﴿اللیلة 851﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن زين المواصف قالت لمسرور: إن كنتَ مشغولًا بحبنا
فأنشِدْ لنا شعرًا فيما وقَعَ لنا. فقال: حبًّا وكرامة. وأنشَدَ هذه القصيدة:
قِفْ
وَاسْتَمِعْ مَا جَرَى لِي فِي
حُبِّ هَذَا الْغَزَالِ
رِيمٌ
رَمَانِي بِنَبْلٍ وَلَحْظِهِ قَدْ
غَزَا لِي
فُتِنْتُ
عِشْقًا وَإِنِّي فِي الْحُبِّ
ضَاقَ احْتِيَالِي
هَوِيتُ
ذَاتَ دَلَالٍ مَحْجُوبَةٌ
بِالنِّصَالِ
أَبْصَرْتُهَا
وَسْطَ رَوْضٍ وَقَدُّهَا ذُو
اعْتِدَالِ
سَلَّمْتُ
قَالَتْ سَلَامًا لَمَّا صَغَتْ
لِمَقَالِي
سَأَلْتُ
مَا الْإِسْمُ قَالَتْ اسْمِي
وِفَاقَ جَمَالِي
سُمِّيتُ
زَيْنَ الْمَوَاصِفْ فَقُلْتُ
رِقِّي لِحَالِي
فَإِنَّ
عِنْدِي غَرَامًا هَيْهَاتَ صَبٌّ
مِثَالِي
قَالَتْ
فَإِنْ كُنْتَ تَهْوَى وَطَامِعًا
فِي وِصَالِي
أُرِيدُ
مَالًا جَزِيلًا يَفُوقُ كُلَّ
نَوَالِ
أُرِيدُ
مِنْكَ ثِيَابًا مِنَ الْحَرِيرِ
غَوَالِ
وَرُبْعَ
قِنْطَارِ مِسْكٍ بِرَسْمِ لَيْلِ
وِصَالِي
وَلُؤْلُؤًا
وَعَقِيقًا مِنَ النَّفِيسِ
الْغَالِي
وَفِضَّةً
وَنُضَارًا مِنَ الْحُلِيِّ
الْحَالِي
أَظْهَرْتُ
صَبْرًا جَمِيلًا عَلَى عَظِيمِ
اشْتِغَالِي
فَأَنْعَمَتْ
لِي بِوَصْلٍ فِي لَيْلَةٍ ذِي
هِلَالِ
إِنْ
لَامَنِي الْغَيْرُ فِيهَا أَقُولُ
يَا لِلرِّجَالِ
لَهَا
شُعُورٌ طِوَالٌ وَاللَّوْنُ لَوْنُ
اللَّيَالِي
وَخَدُّها
فِيهِ وَرْدٌ مِثْلُ اللَّظَى فِي
اشْتِعَالِ
وَجَفْنُهَا
فِيهِ سَيْفٌ وَلَحْظُهَا
كَالنِّبَالِ
وَثَغْرُهَا
فِيهِ خَمْرٌ وَرِيقُهَا
كَالزُّلَالِ
كَأَنَّهُ
عِقْدُ دُرٍّ حَوَى نِظَامَ
اللَّآلِي
وَجِيدُهَا
جِيدُ ظَبْيٍ مَلِيحَةٌ فِي كَمَالِ
وَصَدْرُهَا
كَرُخَامٍ وَنَهْدُهَا
كَالْقِلَالِي
وَبَطْنُهَا
فِيهِ طَيٌّ مُعَطَّرٌ
بِالْغَوَالِي
وَتَحْتَ
ذَلِكَ شَيْءٌ لَهُ انْتَهَتْ
آمَالِي
مُرَبَّبٌ
وَسَمِينٌ مُكَلْثَمٌ يَا مَوَالِي
كَأَنَّهُ
تَخْتُ مِلْكٍ عَلَيْهِ أَعْرِضُ
حَالِي
بَيْنَ
الْعَمُودَيْنِ تَلْقَى مصَاطِبًا
بِتَعَالِ
لَكِنَّهُ
فِيهِ وَصْفٌ يُدْهِي عُقُولَ
الرِّجَالِ
لَهُ
شِفَاهٌ كِبَارٌ وَنُقْرَةٌ
كَالْبِغَالِ
يَبْدُو
بِحُمْرَةِ عَيْنٍ وَمِشْفَرٍ
كَالْجِمَالِ
إِذَا
أَتَيْتَ إِلَيْهِ بِهِمَّةٍ فِي
الْفِعَالِ
تَلْقَاهُ
حَرَّ الْمَلَاقِي بِقُوَّةٍ
وَحِقَالِي
يَرُدُّ
كُلَّ شُجَاعٍ مَحْلُولِ عَزْمِ
الْقِتَالِ
وَتَارَةً
تَلْتَقِيهِ بِلِحْيَةٍ فِي مِطَالِ
يُنْبِيكَ
عَنْهُ مَلِيحٌ ذُو بَهْجَةٍ
وَجَمَالِ
كَمِثْلِ
زَيْنِ الْمَوَاصِفْ مَلِيحَةٍ فِي
الْكَمَالِ
أَتَيْتُ
لَيْلًا إِلَيْهَا وَنِلْتُ شَيْئًا
حَلَالِي
وَلَيْلَةٍ
بِتُّ مَعَهَا فَاقَتْ جَمِيعَ اللَّيَالِي
لَمَّا
أَتَى الصُّبْحُ قَامَتْ وَوَجْهُهَا
كَالْهِلَالِ
تَهُزُّ
مِنْهَا قَوَامًا هَزَّ الرِّمَاحِ
الْعَوَالِي
وَوَدَّعَتْنِي
وَقَالَتْ مَتَى تَعُودُ
اللَّيَالِي
فَقُلْتُ
يَا نُورَ عَيْنِي إِذَا أَرَدْتِ
تَعَالِي
فطربَتْ
زين المواصف من هذه القصيدة طربًا عظيمًا، وحصل لها غاية الانشراح وقالت: يا
مسرور، قد دَنَا الصباح، ولم يَبْقَ إلا الرواح خوفًا من الافتضاح. فقال: حبًّا
وكرامة. ثم نهض قائمًا على قدمَيْه وأتى بها إلى أن أوصَلَها إلى منزلها، ومضى إلى
محله وباتَ وهو متفكِّر في محاسنها، فلما أصبح الصباح وأضاء بنوره ولاح، هيَّأَ
لها هدية فاخرة، وأتى بها إليها وجلس عندها، وأقامَا على ذلك مدة أيام وهما في
أرغد عيش وأهنئه، ثم إنه ورد عليها في بعض الأيام كتابٌ من عند زوجها، مضمونه أنه
يصل إليها عن قريب، فقالت في نفسها: لا سلَّمَه الله ولا أحياه؛ لأنه إنْ وصَلَ
إلينا تكدَّرَ علينا عيشنا، يا ليتني كنتُ يئست منه. فلما أتى إليها مسرور جلس
يتحدث معها على العادة، فقالت له: يا مسرور، قد ورَدَ علينا كتابٌ من عند زوجي،
مضمونه أنه يصل إلينا من سفره عن قريبٍ، فكيف يكون العمل وما لأحد منَّا عن صاحبه
صبر؟ فقال لها: لستُ أدري ما يكون، بل أنتِ أخبر وأدرى بأخلاق زوجك، ولا سيما أنتِ
من أعقل النساء، صاحبة الحِيَل التي تحتال بشيء تعجز عن مثله الرجال. فقالت: إنه
رجل صعب، وله غيرة على أهل بيته، ولكن إذا قَدِم من سفره وسمعت بقدومه فأقدِمْ
عليه وسلِّم عليه واجلس إلى جانبه وقُلْ له: يا أخي، أنا رجل عطَّار. واشترِ منه
شيئًا من أنواع عطارة، وتردَّدْ عليه مرارًا، وأطِلْ معه الكلامَ، ومهما أمرك به
فلا تخالفه فيه، فلعل ما أحتال به يكون مصادفًا. فقال لها: سمعًا وطاعة. وخرج
مسرور من عندها وقد اشتعلت في قلبه نار المحبة، فلما وصل زوجها إلى الدار فرحت
بوصوله ورحَّبَتْ به وسلَّمَتْ عليه، فنظر في وجهها فرأى فيه لون الاصفرار، وكانت
غسلت وجهها بالزعفران، وعملت فيه بعض حِيَل النساء، فسألها عن حالها، فذكرت له
أنها مريضة من وقت ما سافَرَ، هي والجواري، وقالت له: إن قلوبنا مشغولة عليك لطول
غيابك. وصارت تشكو إليه مشقة الفراق وتبكي بدمع مهراق، وتقول: لو كان معك رفيقٌ،
ما حمل قلبي هذا الهمَّ كله، فبالله عليك يا سيدي ما بقيتَ تسافر إلا برفيق، ولا
تقطع عني أخبارك لأجل أن أكون مطمئنةَ القلب والخاطر عليك. وأدرك شهرزاد الصباح،
فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 852﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن زين المواصف لما قالت لزوجها: لا تسافِرْ إلا برفيق،
ولا تقطعْ عني أخبارك لأجل أن أكون مطمئنةَ القلب والخاطر عليك. قال لها: حبًّا
وكرامة، والله إن أمركِ رشيد، ورأيكِ سديد، وحياتكِ على قلبي ما يكون إلا ما
تريدينه. ثم إنه خرج بشيء من بضاعته إلى دكانه وفتحها وجلس يبيع في السوق، فبينما
هو في دكانه وإذا بمسرور قد أقبَلَ وسلَّمَ عليه وجلس إلى جانبه وصار يحيِّيه،
ومكث يتحدَّث معه ساعة، ثم أخرَجَ كيسًا وحلَّه وأخرَجَ منه ذهبًا ودفعه إلى زوج
زين المواصف، وقال له: أَعطِني بهذه الدنانير شيئًا من أنواع العطارة لأبيعه في
دكاني. فقال له: سمعًا وطاعة. ثم أعطاه الذي طلبه وصار مسرور يتردَّد عليه أيامًا،
فالتفَتَ إليه زوج زين المواصف وقال له: أنا مرادي رجل أشاركه في المتجر. فقال له
مسرور: أنا الآخَر مرادي رجل أشاركه في المتجر؛ لأن أبي كان تاجرًا في بلاد اليمن،
وخلف لي مالًا عظيمًا وأنا خائف على ذهابه. فالتفَتَ إليه زوج زين المواصف وقال
له: هل لك أن تكون رفيقًا لي وأكون لك رفيقًا وصاحبًا وصديقًا في السفر والحضر،
وأعلِّمك البيع والشراء والأخذ والعطاء؟ فقال له مسرور: حبًّا وكرامة.
ثم
إنه أخذه وأتى به إلى منزله وأجلسه في الدهليز، ودخل إلى زوجته زين المواصف وقال
لها: إني رافقتُ رفيقًا ودعوتُه إلى الضيافة، فجهِّزي لنا ضيافةً حسنةً. ففرحَتْ
زين المواصف وعرفَتْ أنه مسرور، فجهَّزَتْ وليمة فاخرة وصنعت طعامًا حسنًا من
فرحتها بمسرور، حيث تمَّ تدبير حيلتها. فلما حضر مسرور في دار زوج زين المواصف
قال: اخرجي معي إليه ورحِّبي به وقولي له آنستنا. فغضبَتْ زين المواصف وقالت له:
أتحضرني قدام رجل غريب أجنبي؟ أعوذ بالله، ولو قطَّعتَني قطعًا ما أحضر قدامه.
فقال لها زوجها: لأي شيء تستحيين منه وهو نصراني ونحن يهود ونصير أصحابًا؟ فقالت:
أنا ما أشتهي أن أحضر قدام الرجل الأجنبي الذي ما نظرَتْه عيني قطُّ ولا أعرفه.
فظَنَّ زوجها أنها صادقة في قولها، ولم يزل يعالجها حتى قامت وتلفلفت وأخذت الطعام
وخرجت إلى مسرور ورحَّبَتْ به؛ فأطرَقَ رأسه إلى الأرض كأنه مستحٍ، فنظر الرجل إلى
إطراقه وقال: لا شك أن هذا زاهد. فأكلوا كفايتهم، ثم رفعوا الطعام وقدَّموا
المُدام، فجلست زين المواصف قبال مسرور، وصارت تنظره وينظرها إلى أن مضى النهار،
فانصرف مسرور إلى منزله والتهبَتْ في قلبه النار، وأما زوج زين المواصف فإنه صار
متفكِّرًا في لطف صاحبه وفي حُسْنه. فلما أقبَلَ الليلُ قدَّمَتْ إليه زوجته
طعامًا ليتعشَّى كعادته، وكان عنده في الدار طير هزار، إذا جلس يأكل يأتي إليه ذلك
الطير ويأكل معه ويرفرف على رأسه، وكان ذلك الطير قد ألف مسرورًا فصار يرفرف عليه
كلما جلس على الطعام، فحين غاب مسرور وحضر صاحبه لم يعرفه ولم يقرب منه، فصار
متفكِّرًا في أمر ذلك الطير وفي بُعْدِه عنه. وأما زين المواصف فإنها لم تَنَمْ،
بل صار قلبها مشغولًا بمسرور، واستمرَّ ذلك الأمر إلى ثاني ليلة وثالث ليلة، ففهم
اليهودي أمرها ونقد عليها وهي مشغولة البال، فأنكَرَ عليها. وفي رابع ليلة انتبه
من منامه نصف الليل، فسمع زوجته تلهج في منامها بذِكْرِ مسرور وهي نائمة في حضنه،
فأنكر ذلك عليها وكتم أمره.
فلما
أصبح الصباح ذهب إلى دكانه وجلس فيها، فبينما هو جالس وإذا بمسرور قد أقبَلَ
وسلَّمَ عليه، فردَّ عليه السلام وقال: مرحبًا يا أخي. ثم قال له: إني مشتاق إليك.
وجلس يتحدَّث معه ساعة زمانية، ثم قال له: قُمْ يا أخي معي إلى منزلي حتى نعقد
المؤاخاة. فقال مسرور: حبًّا وكرامة. فلما وصَلَا إلى المنزل تقدَّمَ اليهودي
وأخبر زوجته بقدوم مسرور، وأنه يريد أن يتَّجِر هو وإياه ويؤاخيه، وقال لها:
هيِّئِي لنا مجلسًا حسنًا، ولا بد أنك تحضرين معنا وتنظرين المؤاخاة. فقالت له:
بالله عليك لا تحضرني قدام هذا الرجل الغريب، فما لي غرض أن أحضر قدامه. فسكَتَ
عنها وأمر الجواري أن تقدِّم الطعام والشراب، ثم إنه استدعى الطير الهزار، فنزل في
حجر مسرور ولم يعرف صاحبه؛ فعند ذلك قال له: يا سيدي، ما اسمك؟ قال: اسمي مسرور.
والحال أن زوجته طول الليل تلهج في منامها بهذا الاسم. ثم رفع رأسه فنظرها وهي
تشير إليه وتغمزه بحاجبها، فعرف أن الحيلة قد تمَّتْ عليه، فقال: يا سيدي،
أمهِلْني حتى أجيء بأولاد عمي يحضرون المؤاخاة. فقال له مسرور: افعل ما بَدَا لك.
فقام زوج زين المواصف وخرج من الدار وجاء من وراء المجلس. وأدرك شهرزاد الصباح،
فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 853﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن زوج زين المواصف قال لمسرور: أمهِلْني حتى أجيء
بأولاد عمي ليحضروا عقد المؤاخاة بيني وبينك. ثم إنه مشى وجاء من وراء المجلس
ووقف، وكان هناك طاقة تشرف عليهما، فجاء إليها وصار ينظرهما منها وهما لا ينظرانه،
وإذا بزين المواصف قالت لجاريتها سكوب: أين راح سيدك؟ قالت: إلى خارج الدار. فقالت
لها: أغلقي البابَ ومكِّنيه بالحديد، ولا تفتحي له حتى يدق الباب بعد أن تخبريني.
قالت لها الجارية: وهو كذلك. كل ذلك وزوجها يعايِنُ حالهم، ثم إن زين المواصف
أخذَتِ الكأس وطيَّبَتْه بماء الورد وسحيق المسك وجاءت إلى مسرور، فقام لها
وتلقَّاها وقال لها: والله إن ريقك أحلى من هذا الشراب. وصارت تسقيه ويسقيها، وبعد
ذلك رشَّتْه بماء الورد من فوقه إلى قدمه حتى فاحت روائحه في المجلس، كل ذلك
وزوجها ينظر إليهما ويتعجَّب من شدة الحب الذي بينهما، وقد امتلأ قلبه غيظًا مما
قد رآه، ولحقه الغضب وغار غيرةً عظيمةً؛ فأتى إلى الباب فوجَدَه مغلقًا، فطرقه
طرقًا قويًّا من شدة غيظه، فقالت الجارية: يا سيدتي، قد جاء سيدي. فقالت: افتحي له
الباب، فلا ردَّه الله بسلامة. فمضَتْ سكوب إلى الباب وفتحته، فقال لها: ما لكِ
تغلقين الباب؟ فقالت: هكذا في غيابك، لم يزل مغلقًا ولا يُفتَح ليلًا ولا نهارًا.
