الله بن
فاضل، فخرج بعسكره إليه ولاقاه ودخل به البصرة وطلع به قصره، وبقية العسكر نزلوا في
الخيام خارج البصرة، وقد عيَّنَ لهم ابن فاضل جميع ما يحتاجون إليه، ولما دخل أبو
إسحاق الديوانَ وجلس على الكرسي أجلَسَ عبد الله بن فاضل بجانبه، وجلس الأكابر
حوله على قدر مراتبهم، ثم بعد السلام قال له ابن فاضل: يا سيدي، هل لقدومك علينا
من سبب؟ قال: نعم، إنما جئتُ لطلب الخراج، فإن الخليفة سأل عنه، ومُدة وروده قد
مضت. فقال: يا سيدي، يا ليتك ما تعبتَ ولا تحمَّلتَ مشقة السفر، فإن الخراج حاضر
بالتمام والكمال، وقد كنت عازمًا على أن أرسله في غد، ولكن حيث أتيت فأنا أسلِّمه
إليك بعد ضيافتك ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع أُحضِر الخراج بين يديك، ولكن وجب
علينا الآن أننا نقدِّم إليك هدية من بعض خيرك وخير أمير المؤمنين. فقال له: لا
بأس بذلك. ثم إنه فضَّ الديوان ودخل به قصرًا في داره ليس له نظير، ثم قدَّم له
ولأصحابه سفرة الطعام، فأكلوا وشربوا وتلذَّذوا وطربوا، ثم رُفِعت المائدة وغُسِلت
الأيادي وجاءت القهوة والشربات، وقعدوا في المنادَمة إلى ثلث الليل، ثم فرشوا له
سريرًا من العاج مرصَّعًا بالذهب الوهَّاج، فنام عليه ونام نائب البصرة على سرير
آخَر بجانبه، فغلب السهر على أبي إسحاق رسول أمير المؤمنين، وصار يفكِّر في بحور
الشعر والنظَّام؛ لأنه من خواص ندماء الخليفة، وكان له باع عظيم في الأشعار ولطائف
الأخبار، ولم يزل سهرانًا في إنشاء الشعر إلى نصف الليل، فبينما هو كذلك، وإذا
بعبد الله بن فاضل قام وشدَّ حزامه وفتح دولابًا، وأخذ منه سوطًا، وأخذ شمعةً
مضيئة وخرج من باب القصر وهو يظن أن أبا إسحاق نائم. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ
عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 979﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن عبد الله بن فاضل لمَّا خرج من باب القصر وهو يظن أن
أبا إسحاق النديم نائم، فلما خرج تعجَّبَ أبو إسحاق وقال في نفسه: إلى أين يذهب
عبد الله بن فاضل بهذا السوط؟ فلعلَّ مراده أن يعذِّب أحدًا، ولكن لا بد لي من أن
أتبعه وأنظر ما يصنع في هذه الليلة. ثم إن أبا إسحاق قام وخرج وراءه قليلًا
قليلًا، بحيث إنه لم يرَه، فرأى عبد الله فتح خِزانة وأخرج منها مائدة فيها أربعة
أصحن من الطعام، وخبزًا وقُلَّة فيها ماء، ثم إنه حمل المائدة والقُلة ومشى، فتبعه
أبو إسحاق مستخفيًا إلى أن دخل قاعة، فوقف أبو إسحاق خلف باب القاعة من داخل، وصار
ينظر من خلال ذلك الباب، فرأى هذه القاعة واسعة ومفروشة فرشًا فاخرًا، وفي وسط تلك
القاعة سرير من العاج مصفَّح بالذهب، وذلك السرير مربوط فيه كلبان في سلسلتين من
الذهب، ثم إنه رأى عبد الله حطَّ المائدة على جانب في مكان وشمَّر عن أياديه وفكَّ
الكلب الأول، فصار يتلوَّى في يده ويضع وجهه في الأرض كأنه يقبِّلُ الأرض بين يديه
ويعوي عواءً خفيفًا بصوت ضعيف، ثم إنه كتَّفه ورماه على الأرض وسحب السوط ونزل به
عليه وضربه ضربًا وجيعًا من غير شفقة، وهو يتلوَّى بين يديه ولا يجد له خلاصًا.
ولم يزل يضربه بذلك السوط حتى قطع الأنين وغاب عن الوجود، ثم إنه أخذه وربطه في
مكانه، وبعد ذلك أخذ الكلب الثاني وفعل به كما فعل بالأول، ثم إنه أخرج محرمة وصار
يمسح لهما دموعهما ويأخذ بخاطرهما ويقول: لا تؤاخذني، والله ما هذا بخاطري، ولا
يسهل عليَّ، ولعل الله يجعل لكما من هذا الضيق فرجًا ومخرجًا. ويدعو لهما. وحصل كل
هذا وأبو إسحاق النديم واقف يسمع بأذنه ويرى بعينه، وقد تعجَّبَ من هذه الحالة. ثم
إنه قدَّم لهما سفرة الطعام، وصار يلقِّمهما بيده حتى شبعا، ومسح لهما أفواههما
وحمل القُلَّة وسقاهما، وبعد ذلك حمل المائدة والقُلَّة والشمعة وأراد أن يخرج،
فسبقه أبو إسحاق وجاء إلى سريره ونام، ولم يَرَه ولم يعرف أنه تبعه واطَّلَع عليه.
ثم إن عبد الله وضع السفرة والقُلَّة في الخزانة ودخل القاعة وفتح الدولاب ووضع
السوط في محله، وقلع حوائجه ونام.
هذا
ما كان من أمره، وأما ما كان من أمر أبي إسحاق، فإنه بات بقية تلك الليلة يفكِّر
في شأن هذا الأمر، ولم يأتِه نوم من كثرة العَجَب، وصار يقول في نفسه: يا تُرَى ما
سبب هذه القضية؟! ولم يزَل يتعجَّب إلى الصباح، ثم قاموا وصلوا الصبح وانحطَّ لهم
الفطور، فأكلوا وشربوا القهوة وطلعوا إلى الديوان، واشتغل أبو إسحاق بهذه النكتة
طول النهار، ولكنه كتمها ولم يسأل عبد الله عنها. وثاني ليلة فعل بالكلبين كذلك،
فضربهما ثم صالحهما وأطعمهما وسقاهما، وتبعه أبو إسحاق فرآه فعل بهما كأول ليلة،
وكذلك ثالث ليلة. ثم إنه أحضر الخراج إلى أبي إسحاق النديم في رابع يوم، فأخذه
وسافر ولم يُبْدِ له شيئًا، ولم يزَل مسافرًا حتى وصل إلى بغداد، وسلَّم الخراج
إلى الخليفة. ثم إن الخليفة سأله عن سبب تأخير الخراج، فقال له: يا أمير المؤمنين،
رأيت عامل البصرة قد جهَّزَ الخراج وأراد إرساله، ولو تأخرتُ يومًا لَقابلني في
الطريق. لكن رأيت من عبد الله بن فاضل عجبًا، عمري ما رأيت مثله يا أمير المؤمنين.
فقال الخليفة: وما هو يا أبا إسحاق؟ قال: رأيت ما هو كذا وكذا. وأخبره بما فعله مع
الكلبين، وقال له: رأيتُه ثلاثَ ليالٍ متواليات وهو يعمل هذا العمل، فيضرب الكلبين
وبعد ذلك يصالحهما ويأخذ بخاطرهما ويُطعِمهما وأنا أتفرَّج عليه بحيث لا يراني.
فقال له الخليفة: فهل سألته عن السبب؟ فقال له: لا وحياة رأسك يا أمير المؤمنين.
فقال الخليفة: يا أبا إسحاق، أمرتك أن ترجع إلى البصرة وتأتيني بعبد الله بن فاضل
وبالكلبين. فقال: يا أمير المؤمنين، دَعْني من هذا، فإن عبد الله بن فاضل أكرَمَني
إكرامًا زائدًا، وقد اطَّلعتُ على هذه الحالة اتفاقًا من غير قصدٍ، فأخبرتك بها،
فكيف أرجع إليه وأجيء به؟ فإن رجعتُ إليه لا ألقى لي وجهًا حياءً منه، فاللائق
إرسال غيري إليه بخطِّ يدك فيأتيك به وبالكلبين. فقال له: إن أرسلتُ له غيرَك
فربما ينكر هذا الأمر ويقول: ما عندي كلاب، وأمَّا إذا أرسلتُك أنت وقلت له: إني
رأيتُك بعيني، فإنه لا يقدر على إنكار ذلك؛ فلا بد من ذهابك إليه وإتيانك به
وبالكلبين، وإلا فلا بد من قتلك. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 980﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الخليفة هارون الرشيد قال لأبي إسحاق: لا بد من ذهابك
إليه وإتيانك به وبالكلبين، وإلا فلا بد من قتلك. فقال له أبو إسحاق: سمعًا وطاعة
يا أمير المؤمنين، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصدق مَن قال: آفة الإنسان من اللسان.
فأنا الجاني على نفسي حيث أخبرتك، ولكن اكتبْ خطًّا شريفًا وأنا أذهب إليه وآتيك
به. فكتب له خطًّا شريفًا وتوجَّهَ به إلى البصرة، فلما دخل على عامل البصرة قال
له: كفانا الله شر رجوعك يا أبا إسحاق! فما لي أراك رجعتَ سريعًا؟ لعل الخراج ناقص
فلم يَقْبله الخليفة. فقال: يا أمير عبد الله، ليس رجوعي من أجل نقص الخراج، فإنه
كامل وقبِلَه الخليفة، ولكن أرجو منك عدم المؤاخذة؛ فإني أخطأت في حقك، وهذا الذي
وقع مني مقدَّر من الله تعالى. فقال له: وما وقع منك يا أبا إسحاق؟ أخبرني، فإنك
حبيبي وأنا لا أؤاخذك. فقال له: اعلم أني لما كنت عندك اتَّبعتك ثلاث ليالٍ
متواليات وأنت تقوم كل ليلة في نصف الليل وتعذِّب الكلاب وترجع، فتعجَّبت من ذلك
واستحييت أن أسألك عنه، ثم إني أخبرت الخليفة بخبرك اتفاقًا من غير قصدٍ، فألزمني
بالرجوع إليك، وهذا خطُّ يده، ولو كنت أعلم أن الأمر يحوج إلى ذلك ما كنت أخبرته،
ولكن جرى القدر بذلك. وصار يعتذر إليه، فقال له: حيث أخبرتَه فأنا أصدق خبرك عنده
لئلا يظن بك الكذب؛ فإنك حبيبي، ولو أخبر غيرك كنتُ أنكرتُ ذلك وكذَّبتُه، فها أنا
أروح معك وآخذ الكلبين معي، ولو كان في ذلك تلف نفسي وانقضاء أجلي. فقال له: الله
يسترك كما سترت وجهي عند الخليفة.
ثم
إنه أخذ هديةً تليق بالخليفة، وأخذ الكلبين في جنازير من الذهب، وحمل كل كلب على
جمل، وسافروا إلى أن وصلوا إلى بغداد، ودخل على الخليفة فقبَّل الأرض بين يديه،
فأذن له بالجلوس، فجلس وأحضر الكلبين بين يديه. فقال الخليفة: ما هذان الكلبان يا
أمير عبد الله؟ فصار الكلبان يقبِّلان الأرض بين يديه ويحركان أذنابهما ويبكيان
كأنهما يشكوان إليه. فتعجَّبَ الخليفة من ذلك وقال له: أخبرني بخبر هذين الكلبين،
وما سبب ضربك لهما وإكرامهما بعد الضرب. فقال له: يا خليفة الله، ما هذان كلبان،
وإنما هما رجلان شابان ذوا حُسْن وجمال وقَدٍّ واعتدال، وهما أخواي وولدا أمي
وأبي. فقال الخليفة: وكيف كانا آدميَّيْن وصارا كلبين؟ قال: إنْ أذنتَ لي يا أمير
المؤمنين أخبرك بحقيقة الخبر. فقال: أخبرني، وإياك والكذب، فإنه صفة أهل النفاق،
وعليك بالصدق فإنه سفينة النجاة وسِيمة الصالحين. فقال له: اعلم يا خليفة الله أني
إذا أخبرتك بخبرهما يكونان هما الشاهدان عليَّ، فإن كذبتُ يكذِّباني وإنْ صدقتُ
يُصدِقان. فقال له: هذان من الكلاب لا يقدران على نطق ولا جواب! فكيف يشهدان لك أو
عليك؟ فقال لهما: يا أخويَّ، إذا أنا تكلمتُ كلامًا كذبًا فارفعا رءوسكما وحملقا
أعينكما، وإذا تكلمتُ صِدقًا فنكِّسا رءوسكما وغضَّا أعينكما. ثم إنه قال: اعلم يا
خليفة الله أنَّا نحن ثلاثة أخوة، أمُّنا واحدة وأبونا واحد، وكان اسم أبينا فاضل،
وما سُمِّي بهذا الاسم إلا لكوْنِ أمه وضعتْ ولدين توءمَيْن في بطن واحد، فمات
أحدهما من وقته وساعته، وفضل الثاني فسمَّاه أبوه فاضلًا، ثم ربَّاه وأحسَنَ
تربيته إلى أن كبر، فزوَّجَه أمَّنا، ومات، فوضعت أخي هذا أولًا فسماه منصورًا،
وحملت ثاني مرة ووضعت أخي هذا فسمَّاه ناصرًا، وحملت ثالث مرة ووضعتني فسمَّاني
عبد الله، وربَّانا حتى كبرنا وبلغنا مبلغ الرجال، فمات وخلَّف لنا بيتًا ودكانًا
ملآنًا قماشًا ملونًا من سائر أنواع القماش الهندي والرومي والخراساني وغير ذلك،
وخلَّف لنا ستين ألف دينار، فلما مات أبونا غسَّلناه وعملنا له مشهدًا عظيمًا
ودفنَّاه وذهب لرحمة مولاه، وعملنا له عتاقة وختمات، وتصدَّقنا عليه إلى تمام
الأربعين يومًا، ثم إني بعد ذلك جمعتُ التجار وأشراف الناس وعملت لهم يومًا
عظيمًا، وبعدما أكلوا قلت لهم: يا تجار، إن الدنيا فانية والآخرة باقية، وسبحان
الدائم بعد فناء خلقه، هل تعلمون لأي شيء جمعتُكم في هذا اليوم المبارك عندي؟
قالوا: سبحان الله علام الغيوب. فقلت لهم: إن أبي مات عن جملةٍ من المال، وأنا
خائف أن يكون عليه تبعة لأحد من دَيْن أو رهن أو غير ذلك، ومرادي خلاص ذمة أبي من
حقوق الناس. فمَن كان له عليه شيء فليقل: إن لي عليه كذا وكذا. وأنا أورده له لأجل
براءة ذمة أبي. فقال لي التجار: يا عبد الله، إن الدنيا لا تُغني عن الآخرة، ولسنا
أصحاب باطل، وكلٌّ منَّا يعرف الحلال من الحرام، ونخاف من الله تعالى ونتجنَّب أكل
مال اليتيم، ونعلم أن أباك - رحمة الله عليه - كان دائمًا يُبقي ماله عند الناس
ولا يخلِّي في ذمته شيئًا إلى أحد، ونحن دائمًا نسمعه وهو يقول: أنا خائف من متاع
الناس. ودائمًا كان يقول في دعائه: إلهي، أنت ثقتي ورجائي، فلا تُمِتني وعليَّ
دَيْن. وكان من جملة طباعه أنه إذا كان لأحد عليه شيء فإنه يدفعه له من غير
مُطالَبة، وإذا كان له على أحد شيء فإنه لا يطالبه ويقول له: على مهلك. وإن كان
فقيرًا يسامحه ويبرِّئ ذمته، وإن لم يكن فقيرًا ومات يقول: سامحه الله مما لي
عنده. ونحن كلنا نشهد أنه ليس لأحد عنده شيء. فقلت: بارك الله فيكم.
ثم
إني التفتُّ إلى أخويَّ هذين وقلت لهما: إن أبانا ليس عليه لأحد شيء، وقد خلَّف
لنا هذا المال والقماش والبيت والدكان، ونحن ثلاثة أخوة، كلٌّ منا يستحق ثلث هذا
الشيء، فهل نتفق على عدم القسمة ويستمر مالنا مشتركًا بيننا ونأكل سواء ونشرب
سواء؟ أو نقسِّم القماش والأموال ويأخذ كل واحد منا حصته؟ فقالا: نقسِّم ويأخذ كل
واحد منا حصته. ثم التفت إلى الكلبين وقال لهما: هل جرى ذلك يا أخويَّ؟ فنكَّسا
رأسيهما وغضَّا عيونهما كأنهما قالا نعم. ثم إنه قال: فأحضرت قسَّامًا من طرف
القاضي يا أمير المؤمنين، فقسَّمَ بيننا المال والقماش وجميع ما خلَّفه لنا أبونا،
وجعلوا البيت والدكان من قسمي في نظير بعض ما أستحقه من الأموال، ورضينا بذلك،
وصار البيت والدكان في قسمي، وهما أخذا قسمهما مالًا وقماشًا. ثم إني فتحت الدكان
وحططتُ فيه القماش، واشتريتُ بجانب من المال الذي خصَّني زيادةً على البيت والدكان
قماشًا حتى ملأتُ الدكان وقعدتُ أبيع وأشتري. وأما أخواي فإنهما اشتريا قماشًا
واكتريا مركبًا وسافرا في البحر إلى بلاد الناس، فقلت: الله يساعدهما، وأنا رزقي
يأتيني، وليس للراحة قيمة. ودمت على ذلك مدة سنة كاملة، ففتح الله عليَّ وصرت
أكتسب مكاسب كثيرة حتى صار عندي مثل الذي خلَّفه لنا أبونا، فاتفق لي يومًا من
الأيام أنني كنتُ جالسًا في الدكان وعليَّ فروتان؛ إحداهما سمور والأخرى سنجاب؛
لأن ذلك الوقت كان في فصل الشتاء، في أوان اشتداد البرد. فبينما أنا كذلك، وإذا
بأخويَّ قد أقبلا عليَّ وعلى بدن كل واحد منهما قميص خلق من غير زيادة، وشفاههما
بيض من البرد وهما ينتفضان. فلما رأيتهما عسر عليَّ ذلك وحزنت عليهما. وأدرك
شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 981﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن عبد الله بن فاضل لما قال للخليفة: فلما رأيتهما
ينتفضان عسر عليَّ ذلك وحزنت عليهما وطار عقلي من رأسي، فقمت إليهما واعتنقتهما
وبكيت على حالهما، وخلعت على واحد منهما الفروة السمور وعلى الآخر الفروة السنجاب،
وأدخلتهما الحمام، وأرسلت إلى كل واحد منهما في الحمام بدلة تاجر ألفي. وبعدما
اغتسلا لبس كل واحد منهما بدلته، ثم أخذتهما إلى البيت فرأيتهما في غاية الجوع،
فوضعت لهما سفرة الأطعمة، فأكلا وأكلت معهما، ولاطفتهما وأخذت بخاطرهما. ثم التفت
إلى الكلبين وقال لهما: هل جرى ذلك يا أخويَّ؟ فنكَّسا رأسيهما وغضَّا عيونهما. ثم
إنه قال: يا خليفة الله، ثم إني سألتهما وقلت لهما: ما الذي جرى لكما؟ وأين
أموالكما؟ فقالا: سافرنا في البحر ودخلنا مدينةً تُسمَّى مدينة الكوفة، وصرنا نبيع
القطعة القماش التي ثمنها علينا نصف دينار بعشرة دنانير، والتي بدينار بعشرين
دينارًا، وكسبنا مكاسب عظيمة، واشترينا من قماش العجم الشقة الحرير بعشرة دنانير،
وهي تساوي في البصرة أربعين دينارًا، ودخلنا مدينةً تُسمَّى الكرخ، فبعنا واشترينا
وكسبنا مكاسب كثيرة، وصار عندنا أموال كثيرة. وجعلا يذكران لي البلاد والمكاسب،
فقلت لهما: حيث رأيتما هذا الفرح والخير، فما لي أراكما رجعتما عريانين؟ فتنهدا
وقالا: يا أخانا، ما حل بنا إلا عين صائبة، والسفر ما له أمان؛ فلما جمعنا تلك
الأموال والخيرات وسقنا متاعنا في مركب وسافرنا في البحر بقصد التوجه إلى مدينة البصرة،
وقد سافرنا ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع رأينا البحر قام وقعد وأرغى وأزبد
وتحرَّك وهاج، وتلاطم بالأمواج، وصار الموج يقدح الشرار كلهيب النار، واختلفت
علينا الأرياح، والتطمت بنا المركب في سن جبل فانكسرت وغرقنا، وراح جميع ما كان
معنا في البحر، وصرنا نخبط على وجه الماء يومًا وليلة، فأرسل الله لنا مركبًا أخرى
فأخذتنا ركَّابها وصرنا من بلاد إلى بلاد ونحن نسأل ونتقوَّت مما نحصله بالسؤال،
وقاسينا الكرب العظيم، وصرنا نقلع من حوائجنا ونبيع ونتقوَّت حتى قربنا من البصرة،
وما وصلنا إلى البصرة حتى شربنا ألف حسرة، ولو كنا سَلِمنا بما كان معنا كنا أتينا
بأموال تضاهي أموال الملك، ولكن هذا مقدَّر من الله علينا. فقلت لهما: يا أخويَّ،
لا تحملا همًّا؛ فإن المال فداء الأبدان، والسلامة غنيمة، وحيث كتبكم الله من
السالمين فهذا غاية المنى، وما الفقر والغنى إلا كطيف خيال، ولله درُّ مَن قال:
إِذَا
سَلَمَتْ هَامُ الرِّجَالِ مِنَ الرَّدَى
فَمَا الْمَالُ إِلَّا مِثْلَ قَصِّ الْأَظَافِرِ
ثم
قلتُ لهما: يا أخويَّ، نحن نقدِّر أن أبانا قد مات في هذا اليوم وخلَّف لنا جميع
هذا المال الذي عندي، وقد طابت نفسي على أننا نقسِّمه بيننا بالسوية. ثم أحضرت
قسَّامًا من طرف القاضي، وأحضرت له جميع مالي، فقسمه بيننا وأخذ كلٌّ منا ثلث
المال، فقلت لهما: يا أخويَّ، بارك الله للإنسان في رزقه إذا كان في بلده، فكل
واحد منكما يفتح له دكانًا ويقعد فيه لتعاطي الأسباب، والذي له شيء في الغيب لا بد
أن يحصِّله. ثم سعيت لكل واحد منهما في فتح دكان، وملأته له بالبضائع، وقلت لهما:
بيعا واشتريا واحفظا أموالكما، ولا تصرفا منها شيئًا، وجميع ما يلزم لكما من أكل
وشرب وغيرهما يكون من عندي، ثم قمت بإكرامهما، وصارا يبيعان ويشتريان في النهار،
وعند المساء يبيتان في بيتي. ولم أدعهما يصرفان شيئًا من أموالهما، وكلما جلستُ
معهما للحديث يمدحان الغربة ويذكران محاسنها ويصفان ما حصل لهما فيها من المكاسب،
ويغرياني على أن أوافقهما على التغرُّب في بلاد الناس. ثم قال للكلبين: هل جرى ذلك
يا أخويَّ؟ فنكَّسا رأسيهما وغضَّا عيونهما تصديقًا له.
ثم
قال: يا خليفة الله، فما زالا يرغِّبانني ويذكران لي كثرة الربح والمكاسب في
الغربة، ويأمرانني بالسفر معهما حتى قلت لهما: لا بد أن أسافر معكما من أجل
خاطركما. ثم إني عقدت الشركة بيني وبينهما، وحملنا قماشًا من سائر الأصناف
النفيسة، واكترينا مركبًا وشحنَّاه بالبضائع من أنواع المتاجر، ونزَّلنا في ذلك
المركب جميع ما نحتاج إليه، ثم سافرنا من مدينة البصرة في البحر العجاج المتلاطم
بالأمواج، الذي الداخل فيه مفقود والخارج منه مولود. ولا زلنا مسافرين حتى طلعنا
إلى مدينة من المدائن، فبعنا واشترينا وظهر لنا كثرة المكسب، ثم رحلنا منها إلى
غيرها، ولم نزل نرحل من بلد إلى بلد ومن مدينة إلى مدينة ونحن نبيع ونشتري حتى صار
عندنا مال جسيم وربح عظيم، ثم إننا وصلنا إلى جبل فألقى الريس المرساة وقال لنا:
يا ركاب، اطلعوا إلى البر تنجوا من هذا اليوم، وفتشوا فيه لعلكم تجدون ماءً. فخرج
جميع مَن في المركب، وخرجت أنا بجملتهم وصرنا نفتِّش على الماء، وتوجَّه كلٌّ منا
في جهة، وصعدت أنا على أعلى الجبل. فبينما أنا سائر إذ رأيت حية بيضاء تسعى هاربة،
ووراءها ثعبان أسود يسعى خلفها وهو مشوَّه الخِلْقة هائل المنظر. ثم إن الثعبان
لحقها وضايقها ومسكها من رأسها ولف ذيله على ذيلها، فصاحت، فعرفت أنه مفترٍ عليها،
فأخذَتْني الشفقة عليها وتناولتُ حجرًا من الصوان قدر خمسة أرطالٍ أو أكثر وضربت
به الثعبان، فجاء في رأسه فدقها، فما أشعر إلا وتلك الحية انقلبت وصارت بنتًا
شابةً ذات حُسْنٍ وجمال، وبهاءٍ وكمال، وقَدٍّ واعتدال، كأنها البدر المنير.
فأقبلتْ عليَّ وقبَّلتْ يدي، ثم قالت لي: ستَرَك الله بسترَيْن؛ سترٍ من العار في
الدنيا، وسترٍ من النار في الآخرة يومَ الموقف العظيم، يومَ لا ينفع مال ولا بنون
إلا مَن أتى الله بقلبٍ سليمٍ. ثم قالت: يا إنسي، أنتَ قد سترتَ عِرْضي وصار لك
عليَّ الجميل ووجب عليَّ جزاؤك. ثم أشارت بيدها إلى الأرض فانشقَّتْ ونزلت فيها،
ثم انطبقت عليها الأرض فعرفت أنها من الجن. وأما الثعبان، فإن النار اتَّقدت فيه
وأحرقته وصار رمادًا، فتعجَّبتُ من ذلك، ثم إني رجعت إلى أصحابي وأخبرتهم بما
رأيت، وبِتنا تلك الليلة، وعند الصباح قلع الريس الخطَّاف ونشر القلوع وطوى
الأطراف، ثم سافرنا حتى غاب البر عنا. ولم نزل مسافرين مدة عشرين يومًا ولم نرَ
برًّا ولا طيرًا، وفرغ ماؤنا. فقال الريس: يا ناس، إن الماء الحلو قد فرغ منا.
فقلنا: نطلع البر لعلنا نجد ماءً. فقال: والله، إني تهت عن الطريق ولا أعرف طريقًا
يوديني إلى جهة البر. فحصل لنا غمٌّ شديدٌ، وبكينا ودعونا الله تعالى أن يهدينا
إلى الطريق، ثم بتنا تلك الليلة في أسوأ حال، ولله درُّ مَن قال:
وَكَمْ
لَيْلَةٍ بِتُّ فِي كُرْبَةٍ يَكَادُ
الرَّضِيعُ لَهَا أَنْ يَشِيبْ
فَمَا
أَصْبَحَ الصُّبْحُ إِلَّا أَتَى مِنَ
اللهِ نَصْرٌ وَفَتْحٌ قَرِيبْ
فلما
أصبح الصباح وأشرق بنوره ولاح، رأينا جبلًا عاليًا، فلما رأينا ذلك الجبل فرحنا
واستبشرنا به، ثم إننا وصلنا إلى ذلك الجبل، فقال الريس: يا ناس، اطلعوا البر حتى
نفتش على ماءٍ. فطلعنا كلنا نفتِّش على ماءٍ، فلم نرَ فيه ماءً، فحصل لنا مشقةٌ
بسبب قلة وجود الماء، ثم إني صعدت على أعلى ذلك الجبل فرأيت خلفه دائرةً واسعةً
مسافة سير ساعة أو أكثر، فناديت أصحابي فأقبلوا عليَّ، فلما أتوا قلت لهم: انظروا
إلى هذه الدائرة التي خلف هذا الجبل، فإني أرى فيها مدينةً عالية البنيان مشيدة
الأركان ذات أسوارٍ وبروج، وروابٍ ومروج، وهي من غير شكٍّ لا تخلو من الماء
والخيرات، فسيروا بنا نمضِ إلى هذه المدينة ونَجِئْ منها بالماء، ونشتري ما نحتاج
إليه من الزاد واللحم والفاكهة ونرجع. فقالوا: نخاف أن يكون أهل هذه المدينة
كفارًا مشركين أعداء الدين، فيقبضوا علينا ونكون أسرى تحت أيديهم أو يقتلونا ونكون
قد تسبَّبنا في قتل أنفسنا حيث أوقعنا أنفسنا في الهلاك وسوء الارتباك، والمغرور
غير مشكور؛ لأنه على خطرٍ من الأسواء، كما قال فيه بعض الشعراء:
مَا
دَامَتِ الْأَرْضُ أَرْضًا وَالسَّمَاءُ سَمَا لَيْسَ الْمُغِرُّ بِمَحْمُودٍ وَإِنْ
سَلِمَا
فنحن
لا نغر بأنفسنا. فقلت لهم: يا ناس، لا حكم لي عليكم، ولكن آخذ أخويَّ وأتوجَّه إلى
هذه المدينة. فقال لي أخواي: نحن نخاف من هذا الأمر، ولا نروح معك. فقلت: أمَّا
أنا فقد عزمتُ على الذهاب إلى هذه المدينة، وتوكَّلت على الله ورضيتُ بما قدَّر
الله عليَّ، فانتَظِراني حتى أذهب إليها وأرجع إليكما. وأدرك شهرزاد الصباح،
فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 982﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن عبد الله قال: فانتظراني حتى أذهب إليها وأرجع إليكما.