فقال: أحسنتِ، فإنه يعجبني ذلك. ثم دخل على مسرور وهو يضحك، ولكنه كتم أمره وقال:
يا مسرور، دَعْنا من المؤاخاة في هذا اليوم ونتآخى في يوم آخَر غير هذا اليوم.
فقال: سمعًا وطاعة، افعل ما تريد. فعند ذلك مضى مسرور إلى منزله، وصار زوج زين
المواصف متفكِّرًا في أمره ولا يدري ما يصنع، وصار خاطره في غاية التكدير، وقال في
نفسه: حتى الهزار أنكَرَني، والجواري أغلقَتِ الأبوابَ في وجهي ومِلْنَ إلى غيري.
ثم إنه صار من شدة قهره يردِّد إنشاده هذه الأبيات:
لَقَدْ
عَاشَ مَسُرورٌ زَمَانًا مُنَعَّمَا
بِلَذَّةِ أَيَّامٍ وَعَيْشٍ تَصَرَّمَا
تُعَانِدُنِي
الْأَيَّامُ فِيمَنْ أُحِبُّهُ وَقَلْبِي
بِنِيرَانٍ يَزِيدُ تَضَرُّمَا
صَفَا
لَكَ دَهْرٌ بِالْمَلِيحَةِ قَدْ مَضَى
وَلَا زِلْتَ فِي ذَاكَ الْجَمَالِ مُهَيَّمَا
لَقَدْ
عَايَنَتْ عَيْنَايَ حُسْنَ جَمَالِهَا
فَأَصْبَحَ قَلْبِي فِي هَوَاهَا مُتَيَّمَا
لَقَدْ
طَالَمَا قَدْ أَرْشَفَتْنِي مَعَ الرِّضَا
بَعَذْبِ ثَنَايَاهَا رَحِيقًا عَلَى ظَمَا
فَمَا
لَكَ يَا طَيْرَ الْهَزَارِ تَرَكْتَنِي
وَصِرْتَ عَلَى الْعُذَّالِ صُبْحًا مُسَلِّمَا
وَقَدْ
أَبْصَرَتْ عَيْنِي أُمُورًا عَجِيبَةً
تُنَبِّهُ أَجْفَانِي إِذَا كُنَّ نُوَّمَا
رَأَيْتُ
حَبِيبِي قَدْ أَضَاعَ مَوَدَّتِي وَطَيْرُ
هَزَارِي لَمْ يَكُنْ لِي مُحَوِّمَا
وَحَقِّ
إِلَهِ الْعَالَمِينَ الَّذِي إِذَا
أَرَادَ قَضَاءً فِي الْخَلِيقَةِ أَبْرَمَا
لَأَفْعَلُ
مَا يَسْتَوْجِبُ الظَّالِمَ الَّذِي
بِجَهْلٍ دَنَا مِنْ وَصْلِهَا وَتَقَدَّمَا
فلما
سمعت زين المواصف شِعْره ارتعدت فرائصها، واصفرَّ لونها، وقالت لجاريتها: هل سمعتِ
هذا الشعر؟ فقالت الجارية: ما سمعته في عمري قال مثل هذا الشعر، ولكنْ دَعِيه يقول
ما يقول. فلما تحقَّقَ زوجها أن هذا الأمر صحيح، صار يبيع في كل ما تملكه يده،
وقال في نفسه: إنْ لم أغربهما عن أوطانهما فلن يرجعَا عمَّا هما فيه أبدًا. فلما
باع جميع أملاكه كتب كتابًا مزوَّرًا، ثم قرأه عليها وادَّعَى أن هذا الكتاب جاءه
من عند أولاد عمه، يتضمَّن طلب زيارته لهم هو وزوجته، فقالت: وكَمْ نقيم عندهم؟
قال: اثني عشر يومًا. فأجابته إلى ذلك وقالت له: هل آخذ معي بعض جواريَّ؟ قال: خذي
منهن هبوب وسكوب، ودعي هنا خطوب. ثم هيَّأ لهن هودجًا مليحًا، وعزم على الرحيل
بهن، فأرسلَتْ زين المواصف إلى مسرور: إنْ فاتَ الميعاد الذي بيننا ولم نأتِ،
فاعلم أنه قد عمل علينا حيلةً ودبَّرَ لنا مكيدةً، وأبعَدَنا عن بعضنا، فلا تَنْسَ
العهود والمواثيق التي بيننا، فإني أخاف من حيله ومَكْره. ثم إن زوجها جهَّزَ حاله
للسفر، وأما زين المواصف فإنها صارت تبكي وتنتحب ولا يقرُّ لها قرارٌ في ليل ولا
نهار، فلما رأى زوجها ذلك لم ينكر عليها، فلما رأت زين المواصف أن زوجها لا بد له
من السفر، لمَّتْ قماشها ومَتاعها وأودعَتْ جميعَ ذلك عند أختها، وأخبرتها بما جرى
لها وودَّعَتْها وخرجت من عندها وهي تبكي، ثم رجعت إلى بيتها فرأَتْ زوجها قد
أحضَرَ الجِمال، وصار يضع عليها الأحمال، وهيَّأَ لزين المواصف أحسن الجِمال. فلما
رأت زين المواصف أنه لا بد من فراقها لمسرور تحيَّرَتْ، فاتفق أن زوجها قد خرج
لبعض أشغاله، فخرجت إلى الباب الأول وكتبَتْ عليه هذه الأبيات. وأدرك شهرزاد
الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 854﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن زين المواصف لما رأت زوجها أحضَرَ الجِمال، وعلمت
بالسفر تحيَّرَتْ، فاتفق أن زوجها خرج لبعض أشغاله، فخرجت إلى الباب الأول وكتبت
عليه هذه الأبيات:
أَلَا
يَا حَمَامَ الدَّارِ بَلِّغْ سَلَامَنَا
مِنَ الصَّبِّ لِلْمَحْبُوبِ عِنْدَ فِرَاقِنَا
وَبَلِّغْهُ
أَنِّي لَا أَزَالُ حَزِينَةً نَدِمْتُ
عَلَى مَا كَانَ مِنْ طِيبِ وَقْتِنَا
كَمَا
أَنَّ حُبِّي لَا يَزَالُ مُتَيَّمًا
حَزِينًا عَلَى مَا قَدْ مَضَى مِنْ سُرُورِنَا
قَضَيْنَا
زَمَانًا بِالْمَسَرَّةِ وَالْهَنَا
وَفُزْنَا بِوَصْلٍ لَيْلَنَا وَنَهَارَنَا
فَلَمْ
نَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَصْبَحَ صَائِحًا
عَلَيْنَا غُرَابُ الْبَيْنِ يَنْعَى فِرَاقَنَا
رَحَلْنَا
وَخَلَّيْنَا الدِّيَارَ بَلَاقِعَ فَيَا
لَيْتَنَا لَمْ نُخْلِ تِلْكَ الْمَسَاكِنَا
ثم
أتَتْ إلى الباب الثاني وكتبَتْ عليه هذه الأبيات:
أَيَا
وَاصِلًا لِلْبَابِ بِاللهِ فَانْظُرَا
جِمَالَ حَبِيبِي فِي الدَّيَاجِي وَأَخْبِرَا
بِأَنِّيَ
بَاكٍ إِنْ تَذَكَّرْتُ وَصْلَهُ وَلَا
يَنْفُدُ الدَّمْعُ الَّذِي بِالْبُكَا جَرَى
فَإِنْ
لَمْ تَجِدْ صَبْرًا عَلَى مَا أَصَابَنِي
فَضَعْ قُرْبَ أَجْمَالِي التُّرَابَ وَغَبِّرَا
وَسَافِرْ
إِلَى شَرْقِ الْبِلَادِ وَغَرْبِهَا
وَعِشْ صَابِرًا فَاللهُ لِلْأَمْرِ قَدَّرَا
ثم
أتَتْ إلى الباب الثالث وبكَتْ بكاءً شديدًا، وكتبَتْ عليه هذه الأبيات:
رُوَيْدَكَ
يَا مَسْرُورُ إِنْ زُرْتَ دَارَهَا
فَأَعْبِرْ إِلَى الْأَبْوَابِ وَاقْرَأْ سُطُورَهَا
وَلَا
تَنْسَ عَهْدَ الْوُدِّ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَكَمْ طَعِمَتْ حُلْوَ اللَّيَالِي وَمُرَّهَا
فَبِاللهِ
يَا مَسْرُورُ لَا تَنْسَ قُرْبَهَا
فَقَدْ تَرَكَتْ فِيكَ الْهَنَا وَسُرُورَهَا
أَلَا
وَابْكِ أَيَّامَ الْوِصَالِ وَطِيبَهَا
وَأَنْتَ مَتَّى مَا جِئْتَ أَرْخَتْ سُتُورَهَا
فَسَافِرْ
قُصِيَّاتِ الْبِلَادِ لِأَجْلِنَا وَخُضْ بَحْرَهَا وَاسْتَقْصِ عَنَّا بُرُورَهَا
لَقَدْ
ذَهَبَتْ عَنَّا لَيَالِي وِصَالِنَا
وَفَرْطُ ظَلَامِ الْهَجْرِ أَطْفَأَ نُورَهَا
رَعَى
اللهُ أَيَّامًا مَضَتْ مَا أَسَرَّهَا
بَرَوْضِ الْأَمَانِي إِذْ قَطَفْنَا زُهُورَهَا
فَهَلَّا
اسْتَمَرَّتْ مِثْلَ مَا كُنْتُ أَرْتَجِي
أَبَى اللهُ إِلَّا وِرْدَهَا وَصُدُورَهَا
فَهَلْ
تَرْجِعُ الْأَيَّامُ تَجْمَعُ شَمْلَنَا
وَأُوفِي إِذَا وَافَتْ لِرَبِّي نُذُورَهَا
وَكُنْ
عَالِمًا أَنَّ الْأُمُورَ بِكَفِّ مَنْ
يَخُطُّ عَلَى لَوْحِ الْجَبِينِ سُطُورَهَا
ثم
بكَتْ بكاءً شديدًا ورجعت إلى الدار تبكي وتنتحب، وصارت تتذكر ما مضى وقالت: سبحان
الله الذي حكَمَ علينا بهذا. ثم زاد تأسُّفُها على مفارقة الأحباب وعلى فراق
الديار، وأنشدت هذه الأبيات:
عَلَيْكَ
سَلَامُ اللهِ يَا مَنْزِلًا خَلَا لَقَدْ
قَضَتِ الْأَيَّامُ فِيكَ سُرُورَهَا
أَلَا
يَا حَمَامَ الدَّارِ لَا زِلْتَ نَائِحًا
لِمَنْ فَارَقَتْ أَقْمَارَهَا وَبُدُورَهَا
رُوَيْدَكَ
يَا مَسْرُورُ فَابْكِ لِفَقْدِنَا لَقَدْ
فَقَدَتْ عَيْنِي لِفَقْدِكَ نُورَهَا
وَلَوْ
نَظَرَتْ عَيْنَاكَ يَوْمَ رَحِيلِنَا
وَنِيرَانُ قَلْبِي زَادَ دَمْعِي سَعِيرَهَا
وَلَا
تَنْسَ ذَاكَ الْعَهْدَ فِي ظِلِّ رَوْضَةٍ
حَوَتْ شَمْلَنَا فِيهَا وَأَرْخَتْ سُتُورَهَا
ثم
حضرَتْ بين يدَيْ زوجها، فحملها على الهودج الذي صنعه لها، فلما أن صارت على ظهر
البعير أنشدَتْ هذه الأبيات:
عَلَيْكَ
سَلَامُ اللهِ يَا مَنْزِلًا خَلَا وَقَدْ
طَالَ مَا زِدْنَا هُنَاكَ تَجَمُّلَا
فَلَيْتَ
زَمَانِي فِي ذُرَاكَ تَصَرَّمَتْ لَيَالِيهِ
حَتَّى فِي الصَّبَابَةِ أُقْتَلَا
جَزِعْتُ
عَلَى بُعْدِي وَشَوْقِي لِمَوْطِنٍ
شُغِفْتُ بِهِ لَمْ أَدْرِ مَا قَدْ تَحَصَّلَا
فَيَا
لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَرَى فِيهِ عَوْدَةً
تَرُوقُ كَمَا رَاقَتْ لَنَا فِيهِ أَوَّلَا
فقال
لها زوجها: يا زين المواصف، لا تحزني على فراق منزلك، فإنك تعودين إليه عن قريب.
وصار يطيِّب خاطرها ويلاطفها، ثم ساروا حتى خرجوا إلى ظاهر البلد واستقبلوا
الطريق، وعلمت أن الفراق قد تحقَّقَ فعَظُم ذلك عليها. كل هذا ومسرور قاعد في
منزله متفكِّرٌ في أمره وأمر محبوبته، فأحَسَّ قلبه بالفراق، فنهض قائمًا على
قدمَيْه من وقته وساعته، وسار حتى جاء إلى منزلها، فرأى الباب مقفولًا، ورأى
الأبيات التي كتبَتْها زين المواصف، فقرأ ما على الباب الأول، فلما قرأه وقع على
الأرض مغشيًّا عليه. ثم أفاق من غشيته، وفتح الباب الأول ودخل إلى الباب الثاني
فرأى ما كتبته، وكذلك الثالث، فلما قرأ جميع هذه الكتابة زاد به الغرام والشوق
والهيام، فخرج في إثرها يُسرِع في خطاه حتى لحق بالرَّكْب، فرآها في آخِره وزوجها
في أوله لأجل حوائجه، فلما رآها تعلَّقَ بالهودج باكيًا حزينًا من ألم الفراق،
وأنشد هذه الأبيات:
لَيْتَ
شِعْرِي بِأَيِّ ذَنْبٍ رُمِينَا بِسِهَامِ
الصُّدُودِ طُولَ السِّنِينَا
يَا
مُنَى الْقَلْبِ جِئْتُ لِلدَّارِ يَوْمًا
عِنْدَمَا ازْدَدْتُ فِي هَوَاكِ شُجُونَا
فَرَأَيْتُ
الدِّيَارَ قَفْرًا يَبَابًا فَشَكَوْتُ
النَّوَى وَزِدْتُ أَنِينَا
وَسَأَلْتُ
الْجِدَارَ عَنْ كُلِّ قَصْدِي أَيْنَ
رَاحُوا وَصَارَ قَلْبِي رَهِينَا
قَالَ
سَارُوا عَنِ الْمَنَازِلِ حَتَّى صَيَّرُوا
الْوَجْدَ فِي الْفُؤَادِ كَمِينَا
قَدْ
كَتَبْتُ عَلَى الْجِدَارِ سُطُورًا
فِعْلُ أَهْلِ الْوَفَا مِنَ الْعَالَمِينَا
فلما
سمعت زين المواصف هذا الشعر علمت أنه مسرور. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن
الكلام المباح.