ثم تركتهما ومشيت حتى وصلت إلى باب تلك المدينة، فرأيتها مدينةً عجيبةَ البناء
غريبةَ الهندسة، أسوارها عالية وأبراجها محصَّنة وقصورها شاهقة وأبوابها من الحديد
الصيني، وهي مزخرفةٌ منقوشةٌ تدهش العقول. فلما دخلت من الباب رأيتُ دكةً من
الحجر، وهناك رجل قاعد عليها وفي ذراعه سلسلةٌ من النحاس الأصفر، وفي تلك السلسلة
أربعة عشر مفتاحًا، فعرفت أن ذلك الرجل بوَّاب المدينة، والمدينة لها أربعة عشر
بابًا. ثم إني دنوت منه وقلت له: السلام عليكم. فلم يردَّ عليَّ السلام، فسلَّمت
عليه ثانيًا وثالثًا، فلم يرد عليَّ الجواب، فوضعت يدي على كتفه وقلت له: يا هذا،
لأي شيء لم تردَّ السلام؟ هل أنت نائمٌ أو أصم أو غير مسلمٍ حتى تمنع رد السلام؟
فلم يُجبني ولم يتحرَّك، فتأمَّلتُ فيه فرأيته حجرًا، فقلت: إن هذا شيء عجيب، هذا
الحجر مصوَّر بصورة ابن آدم ولم ينقص عنه غير النطق! ثم تركته ودخلت المدينة،
فرأيت رجلًا واقفًا في الطريق، فدنوتُ منه وتأمَّلته فرأيته حجرًا! ثم إني لم أزل
ماشيًا في شوارع تلك المدينة وكلما رأيت إنسانًا أدنو منه وأتأمَّله فأجده حجرًا.
وقابلت امرأةً عجوزًا على رأسها عقدة ثياب مهيَّأة للغسيل، فدنوتُ منها وتأمَّلتها
فرأيتها من الحجر، والعقدة الثياب التي على رأسها من الحجر. ثم إني دخلت السوق
فرأيت زيَّاتًا ميزانه منصوبٌ
وقدامه
أصناف البضائع من الجبن وغيره وكل ذلك من الحجر. ثم إني رأيت سائر المتسببين
جالسين في الدكاكين وبعض الناس واقفٌ وبعض الناس جالسٌ، ورأيت رجالًا ونساءً
وصبيانًا وكل ذلك من الحجر، ثم دخلت سوق التجار فرأيت كل تاجر جالسًا في دكانه،
والدكان كان ممتلئًا بأنواع البضائع، وكل ذلك من الحجر، ولكن الأقمشة كنسيج
العنكبوت، فصرت أتفرج عليها، وكلما مسكت ثوبًا من القماش يصير بين يدي هباءً
منثورًا! ورأيت صناديق، ففتحتُ واحدًا فوجدت فيه
ذهبًا في أكياس، فمسكت الأكياس فذابت في يدي والذهب لم يزل على حاله، فحملت منه
على قدر ما أطيقه، وصرت أقول في نفسي: لو حضر أخواي معي لأخذا من الذهب كفايتهما
وتمتعا من هذه الذخائر التي لا أصحاب لها. وبعد ذلك دخلت دكانًا آخر فرأيت فيه
أكثر من ذلك، ولكن ما بقيت أقدر أن أحمل غير ما حملت. ثم إني خرجت من ذلك السوق
إلى سوق آخَر، ثم منه إلى سوقٍ آخر وهكذا، ولا زلت أتفرج على مخلوقاتٍ مختلفة
الأشكال وكلها من الحجارة، حتى الكلاب والقطط من الحجارة! ثم إني دخلت سوق الصاغة
فرأيت فيه رجالًا جالسين في الدكاكين، والبضائع عندهم بعضها في أيديهم وبعضها في
أقفاص، فلما رأيت ذلك يا أمير المؤمنين رميت ما كان معي من الذهب وحملت من المصاغ
ما أطيق حمله، وخرجت من سوق الصاغة إلى سوق الجواهر، فرأيت الجوهرية جالسين في
دكاكينهم وقدام كل واحد منهم قفصٌ ملآنٌ بأنواع المعادن كالياقوت والألماس والزمرد
والبلخش وغير ذلك من سائر الأصناف، وأصحاب الدكاكين أحجارٌ، فرميتُ ما كان معي من
المصاغ وحملت من الجواهر ما أطيق حمله، وبقيت أتندَّم حيث لم يكن أخواي معي حتى
يأخذا من تلك الجواهر ما أراداه. ثم إني خرجت من سوق الجواهر فمررت على بابٍ كبيرٍ
مزخرف مزين بأحسن زينة، ومن داخل الباب دكك، وجالس على تلك الدكك خدَّامٌ وجندٌ
وأعوانٌ وعساكرٌ وحكَّامٌ وهم لابسون أفخر الملابس، وكلهم أحجار، فلمست واحدًا
منهم فتناثرت ملابسه على بدنه مثل نسيج العنكبوت. ثم إني مشيت في ذلك الباب فرأيت
سراية ليس لها نظير في بنائها وإحكام صنايعها، ورأيت في تلك السراية ديوانًا
مشحونًا بالأكابر والوزراء والأعيان والأمراء وهم جالسون على كراسي وكلهم أحجار،
ثم إني رأيت كرسيًّا من الذهب الأحمر مرصَّعًا بالدر والجواهر، وجالسٌ فوقه آدمي
عليه أفخر الملابس، وعلى رأسه تاج كسروي مكلَّل بنفيس الجواهر التي لها شعاعٌ مثل
شعاع النهار، فلما وصلت إليه رأيته من الحجر، ثم إني توجَّهت من ذلك الديوان إلى
باب الحريم، ودخلت فيه فرأيت ديوانًا من النساء، ورأيت في ذلك الديوان كرسيًّا من
الذهب الأحمر مرصَّعًا بالدر والجواهر وجالس فوقه امرأةٌ مَلِكة وعلى رأسها تاجٌ
مكلَّلٌ بنفيس الجواهر وحولها نساء مثل الأقمار جالساتٍ على كراسي ولابسات أفخر
الملابس الملونة بسائر الألوان، وواقف هناك طواشيةٌ أيديهم على صدورهم كأنهم
واقفون من أجل الخدمة، وذلك الديوان يدهش عقول الناظرين بما فيه من الزخرفة وغريب
النقش وعظيم الفرش، ومعلقٌ فيه أبهج التعاليق من البلور الصافي، وفي كل قدرة من
البلور جوهرة يتيمة لا يفي بثمنها مال، فرميت ما معي يا أمير المؤمنين وصرت آخذ من
هذه الجواهر، وحملت منها على قدر ما أطيق وبقيت متحيرًا فيما أحمله وفيما أتركه؛
لأني رأيت ذلك المكان كأنه كنز من كنوز المدن. ثم إني رأيت بابًا صغيرًا مفتوحًا
وفي داخله سلالم، فدخلت ذلك الباب وطلعت أربعين سلمًا، فسمعت إنسانًا يتلو القرآن
بصوت رخيم، فمشيت جهة ذلك الصوت حتى وصلت إلى باب القصر، فرأيت ستارة من الحرير
مصفحة بشرائط من الذهب ومنظوم فيها اللؤلؤ والمرجان والياقوت وقطع الزمرد،
والجواهر فيه تضيء كضوء النجوم، والصوت خارج من تلك الستارة، فدنوت من الستارة
ورفعتها، فظهر لي باب قصرٍ مزخرفٍ يحيِّر الأفكار، فدخلت من ذلك الباب فرأيت قصرًا
كأنه كنزٌ على وجه الدنيا، ومن داخله بنتٌ كأنها الشمس الضاحية في وسط السماء
الصاحية، وهي لابسة أفخر الملابس ومتحلية بأنفس ما يكون من الجواهر، مع أنها بديعة
الحُسْن والجمال، بقدٍّ واعتدال، وظرفٍ وكمال، وخصرٍ نحيل، وردفٍ ثقيل، وريقٍ يشفي
العليل، وأجفان ذات اعتدال، كأنها المُرَادة بقولِ مَن قال:
سَلَامٌ
عَلَى مَا فِي الثِّيَابِ مِنَ الْقَدِّ وَمَا فِي بَسَاتِينِ الْخُدُودِ مِنَ
الْوَرْدِ
كَأَنَّ
الثُّرَيَّا عُلِّقَتْ فِي جَبِينِهَا
وَبَاقِي نُجُومِ اللَّيْلِ فِي الصَّدْرِ كَالْعِقْدِ
فَلَوْ
لَبِسَتْ ثَوْبًا مِنَ الْوَرْدِ خَالِصًا
لَأَدْمَى مَجَانِي جِسْمِهَا وَرَقُ الْوَرْدِ
وَلَوْ
تَفَلَتْ فِي الْبَحْرِ وَالْبَحْرُ مَالِحٌ لَأَصْبَحَ طَعْمُ الْبَحْرِ أَحْلَى
مِنَ الشَّهْدِ
وَلَوْ
وَاصَلَتْ شَيْخًا كَبِيرًا عَلَى عَصًا
لَأَصْبَحَ ذَاكَ الشَّيْخُ مُفْتَرِسَ الْأُسْدِ
ثم
إنه قال: يا أمير المؤمنين، لما رأيت تلك البنت شُغِفتُ بها حبًّا، وتقدَّمتُ
إليها فرأيتها جالسةً على مرتبةٍ عاليةٍ وهي تتلو كتابَ الله عز وجل حفظًا على ظهر
قلبها، وصوتها كأنه صرير أبواب الجنان إذا فتحها رضوان، والكلام خارجٌ من بين
شفتيها يتناثر كالجواهر، ووجهها ببديع المحاسن زاهٍ وزاهر، كما قال في مثلها
الشاعر:
يَا
مُطْرِبًا بِلُغَاتِهِ وَصِفَاتِهِ قَدْ
زَادَ فِيكَ تَشَوُّقِي وَتَشَوُّفِي
شَيْئَانِ
فِيكَ ذَوَّبَا أَهْلَ الْهَوَى نَغَمَاتُ
دَاوُدَ وَصُورَةُ يُوسُفِ
فلما
سمعتُ نغماتها في تلاوة القرآن العظيم، وقد قرأ قلبي من فاتك لحظاتها: سلامٌ قولًا
من رب رحيم، تلجلجتُ في الكلام ولم أُحسِن السلام، واندهش مني العقل والناظر، وصرت
كما قال الشاعر:
مَا
هَزَّنِي الشَّوْقُ حَتَّى تِهْتُ عَنْ كَلِمِي وَمَا دَخَلْتُ الْحِمَى إِلَّا لِسَفْكِ
دَمِي
وَلَا
سَمِعْتُ كَلَامًا مِنْ عَوَاذِلِنَا
إِلَّا لَأُشْهِدَ مَنْ أَهْوَاهُ فِي الْكَلِمِ
ثم
تجلَّدتُ على هول الغرام وقلت لها: السلام عليكِ أيتها السيدة المصونة والجوهرة
المكنونة، أدام الله قوائم سعدك ورفع دعائم مجدك. فقالت: وعليكَ مني السلام
والتحية والإكرام يا عبد الله يا ابن فاضل، أهلًا وسهلًا ومرحبًا بك يا حبيبي وقرة
عيني. فقلت لها: يا سيدتي، من أين علمتِ اسمي؟ ومَن تكونين أنتِ؟ وما شأن أهل هذه
المدينة حتى صاروا أحجارًا؟ فمرادي أن تخبريني بحقيقة الأمر، فإني تعجَّبتُ من هذه
المدينة ومن أهلها ومن كونها لم يوجد فيها أحد إلا أنتِ. فبالله عليكِ أن تخبريني
بحقيقة ذلك على وجه الصدق. فقالت لي: اجلس يا عبد الله وأنا إن شاء الله تعالى
أُحدِّثك وأخبرك بحقيقة أمري وبحقيقة أمر هذه المدينة وأهلها على التفصيل، ولا حول
ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فجلست إلى جانبها، فقالت لي: اعلم يا عبد الله - يرحمك
الله - أنني بنت ملك هذه المدينة، ووالدي هو الذي رأيتَه جالسًا في الديوان على
الكرسي العالي، والذين حوْلَه أكابرُ دولته وأعيان مملكته. وكان أبي ذا بطش شديد،
ويحكم على ألف ألف ومائة ألف وعشرين ألف جندي وعدة أمراء، دولته أربعة وعشرون
ألفًا، كلهم حكَّام وأصحاب مناصب، وتحت طاعته من المدن ألفُ مدينةٍ غير البلدان
والضياع والحصون والقلاع والقرى، وأمراء العربان الذين تحت يده ألف أمير، كل أمير
يحكم على عشرين ألف فارسٍ، وعنده من الأموال والذخائر والمعادن والجواهر ما لا عين
رأت ولا أذن سمعت. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 983﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن بنت ملك مدينة الأحجار قالت: يا عبد الله، إن أبي كان
عنده من الأموال والذخائر ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت، وكان يَقهر الملوك ويبيد
الأبطال والشجعان في الحرب وحومة الميدان، وتخشاه الجبابرة وتخضع له الأكاسرة، ومع
ذلك كان كافرًا مشركًا بالله يعبد الصنم دون مولاه، وجميع عساكره كفارٌ يعبدون
الأصنام دون الملك العلَّام. فاتفق أنه كان يومًا من الأيام جالسًا على كرسي
مملكته وحوله أكابر دولته، فلم يشعر إلا وقد دخل عليه شخص فأضاء الديوان من نور وجهه،
فنظر إليه أبي فرآه لابسًا حلة خضراء، وهو طويل القامة وأياديه نازلةٌ إلى تحت
ركبتيه، وعليه هيبةٌ ووقارٌ، والنور يلوح من وجهه. فقال لأبي: يا باغي! يا مفتري!
إلى متى وأنت مغرور بعبادة الأصنام وتترك عبادة الملك العلَّام؟ قُلْ أشهد أن لا
إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وأَسْلِم أنت وقومك ودَعْ عنك عبادة
الأصنام؛ فإنها لا تنفع ولا تشفع، ولا يُعبَد بحق إلا الله رافع السموات بغير عماد
وباسط الأرضين رحمةً للعباد. فقال له: مَن أنت أيها الرجل الجاحد لعبادة الأصنام
حتى تتكلم بهذا الكلام؟ أَمَا تخشى أن تغضب عليك الأصنام؟ فقال له: إن الأصنام
أحجارٌ لا يضرُّني غضبها ولا ينفعني رضاها، فأحضِر لي صنمك الذي أنت تعبده وَأْمر
كل واحدٍ من قومك أن يُحضِر صنمَه، فإذا حضر جميع أصنامكم فادعوهم ليغضبوا عليَّ
وأنا أدعو ربي أن يغضب عليهم، وتنظرون غضب الخالق من غضب المخلوق؛ فإن أصنامكم قد
صنعتموها أنتم وتلبَّست بها الشياطين، وهم الذين يكلِّمونكم من داخل بطون الأصنام،
فأصنامكم مصنوعةٌ وإلهي صانع، ولا يُعجِزه شيءٌ، فإن ظهر لكم الحق فاتبعوه، وإن
ظهر لكم الباطل فاتركوه. فقالوا له: ائتنا ببرهان ربك حتى نراه! فقال: ائتوني
ببراهين أربابكم. فأمر الملك كلُّ مَن كان يعبد ربًّا من الأصنام أن يأتي به،
فأحضر جميع العساكر أصنامهم في الديوان.
هذا
ما كان من أمرهم، وأما ما كان من أمري، فإني كنت جالسةً في داخل ستارةٍ تُشرف على
ديوان أبي، وكان لي صنمٌ من زمردة خضراء جسمه قدر جسم ابن آدم، فطلبه أبي فأرسلته
إليه في الديوان، فوضعوه في جانب صنم أبي، وكان صنم أبي من الياقوت وصنم الوزير من
جوهر الألماس، وأما أكابر العساكر والرعية فبعض أصنامهم من البلخش، وبعضها من
العقيق، وبعضها من المرجان، وبعضها من العود القماري، وبعضها من الأبنوس، وبعضها
من الفضة، وبعضها من الذهب، وكل واحدٍ منهم له صنمٌ على قدر ما تسمح به نفسه. وأما
رعاع العساكر والرعية فبعض أصنامهم من الصوان، وبعضها من الخشب، وبعضها من الفخار،
وبعضها من الطين، وكل الأصنام مختلفة الألوان ما بين أصفر وأحمر وأخضر وأسود
وأبيض. ثم قال ذلك الشخص لأبي: ادعُ صنمك وهؤلاء الأصنام تغضب عليَّ. فصفوا تلك
الأصنام ديوانًا وجعلوا صنم أبي على كرسي من الذهب، وصنمي إلى جانبه في الصدر، ثم
رتَّبوا الأصنام كلٌّ منها في مرتبة صاحبه الذي يعبده، وقام أبي وسجد لصنمه وقال
له: يا إلهي، أنت الرب الكريم، وليس في الأصنام أكبر منك، وأنت تعلم أن هذا الشخص
أتاني طاعنًا في ربوبيتك مستهزئًا بك، ويزعم أن له إلهًا أقوى منك، ويأمرنا أن
نترك عبادتك ونعبد إلهه، فاغضب عليه يا إلهي. وصار يطلب من الصنم والصنم لا يرد
عليه جوابًا ولا يخاطبه بخطاب. فقال له: يا إلهي، ما هذه عادتك؛ لأنك كنتَ تكلِّمني
إذا كلَّمتك، فما لي أراك ساكتًا لا تتكلم؟ هل أنت غافلٌ أو نائمٌ؟ فانتبِهْ
وانصرني وكلِّمني. ثم هزَّه بيده فلم يتكلَّم، ولم يتحرك من مكانه. فقال ذلك الشخص
لأبي: ما لي أرى صنمك لا يتكلم؟ قال له: أظن أنه غافلٌ أو نائم. فقال له: يا عدو
الله، كيف تعبد إلهًا لا ينطق وليس له قدرةٌ على شيءٍ، ولا تعبد إلهي الذي هو
قريبٌ مجيب، وحاضرٌ لا يغيب، ولا يغفل ولا ينام، ولا تُدرِكه الأوهام، يَرى ولا
يُرى وهو على كل شيءٍ قدير؟ وإلهك عاجزٌ لا يقدر على دفع الضرر عن نفسه، وقد كان
ملتبسًا به شيطان رجيمٌ يضلِّك ويغويك، وقد ذهب الآن شيطانه، فاعبد الله واشهد أنه
لا إله إلا هو ولا معبود سواه، وأنه لا يستحق العبادة غيره، ولا خير إلا خيره.
وأما إلهك هذا فإنه لا يقدر على دفع الشر عن نفسه، فكيف يقدر على دفعه عنك؟ فانظر
بعينك عجزه. ثم تقدَّم وصار يصكه على رقبته حتى وقع على الأرض. فغضب الملك وقال
للحاضرين: إن هذا الجاحد قد صكَّ إلهي فاقتلوه. فأرادوا القيام ليضربوه فلم يقدر
أحد منهم أن يقوم من مكانه، فعرض عليهم الإسلام فلم يسلموا، فقال: أريكم غضب ربي؟
فقالوا: أرِنا. فبسط يديه وقال: إلهي وسيدي، أنت ثقتي ورجائي، فاستجب دعائي على
هؤلاء القوم الفجَّار الذين يأكلون خيرك ويعبدون غيرك، يا حق يا جبار يا خالق
الليل والنهار، أسألك أن تقْلِب هؤلاء القوم أحجارًا؛ فإنك قادرٌ ولا يُعجِزك شيءٌ
وأنت على كل شيءٍ قدير. فمسخ الله أهل هذه المدينة أحجارًا. وأما أنا، فإني حين
رأيتُ برهانه أسلمتُ وجهي لله فسَلِمتُ مما أصابهم. ثم إن ذلك الشخص دنا مني وقال:
سبقتْ لكِ من الله السعادة، ولله في ذلك إرادة. وصار يعلِّمني، وأخذت عليه العهد
والميثاق، وكان عمري سبع سنين في ذلك الوقت، وفي هذا الوقت صار عمري ثلاثين عامًا.
ثم
إني قلت له: يا سيدي، جميع ما في هذه المدينة وجميع أهلها صاروا أحجارًا بدعوتك
الصالحة، وقد نجوتُ أنا حين أسلمتُ على يدَيْك، فأنت شيخي، فأخبرني باسمك ومُدَّني
بمددك وتصرَّف لي في شيء أقتات منه. فقال لي: اسمي أبو العباس الخضر. ثم غرس لي
شجرةً من الرُّمان بيده، فكبرت وأورقت وأزهرت وأثمرت رمانة واحدة في الحال، فقال:
كُلِي مما رزقك الله تعالى، واعبديه حق عبادته. ثم علَّمني شروط الإسلام وشروط
الصلاة وطريق العبادة، وعلَّمني تلاوة القرآن، وصار لي ثلاثة وعشرون عامًا وأنا
أعبد الله في هذا المكان، وفي كل يومٍ تطرح لي هذه الشجرة رمانةً فآكلها وأقتات
بها من الوقت إلى الوقت، والخضر عليه السلام يأتيني كلَّ جمعةٍ، وهو الذي عرَّفني
باسمك وبشَّرني بأنك سوف تأتيني في هذا المكان، وقد قال لي: إذا أتاكِ فأكرميه
وأطِيعي أمره ولا تخالفيه، وكوني له أهلًا ويكون لكِ بعلًا، واذهبي معه حيث شاء.
فلما رأيتُك عرفتك، وهذا هو خبر هذه المدينة وأهلها والسلام.
ثم
إنها أرتني شجرة الرمان وفيها رمانة، فأكلتْ نصفها وأطعمَتْني نصفها، فما رأيت
أحلى ولا أزكى ولا أطعم من تلك الرمانة، ثم قلت لها: هل رضيتِ بما أمرك به شيخك
الخضر عليه السلام بأن تكوني لي أهلًا وأكون لك بعلًا وتذهبي معي إلى بلادي وأمكث
بكِ في مدينة البصرة؟ فقالت: نعم، إن شاء الله تعالى، فإني سميعةٌ لقولك مطيعةٌ
لأمرك من غير خلافٍ. ثم إني أخذت عليها العهد الوثيق، وأدخلَتْني إلى خزانة أبيها
وأخذنا منها على قدر ما استطعنا حمله، وخرجنا من تلك المدينة ومشينا حتى وصلنا إلى
أخويَّ، فرأيتهما يفتِّشان عليَّ، فقالا لي: أين كنتَ؟ فإنك أبطأت علينا وقلبُنا
مشغولٌ بك. وأما رئيس المركب فإنه قال لي: يا تاجر عبد الله، إن الريح طاب لنا من
مدةٍ وأنت عوَّقتنا عن السفر. فقلت له: لا ضررَ في ذلك، ولعل التأخير خيرٌ؛ لأن
غيابي لم يكن فيه غير الإصلاح، وقد حصل لي فيه بلوغ الآمال، ولله درُّ مَن قال:
وَمَا
أَدْرِي إِذَا يَمَّمْتُ أَرْضًا أُرِيدُ
الْخَيْرَ أَيُّهُمَا يَلِينِي
هَلِ
الْخَيْرُ الَّذِي أَنَا أَبْتَغِيهِ
أَمِ الشَّرُّ الَّذِي هُوَ يَبْتَغِينِي
ثم
قلت لهم: انظروا ما حصل لي في هذه الغيبة! وفرَّجتهم على ما معي من الذخائر،
وأخبرتهم بما رأيت في مدينة الحجر، وقلت لهم: لو كنتم أطعتموني ورحتم معي كان يحصل
لكم من هذا شيءٌ كثيرٌ. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 984﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن عبد الله بن فاضل قال لهم ولأخويه: لو رحتم معي لحصل
لكم من هذا خير كثير. فقالوا له: والله، لو رحنا ما كنا نسترجي أن ندخل على ملك
المدينة. فقلت لأخويَّ: لا بأس عليكما، فالذي معي يكفينا جميعًا، وهذا نصيبنا. ثم
إني قسمت ما معي أقسامًا على قد الجميع، وأعطيت لأخويَّ والريس، وأخذت مثل واحدٍ
منهم، وأعطيت ما تيسَّر للخدامين والنوتية، ففرحوا ودعوا لي ورضوا بما أعطيته لهم
إلا أخويَّ، فإنهما تغيَّرتْ أحوالهما ولاجت عيونهما، فلحظتُ أن الطمع تمكَّنَ
منهما، فقلت لهما: يا أخويَّ، أظن أن الذي أعطيته لكما لم يقنعكما، ولكن أنا
أخوكما وأنتما أخواي ولا فرق بيني وبينكما، ومالي ومالكما شيءٌ واحدٌ، وإذا مت لا
يرثني غيركما. وصرت آخذ بخاطرهما، ثم إني أنزلت البنت في الغليون وأدخلتها في
الخزنة، وأرسلت لها شيئًا تأكله، وقعدت أتحدث أنا وأخواي، فقالا لي: يا أخانا، ما
مرادك تفعل بهذه البنت البديعة الجمال؟ فقلت لهما: مرادي أن أكتب كتابي عليها إذا
دخلت البصرة، وأعمل فرحًا عظيمًا وأدخل بها هناك. فقال أحدهما: يا أخي، اعلم أن
هذه الصبية بديعة الحُسْن والجمال، وقد وقعتْ محبتها في قلبي، فمرادي أن تعطيها لي
فأتزوَّج بها أنا. وقال الثاني: وأنا الآخر كذلك، فأعطِها لي لأتزوَّج بها. فقلت
لهما: يا أخويَّ، إنها قد أخذت عليَّ عهدًا وميثاقًا أني أتزوج بها، فإذا أعطيتها
لواحد منكما أكون ناقضًا للعهد الذي بيني وبينها، وربما يحصل لها كسر خاطرٍ؛ لأنها
ما أتت معي إلا على شرط أني أتزوَّج بها، فكيف أزوِّجها لغيري؟ وأمَّا من جهة
أنكما تحبَّانها، فأنا أحبها أكثر منكما، على أنها لُقَطتي، وكوني أعطيها لواحدٍ
منكما هذا شيءٌ لا يكون أبدًا، ولكن إذا دخلنا مدينة البصرة بالسلامة، أنظر لكما
بنتين من خيار بنات البصرة وأخطبهما لكما وأدفع المهر من مالي، وأجعل الفرح
واحدًا، وندخل نحن الثلاثة في ليلةٍ واحدةٍ، وأعرِضَا عن هذه البنت؛ فإنها من
نصيبي. فسكتا، وقد ظننتُ أنهما رضيا بما قلت لهما. ثم إننا سافرنا متوجِّهين إلى
أرض البصرة، وصرتُ أرسل إليها ما تأكل وما تشرب وهي لا تخرج من خزنة المركب، وأنا
أنام بين أخويَّ على ظهر الغليون. ولم نزل مسافرين على هذه الحالة مدة أربعين
يومًا حتى بانت لنا مدينة البصرة، ففرحنا بإقبالنا عليها وأنا راكنٌ إلى أخويَّ
ومطمئنٌ بهما، ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى، فنمت تلك الليلة.
فبينما
أنا مستغرقٌ في النوم لم أشعر إلا وأنا محمولٌ بين أيادي أخويَّ هذين؛ واحدٌ قابض
عليَّ من سيقاني والآخر من يدي؛ لكونهما اتفقا على تغريقي في البحر من شأن تلك
البنت. فلما رأيت روحي محمولًا بين أيديهما قلت: يا أخويَّ، لأي شيء تفعلان معي
هذه الفعال؟ فقالا: يا قليل الأدب، كيف تبيع خاطرنا ببنت؟ فنحن نرميك في البحر من
أجل ذلك. ثم رموني فيه. ثم إنه التفت إلى الكلبين وقال: أحقٌّ ما قلته يا أخويَّ
أم لا؟ فنكَّسا رأسيهما وصارا يعويان كأنهما يُصدِقان قوله. فتعجَّب الخليفة من
ذلك.
ثم
قال: يا أمير المؤمنين، فلما رموني في البحر وصلت إلى القرار، ثم نفضني الماء على
وجه البحر، فما أشعر إلا وطائرٌ كبيرٌ قدر الآدمي نزل عليَّ وخطفني وطار بي في
الجو الأعلى، ففتحت عيني فرأيت روحي في قصر مشيد الأركان عالي البنيان منقوش
بالنقوشات الفاخرة، وفيه تعاليق الجواهر من سائر الأشكال والألوان، وفيه جوارٍ
واقفة واضعة الأيادي على الصدور، وإذا بامرأةٍ جالسةٍ بينهن على كرسي من الذهب
الأحمر مرصَّعٍ بالدر والجوهر، وعليها ملابس لا يقدر الإنسان أن يفتح عينه فيها من
شدة ضياء الجواهر، وفي وسطها حزامٌ من الجواهر لا يفي بثمنه مال، وعلى رأسها تاجٌ
ثلاث دوراتٍ يحيِّر العقول والأفكار ويخطف القلوب والأبصار. ثم إن الطير الذي كان
خطفني انتفض فصار صبيَّةً كأنها الشمس المضيئة، فأمعنت النظر فيها فإذا هي التي
كانت في الجبل بصفة حيَّةٍ وكان الثعبان يقاتلها ولفَّ ذيله على ذيلها، وأنا حين
رأيت الثعبان قهرها وغلب عليها قتلته بالحجر. فقالت لها المرأة التي هي جالسةٌ على
الكرسي: لأي شيءٍ جئتِ هنا بهذا الإنسي؟ فقالت لها: يا أمي، إن هذا هو الذي كان
سببًا في ستر عِرْضي بين بنات الجان. ثم قالت لي: هل تعرف مَن أنا؟ قلت: لا. قالت:
أنا التي كنت في الجبل الفلاني وكان الثعبان الأسود يقاتلني ويريد هتك عرضي وأنت
قتلته. فقلت: إنما رأيت مع الثعبان حيَّةً بيضاء. فقالت: أنا التي كنت حيَّة
بيضاء، ولكني بنت الملك الأحمر ملك الجان، واسمي سعيدة، وهذه الجالسة هي أمي
واسمها مباركة، زوجة الملك الأحمر، والثعبان الذي كان يقاتلني ويريد هتك عِرْضي هو
وزير الملك الأسود واسمه درفيل، وهو قبيح الخِلْقة. واتفق أنه لما رآني عشقني، ثم
إنه خطبني من أبي، فأرسل إليه أبي يقول له: وما مقدارك يا قطاعة الوزراء حتى
تتزوَّج بنات الملوك؟! فاغتاظ من ذلك وحلف يمينًا أنه لا بد أن يفضح عِرْضي كيدًا
في أبي، وصار يقفو أثري، ويتبعني أينما رُحت، ومراده أن يفضح عِرْضي، وقد وقع بينه
وبين أبي حروبٌ عظيمةٌ ومشقَّاتٍ جسيمةٍ، ولم يقدر عليه أبي لكونه جبَّارًا
مكَّارًا. ثم إن أبي كلما ضايَقَه وأراد أن يظفر به يهرب منه، وقد عجز أبي وصرتُ
أنا في كل يومٍ أنقلب أشكالًا وألوانًا، وكلما أنقلب في صفةٍ ينقلب هو في صفةٍ
ضدها، وكلما هربتُ إلى أرض يشم رائحتي ويلحقني في تلك الأرض حتى قاسيت منه مشقةً
عظيمةً، ثم انقلبت في صفة حية وذهبت إلى ذلك الجبل، فانقلب في صفة ثعبان وتبعني
فيه، فوقعتُ في يده وعالجني وعالجته حتى أتعبني وركب عليَّ، وكان مراده أن يفعل بي
ما يشتهيه، فأتيتَ أنت وضربتَه بالحجر فقتلتَه، وأنا انقلبت بنتًا وأريتُك روحي
وقلت لك: إنه صار لك عليَّ جميلٌ لا يضيع إلا مع أولاد الزنا. فلما رأيت أخوَيْك
فعلَا بك هذه المكيدة، ورمياك في البحر، بادرتُ إليك وخلَّصتك من الهلاك، ووجب لك
الإكرام من أمي وأبي. ثم إنها قالت: يا أمي، أكرميه في نظير ما ستر عِرْضي. فقالت:
مرحبًا بك يا إنسي، فإنك فعلتَ معنا جميلًا وتستحق عليه الإكرام. وأمرتْ لي ببدلة
كنوزية تساوي جملةً من المال، وأعطتني جملةً من الجواهر والمعادن، ثم إنها قالت:
خذوه وأدخلوه على الملك. فأخذوني وأدخلوني على الملك في الديوان، فرأيته جالسًا
على كرسي وبين يدَيْه المَرَدة والأعوان، فلما رأيتُه زاغ بصري مما رأيته عليه من
الجواهر، فلما رآني قام على الأقدام وقامت العساكر إجلالًا له، ثم حيَّاني ورحَّب
بي وأكرمني غاية الإكرام، وأعطاني مما عنده من الخيرات. وبعد ذلك قال لبعض أتباعه:
خذوه إلى بنتي توصله إلى المكان الذي جاءت منه. فأخذوني وذهبوا إلى سعيدة بنته،
فحملتني، ثم طارت بي وبما معي من الخيرات.
هذا
ما كان من أمري وأمر سعيدة، وأما ما كان من أمر ريِّس الغليون، فإنه أفاق على
الخبطة حين رموني في البحر، فقال: ما الذي وقع في البحر؟ فبكى أخواي وصارا يخبطان
على صدورهما ويقولان: يا ضيعة أخينا! فإنه أراد أن يزيل ضرورةً في جانب الغليون
فوقع في البحر! ثم إنهما وضعا أيديهما على مالي، ووقع بينهما الاختلاف من جهة
البنت، وصار كل واحد منهما يقول: ما يأخذها غيري! واستمرَّا على الخصام مع بعضهما
ولم يتذكرا أخاهما ولا غرقه، وزال حزنهما عليه. فبينما هما في هذه الحالة، وإذا
بسعيدة نزلت بي في وسط الغليون. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 985﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن عبد الله بن فاضل قال: فبينما هما في هذه الحالة،
وإذا بسعيدة نزلت بي في وسط الغليون، فرآني أخواي فعانقاني وفرحا بي وصارا يقولان:
يا أخانا، كيف حالك فيما جرى لك؟ إن قلبنا مشغولٌ عليك. فقالت سعيدة: لو كان
قلبكما عليه أو كنتما تحبانه ما كنتما رميتماه في البحر وهو نائمٌ، ولكن اختارا
لكما موتةً تموتانها. وقبضت عليهما وأرادت قتلهما، فصاحا وقالا: في عرضك يا أخانا!
فصرت أتداخل عليها وأقول لها: أنا واقع في عِرْضك، لا تقتلي أخويَّ! وهي تقول: لا
بد من قتلهما؛ إنهما خائنان. فما زلت ألاطفها وأتعطَّفها حتى قالت: من شأن خاطرك
لا أقتلهما، ولكن أسحرهما. ثم أخرجت طاسةً وحطَّت فيها ماءً من ماء البحر،
وتكلَّمت عليها بكلامٍ لا يُفهَم، وقالت: اخرجا من الصورة البشرية إلى الصورة
الكلبية. ثم رشَّتهما بالماء فانقلبا كلبين كما تراهما يا خليفة الله. ثم التفت
إليهما وقال: أحقٌّ ما قلته يا أخويَّ؟ فنكَّسا رأسيهما كأنهما يقولان: صدقتَ. ثم
قال: يا أمير المؤمنين، وبعد أن سحرتهما كلبَيْن قالت لمَن كان في الغليون: اعلموا
أن عبد الله بن فاضل هذا صار أخي، وأنا أشق عليه كل يومٍ مرةً أو مرتين، وكل مَن
خالَفَه منكم أو عصى أمره وآذاه باليد أو اللسان فإني أفعل به ما فعلت بهذين
الخائنين وأسحره كلبًا حتى ينقضي عمره وهو في صورة الكلب ولا يجد له خلاصًا. فقال
لها الجميع: يا سيدتنا، نحن كلنا عبيده وخَدَمه ولا نخالفه. ثم إنها قالت لي: إذا
دخلت البصرة فتفقَّد جميع ما لك، فإن كان نقص منه شيء فأعلِمْني وأنا أجيء لك به
من أي شخصٍ كان ومن أي مكان كان، ومَن كان آخذًا له أسحره كلبًا. ثم بعد أن تخزِّن
أموالك حطَّ في رقبة كل واحد من هذين الخائنين غلًّا واربطهما في ساق السرير،
واجعلهما في سجنٍ وحدهما، وكل ليلةٍ في نصف الليل انزل إليهما واضرب كل واحدٍ
منهما علقةً حتى يغيب عن الوجود، وإن مضت ليلةٌ ولم تضربهما فإني أجيء إليك وأضربك
علقةً وبعد ذلك أضربهما. فقلت لها: سمعًا وطاعةً. ثم إنها قالت لي: اربطهما في
الحبال حتى تدخل البصرة. فحطَطْتُ في رقبة كل واحدٍ منهما حبلًا، ثم ربطتهما في
الصاري، وتوجَّهتْ هي إلى حال سبيلها. وفي ثاني يومٍ دخلنا البصرة وطلع التجار
لمقابلتي، وسلَّموا عليَّ ولم يسأل أحدٌ عن أخويَّ، وإنما صاروا ينظرون إلى الكلاب
ويقولون لي: يا فلان، ماذا تصنع بهذين الكلبين اللذين جئتَ بهما معك؟ فأقول لهم:
إني ربَّيتهما في هذه السفرة وجئت بهما معي. فيضحكون عليهما ولم يعرفوا أنهما
أخواي.
ثم
إني حطَطْتُهما في خزنة والتهيت تلك الليلة في توزيع الأحمال التي فيها القماش
والمعادن، وكان عندي التجار لأجل السلام، فاشتغلت بهم ولم أضربهما، ولم أربطهما
بالسلاسل، ولم أعمل معهما ضررًا، ثم نمت، فما أشعر إلا وقد أتتني سعيدة بنت الملك
الأحمر وقالت لي: أَمَا قلتُ لك حطَّ في رقابهما السلاسل واضرب كل واحدٍ منهما
علقةً؟! ثم إنها قبضت عليَّ وأخرجت السوط وضربتني علقةً حتى غبت عن الوجود، وبعد
ذلك ذهبتْ إلى المكان الذي فيه أخواي وضربت كلَّ واحدٍ منهما علقة بالسوط حتى أشرف
على الموت، وقالت: كل ليلةٍ اضرب كل واحدٍ منهما علقةً مثل هذه العلقة، وإن مضت
ليلةٌ ولم تضربهما فأنا أضربك. فقلت: يا سيدتي، في غدٍ أحط السلاسل في رقابهما،
والليلة الآتية أضربهما ولا أرفع الضرب عنهما ليلةً واحدةً. فأكَّدتْ عليَّ في
الوصية بضربهما.
فلما
أصبح الصباح لم يهُن عليَّ أن أضع السلاسل في رقابهما، فذهبت إلى صائغٍ وأمرته أن
يعمل لهما غلَّيْن من الذهب، فعملهما وجئتُ بهما ووضعتهما في رقابهما وربطتهما كما
أمرَتْني. وفي ثاني ليلةٍ ضربتهما قهرًا عني، وكانت هذه الحركة في مدة خلافة
المهدي الخامس من بني العباس، وقد اصطحبت معه بإرسال الهدايا، فقلَّدني ولايةً
وجعلني نائبًا في البصرة، ودمت على هذه الحالة مدةً من الزمان. ثم إني قلت في
نفسي: لعل غيظها قد برد. فتركتهما ليلةً من غير ضربٍ، فأتتني وضربتني علقةً لم
أنسَ حرارتها بقية عمري. فمن ذلك الوقت لم أقطع عنهما الضرب مدةَ خلافة المهدي،
ولما تُوفِّي المهدي توليتَ أنت بعده وأرسلت إليَّ تقرير الاستمرار على مدينة
البصرة، وقد مضى لي اثنا عشر عامًا وأنا في كل ليلةٍ أضربهما قهرًا عني، وبعدما
أضربهما آخذ بخاطرهما وأعتذر إليهما وأطعمهما وأسقيهما وهما محبوسان، ولم يعلم
بهما أحدٌ من خلق الله تعالى حتى أرسلتَ إليَّ أبا إسحاق النديم من أجل الخراج،
فاطَّلَعَ على سري ورجع إليك فأخبرك، فأرسلته ثانيًا تطلبني وتطلبهما، فأجبت
بالسمع والطاعة وأتيت بهما بين يديك، ولما سألتني عن حقيقة الأمر أخبرتك بالقصة،
وهذه حكايتي.
فعند
ذلك تعجَّب الخليفة هارون الرشيد من حال هذين الكلبين، ثم قال: وهل أنتَ في هذه
الحالة سامحتَ أخوَيْك مما صدر منهما في حقك وعفوت عنهما أم لا؟ فقال: يا سيدي،
سامحهما الله وأبرأ ذمتهما في الدنيا والآخرة، وأنا محتاجٌ لكونهما يسامحانني؛
لأنه مضى لي اثنا عشر عامًا وأنا أضربهما كل ليلةٍ علقةً. فقال له الخليفة: يا عبد
الله، إن شاء الله تعالى أنا أسعى في خلاصهما ورجوعهما آدميَّيْن كما كانا أولًا،
وأُصلِح بينكم وتعيشون بقية أعماركم إخوةً متحابين، وكما أنك سامحتهما يسامحانك،
فخذهما وانزل إلى منزلك، وفي هذه الليلة لا تضربهما، وفي غدٍ ما يكون إلا الخير.
فقال له: يا سيدي، وحياة رأسك، إن تركتهما ليلةً واحدة من غير ضرب تأتيني سعيدةٌ
وتضربني، وأنا ما لي جسدٌ يتحمَّل ضربًا! فقال له: لا تخَف، فأنا أعطيك خطَّ يدي،
فإذا أتَتْك سعيدة فأعطِها الورقة، فإذا قرأتْها وعَفَتْ عنك كان الفضل لها، وإن
لم تُطِع أمري كان أمرك إلى الله، ودَعْها تضربك علقةً وقدِّرْ أنك نسيتهما من
الضرب ليلةً وضربتك بهذا السبب، وإذا حصل ذلك وخالفَتْني، فإن كنتُ أنا أمير
المؤمنين فإني أعمل خلاصي معها. ثم إن الخليفة كتب لها قطعة ورقة مقدار إصبعين،
وبعدما كتبها ختمها وقال: يا عبد الله، إذا أتتك سعيدة فقل لها: إن الخليفةَ ملِكُ
الإنس أمرني بعدم ضربهما، وكتب لي هذه الورقة، وهو يُقرِئك السلام. وأعطِها
المرسوم ولا تخشَ بأسًا. ثم أخذ عليه العهد والميثاق أنه لا يضربهما. فأخذهما وراح
بهما إلى منزله، وقال في نفسه: يا تُرَى، ما الذي يصنعه الخليفة في حق بنت سلطان
الجن إذا كانت تخالفه وتضربني في هذه الليلة؟ ولكن أنا أصبر على ضربي علقةً وأريح
أخويَّ في هذه الليلة ولو كان يحصل لي من أجلهما العذاب. ثم إنه تفكَّر في نفسه
وقال له عقله: لولا أن الخليفة مستندٌ إلى سندٍ عظيم ما كان يمنعك عن ضربهما. ثم
إنه دخل منزله ونزع الأغلال من رقاب أخوَيْه وقال: توكَّلتُ على الله. وصار يأخذ
بخاطرهما ويقول لهما: لا بأس عليكما، فإن الخليفة السادس من بني العباس قد تكفَّل
بخلاصكما، وأنا قد عفوت عنكما، وإن شاء الله تعالى يكون الأوان قد آن وتخلصان في
هذه الليلة المباركة، فأبشِرَا بالهناء والسرور. فلما سمعا هذا الكلام صارا يعويان
مثل عُواء الكلاب. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 986﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن عبد الله بن فاضل قال لأخويه: أبشرا بالهنا والسرور.
فلما سمعا هذا الكلام صارا يعويان مثل عُواء الكلاب، ويمرِّغان خدودهما على أقدامه
كأنهما يدعوان له ويتواضعان بين يديه، فحزن عليها وصار يملِّس بيده على ظهورهما
إلى أن جاء وقت العشاء، فلما وضعوا السفرة قال لهما: اجلسا. فجلسا يأكلان معه على
السفرة، فصار أعوانه باهتين يتعجَّبون من أكله مع الكلاب ويقولون: هل هو مجنون أو
مختل العقل؟! كيف يأكل نائب مدينة البصرة مع الكلاب وهو أكبر من وزيرٍ؟! أَمَا
يعلم أن الكلب نجسٌ؟! وصاروا ينظرون إلى الكلبين وهما يأكلان معه أكل الحشمة، ولا
يعلمون أنهما أخواه، وما زالوا يتفرجون على عبد الله والكلبين حتى فرغوا من الأكل.
ثم إن عبد الله غسل يديه فمدَّ الكلبان أيديهما وصارا يغسلان، وكل مَن كان واقفًا
صار يضحك ويتعجَّب ويقولون لبعضهم: عمرنا ما رأينا الكلاب تأكل وتغسل أيديها بعد
أكل الطعام! ثم إنهما جلسا على المراتب بجنب عبد الله بن فاضل، ولم يقدر أحدٌ أن
يسأله عن ذلك، واستمر الأمر هكذا إلى نصف الليل، ثم صرف الخدام وناموا ونام كل
كلبٍ على سريرٍ، وصار الخدام يقولون لبعضهم: إنه نام ونام معه الكلبان! وبعضهم
يقول: حيث أكل مع الكلاب على السفرة فلا بأس إذا ناموا معه، وما هذا إلا حال
المجانين! ثم إنهم لم يأكلوا مما بقي في السفرة من الطعام شيئًا، وقالوا: كيف نأكل
فضلة الكلاب؟! ثم أخذوا السفرة بما فيها ورموها وقالوا: إنها نجسةً.
هذا
ما كان من أمرهم، وأما ما كان من أمر عبد الله بن فاضل، فإنه لم يشعر إلا والأرض
قد انشقت وطلعت سعيدة وقالت: يا عبد الله، لأي شيءٍ ما ضربتهما في هذه الليلة؟
ولأي شيءٍ نزعتَ الأغلال من أعناقهما؟ هل فعلتَ ذلك عنادًا لي واستخفافًا بأمري؟
ولكن أنا الآن أضربك وأسحرك كلبًا مثلهما. فقال لها: يا سيدتي، أقسمتُ عليك بالنقش
الذي على خاتم سليمان بن داود عليهما السلام أن تحلمي عليَّ حتى أخبرك بالسبب،
ومهما أردتِه بي فافعليه. فقالت له: أخبرني. فقال لها: أمَّا سبب عدم ضربهما، فإن
ملك الإنس الخليفة أمير المؤمنين هارون الرشيد أمرني ألَّا أضربهما في هذه الليلة،
وقد أخذ عليَّ مواثيق وعهود ذلك، وهو يُقرِئُك السلام، وأعطاني مرسومًا بخط يده
وأمرني أن أعطيك إياه، فامتثلتُ أمرَه وأطعتُه، وطاعة أمير المؤمنين واجبة، وها هو
المرسوم فخذيه واقرئيه، وبعد ذلك افعلي مرادك. فقالت: هاتِه. فناوَلَها المرسوم
ففتحته وقرأته، فرأت مكتوبًا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من ملك الإنس هارون
الرشيد إلى بنت الملك الأحمر سعيدة. أما بعد، فإن هذا الرجل قد سامَحَ أخوَيْه
وأسقَطَ حقَّه عنهما، وقد حكمتُ عليهما بالصلح، وإذا وقع الصلح ارتفع العقاب، فإن
اعترضتمونا في أحكامنا اعترضناكم في أحكامكم، وخرقنا قانونكم، وإن امتثلتم أمرنا
ونفَّذتم أحكامنا فإننا ننفِّذ أحكامكم. وقد حكمتُ عليكِ بعدم التعرُّض لهما، فإن
كنتِ تؤمنين بالله ورسوله فعليك بطاعة ولي الأمر، وإن عفوتِ عنهما فأنا أجازيك بما
يقدِّرني عليه ربي، وعلامة الطاعة أن ترفعي سحرك عن هذين الرجلين حتى يقابلاني في
غدٍ خالصَيْن، وإنْ لم تخلِّصيهما فأنا أخلِّصهما قهرًا عنك بعون الله تعالى».
فلما قرأت ذلك الكتاب قالت: يا عبد الله، لا أفعل شيئًا حتى أذهب إلى أبي وأعرض
عليه مرسوم ملك الإنس وأرجع إليك بالجواب بسرعةٍ. ثم أشارت بيدها إلى الأرض
فانشقَّت ونزلت فيها، فلما ذهبت صار قلب عبد الله فرِحًا وقال: أعزَّ الله أمير
المؤمنين.
ثم
إن سعيدة دخلتْ على أبيها وأخبرته بالخبر، وعرضتْ عليه مرسوم أمير المؤمنين،
فقبَّله ووضعه على رأسه، ثم قرأه وفهم ما فيه وقال: يا بنتي، إن أمر ملك الأنس
علينا ماضٍ، وحكمه فينا نافذٌ، ولا نقدر أن نخالفه، فامضي إلى الرجلين وخلِّصِيهما
في هذه الساعة، وقولي لهما: أنتما في شفاعة ملك الإنس. فإنه إنْ غضب علينا أهلكنا
عن آخرنا، فلا تحملينا ما لا نطيق. فقالت له: يا أبتِ، إذا غضب علينا ملك الإنس
فماذا يصنع بنا؟ فقال لها: يا بنتي، إنه يقدر علينا من وجوه؛ الأول: أنه من البشر،
فهو مفضَّلٌ علينا، والثاني: أنه خليفة الله، والثالث: أنه مصرٌّ على ركعتَي
الفجر، فلو اجتمعت عليه طوائف الجن من السبع أرضين لا يقدرون أن يصنعوا به
مكروهًا، فإنه إنْ غضب علينا يصلِّي ركعتَي الفجر ويصيح علينا صيحةً واحدةً فنجتمع
بين يدَيْه طائعين ونصير كالغنم بين يدي الجزار، إن شاء يأمرنا بالرحيل من أوطاننا
إلى أرضٍ موحشةٍ لا نستطيع المكث فيها، وإن شاء هلاكَنا أمرنا بهلاك أنفسنا
فيُهلِك بعضنا بعضًا. فنحن لا نقدر على مخالفة أمره، فإنْ خالفنا أمره أحرقنا
جميعًا، وليس لنا مفرٌّ من بين يديه، وكذلك كل عبدٍ داوَمَ على ركعتَي الفجر، فإن
حكمه نافذٌ فينا، فلا تتسبَّبي في هلاكنا من أجل رجلَيْن، بل امضي وخلِّصِيهما قبل
أن يَحِيقَ بنا غضبُ أمير المؤمنين. فرجعت إلى عبد الله بن فاضل وأخبرته بما قال
أبوها، وقالت له: قبِّلْ لنا أيادي أمير المؤمنين واطلب لنا رضاه. ثم إنها أخرجت الطاسة
ووضعت فيها الماء وعزمت عليها وتكلَّمت بكلماتٍ لا تُفهَم، ثم رشَّتهما بالماء
وقالت: اخرجَا من الصورة الكلبية إلى الصورة البشرية. فعادا بشرَيْن كما كانا
أولًا، وانفكَّ عنهما رصد السحر وقالا: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا
رسول الله. ثم إنهما وقعا على يد أخيهما وعلى رجلَيْه يقبِّلانهما ويطلبان منه
السماح، فقال لهما: سامحاني أنتما. ثم إنهما تابا توبةً نصوحًا وقالا: قد غرَّنا
إبليس اللعين وأغوانا الطمع، وربنا جازانا بما نستحقه، والعفو من شِيَم الكِرَام.
وصارا يستعطفان أخاهما ويبكيان ويتندَّمان على ما وقع منهما. ثم إنه قال لهما: ما
فعلتما بزوجتي التي جئتُ بها من مدينة الحجر؟ فقالوا: لمَّا أغوانا الشيطان
ورميناك في البحر وقع الخلاف بيننا، وصار كلٌّ منا يقول: أنا أتزوَّج بها. فلما
سمعتْ كلامنا ورأت اختلافنا وعرفت أننا رميناك في البحر طلعت من الخزنة وقالت: لا
تختصما من أجلي، فإني لستُ لواحدٍ منكما، إن زوجي راح البحر وأنا أتبعه. ثم إنها
رمت روحها في البحر وماتت. فقال: إنها ماتت شهيدةً، فلا حول ولا قوة إلا بالله
العلي العظيم. ثم إنه بكى عليها بكاءً شديدًا، وقال لهما: لا يصحُّ منكما أن تفعلا
معي هذه الفعال وتعدماني زوجتي. فقالا: إننا أخطأنا وربنا جازانا على فعلنا، وهذا
شيء قدَّرَه الله علينا قبل أن يخلقنا. فقبِلَ عُذْرهما. ثم إن سعيدة قالت:
أيفعلان معكَ كل هذه الفعال وأنت تعفو عنهما؟! فقال: يا أختي، مَن قدر وعفا كان
أجره على الله. فقالت: خذ حذرك منهما؛ فإنهما خائنان. ثم ودَّعَتْه وانصرفت. وأدرك
شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 987﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن عبد الله لما حذَّرَتْه سعيدة من أخوَيْه ودَّعته
وانصرفت إلى حال سبيلها، فبات عبد الله بقية تلك الليلة هو وأخواه على أكلٍ وشربٍ
وبسطٍ وانشراح صدر. فلما أصبح الصباح أدخلهما الحمَّام، وعند خروجهما من الحمام
ألبس كل واحدٍ منهما بدلةً تساوي جملةً من المال، ثم إنه طلب سفرة طعام، فقدَّموها
بين يديه، فأكل هو وأخواه، فلما نظرهما الخدَّام وعرفوا أنهما أخواه سلموا عليهما
وقالوا للأمير عبد الله: يا مولانا، هنَّاك الله باجتماعك على أخويك العزيزين،
وأين كانا في هذه المدة؟ فقال لهم: هما اللذان رأيتموهما في صورة كلبين، والحمد
لله الذي خلَّصهما من السجن والعذاب الأليم. ثم إنه أخذهما وتوجَّه إلى ديوان
الخليفة هارون الرشيد، ودخل بهما عليه وقبَّلَ الأرض بين يديه، ودعا له بدوام العز
والنِّعَم، وإزالة البؤس والنِّقَم. فقال له الخليفة: مرحبًا بك يا أمير عبد الله،
أخبرني بما جرى لك. فقال: يا أمير المؤمنين، أعزَّ الله قَدْرك، إني لما أخذت
أخويَّ وذهبت بهما إلى منزلي اطمأننت عليهما بسببك؛ حيث تكفَّلتَ بخلاصهما، وقلت
في نفسي: إن الملوك لا يعجزون عن أمرٍ يجتهدون فيه؛ فإن العناية تساعدهم. ثم نزعت
الأغلال من رقابهما وتوكَّلت على الله، وأكلت أنا وإياهما على السفرة، فلما رآني
أتباعي آكل معهما وهما في صورة كلبين استخفُّوا عقلي، وقالوا لبعضهم: لعله مجنونٌ،
كيف يأكل نائب البصرة مع الكلاب وهو أكبر من الوزير؟! ورموا ما فضل من السفرة
وقالوا: لا نأكل ما بقي من الكلاب. وصاروا يسفِّهون رأيي، وأنا أسمع كلامهم ولا
أرد عليهم جوابًا لعدم معرفتهم أنهما أخواي، ثم صرفتهم. وعندما جاء وقت النوم
وطلبت النوم فما أشعر إلا والأرض قد انشقت وخرجت سعيدة بنت الملك الأحمر وهي
غضبانةٌ عليَّ وعيناها مثل النار … ثم أخبر الخليفة بجميع ما وقع منها ومن أبيها،
وكيف أخرجَتْهما من الصورة الكلبية إلى الصورة البشرية، ثم قال: وها هما بين يديك
يا أمير المؤمنين. فالتفت الخليفة فرآهما شابين كالقمرين، فقال الخليفة: جزاك الله
عني خيرًا يا عبد الله حيث أعلمتني بفائدةٍ ما كنتُ أعلمها، إن شاء الله لا أترك
صلاةَ هاتين الركعتين قبل طلوع الفجر ما دمتُ حيًّا. ثم إنه عنَّف أخوَيْ عبد الله
بن فاضل على ما سلف منهما في حقه، فاعتذرا قدام الخليفة، فقال لهم: تصافحوا
وسامحوا بعضكم، وعفا الله عما سلف. ثم التفت إلى عبد الله وقال: يا عبد الله، اجعل
أخوَيْك مُعِينَيْن لك، وتوصَّ بهما. وأوصاهما بطاعة أخيهما، ثم أنعم عليهم وأمرهم
بالارتحال إلى مدينة البصرة بعد أن أعطاهم إنعامًا جزيلًا، فنزلوا من ديوان
الخليفة مجبورين، وفرح الخليفة بهذه الفائدة التي استفادها من هذه الحركة؛ وهي
المداوَمة على صلاة ركعتين قبل الفجر، وقال: صدَقَ مَن قال: مصائبُ قومٍ عند قومٍ
فوائد.