﴿اللیلة 855﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن زين المواصف لما سمعَتْ منه هذا الشعر علمت أنه
مسرور، فبكَتْ هي وجواريها، ثم قالت له: يا مسرور، سألتك بالله أن ترجع عنَّا لئلا
يراكَ ويراني زوجي. فلما سمع مسرور ذلك غُشِي عليه، فلما أفاق ودَّعَا بعضهما
وأنشد هذه الأبيات:
نَادَى
الرَّحِيلُ سُحَيْرًا فِي الدُّجَى الْهَادِي قَبْلَ الصَّبَاحِ وَهَبَّتْ نَسْمَةُ
النَّادِي
شَدُّوا
الْمَطَايَا وَجَدُّوا فِي تَرَحُّلِهِمْ
وَأَسْرَعَ الرَّكْبُ لَمَّا زَمْزَمَ الْحَادِي
وَعَطَّرُوا
أَرْضَهُمْ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ وَعَجَّلُوا
سَيْرَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَادِي
تَمَلَّكُوا
مُهْجَتِي عِشْقًا وَقَدْ رَحَلُوا وَغَادَرُونِي
عَلَى آثَارِهِمْ غَادِي
يَا
جِيرَةً مَقْصَدِي أَنْ لَا أُفَارِقَهُمْ
حَتَّى بَلَلْتُ الثَّرَى مِنْ دَمْعِيَ الْغَادِي
يَا
وَيْحَ قَلْبِي وَوَيْحِي بَعْدَمَا صَنَعَتْ يَدُ الْفِرَاقِ عَلَى رُغْمِي
بِأَكْبَادِي
وما
زال مسرور ملازمًا للركب وهو يبكي وينتحب، وهي تستعطفه في أن يرجع قبل الصباح
خشيةَ الافتضاح، فتقدَّمَ إلى الهودج وودَّعَها ثاني مرة وغُشِي عليه ساعةً
زمانيةً، فلما أفاق وجدهم سائرين، فالتفت نحو سيرهم وشَمَّ ريحَ القبول، وصار
يترنَّم بإنشاد هذه الأبيات:
مَا
هَبَّ رِيحُ الْقُرْبِ لِلْمُشْتَاقِ
إِلَّا شَكَا مِنْ لَوْعَةِ الْأَشْوَاقِ
هَبَّتْ
عَلَيْهِ نَسْمَةٌ سِحْرِيَّةٌ مَا
فَاقَ إِلَّا وَهْوَ فِي الْآفَاقِ
مُلْقًى
عَلَى فُرُشِ السَّقَامِ مِنَ الضَّنَى
يَبْكِي الدِّمَاءَ بِدَمْعِهِ الْمُهْرَاقِ
مِنْ
جِيرَةٍ رَحَلُوا وَقَلْبِي مَعْهُمُ
بَيْنَ الرِّكَابِ يُسَاقُ بِالسُّوَّاقِ
وَاللهِ
مَا فِي الْقُرْبِ هَبَّتْ نَسْمَةٌ
إِلَّا وَقَفْتُ لَهَا عَلَى الْأَحْدَاقِ
ثم
رجع مسرور إلى الدار وهو في غاية الاشتياق، فرآها خاليةً من الأطناب، موحشةً من
الأحباب، فبكى حتى بلَّ الثيابَ وغُشِي عليه، وكادت أن تخرج روحه من جسده، فلما
أفاق أنشد هذين البيتين:
يَا
رَبْعُ رِقَّ لِذِلَّتِي وَخُضُوعِي
وَنُحُولِ جِسْمِي وَانْهِمَالِ دُمُوعِي
وَانْشُرْ
إِلَيْنَا مِنْ عَبِيرِ نَسِيمِهِمْ
أَرَجًا لِتَشْفِيَ خَاطِرِي الْمَوْجُوعِ
فلما
رجع مسرور إلى منزله صار متحيِّرًا من أجل ذلك، باكيَ العين، ولم يزل على هذا
الحال مدة عشرة أيامٍ.
هذا
ما كان من أمر مسرور، وأما ما كان من أمر زين المواصف فإنها عرفَتْ أن الحيلة قد
تمَّتْ عليها، فإن زوجها ما زال سائرًا بها مدة عشرة أيامٍ، ثم أنزَلَها في بعض
المدن، فكتبَتْ زين المواصف كتابًا لمسرور وناولَتْه لجاريتها هبوب، وقالت: أرسِلي
هذا الكتاب إلى مسرور ليعرف كيف تمَّت الحيلةُ علينا، وكيف غدر بنا اليهودي. فأخذت
الجارية منها الكتابَ وأرسلته إلى مسرور، فلما وصل إليه عَظُم عليه هذا الخطاب،
فبكى حتى بلَّ التراب، وكتب كتابًا وأرسله إلى زين المواصف وختمه بهذين البيتين:
كَيْفَ
الطَّرِيقُ إِلَى أَبْوَابِ سُلْوَانِ
وَكَيْفَ يَسْلُو الَّذِي فِي حَرِّ نِيرَانِ
مَا
كَانَ أَطْيَبَ أَوْقَاتٍ لَهُمْ سَلَفَتْ
فَلَيْتَ مِنْهَا لَدَيْنَا بَعْضُ أَحْيَانِ
فلما
وصَلَ الكتاب إلى زين المواصف أخذته وقرأته وأعطَتْه لجاريتها هبوب وقالت لها:
اكتمي خبره. فعلم زوجها أنهما يتراسلان، فأخذ زين المواصف وجواريها وسافَرَ بهن
مسافةَ عشرين يومًا، ثم نزل بهن في بعض المدن. هذا ما كان من أمر زين المواصف،
وأما ما كان من أمر مسرور فإنه صار لا يهنأ له نوم ولا يَقرُّ له قرار، ولم يكن له
اصطبار، ولم يزل كذلك إذ هجعَتْ عيناه في بعض الليالي فرأى في منامه أن زين
المواصف قد جاءت إليه في الروضة وصارت تعانقه، فانتبه من نومه فلم يَرَها، فطار
عقله وذهل لبُّه وهملت عيناه بالدموع، وقد أصبح قلبه في غاية الولوع، فأنشد هذه
الأبيات:
سَلَامٌ
عَلَى مَنْ زَارَ فِي النَّوْمِ طَيْفُهَا
فَهَيَّجَ أَشْوَاقِي وَزَادَ غَرَامِي
وَقَدْ
قُمْتُ مِنْ ذَاكَ الْمَنَامِ مُوَلَّعًا
بِرُؤْيَةِ طَيْفٍ زَارَنِي بِمَنَامِي
فَهَلْ
تَصْدُقُ الْأَحْلَامُ فِيمَنْ أُحِبُّهُ
وَتَشْفِي غَلِيلِي فِي الْهَوَى وَسَقَامِي
فَطَوْرًا
تُعَاطِينِي وَطَوْرًا تَضُمُّنِي وَطَوْرًا
تُوَاسِينِي بِطِيبِ كَلَامِ
وَلَمَّا
تَقَضَّى فِي الْمَنَامِ عِتَابُنَا
وَصَارَتْ عُيُونِي بِالدُّمُوعِ دَوَامِي
رَشَفْتُ
رِضَابًا مِنْ لَمَاهَا كَأَنَّهُ رَحِيقٌ
أَرَى رَيَّاهُ مِسْكَ خِتَامِ
عَجِبْتُ
لِمَا قَدْ كَانَ فِي النَّوْمِ بَيْنَنَا
وَقَدْ نِلْتُ مِنْهَا مُنْيَتِي وَمَرَامِي
وَقَدْ
قُمْتُ مِنْ ذَاكَ الْمَنَامِ وَلَمْ أَجِدْ مِنَ الطَّيْفِ إِلَّا لَوْعَتِي
وَغَرَامِي
فَأَصْبَحْتُ
كَالْمَجْنُونِ حِينَ رَأَيْتُهَا وَأَمْسَيْتُ
سَكْرَانًا بِغَيْرِ مُدَامِ
أَلَا
يَا نَسِيمَ الرِّيحِ بِاللهِ بِلِّغِي
تَحِيَّةَ أَشْوَاقِي لَهُمْ وَسَلَامِي
وَقُولِي
لَهُمْ ذَاكَ الَّذِي تَعْهَدُونَهُ
سَقَتْهُ صُرُوفُ الدَّهْرِ كَأْسَ حِمَامِ
ثم
إنه توجَّهَ إلى منزلها، وما زال يبكي حتى وصل إليه، فنظر إلى المكان فوجده
خاليًا، ورأى خيالها يلوح قدامه وكأن شخصها أمامه، فاشتعلت نيرانه وزادت أحزانه
ووقع مغشيًّا عليه. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 856﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن مسرورًا لما رأى في المنام زين المواصف وهي تعانقه
فرح غايةَ الفرح، ثم انتبه من النوم وراح إلى دارها، فرأى الدارَ خالية، فزادت
أحزانه ووقع مغشيًّا عليه، فلما أفاق جعل ينشد هذه الأبيات:
تَنَشَّقْتُ
مِنْهُمْ فَائِحَ الْعِطْرِ وَالْبَانِ
فَرُحْتُ بِقَلْبٍ زَائِدِ الْوَجْدِ وَلْهَانِ
أُعَالِجُ
أَشْوَاقِي كَئِيبًا مُتَيَّمًا بِرَبْعٍ
خَلَا عَنْ حُسْنِ أُنْسِي وَخِلَّانِي
فَأَمْرَضَنِي
بِالْبَيْنِ وَالْوَجْدِ وَالْأَسَى
وَذَكَّرَنيِ الْعَهْدُ الْقَدِيمُ بِخِلَّانِي
فلما
فرغ من شعره سمع غرابًا ينعق على جانب الدار، فبكى وقال: سبحان الله، لا ينعق
الغراب إلا على الدار الخراب. ثم تجسَّرَ وتنهَّدَ وأنشد هذه الأبيات:
مَا
لِلْغُرَابِ بِدَارِ الْحُبِّ يَبْكِيهَا
وَالنَّارُ تَحْرِقُ أَحْشَائِي وَتَكْوِيهَا
عَلَى
زَمَانٍ تَقَضَّى فِي مَحَبَّتِهِمْ
قَدْ رَاحَ قَلْبِي ضِيَاعًا فِي مَهَاوِيهَا
أَمُوتُ
وَجْدًا وَنَارُ الشَّوْقِ فِي كَبِدِي
وَأَكْتُبُ الْكُتْبَ مَا لِي مَنْ يُؤَدِّيهَا
وَا
حَسْرَتِي لِضَنَى جِسْمِي وَقَدْ رَحَلَتْ
حَبِيبَتِي يَا تُرَى تَأْتِي لَيَالِيهَا
فَيَا
نَسِيمَ الصَّبَا إِنْ زُرْتَهَا سَحَرًا
سَلِّمْ عَلَيْهَا وَقِفْ بِالدَّارِ حَيِّيهَا
وقد
كان لزين المواصف أختٌ تُسمَّى نسيمًا، وكانت تنظر إليه من مكانٍ عالٍ، فلما رأته
على تلك الحالة بكَتْ وتحسَّرَتْ وأنشدَتْ هذه الأبيات:
كَمْ
ذَا التَّرَدُّدِ فِي الْأَوْطَانِ تَبْكِيهَا وَالدَّارُ تَنْدُبُ بِالْأَحْزَانِ
بَانِيهَا
كَانَ
السُّرُورُ بِهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ رَحَلَتْ سُكَّانُهَا وَشُمُوسٌ أَشْرَقَتْ فِيهَا
أَيْنَ
الْبُدُورُ الَّتِي كَانَتْ طَوَالِعَةً
مَحَتْ صُرُوفُ الرَّدَى أَبْهَى مَعَانِيهَا
دَعْ
مَا مَضَى مِنْ مِلَاحٍ كُنْتَ تَأْلَفُهَا
وَانْظُرْ عَسَى تَرْجَعُ الْأَيَّامُ تُبْدِيهَا
لَوْلَاكَ
مَا رَحَلَتْ سُكَّانُهَا أَبَدًا وَلَا
رَأَيْتَ غُرَابًا فِي أَعَالِيهَا
فبكى
مسرور بكاءً شديدًا لمَّا سمع هذا الكلام، وفهم الشعر والنظام، وكانت أختها تعرف
ما هما عليه من العِشق والغرام، والوَجْد والهيام، فقالت له: بالله عليك يا مسرور،
كُفَّ عن هذا المنزل لِئلَّا يشعر بك أحدٌ فيظنُّ أنك تأتي من أجلي؛ لأنك رحَّلْتَ
أختي وتريد أن ترحِّلَني أنا الأخرى، وأنت تعرف أنه لولا أنت ما خلَتِ الديار من
سكَّانها، فتسلَّ عنها واتركها، فقد مضى ما مضى. فلما سمع مسرور ذلك من أختها بكى
بكاءً شديدًا، وقال لها: يا نسيم، لو قدرت أن أطيرَ لَطِرتُ شوقًا إليها، فكيف
أتسلَّى عنها؟ فقالت: ما لك حيلة إلا الصبر. فقال لها: سألتك بالله أن تكتبي لها
كتابًا من عندك وتردِّي لنا جوابًا ليطيب خاطري، وتنطفئ النار التي في ضمائري.
فقالت: حبًّا وكرامة. ثم أخذت دواة وقرطاسًا، وصار مسرور يصف لها شدة شوقه وما
يكابده من ألم الفراق، ويقول: إن هذا الكتاب عن لسان الهائم الحزين، المفارق
المسكين، الذي لا يقرُّ له قرارٌ في ليلٍ ولا في نهار، بل يبكي بدموع غزار، قد
قرَّحَتِ الدموعُ أجفانَه، وأضرمَتْ في كَبِده أحزانَه، وطال تأسُّفه وكثر
تلهُّفه، مثل طَيْر فقَدَ إلْفَه وعجَّلَ تلَفَه، فيا أسفي من مفارقتك، ويا لهفي
على معاشرتك! لقد ضرَّ جسمي النحول، ودمعي صار في همول، وضاقت عليَّ الجبال
والسهول، فأمسيت من فَرط وَجْدي أقول:
وَجْدِي
عَلَى تِلْكَ الْمَنَازِلِ بَاقِ زَادَتْ
إِلَى سُكَّانِهَا أَشْوَاقِي
وَبَعَثْتُ
نَحْوَكُمُ حَدِيثَ صَبَابَتِي وَبِكَأْسِ
حُبِّكُمُ سَقَانِي السَّاقِي
وَعَلَى
رَحِيلِكُمُ وَبُعْدِ دِيَارِكُمْ جَرَتِ
الْجُفُونُ بِدَمْعِهَا الْمُهْرَاقِ
يَا
حَادِيَ الْأَظْعَانِ عَرِّجْ بِالْحِمَى
فَالْقَلْبُ مِنِّي زَائِدُ الْإِحْرَاقِ
وَاقْرَأْ
سَلَامِي لِلْحَبِيبِ وَقُلْ لَهُ مَا
إِنْ لَهُ غَيْرُ اللَّمَى مِنْ رَاقِ
أَوْدَى
الزَّمَانُ بِهِ فَشَتَّتَ شَمْلَهُ
وَرَمَى حُشَاشَتَهُ بِسَهْمِ فِرَاقِ
بَلِّغْ
لَهُمْ وَجْدِي وَشِدَّةَ لَوْعَتِي
مِنْ بَعْدِ فُرْقَتِهِمْ وَمَا أَنَا لَاقِ
قَسَمًا
بِحُبِّكُمُ يَمِينًا إِنَّنِي أُوفِي
لَكُمْ بِالْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ
مَا
مِلْتُ قَطُّ وَلَا سَلَوْتُ هَوَاكُمُ
كَيْفَ السُّلُوُّ لِعَاشِقٍ مُشْتَاقِ
فَعَلَيْكُمُ
مِنِّي السَّلَامُ تَحِيَّةً مَمْزُوجَةً
بِالْمِسْكِ فِي الْأَوْرَاقِ
فتعجَّبَتْ
أختها نسيم من فصاحة لسانه وحسن معانيه ورقة أشعاره، فرقَّتْ له وختمت الكتاب
بالمسك الأدفر، وبخَّرَتْه بالندى والعنبر، وأوصلته إلى بعض التجار وقالت له: لا
تسلِّم هذا إلا لأختي أو جاريتها هبوب. فقال: حبًّا وكرامة. فلما وصل الكتاب إلى
زين المواصف عرفَتْ أنه من إملاء مسرور، وعرفتْ نفْسَه فيه بلطفِ مَعانيه،
فقبَّلَتْه ووضعَتْه على عينيها، وأجرَتِ الدموعَ من جَفنَيْها، ولم تزل تبكي حتى
غُشِي عليها. فلما أفاقَتْ دعَتْ بدواةٍ وقرطاس، وكتبَتْ له جوابَ الكِتاب، ووصفتْ
شوْقَها وغَرامها ووَجْدها، وما هي فيه من الحنين إلى الأحباب، وشكت حالَها إليه
وما نالها من الوَجْد عليه. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 857﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن زين المواصف لما كتبَتْ جوابَ الكِتاب لمسرور، قالت
له فيه: إنَّ هذا كِتابٌ إلى سيدي ومالِك رِقِّي ومولاي، وصاحب سِرِّي ونَجْواي.