هذا
ما كان من أمرهم مع الخليفة، وأمَّا ما كان من أمر عبد الله بن فاضل، فإنه سافر من
مدينة بغداد ومعه أخواه بالإعزاز والإكرام ورفع المقام إلى أن دخلوا مدينة البصرة،
فخرج الأكابر والأعيان لملاقاتهم، وزيَّنوا لهم المدينة وأدخلوهم بموكبٍ ليس له
نظيرٌ، وصار الناس يدعون له وهو ينثر الذهب والفضة، وصار جميع الناس ضاجِّينَ
بالدعاء له، ولم يلتفت أحدٌ إلى أخوَيْه، فدخلَتِ الغيرةُ والحسد في قلبَيْهما،
ومع ذلك كان عبد الله يداريهما مُدارَاة العين الرمداء، وكلما داراهما لا يزدادان
إلا بُغْضًا له وحسدًا فيه. وقد قيل في هذا المعنى:
وَدَارَيْتُ
كُلَّ النَّاسِ لَكِنَّ حَاسِدِي مُدَارَاتُهُ
شَطَّتْ وَعَزَّ نَوَالُهَا
وَكَيْفَ
يُدَارِي الْمَرْءُ حَاسِدَ نِعْمَةٍ
إِذَا كَانَ لَا يُرْضِيهِ إِلَّا زَوَالُهَا
ثم
إنه أعطى كل واحدٍ منهما سريةً ليس لها نظيرٌ، وجعلهما بخدمٍ وحشمٍ وجوارٍ وعبيدٍ
سودٍ وبيضٍ من كل نوعٍ أربعين، وأعطى كل واحدٍ منهما خمسين جوادًا من الخيل
الجياد، وصار لهما جماعةٌ وأتباعٌ. ثم إنه عيَّنَ لهما الخراج ورتَّبَ لهما
الرواتب وجعلهما مُعِينَيْن له، وقال لهما: يا أخويَّ، أنا وأنتما سواءٌ، ولا
فرْقَ بيني وبينكما. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 988﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن عبد الله رتَّبَ لأخويه الرواتب وجعلهما مُعِينَيْن
له، وقال لهما: يا أخويَّ، أنا وأنتما سواءٌ ولا فرقَ بيني وبينكما؛ فالحكم بعد
الله والخليفة لي ولكما، فاحكما في البصرة في غيابي وحضوري، وحكمكما نافذ، ولكن
عليكما بتقوى الله في الأحكام، وإياكما والظلم؛ فإنه إنْ دامَ دمَّر، وعليكما
بالعدل فإنه إن دامَ عمَّر، ولا تظلما العباد فيدعوا عليكما وخبركما يصل إلى
الخليفة فتحصل فضيحةٌ في حقي وحقكما، فلا تتعرَّضا لظلم أحدٍ، والذي تطمعان فيه من
أموال الناس خذاه من مالي زيادةً على ما تحتاجان إليه، ولا يخفى عليكما ما ورد في
الظلم من محكم الآيات، ولله درُّ مَن قال هذه الأبيات:
الظُّلْمُ
فِي نَفْسِ الْفَتَى كَامِنٌ وَلَيْسَ إِلَّا الْعَجْزُ يَخْفِيهِ
ذُو
الْعَقْلِ لَا يَنْهَضُ فِي حَاجَةٍ
حَتَّى يَرَى الْوَقْتَ يُوَافِيهِ
لِسَانُ
مَنْ يَعْقِلُ فِي قَلْبِهِ وَقَلْبُ
مَنْ يَجْهَلُ فِي فِيهِ
مَنْ
لَمْ يَكُنْ أَكْبَرَ مِنْ عَقْلِهِ
يَقْتُلُهُ أَصْغَرُ مَا فِيهِ
أَصْلُ
الْفَتَى خَافٍ وَلَكِنَّهُ مِنْ
فِعْلِهِ يُظْهِرُ خَافِيهِ
مَنْ
لَمْ يَكُنْ عُنْصُرُهُ طَيِّبًا لَا
يُظْهِرُ الطَّيِّبَ مِنْ فِيهِ
مَنْ
قَلَّدَ الْأَحْمَقَ فِي فِعْلِهِ كَانَ
لِذِي الْجَهْلِ مُسَاوِيهِ
وَمَنْ
أَطْلَعَ النَّاسَ عَلَى سِرِّهِ تَنَبَّهَتْ
لَهُ أَعَادِيهِ
يَكْفِي
الْفَتَى مَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ وَتَرْكِهِ
مَا لَيْسَ يَعْنِيهِ
ثم
إنه صار يعِظُ أخويه ويأمرهما بالعدل وينهاهما عن الظلم، حتى ظنَّ أنهما أحبَّاه
بسبب بذل النصيحة لهما، ثم إنه ركن إليهما وبالغ في إكرامهما، ومع إكرامه لهما ما
ازدادَا إلا حسدًا له وبغضًا فيه. ثم إن أخوَيْه ناصرًا ومنصورًا اجتمعا مع
بعضهما، فقال ناصرٌ لمنصورٍ: يا أخي، إلى متى ونحن تحت طاعة أخينا عبد الله وهو في
هذه السيادة والإمارة؟ وبعدما كان تاجرًا صار أميرًا، وبعدما كان صغيرًا صار
كبيرًا، ونحن لم نكبر ولم يبقَ لنا قدرٌ ولا قيمةٌ، وها هو ضحك علينا وعملنا
مُعِينَيْن له، ما معنى ذلك؟ أليس أننا خَدَمته ومن تحت طاعته؟ وما دام طيبًا لا
ترتفع درجتنا ولم يَبْقَ لنا شأنٌ، فلا يتم غرضنا إلا إنْ قتلناه وأخذنا أمواله،
ولا يمكن أخذ هذه الأموال إلا بعد هلاكه؛ فإذا قتلناه نسود ونأخذ جميع ما في
خزائنه من الجواهر والمعادن والذخائر، وبعد ذلك نقسمها بيننا، ثم نهيئ هديةً للخليفة
ونطلب منه منصب الكوفة، وأنت تكون نائب البصرة، وأنا أكون نائب الكوفة، أو أنك
تكون نائب الكوفة وأنا أكون نائب البصرة، ويبقى لكل واحدٍ منا صورةٌ وشأنٌ، ولكن
لا يتم لنا ذلك إلا إذا أهلكناه. فقال منصور: إنك صادقٌ فيما قلت، ولكن ماذا نصنع
معه حتى نقتله؟ فقال: نعمل ضيافةً عند أحدنا، ونعرِّفه فيها ونخدمه غاية الخدمة،
ثم نساهره بالكلام ونحكي له حكاياتٍ ونكتًا ونوادرَ إلى أن يذوب قلبه من السهر، ثم
نفرش له حتى يرقد؛ فإذا رقد نبرك عليه وهو نائمٌ فنخنقه ونرميه في البحر ونصبح
نقول: إن أخته الجنيَّة أتته وهو قاعدٌ يتحدَّث بيننا وقالت له: يا قطاعة الإنس،
ما مقدارك حتى تشكوني إلى أمير المؤمنين؟ أتظن أننا نخاف منه؟ فكما أنه ملكٌ نحن
ملوكٌ، وإن لم يلزم أدبه في حقنا قتلناه أقبح قتلةٍ، ولكن بقيت أنا أقتلك حتى ننظر
ما يخرج من يد أمير المؤمنين. ثم خطفته وشقَّت الأرض ونزلت به، فلما رأينا ذلك
غُشِي علينا، ثم استفقنا ولم ندرِ ما حصل له، وبعد ذلك نرسل إلى الخليفة ونعلمه؛
فإنه يولِّينا مكانه، وبعد مدةٍ نرسل إلى الخليفة هديةً سَنِيةً ونطلب منه حكم
الكوفة، وواحدٌ منا يقيم في البصرة والآخَر يقيم بالكوفة، وتطيب لنا البلاد ونقهر
العباد ونبلغ المراد. فقال له: نِعمَ ما أشرت به يا أخي.
ثم
اتفقا على قتل أخيهما، وصَنَعَ ناصر ضيافةً وقال لأخيه عبد الله: يا أخي، اعلم أني
أنا أخوك، ومرادي أنك تجبر بخاطري أنت وأخي منصور وتأكلان ضيافتي في بيتي حتى
أفتخر بك ويقال: إن الأمير عبد الله أكل ضيافة أخيه ناصر؛ لأجل أن يحصل لي بذلك
جبر خاطرٍ. فقال له عبد الله: لا بأس يا أخي، ولا فرْقَ بيني وبينك، وبيتك بيتي،
ولكن حيث عزمتني فما يأبى الضيافة إلا اللئيم. ثم التفت إلى أخيه منصور وقال له:
أتروح معي إلى بيت أخيك ناصر ونأكل ضيافته ونجبر بخاطره؟ فقال له: يا أخي، وحياة
رأسك، ما أروح معك حتى تحلف لي أنك بعدما تخرج من بيت أخي ناصر تدخل بيتي وتأكل
ضيافتي، فهل ناصرٌ أخوك وأنا لست أخاك؟! فكما جبرت بخاطره تجبر بخاطري. فقال: لا
بأس بذلك، حبًّا وكرامةً، فمتى خرجتُ من دار أخيك أدخل دارك، وكما هو أخي أنت أخي.
ثم إن ناصرًا قبَّلَ يد أخيه عبد الله ونزل من الديوان وعمل الضيافة، وفي ثاني
يومٍ ركب عبد الله وأخذ معه جملةً من العسكر وأخاه منصورًا، وتوجَّه إلى دار أخيه
ناصر، فدخل وجلس هو وجماعته وأخوه، فقدَّم لهم السماط ورحَّب بهم، فأكلوا وشربوا
وتلذَّذوا وطربوا، وارتفعت السفرة والزبادي وغسلت الأيادي، وأقاموا ذلك اليوم على
أكلٍ وشربٍ وبسطٍ ولعبٍ إلى الليل. فلما تعشَّوا صلوا المغرب والعشاء ثم جلسوا على
منادمة، وصار منصورٌ يحكي حكاية وناصرٌ يحكي حكاية وعبد الله يسمع، وكانوا في قصرٍ
وحدهم، وبقية العسكر في مكانٍ آخر، ولم يزالوا في نكتٍ وحكاياتٍ ونوادر وأخبارٍ
حتى ذاب قلب أخيهم عبد الله من السهر وغلب عليه النوم. وأدرك شهرزاد الصباح،
فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 989﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن عبد الله لما طال عليه السهر وأراد النوم، فرشوا له
الفرش، ثم قلع ثيابه ونام وناما بجانبه على فرشٍ آخر، وصبرا عليه حتى استغرق في
النوم، فلما عرفا أنه استغرق في النوم قاما وبركا عليه، فأفاق فرآهما باركَيْن على
صدره، فقال لهما: ما هذا يا أخويَّ؟ فقالا له: ما نحن أخواك، ولا نعرفك يا قليل
الأدب، وقد صار موتك أحسن من حياتك. وحطَّا أيديهما في رقبته وخنقاه، فغاب عن
الدنيا ولم يبقَ فيه حركة، فظنَّا أنه مات، وكان القصر على البحر، فرموه في البحر.
فلما وقع في البحر سخَّرَ الله له درفيلًا كان معتادًا على مجيئه تحت ذلك القصر؛
لأن المطبخ كان فيه طاقةً تُشرف على البحر، وكانوا كلما ذبحوا الذبائح يرمون
تعاليقها في البحر من تلك الطاقة، فيأتي ذلك الدرفيل ويلتقطها من على وجه الماء،
فاعتاد على ذلك المكان، وكانوا في ذلك اليوم قد رموا سقاطًا كثيرًا بسبب الضيافة،
فأكل ذلك الدرفيل زيادةً عن كل يومٍ، وحصلت له قوة، فلما سمع الخبطة في البحر أتى
بسرعةٍ، فرآه ابن آدم، فهداه الهادي وحمله على ظهره وشقَّ به في وسط البحر. ولم
يزل ماشيًا به حتى وصل إلى البحر من الجهة الثانية وألقاه على البر، وكان ذلك
المكان الذي أطلعه فيه على قارعة الطريق، فمرَّت به قافلةٌ فرأوه مرميًّا على جانب
البحر، فقالوا: هنا غريقٌ ألقاه البحر على الشاطئ. واجتمع عليه جماعةٌ من تلك
القافلة يتفرَّجون عليه، وكان شيخ القافلة رجلًا من أهل الخير، وعارفًا بجميع
العلوم، وخبيرًا بعلم الطب، وصاحب فراسةٍ صادقةٍ، فقال لهم: يا ناس، ما الخبر؟
فقالوا: هذا غريقٌ ميتٌ. فأقبل عليه وتأمَّله وقال: يا ناس، هذا الشاب فيه الروح،
وهذا من خيار أولاد الناس الأكابر وتربية العز والنِّعَم، وفيه الرجاء إن شاء الله
تعالى. ثم إنه أخذه وألبسه بدلةً، وأدفأه وصار يعالجه ويلاطفه مدة ثلاث مراحل حتى
أفاق، ولكن حصلت له خضة، فغلب عليه الضعف، وصار شيخ القافلة يعالجه بأعشابٍ
يعرفها. ولم يزالوا مسافرين مدة ثلاثين يومًا حتى بعدوا عن البصرة بهذه المسافة
وهو يعالج فيه، ثم دخلوا مدينةً يُقال لها مدينة عوج، وهي في بلاد العجم، فنزلوا
في خانٍ وفرشوا له ورقد، فبات تلك الليلة يئِنُّ، وقد أقلق الناس من أنينه، فلما
أصبح الصباح أتى بوَّاب الخان إلى شيخ القافلة وقال: ما شأن هذا الضعيف الذي عندك؟
فإنه أقلقنا! فقال: هذا رأيته في الطريق على جانب البحر غريقًا، فعالجته وعجزت ولم
يُشْفَ. فقال له: اعرضه على الشيخة راجحة. فقال له: وما تكون الشيخة راجحة؟ فقال:
عندنا بنتٌ بِكرٌ شيخة، وهي عذراء جميلة اسمها الشيخة راجحة، كلُّ مَن كان به داءٌ
يأخذونه إليها فيبيت عندها ليلةً واحدةً فيصبح معافًى ولم يكن فيه شيءٌ يضره. فقال
له شيخ القافلة: دُلَّني عليها. فقال له: احمل مريضك. فحمله ومشى بوَّاب الخان
قدَّامه إلى أن وصل إلى زاويةٍ، فرأى خلائق داخلين بالنذور، وخلائق خارجين
فرحانين، فدخل بوَّاب الخان حتى وصل إلى الستارة وقال: دستور يا شيخة راجحة، خذي
هذا المريض. فقالت: أدخله من داخل هذه الستارة. فقال له: ادخل. فدخل ونظر إليها
فرآها زوجته التي جابها من مدينة الحجر، فعرفها وعرفَتْه وسلَّمتْ عليه وسلَّم
عليها. فقال لها: مَن أتى بكِ إلى هذا المكان؟ فقالت له: لمَّا رأيت أخوَيْك
رمَيَاك في البحر وتخاصما عليَّ، رميتُ روحي في البحر، فتناولني شيخي الخضر أبو
العباس وأتى بي إلى هذه الزاوية، وأعطاني الإذن بشفاء المرضى، ونادى في هذه
المدينة: كلُّ مَن كان به داءٌ فعليه بالشيخة راجحة. وقال لي: أقيمي في هذا المكان
حتى يئين الأوان ويأتي إليك زوجك في هذه الزاوية. فصار كل مريض يأتي إليَّ أكبسه
فيصبح طيبًا، وشاع ذكري بين العالم، وأقبلتْ عليَّ الناس بالنذور، وعندي الخير،
وأنا في عزٍّ وإكرامٍ، وجميع أهل هذه البلاد يطلبون مني الدعاء. ثم إنها كبسته
فشُفِي بقدرة الله تعالى. وكان الخضر عليه السلام يحضر عندها في كل ليلةِ جمعةِ،
وكانت تلك الليلة التي اجتمع فيها ليلة الجمعة، فلما جنَّ الليل جلست هي وإياه
بعدما تعشَّيَا من أفخر المأكول، ثم قعدا ينتظران حضور الخضر، فبينما هما جالسان
وإذا به قد أقبَلَ عليهما، فحملهما من الزاوية ووضعهما في قصر عبد الله بن فاضل
بالبصرة، ثم تركهما وذهب. فلما أصبح الصباح تأمَّلَ عبد الله في القصر، فرآه قصره
وعرفه، وسمع الناس في ضجةٍ، فطلَّ من الشباك فرأى أخوَيْه مصلوبَيْن؛ كل واحدٍ
منهما على خشبةٍ، والسبب في ذلك أنهما لما رمياه في البحر أصبحا يبكيان ويقولان:
إن أخانا خطفته الجنية. ثم هيَّآ هدية وأرسلاها إلى الخليفة وأخبراه بهذا الخبر،
وطلبا منه منصب البصرة، فأرسل أحضرهما عنده وسألهما، فأخبراه كما ذكرنا، فاشتدَّ
غضب الخليفة، فلما جنَّ الليل صلَّى ركعتين قبل الفجر على عادته، وصاح على طوائف
الجن، فحضروا بين يديه طائعين، فسألهم عن عبد الله، فحلفوا له أنه لم يتعرَّض له
أحد منهم، وقالوا له: ما عندنا خبرٌ به. فأتت سعيدة بنت الملك الأحمر وأخبرت
الخليفة بخبره فصرفهم. وفي ثاني يوم رمى ناصرًا ومنصورًا تحت الضرب، فأقرَّا على
بعضهما، فغضب عليهما الخليفة وقال: خذوهما إلى البصرة واصلبوهما قدام قصر عبد الله.
هذا
ما كان من أمرهما، وأما ما كان من أمر عبد الله، فإنه أمر بدفن أخوَيْه، ثم ركب
وتوجَّه إلى بغداد وأخبر الخليفة بحكايته وما فعل معه أخواه من الأول إلى الآخر،
فتعجَّبَ الخليفة من ذلك، وأحضر القاضي والشهود وكتب كتابه على البنت التي جاء بها
من مدينة الحجر، ودخل بها وأقام معها في البصرة إلى أن أتاهم هادم اللذات ومفرِّق
الجماعات، فسبحان الحي الذي لا يموت.
ومما
يُحكَى أيها الملك السعيد أنه كان في مدينة مصر المحروسة رجل إسكافي يرقِّع
الزرابين القديمة، وكان اسمه معروفًا، وكان له زوجة اسمها فاطمة ولقبها العرَّة،
وما لقَّبوها بذلك إلا لأنها كانت فاجرةً شرَّانيةً قليلة الحياء كثيرة الفتن،
وكانت حاكمةً على زوجها، وفي كل يومٍ تسبُّه وتلعنه ألف مرة، وكان يخشى شرَّها
ويخاف من أذاها؛ لأنه كان رجلًا عاقلًا يستحي على عِرْضه، لكنه كان فقير الحال،
فإذا اشتغل بكثيرٍ صرفه عليها، وإذا اشتغل بقليلٍ انتقمت من بدنه في تلك الليلة
وأعدمته العافية، وتجعل ليلته مثل صحيفتها، وهي كما قال في حقها الشاعر:
كَمْ
لَيْلَةٍ قَدْ بِتُّ مَعْ زَوْجَتِي
فِي أَشْأَمِ الْأَحْوَالِ قَضَّيْتُهَا
يَا
لَيْتَنِي عِنْدَ دُخُولِي بِهَا أَحْضَرْتُ
سُمًّا ثُمَّ سَمَّيْتُهَا
ومن
جملة ما اتفق لهذا الرجل مع زوجته أنها قالت له: يا معروف، أريد منك في هذه الليلة
أن تجيء لي معك بكنافةٍ عليها عسل نحلٍ. فقال لها: الله تعالى يسهِّل لي حقها وأنا
أجيء بها لك في هذه الليلة، والله لم يكن معي دراهم في هذا اليوم، ولكن ربنا يسهل.
فقالت له: أنا ما أعرف هذا الكلام. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام
المباح.
﴿اللیلة 990﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن معروفًا الإسكافي قال لزوجته: الله يسهل بكلفتها وأنا
أجيء بها إليك في هذه الليلة، والله لم يكن معي دراهم في هذا اليوم، لكن ربنا
يسهل. فقالت له: أنا ما أعرف هذا الكلام، إن سهَّل أو لم يسهِّل لا تجئني إلا
بالكنافة التي بعسل نحلٍ، وإن جئتَ من غير كنافةٍ جعلت ليلتك مثل بختك حين
تزوَّجتني ووقعت في يدي. فقال لها: الله كريم. ثم خرج ذلك الرجل والغمُّ يتناثر من
يديه، فصلى الصبح وفتح الدكان وقال: أسألك يا رب أن ترزقني بحق هذه الكنافة،
وتكفيني شر هذه الفاجرة في هذه الليلة. وقعد في الدكان إلى نصف النهار فلم يأتِهِ
شغل، فاشتدَّ خوفه من زوجته، فقام وقفل الدكان وصار متحيرًا في أمره من شأن
الكنافة مع أنه لم يكن معه من حق الخبز شيءٌ. ثم إنه مر على دكان الكنفاني ووقف
باهتًا، وغرغرت عيناه بالدموع، فلحظ عليه الكنفاني وقال: يا معلم معروف، ما لكَ
تبكي؟ فأخبِرْني بما أصابك. فأخبره بقصته وقال له: إن زوجتي جبَّارةٌ، وطلبت مني
كنافةً، وقد قعدتُ في الدكان حتى مضى نصف النهار فلم يجِئْني ولا حق الخبز، وأنا
خائفٌ منها. فضحك الكنفاني وقال: لا بأس عليك، كم رطلًا تريد؟ قال: خمسة أرطال.
فوزن له خمسة أرطال وقال له: السمن عندي، ولكن ما عندي عسل نحلٍ، وإنما عندي عسل
قطر أحسن من عسل النحل، وماذا يضر إذا كانت بعسل قطر؟ فاستحى منه لكونه يصبر عليه
بثمنها. فقال له: هاتِها بعسل قطر. فقلى له الكنافة بالسمن وغرَّقها بعسل قطر
فصارت تُهدى للملوك. ثم إنه قال له: أتحتاج عيشًا وجبنًا؟ قال: نعم. فأخذ له
بأربعة أنصافٍ عيشًا وبنصفٍ جبنًا، والكنافة بعشرة أنصاف، وقال له: اعلم يا معروف
أنه قد صار عندك خمسة عشر نصفًا، رُحْ إلى زوجتك واعمل حظًّا، وخذ هذا النصف حق
الحمَّام، وعليك مهلٌ يومٌ أو يومان أو ثلاثة حتى يرزقك الله، ولا تضيِّق على
زوجتك، فأنا أصبر عليك متى يبقى عندك دراهم فاضلةٌ عن مصروفك. فأخذ الكنافة والعيش
والجبن وانصرف داعيًا له، وراح مجبور الخاطر وهو يقول: سبحانك ربي، ما أكرمك! ثم
إنه دخل عليها فقالت له: هل جئت بالكنافة؟ قال: نعم. ثم وضعها قدامها، فنظرت إليها
فرأتها بعسل قصبٍ فقالت له: أَمَا قلتُ لك هاتِها بعسل نحل؟ تعمل على خلاف مرادي
وتعملها بعسل قصبٍ؟! فاعتذر إليها وقال لها: أنا ما اشتريتها إلا مؤجِّلًا ثمنها.
فقالت: هذا كلامٌ باطلٌ، أنا ما آكل الكنافة إلا بعسل نحلٍ. وغضبت عليه وضربته بها
في وجهه، وقالت له: قم يا معرص هاتِ لي غيرها. ولكمته في صدغه فقلعت سنًّا من
أسنانه، ونزل الدم على صدره، ومن شدة الغيظ ضربها ضربةً واحدةً لطيفةً على رأسها،
فقبضت على لحيته وصارت تصيح وتقول: يا مسلمين! فدخل الجيران وخلَّصوا لحيته من
يدها، وقاموا عليها باللوم وعيَّبوها وقالوا: نحن كلنا في قبل أكل الكنافة التي
بعسل القصب، ما هذا التجبُّر على هذا الرجل الفقير؟! إن هذا عيبٌ عليكِ. ولا زالوا
يلاطفونها حتى أصلحوا بينها وبينه، ولكنها بعد ذهاب الناس حلفت ما تأكل من الكنافة
شيئًا، فأحرقه الجوع، فقال في نفسه: هي حلفت ما تأكل فأنا آكل. ثم أكل، فلما رأته
يأكل صارت تقول له: إن شاء الله يكون أكلها سمًّا يهري بدن البعيد. فقال لها: ما
هو بكلامك. وصار يأكل ويضحك ويقول: أنتِ حلفت ما تأكلين من هذه، فالله كريم، فإن
شاء الله في ليلة غدٍ أجيء لك بكنافةٍ تكون بعسل نحلٍ وتأكلينها وحدك. وصار يأخذ
بخاطرها وهي تدعو عليه، ولم تزل تسبُّه وتشتمه إلى الصبح.
فلما
أصبح الصباح شمرت عن ساعدها لضربه، فقال لها: أمهليني وأنا أجيء إليك بغيرها. ثم
خرج إلى المسجد وصلَّى وتوجَّه إلى الدكان وفتحها وجلس، فلم يستقرَّ به الجلوس حتى
جاءه اثنان من طرف القاضي وقالا له: قُمْ كلِّم القاضي، فإن امرأتك اشتكتك إليه
وصفتها كذا وكذا. فعرفها وقال: الله تعالى ينكِّد عليها! ثم قام مشى معهما إلى أن
دخل على القاضي، فرأى زوجته رابطةً ذراعها وبرقعها ملوثٌ بالدم، وهي واقفةٌ تبكي
وتمسح دموعها. فقال له القاضي: يا رجل، ألم تخَف من الله تعالى؟! كيف تضرب هذه
الحرمة وتكسر ذراعها وتقلع سنها وتفعل بها هذه الفعال؟ فقال له: إن كنتُ ضربتها أو
قلعت سنها فاحكم فيَّ بما تختار، وإنما القصة كذا وكذا، والجيران أصلحوا بيني
وبينها. وأخبره بالقصة من الأول إلى الآخر، وكان ذلك القاضي من أهل الخير، فأخرج
له ربع دينارٍ وقال له: يا رجل، خذ هذا واعمل لها به كنافة بعسل نحل، واصطلِحْ أنت
وإياها. فقال له: أعطِهِ لها. فأخذته وأصلح بينهما، وقال: يا امرأة، أطيعي زوجك،
وأنتَ يا رجل، ترفَّقْ بها. وخرجا مصطلحين على يد القاضي، وراحت المرأة من طريق
وزوجها راح من طريقٍ آخر إلى دكانه وجلس، وإذا بالرسل أتوا له وقالوا: هات خدمتنا.
فقال لهم: إن القاضي لم يأخذ مني شيئًا، بل أعطاني ربع دينار. فقالوا: لا علاقةَ
لنا بكون القاضي أعطاك أو أخذ منك، فإن لم تُعطِنا خدمتنا أخذناها قهرًا عنك.
وصاروا يجرُّونه في السوق، فباع عدته وأعطاهم نصف دينارٍ، ورجعوا عنه وحطَّ يده
على خده وقعد حزينًا حيث لم يكن عنده عدةً يشتغل بها.
فبينما
هو قاعدٌ، وإذا برجلين قبيحَي المنظر أقبلا عليه وقالا له: قم يا رجل كلِّم
القاضي، فإن زوجتك اشتكتك إليه. فقال لهما: قد أصلح بيني وبينها! فقالا له: نحن من
عند قاضٍ آخر، فإن زوجتك اشتكتك إلى قاضينا. فقام معهما وهو يحتسب عليها، فلما
رآها قال لها: أَمَا اصطلحنا يا بنت الحلال؟ فقالت: ما بقي بيني وبينك صُلح.
فتقدَّمَ وحكى للقاضي حكايته وقال له: إن القاضي فلانًا أصلح بيننا في هذه الساعة.
فقال لها القاضي: يا عاهرة، حيث اصطلحتما لماذا جئتِ تشكين إليَّ؟ قالت: إنه ضربني
بعد ذلك. فقال لهما القاضي: اصطلحا ولا تَعُد إلى ضربها، وهي لا تعود إلى مخالفتك.