أما بعدُ، فقد أقلقني السهَرُ وزاد بي الفِكر، وما لي على بُعْدِك مصطبر، يا مَن
حُسْنه يفوق الشمس والقمر، فالشوق أقلقني والوَجْد أهلكني، وكيف لا أكون كذلك وأنا
مع الهالكين، فيا بهجة الدنيا وزينة الحياة، هل لمَنِ انقطعَتْ أنفاسُه أن يطيب
كأسه؟ لأنه لا هو مع الأحياء ولا مع الأموات. ثم أنشدت هذه الأبيات:
كِتَابُكَ
يَا مَسْرُورُ قَدْ هَيَّجَ الْبَلْوَى
فَوَاللهِ مَا لِي عَنْكَ صَبْرٌ وَلَا سَلْوَى
وَلَمَّا
قَرَأْتُ الْخَطَّ حَنَّتْ جَوَارِحِي
وَمِنْ مَاءِ دَمْعِي وَالْجَوَى لَمْ أَزَلْ أُرْوَى
وَلَوْ
كُنْتُ طَيْرًا طِرْتُ فِي جُنْحِ لَيْلَةٍ
فَلَمْ أَدْرِ طَعْمَ الْمَنِّ بَعْدَكَ وَالسَّلْوَى
حَرَامٌ
عَلَيَّ الْعَيْشُ مِنْ بَعْدِ بُعْدِكُمْ
فَإِنِّي عَلَى حَرِّ التَّفَرُّقِ لَا أَقْوَى
ثم
ترَّبَتِ الكتابَ بسحيق المسك والعنبر، وختمَتْه وأرسلته مع بعض التجار وقالت له:
لا تسلِّمه إلا لأختي نسيم. فلما وصل إلى أختها نسيم أوصلته إلى مسرور، فقبَّلَه
ووضعه على عينَيْه وبكى حتى غُشِي عليه.
هذا
ما كان من أمرهم، وأما ما كان من أمر زوج زين المواصف، فإنه لمَّا علم بالمراسلات
بينهما، صار يرحل بها وبجاريتيها من محل إلى محل، فقالت له زين المواصف: سبحان
الله، إلى أين تسير بنا وتبعدنا عن الأوطان؟ قال: إلى أن أقطع بكم سَنَةً حتى لا
يصل إليكن مُراسَلاتٌ من مسرور، وأنظر كيف أخذتنَّ جميعَ مالي وأعطيتنه لمسرور؟ فكل
شيء ضاعَ لي آخُذه منكن، وأنظر هل ينفعكنَّ مسرورٌ ويَقدرُ على خلاصكنَّ من يدي؟
ثم إنه مضى إلى الحدَّاد وصنع لهن ثلاثةَ قيود من الحديد، وأتى بها إليهن ونزع ما
كان عليهنَّ من الثياب الحرير، وألبسهنَّ ثيابًا من الشَّعْر، وصار يبخِّرهن
بالكبريت، ثم جاء إليهن بالحداد وقال له: ضَعْ هذه القيود في أرجل هؤلاء الجواري.
فأولُ ما قدَّمَ زينُ المواصف، فلما رآها الحداد غاب صوابه وعضَّ على أنامله وطار
عقله من رأسه وزاد غرامه، وقال لليهودي: ما ذنب هؤلاء الجواري؟ فقال: إنهن جواريَّ
وسرقْنَ مالي وهربْنَ مني. فقال له الحداد: خيَّبَ الله ظنك، والله لو كانت هذه
الجارية عند قاضي القضاة وأذنبَتْ كلَّ يوم ألفَ ذنبٍ لا يؤاخذها، وأيضًا لا يظهر
عليها علامة السرقة، ولا يَقدرُ على وضع الحديد في رجلَيْها. ثم سأله ألَّا
يقيِّدها، وصار يستشفع عنده في عدم تقييدها. فلما نظرَتِ الحدادَ وهو يستشفع لها
عنده قالت لليهودي: سألتك بالله لا تُخرِجني قدام هذا الرجل الغريب. فقال لها:
وكيف خرجتِ قدام مسرور؟ فلم تردَّ له جوابًا، ثم قَبِلَ شفاعة الحداد ووضع في
رجلَيْها قيدًا صغيرًا، وقيَّدَ الجواري بالقيود الثقيلة. وكان لزين المواصف جسمٌ
ناعم لا يتحمَّل الخشونة، فلم تزل لابسة ثياب الشَّعْر هي وجواريها ليلًا ونهارًا
إلى أن انتحلت جسومهن وتغيَّرَتْ ألوانهن. وأما الحداد فإنه وقع في قلبه لزين
المواصف عشق عظيم، فسار إلى منزله وهو بأشد الحسرات، وجعل ينشد هذه الأبيات:
شُلَّتْ
يَمِينُكَ يَا قَيْنُ بِمَا وَثَقَتْ تِلْكَ الْقُيُودُ عَلَى الْأَقْدَامِ
وَالْعَصَبِ
قَيَّدْتَ
أَقْدَامَ مَوْلَاةٍ مُنَعَّمَةٍ أَنِيسَةٍ
خُلِقَتْ مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ
لَوْ
كُنْتَ تُنْصِفُ مَا كَانَتْ خَلَاخِلُهَا
مِنَ الْحَدِيدِ وَقَدْ كَانَتْ مِنَ الذَّهَبِ
وَلَوْ
رَأَى حُسْنَهَا قَاضِي الْقُضَاةِ رَثَى
لَهَا وَأَجْلَسَهَا تِيهًا عَلَى الرُّكَبِ
وكان
قاضي القضاة مارًّا على دار الحداد وهو يترنَّمُ بإنشاد هذه الأبيات، فأرسَلَ
إليه، فلما حضر قال: يا حدَّاد، مَن هذه التي تَلهجُ بذِكْرها وقلبُك مشغولٌ
بحبها؟ فنهض الحداد قائمًا على قدمَيْه بين يدَي القاضي وقبَّلَ يده، وقال: أدامَ
اللهُ أيامَ مولانا القاضي وفسح في عُمره، أنها جارية صفتها كذا وكذا. وصار يصف له
الجارية وما هي فيه من الحُسْن والجَمال، والقَدِّ والاعتدال، والظُّرف والكمال،
وأنها بوجه جميل، وخَصْر نحيل، ورِدْف ثقيل. ثم أخبره بما هي فيه من الذُّل والحبس
والقيود وقِلَّة الزاد، فقال القاضي: يا حدَّاد، دِلَّها علينا وأوصِلْها إلينا
حتى نأخذ لها حقَّها؛ لأن هذه الجارية صارت متعلِّقةً برقبتك، وإنْ كنتَ لا تدلها
علينا فإن الله يجازيك يومَ القيامة. فقال الحدَّاد: سمعًا وطاعة. ثم إنه توجَّهَ
من وقته وساعته إلى دار زين المواصف، فوجد الباب مُغلَقًا، وسمع كلامًا رخيمًا من
كَبِد حزين؛ لأن زين المواصف كانت في ذلك الوقت تنشد هذه الأبيات:
قَدْ
كُنْتُ فِي وَطَنِي وَالشَّمْلُ مَجْتَمِعٌ
وَالْحُبُّ يَمْلَأُ لِي بِالصَّفْوِ أَقْدَاحَا
دَارَتْ
عَلَيْنَا بِمَا نَهْوَاهُ مِنْ طَرَبٍ
فَلَيْسَ تُنْكِرُ إِمْسَاءً وَإِصْبَاحَا
لَقَدْ
قَضَيْنَا زَمَانًا كَانَ يُنْعِشُنَا
كَأْسًا وَعُودًا وَقَانُونًا وَأَفْرَاحَا
فَفَرَّقَ
الدَّهْرُ وَالتَّصْرِيفُ إِلْفَتَنَا
وَالْحُبُّ وَلَّى وَوَقْتُ الصَّفْوِ قَدْ رَاحَ
فَلَيْتَ
عَنَّا غُرَابَ الْبَيْنِ مُنْزَجِرٌ
وَلَيْتَ فَجْرَ وِصَالِي فِي الْهَوَى لَاحَ
فلما
سمع الحدَّاد هذا الشِّعر والنظام، بكى بدمع كدمع الغمام، ثم طرق الباب عليهن،
فقلْنَ: مَن بالباب؟ فقال لهن: أنا الحدَّاد. ثم أخبرهن بما قاله القاضي، وأنه
يريد حضورَهن لديه وإقامة الدعوى بين يدَيْه، حتى يخلص لهن حقهن. وأدرك شهرزاد
الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 858﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الحدَّاد لمَّا أخبر زين المواصف بكلام القاضي، وأنه
يريد حضورَهن لديه وإقامة الدعوة بين يدَيْه، ويقتصُّ لهن من غريمهن حتى يخلِّص
لهن حقهن، قالت للحدَّاد: كيف نروح إليه والباب مغلوق علينا، والقيود في أرجلنا،
والمفاتيح مع اليهودي؟ قال لهن الحدَّاد: أنا أعمل للأقفال مفاتيح وأفتح بها الباب
والقيود. قالت: فمَن يعرِّفنا بيت القاضي؟ فقال الحداد: أنا أصِفُه لَكُنَّ. فقالت
زين المواصف: وكيف نمضي عند القاضي ونحن لابسات ثياب الشَّعْر المبخَّرة بالكبريت؟
فقال لهن الحداد: إن القاضي لا يَعِيبكنَّ وأنتنَّ في هذه الحالة. ثم نهض الحدَّاد
من وقته وساعته وصنع مفاتيح للأقفال، ثم فتح الباب وفتح القيود وحلَّها من أرجلهن
وأخرجهن ودلَّهن على بيت القاضي.
ثم
إن جاريتها هبوب نزعت ما كان على سيدتها من الثياب الشَّعْر، وذهبت بها إلى
الحمَّام وغسلتها وألبستها ثيابَ الحرير، فرجع لونها إليها، ومن تمام السعادة أن
زوجها كان في وليمةٍ عند بعض التجار، فتزيَّنَتْ زين المواصف بأحسن الزينة ومضَتْ
إلى بيت القاضي، فلما نظرها القاضي وقف قائمًا على قدمَيْه، فسلَّمَتْ عليه
بعذوبةِ كلامٍ وحلاوةِ ألفاظ، ورشَقَتْه في ضمن ذلك بسِهام الألحاظ، وقالت له:
أدامَ الله مولانا القاضي، وأيَّدَ به المتقاضي. ثم أخبرته بأمر الحدَّاد وما فعل
معها من فعل الأجواد، وبما صنع بها اليهودي من العذاب الذي يُدهِش الألباب،
وأخبرته أنه قد زاد بهن الهلاك، ولم يَجِدْنَ لهنَّ مِن فَكَاك. فقال القاضي: يا
جارية، ما اسمك؟ قالت: اسمي زين المواصف، وجاريتي هذه اسمها هبوب. فقال لها القاضي:
إن اسمك وافَقَ مُسمَّاه، وطابَقَ لفظُه معناه. فتبسَّمَتْ ولفَّتْ وجهها، فقال
لها القاضي: يا زين المواصف، ألَكِ بعْلٌ أم لا؟ قالت: ما لي بعل. قال: وما
دِينُكِ؟ قالت: دِيني الإسلام ومِلَّة خير الأنام. فقال لها: أقسمي بالشريعة ذات
الآيات والعِبَر، أنك على مِلَّة خير البشر. فأقسمت له وتشهَّدَتْ، فقال لها
القاضي: كيف انقضى شَبابك مع هذا اليهودي؟ فقالت له: اعلم أيها القاضي أدامَ الله
أيامك بالتراضي، وبلغك آمالك وختم بالصالحات أعمالك، أنَّ أبي خلف لي بعدَ وفاته
خمسةَ عشرَ ألف دينار، وجعلها في يد هذا اليهودي ليتَّجِر فيها، والكسب بينَنا
وبينه، ورأسُ المال ثابتٌ بالبيِّنة الشرعية، فعندما مات أبي طمع اليهودي فيَّ
وطلبني من أمي ليتزوَّجَ بي، فقالت له أمي: كيف أُخرِجها من دِينها وأجعلها
يهودية؟ فوالله لَأعرِّفن الدولةَ بك. فخاف ذلك اليهودي من كلامها وأخذ المال وهرب
إلى مدينة عدن، وعندما سمعنا به أنه في مدينة عدن جئنا في طلبه، فلما اجتمعنا عليه
في تلك المدينة، ذكر لنا أنه يتاجر في البضائع ويشتري بضاعةً بعدَ بضاعةٍ
فصدَّقناه، ولم يزل يخادعنا حتى حبَسَنا وقيَّدَنا وعذَّبَنا أشدَّ العذاب، ونحن
غرباء وما لنا معين إلا الله تعالى ومولانا القاضي.
فلما
سمع القاضي هذه الحكاية قال لجاريتها هبوب: هل هذه سيدتك وأنتنَّ غرباء وليس لها
بَعْل؟ قالت: نعم. قال: زوِّجيني بها وأنا يلزمني العِتق والصيام والحج والصدقة
إنْ لم أخلِّص لكُنَّ حقَّكنَّ من هذا الكلب، بعد أن أجازيه بما فعل. فقالت هبوب:
لك السمع والطاعة. فقال القاضي: روحي طيِّبي قلبك وقلب سيدتك، وفي غدٍ إن شاء الله
تعالى أُرسِل إلى هذا الكافر وأخلِّص لكُنَّ حقَّكنَّ منه، وتنظرين العجب في
عذابه. فدعَتْ له الجارية وانصرفت من عنده وخلَّته في كرب وهيام، وشوق وغرام. وبعد
أن انصرفت من عنده هي وسيدتها، سألَتَا عن دار القاضي الثاني فدلُّوهما عليه، فلما
حضرَتَا لديه أعلمتاه بذلك، وكذلك الثالث والرابع، حتى رفعت أمرها إلى القضاة
الأربعة، وكل واحد يسألها أن تتزوَّج به، فتقول له: نعم. ولم يعرف بعضهم خبرَ
بعضٍ، فصار كل واحد يطمع فيها، ولم يعلم اليهودي بشيء من ذلك؛ لأنه في دار الوليمة.
فلما
أصبح الصباح نهضَتْ جاريتها وأفرغَتْ عليها حُلَّة من أفخر الملابس، ودخلت بها على
القضاة الأربعة في مجلس الحكم، فلما رأت القضاةَ حاضرين أسفَرَتْ عن وجهها، ورفعت
قِناعَها، وسلَّمَتْ عليهم، فردوا عليها السلام وعرَفَها كلُّ واحدٍ منهم، وكان
أحدهم يكتب فوقع القلم من يده، وأحدهم كان يتحدَّث فتلجلج لسانه، وأحدهم كان يحسب
فغلط في حسابه، فعند ذلك قالوا لها: يا ظريفة الخصال، لا يكن قلبك إلا طيبًا، فلا
بد من أن نخلِّص لك حقك ونبلِّغك مرادك. فدعَتْ لهم، ثم ودَّعَتْهم وانصرفت. وأدرك
شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 859﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن القضاة قالوا لزين المواصف: يا ظريفة الخصال وبديعة
الجمال، لا يكن قلبك إلا طيبًا بقضاء غرضك وبلوغ مرادك. فدعَتْ لهم، ثم ودَّعَتْهم
وانصرفت. هذا كله واليهودي مقيم عند أصحابه في الوليمة، وليس له علم بذلك، وصارت
زين المواصف تدعو وُلاةَ الأحكام وأرباب الأقلام لينصروها على هذا الكافر المرتاب،
ويخلِّصوها من أليم العذاب. ثم بكت وأنشدت هذه الأبيات:
يَا
عَيْنُ سِحِّي الدَّمْعَ كَالطُّوفَانِ
فَعَسَى بِدَمْعِي تَنْطَفِي أَحْزَانِي
مِنْ
بَعْدِ لُبْسِي لِلْحَرِيرِ مُطَرَّزًا
أَضْحَى لِبَاسِي مَلْبَسُ الرُّهْبَانِ
قَدْ
صَارَ كِبْرِيتًا بُخُورُ مَلَابِسِي
شَتَّانَ بَيْنَ النَّدِّ وَالرَّيْحَانِ
لَوْ
كُنْتَ يَا مَسْرُورُ تَعْلَمُ حَالَنَا
مَا كُنْتَ تَرْضَى ذِلَّتِي وَهَوَانِي
وَهُبُوبِي
فِي قَيْدِ الْحَدِيدِ أَسِيرَةً مَعْ
كَافِرٍ بِالْوَاحِدِ الدَّيَّانِ
وَزَهِدْتُ
أَحْوَالَ الْيَهُودِ وَدِينَهُمْ وَالْيَوْمَ
دِينِي أَشْرَفُ الْأَدْيَانِ
وَسَجَدْتُ
لِلرَّحْمَنِ سَجْدَةَ مُسْلِمٍ وَتَبِعْتُ
شَرْعَ مُحَمَّدٍ بِبَيَانِ
مَسْرُورُ
لَا تَنْسَ الْمَوَدَّةَ بَيْنَنَا وَاحْفَظْ
وَثِيقَ الْعَهْدِ وَالْإِيمَانِ
أَبْدَلْتُ
دِينِي فِي هَوَاكَ وَإِنَّنِي مِنْ
فَرْطِ حُبِّي لَمْ يَزَلْ كِتْمَانِي
بَادِرْ
إِلَيْنَا إِنْ حَفِظْتَ وِدَادَنَا
حِفْظَ الْكِرَامِ وَلَا تَكُنْ مُتَوَانِي
ثم
إنها كتبَتْ كتابًا يتضمَّن جميعَ ما عمله معها اليهودي من الأول إلى الآخر،
وسطَّرَتْ فيه الأشعار، ثم طوَتِ الكتابَ وناولَتْه لجاريتها هبوب وقالت لها:
احفظي هذا الكتاب في جيبك حتى نرسله إلى مسرور. فبينما هما كذلك وإذا باليهودي قد
دخل عليهما، فرآهما فرحانتين فقال: ما لي أراكما فرحانتين؟ هل جاءكما كتاب من عند
صديقكما مسرور؟ فقالت له زين المواصف: نحن ما لنا معين عليك إلا الله سبحانه
وتعالى، فإنه هو الذي يخلِّصنا من جَوْرِك، وإن لم ترُدَّنا إلى بلادنا وأوطاننا،
فنحن في غدٍ نترافع وإياكَ إلى حاكم هذه المدينة وقاضيها. فقال اليهودي: ومَن
خلَّص القيود من أرجلكما؟ ولكن لا بد أن أصنع لكلِّ واحدة منكن قيدًا قدْرُه عشرة
أرطال، وأطوف بكُنَّ حول المدينة. فقالت له هبوب: جميع ما نويتَه لنا ستقع فيه إن
شاء الله كما أبعدتنا عن أوطاننا، وفي غدٍ نقف وإياكَ قدام حاكم المدينة. واستمروا
على ذلك إلى الصباح، ثم نهض اليهودي وجاء إلى الحدَّاد ليصنع قيودًا لهن، فعند ذلك
قامت زين المواصف هي وجواريها وأتَتْ إلى دار الحكم ودخلَتْها، فرأَتِ القضاةَ
فسلَّمَتْ عليهم، فردَّ عليها جميعُ القضاة السلامَ، ثم قال قاضي القضاة لمَن
حوله: إن هذه الجارية زهراوية، وكل مَن رآها حَبَّها وخضع لحُسْنها وجمالها. ثم إن
القاضي أرسل معها من الرُّسُل أربعة وكانوا أشرافًا، وقال لهم: أحضروا غريمها في
أسوأ حال.
هذا
ما كان من أمرها، وأما ما كان من أمر اليهودي، فإنه لما صنع لهن القيودَ توجَّهَ
إلى المنزل فلم يجدهن فيه، فاحتار في أمره، فبينما هو كذلك وإذا بالرُّسُل قد
تعلَّقوا به وضربوه ضربًا شديدًا وجرُّوه سحبًا على وجهه حتى أتوا به إلى القاضي،
فلما رآه القاضي صرخ في وجهه وقال: ويلك يا عدوَّ الله، هل وصل من أمرك أنك فعلتَ
ما فعلتَ، وأبعدْتَ هؤلاء عن أوطانهن، وسرقتَ مالَهن وتريد أن تجعلهن يهودًا؟ فكيف
تريد تكفير المسلمين؟ فقال اليهودي: يا مولاي، إن هذه زوجتي. فلما سمع القضاة منه
هذا الكلام صاحوا كلهم، وقالوا: ارموا هذا الكلب على الأرض، وانزلوا على وجهه
بنعالكم واضربوه ضربًا وجيعًا، فإن ذنبه لا يُغفَر. فنزعوا عنه ثيابه الحرير،
وألبسوه ثيابًا من الشَّعْر، وألقَوْه على الأرض، ونتفوا لحيته، وضربوه ضربًا
وجيعًا على وجهه بالنعال، ثم أركبوه على حمار وجعلوا وجهه إلى كَفَله، وأمْسَكُوه
ذيلَ الحمار في يده، وطافوا به حول المدينة حتى جرَّسوه في سائر البلد، ثم عادوا
به إلى القاضي وهو في ذلٍّ عظيم، فحكم عليه القضاة الأربعة بأن تُقطَعَ يداه
ورجلاه، وبعد ذلك يُصلَب؛ فاندهش الملعون من ذلك القول وغاب عقله وقال: يا ساداتي
القضاة، ما تريدون مني؟ فقالوا له: قُلْ إنَّ هذه الجارية ما هي زوجتي، وإن المال مالها،
وأنا تعدَّيْتُ عليها وشتَّتُّها عن أوطانها. فأقَرَّ بذلك وكتبوا بإقراره حجةً،
وأخذوا منه المال ودفعوه إلى زين المواصف وأعطوها الحجَّةَ وخرجت، فصار كلُّ مَن
رأى حُسْنَها وجمالها متحيِّرًا في عقله، وظنَّ كلُّ واحد من القضاة أنها يئول
أمرُها إليه، فلما وصلت إلى منزلها جهَّزَتْ أمرها من جميع ما تحتاج إليه، وصَبَرت
إلى أن دخل الليل، فأخذت ما خفَّ حمله وغلا ثمنه، وسارت هي وجواريها في ظلام
الليل، ولم تزل سائرةً مسافة ثلاثة أيام ولياليها. هذا ما كان من أمر زين المواصف،
وأما ما كان من أمر القضاة، فإنهم بعد ذهابها أمروا بحبس اليهودي زوجها. وأدرك
شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 860﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن القضاة أمروا بحبس اليهودي زوج زين المواصف، فلما
أصبح الصباح صار القضاة والشهود ينتظرون أن تحضر عندهم زين المواصف، فلم تحضر عند
أحدٍ منهم، ثم إن القاضي الذي ذهبَتْ إليه أولًا قال: أنا أريد اليوم أن أتفرج على
خارج المدينة لأنَّ لي حاجةً هناك. ثم ركب بغلته وأخذ غلامه وصار يطوف في أزِقَّة
المدينة طولًا وعرضًا، ويفتِّش على زين المواصف فلم يقع لها على خبر، فبينما هو
كذلك إذ وجد باقي القضاة دائرين، وكل واحد منهم يظن أنه ليس بينها وبين غيره
ميعاد، فسألهم ما سبب ركوبهم ودورانهم في أزِقَّة المدينة، فأخبروه بشأنهم، فرأى
حالهم كحاله وسؤالهم كسؤاله، ثم صار الجميع يفتِّشون عليها، فلم يقعوا لها على
خبر، فانصرف كل واحد منهم إلى منزله مريضًا، ورقدوا على فرش الضنى. ثم إن قاضي
القضاة تذكَّرَ الحدَّادَ فأرسَلَ إليه، فلما حضر بين يدَيْه قال: يا حداد، هل
تعرف شيئًا من خبر الجارية التي دللتها علينا؟ فوالله إن لم تُطلِعني عليها ضربتك
بالسياط. فلما سمع الحدَّادُ كلامَ القاضي أنشد هذين البيتين:
إِنَّ
الَّتِي مَلَكَتْنِي فِي الْهَوَى مَلَكَتْ
مَجَامِعَ الْحُسْنِ حَتَّى لَمْ تَدَعْ حَسَنَا
رَنَتْ
غَزَالًا وَفَاحَتْ عَنْبَرًا وَبَدَتْ
شَمْسًا وَمَاجَتْ غَدِيرًا وَانْثَنَتْ غُصُنَا
ثم
إن الحداد قال: والله يا مولاي من حين انصرفت من الحضرة الشريفة ما نظرَتْها عيني
قطُّ، وقد ملكت لبِّي وعقلي، وصار فيها حديثي وشغلي، وقد مضيت إلى منزلها فلم
أجدها، ولم أَرَ أحدًا يخبرني عن شأنها، فكأنها غطست في قرار الماء أو عُرج بها
إلى السماء. فلما سمع القاضي كلامَه شهق شهقةً كادَتْ روحُه أن تخرج منها، ثم قال:
والله ما كان لنا حاجةٌ برؤيتها. فانصرف الحدَّاد ووقع القاضي على فرشه، وصار من
أجلها في ضنًى، وكذا الشهود وباقي القضاة الأربعة، وصارت الحكماء تتردَّد عليهم،
وما بهم من مرض يحتاج إلى الطبيب. ثم إن وجهاء الناس دخلوا على القاضي الأول
فسلَّموا عليه واستخبروه عن حاله، فتنهَّدَ وباح بما في ضميره، وأنشد هذه الأبيات:
كُفُّوا
الْمَلَامَ كَفَانِي مُؤْلِمُ السَّقَمِ
وَاسْتَعْذِرُوا قَاضِيًا
يَقْضِي عَلَى الْأُمَمِ
مَنْ
كَانَ يَعْذُلُنِي فِي الْحُبِّ يَعْذِرُنِي وَلَا يَلُمْ فَقَتِيلُ الْحُبِّ لَمْ
يُلَمِ
فَقَاضِيًا
كُنْتُ وَالْأَقْدَارُ تُسْعِدُنِي عَلَى
الْمَرَاتِبِ فِي حَظِّي وَفِي قَلَمِي
حَتَّى
رُمِيتُ بِسَهْمٍ لَا طَبِيبَ لَهُ مِنْ
طَرْفِ جَارِيَةٍ جَاءَتْ لِسَفْكِ دَمِي
مَا
مِثْلُ مُسْلِمَةٍ تَشْكُو ظُلَامَتَهَا
وَثَغْرُهَا كَيَتِيمِ الدُّرِّ مُنْتَظِمِ
نَظَرْتُ
تَحْتَ مُحَيَّاهَا وَقَدْ سَفَرَتْ
بَدْرًا بَدَا تَحْتَ جُنْحِ اللَّيْلِ فِي الظُّلَمِ
وَجْهًا
مُنِيرًا وَثَغْرًا بَاسِمًا عَجَبًا
قَدْ عَمَّهَا الْحُسْنُ مِنْ فَرْقٍ إِلَى قَدَمِ
وَاللهِ
مَا نَظَرَتْ عَيْنِي كَطَلْعَتِهَا
مِنَ الْبَرِيَّةِ فِي عُرْبٍ وَلَا عَجَمِ
يَا
حُسْنَ مَا وَعَدَتْنِي وَهْيَ قَائِلَةٌ:
إِذَا وَعَدْتُ أَفِي يَا قَاضِيَ الْأُمَمِ
هَذَا
مَقَامِي وَهَذَا مَا بُلِيتُ بِهِ لَا
تَسْأَلُوا عَنْ شُجُونِي يَا أُولِي الْهِمَمِ
فلما
فرغ القاضي من هذه الأبيات بكى بكاءً شديدًا، ثم إنه شهق شهقة ففارقت روحه جسده،
فلما رأوا ذلك غسَّلوه وكفَّنوه وصلَّوْا عليه ودفنوه، وكتبوا على قبره هذه
الأبيات:
كَمُلَتْ
صِفَاتُ الْعَاشِقِينَ لِمَنْ غَدَا
فِي الْقَبْرِ مَقْتُولَ الْحَبِيبِ وَصَدِّهِ
قَدْ
كَانَ هَذَا لِلْبَرِيَّةِ قَاضِيًا
وَيَرَاعُهُ سَجَنَ الْحُسَامَ بِغِمْدِهِ
فَقَضَى
عَلَيْهِ الْحُبُّ لَمْ نَرَ قَبْلَهُ
مَوْلًى تَذَلَّلَ فِي الْأَنَامِ لِعَبْدِهِ
ثم
إنهم ترحَّموا عليه وانصرفوا إلى القاضي الثاني ومعهم الطبيب، فلم يجدوا به ضررًا
ولا ألمًا يحتاج إلى طبيب، فسألوه عن حاله وشغل باله، فعرَّفهم بقضيته، فلاموه
وعنَّفوه على تلك الحالة، فأجابهم مترنِّمًا بهذه الأبيات:
بُلِيتُ
بِهَا وَمِثْلِي لَا يُلَامُ رُمِيتُ
بِنَبْلَةٍ مِنْ كَفِّ رَامِ
أَتَتْنِي
امْرَأَةٌ تُدْعَى هُبُوبًا تَعُدُّ
الدَّهْرَ عَامًا بَعْدَ عَامِ
وَمَعْهَا
طِفْلَةٌ أَبْدَتْ مُحَيَّا يَفُوقُ
الْبَدْرَ فِي جُنْحِ الظَّلَامِ
فَبَيَّنَتِ
الْمَحَاسِنَ وَهْيَ تَشْكُو وَأَدْمُعُ
جَفْنِهَا ذَاتُ انْسِجَامِ
سَمِعْتُ
كَلَامَهَا وَنَظَرْتُ فِيهَا فَأَضْنَتْنِي
بِثَغْرٍ ذِي ابْتِسَامِ
وَقَدْ
رَحَلَتْ بِقَلْبِي حِينَ رَاحَتْ وَخَلَّتْنِي
رَهِينًا فِي غَرَامِي
فَهَذِي
قِصَّتِي فَارْثُوا لِحَالِي وَحُطُّوا
قَاضِيًا غَيْرِي غُلَامِي
ثم
إنه شهق شهقة، ففارقت روحه جسده، فجهَّزوه ودفنوه وترحَّموا عليه. ثم توجَّهوا إلى
القاضي الثالث، فوجدوه مريضًا وحصل له ما حصل للثاني، وكذلك الرابع، فوجدوا
الجميعَ مرضى بحبِّها، ووجدوا الشهود أيضًا مرضى بحبها، فإن كلَّ مَن رآها مات
بحبها، وإنْ لم يَمُتْ عاش يكابد لوعة الغرام. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن
الكلام المباح.
﴿اللیلة 861﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن أهل المدينة وجدوا جميعَ القضاة والشهود مرضى بحبها،
فإن كلَّ مَن رآها مات بعشقها، وإن لم يَمُتْ عاشَ يكابد لوعة الغرام من شدة حبها،
رحمهم الله أجمعين. هذا ما كان من أمرهم، وأما ما كان من أمر زين المواصف، فإنها
جدَّتْ في السير مدة أيام حتى قطعت مسافةً بعيدةً، فاتفق أنها خرجت هي وجواريها
فمرَّتْ على دير في الطريق وفيه راهب كبير اسمه دانس، وكان عنده أربعون بطريقًا،
فلما رأى جمالَ زينِ المواصف نزل إليها وعزم عليها، وقال لها: استريحوا عندنا عشرة
أيام ثم سافروا. فنزلت عنده هي وجواريها في ذلك الدير، فلما نزلت ورأى حُسْنَها
وجمالها أفسدَتْ عقيدته وافتتن بها، وصار يرسل إليها البطارقةَ واحدًا بعد واحد
لأجل أن يؤلفها، فصار كلُّ مَن أرسله إليها يقع في حبها ويراودها عن نفسها له، وهي
تتعذَّر وتتمنَّع. ولم يَزَلْ دانس يرسل إليها واحدًا بعد واحدٍ، حتى أرسل إليها
الأربعين بطريقًا، وكل واحد حين يراها يتعلَّق بعشقها ويُكثِر من مُلاطَفتها
ويُراوِدها عن نفسها، ولا يذكر لها اسم دانس، فتمتنع من ذلك وتجاوبهم بأغلظ جواب.
فلما فرغ صبر دانس واشتدَّ غرامه، قال في نفسه: إن صاحب المثل يقول: ما حكَّ جسمي
غير ظفري، ولا سعى في مرامي مثل أقدامي. ثم نهض قائمًا على قدمَيْه وصنع طعامًا
مفتخرًا وحمله ووضعه بين يديها، وكان ذلك في اليوم التاسع من العشرة أيام التي
اتفق معها على إقامتها عنده لأجل الاستراحة، فلما وضعه بين يدَيْها قال: تفضَّلي
باسم الله، خير الزاد ما حصل. فمدَّتْ يدها وقالت: بسم الله الرحمن الرحيم. وأكلت
هي وجواريها، فلما فرغت من الأكل قال لها: يا سيدتي، أريد أن أنشدك أبياتًا من
الشعر. قالت له: قُلْ. فأنشد هذه الأبيات:
مَلَكْتِ
قَلْبِي بِأَلْحَاظٍ وَوَجْنَاتِ وَفِي
هَوَاكِ غَدَا نَثْرِي وَأَبْيَاتِي
أَتَتْرُكِينَ
مُحِبًّا مُغْرَمًا دَنِفًا يُعَالِجُ
الْعِشْقَ حَتَّى فِي الْمَنَامَاتِ
لَا
تَتْرُكِينِي صَرِيعًا وَالِهًا فَلَقَدْ
تَرَكْتُ أَشْغَالَ دَيْرِي بَعْدَ لَذَّاتِي
يَا
غَادَةً جَوَّزَتْ فِي الْحُبِّ سَفْكَ دَمِي رِفْقًا بِحَالِي وَعَطْفًا فِي
شُكَيَّاتِي
فلما
سمعت زين المواصف شِعْرَه، أجابته عن شعره بهذين البيتين:
يَا
طَالِبَ الْوَصْلِ لَا يَغْرُرْكَ بِي أَمَلٌ اكْفُفُ سُؤَالَكَ عَنِّي أَيُّهَا
الرَّجُلُ
لَا
تُطْمِعِ النَّفْسَ فِيمَا لَسْتَ تَمْلِكُهُ إِنَّ الْمَطَامِعَ مَقْرُونٌ بِهَا
الْوَجَلُ
فلما
سمع شعرها رجع إلى صومعته وهو متفكِّر في نفسه، ولم يَدْرِ كيف يصنع في أمرها، ثم
بات تلك الليلة في أسوأ حالٍ، فلما جنَّ الليل قامت زين المواصف وقالت لجواريها:
قوموا بنا فإننا لا نقدر على أربعين رجلًا رهبانًا، وكل واحد يراودني عن نفسي.