فاصطلحا وقال له القاضي: أعطِ الرُّسَل خدمتَهم. فأعطى الرسل خدمتهم وتوجَّه إلى
الدكان وفتحها وقعد فيها وهو مثل السكران من الهمِّ الذي أصابه. فبينما هو قاعدٌ،
وإذا برجلٍ أقبل عليه وقال له: يا معروف، قُم واستخفِ، فإن زوجتك اشتكتك إلى الباب
العالي، ونازلٌ عليك أبو طبق. فقام وقفل الدكان وهرب في جهة باب النصر، وكان قد
بقي معه خمسة أنصاف فضة من حق القوالب والعدة، فاشترى بأربعة أنصافٍ عيشًا وبنصفٍ
جبنًا وهو هارب منها، وكان ذلك في فصل الشتاء وقت العصر، فلما خرج بين الكيمان نزل
عليه المطر مثل أفواه القِرَب، فابتلت ثيابه، فدخل العادلية فرأى موضعًا خَرِبًا
فيه حاصلٌ مهجورٌ من غير بابٍ، فدخل يستكنُّ فيه من المطر وحوائجه مبتلةٌ بالماء،
فنزلت الدموع من أجفانه وصار يتضجَّر مما به ويقول: أين أهرب من هذه العاهرة؟ أسألك
يا رب أن تقيِّض لي مَن يوصلني إلى بلادٍ بعيدةٍ لا تعرف طريقي فيها. فبينما هو
جالس يبكي، وإذا بالحائط قد انشقَّ وخرج له منها شخصٌ طويلُ القامة ورؤيته تقشعرُّ
منها الأبدان، وقال له: يا رجل، ما لك أقلقتَني في هذه الليلة! أنا ساكنٌ في هذا
المكان منذ مائتَيْ عامٍ فما رأيتُ أحدًا دخل هذا المكان وعمل مثل ما عملتَ أنت!
فأخبِرْني بمقصودك وأنا أقضي حاجتك، فإن قلبي أخذته الشفقة عليك. فقال له: مَن
أنت؟ وما تكون؟ فقال له: أنا عامر هذا المكان. فأخبره بجميع ما جرى له مع زوجته،
فقال له: أتريد أن أوصلك إلى بلادٍ لا تعرف لك زوجتك فيها طريقًا؟ قال: نعم. قال
له: اركب فوق ظهري. فركب وحمله وطار به من بعد العشاء إلى طلوع الفجر، وأنزله على
رأس جبلٍ عالٍ. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 991﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن معروفًا الإسكافي لمَّا حمله المارد طار به وأنزله
على جبلٍ عالٍ وقال: يا إنسي، انحدِرْ من فوق هذا الجبل ترَ عتبةَ مدينةٍ فادخلها،
فإنَّ زوجتك لا تعرف لك طريقًا، ولا يمكنها أن تصل إليك. ثم تركه وراح، فصار معروف
باهتًا متحيرًا في نفسه إلى أن طلعت الشمس، فقال في نفسه: أقوم وأنزل من على هذا الجبل
إلى المدينة، فإن قعودي هنا ليس فيه فائدة. فنزل إلى أسفل الجبل فرأى مدينةً
بأسوارٍ عاليةٍ وقصورٍ مشيدةٍ وأبنيةٍ مزخرفةٍ، وهي نزهةٌ للناظرين، فدخل من باب
المدينة فرآها تشرح القلب الحزين، فلما مشى في السوق صار أهل المدينة ينظرون إليه
ويتفرجون عليه، واجتمعوا عليه وصاروا يتعجَّبون من ملبسه؛ لأن ملبسه لا يشبه
ملابسهم. فقال له رجلٌ من أهل المدينة: يا رجل، هل أنت غريبٌ؟ قال: نعم. قال له:
من أي البلاد؟ قال: من مدينة مصر السعيدة. قال له: ألك زمانٌ مُفارِقها؟ قال له:
البارحة العصر. فضحك عليه وقال: يا ناس، تعالوا انظروا هذا الرجل واسمعوا ما يقول!
فقالوا: ما يقول؟ قال: إنه يزعم أنه من مصر وخرج منها البارحة العصر. فضحكوا كلهم
واجتمع عليه الناس وقالوا: يا رجل، أأنت مجنون حتى تقول هذا الكلام؟ كيف تزعم أنك
فارقتَ مصرَ بالأمس في وقت العصر وأصبحت هنا، والحال أن بين مدينتنا وبين مصرَ
مسافةَ سنةٍ كاملةٍ؟ فقال لهم: ما مجنونٌ إلا أنتم، وأمَّا أنا فإني صادقٌ في
قولي، وهذا عيشُ مصرَ لم يزل معي طريًّا! وأراهم العيش، فصاروا يتفرَّجون عليه
ويتعجَّبون منه؛ لأنه لا يشبه عيش بلادهم، وكثر الخلائق عليه وصاروا يقولون
لبعضهم: هذا عيش مصر، تفرَّجوا عليه. وصارت له شهرةٌ في تلك المدينة، ومنهم ناسٌ
يصدِّقون وناس يكذِّبون ويهزءون به.
فبينما
هم في تلك الحالة، وإذا بتاجرٍ أقبَلَ عليهم وهو راكبٌ بغلة وخلفه عبدان، ففرَّق
الناس وقال: يا ناس، أَمَا تَسْتحون وأنتم ملتمُّون على هذا الرجل الغريب وتسخرون
منه وتضحكون عليه؟ ما علاقتكم به؟ ولم يزَل يسبُّهم حتى طردهم عنه ولم يقدر أحدٌ
أن يردَّ عليه جوابًا وقال له: تعالَ يا أخي، ما عليك بأسٌ من هؤلاء، إنهم لا
حياءَ عندهم. ثم أخذه وسار به إلى أن أدخَلَه دارًا واسعةً مزخرفةً، وأجلَسَه في
مقعد ملوكي وأمر العبيد ففتحوا له صندوقًا، وأخرجوا له بدلةَ تاجرٍ ألفي وألبسه
إياها، وكان معروف وجيهًا، فصار كأنه شاه بندر التجار. ثم إن ذلك التاجر طلب
السفرة، فوضعوا قدامهما سفرة فيها جميع الأطعمة الفاخرة من سائر الألوان، فأكلا
وشربا، وبعد ذلك قال له: يا أخي، ما اسمك؟ قال: اسمي معروف وصنعتي إسكافي أرقع
الزرابين القديمة. قال له: من أي البلاد أنت؟ قال: من مصر. قال: من أي الحارات؟
قال له: هل أنت تعرف مصر؟ قال له: أنا من أولادها. فقال له: أنا من الدرب الأحمر.
قال له: مَن تعرف من الدرب الأحمر؟ قال له: فلانًا وفلانًا. وعَدَّ له ناسًا كثيرة.
قال له: هل تعرف الشيخ أحمد العطار؟ قال: هو جاري الحيط في الحيط. قال له: هل هو
طيبٌ؟ قال: نعم. قال له: كم له من الأولاد؟ قال: ثلاثةٌ؛ مصطفى، ومحمد، وعلي. قال
له: ما فعل الله بأولاده؟ قال: أمَّا مصطفى فإنه طيِّب، وهو عالمٌ مدرس. وأما محمد
فإنه عطارٌ، قد فتح له دكانًا بجنب دكان أبيه بعد أن تزوَّجَ وولدتْ له زوجته
ولدًا اسمه حسن. قال: بشَّرَك الله بالخير. قال: وأمَّا علي فإنه كان رفيقي ونحن
صغار، وكنت دائمًا ألعب أنا وإياه، وبقينا نروح بصفة أولاد النصارى وندخل الكنيسة
ونسرق كتب النصارى ونبيعها ونشتري بثمنها نفقة، فاتفق في بعض المرات أن النصارى
رأونا ومسكونا بكتاب، فاشتكونا إلى أهلنا وقالوا لأبيه: إذا لم تمنع ولدك من أذانا
شكوناك إلى الملك. فأخذ بخاطرهم وضربه علقة، فبهذا السبب هرب من ذلك الوقت ولم
يعرف له طريقًا، وهو غائبٌ له عشرون سنةً، ولم يخبر عنه أحدٌ بخبر. فقال له: هو
أنا علي ابن الشيخ أحمد العطار، وأنت رفيقي يا معروف. وسلَّما على بعضهما.
وبعد
السلام قال: يا معروف، أخبرني بسبب مجيئك من مصر إلى هذه المدينة. فأخبره بخبر
زوجته فاطمة العرة وما فعلت معه، وقال له: إنه لما اشتد عليَّ أذاها هربت منها في
جهة باب النصر، ونزل عليَّ المطر فدخلت في حاصل خَرِب في العادلية، وقعدت أبكي،
فخرج لي عامر المكان وهو عفريتٌ من الجن وسألني، فأخبرته بحالي، فأركبني على ظهره
وطار بي طول الليل بين السماء والأرض، ثم حطَّني على الجبل وأخبرني بالمدينة،
فنزلت من الجبل ودخلت المدينة، والتمَّ الناس عليَّ وسألوني فقلت لهم: إني طلعت
البارحة من مصر فلم يصدِّقوني، فجئتَ أنت ومنعتَ عني الناس وجئتَ بي إلى هذه
الدار، وهذا سبب خروجي من مصر. وأنت ما سبب مجيئك هنا؟ قال له: غلب عليَّ الطيش
وعمري سبع سنين، فمن ذلك الوقت وأنا دائر من بلدٍ إلى بلد، ومن مدينةٍ إلى مدينة،
حتى دخلت هذه المدينة واسمها اختيان الختن، فرأيت أهلها ناسًا كرامًا وعندهم
الشفقة، ورأيتهم يأتمنون الفقير ويداينونه، وكل ما قاله يصدِّقونه فيه، فقلت لهم:
أنا تاجر، وقد سبقتُ الحملة، ومرادي مكان أنزل فيه حملتي. فصدَّقوني وأخلَوْا لي
مكانًا، ثم إني قلت لهم: هل فيكم مَن يُداينني ألف دينارٍ حتى تجيء حملتي وأردَّ
له ما آخذه منه؟ فإني محتاجٌ إلى بعض مصالح قبل دخول الحملة. فأعطوني ما أردتُ
وتوجَّهت إلى سوق التجار، فرأيت شيئًا من البضاعة فاشتريته، وفي ثاني يوم بِعته
فربحت فيه خمسين دينارًا، واشتريت غيره، وصرت أعاشر الناس وأُكرمهم فحبوني، وصرت
أبيع وأشتري فكثر مالي. واعلم يا أخي أن صاحب المثل يقول: الدنيا فشر وحيلة،
والبلاد التي لا يعرفك أحدٌ فيها مهما شئتَ فافعل فيها. وأنت إذا قلتَ لكلِّ مَن
سألك: أنا صنعتي إسكافي وفقير وهربت من زوجتي والبارحة طلعت من مصر، فلا
يصدِّقونك، وتصير عندهم مسخرةً مدة إقامتك في هذه المدينة. وإن قلتَ: حملني عفريت.
نفروا منك ولا يقرب منك أحدٌ، ويقولون: هذا رجلٌ معفرتٌ، وكلُّ مَن تقرَّبَ منه
يحصل له ضررٌ. وتبقى هذه الإشاعة قبيحةٌ في حقي وحقك؛ لكونهم يعرفون أني من مصر.
قال: وكيف أصنع؟ قال: أنا أعلِّمك كيف تصنع، إن شاء الله تعالى أعطيك في غدٍ ألفَ
دينارٍ، وبغلةً تركبها، وعبدًا يمشي قدامك حتى يوصلك إلى باب سوق التجار، فادخلْ
عليهم وأكون أنا قاعدًا بين التجار، فمتى رأيتك أقوم لك وأسلِّم عليك وأقبِّل يدك
وأعظِّم قدرك، وكلما سألتك عن صنفٍ من القماش وقلت لك: هل جئتَ معك بشيء من الصنف
الفلاني؟ فقل: كثيرٌ. وإن سألوني عنك أشكرك وأعظِّمك في أعينهم، ثم إني أقول لهم:
خذوا له حاصلًا ودكانًا، وأصفك بكثرة المال والكرم، وإذا أتاك سائلٌ فأعطِهِ ما
تيسَّرَ، فيثقون بكلامي ويعتقدون عظمتك وكرمك ويحبونك، وبعد ذلك أعزمك وأعزم جميع
التجار من شأنك، وأجمع بينك وبينهم حتى يعرفوك جميعهم وتعرفهم. وأدرك شهرزاد
الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 992﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن التاجر عليًّا قال لمعروف: أعزمك وأعزم جميع التجار
من شأنك، وأجمع بينك وبينهم حتى يعرفوك جميعهم وتعرفهم؛ لأجل أن تبيع وتشتري وتأخذ
وتعطي معهم، فما تمضي عليك مدةٌ حتى تصير صاحبَ مالٍ. فلما أصبح الصباح أعطاه ألف
دينارٍ، وألبسه بدلةً، وأركبه بغلةً، وأعطاه عبدًا، وقال: أبرأ الله ذمتك من
الجميع لأنك رفيقي، فواجبٌ عليَّ إكرامك، ولا تحمل همًّا، ودَعْ عنك سيرة زوجتك
ولا تذكرها لأحدٍ. فقال له: جزاك الله خيرًا. ثم إنه ركب البغلة ومشى قدامه العبد
إلى أن أوصله إلى باب سوق التجار، وكانوا جميعًا قاعدين والتاجر عليٌّ قاعد بينهم،
فلما رآه قام ورمى روحه عليه وقال له: نهار مبارك يا تاجر معروف، يا صاحب الخيرات
والمعروف. ثم قبَّل يده قدام التجار وقال: يا إخواننا، آنسكم التاجر معروف،
فسلِّموا عليه. وصار يشير لهم بتعظيمه، فعظُمَ في أعينهم، ثم أنزله من فوق ظهر
البغلة، وسلَّموا عليه، وصار يختلي بواحدٍ بعد واحدٍ منهم ويشكره عنده، فقالوا له:
هل هذا تاجرٌ؟ فقال لهم: نعم، بل هو أكبر التجار، ولا يوجد واحدٌ أكثر مالًا منه؛
لأن أمواله وأموال أبيه وأجداده مشهورةٌ عند تجار مصر، وله شركاء في الهند والسند
واليمن، وهو في الكرم على قدرٍ عظيمٍ، فاعرفوا قدره وارفعوا مقامه واخدموه واعلموا
أن مجيئه إلى هذه المدينة ليس من أجل التجارة، وما مقصده إلا الفرجة على بلاد
الناس؛ لأنه غير محتاج إلى التغرُّب من أجل الربح والمكاسب؛ لأن عنده أموالًا لا
تأكلها النيران، وأنا من بعض خَدَمه.
ولم
يزل يشكره حتى جعلوه فوق رءوسهم، وصاروا يخبرون بعضهم بصفاته. ثم اجتمعوا عنده
وصاروا يهادونه بالفطورات والشربات حتى شاه بندر التجار أتى له وسلَّم عليه وصار
يقول له التاجر علي بحضرة التجار: يا سيدي، لعلك جئتَ معك بشيء من القماش الفلاني.
فيقول له: كثير. وكان في ذلك اليوم فرَّجه على أصناف القماش المثمَّنة، وعرَّفه
أسامي الأقمشة، الغالي والرخيص. فقال له تاجرٌ من التجار: يا سيدي، هل جئتَ معك
بجوخٍ أصفر؟ قال: كثيرٌ. قال: وأحمر دم غزال؟ قال: كثيرٌ. وصار كلما سأله عن شيءٍ
يقول له: كثيرٌ. فعند ذلك قال: يا تاجر علي، إن بلديك لو أراد أن يحمل ألف حمل من
القماشات المثمنة يحملها. فقال له: يحملها من حاصلٍ من جملة حواصله، ولا ينقص منه
شيءٌ.
فبينما
هم قاعدون وإذا برجلٍ سائلٍ دارَ على التجار، فمنهم مَن أعطاه نصف فضة، ومنهم مَن
أعطاه جديدًا، وغالبهم لم يعطِهِ شيئًا، حتى وصل إلى معروف، فكبش له كبشة ذهبٍ
وأعطاه إياها، فدعا له وراح، فتعجَّبَ التجار من ذلك وقالوا: إن هذه عطايا ملوكٍ؛
فإنه أعطى السائل ذهبًا من غير عددٍ، ولولا أنه من أصحاب النِّعَم الجزيلة وعنده
شيءٌ كثيرٌ ما كان أعطى السائلَ كبشة ذهبٍ. وبعد حصةٍ أتته امرأة فقيرةٌ، فكبش
وأعطاها وذهبت تدعو له وحكت للفقراء، فأقبلوا عليه واحدًا بعد واحد، وصار كل مَن
أتى له يكبش ويعطيه حتى أنفَقَ الألف دينارٍ، وبعد ذلك ضرب كفًّا على كفٍّ وقال:
حسبنا الله ونعم الوكيل. فقال له شاه بندر التجار: ما لك يا تاجر معروف؟ قال:
كأنَّ غالبَ أهل هذه المدينة فقراء ومساكين! ولو كنت أعرف أنهم كذلك كنتُ جئتُ معي
في الخرج بجانب من المال وأُحسِن به إلى الفقراء، وأنا خائفٌ أن تطول غربتي، ومن
طبعي أني لا أردَّ السائل، ولم يبقَ معي ذهب، فإذا أتاني فقيرٌ ماذا أقول له؟ قال
له: قل له الله يرزقك. قال: ما هي عادتي، وقد ركبني الهمُّ بهذا السبب، وكان مرادي
ألف دينارٍ أتصدَّق بها حتى تجيء حملتي. فقال: لا بأس. وأرسَلَ بعض أتباعه فجاء له
بألف دينارٍ، فأعطاه إياها، فصار يعطي كلَّ مَن مرَّ به من الفقراء حتى أُذِّن
الظهر، فدخلوا الجامع وصلوا الظهر، والذي بقي معه من الألف دينارٍ نثره على رءوس
المصلين، فانتبه له الناس وصاروا يدعون له، وصارت التجار تتعجَّب من كثرة كرمه وسخائه.
ثم إنه مال على تاجر آخَر وأخذ منه ألف دينار وفرَّقها، وصار التاجر عليٌّ ينظر
فعله ولا يقدر أن يتكلم، ولم يزل على هذه الحالة حتى أُذِّن العصر، فدخل المسجد
وصلَّى وفرَّق الباقي، فما قفلوا باب السوق حتى أخذ خمسة آلاف دينارٍ وفرَّقها،
وكل مَن أخذ منه شيئًا يقول له: حتى تجيء الحملة، إنْ أردتَ ذهبًا أعطيك، وإنْ
أردتَ قماشًا أعطيك؛ فإن عندي شيئًا كثيرًا. وعند المساء عزمه التاجر علي، وعزم
معه التجار جميعًا، وأجلَسَه في الصدر، وصار لا يتكلم إلا بالقماشات والجواهر،
وكلما ذكروا له شيئًا يقول: عندي منه كثيرٌ. وثاني يومٍ توجَّه إلى السوق وصار
يميل على التجار ويأخذ منهم الأموال ويفرِّقها على الفقراء.
ولم
يزل على هذه الحالة مدة عشرين يومًا، حتى أخذ من الناس ستين ألف دينار ولم تأتِهِ
حملة ولا كبة حامية. فضجَّت الناس على أموالهم وقالوا: ما أتت حملة التاجر معروف،
وإلى متى وهو يأخذ أموال الناس ويعطيها للفقراء؟ فقال واحدٌ منهم: الرأي أن
نتكلَّم مع بلديه التاجر علي. فأتوه وقالوا له: يا تاجر علي، إن حملة التاجر معروف
لم تأتِ. فقال لهم: اصبروا؛ فإنها لا بد أن تأتي عن قريبٍ. ثم إنه اختلى به وقال
له: يا معروف، ما هذه الفعال؟ هل أنا قلت لك قمِّر الخبز أو احرقه؟ إن التجار ضجوا
على أموالهم، وأخبروني أنه صار عليك ستون ألف دينار أخذتها وفرَّقتها على الفقراء،
ومن أين تسدُّ دَيْن الناس وأنت لا تبيع ولا تشتري؟ فقال له: أي شيء يجري؟ وما
مقدار الستين ألف دينار؟ لما تجيء الحملة أعطيهم إن شاءوا قماشًا وإن شاءوا ذهبًا
وفضةً. فقال له التاجر علي: الله أكبر! وهل أنت لك حملة؟ قال: كثير. قال له: الله،
والرجال عليك وعلى سماجتك! هل أنا علمتك هذا الكلام حتى تقوله لي؟ فأنا أخبر بك
الناس. قال: رُحْ بلا كثرة كلامٍ، هل أنا فقيرٌ؟ إنَّ حملتي فيها شيءٌ كثير؛ فإذا
جاءت يأخذون متاعهم المِثل مثلَيْن، أنا غير محتاجٍ إليهم. فعند ذلك اغتاظ التاجر
علي وقال له: يا قليل الأدب، لا بد أن أريك كيف تكذب عليَّ ولا تستحي. فقال له:
الذي يخرج من يدك افعله، ويصبرون حتى تجيء حملتي ويأخذون متاعهم بزيادة. فتركه
وراح وقال في نفسه: أنا شكرته سابقًا، وإنْ ذممتُه الآن صرتُ كاذبًا وأدخل في قول
مَن قال: مَن شكر وذم، كذَبَ مرتين. وصار متحيرًا في أمره، ثم إن التجار أتوه
وقالوا: يا تاجر علي، هل كلَّمته؟ قال لهم: يا ناس، أنا أستحي منه، ولي عنده ألف
دينارٍ، ولم أقدر أن أكلمه عليها، وأنتم لمَّا أعطيتموه ما شاورتموني، وليس لكم
عليَّ كلامٌ، فطالِبوه منكم له، وإن لم يعطِكم فاشكوه إلى ملك المدينة وقولوا له:
إنه نصاب، نصب علينا. فإنَّ الملك يخلِّصكم منه. فراحوا للملك وأخبروه بما وقع
وقالوا: يا ملك الزمان، إننا تحيَّرنا في أمرنا مع هذا التاجر الذي كرمُهُ زائدٌ؛
فإنه يفعل كذا وكذا، وكل شيءٍ أخذه يفرِّقه على الفقراء بالكبشة، فلو كان مقلًّا
ما كانت تسمح نفسه أن يكبش الذهب ويعطيه للفقراء، ولو كان من أصحاب النِّعَم كان
صِدْقُه ظهر لنا بمجيء حملته، ونحن لا نرى له حملةً مع أنه يدَّعي أن له حملةً وقد
سبقها، وكلما ذكرنا له صنفًا من أصناف القماش يقول: عندي منه كثير. وقد مضت مدةٌ
ولم يُبِن عن حملته خبرٌ، وقد صار لنا عنده ستون ألف دينار، وكل ذلك فرَّقه على
الفقراء. وصاروا يشكرونه ويمدحون كرمه. وكان ذلك الملك طمَّاعًا، أطمع من أشعب،
فلما سمع بكرمه وسخائه غلب عليه الطمع، وقال لوزيره: لو لم يكن هذا التاجر عنده
أموالٌ كثيرةٌ ما كان يقع منه هذا الكرم كله، ولا بد أن تأتي حملته ويجتمع هؤلاء
التجار عنده ويبعثر عليهم أموالًا كثيرة، فأنا أحقُّ منهم بهذا المال، فمرادي أن
أعاشره وأتودَّد إليه حتى تأتي حملته، والذي يأخذه منه هؤلاء التجار آخذه أنا
وأزوِّجه ابنتي، وأضم ماله إلى مالي. فقال له الوزير: يا ملك الزمان، ما أظنه إلا
نصَّابًا، والنصَّاب قد أخرب بيت الطمَّاع. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن
الكلام المباح.
﴿اللیلة 993﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الوزير لمَّا قال للملك: ما أظنه إلا نصَّابًا،
والنصَّاب قد أخرب بيت الطمَّاع. قال له الملك: يا وزير، أنا أمتحنه وأعرف هل هو
نصَّابٌ أو صادقٌ، وهل هو تربية نعمة أو لا! قال الوزير: بماذا تمتحنه؟ قال الملك:
إن عندي جوهرة، فأنا أبعث إليه وأحضره عندي، وإذا جلس أُكرِمه وأعطيه الجوهرة، فإن
عرفها وعرف ثمنها يكون صاحبَ خيرٍ ونِعَمٍ، وإنْ لم يعرفها فهو نصَّاب محدث،
فأقتله أقبح قِتْلة. ثم إن الملك أرسل إليه وأحضره، فلما دخل عليه سلَّم عليه،
فردَّ عليه السلام وأجلسه إلى جانبه وقال له: هل أنت التاجر معروف؟ قال: نعم. قال
له: إن التجار يزعمون أنَّ لهم عندك ستين ألف دينارٍ، فهل ما يقولونه حق؟ قال:
نعم. قال له: لِمَ لَمْ تُعْطِهم أموالهم؟ قال: يصبرون حتى تجيء حملتي وأعطيهم
المثل مثلَيْن، وإن أرادوا ذهبًا أُعطِهم، وإن أرادوا فضةً أُعطِهم، وإن أرادوا
بضاعةً أُعطِهم، والذي له ألفٌ أُعطيه ألفَيْن في نظير ما ستر به وجهي مع الفقراء،
فإن عندي شيئًا كثيرًا. ثم إن الملك قال له: يا تاجر، خذ هذه وانظر ما جنسها وما
قيمتها. وأعطاه جوهرةً قدر البندقة كان الملك اشتراها بألف دينارٍ، ولم يكن عنده
غيرها، وكان مستعزًّا بها، فأخذها معروف بيده وقرط عليها بالإبهام والشاهد فكسرها؛
لأن الجوهر رقيق لا يتحمل. فقال له الملك: لأي شيء كسرت الجوهرة؟ فضحك وقال: يا
ملك الزمان، ما هذه جوهرةٌ! هذه قطعة معدن تساوي ألف دينار، كيف تقول عليها إنها
جوهرة؟ إن الجوهرة يكون ثمنها سبعين ألف دينارٍ، وإنما يقال على هذه: قطعة معدن.
والجوهرة ما لم تكن قدر الجوزة فلا قيمةَ لها عندي ولا أعتني بها. كيف تكون
مَلِكًا وتقول على هذه جوهرة وهي قطعة معدنٍ قيمتها ألف دينارٍ؟! ولكن أنتم
معذورون لكونكم فقراء وليس عندكم ذخائر لها قيمة. فقال له الملك: يا تاجر، هل عندك
جواهر من الذي تخبر به؟ قال: كثيرٌ. فغلب الطمع على الملك، فقال له: هل تعطيني
جواهر صحاحًا؟ قال له: حتى تجيء الحملة أعطيك كثيرًا، ومهما طلبتَه فعندي منه
كثيرٌ، وأعطيك من غير ثمن. ففرح الملك وقال للتجار: روحوا إلى حال سبيلكم، واصبروا
عليه حتى تجيء الحملة، ثم تعالوا خذوا مالكم مني. فراحوا.