فقالت لها الجواري: حبًّا وكرامة. ثم إنهن ركبن دوابهن وخرجن من باب الدير ليلًا.
وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 862﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن زين المواصف لما خرجَتْ هي وجواريها من الدير ليلًا،
لم يَزَلْنَ سائرات، وإذا هن بقافلة سائرة فاختلطن بها، وإذا بالقافلة من مدينة
عدن التي كانت فيها زين المواصف، فسمعت أهل القافلة يتحدَّثون بخبر زين المواصف
ويذكرون أن القضاة والشهود ماتوا في حبها، وولَّى أهلُ المدينة قضاةً وشهودًا
غيرهم، وأطلقوا زوجَ زين المواصف من الحبس، فلما سمعت زين المواصف هذا الكلام
التفتَتْ إلى جواريها وقالت لجاريتها هبوب: أَلَا تسمعين هذا الكلام؟ فقالت لها
جاريتها: إذا كان الرهبان الذين عقيدتهم أن الترهُّبَ عن النساء عبادة، قد افتتنوا
في هواك، فكيف حال القضاة الذين عقيدتهم أنه لا رهبانية في الإسلام؟ ولكن امضِ بنا
إلى أوطاننا ما دام أمرنا مكتومًا. ثم إنهن سِرْنَ وبالَغْنَ في السير.
هذا
ما كان من أمر زين المواصف وجواريها، وأما ما كان من أمر الرهبان، فإنهم لما أصبح
الصباح أتوا إلى زين المواصف لأجل السلام، فرأوا المكان خاليًا فأخذهم المرض في
أجوافهم، ثم إن الراهب الأول مزَّقَ ثيابه وصار ينشد هذه الأبيات:
أَلَا
يَا أُصَيْحَابِي تَعَالَوْا فَإِنَّنِي
مُفَارِقُكُمْ عَمَّا قَلِيلٍ وَرَاحِلُ
فَإِنَّ
فُؤَادِي فِيهِ آلَامُ لَوْعَةٍ وَقَلْبِي
بِهِ مِنْ زَفْرَةِ الْحُبِّ قَاتِلُ
لَأَجْلِ
فَتَاةٍ قَدْ أَتَتْ نَحْوَ أَرْضِنَا
لَهَا الْبَدْرُ فِي أُفْقِ السَّمَاءِ يُعَادِلُ
فَرَاحَتْ
وَخَلَّتْنِي قَتِيلَ جَمَالِهَا طَرِيحَ
سِهَامٍ صَادَفَتْهَا مَقَاتِلُ
ثم
إن الراهب الثاني أنشد هذه الأبيات:
يَا
رَاحِلِينَ بِمُهْجَتِي رِفْقًا عَلَى
مِسْكِينِكُمْ وَتَعَطَّفُوا بِالْمَرْجِعِ
رَاحُوا
فَرَاحَتْ رَاحَتِي مِنْ بَعْدِهِمْ
وَنَأَوْا وَطِيبُ حَدِيثِهِمْ فِي مَسْمَعِي
شَطُّوا
فَشَطَّ مَزَارُهُمْ يَا لَيْتَهُمْ
مَنُّوا عَلَيْنَا فِي الْمَنَامِ بِمَرْجَعِ
أَخَذُوا
فُؤَادِي عِنْدَمَا رَحَلُوا وَقَدْ
تَرَكُوا جَمِيعِي فِي سَوَافِحِ أَدْمُعِي
ثم
إن الراهب الثالث أنشد هذه الأبيات:
يُصَوِّرُكُمْ
قَلْبِي وَعَيْنِي وَمَسْمَعِي فَقَلْبِي
لَكُمْ مَأْوًى وَكُلِّي بِأَجْمَعِي
وَذِكْرُكُمُ
أَحْلَى مِنَ الشَّهْدِ فِي فَمِي وَيجْرِي
كَمَجْرَى الرُّوحِ فِي كُلِّ أَضْلُعِي
وَصَيَّرْتُمُونِي
كَالْخِلَالِ مِنَ الضَّنَى وَأَغْرَقْتُمُونِي
فِي الْغَرَامِ بِمَدْمَعِي
دَعُونِي
أَرَاكُمْ فِي الْمَنَامِ لَعَلَّكُمْ
تُرِيحُوا خُدُودِي مِنْ تَبَارِيحِ أَدْمُعِي
ثم
إن الراهب الرابع أنشد هذين البيتين:
خَرِسَ
اللِّسَانُ وَقَلَّ فِيكَ كَلَامِي وَالْحُبُّ
مِنْهُ تَوَجُّعِي وَسَقَامِي
يَا
بَدْرُ تَمَّ فِي السَّمَاءِ مَحَلُّهُ
قَدْ زَادَ فِيكَ تَوَلُّهِي وَهُيَامِي
ثم
إن الراهب الخامس أنشد هذه الأبيات:
أَهْوَى
قَمْرًا عَادِلَ الْقَدِّ رَشِيقْ وَالْخَصْرُ
نَحِيلُ شَاكِي الضَّرَرْ
وَرِيقُهُ
شِبْهُ سُلَافٍ وَرَحِيقْ وَالرِّدْفُ
ثَقِيلُ لَاهِي الْبَشَرْ
وَالْقَلْبُ
غَدَا بِالْغَرَامِ حَرِيقْ وَالصَّبُّ
قَتِيلُ بَيْنَ السُّمُرْ
وَالدَّمْعُ
عَلَى الْخَدِّ قَانٍ كَعَقِيقْ فِي
الْخَدِّ يَسِيلُ مِثْلَ الْمَطَرْ
ثم
إن الراهب السادس أنشد هذه الأبيات:
يَا
مُتْلِفِي فِي الْحُبِّ فَرْطُ صُدُودِهِ
يَا غُصْنَ بَانٍ لَاحَ نَجْمُ سُعُودِهِ
أَشْكُو
إِلَيْكَ كَآبَتِي وَصَبَابَتِي يَا
مُحْرِقِي فِي نَارِ وَرْدِ خُدُودِهِ
هَلْ
مِثْلُ صَبٍّ فِيكَ غَادَرَ نُسْكَهُ
وَغَدَا عَدَيمَ رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ
ثم
إن الراهب السابع أنشد هذه الأبيات:
سَجَنَ
الْفُؤَادَ وَدَمْعَ عَيْنِي أَطْلَقَا
وَالْوَجْدُ جَدَّدَهُ وَصَبْرِي مَزَّقَا
حُلْوُ
الشَّمَائِلِ مَا أَمَرَّ صُدُودَهُ
يَرْمِي الْفُؤَادَ بِسَهْمِهِ عِنْدَ اللِّقَا
يَا
عَاذِلِي أَقْصِرْ وَتُبْ عَمَّا مَضَى
مَا أَنْتَ فِي خَبَرِ الْغَرَامِ مُصَدَّقَا
وهكذا
باقي البطارقة والرهبان كلهم يبكون وينشدون الأشعار، وأما كبيرهم دانس فإنه زاد به
البكاء والعويل، ولم يجد لوصالها من سبيل، ثم إنه صار يترنَّم بإنشاد هذه الأبيات:
عَدِمْتُ
اصْطِبَارِي يَوْمَ سَارَ أَحِبَّتِي
وَفَارَقَنِي مَنْ كَانَ سُؤْلِي وَمُنْيَتِي
فَيَا
حَادِيَ الْأَظْعَانِ رِفْقًا بِعِيسِهِمْ
عَسَى أَنْ يَمُنُّوا بِالرُّجُوعِ لِدَارَتِي
جَفَا
جَفْنَ عَيْنِي النَّوْمُ بَعْدَ فِرَاقِهِمْ وَجَدَّدْتُ أَحْزَانِي وَفَارَقْتُ
لَذَّتِي
إِلَى
اللهِ أَشْكُو مَا أُلَاقِي بِحُبِّهَا
لَقَدْ أَنْحَلَتْ جِسْمِي وَأَوْدَتْ بِقُوَّتِي
ثم
إنهم لما يئسوا منها أجمع رأيهم على أنهم يصوِّرون صورتَها عندهم، واتفقوا على ذلك
إلى أن أتاهم هادِمُ اللذات. هذا ما كان من أمر هؤلاء الرهبان أصحاب الدير، وأما
ما كان من أمر زين المواصف، فإنها سارت تقصد محبوبها مسرورًا، ولم تزل سائرةً إلى
أن وصلت إلى منزلها، وفتحت الأبواب ودخلت الدار، ثم أرسلت إلى أختها نسيم، فلما
سمعت أختها بذلك فرحت فرحًا شديدًا وأحضرت لها الفراش ونفيس القماش، ثم إنها فرشت
لها وألبستها وأرخَتِ الستورَ على الأبواب، وأطلقت العود والند والعنبر والمسك
والأدفر حتى عبق المكان من تلك الرائحة، وصار أعظم ما يكون. ثم إن زين المواصف
لبسَتْ أفخرَ قماشها وتزيَّنَتْ أحسن الزينة، كل ذلك جرى ومسرور لم يعلم بقدومها،
بل كان في همٍّ شديد، وحزنٍ ما عليه من مزيد. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن
الكلام المباح.
﴿اللیلة 863﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن زين المواصف لما دخلت دارها أتَتْ لها أختها بالفراش
والقماش، وفرشت لها وألبستها أفخر الثياب، كل ذلك جرى ومسرور لم يعلم بقدومها، بل
كان في همٍّ شديد، وحزن ما عليه من مزيد. ثم جلست زين المواصف تتحدَّث مع جواريها
اللاتي تخلَّفن عن السفر معها، وذكرت لهن جميعَ ما وقع لها من الأول إلى الآخر، ثم
إنها التفتَتْ إلى هبوب وأعطتها دراهم، وأمرتها أن تذهب وتأتي لها بشيء تأكله هي
وجواريها، فذهبت وأتَتْ بالذي طلبته من الأكل والشرب، فلما انتهى أكلهن وشربهن
أمرَتْ هبوبَ أن تمضي إلى مسرور وتنظر أين هو وتشاهد ما هو فيه من الأحوال، وكان
مسرور لا يقرُّ له قرار، ولا يمكنه اصطبار، فلما زاد عليه الوَجْد والغرام، والعشق
والهيام، صار يتسلَّى بإنشاد الأشعار، ويذهب إلى الدار ويقبِّل الجدار، فاتفق أنه
مضى إلى محل التوديع، وصار ينشد هذا الشعر البديع:
أَخْفَيْتُ
مَا أَلْقَاهُ مِنْهُ وَقَدْ ظَهَرْ
وَالنَّوْمُ مِنْ عَيْنِي تَبَدَّلَ بِالسَّهَرْ
نَادَيْتُ
لَمَّا قَدْ سَبَتْ قَلْبِي الْفِكَرْ
يَا دَهْرُ لَا تُبْقِ عَلَيَّ وَلَا تَذَرْ
هَا
مُهْجَتِي بَيْنَ الْمَشَقَّةِ وَالْخَطَرْ
لَوْ
كَانَ سُلْطَانُ الْمَحَبَّةِ مُنْصِفِي
مَا كَانَ نَوْمِي مِنْ عُيُونِي قَدْ نُفِي
يَا
سَادَتِي رِقُّوا لِصَّبٍّ مُدْنَفِ
وَارْثُوا لِحَالِ كَبِيرِ قَوْمٍ زَلَّ فِي
شَرْعِ
الْهَوَى وَغَنِيِّ قَوْمٍ افْتَقَرْ
لَجَّ
الْعَوَاذِلُ فِيكَ مَا طَاوَعْتُهُمْ
وَسَدَدْتُ كُلَّ مَسَامِعِي وَكَتَمْتُهُمْ
وَحَفِظْتُ
مِيثَاقَ الَّذِينَ أُحِبُّهُمْ قَالُوا
عَشِقْتَ مُفَارِقًا فَأَجَبْتُهُمْ
كُفُّوا،
إِذَا نَزَلَ الْقَضَا عُمِيَ الْبَصَرْ
ثم
إنه رجع إلى منزله وقعد يبكي، فغلب عليه النوم، فرأى في منامه كأنَّ زين المواصف
أتَتْ إلى الدار، فانتبه من نومه وهو يبكي، ثم سار متوجِّهًا إلى منزل زين المواصف
وهو ينشد هذه الأبيات:
أَأَسْلُوا
الَّتِي فِي الْحُبِّ قَدْ مَلَكَتْ أَسْرِي وَقَلْبِي عَلَى نَارٍ أَحَرَّ مِنَ
الْجَمْرِ
عَشِقْتُ
الَّتِي أَشْكُو إِلَى اللهِ بُعْدَهَا
وَصَرْفَ اللَّيَالِي وَالْحَوَادِثَ مِنَ دَهْرِي
مَتَّى
الْمُلْتَقَى يَا غَايَةَ الْقَلْبِ وَالْمُنَى وَأَحْظَى بِجَمْعِ الشَّمْلِ يَا طَلْعَةَ
الْبَدْرِ
وكان
آخِر ما أنشد من الشعر وهو ماشٍ في زقاق زين المواصف، فشمَّ منه الروائح الزكية،
فهاجَ لبُّه وفارَقَ صدرَه قلبُه، وتضرم غرامه وزاد هيامه، وإذا بهبوب متوجِّهة
إلى قضاء حاجةٍ، فرآها وهي مُقبِلة من صدر الزقاق، فلما رآها فرح فرحًا شديدًا، فلما
رأته هبوب أتَتْ إليه وسلَّمَتْ عليه وبشَّرَتْه بقدوم سيدتها زين المواصف، وقالت
له: إنها أرسلتني في طلبك إليها. ففرح بذلك فرحًا شديدًا ما عليه من مزيد، ثم
أخذته ورجعت به إليها، فلما رأته زين المواصف نزلت له من فوق سريرها وقبَّلَتْه
وقبَّلَها، وعانقَتْه وعانَقَها، ولم يزالَا يقبِّلان بعضهما ويتعانقان حتى غُشِي
عليهما زمنًا طويلًا من شدة المحبة والفراق، فلما أفاقَا من غشيتهما أمرَتْ
جاريتها هبوب بإحضار قلةٍ مملوءةٍ من شراب السكر، وقلةٍ مملوءةٍ من شراب الليمون،
فأحضرَتْ لها الجاريةُ جميعَ ما طلبته، ثم أكلوا وشربوا، وما زالوا كذلك إلى أن
أقبَلَ الليلُ، فصاروا يذكرون الذي جرى لهم من أوله إلى آخره. ثم إنها أخبرته
بإسلامها، ففرح وأسلَمَ هو أيضًا، وكذلك جواريها وتابوا إلى الله تعالى، فلما أصبح
الصباح أمرَتْ بإحضار القاضي والشهود وأخبرتهم أنها عازبة، وقد وفت العدة
ومُرادُها الزواج بمسرور، فكتبوا كتابَها وصاروا في ألذ عيش.
هذا
ما كان من أمر زين المواصف، وأما ما كان من أمر زوجها اليهودي، فإنه حين أطلَقَه
أهل المدينة من السجن، سافَرَ منها متوجِّهًا إلى بلاده، ولم يَزَلْ مسافرًا حتى
صار بينه وبين المدينة التي فيها زين المواصف ثلاثة أيام، فأُخبِرت بذلك زين
المواصف، فدعَتْ بجاريتها هبوب وقالت لها: امضِ إلى مقبرة اليهود واحفري قبرًا
وضعي عليه الرياحين ورشِّي حوله الماء، وإن جاء اليهودي وسألكِ عني فقولي له: إن
سيدتي ماتَتْ من قهرها عليك، ومضى لموتها مدة عشرين يومًا. فإن قال: أريني قبرها.
فخذيه إلى القبر وتحيَّلِي على دفنه فيه بالحياة. فقالت: سمعًا وطاعةً. ثم إنهم
رفعوا الفراشَ وأدخلوه في مخدع، ومضَتْ إلى بيت مسرور، فقعد هو وإياها في أكل
وشرب، ولم يزالوا كذلك حتى مضت الثلاثة أيام.