هذا
ما كان من أمر معروف والتجَّار، وأمَّا ما كان من أمر الملك، فإنه أقبل على الوزير
وقال له: لاطِف التاجرَ معروفًا وخذ وأعطِ معه في الكلام، واذكر له ابنتي حتى
يتزوَّج بها ونغتنم هذه الخيرات التي عنده. فقال الوزير: يا ملك الزمان، إن حال
هذا الرجل لم يعجبني، وأظن أنه نصَّابٌ وكذَّابٌ، فاتركْ هذا الكلام لئلا تضيع
بنتك بلا شيء. وكان الوزير سابقًا ساقَ على الملك أن يزوِّجه البنت، وأراد زواجها
له، فلما بلغها ذلك لم ترضَ. ثم إن الملك قال له: يا خائن، أنت لا تريد لي خيرًا
لكونك خطبتَ ابنتي سابقًا ولم ترضَ أن تتزوَّج بك، فصرتَ الآن تقطع طريقَ زواجها،
ومرادك أن بنتي تبور حتى تأخذها أنت! فاسمعْ مني هذه الكلمة، ليس لك علاقة بهذا
الكلام، كيف يكون نصَّابًا كذَّابًا مع أنه عرف ثمن الجوهرة مثل ما اشتريتها به،
وكسرها لكونها لم تعجبه وعنده جواهر؟ فمتى دخل على ابنتي يرَها جميلةً فتأخذ عقله
ويحبها ويُعْطِها جواهرَ وذخائر، وأنت مرادك أن تحرم ابنتي وتحرمني من هذه
الخيرات. فسكت الوزير وخاف من غضب الملك عليه، وقال في نفسه: أغْرِ الكلابَ على
البقر. ثم ميَّلَ على التاجر معروف وقال له: إن حضرة الملك حبَّك، وله بنت ذات
حُسْن وجمال يريد أن يزوِّجها لك، فما تقول؟ فقال له: لا بأس، ولكن يصبر حتى تأتي
حملتي، فإن مهر بنات الملوك واسعٌ، ومقامهن ألَّا يُمْهَرْنَ إلا بمهرٍ يناسب
حالهن، وفي هذه الساعة ما عندي مال، فَلْيصبر عليَّ حتى تجيء الحملة، فالخير عندي
كثير، ولا بد أن أدفع صَداقها خمسة آلاف، وأحتاج إلى ألفِ كيسٍ أفرِّقها على
الفقراء والمساكين ليلةَ الدخلة، وألفِ كيسٍ أعطيها للذين يمشون في الزَّفَّة،
وألفِ كيسٍ أعمل بها الأطعمة للعساكر وغيرهم، وأحتاج إلى مائة جوهرة أعطيها للملكة
صبيحة العُرْس، ومائة جوهرة أفرِّقها على الجواري والخَدَم، فأعطي كل واحدةٍ
جوهرةً تعظيمًا لمقام العروسة، وأحتاج إلى أن أكسي ألف عريانٍ من الفقراء، ولا بد
من صدقاتٍ، وهذا شيء لا يمكن إلا إذا جاءت الحملة، فإن عندي شيئًا كثيرًا، وإذا
جاءت الحملة لا أبالي بهذا المصروف كله. فراح الوزير وأخبر الملك بما قاله، فقال
الملك: حيث كان مراده ذلك، كيف تقول عنه إنه نصابٌ كذابٌ؟ قال الوزير: ولم أزل
أقول ذلك. ففزع فيه الملك ووبَّخه وقال له: وحياة رأسي، إن لم تترك هذا الكلام
لَأقتلنك! فارجع إليه وهاتِه عندي، وأنا مني له أصطفل. فراح إليه الوزير وقال:
تعالَ كلِّم الملك. فقال: سمعًا وطاعةً. ثم جاء إليه، فقال له الملك: لا تعتذرْ
بهذه الأعذار، فإنَّ خزنتي ملآنة، فخذ المفاتيح عندك وأنفِقْ جميع ما تحتاج إليه،
وأعطِ ما تشاء، واكْسُ الفقراءَ وافعل ما تريد، وما عليك من البنت والجواري، وإذا
جاءت حملتك فاعمل مع زوجتك ما تشاء من الإكرام، ونحن نصبر عليك بصداقها حتى تجيء
الحملة، وليس بيني وبينك فرقٌ أبدًا.
ثم
أمر شيخ الإسلام أن يكتب الكتاب، فكتب كتاب بنت الملك على التاجر معروف، وشرع في
عمل الفرح، وأمر بزينة المدينة، ودُقَّت الطبول ومُدَّت الأطعمة من سائر الألوان،
وأقبلت أرباب الملاعب، وصار التاجر معروف يجلس على كرسي في مقعدٍ، وتأتي قدامه
أرباب الملاعب والشطار والجنك وأرباب الحركات الغريبة والملاهي العجيبة، وصار يأمر
الخازندار ويقول له: هاتِ الذهب والفضة. فيأتيه بالذهب والفضة، وصار يدور على
المتفرجين ويعطي كل مَن لعب بالكبشة ويُحسِن للفقراء والمساكين، ويكسو العريانين،
وصار فرحًا عجاجًا. وما بقي الخازندار يلحق أن يجيء بالأموال من الخزنة، وكاد قلب
الوزير أن ينفقع من الغيظ، ولم يقدر أن يتكلم، وصار التاجر عليٌّ يتعجب من بذل هذه
الأموال ويقول للتاجر معروف: الله والرجال على صدغك! أَمَا كفاك أن أضعتَ مال
التجار حتى تضيع مال الملك؟ فقال له التاجر معروف: لا علاقةَ لك، وإذا جاءت الحملة
أعوض ذلك على الملك بأضعافه. وصار يبدِّد في الأموال ويقول في نفسه: كبةٌ حامية،
فالذي يجري يجري والمقدَّر ما منه مفر. ولم يزل الفرح مدة أربعين يومًا، وفي اليوم
الحادي والأربعين عملوا الزفة للعروسة ومشى قدامها جميع الأمراء والعساكر، ولما
دخلوا بها صار ينثر الذهب على رءوس الخلائق، وعملوا لها زفةً عظيمةً، وصرف أموالًا
لها مقدار عظيم، وأدخلوه على الملكة فقعد على المرتبة العالية، وأرخَوا الستائر
وقفلوا الأبواب وخرجوا وتركوه عند العروسة، فخبط يدًا على يدٍ وقعد حزينًا مدةً
وهو يضرب كفًّا على كفٍّ ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فقالت له
الملكة: يا سيدي، سلامتك، ما لكَ مغمومًا؟ فقال: كيف لا أكون مغمومًا وأبوكِ قد
شوَّش عليَّ وعمل معي عَمْلةً مثل حرق الزرع الأخضر؟! قالت: وما عمل معك أبي؟ قل
لي. قال: أدخَلَني عليك قبل أن تأتي حملتي، وكان مرادي أقل ما يكون مائة جوهرةٍ
أفرِّقها على جواريك، لكل واحدةٍ جوهرةٌ تفرح بها وتقول: إن سيدي أعطاني جوهرةً في
ليلة دخلته على سيدتي. وهذه الخصلة كانت تعظيمًا لمقامك وزيادةً في شرفك، فإني لا
أقصِّر ببذل الجواهر؛ لأن عندي منها كثيرًا. فقالت له: لا تهتم بذلك، ولا تغمَّ
نفسك بهذا السبب، أما أنا فما عليك مني؛ لأني أصبر عليك حتى تجيء الحملة، وأمَّا
الجواري فما عليك منهن. قم اقلع ثيابك واعمل انبساطًا، ومتى جاءت الحملة فإننا
لاحقون على تلك الجواهر وغيرها. فقام وقلع ما كان عليه من الثياب، وجلس على الفراش
وطلب النغاش ووقع الهراش، وحطَّ يده على ركبتها، فجلست هي في حجره وألقمته شفتها
في فمه، وصارت هذه الساعة تُنسِي الإنسان أباه وأمه، فحضنها وضمها إليه وعصرها في
حضنه، وضمَّها إلى صدره ومصَّ شفتها حتى سال العسل من فمها، ووضع يده من تحت إبطها
الشمال، فحنَّتْ أعضاؤه وأعضاؤها للوصال، ولكزها بين النهدَيْن فراحت بين
الفخذَيْن، وتحزَّم بالساقين ومارس العملين ونادى: يا أبا اللثامين! وحطَّ الذخيرة
وأشعل الفتيل، وحرَّر على بيت الإبرة وأعطى النار، فخسف البرج من الأربعة أركان،
وحصلت النكتة التي لا يُسأل عنها، وزعقت الزعقة التي لا بد منها. وأدرك شهرزاد
الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 994﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن بنت الملك لما زعقت الزعقة التي لا بد منها، أزال
التاجر معروف بكارتها، وصارت تلك الليلة لا تُعَد من الأعمار؛ لاشتمالها على وصل
المِلَاح من عِناقٍ وهراشٍ ومص ورضع إلى الصباح، ثم دخل الحمَّام ولبس بدلةً من
ملابس الملوك، وطلع من الحمام ودخل ديوان الملك، فقام له مَن فيه على الأقدام،
وقابلوه بإعزازٍ وإكرامٍ، وهنَّوْه وباركوا له، وجلس بجانب الملك وقال: أين
الخازندار؟ فقالوا: ها هو حاضر بين يديك. قال: هاتِ الخلع وألبس جميع الوزراء
والأمراء وأرباب المناصب. فجاء له بجميع ما طلب، وجلس يعطي كلَّ مَن أتى له،
ويهَبُ لكل إنسانٍ على قدر مقامه، واستمرَّ على هذه الحالة مدة عشرين يومًا، ولم
يَظهر له حملة ولا غيرها. ثم إن الخازندار تضايق منه غاية الضيق، ودخل على الملك
في غياب معروفٍ، وكان الملك جالسًا هو والوزير لا غير، فقبَّلَ الأرض بين يديه
وقال: يا ملك الزمان، أنا أُخبرك بشيءٍ؛ لأنك ربما تلومني على عدم الإخبار به.
اعلم أن الخزنة فرغتْ ولم يبقَ فيها شيء من المال إلا القليل، وبعد عشرة أيام
نقفلها على الفارغ. فقال الملك: يا وزير، إن حملة نسيبي تأخَّرت ولم يَبِنْ عنها
خبر. فضحك الوزير وقال له: الله يلطف بك يا ملك الزمان، ما أنت إلا مغفلٌ عن فعل
هذا النصَّاب الكذَّاب، وحياة رأسك إنه لا حملةَ له ولا كبة تريحنا منه، وإنما هو
لم يزل ينصب عليك حتى أتلَفَ أموالك وتزوَّج بنتك بلا شيء، وإلى متى وأنت غافل عن
هذا الكذَّاب؟ فقال له: يا وزير، كيف العمل حتى نعرف حقيقة حاله؟ فقال: يا ملك
الزمان، لا يطَّلِع على سر الرجل إلا زوجته، فأرسِلْ إلى بنتك لتأتي خلف الستارة
حتى أسألها عن حقيقة حاله؛ لأجل أن تختبره وتُطلِعنا على طبيعة حاله. فقال: لا بأس
بذلك، وحياة رأسي إنْ ثبت أنه نصَّابٌ كذَّابٌ لَأقتلَنَّه أشأمَ قِتْلة!
ثم
إنه أخذ الوزير ودخل به إلى قاعة الجلوس، وأرسل إلى بنته فأتت خلف الستارة، وكان
ذلك في غياب زوجها، فلما أتت قالت: يا أبي، ما تريده؟ قال: كلِّمي الوزير. قالت:
أيها الوزير، ما بالك؟ قال: يا سيدتي، اعلمي أن زوجك أتلف مال أبيك، وقد تزوَّجَ
بك بلا مهرٍ، وهو لم يزل يَعِدُنا ويخلف الميعاد، ولم يَبِن لحملته خبر، وبالجملة
نريد أن تخبرينا عنه. فقالت: إن كلامه كثير، وهو في كل وقتٍ يجيء ويَعِدُني بالجواهر
والذخائر والقماشات المثمنة، ولم أرَ شيئًا. فقال: يا سيدتي، هل تقدرين في هذه
الليلة أن تأخذي وتعطي معه في الكلام وتقولي له: أخبرني بالصحيح ولا تخَفْ من
شيءٍ، فإنك صرتَ زوجي ولا أفرِّط فيك، فأخبِرْني بحقيقة الأمر وأنا أدبِّر لكَ
تدبيرًا ترتاح به. ثم قرِّبي وبعِّدي له في الكلام، وأَرِيه المحبةَ وقرِّريه، ثم
بعد ذلك أخبرينا بحقيقة أمره. فقالت: يا أبتِ، أنا أعرف كيف أختبره. ثم إنها ذهبت،
وبعد العشاء دخل عليها زوجها معروف على جري عادته، فقامت له وأخذته من تحت إبطه،
وخادعَتْه خداعًا زائدًا، وناهيك بمُخادَعة النساء إذا كان لهنَّ عند الرجال حاجةٌ
يُرِدْنَ قضاءها. وما زالت تخادعه وتلاطفه بكلامٍ أحلى من العسل حتى سرقت عقله،
فلما رأته مال إليها بكُلِّيته قالت له: يا حبيبي، يا قرَّة عيني، يا ثمرة فؤادي،
لا أوحش الله ولا فرَّق الزمان بيني وبينك، فإن محبَّتك سكنتْ فؤادي، ونار غرامك
أحرقت أكبادي، وليس فيكَ تفريطٌ أبدًا، ولكن مرادي أن تخبرني بالصحيح؛ لأن حِيَل
الكذب غير نافعةٍ، لا تنطلي في كل الأوقات، وإلى متى وأنت تنصب وتكذب على أبي؟!
وأنا خائفةٌ أن يفتضح أمرك عنده قبل أن ندبِّر له حيلةً فيبطش بك. فأخبِرْني
بالصحيح، وما لك إلا ما يسرُّك، ومتى أخبرتَني بحقيقة الأمر فلا تخشَ من شيء يضرك،
فكم تدَّعي أنك تاجرٌ وصاحب أموالٍ ولك حملةٌ، وقد مضت لك مدة طويلة وأنت تقول:
حملتي حملتي، ولم يَبِن عن حملتك خبر، ويلوح على وجهك الهم بهذا السبب، فإن كان
كلامك ليس له صحةٌ فأخبرني وأنا أدبِّر لك تدبيرًا تخلص به إن شاء الله. فقال لها:
يا سيدتي، أنا أخبرك بالصحيح، ومهما أردتِ فافعلي. فقالت: قُلْ وعليك بالصدق؛ فإن
الصدق سفينة النجاة، وإياك والكذب؛ فإنه يفضح صاحبه، ولله درُّ مَن قال:
عَلَيْكَ
بِالصِّدْقِ وَلَوْ أَنَّهُ أَحْرَقَكَ
عَمْدًا بِنَارِ الْوَعِيدْ
وَابْغِ
رِضَا اللهِ فَأَغْبَى الْوَرَى مَنْ
أَسْخَطَ الْمَوْلَى وَأَرْضَى الْعَبِيدْ
فقال:
يا سيدتي، اعلمي أني لستُ تاجرًا، ولا لي حملة ولا كبة حامية، وإنما كنتُ في بلادي
رجلًا إسكافيًّا، ولي زوجة اسمها فاطمة العرَّة، وجرى لي معها كذا وكذا … وأخبرها
بالحكاية من أولها إلى آخرها. فضحكت وقالت: إنك ماهرٌ في صناعة الكذب والنصب.
فقال: يا سيدتي، الله تعالى يبقيكِ لستر العيوب وفك الكروب. فقالت: اعلم أنك نصبت
على أبي وغرَّرتَه بكثرة فشرك حتى زوَّجني بك من طمعه، ثم أتلفتَ ماله، والوزير
مُنكِر ذلك عليك، وكم مرة يتكلَّم فيك عند أبي ويقول له: إنه نصَّابٌ كذَّابٌ.
ولكن أبي لم يُطِعه فيما يقول بسبب أنه كان خطبني وأنا لم أرضَ به أن يكون لي
بَعْلًا وأكون له أهلًا، ثم إن المدة طالت، وقد تضايق أبي وقال لي: قرِّريه. وقد
قرَّرتك وانكشف المغطَّى، وأبي مصرٌّ لك على الضرر بهذا السبب، ولكنك صرتَ زوجي
وأنا لا أفرِّط فيك، فإن أخبرتُ أبي بهذا الخبر ثبت عنده أنك نصَّابٌ كذَّابٌ، وقد
نصبتَ على بنات الملوك وأذهبتَ أموالهم، فذنبك عنده لا يُغتفَر، ويقتلك بلا
محالةٍ، ويشيع بين الناس أني تزوَّجتُ برجلٍ نصَّابٍ كذَّابٍ، وتكون فضيحة في حقي،
وإذا قتلك أبي ربما يحتاج إلى أن يزوِّجني إلى آخر، وهذا شيء لا أقبله ولو مت،
ولكن قُمِ الآن والبس بدلة مملوكٍ، وخذ معك خمسين ألف دينارٍ من مالي، واركب على
جوادٍ وسافر إلى بلاد يكون حكم أبي لا ينفذ فيها، واعمل تاجرًا هناك واكتب لي
كتابًا وأرسله مع ساعٍ يأتيني به خفيةً لأعلم في أي البلاد أنت، حتى أرسلَ إليك كل
ما طالته يدي ويكثر مالك، فإن مات أبي أرسلت إليك فتجيء بإعزازٍ وإكرامٍ، وإذا مت
أنت أو مت أنا إلى رحمة الله تعالى، فالقيامة تجمعنا، وهذا هو الصواب، وما دمت
طيبًا وأنا طيبة فلا أقطع عنك المراسَلة والأموال. قم قبل أن يطلع النهار عليك
وتحتار ويحيط بك الدمار.
فقال
لها: يا سيدتي، أنا في عرضك أن تودِّعيني بوصالك. فقالت: لا بأس. ثم واصلها واغتسل
ولبس بدلة مملوكٍ، وأمر السُّيَّاس أن يشدُّوا له جواده من الخيل الجياد، فشدوا له
جوادًا، ثم ودَّعها وخرج من المدينة في آخر الليل وسار، فصار كل مَن رآه يظن أنه
مملوكٌ من مماليك السلطان مسافرٌ في قضاء حاجةٍ. فلما أصبح الصباح جاء أبوها هو
والوزير إلى قاعة الجلوس، وأرسل إليها أبوها فأتت خلف الستارة، فقال لها أبوها: يا
بنتي، ما تقولين؟ قالت: أقول: سوَّد الله وجه وزيرك؛ فإنه كان مراده أن يسوِّد
وجهي مع زوجي. قال: وكيف ذلك؟ قالت: إنه دخل عليَّ أمس قبل أن أذكر له هذا الكلام،
وإذا بفرج الطواشي جاء عليَّ وبيده كتابٌ وقال: إن عشرة مماليك واقفون تحت شباك
القصر، وأعطوني هذا الكتاب وقالوا لي: قبِّلْ لنا أيادي سيدي معروف وأعطِه هذا
الكتاب؛ فإننا من مماليكه الذين مع الحملة، وقد بلغنا أنه تزوَّجَ بنت الملك
فأتينا له لنخبره بما حلَّ بنا في الطريق. فأخذتُ الكتاب وقرأته فرأيت فيه: «من
المماليك الخمسمائة إلى حضرة سيدنا التاجر معروف. وبعد؛ فالذي نعلمك به أنك بعدما
فتَّنا خرج العرب علينا وحارَبونا وهم قدر ألفين من الفرسان ونحن خمسمائة مملوك،
ووقع بيننا وبين العرب حربٌ عظيمة، ومنعونا عن الطريق، ومضى لنا ثلاثون يومًا ونحن
نحاربهم، وهذا سبب تأخيرنا عنك …» وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 995﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن بنت الملك قالت لأبيها: إن زوجي جاءه مكتوبٌ من
أتباعه مضمونه: «إن العرب منعونا عن الطريق، وهذا سبب تأخيرنا عنك، وقد أخذوا منا
مائتَيْ حمل قماش من الحملة، وقتلوا منا خمسين مملوكًا». فلما بلغه الخبر قال:
خيَّبَهم الله! كيف يتحاربون مع العرب لأجل مائتَيْ حمل بضاعة؟ وما مقدار مائتَيْ
حمل؟ فما كان ينبغي لهم أن يتأخَّروا من أجل ذلك، فإن قيمة المائتي حمل سبعة آلاف
دينارٍ، ولكن ينبغي أن أروح إليهم وأستعجلهم، والذي أخذه العرب لا تنقص به الحملة
ولا يؤثِّر عندي شيئًا، وأقدِّر أني تصدَّقتُ به عليهم. ثم نزل من عندي ضاحكًا ولم
يُغَمَّ على ما ضاع من ماله ولا على قتل مماليكه، ولما نزل نظرتُ من شباك القصر
فرأيت العشرة مماليك الذين أتوا له بالكتاب كأنهم الأقمار؛ كل واحدٍ منهم لابس
بدلة تساوي ألف دينارٍ، وليس عند أبي مملوكٌ يشبه واحدًا منهم. ثم توجَّه مع المماليك
الذين جاءوا له بالمكتوب ليجيء بحملته، والحمد لله الذي منعني أن أذكر له شيئًا من
هذا الكلام الذي أمرتني به؛ فإنه كان يستهزئ بي وبك، وربما كان يراني بعين النقص
ويبغضني، ولكن العيب كله من وزيرك الذي يتكلَّم في حق زوجي كلامًا لا يليق به.
فقال الملك: يا بنتي، إن مال زوجك كثير، ولا يفكر في ذلك، ومن يوم دخل بلادنا وهو
يتصدَّق على الفقراء، وإن شاء الله عن قريبٍ يأتي بالحملة ويحصل لنا منه خيرٌ
كثيرٌ. وصار يأخذ بخاطرها ويوبِّخ الوزير، وانطلت عليه الحيلة.
هذا
ما كان من أمر الملك، وأما ما كان من أمر التاجر معروف، فإنه ركب الجواد وسار في
البر الأقفر وهو متحيِّر لا يدري إلى أي البلاد يروح، وصار من ألم الفراق ينوح،
وقاسى الوَجْد واللوعات، وأنشد هذه الأبيات:
غَدَرَ
الزَّمَانُ بِشَمْلِنَا فَتَفَرَّقَا
وَالْقَلْبُ ذَابَ مِنَ الْجَفَا وَتَحَرَّقَا
وَالْعَيْنُ
تَقْطُرُ مِنْ فِرَاقِ أَحِبَّتِي هَذَا
الْفِرَاقُ مَتَى يَكُونُ الْمُلْتَقَى
يَا
طَلْعَةَ الْبَدْرِ الْمُنِيرِ أَنَا الَّذِي فِي حُبِّكُمْ تَرَكَ الْفُؤَادَ
مُمَزَّقَا
يَا
لَيْتَنِي لَمْ أَجْتَمِعْ بِك سَاعَةً
مِنْ بَعْدِ طِيبِ وِصَالِكُمْ ذُقْتُ الشَّقَا
مَا
زَالَ مَعْرُوفٌ بِدُنْيَا مُغْرَمًا
إِنْ كَانَ مَاتَ صَبَابَةً فَلَهَا الْبَقَا
يَا
بَهْجَةَ الشَّمْسِ الْمُنِيرَةِ أَدْرِكِي
قَلْبًا لِمَعْرُوفِ الْمَحَبَّةِ مُحْرَقَا
يَا
هَلْ تُرَى الْأَيَّامُ تَجْمَعُ شَمْلَنَا
وَنَفُوزُ مِنْهَا بِالْمَسَرَّةِ وَاللِّقَا
وَيَضُمُّنَا
قَصْرُ الْحَبِيبَةِ بِالْهَنَا وَأَضُمُّ
فِيهِ مُعَانِقًا غُصْنَ النَّقَا
يَا
طَلْعَةَ الْبَدْرِ الْمُنِيرَةِ شَمْسُهُ
مَا زَالَ وَجْهُكِ بِالْمَحَاسِنِ مُشْرِقَا
إِنِّي
لَرَاضٍ بِالْغَرَامِ وَهَمِّهِ حَيثُ
السَّعَادَةُ فِي الْهَوَى عَيْنُ الشَّقَا
فلما
فرغ من شعره بكى بكاءً شديدًا، وقد انسدَّت الطرقات في وجهه، واختار الممات على
الحياة، ثم إنه مشى كالسكران من شدة حيرته، ولم يزل سائرًا إلى وقت الظهر حتى أقبل
على بلدةٍ صغيرةٍ، فرأى رجلًا حرَّاثًا قريبًا منها يحرث على ثورين، وكان قد اشتد
به الجوع، فقصد الحرَّاث وقال له: السلام عليكم. فردَّ عليه السلام وقال: مرحبًا
بك يا سيدي، هل أنت من مماليك السلطان؟ قال: نعم. قال: انزل عندي للضيافة. فعرف
أنه من الأجاويد، فقال له: يا أخي، ما أنا ناظرٌ عندك شيئًا حتى تطعمني إياه، فكيف
تعزم عليَّ؟ فقال الحرَّاث: يا سيدي، الخير موجودٌ، انزل أنت وها هي البلدة
قريبةٌ، فأروح وأجيء لك بغداء وعليق لحصانك. قال: حيث كانت البلدة قريبةٌ فأنا أصل
إليها في مقدار ما تصل أنت إليها وأشتري مرادي من السوق وآكل. فقال له: يا سيدي،
إن البلدة كفرٌ صغير، وليس فيها سوق ولا بيع ولا شراء. سألتك بالله أن تنزل عندي
وتجبر بخاطري وأنا أذهب إليها وأرجع إليك بسرعةٍ. فنزل، ثم إن الفلاح تركه وراح
البلد ليجيء له بالغداء، فقعد معروف ينتظره، ثم قال في نفسه: إنَّا شغلنا هذا
الرجل المسكين عن شغله، ولكن أنا أقوم
وأحرث عوضًا عنه حتى يأتي في نظير ما عوَّقته عن شغله. ثم أخذ المحراث وساق
الثيران، فحرث قليلًا، وعثر المحراث فرآه مشبوكًا في حلقةٍ من الذهب، فكشف عنها
التراب فوجد تلك الحلقة في وسط حجرٍ من المرمر قدر قاعدة الطاحون، فعالج فيه حتى
قلعه من مكانه، فبان من تحته طابق بسلالم، فنزل في تلك السلالم فرأى مكانًا مثل
الحمَّام بأربعة لواوين؛ الليوان الأول ملآن من الأرض إلى السقف بالذهب، والليوان
الثاني ملآن زمردًا ولؤلؤًا ومرجانًا من الأرض إلى السقف، والليوان الثالث ملآن
ياقوتًا وبلخشًا وفيروزًا، والليوان الرابع ملآن بالألماس ونفيس المعادن من سائر
أصناف الجواهر. وفي صدر المكان صندوق من البلور الصافي ملآن بالجواهر اليتيمة التي
كل جوهرةٍ منها قدر الجوزة. وفوق ذلك الصندوق علبة صغيرة قدر الليمونة، وهي من
الذهب.
فلما
رأى ذلك تعجَّب وفرح فرحًا شديدًا وقال: يا هل ترى أي شيءٍ في هذه العلبة؟ ثم إنه
فتحها فرأى فيها خاتمًا من الذهب مكتوبًا عليه أسماء وطلاسم مثل دبيب النمل، فدعك
الخاتم، وإذا بقائلٍ يقول: لبيك لبيك يا سيدي، فاطلب تُعطَ، هل تريد أن تعمِّر
بلدًا أو تخرب مدينةً أو تقتل ملكًا أو تحفر نهرًا أو نحو ذلك؟ فمهما طلبتَه فإنه
قد صار بإذن الملك الجبار خالق الليل والنهار. فقال له:
يا
مخلوق ربي، مَن أنت؟ وما تكون؟ قال: أنا خادم هذا الخاتم القائم بخدمة مالكه،
فمهما طلبه من الأغراض قضيته له ولا عذر لي فيما يأمرني به؛ فإني سلطانٌ على
أعوانٍ من الجان، وعدَّة عسكري اثنتان وسبعون قبيلةً، كل قبيلةٍ عدَّتها اثنان
وسبعون ألفًا، وكل واحدٍ من الألف يحكم على ألف ماردٍ، وكل ماردٍ يحكم على ألف
عونٍ، وكل عون يحكم على ألف شيطان، وكل شيطان يحكم على ألف جني، وكلهم من تحت
طاعتي، ولا يقدرون على مخالفتي، وأنا مرصود لهذا الخاتم لا أقدر على مخالفة من
ملكه، وها أنت قد ملكته وصرتُ أنا خادمك، فاطلب ما شئت فإني سميعٌ لقولك مطيعٌ
لأمرك، وإذا احتجت إليَّ في أي وقتٍ في البر أو في البحر فادْعَكِ الخاتم تجدني
عندك، وإياك أن تدعكه مرتين متواليتَيْن فتحرقني بنار الأسماء، وتعدمني وتندم
عليَّ بعد ذلك، وقد عرَّفتك بحالي والسلام. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن
الكلام المباح.