هذا
ما كان من أمرهم، وأما ما كان من أمر زوجها، فإنه لما أقبَلَ من السفر، دقَّ
الباب، فقالت هبوب: مَن بالباب؟ فقال: سيدكِ. ففتحت له الباب، فرأى دموعها تجري
على خدها، فقال لها: ما يُبكِيك؟ وأين سيدتكِ؟ فقالت له: إن سيدتي ماتَتْ بسبب
قهرها عليك. فلما سمع منها ذلك الكلام تحيَّرَ في أمره وبكى بكاءً شديدًا، ثم قال
لها: يا هبوب، أين قبرها؟ فأخذته ومضَتْ به إلى المقبرة وأرَتْه القبرَ الذي
حفرته، فعند ذلك بكى بكاءً شديدًا ثم أنشد هذين البيتين:
شَيْئَانِ
لَوْ بَكَتِ الدِّمَاءَ عَلَيْهِمَا
عَيْنَايَ حَتَّى يُؤْذِنَا بِذَهَابِ
لَمْ
يَقْضِيَا الْمِعْشَارَ مِنْ حَقَّيْهِمَا
شَرْخُ الشَّبَابِ وَفُرْقَةُ الْأَحْبَابِ
ثم
بكى بكاءً شديدًا وأنشد هذه الأبيات:
أَوَّاهُ
وَا أَسَفِي قَدْ خَانَنِي جَلَدِي وَمِنْ
فِرَاقِ حَبِيبِي مُتُّ بِالْكَمَدِ
يَا
مَا دَهَانِيَ مِنْ بَعْدِ الْحَبِيبِ وَيَا تَقْطِيعَ قَلْبِي عَلَى مَا قَدَّمَتْهُ
يَدِي
يَا
لَيْتَنِي قَدْ كَتَمْتُ السِّرَّ فِي زَمَنِي وَلَمْ أَبُحْ بِغَرَامٍ هَاجَ فِي
كَبِدِي
قَدْ
كُنْتُ فِي عِيشَةٍ مَرْضِيَّةٍ رَغَدٍ
وَصِرْتُ مِنْ بَعْدِهَا فِي الذُّلِّ وَالنَّكَدِ
فَيَا
هَبُوبُ لَقَدْ هَيَّجْتِ لِي شَجَنًا
بِمَوْتِ مَنْ كَانَ مِنْ دُونِ الْوَرَى سَنَدِي
زَيْنَ
الْمَوَاصِفِ لَا كَانَ الْفِرَاقُ وَلَا
كَانَ الَّذِي فَارَقَتْ رُوحِي بِهِ جَسَدِي
لَقَدْ
نَدِمْتُ عَلَى نَقْضِ الْعُهُودِ وَقَدْ
عَاتَبْتُ نَفْسِي عَلَى التَّفْرِيطِ فِي عَمَدِي
فلما
فرغ من شعره بكى وأنَّ واشتكى، فخرَّ مغشيًّا عليه، فلما غُشِي عليه أسرعَتْ هبوب
بجرِّه ووضْعِه في القبر وهو بالحياة ولكنه مدهوش، ثم سدَّتْ عليه ورجعت إلى
سيدتها وأعلمَتْها بهذا الخبر، ففرحَتْ بذلك فرحًا شديدًا وأنشدت هذين البيتين:
الدَّهْرُ
أَقْسَمَ لَا يَزَالُ مُكَدِّرِي حَنَثَتْ
يَمِينُكَ يَا زَمَانُ فَكَفِّرِ
مَاتَ
الْعَذُولُ وَمَنْ هَوِيتُ مُوَاصِلِي
فَانْهَضْ إِلَى دَاعِي السُّرُورِ وَشَمِّرِ
ثم
إنهم أقاموا مع بعضهم على الأكل والشرب، واللهو واللعب والطرب، إلى أن أتاهم هادم
اللذات ومفرِّق الجماعات ومميت البنين والبنات.
ومما
يُحكَى أنه كان في قديم الزمان، وسالف العصر والأوان، رجل تاجر بالديار المصرية
يُسمَّى تاج الدين، وكان من أكابر التجار ومن الأمناء الأحراء، إلا أنه كان مولعًا
بالسفر إلى جميع الأقطار، ويحب السير في البراري والقِفار، والسهول والأوعار
وجزائر البحار، في طلب الدرهم والدينار، وكان له عبيد ومماليك وخدم وجوارٍ، وطالما
ركب الأخطار، وقاسَى في السفر ما يشيب الأطفال الصغار، وكان أكثر التجار في ذلك
الزمان مالًا، وأحسنهم مقالًا، صاحب خيول وبغال، وبخاتي وجِمال، وغرائر وأعدال،
وبضائع وأموال، وأقمشة عديمة المثال، من شدود حمصية، وثياب بعلبكية، ومقاطع
سندسية، وثياب مرزوية، وتفاصيل هندية، وأزرار بغدادية، وبرانس مغربية، ومماليك
تركية، وخدم حبشية، وجوارٍ رومية، وغلمان مصرية، وكانت غرائر أحماله من الحرير؛
لأنه كان كثير الأموال بديع الجمال، مائس الأعطاف شهي الانعطاف، كما قال فيه بعض
واصفيه:
وَتَاجِرٌ
عَايَنْتُ عُشَّاقَهْ وَالْحَرْبُ
فِيمَا بَيْنَهُمْ ثَائِرْ
فَقَالَ:
مَا لِلنَّاسِ فِي ضَجَّةْ؟ قُلْتُ:
عَلَى عَيْنِكَ يَا تَاجِرْ
وقال
آخَر في وصفه وأجاد، وأتى فيه بالمراد:
وَتَاجِرٌ
فِي وَصْلِهِ زَارَنَا وَالْقَلْبُ
مِنْ أَلْحَاظِهِ حَائِرُ
فَقَالَ
لِي: مَا لَكَ فِي حِيرَةٍ؟ قُلْتُ:
عَلَى عَيْنِكَ يَا تَاجِرُ
وكان
لذلك التاجر ولد ذكر يُسمَّى علي نور الدين، كأنه البدر إذا بدر في ليلة أربعة
عشر، بديع الحسن والجمال، ظريف القدِّ والاعتدال، فجلس ذلك الصبي يومًا من الأيام
في دكان والده على جري عادته، للبيع والشراء والأخذ والعطاء، وقد دارت حوله أولادُ
التجَّار، فصار هو بينهم كأنه القمر بين النجوم، بجبين أزهر وخدٍّ أحمر، وعِذار
أخضر وجسم كالمرمر، كما قال فيه الشاعر:
وَمَلِيحٌ
قَالَ: صِفْنِي أَنْتَ فِي
الْحُسْنِ رَجِيحْ
قُلْتُ
قَوْلًا بِاخْتِصَارٍ: كُلُّ مَا
فِيكَ مَلِيحْ
وكما
قال فيه بعض واصفيه:
لَهُ
خَالٌ عَلَى صَفَحَاتِ خَدٍّ كَنُقْطَةِ
عَنْبَرٍ فِي صَحْنِ مَرْمَرْ
وَأَلْحَاظٌ
بِأَسْيَافٍ تُنَادِي عَلَى عَاصِي
الْهَوَى اللهُ أَكْبَرْ
فعزمه
أولاد التجار وقالوا له: يا سيدي نور الدين، نشتهي في هذا اليوم أننا نتفرَّج
وإياك في البستان الفلاني. فقال لهم: حتى أشاور والدي، فإني لا أقدر أن أروح إلا
بإجازته. فبينما هم في الكلام وإذا بوالده تاج الدين قد أتى، فنظر إليه وقال: يا
أبي، إن أولاد التجار قد عزموني لأجل أن أتفرَّجَ أنا وإياهم في البستان الفلاني،
فهل تأذن لي في ذلك؟ فقال: نعم يا ولدي. ثم إنه أعطاه شيئًا من المال وقال:
توجَّهَ معهم. فركب أولاد التجار حميرًا وبغالًا، وركب نور الدين بغلة وسار معهم إلى
بستانٍ فيه ما تشتهي الأنفس وتلذُّ الأعين، وهو مشيد الأركان رفيع البنيان، له باب
مُقنطَر كأنه إيوان، وباب سماوي يشبه أبواب الجِنان، وبوَّابه اسمُه رضوان، وفوقه
مائة مكعب عنب من سائر الألوان، الأحمر كأنه مرجان، والأسود كأنه أنوف السودان،
والأبيض كأنه بيض الحمام، وفيه الخوخ والرمَّان، والكمثرى والبرقوق والتفاح، كل
هذه الأنواع مختلفة الألوان، صنوان وغير صنوان. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن
الكلام المباح.
﴿اللیلة 864﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن أولاد التجار لما دخلوا البستان رأوا فيه كامل ما تشتهي
الشفة واللسان، ووجدوا العنب مختلفَ الألوان، صنوانًا وغيرَ صنوان، كما قال فيه
الشاعر:
عِنَبٌ
طَعْمُهُ كَطَعْمِ الشَّرَابِ حَالِكٌ
لَوْنُهُ كَلَوْنِ الْغُرَابِ
بَيْنَ
أَوْرَاقِهِ زُهًا فَتَرَاهُ كَبَنَانِ
النِّسَاءِ بَيْنَ الْخِضَابِ
وكما
قال فيه الشاعر أيضًا:
عَنَاقِيدُ
حَكَتْ، لَمَّا تَدَلَّتْ عَلَى
قُضْبَانِهَا، جِسْمِي نُحُولَا
حَكَتْ
عَسَلًا وَمَاءً فِي إِنَاءٍ وَعَادَتْ
بَعْدَ حِصْرِمِهَا شَمُولَا
ثم
انتهوا إلى عريشة البستان، فرأوا رضوانَ بوَّابَ البستان جالسًا في تلك العريشة
كأنه رضوان خازِنُ الجنان، ورأوا مكتوبًا على باب العريشة هذان البيتان:
سَقَى
اللهُ بُسْتَانًا تَدَلَّتْ قُطُوفُهُ
فَمَالَتْ بِهَا الْأَغْصَانُ مِنْ شِدَّةِ الشُّرْبِ
إِذَا
رَقَّصَتْ أَغْصَانُهُ بِيد الصَّبَا
تُنَقِّطُهَا الْأَنْوَاءُ بِاللُّؤْلُؤِ الرَّطْبِ
ورأوا
مكتوبًا في داخل العريشة هذان البيتان:
ادْخُلْ
بِنَا يَا صَاحِ فِي رَوْضَةٍ تَجْلُو
عَنِ الْقَلْبِ صَدَى هَمِّهِ
نَسِيمُهَا
يَعْثُرُ فِي ذَيْلِهِ وَزَهْرُهَا
يَضْحَكُ فِي كِمِّهِ
وفي
ذلك البستان فواكه ذات أفنان، وأطيار من جميع الأصناف والألوان، مثل فاخت وبلبل
وكروان، وقمري وحمام، يغرِّد على الأغصان، وأنهارها بها الماء الجاري، وقد راقَتْ
تلك المجاري، بأزهارها وأثمار ذات لذات، كما قال فيه الشاعر هذين البيتين:
سَرَتِ
النَّسِيمُ عَلَى الْغُصُونِ فَشَابَهَتْ
خَوْدًا تَعَثَّرُ فِي جَمِيلِ
ثِيَابِهَا
وَحَكَتْ
جَدَاوِلُهَا السُّيُوفَ إِذَا انْتَضَتْ
أَيْدِي الْفَوَارِسِ مِنْ غِلَافِ قِرَابِهَا
وكما
قال فيه الشاعر أيضًا:
وَالنَّهْرُ
مَدَّ عَلَى الْغُصُونِ وَلَمْ يَزَلْ
أَبَدًا يُمَثِّلُ شَخْصَهَا فِي قَلْبِهِ
حَتَّى
إِذَا فَطَنَ النَّسِيمُ سَرَى لَهَا
مِنْ غَيْرَةٍ فَأَمَالَهَا مِنْ قُرْبِهِ
وأشجار
ذلك البستان عليها من كل فاكهة زوجان، وفيه من الرمان ما يُشبِه أكر القيروان، كما
قال فيه الشاعر وأجاد:
وَرُمَّانٌ
رَقِيقُ الْقِشْرِ يَحْكِي نُهُودَ الْبِكْرِ إِذْ بَرَزَتْ فُحُولَا
إِذَا
قَشَّرْتَهُ يَبْدُو لَدَيْنَا مِنَ
الْيَاقُوتِ مَا بَهَرَ الْعُقُولَا
وكما
قال فيه الشاعر:
مُلَمْلَمَةٌ
تُبْدِي لِقَاصِدِ جَوْفِهَا يَوَاقِيتَ
حَمْرَا فِي مَعَاطِفِ عَبْقَرِي
وَرُمَّانَةٌ
شَبَّهْتُهَا إِذْ رَأَيْتُهَا بِنَهْدِ
الْعَذَارَى أَوْ بِقُبَّةِ مَرْمَرِ
وَفِيهَا
شِفَاءٌ لِلْمَرِيضِ وَصِحَّةٌ وَفِيهَا
حَدِيثٌ لِلنَّبِيِّ الْمُطَهَّرِ
وَفِيهَا
يَقُولُ اللهُ جَلَّ جَلَالُهُ مَقَالًا
بَلِيغًا فِي الْكِتَابِ الْمُسَطَّرِ
وفي
ذلك البستان تفاح سكري ومسكي يدهش الناظر، كما قال فيه الشاعر:
تُفَّاحَةٌ
جَمَعَتْ لَوْنَيْنِ قَدْ حَكَيَا خَدَّيْ
حَبِيبٍ وَمَحْبُوبٍ قَدِ اجْتَمَعَا
لَاحَا
عَلَى الْغُصْنِ كَالضِّدَّيْنِ مِنْ عَجَبٍ فَذَاكَ أَسْوَدُ وَالثَّانِي بِهِ
لَمَعَا
تَعَانَقَا
فَبَدَا وَاشٍ فَرَاعَهُمَا فَاحْمَرَّ
ذَا خَجَلًا وَاصْفَرَّ ذَا وَلَعَا
وفي
ذلك البستان مشمش لوزي وكافوري، وجيلاني وعنتابي، كما قال فيه الشاعر:
وَالْمِشْمِشُ
اللَّوْزِيُّ يَحْكِي عَاشِقًا جَاءَ
الْحَبِيبُ لَهُ فَحَيَّرَ لُبَّهُ
وَكَفَاهُ
مِنْ صِفَةِ الْمُتَيَّمِ مَا بِهِ يَصْفَرُّ
ظَاهِرُهُ وَيَكْسِرُ قَلْبَهُ
وقال
فيه آخَر وأجاد:
انْظُرْ
إِلَى الْمِشْمِشِ فِي زَهْرِهِ حَدَائِقُ
يَجْلُو سَنَاهَا الْحَدَقْ
كَالْأَنْجُمِ
الزُّهْرِ إِذَا مَا زَهَتْ الْغُصْنُ
يَزْهُو بِهَا فِي الْوَرَقْ
وفي
ذلك البستان برقوق وقراصيا وعنَّاب، تشفي السقيم من الأوصاب، والتين فوق أغصانه ما
بين أحمر وأخضر يحيِّر العقول النواظر، كما قال فيه الشاعر:
كَأَنَّمَا
التِّينُ يَبْدُو مِنْهُ أَبْيَضُهُ
مَعْ أَخْضَرَ بَيْنَ أَوْرَاقٍ مِنَ الشَّجَرِ
أَبْنَاءُ
رُومٍ عَلَى أَعْلَى الْقُصُورِ وَقَدْ
جَنَّ الظَّلَامُ بِهِمْ بَاتُوا عَلَى حَذَرِ
وقال
آخَر وأجاد:
أَهْلًا
بِتِينٍ جَاءَنَا مُنَضَّدًا عَلَى
طَبَقْ
كَسُفْرَةٍ
مَضْمُومَةٍ قَدْ جُمِعَتْ بِلَا
حَلَقْ
وقال
آخَر وأجاد:
أَنْعِمْ
بِتِينٍ طَابَ طَعْمًا وَاكْتَسَى حُسْنًا
وَقَارَبَ مَنْظَرًا مِنْ مَخْبَرِ
يُبْدِي
تَعَاطِيهِ إِذَا مَا ذُقْتَهُ رِيحَ
الْأَقَاحِ وَطِيبَ طَعْمِ السُّكَّرِ
وَحَكَى
إِذَا مَا صُبَّ فِي أَطْبَاقِهِ أكَرًا
صُنِعْنَ مِنَ الْحَرِيرِ الْأَخْضَرِ
وما
أحسن قول بعضهم:
قَالُوا
وَقَدْ أَلِفَتْ نَفْسِي تَفَكُّهَهَا
بِغَيْرِ فَاكِهَةٍ فِي حُبِّهَا هَامُوا
لِأَيِّ
شَيْءٍ تُحِبُّ التِّينَ قُلْتُ لَهُمْ
لِلتِّينِ قَوْمٌ وَلِلْجُمَّيْزِ أَقْوَامُ