﴿اللیلة 996﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن خادم هذا الخاتم لما أخبر معروفًا بأحواله قال له
معروف: ما اسمك؟ قال: اسمي أبو السعادات. فقال له: يا أبا السعادات، ما هذا
المكان؟ ومَن أرصدك في هذه العلبة؟ قال له: يا سيدي، هذا المكان كنزٌ يقال له كنز
شداد بن عاد الذي عمَّر إرم ذات العماد، التي لم يُخلَق مِثلُها في البلاد، وأنا
كنت خادمه في حياته، وهذا خاتمه، وقد وضعه في كنزه، ولكنه نصيبك. فقال له معروف:
هل تقدر أن تخرج ما في هذا الكنز على وجه الأرض؟ قال: نعم، أسهل ما يكون. قال:
أخرج جميع ما فيه ولا تُبقِ منه شيئًا. فأشار بيده إلى الأرض فانشقَّت، ثم نزل
وغاب مدةً لطيفةً، وإذا بغلمانٍ صغارٍ ظرافٍ بوجوهٍ حسانٍ قد خرجوا وهم حاملون
مشنَّاتٍ من الذهب، وتلك المشنَّات ممتلئة ذهبًا، وفرَّغوها ثم راحوا وجاءوا
بغيرها، ولا زالوا ينقلون من الذهب والجواهر، فلم تمضِ ساعة حتى قالوا: ما بقي في
الكنز شيءٌ. ثم طلع له أبو السعادات وقال له: يا سيدي، قد رأيت أن جميع ما في
الكنز قد نقلناه. فقال له: ما هذه الأولاد الحسان؟ قال: هؤلاء أولادي؛ لأن هذه
الشغلة لا تستحق أن أجمع لها الأعوان، وأولادي قضوا حاجتك وتشرَّفوا بخدمتك، فاطلب
ما تريد غير هذا. قال له: هل تقدر أن تجيء لي ببغالٍ وصناديقٍ وتحطَّ هذه الأموال
في الصناديق وتحمِّل الصناديق على البغال؟ قال: هذا أسهل ما يكون. ثم إنه زعق
زعقةً عظيمةً فحضر أولاده بين يديه، وكانوا ثمانمائة. فقال لهم: لينقلب بعضكم في
صورة البغال، وبعضكم في صورة المماليك الحسان الذين أقل مَن فيهم لا يوجد مثله عند
ملك من الملوك، وبعضكم في صورة المكارية، وبعضكم في صورة الخدَّامين. ففعلوا كما
أمرهم، ثم صاح على الأعوان فحضروا بين يديه، فأمرهم أن ينقلب بعضهم في صورة الخيل
المسرجة بسروج الذهب المرصَّع بالجواهر. فلما رأى معروف ذلك قال: أين الصناديق؟
فأحضروهم بين يديه. قال: عبُّوا الذهب والمعادن كل صنفٍ وحده. فعبوها وحمَّلوها
على ثلاثمائة بغلٍ، فقال معروف: يا أبا السعادات، هل تقدر أن تجيء لي بأحمالٍ من
نفيس القماش؟ قال: أتريدها قماشًا مصريًّا أو شاميًّا أو عجميًّا أو هنديًّا أو
روميًّا؟ قال: هاتِ من قماش كل بلد مائة حملٍ على مائة بغلٍ. قال: يا سيدي، أعطني
مهلةً حتى أرتِّب أعواني لذلك وآمر كل طائفةٍ أن تروح إلى بلدٍ لتجيء بمائة حملٍ من
قماشها وينقلب الأعوان في صورة البغال ويأتون حاملين البضائع. قال: ما قدر زمن
المهلة؟ قال: مدة سواد الليل، فلا يطلع النهار إلا وعندك جميع ما تريد. قال:
أمهلتك هذه المدة. ثم إنه أمرهم أن ينصبوا له خيمةً، فنصبوها وجلس وجاءوا له
بسماطٍ، وقال له أبو السعادات: يا سيدي، اجلس في الخيمة، وهؤلاء أولادي بين يديك
يحرسونك، ولا تخشَ من شيء، وأنا رايح أجمع أعواني وأبعثهم ليقضوا حاجتك.
ثم
ذهب أبو السعادات إلى حال سبيله، وجلس معروف في الخيمة والسماط قدامه وأولاد أبي
السعادات بين يديه في صورة المماليك والخدم والحشم. فبينما هو جالسٌ على تلك
الحالة، وإذا بالرجل الفلاح أقبل وهو حاملٌ قصعةَ عدسٍ كبيرةٍ، ومخلاةً ممتلئةً
شعيرًا، فرأى الخيمة منصوبة والمماليك واقفةٌ وأيديهم على صدورهم، فظنَّ أنه
السلطان أتى ونزل في ذلك المكان، فوقف باهتًا وقال في نفسه: يا ليتني كنت ذبحت
فرختين وحمَّرتهما بالسمن البقري من شأن السلطان. وأراد أن يرجع ليذبح فرختين
يضيِّف بهما السلطان، فرآه معروف فزعق عليه، وقال للمماليك: هاتوه. فحملوه هو
وقصعة العدس وأتوا بهما قدامه، فقال له: ما هذا؟ قال: هذا غداؤك وعليق حصانك، فلا
تؤاخذني؛ فإني ما كنتُ أظن أن السلطان يأتي إلى هذا المكان، ولو علمت بذلك كنتَ
ذبحت له فرختين وضيَّفتُه ضيافةً مليحةً. فقال معروف: إن السلطان لم يجئ، وإنما
أنا نسيبه، وكنت مغبونًا منه، وقد أرسل إليَّ مماليكه فصالحوني، وأنا الآن أريد أن
أرجع إلى المدينة، وأنت قد عملت لي هذه الضيافة على غير معرفةٍ، وضيافتك مقبولة
ولو كانت عدسًا، فأنا ما آكل إلا من ضيافتك. ثم أمره بوضع القصعة في وسط السماط،
وأكل منها حتى اكتفى، وأما الفلاح فإنه ملأ بطنه من تلك الألوان الفاخرة، ثم إن
معروفًا غسل يديه وأذن للمماليك في الأكل، فنزلوا على بقية السماط وأكلوا، ولما
فرغت القصعة ملأها له ذهبًا وقال له: أوصلها إلى منزلك وتعالَ عندي في المدينة
وأنا أكرمك. فأخذ القصعة ملآنةً ذهبًا، وساق الثيران وذهب إلى بلده وهو يظن أنه
نسيب الملك. وبات معروفًا تلك الليلة في أنسٍ وصفاءٍ، وجاءوا له ببناتٍ من عرائس
الكنوز، فدقوا الآلات ورقصوا قدامه، وقضى ليلته وكانت لا تُعَد من الأعمار.
فلما
أصبح الصباح لم يشعر إلا والغبار قد علا وطار وانكشف عن بغالٍ حاملةٍ أحمالًا، وهي
سبعمائة بغلٍ حاملة أقمشة وحولها غلمانٌ مكاريةٌ وعكامةٌ وضوية، وأبو السعادات
راكبٌ على بغلةٍ وهو في صورة مقدِّم الحملة، وقدامه تختروان له أربعة عساكر من
الذهب الأحمر الوهَّاج مرصَّعة بالجواهر. فلما وصل إلى الخيمة نزل من فوق ظهر
البغلة وقبَّل الأرض وقال: يا سيدي، إن الحاجة قُضِيت بالتمام والكمال، وهذا
التختروان فيه بدلة كنوزية لا مثلَ لها من ملابس الملوك، فالبسها واركب في
التختروان وأمرنا بما تريد. فقال له: يا أبا السعادات، مرادي أن أكتب لك كتابًا
تروح به إلى مدينة خيتان الختن، وتدخل على عمي الملك، ولا تدخل عليه إلا في صورة
ساعٍ أنيسٍ. فقال له: سمعًا وطاعةً. فكتب كتابًا وختمه، فأخذه أبو السعادات وذهب
به حتى دخل على الملك، فرآه يقول: يا وزير، إن قلبي على نسيبي وأخاف أن تقتله
العرب، يا ليتني كنت أعرف أين يذهب حتى كنت أتبعه بالعسكر، ويا ليته كان أخبرني
بذلك قبل الذهاب. فقال له الوزير: الله يلطف بك على هذه الغفلة التي أنت فيها،
وحياة رأسك إن الرجل عرف أننا انتبهنا له فخاف من الفضيحة وهرب، وما هو إلا
كذَّابٌ نصَّابٌ. وإذا بالساعي داخلٌ، فقبَّل الأرض بين يدي الملك ودعا له بدوام
العز والنِّعَم والبقاء، فقال له الملك: مَن أنت؟ وما حاجتك؟ فقال له: أنا ساعٍ
أرسلني إليك نسيبك، وهو مُقبِل بالحملة، وقد أرسل إليك معي كتابًا، وها هو. فأخذه
وقرأه فرأى فيه: «بعد مزيد السلام على عمنا الملك العزيز، فإني جئتُ بالحملة،
فاطلع وقابلني بالعسكر». فقال الملك: سوَّدَ الله وجهك يا وزير! كم تقدح في عرض
نسيبي وتجعله كذابًا نصابًا، وقد أتى بالحملة، فما أنت إلا خائنٌ. فأطرق الوزير
رأسه على الأرض حياءً وخجلًا وقال: يا ملك الزمان، أنا ما قلت هذا الكلام إلا لطول
غياب الحملة، وكنت خائفًا على ضياع المال الذي صرفه. فقال: يا خائن، أي شيءٍ
أموالي حيثما أتت حملته؟ فإنه يعطيني عوضًا عنها شيئًا كثيرًا. ثم أمر الملك بزينة
المدينة، ودخل على بنته وقال لها: لكِ البشارة، إن زوجك عن قريبٍ يجيء بحملته، وقد
أرسل إليَّ مكتوبًا بذلك، وها أنا طالعٌ لملاقاته. فتعجَّبت البنت من هذه الحالة
وقالت في نفسها: إن هذا شيءٌ عجيبٌ! هل كان يهزأ بي ويتمسخر عليَّ أو كان يختبرني
حين أخبرني بأنه فقيرٌ؟ ولكن الحمد لله حيث لم يقع مني تقصير في حقه.
هذا
ما كان من أمره، وأما ما كان من أمر التاجر علي المصري، فإنه لمَّا رأى الزينة سأل
عن سبب ذلك فقالوا له: إن التاجر معروفًا نسيب الملك قد أتت حملته. فقال: الله
أكبر! ما هذه الداهية؟ إنه قد أتاني هاربًا من زوجته، وكان فقيرًا! فمن أين جاءت
له حملة؟ ولكن لعل بنت الملك دبَّرت له حيلةً خوفًا من الفضيحة، والملوك لا تعجز
عن شيء، فالله تعالى يستره ولا يفضحه. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام
المباح.
﴿اللیلة 997﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن التاجر عليًّا لما سأل عن الزينة أخبروه بحقيقة
الحال، فدعا له وقال: الله يستره ولا يفضحه. وسائر التجار فرحوا وانسرُّوا لأجل
أخذ أموالهم. ثم إن الملك جمع العسكر وطلع، وكان أبو السعادات قد رجع إلى معروفٍ
وأخبره بأنه بلَّغ الرسالة. فقال معروف: حمِّلوا. فحمَّلوا ولبس البدلة الكنوزية
وركب في التختروان، وصار أعظم وأهيب من الملك بألف مرةٍ، ومشى إلى نصف الطريق،
وإذا بالملك قابله بالعسكر، فلما وصل إليه رآه لابسًا تلك البدلة وراكبًا في
التختروان، فرمى روحه عليه وسلَّم عليه وحيَّاه بالسلام، وجميع أكابر الدولة
سلَّموا عليه، وبان أن معروفًا صادق ولا كذب عنده، ودخل المدينة بموكبٍ يفقع مرارة
الأسد، وسعت إليه التجار وقبَّلوا الأرض بين يديه. ثم إن التاجر عليًّا قال: قد
عملت هذه العملة وطلعت بيدك يا شيخ النصابين، ولكن تستأهل، فالله تعالى يزيدك من
فضله. فضحك معروف، ولما دخل السراية قعد على الكرسي وقال: أدخلوا أحمال الذهب في
خزانة عمي الملك، وهاتوا أحمال الأقمشة فقدِّموها له. وصاروا يفتحونها حملًا بعد
حملٍ، ويخرجون ما فيها حتى فتحوا السبعمائة حمل، فنقَّى أطيبها وقال: أدخلوه
للملكة لتفرِّقه على جواريها، وخذوا هذا صندوق الجواهر وأدخلوه لها لتفرِّقه على
الجواري والخدم. وصار يعطي التجار الذين لهم عليه دينٌ من الأقمشة في نظير ديونهم،
والذي له ألف يعطيه قماشًا يساوي ألفين أو أكثر، وبعد ذلك صار يفرِّق على الفقراء
والمساكين، والملك ينظر بعينه ولا يقدر أن يعترض عليه. ولم يزل يعطي ويهب حتى
فرَّق السبعمائة حمل، ثم التفت إلى العسكر وجعل يفرِّق عليهم معادن وزمردًا
ويواقيت ولؤلؤًا ومرجانًا وغير ذلك، وصار لا يعطي الجواهر إلا بالكبش من غير عددٍ.
فقال له الملك: يا ولدي، يكفي هذا العطاء؛ لأنه لم يبقَ من الحملة إلا القليل.
فقال له: عندي كثيرٌ. واشتهر صدقه، وما بقي أحد يقدر أن يكذبه، وصار لا يبالي
بالعطاء؛ لأن الخادم يحضر له مهما طلب. ثم إن الخازندار أتى للملك وقال: يا ملك
الزمان، إن الخزنة امتلأت وصارت لا تسع بقية الأحمال، وما بقي من الذهب والمعادن
أين نضعه؟ فأشار له إلى مكانٍ آخر. ولما رأت زوجته هذه الحالة ازداد فرحها، وصارت
متعجبةً وتقول في نفسها: يا هل ترى من أين جاء له كل هذا الخير؟ وكذلك التجار
فرحوا بما أعطاهم ودعوا له. وأما التاجر علي فإنه صار متعجبًا ويقول في نفسه: يا
ترى كيف نصب وكذب حتى ملك هذه الخزائن كلها؟ فإنها لو كانت من عند بنت الملك ما
كان يفرِّقها على الفقراء، ولكن ما أحسن قول من قال:
مَلِكُ
الْمُلُوكِ إِذَا وَهَبْ لَا
تَسْأَلَنَّ عَنِ السَّبَبْ
اللهُ
يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ فَكُنْ عَلَى
حَدِّ الْأَدَبْ
هذا
ما كان من أمره، وأمَّا ما كان من أمر الملك، فإنه تعجَّبَ غايةَ العجب مما رأى من
معروف، ومن كرمه وسخائه ببذل المال، ثم بعد ذلك دخل معروف على زوجته، فقابلَتْه
وهي متبسِّمةٌ ضاحكةٌ فرحانةٌ، وقبَّلت يده وقالت: هل كنتَ تتمسخر عليَّ أو كنتَ
تجرِّبني بقولك أنا فقيرٌ وهاربٌ من زوجتي؟ والحمد لله حيث لم يقع مني في حقك
تقصيرٌ، وأنت حبيبي، وما عندي أعز منك؛ سواءٌ كنتَ غنيًّا أو فقيرًا، وأريد أن
تخبرني ما قصدتَ بهذا الكلام؟ قال: أردت تجريبك حتى أنظر هل محبتك خالصةٌ أو على
شأن المال وطمع الدنيا، فظهر لي أن محبتك خالصةٌ، وحيث كنتِ صادقة في المحبة
فمرحبًا بك، وقد عرفت قيمتك. ثم إنه اختلى في مكان وحده ودعك الخاتم، فحضر له أبو
السعادات وقال له: لبيك، فاطلب ما تريد. قال: أريد منك بدلةً كنوزية لزوجتي،
وحليًّا كنوزيًّا مشتملًا على عقد فيه أربعون جوهرةً يتيمةً. قال: سمعًا وطاعةً.
ثم أحضر له ما أمره به، فحمل البدلة والحلي بعد أن صرف الخادم، ثم دخل على زوجته
ووضعهما بين يديها وقال لها: خذي والبسي، فمرحبًا بكِ. فلما نظرت إلى ذلك طار
عقلها من فرحتها، ورأت من جملة الحلي خلخالين من الذهب مرصَّعين بالجواهر صنعة
الكهنة، وأساور وحلقًا وخزامًا لا يتقوَّم بثمنها أموال، فلبست البدلة والحلي، ثم
قالت: يا سيدي، مرادي أن أدَّخِرها للمواسم والأعياد. قال: البسيها دائمًا، فإن
عندي غيرها كثيرًا. فلما لبستها ونظرها الجواري فرحن وقبَّلن يديه، فتركهنَّ
واختلى بنفسه، ثم دعك الخاتم فحضر له الخادم، فقال له: هاتِ مائة بدلةٍ بمصاغها.
فقال: سمعًا وطاعةً. ثم أحضر له البدلات، وكل بدلةٍ مصاغها في قلبها، فأخذها وزعق
على الجواري، فأتين إليه، فأعطى كل واحدةٍ بدلةً، فلبسن البدلات وصرن مثل الحور
العين، وصارت الملكة بينهن مثل القمر بين النجوم، ثم إن بعض الجواري أخبر الملك
بذلك، فدخل الملك على ابنته فرآها تدهش مَن رآها هي وجواريها، فتعجَّب من ذلك غاية
العجب، ثم خرج وأحضر وزيره وقال له: يا وزير، إنه حصل كذا وكذا، فما تقول في هذا
الأمر؟ قال: يا ملك الزمان، إن هذه الحالة لا تقع من التجَّار؛ لأن التاجر تقعد
عنده القطع الكتان سنين ولا يبيعها إلا بمكسب، فمن أين للتجار كرم مثل هذا الكرم؟
ومن أين لهم أن يحوزوا مثل هذه الأموال والجواهر التي لا يوجد منها عند الملوك إلا
قليل؟ فكيف يوجد عند التجار منها أحمال؟ فهذا لا بد له من سبب، ولكن إن طاوعتني
أُبيِّن لك حقيقة الأمر. فقال له: أطاوعك يا وزير. فقال له: اجتمِعْ عليه ووادِدْه
وتحدَّث معه وقل له: يا نسيبي، في خاطري أن أروح أنا وأنت والوزير من غير زيادة
بستانًا لأجل النزهة؛ فإذا خرجنا إلى بستان نحطُّ سفرة المدام، واغصب عليه
واسقِهِ، ومتى شرب المدام ضاع عقله وغاب رشده، فنسأله عن حقيقة أمره، فإنه يخبرنا
بأسراره، والمدام فضَّاح، ولله درُّ مَن قال:
وَلَمَّا
شَرِبْنَاهَا وَدَبَّ دَبِيبُهَا إِلَى
مَوْضِعِ الْأَسْرَارِ قُلْتُ لَهَا: قِفِي
مَخَافَةَ
أَنْ يَسْطُو عَلَيَّ شُعَاعُهَا فَتُظْهِرُ
نَدْمَانِي عَلَى سِرِّي الْخَفِي
ومتى
أخبرنا بحقيقة الأمر فإننا نطَّلع على حاله ونفعل به ما نحب ونختار، فإن الحالة
التي هو فيها أخشى عليك من عواقبها؛ فربما تطمع نفسه في المُلك، فيشتمل العسكر
بالكرم وبذل المال، ويعزلك ويأخذ المُلك منك. فقال له الملك: صدقتَ. وأدرك شهرزاد
الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 998﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الوزير لما دبَّر للمَلك هذا التدبير، قال له: صدقتَ.
وباتا متفقَيْن على هذا الأمر. فلما أصبح الصباح خرج الملك إلى المقعد وجلس، وإذا
بالخدامين والسُّياس دخلوا عليه مكروبين. فقال لهم: ما الذي أصابكم؟ قالوا: يا ملك
الزمان، إن السُّياس تمروا الخيل وعلقوا عليها وعلى البغال التي جاءت بالحملة،
فلما أصبحنا وجدنا المماليك سرقوا الخيل والبغال، وفتَّشنا الإصطبلات فما رأينا
خيلًا ولا بغالًا، ودخلنا محل المماليك فلم نرَ فيه أحدًا، ولم نعرف كيف هربوا.
فتعجَّبَ الملك من ذلك؛ لأنه ظن أن الأعوان كانوا خيلًا وبغالًا ومماليك، ولم يعلم
أنهم كانوا أعوان خادم الرصد، فقال لهم: يا ملاعين! ألف دابة وخمسمائة مملوك
وغيرهم من الخدام، كيف هربوا ولم تشعروا بهم؟ فقالوا: ما عرفنا كيف جرى لنا حتى
هربوا. فقال: انصرفوا حتى يخرج سيدكم من الحريم وأخبروه بالخبر. فانصرفوا من قدام
الملك وجلسوا متحيِّرين في هذا الأمر. فبينما هم جالسون على تلك الحالة، وإذا
بمعروف قد خرج من الحريم، فرآهم مغتمِّين، فقال لهم: ما الخبر؟ فأخبروه بما حصل،
فقال: وما قيمتهم حتى تغتمُّوا عليهم؟ امضوا إلى حال سبيلكم. وقعد يضحك، ولم
يغتَظْ ولم يغتمَّ من هذا الأمر. فطلَّ الملك في وجه الوزير وقال له: أيُّ شيءٍ
هذا الرجل الذي ليس للمال عنده قيمة؟! فلا بد لذلك من سبب. ثم إنهم تحدَّثوا معه
ساعة وقال الملك: يا نسيبي، خاطري أن أروح أنا وأنت والوزير بستانًا لأجل النزهة،
فما تقول؟ قال: لا بأس. ثم إنهم ذهبوا وتوجَّهوا إلى بستان فيه من كل فاكهةٍ
زوجان، أنهاره دافقةٌ وأشجاره باسقةٌ وأطياره ناطقةٌ، ودخلوا فيه قصرًا يزيل عن
القلوب الحزن، وجلسوا يتحدَّثون والوزير يحكي غريبَ الحكايات، ويأتي بالنكت
المُضحِكات والألفاظ المطرِبات، ومعروف مُصغٍ إلى الحديث حتى طلع الغداء وحطوا
سفرة الطعام وباطية المدام، وبعد أن أكلوا وغسلوا أيديهم ملأ الوزير الكأس وأعطاه
للملك، فشربه، وملأ الثاني وقال لمعروف: هاكَ كأس الشراب الذي تخضع لهيبته أعناق
ذوي الألباب. فقال معروف: ما هذا يا وزير؟ قال الوزير: هذه البِكر الشمطاء،
والعانس العذراء، ومهدية السرور إلى السرائر، التي قال فيها الشاعر:
كَانَتْ
لَهَا أَرْجُلُ الْأَعْلَاجِ دَائِرَةً
بِالدَّوْسِ فَانْتَصَفَتْ مِنْ أَرْؤُسِ الْعَرَبِ
يَسْقِيكُهَا
مِنْ بَنِي الْكُفَّارِ بَدْرُ دُجى
أَلْحَاظُهُ لِلْمَعَاصِي أَوْكَدُ السَّبَبِ
ولله
در القائل:
فَكَأَنَّهَا
وَكَأَنَّ حَامِلَ كَأْسِهَا إِذْ
قَامَ يَجْلُوهَا عَلَى النُّدَمَاءِ
شَمْسُ
الضُّحَى رَقَصَتْ فَنَقَّطَ وَجْهَهَا
بَدْرُ الدُّجَى بِكَوَاكِبِ الْجَوْزَاءِ
رَقَّتْ
فَكَادَتْ مِنْ لَطِيفِ مِزَاجِهَا تَجْرِي
كَمَجْرَى الرُّوحِ فِي الْأَعْضَاءِ
وما
أحسن قول الشاعر:
وَبَاتَ
بَدْرُ تَمَامِ الْحُسْنِ مُعْتَنِقِي
وَالشَّمْسُ فِي فَلَكِ الْكَاسَاتِ لَمْ تَأْفَلِ
وَبِتُّ
أَنْظُرُ لِلنَّارِ الَّتِي سَجَدَتْ
لَهَا الْمَجُوسُ مِنَ الْإِبْرِيقِ تَسْجُدُ لِي
وقول
الآخر:
وَتَمَشَّتْ
فِي مَفَاصِلِهِمْ كَتَمَشِّي
الْبُرْءِ فِي السَّقَمِ
وقول
الآخر:
عَجِبْتُ
لِعَاصِرِيهَا كَيْفَ مَاتُوا وَقَدْ
تَرَكُوا لَنَا مَاءَ الْحَيَاةِ
وأحسن
من ذلك قول أبي نواس:
دَعْ
عَنْكَ لَوْمِي فَإِنَّ اللَّوْمَ إِغْرَاءُ وَدَاوِنِي بِالَّتِي كَانَتْ هِيَ
الدَّاءُ
صَفْرَاءُ
لَا تَنْزِلُ الْأَحْزَانُ سَاحَتَهَا
لَوْ مَسَّهَا حَجَرٌ مَسَّتْهُ سَرَّاءُ
قَامَتْ
بِإِبْرِيقِهَا وَاللَّيْلُ مُعْتَكِرٌ
فَلَاحَ مِنْ ضَوْئِهَا فِي الْبَيْتِ لَأْلَاءُ
طَافَتْ
عَلَى فِتْيَةٍ ذَلَّ الزَّمَانُ لَهُمْ
فَلَا تُصِيبُهُمُ إِلَّا بِمَا شَاءُوا
مِنْ
كَفِّ ذَاتِ حِرٍ فِي زِيِّ ذِي ذَكَرٍ
لَهَا مُحِبَّانِ لُوطِيٌّ وَزَنَّاءُ
وَقُلْ
لِمَنْ يَدَّعِي فِي الْعِلْمِ مَعْرِفَةٌ
حَفِظْتَ شَيْئًا وَغَابَتْ عَنْكَ أَشْيَاءُ
وأحسن
من الجميع قول ابن المعتز:
سَقَى
الْجَزِيرَةَ ذَاتَ الظِّلِّ وَالشَّجَرِ
وَدَيْرَ عَبْدُونَ هَطَّالٌ مِنَ الْمَطَرِ
فَطَالَمَا
نَبَّهَتْنِي لِلصَّبُوحِ بِهَا فِي
غُرَّةِ الْفَجْرِ وَالْعُصْفُورُ لَمْ يَطِرِ
أَصْوَاتُ
رُهْبَانِ دَيْرٍ فِي صَلَاتِهِمِ سُودِ
الْمَدَارِعِ نَعَّائِينَ فِي السَّحَرِ
كَمْ
فِيهِمِ مِنْ مَلِيحِ الشَّكْلِ مُكْتَحِلِ
بِالْغُنْجِ يُطْبِقُ جَفْنَيْهِ عَلَى حَوَرِ
وَزَارَنِي
فِي قَمِيصِ اللَّيْلِ مُسْتَتِرًا يَسْتَعْجِلُ
الْخَطْوَ مِنْ خَوْفٍ وَمِنْ حَذَرِ
وَقُمْتُ
أَفْرِشُ خَدِّي فِي الطَّرِيقِ لَهُ
ذُلًّا وَأَسْحَبُ أَذْيَالِي عَلَى أَثَرِي
وَلَاحَ
ضَوْءُ هِلَالٍ كَادَ يَفْضَحُنَا مِثْلُ
الْقُلَامَةِ قَدْ قُدَّتْ مِنَ الظُّفُرِ
وَكَانَ
مَا كَانَ مِمَّا لَسْتُ أَذْكُرُهُ فَظُنَّ خَيْرًا وَلَا تَسْأَلْ عَنِ
الْخَبَرِ
ولله
درُّ القائل:
أَصْبَحْتُ
مِنْ أَغْنَى الْوَرَى مُسْتَبْشِرًا
بِالْفَرَحِ
عِنْدِي
نُضَارٌ ذَائِبٌ أَكْتَالُهُ
بِالْقَدَحِ
وما
أحسن قول الشاعر:
تَاللهِ
مَا الْكِيمِيَا فِي غَيْرِهَا وُجِدَتْ
وَكُلُّ مَا قِيلَ فِي أَبْوَابِهَا كَذِبُ
قِيرَاطُ
خَمْرٍ عَلَى الْقِنْطَارِ مِنْ حَزَنِ
يَعُودُ فِي الْحِينِ أَفْرَاحًا وَيَنْقَلِبُ
وقول
الآخر:
ثَقُلَتْ
زُجَاجَاتٌ أَتَيْنَا فُرَّغَا حَتَّى
إِذَا مُلِئَتْ بِصَرْفِ الرَّاحِ
خَفَّتْ
فَكَادَتْ أَنْ تَطِيرَ مَعَ الْهَوَى
وَكَذَا الْجُسُومُ تَخِفُّ بِالْأَرْوَاحِ
وقول
الآخر:
وَلِلْكَاسِ
وَالصَّهْبَاءِ حَقٌّ مُعَظَّمٌ وَمِنْ
حَقِّهَا أَلَّا تَضِيعَ حُقُوقُهَا
إِذَا
مِتُّ فَادْفِنِّي إِلَى جَنْبِ كَرْمَةٍ
تُرَوِّي عِظَامِي بَعْدَ مَوْتِي عُرُوقُهَا
وَلَا
تَدْفِنَنِّي فِي الْفَلَاةِ فَإِنَّنِي
أَخَافُ إِذَا مَا مِتُّ أَنْ لَا أَذُوقَهَا
وما
زال يرغِّبه في الشراب ويذكر له من محاسنه ما استطاب، ويُنشِده ما ورد فيه من
الأشعار ولطائف الأخبار، حتى مال إلى ارتشافِ ثَغْرِ القَدَح، ولم يبقَ له غيرها
مقترح. وما زال يملأ له وهو يشرب ويستلذ ويطرب حتى غاب عن صوابه، ولم يميِّز خطأه
من صوابه، فلما علم أن السُّكْر بلغ به الغاية وتجاوَزَ النهاية قال له: يا تاجر
معروف، والله إني متعجبٌ من أين وصلتْ إليك هذه الجواهر التي لا يوجد مثلها عند
الملوك الأكاسرة؟ وعمرنا ما رأينا تاجرًا حاز أموالًا كثيرة مثلك ولا أكرم منك،
فإن أفعالك أفعالُ ملوك وليست أفعالَ تجار، فبالله عليك أن تخبرني حتى أعرف قدرك
ومقامك. وصار يمارسه ويخادعه وهو غائب العقل. فقال له معروف: أنا لست تاجرًا ولا
من أولاد الملوك … وأخبره بحكايته من أولها إلى آخرها. فقال له: بالله عليك يا
سيدي معروف إنك تفرِّجنا على هذا الخاتم حتى ننظر كيف صنعته. فقلع الخاتم وهو في
حال سُكْره وقال: خذوا تفرَّجوا عليه. فأخذه الوزير وقلبه وقال: هل إذا دعكتُه
يحضر الخادم؟ قال: نعم ادعكْه يحضر لك وتفرَّج عليه. فدعكه، وإذا بقائلٍ يقول:
لبيك يا سيدي، اطلبْ تُعْطَ، هل تخرب مدينة أو تعمر مدينة أو تقتل ملكًا؟ فمهما
طلبتَه فإني أفعله لك من غير خلاف. فأشار الوزير إلى معروف وقال للخادم: احمل هذا
الخاسر ثم ارمِهِ في أوحش الأراضي الخراب حتى لا يجد فيها ما يأكل ولا ما يشرب،
فيهلك من الجوع ويموت كمدًا ولم يدرِ به أحد. فخطفه الخادم وطار به بين السماء
والأرض. فلما رأى معروف ذلك أيقَنَ بالهلاك وسوء الارتباك، فبكى وقال: يا أبا
السعادات، إلى أين أنت رايح بي؟ فقال له: أنا رايح أرميك في الربع الخراب يا قليل
الأدب، مَن يملك رصدًا مثل هذا ويعطيه للناس يتفرَّجون عليه؟ لكن تستأهل ما حلَّ
بك، ولولا أني أخاف الله لرميتك من مسافة ألف قامة فلا تصل إلى الأرض حتى تمزِّقك
الرياح. فسكت وصار لا يخاطبه حتى وصل به إلى الربع الخراب ورماه هناك، ورجع
وخلَّاه في الأرض الموحشة. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 999﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الخادم أخذ معروفًا ورماه في الربع الخراب ورجع
وخلاه. هذا ما كان من أمره، وأما ما كان من أمر الوزير، فإنه لما ملك الخاتم قال
للملك: كيف رأيتَ؟ أَمَا قلتُ لك إن هذا كذَّابٌ نصَّابٌ فما كنتَ تصدقني؟ فقال
له: الحق معك يا وزيري، الله يعطيك العافية، هاتِ هذا الخاتم حتى أتفرَّج عليه.
فالتفت الوزير بالغضب وبصق في وجهه وقال له: يا قليل العقل، كيف أعطيه لك وأبقى
خدَّامك بعد أن صرتُ سيدك؟ ولكن أنا ما بقيت أبقيك. ثم دعك الخاتم فحضر الخادم،
فقال له: احمل هذا القليل الأدب وارمِهِ في المكان الذي رميتَ فيه نسيبَه
النصَّاب. فحمله وطار به، فقال له الملك: يا مخلوق ربي، أي شيءٍ ذنبي؟ فقال له
الخادم: لا أدري، وإنما أمرني سيدي بذلك، وأنا لا أقدر أن أخالف مَن ملكَ خاتمَ
هذا الرصد. ولم يزل طائرًا به حتى رماه في المكان الذي فيه معروف، ثم رجع وتركه
هناك. فسمع معروفًا يبكي، فأتى له وأخبره وقعدا يبكيان على ما أصابهما، ولم يجدا
أكلًا ولا شربًا.
هذا
ما كان من أمرهما، وأما ما كان من أمر الوزير، فإنه بعدما شتَّتَ معروفًا والملك
قام وخرج من البستان، وأرسَلَ إلى جميع العسكر وعمل ديوانًا وأخبَرَهم بما فعل مع
معروف والملك، وأخبرهم بقصة الخاتم وقال لهم: إن لم تجعلوني عليكم سلطانًا أمرتُ
خادم الخاتم أن يحملكم جميعًا ويرميكم في الربع الخراب فتموتوا جوعًا وعطشًا.
فقالوا له: لا تفعل معنا ضررًا؛ فإننا قد رضينا بك علينا سلطانًا، ولا نعصي لك
أمرًا. ثم إنهم اتفقوا على سلطنته عليهم قهرًا عنهم، وخلع عليهم الخلع، وصار يطلب
من أبي السعادات كل ما أراده فيُحضِره بين يديه في الحال. ثم إنه جلس على الكرسي
وأطاعه العسكر، وأرسل إلى بنت الملك يقول لها: حضِّري روحك؛ فإني داخلٌ عليك في
هذه الليلة؛ لأني مشتاقٌ إليك. فبكت وصعب عليها أبوها وزوجها، ثم إنها أرسلت تقول
له: أمهلني حتى تنقضي العدَّة، ثم اكتب كتابي وادخل عليَّ في الحلال. فأرسَلَ يقول
لها: أنا لا أعرف عدَّة ولا طول مدَّة، ولا أحتاج إلى كتاب، ولا أعرف حلالًا من
حرام، ولا بد من دخولي عليك في هذه الليلة. فأرسلتْ تقول له: مرحبًا بك، ولا بأس
بذلك. وكان ذلك مكرًا منها، فلما رجع له الجواب فرح وانشرح صدره؛ لأنه كان مغرَمًا
بحبها، ثم إنه أمر بوضع الأطعمة بين جميع الناس وقال: كلوا هذا الطعام؛ فإنه وليمة
الفرح، فإني أريد الدخول على الملكة في هذه الليلة. فقال شيخ الإسلام: لا يحلُّ لك
الدخول عليها حتى تنقضي عدَّتها وتكتب كتابك عليها. فقال له: أنا لا أعرف عدَّة
ولا مدَّة، فلا تُكثِر عليَّ كلامًا. فسكت شيخ الإسلام وخاف من شره، وقال للعسكر:
إن هذا كافرٌ ولا دين له ولا مذهب له. فلما جاء المساء دخل عليها فرآها لابسة أفخر
ما عندها من الثياب، ومزيَّنة بأحسن الزينة، فلما رأته قابلته وهي ضاحكة وقالت له:
ليلة مباركة، ولو كنتَ قتلتَ أبي وزوجي لَكان أحسن عندي. فقال لها: لا بد أن
أقتلهما. فأجلسَتْه وصارت تمازحه وتظهر له الوداد، فلما لاطفَتْه وتبسَّمت في وجهه
طار عقله، وإنما خادعته بالملاطَفة حتى تظفر بالخاتم وتبدِّل فرحه بالنكد على أم
ناصيته، وما فعلت معه هذه الفعال إلا على رأي مَن قال:
وَلَقَدْ
بَلَغْتُ بِحِيلَتِي مَا لَيْسَ
يُبْلَغُ بِالسُّيُوف
ثُمَّ
انْثَنَيْتُ بِمَغْنَمٍ حُلْوِ
الْمَجَانِي وَالْقُطُوف
فلمَّا
رأى الملاطَفة والابتسام هاج عليه الغرام وطلب منها الوصال، فلما دنا منها تباعَدت
عنه وبكت وقالت: يا سيدي، أَمَا ترى الرجل الناظر إلينا؟ بالله عليك أن تسترني عن
عينه، فكيف تواصلني وهو ينظر إلينا؟ فاغتاظ وقال: أين الرجل؟ قالت: ها هو في فص
الخاتم يطلع رأسه وينظر إلينا. فظنَّ أن خادم الخاتم ينظر إليهما، فضحك وقال: لا
تخافي، إن هذا خادم الخاتم، وهو تحت طاعتي. قالت: أنا أخاف من العفاريت، فاقلعه
وارمِهِ بعيدًا عني. فقلعه
وحطَّه على المخدة، ودنا منها فرفسَتْه برِجْلها في قلبه، فانقلب على قفاه مغشيًّا
عليه، وزعقت على أتباعها فأتوها بسرعةٍ، فقالت: أمسكوه. فقبض عليه أربعون جارية،
وعجَّلت بأخذ الخاتم من فوق المخدة ودعكته، وإذا بأبي السعادات أقبَلَ يقول: لبيكِ
يا سيدتي. فقالت: احمل هذا الكافر وضعه في السجن، وثقِّل قيوده. فأخذه وسجنه في
سجن الغضب ورجع وقال لها: قد سجنته. فقالت له: أين ذهبت بأبي وزوجي؟ قال: رميتهما
في الربع الخراب. قالت: أمرتُك أن تأتيني بهما في هذه الساعة. فقال: سمعًا وطاعةً.
ثم طار من قدامها. ولم يزل طائرًا إلى أن وصل إلى الربع الخراب ونزل عليهما فرآهما
قاعدَيْن يبكيان ويشكوان لبعضهما، فقال لهما: لا تخافا، قد أتاكما الفرج. وأخبرهما
بما فعل الوزير، وقال لهما: إني قد سجنتُه بيدي طاعةً لها، ثم أمرتني بإرجاعكما.
ففرحا بخبره، ثم حملهما وطار بهما، فما كان غير ساعة حتى دخل بهما على بنت الملك،
فقامت وسلَّمتْ على أبيها وزوجها وأجلستهما وقدَّمت لهما الطعام والحلوى، وباتا
بقية الليلة. وفي ثاني يومٍ ألبسَتْ أباها بدلةً فاخرة، وألبسَتْ زوجها بدلةً
فاخرة، وقالت: يا أبتِ، اقعدْ أنتَ على كرسيك ملِكًا على ما كنتَ عليه أولًا،
واجعل زوجي وزيرَ ميمنة عندك، وأخبر عسكرك بما جرى، وهات الوزير من السجن واقتله،
ثم احرقه؛ فإنه كافرٌ وأراد أن يدخل عليَّ سفاحًا من غير نكاح، وشهد على نفسه أنه
كافر، وليس له دين يتديَّن به، واستوصِ بنسيبك الذي جعلته وزيرَ ميمنةٍ عندك. فقال
لها: سمعًا وطاعةً يا بنتي، ولكن أعطيني الخاتم أو أعطيه لزوجك. فقالت: إنه لا
يصلح لك ولا له، وإنما الخاتم يكون عندي، وربما أحميه أكثر منكما، ومهما أردتماه
فاطلباه مني وأنا أطلب لكما من خادم الخاتم، ولا تخشيا بأسًا ما دمتُ أنا طيبة،
وبعد موتي فشأنكما والخاتم. فقال أبوها: هذا هو الرأي الصواب يا بنتي. ثم أخذ
نسيبه وطلع إلى الديوان، وكان العسكر قد باتوا في كربٍ عظيمٍ بسبب بنت الملك وما
فعل معها الوزير من أنه دخل عليها سفاحًا من غير نكاح، وأساء الملك ونسيبه، وخافوا
أن تُنتهَك شريعة الإسلام؛ لأنه بان لهم أنه كافرٌ. ثم اجتمعوا في الديوان وصاروا
يعنِّفون شيخ الإسلام ويقولون له: لماذا لم تمنعه من الدخول على الملكة سفاحًا؟
فقال لهم: يا ناس، إن الرجل كافرٌ وصار مالكًا للخاتم، وأنا وأنتم لا يخرج من
أيدينا في حقة شيء، فالله تعالى يجازيه بفعله، واسكتوا أنتم لئلا يقتلكم. فبينما
العساكر مجتمعون في الديوان يتحدثون في هذا الكلام، وإذا بالملك دخل عليهم في
الديوان ومعه نسيبه معروف. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 1000﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن العساكر من شدة غيظهم جلسوا في الديوان يتحدثون في
شأن الوزير وما فعل بالملك ونسيبه وبنته، وإذا بالملك دخل عليهم في الديوان ومعه نسيبه
معروف، فلما رأته العساكر فرحوا بقدومه، وقاموا له على الأقدام وقبَّلوا الأرض بين
يديه، ثم جلس على الكرسي وأخبرهم بالقصة، فزالت عنهم تلك الغصَّة، وأمر بزينة
المدينة، وأحضر الوزيرَ من الحبس، فلما مرَّ بالعساكر صاروا يلعنونه ويشتمونه
ويوبخونه حتى وصل إلى الملك، فلما تمثَّل بين يديه أمر بقتله أشنع قِتْلة، فقتلوه
ثم حرقوه وراح إلى سقر في أسوأ الأحوال، وأجاد فيه مَن قال:
فَلَا
رَحِمَ الرَّحْمَنُ تُرْبَةَ عَظْمِهِ
وَلَا زَالَ فِيهَا مُنْكَرٌ وَنَكِيرُ
ثم
إن الملك جعل معروفًا وزيرَ ميمنةٍ عنده، وطابت لهم الأوقات وصَفَتْ لهم
المسرَّات، واستمروا على ذلك خمس سنوات. وفي السنة السادسة مات الملك فجعلته بنت
الملك سلطانًا مكانَ أبيها ولم تعطِهِ الخاتم، وكانت في هذه المدة حملتْ منه
ووضعتْ غلامًا بديع الجمال بارع الحُسْن والكمال، ولم يزَل في حِجر الدادات حتى
بلغ من العمر خمس سنوات، فمرضت أمه مرض الموت، فأحضرت معروفًا وقالت له: أنا
مريضة. قال لها: سلامتك يا حبيبة قلبي. قالت له: ربما أموت فلا تحتاج إلى أن أوصيك
على ولدك، وإنما أوصيك بحفظ الخاتم خوفًا عليك وعلى هذا الغلام. فقال: ما على مَن
يحفظه الله بأس. فقلعت الخاتم وأعطته له، وفي ثاني يومٍ تُوفِّيتْ إلى رحمة الله
تعالى، وأقام معروف ملكًا وصار يتعاطى الأحكام، فاتفق له في بعض الأيام أنه نفض
المنديل فانفضَّت العساكر من قدامه إلى أماكنهم، ودخل هو قاعة الجلوس وجلس فيها
إلى أن مضى النهار وأقبل الليل بالاعتكار، فدخل عليه أرباب منادَمته من الأكابر
على عادتهم، وسهروا عنده من أجل البسط والانشراح إلى نصف الليل، ثم طلبوا الإجازة
بالانصراف، فأذِنَ لهم، وخرجوا من عنده إلى بيوتهم، وبعد ذلك دخلت عليه جاريةٌ
كانت مقيَّدة بخدمة فراشه، ففرشت له المرتبة وقلَّعته البدلة وألبسَتْه بدلة النوم،
واضطجع، فصارت تكبِّس أقدامه حتى غلب عليه النوم، فخرجت من عنده وراحت إلى مرقدها
ونامت.
هذا
ما كان من أمرها، وأما ما كان من أمر الملك معروف، فإنه كان نائمًا فلم يشعر إلا
وشيء بجانبه في الفراش، فانتبه مرعوبًا وقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم! ثم
فتح عينَيْه فرأى في جانبه امرأة قبيحة المنظر، فقال لها: مَن أنتِ؟ قالت: لا
تخَف، أنا زوجتك فاطمة العرَّة. فنظر في وجهها فعرفها بمسخة صورتها وطول أنيابها،
وقال: مِن أين دخلتِ عليَّ؟ ومَن جاء بك إلى هذه البلاد؟ فقالت له: في أي البلاد
أنت في هذه الساعة؟ قال: في مدينة خيتان الختن، وأنتِ متى فارقتِ مصر؟ قالت: في
هذه الساعة. قال لها: وكيف ذلك؟ قالت: اعلم أني لمَّا تشاجرتُ معك وقد أغراني
الشيطان على ضررك واشتكيتك إلى الحكَّام، ففتشوا عليك فما وجدوك، وسأل القضاة عنك
فما رأوك، وبعد أن مضى يومان لحقتني الندامة، وعلمت أن العيب عندي، وصار الندم لا
ينفعني، وقعدت مدةَ أيامٍ وأنا أبكي على فراقك، وقَلَّ ما في يدي واحتجتُ إلى
السؤال لأجل القوت، فصرتُ أسأل كل مغبوطٍ وممقوتٍ، ومن حين فارقتَني وأنا آكل من
ذلِّ السؤال، وصرت في أسوأ الأحوال، وكل ليلةٍ أقعد أبكي على فراقك وعلى ما قاسيتُ
بعد غيابك من الذلِّ والهوان، والتعاسة والخسران. وصارت تحدِّثه بما جرى لها وهو
باهت فيها، إلى أن قالت: وفي أمس درت طول النهار أسأل فلم يعطني أحد شيئًا، وصرت
كلَّما أقبَلَ عليَّ أحد وأسأله كِسرة يشتمني ولا يعطيني شيئًا، فلما أقبل الليل
بتُّ من غير عشاء، فأحرقني الجوع وصعب عليَّ ما قاسيت، وقعدت أبكي، وإذا بشخصٍ
تصوَّر قدامي وقال لي: يا امرأة، لأي شيءٍ تبكين؟ فقلت: إنه كان لي زوجٌ يصرف
عليَّ ويقضي أغراضي، وقد فُقِد مني ولم أعرف أين راح، وقد قاسيتُ الغلبَ من بعده.
فقال: ما اسم زوجك؟ قلت: اسمه معروف. قال: أنا أعرفه. اعلمي أن زوجك الآن سلطانٌ
في مدينة، وإن شئتِ أن أوصلك إليه أفعل ذلك. فقلت له: أنا في عِرْضك أن توصلني
إليه. فحملني وطار بي بين السماء والأرض حتى أوصلني إلى هذا القصر وقال: ادخلي في
هذه الحجرة ترَيْ زوجك نائمًا على السرير. فدخلتُ فرأيتك في هذه السيادة، وأنا ما
كان في أملي أنك تفوتني وأنا رفيقتك، والحمد لله الذي جمعني عليك. فقال لها: هل
أنا فُتُّكِ أو أنتِ التي فُتِّني وأنت تشكينني من قاضٍ إلى قاضٍ، وختمتِ ذلك
بشكايتي إلى الباب العالي حتى نزَّلتِ عليَّ أبا طبق من القلعة فهربت قهرًا عني؟!
وصار يحكي لها على ما جرى له إلى أن صار سلطانًا وتزوَّج بنت الملك، وأخبرها بأنها
ماتت وخلَّف منها ولدًا صار عمره سبع سنين. فقالت له: والذي جرى مقدَّر من الله
تعالى، وقد ثُبْتُ، وأنا في عِرْضك أنك لا تفوتني، ودعني آكل عندك العيش على سبيل
الصدقة. ولم تزل تتواضع له حتى رقَّ قلبه لها وقال لها: توبي عن الشر واقعدي عندي،
وليس لكِ إلا ما يسرُّك، فإن عملتِ شيئًا من الشر أقتلك ولا أخاف من أحدٍ، فلا
يخطر ببالك أنكِ تشكينني إلى الباب العالي وينزل لي أبو طبق من القلعة؛ فإني صرت
سلطانًا والناس تخاف مني، وأنا لا أخاف إلا من الله تعالى، فإن معي خاتم استخدام،
متى دعكته يظهر لي خادم الخاتم واسمه أبو السعادات، ومهما طلبته منه يجيئني به،
فإن كنتِ تريدين الذهاب إلى بلدك أعطيك ما يكفيك طول عمرك وأرسلك إلى بلادك بسرعة،
وإن كنتِ تريدين القعود عندي فإني أُخلي لك قصرًا وأفرش لك من خاص الحرير، وأجعل لك
عشرين جاريةً تخدمك، وأرتب لك المآكل الطيبة والملابس الفاخرة وتصيرين ملكة
وتقيمين في نعيمٍ زائدٍ حتى تموتي أو أموت أنا. فما تقولين في هذا الكلام؟ قالت:
أنا أريد الإقامة عندك. ثم قبَّلتْ يده وتابت عن الشر، فأفرد لها قصرًا وحدها،
وأنعم عليها بجوارٍ وطواشية، وصارت ملكة. ثم إن الولد صار يذهب عندها وعند أبيه،
فكرهت الولد لكونه ما هو ابنها، فلما رأى الولد منها عين الغضب والكراهة نفر منها
وكرِهَها. ثم إن معروفًا اشتغل بحب الجواري الحِسَان، ولم يفكر في زوجته فاطمة
العرَّة؛ لأنها صارت عجوزًا شمطاء بصورةٍ شوهاء، وسحنة معطاء، أقبح من الحية
الرقطاء، خصوصًا وقد أساءته إساءةً لا مزيدَ عليها، وصاحب المثل يقول: الإساءة
تقطع أصلَ المطلوب، وتزرع البغضاء في أرض القلوب. ولله درُّ القائل:
احْرِصْ
عَلَى حِفْظِ الْقُلُوبِ مِنَ الْأَذَى
فَرُجُوعِهِ بَعْدَ التَّنَافُرِ يَعْسُرُ
إِنَّ
الْقُلُوبَ إِذَا تَنَافَرَ وُدُّهَا
مِثْلُ الزُّجَاجَةِ كَسْرُهَا لَا يُجْبَرُ
ثم
إن معروفًا لم يأوِها لخصلة حميدة فيها، وإنما عمل معها هذا الإكرام ابتغاء مرضاة
الله تعالى.
ثم
إن دنيازاد قالت لأختها شهرزاد: ما أطيبَ هذه الألفاظ التي هي أشدُّ أخذًا للقلوب
من سواحر الألحاظ! وما أحسنَ هذه الكتب الغريبة والنوادر العجيبة! فقالت شهرزاد:
وأين هذا مما أحدِّثكم به الليلة القابلة إنْ عشتُ وأبقاني الملك! فلما أصبح
الصباح وأضاء بنوره ولاح، أصبح الملك منشرح الصدر ومنتظرًا لبقية الحكاية، وقال في
نفسه: والله لا أقتلها حتى أسمع بقية حديثها. ثم خرج إلى محل حكمه وطلع الوزير على
عادته بالكفن تحت إبطه، فمكث الملك في الحكم بين الناس طول نهاره، وبعد ذلك ذهب
إلى حريمه ودخل على زوجته شهرزاد بنت الوزير على جري عادته. وأدرك شهرزاد الصباح،
فسكتَتْ عن الكلام المباح.
ذهب
الملك إلى حريمه، ودخل على زوجته شهرزاد بنت الوزير، فقالت لها أختها دنيازاد:
أتممي لنا حكاية معروف. فقالت: حبًّا وكرامة، إنْ أذِنَ لي الملك بالحديث. فقال
لها: قد أذِنْتُ لكِ بالحديث؛ لأنني متشوِّق إلى سماع بقيتها. قالت: بلغني أيها
الملك، أن معروفًا صار لا يعتني بزوجته من أجل النكاح، وإنما كان يُطعِمها
احتسابًا لوجه الله تعالى، فلما رأته ممتنعًا عن وصالها ومشتغلًا بغيرها، بغضته
وغلبتْ عليها الغيرة، ووسوس لها إبليس أنها تأخذ الخاتم منه وتقتله وتعمل ملكة
مكانه. ثم إنها خرجت ذات ليلة من الليالي ومشت من قصرها متوجِّهةً إلى القصر الذي
فيه زوجها الملك معروف، واتفق بالأمر المقدَّر والقضاء المسطَّر أن معروفًا كان
راقدًا مع محظية من محاظيه ذات حُسْنٍ وجمال، وقَدٍّ واعتدال، ومن حُسْن تَقْواه
كان يقلع الخاتم من إصبعه إذا أراد أن يجامع؛ احترامًا للأسماء الشريفة التي هي
مكتوبة عليه، فلا يلبسه إلا على طهارة. وكانت زوجته فاطمة العرَّة لم تخرج من
موضعها إلا بعد أن أحاطت علمًا بأنه إذا جامَعَ يقلع الخاتم ويجعله على المخدة حتى
يتطهر. وكان من عادته أنه متى جامَعَ يأمر المحظية أن تذهب من عنده خوفًا على
الخاتم، وإذا دخل الحمام يقفل باب القصر حتى يرجع من الحمام ويأخذ الخاتم ويلبسه،
وبعد ذلك كل مَن دخل القصر لا حرجَ عليه، وكانت تعرف هذا الأمر كله، فخرجت بالليل
لأجل أن تدخل عليه في القصر وهو مستغرقٌ في النوم وتسرق هذا الخاتم، بحيث لا
يراها. فلمَّا خرجت كان ابن الملك في هذه الساعة قد دخل بيت الراحة ليقضي حاجةً من
غير نور، فقعد في الظلام على ملاقي بيت الراحة، وترك الباب مفتوحًا عليه. فلما
خرجت من قصرها رآها مجتهدة في المشي إلى جهة قصر أبيه. فقال في نفسه: يا هل تُرَى
لأي شيءٍ خرجت هذه الكاهنة من قصرها في جُنح الظلام وأراها متوجِّهةً إلى قصر أبي؟
فهذا الأمر لا بدَّ له من سبب. ثم إنه خرج وراءها وتبع أثرها من حيث لا تراه، وكان
له سيف قصير من الجوهر، وكان لا يخرج إلى ديوان أبيه إلا متقلِّدًا بذلك السيف؛
لكونه مستعزًّا به، فإذا رآه أبوه يضحك عليه ويقول: ما شاء الله! إن سيفك عظيمٌ يا
ولدي، ولكن ما نزلتَ به حربًا ولا قطعتَ به رأسًا. فيقول له: لا بد أن أقطع به
عنقًا يكون مستحِقًّا للقطع. فيضحك من كلامه.
ولما
مشى وراء زوجة أبيه سحب السيف من غلافه، وتبعها حتى دخلت قصر أبيه، فوقف لها على
باب القصر، وصار ينظر إليها، فرآها وهي تفتِّش وتقول: أين وضع الخاتم؟ ففهم أنها
دائرةٌ على الخاتم، فلم يزل صابرًا عليها حتى لقيته، فقالت: ها هو! والتقطته
وأرادت أن تخرج، فاختفى خلف الباب، فلما خرجت من الباب نظرت إلى الخاتم وقلبته في
يدها، وأرادت أن تدعكه، فرفع يده بالسيف وضربها على عنقها، فزعقت زعقةً واحدةً، ثم
وقعت مقتولة، فانتبه معروف فرأى زوجته مرميةً ودمها سائل، وابنه شاهر السيف في
يده، فقال له: ما هذا يا ولدي؟ قال: يا أبي، كم مرة وأنت تقول لي: إن سيفك عظيمٌ،
ولكنك ما نزلتَ به حربًا ولا قطعتَ به رأسًا، وأنا أقول لك: لا بد أن أقطع به
عنقًا مستحِقًّا للقطع؟ أنا قد قطعت لك به عنقًا مستحقًّا للقطع. وأخبره بخبرها،
ثم إنه فتَّشَ على الخاتم فلم يرَه، ولم يزل يفتِّش في أعضائها حتى رأى يدها
منطبقة عليه، فأخذه من يدها، ثم قال له: أنت ولدي بلا شك ولا ريب، أراحك الله في
الدنيا والآخرة كما أرحتني من هذه الخبيثة، ولم يكن سعيها إلا لهلاكها، ولله درُّ
مَن قال:
إِذَا
كَانَ عَوْنُ اللهِ لِلْمَرْءِ مُسْعِفًا
تَأَتَّى لَهُ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ مُرَادُهُ
وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ عَوْنٌ مِنَ اللهِ لِلْفَتَى
فَأَوَّلُ مَا يَجْنِي عَلَيْهِ اجْتِهَادُهُ
ثم
إن الملك معروفًا زعق على بعض أتباعه فأتوه مُسرِعين، فأخبرهم بما فعلتْ زوجته
فاطمة العرَّة، وأمرهم أن يأخذوها ويحطوها في مكانٍ إلى الصباح، ففعلوا كما أمرهم،
ثم وكَّل بها جماعة من الخدام فغسَّلوها وكفَّنوها وعملوا لها مشهدًا ودفنوها، وما
كان مجيئها من مصر إلا لترابها، ولله درُّ مَن قال:
مَشَيْنَاهَا
خُطًى كُتِبَتْ عَلَيْنَا وَمَنْ
كُتِبَتْ عَلَيْهِ خُطًى مَشَاهَا
وَمَنْ
كَانَتْ مَنِيَّتُهُ بِأَرْضٍ فَلَيْسَ
يَمُوتُ فِي أَرْضٍ سِوَاهَا
وما
أحسن قول الشاعر:
وَمَا
أَدْرِي إِذَا يَمَّمْتُ أَرْضًا أُرِيدُ
الْخَيْرَ أَيُّهُمَا يَلِينِي
هَلِ
الْخَيْرُ الَّذِي أَنَا أَبْتَغِيهِ
أَمِ الشَّرُ الَّذِي هُوَ يَبْتَغِينِي
ثم
إن الملك معروفًا أرسل يطلب الرجل الحرَّاث الذي كان ضيفه وهو هارب، فلما حضر جعله
وزيرَ ميمنتِه وصاحبَ مشورته، ثم علم أنَّ له بنتًا بديعةَ الحُسْن والجمال، كريمة
الخصال، شريفة النسب، رفيعة الحسب، فتزوَّج بها، وبعد مدَّةٍ من الزمان زوَّجَ
ابنه وأقاموا مدَّةً في أرغد عيش، وصفَتْ لهم الأوقات، وطابت لهم المسرَّات، إلى
أن أتاهم هادم اللذات، ومفرِّق الجماعات، ومخرِّب الديار العامرات، ومُيتِّم
البنين والبنات. فسبحان الحي الذي لا يموت، وبيده مقاليد الملك والملكوت.