وأحسن
منه قول الآخَر:
التِّينُ
يُعْجِبُنِي عَنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ لَمَّا
اسْتَوَى وَالْتَوَى فِي غُصْنِهِ الزَّاهِي
كَأَنَّهُ
عَابِدٌ وَالسُّحْبُ مَاطِرَةٌ فَاضَتْ
مَدَامِعُهُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ
وفي
ذلك البستان من الكمثرى الطوري والحلبي والرومي، ما هو مختلف الألوان، صنوان وغير
صنوان. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 865﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن أولاد التجار لما نزلوا البستان رأوا فيه من الفواكه
ما ذكرناه، ووجدوا فيه من الكمثرى الطوري والحلبي والرومي، ما هو مختلف الألوان،
صنوان وغير صنوان، ما بين أصفر وأخضر يدهش الناظر، كما قال فيه الشاعر:
يَهْنِيكَ
كُمَّثْرَى غَدَا لَوْنُهَا لَوْنَ
مُحِبٍّ زَائِدِ الصُّفْرَةْ
شَبِيهَةٌ
بِالْبِكْرِ فِي خِدْرِهَا وَالْوَجْهُ
مِنْهَا مُسْبِلُ السُّتْرَةْ
وفي
ذلك البستان من الخوخ السلطاني ما هو مختلف الألوان من أصفر وأحمر، كما قال فيه
الشاعر:
كَأَنَّمَا
الْخُوخُ فِي رَوْضِهِ وَقَدْ بَدَا
حُمْرَةَ الْعَنْدَمِ
بَنَادِقُ
مِنْ ذَهَبٍ أَصْفَرَ قَدْ
خَضَّبَتْ وَجْهَهَا بِالدَّمِ
وفي
ذلك البستان من اللوز الأخضر ما هو شديد الحلاوة يشبه الجمار، ولبُّه من داخل
ثلاثة أثواب، صنعة الملك الوهَّاب، كما قيل فيه:
ثَلَاثَةُ
أَثْوَابٍ عَلَى جَسَدٍ رَطْبِ مُخَالِفَةِ
الْأَشْكَالِ مِنْ صَنْعَةِ الرَّبِّ
تُرِيهِ
الرَّدَى فِي لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ وَإِنْ يَكُنِ الْمَسْجُونُ فِيهَا بِلَا
ذَنْبِ
وقال
آخَر وأجاد:
أَمَا
تَرَى اللَّوْزَ حِينَ تُظْهِرُهُ مِنَ
الْأَفَانِينِ كَفُّ مُعْتَطِفِ
وَقِشْرُهُ
قَدْ جَلَا الْقُلُوبَ لَنَا كَأَنَّهُ
الدُّرُّ مِنْ دَاخِلِ الصَّدَفِ
وأحسن
منه قول الآخَر:
يَا
حُسْنَ لَوْزٍ أَخْضَرَ أَصْفَرَ
مِلْءُ الْيَدِ
كَأَنَّمَا
زُبَيْرُهُ نَبْتُ عِذَارِ
الْأَمْرَدِ
وَقَدْ
غَدَتْ قُلُوبُهُ مِنْ مُزْدَوِجٍ
وَمُفْرَدِ
كَأَنَّهَا
لُؤْلُؤَةٌ تُصَانُ فِي زَبَرْجَدِ
وقال
آخَر وأجاد:
مَا
أَبْصَرَتْ عَيْنايَ مِثْلَ اللَّوْزِ فِي
حَسَنَاتِهِ لَمَّا بَدَتْ أَنْوَارُهْ
الرَّأْسُ
مِنْهُ بِاشْتِعَالٍ شَائِبُ حِينَ
انْتَشَى وَاخْضَرَّ مِنْهُ عِذَارُهْ
وفي
ذلك البستان النبق مختلف الألوان، صنوان وغير صنوان، كما قال فيه بعض واصفيه هذا
الشعر:
انْظُرْ
إِلَى النَّبْقِ فِي الْأَغْصَانِ مُنْتَظِمًا كَمِشْمِشٍ مُعْجَبٍ يَزْهُو عَلَى
الْقُضُبِ
كَأَنَّ
صُفْرَتَهُ لِلنَّاظِرِينَ غَدَتْ تَحْكِي
جَلَاجِلَ قَدْ صِيغَتْ مِنَ الذَّهَبِ
وقال
آخَر وأجاد:
وَسِدْرَةٍ
كُلَّ يَوْمٍ مِنْ حُسْنِهَا فِي
فُنُونِ
كَأَنَّمَا
النَّبْقُ فِيهَا وَقَدْ بَدَا
لِلْعُيُونِ
جَلَاجِلُ
مِنْ نُضَارٍ قَدْ عُلِّقَتْ فِي
غُصُونِ
وفي
ذلك البستان النارنج كأنه خولجان، كما قال فيها الشاعر الولهان:
وَحَمْرَاءُ
مِلْءُ الْكَفِّ تَزْهُو بِحُسْنِهَا
فَظَاهِرُهَا نَارٌ وَبَاطِنُهَا ثَلْجُ
وَمِنْ
عَجَبٍ ثَلْجٌ مِعَ النَّارِ لَمْ يَذُبْ
وَمِنْ عَجَبٍ نَارٌ وَلَيْسَ لَهَا وَهْجُ
وقال
بعضهم وأجاد:
وَأَشْجَارُ
نَارَنْجَ كَأَنَّ ثِمَارَهَا إِذَا
مَا بَدَتْ لِلنَّاظِرِ الْمُتَفَرِّسِ
خُدُودُ
نِسَاءٍ قَدْ تَبَرَّجْنَ زِينَةً بِأَيَّامِ
عِيدٍ فِي غَلَائِلِ سُنْدُسِ
وقال
الآخَر وأجاد:
كَأَنَّ
رُبَى النَّارَنْجِ أَذْهَبَتِ الصَّبَا
وَأَضْحَتْ بِهِ الْأَغْصَانُ وَهْيَ تَمِيدُ
خُدُودٌ
عَلَيْهَا بَهْجَةُ الْحُسْنِ أَقْبَلَتْ
عَلَيْهَا بِأَوْقَاتِ السَّلَامِ خُدُودُ
وقال
آخَر وأجاد:
وَشَادِنٌ
قُلْنَا لَهُ صِفْ لَنَا بُسْتَانَنَا
هَذَا وَنَارَنْجَنَا
فَقَالَ
لِي: بُسْتَانُكُمْ طَلْعَتِي وَمَنْ
جَنَى النَّارَنْجَ نَارًا جَنَى
وفي
ذلك البستان الأترج لونه كلون التِّبْر، وقد حطَّ من أعلى مكانٍ، وتدلى في الأغصان
كمال فيه كأنه سبائك العقبين، وقد قال فيه الشاعر الولهان:
أَمَا
تَرَى أَيْكَةَ الْأُتْرُجِّ مُثْمِرَةً
يُخْشَى عَلَيْهَا إِذَا مَالَتْ مِنَ الْعَطَبِ
كَأَنَّهَا
عِنْدَمَا مَرَّ النَّسِيمُ بِهَا غُصْنٌ
تَحَمَّلَ قُضْبَانًا مِنَ الذَّهَبِ
وفي
ذلك البستان الكباد منسدل في أغصانه كنهود أبكار تشبه الغزلان، وهو على غاية
المراد، كما قال فيه الشاعر وأجاد:
وَكَبَّادَةٌ
بَيْنَ الرِّيَاضِ نَظَرْتُهَا عَلَى
غُصُنٍ رَطْبٍ كَقَامَةِ أَغْيَدِ
إِذَا
سَبَلَتْهَا الرِّيحُ مَالَتْ كَأَكْرَةٍ
بَدَتْ ذَهَبًا فِي صَوْلَجَانِ
زَبَرْجَدِ
وفي
ذلك البستان الليمون ذاكي الرائحة يشبه بيض الدجاج، ولكن صفرته زينة مجانية، وريحه
يزهو لجانيه، كما قال فيه بعض واصفيه:
أَمَا
تَرَى اللَّيْمُونَ لَمَّا بَدَا يَأْخُذُ
إِشْرَاقَهُ بِالْعِيَانِ
كَأَنَّهُ
بَيْضُ دَجَاجٍ وَقَدْ لَطَّخَهُ
الْمُخَمَّسُ بِالزَّعْفَرَانِ
وفي
ذلك البستان من سائر الفواكه والرياحين، والخضراوات والمشمومات من الياسمين
والفاغية والفلفل والسنبل العنبري والورد بسائر أنواعه، ولسان الحمل والآس وكامل
الرياحين من جميع الأجناس، وذلك البستان من غير تشبيه كأنه قطعة من الجنان لرائيه،
إذا دخله العليل خرج منه كالأسد الغضبان، ولا يَقدرُ على وصْفه اللسان، لِمَا فيه
من العجائب والغرائب التي لا توجد إلا في الجنان، كيف لا واسمُ بوَّابِه رضوان،
لكن بين المقامَيْنِ شتَّان. فلما تفرَّج أولاد التجار في ذلك البستان، جلسوا بعد
التفرُّج والتنزُّه على ليوان من لواوينه، وأجْلَسُوا نورَ الدين في وسط الإيوان.
وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 866﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن أولاد التجار لما جلسوا في الليوان، أجلسوا نور الدين
في وسط الإيوان، على نطع من الأديم المزركش، متَّكِئًا على مخدة مَحْشوَّة بريش
النعام، وظهارتها مدوَّرة سنجابية، ثم ناوَلُوه مروحةً من ريش النعام، مكتوبًا
عليها هذان البيتان:
وَمِرْوَحَةٌ
مُعَطَّرَةُ النَّسِيمِ تُذَكِّرُ
طِيبَ أَوْقَاتِ النَّعِيمِ
وَتَهْدِي
طِيبَهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ إِلَى
وَجْهِ الْفَتَى الْحُرِّ الْكَرِيمِ
ثم
إن هؤلاء الشبان خلعوا ما كان عليهم من العمائم والثياب، وجلسوا يتحدَّثون
ويتنادمون ويتجاذبون أطرافَ الكلام بينهم، وكل منهم يتأمَّلُ في نور الدين وينظر
إلى حُسْن صورتِه، وبعد أن اطمأَنَّ بهم الجلوس ساعةً من الزمان، أقبَلَ عليهم
عبدٌ وعلى رأسه سُفْرة طعام، فيها أوانٍ من الصيني والبلور؛ لأن بعض أولاد التجار
كان وصَّى أهلَ بيته بها قبل خروجه إلى البستان. وكانت تلك السُّفْرة مما درج
وطار، وسبح في البحار، كالقطا والسمان وأفراخ الحمام، وشِياه الضأن وألطف السمك،
فلما وُضِعت تلك السُّفْرة بينهم تقدَّموا وأكلوا بحسب الكفاية، ولما فرغوا من
الأكل قاموا عن الطعام وغسلوا أيديهم بالماء الصافي والصابون الممسك، وبعد ذلك
نشفوا أيديهم بالمناديل المنسوجة بالحرير والقصب، وقدَّموا لنور الدين منديلًا
مطرَّزًا بالذهب الأحمر، فمسح به يدَيْه، وجاءت القهوة فشرب كلٌّ منهم مطلوبَه، ثم
جلسوا للحديث، وإذا بخولي البستان ذهب وجاء بسَلٍّ مملوءة بالورد، وقال: ما تقولون
يا سادتنا في المشموم؟ فقال بعض أولاد التجار: لا بأس به، خصوصًا الورد فإنه لا
يُرَد. فقال البستاني: نعم، لكن عادتنا إننا لا نعطي الوردَ إلا بالمنادَمة، فمَن
أراد أخْذَه فليأتِ بشيء من الشعر يناسب المقام. وكان أولاد التجار عشرة أشخاص،
فقال واحد منهم: نعم، أعطني وأنا أنشدك شيئًا من الشعر يناسب المقام. فناوَلَه
حزمةً من الورد، فأخذها وأنشد هذه الأبيات:
لِلْوَرْدِ
عِنْدِي مَحَلُّ لَأَنَّهُ لَا
يُمَلُّ
كُلُّ
الرَّيَاحِينِ جُنْدٌ وَهْوَ
الْأَمِيرُ الْأَجَلُّ
إِنْ
غَابَ عَزُّوا وَتَاهُوا حَتَّى
إِذَا جَاءَ ذَلُّوا
ثم
ناوَلَ الثاني حزمةَ ورد، فأخذها وأنشد هذين البيتين:
دُونَكَ
يَا سَيِّدِي وَرْدَةً يُذَكِّرُكَ
الْمِسْكُ أَنْفَاسَهَا
كَغَادَةٍ
أَبْصَرَهَا عَاشِقٌ غَطَّتْ
بِأَكْمَامِهَا رَأْسَهَا
ثم
ناوَلَ الثالثَ حزمةَ وردٍ، فأخذها وأنشد هذين البيتين:
وَرْدٌ
نَفِيسٌ تَسُرُّ الْقَلْبَ رُؤْيَتُهُ
تَحْكِي رَوَائِحُهُ مَا طَابَ مِنْ نَدِّ
قَدْ
ضَمَّهُ الْغُصْنُ فِي أَوْرَاقِهِ طَرَبًا
كَقُبْلَةٍ بِفَمٍ مِنْ غَيْرِ مَا صَدِّ
ثم
ناوَلَ الرابعَ حزمةَ وردٍ، فأخذها وأنشد هذين البيتين:
أَمَا
تَرَى دَوْحَةَ الْوَرْدِ الَّتِي ظَهَرَتْ
لَهَا بَدَائِعُ قَدْ رُكِّبْنَ فِي قُضُبِ
كَأَنَّهُنَّ
يَوَاقِيتُ يَطُوفُ بِهَا زَبَرْجَدٌ
قَدْ حَوَى شَيْئًا مِنَ الذَّهَبِ
ثم
ناوَلَ الخامسَ حزمةَ وردٍ، فأخذها وأنشد هذين البيتين:
قُضُبُ
الزَّبَرْجَدِ قَدْ حَمَلْنَ وَإِنَّمَا
أَثْمَارُهُنَّ سَبَائِكُ الْعُقْيَانِ
وَكَأَنَّ
وَقْعَ الْقَطْرِ مِنْ أَوْرَاقِهِ دَمْعٌ
بَكَتْهُ فَوَاتِرُ الْأَجْفَانِ
ثم
ناوَلَ السادسَ حزمةَ وردٍ، فأخذها وأنشد هذين البيتين:
يَا
وَرْدَةً لِبَدِيعِ الْحُسْنِ قَدْ جَمَعَتْ وَأَوْدَعَ اللهُ فِيهَا لُطْفَ
أَسْرَارِ
كَأَنَّهَا
خَدُّ مَحْبُوبٍ وَنَقَّطَهُ لَدَى
التَّوَاصُلِ مُشْتَاقٌ بِدِينَارِ
ثم
ناوَلَ السابعَ حزمةَ وردٍ، فأخذها وأنشد هذين البيتين:
قُلْتُ
لِلْوَرْدِ مَا لِشَوْكِكَ يُؤْذِي كُلَّ
مَنْ مَسَّهُ سَرِيعُ الْجِرَاحِ
قَالَ
لِي: مَعْشَرُ الرَّيَاحِينِ جُنْدِي
أَنَا سُلْطَانُهَا وَشَوْكِي سِلَاحِي
ثم
ناوَلَ الثامنَ حزمةَ وردٍ، فأخذها وأنشد هذين البيتين:
رَعَى
اللهُ وَرْدًا غَدَا أَصْفَرَا بَهِيًّا
نَضِيرًا يُحَاكِي النُّضَارَا
وَحُسْنَ
غُصُونٍ بِهِ أَثْمَرَتْ حَمَلْنَ
مِنْهُ شُمُوسًا صِغَارَا
ثم
ناوَلَ التاسعَ حزمةَ وردٍ، فأخذها وأنشد هذين البيتين:
شَجَرَاتُ
وَرْدٍ أَصْفَرَ جَذَبَتْ فِي
قَلْبِ كُلِّ مُتَيَّمٍ طَرَبَا
عَجَبًا
لَهَا مِنْ دَوْحَةٍ سُقِيَتْ مَاءَ
اللُّجَيْنِ فَأَثْمَرَتْ ذَهَبَا
ثم
ناوَلَ العاشرَ حزمةَ وردٍ، فأخذها وأنشد هذين البيتين:
أَلَمْ
تَرَ أَنَّ جُنْدَ الْوَرْدِ يَزْهُو
بِصُفْرٍ مِنْ مَطَالِعِهِ وَحُمْرِ
وَقَدْ
شَبَّهْتُهُ وَالشَّوْكُ فِيهِ نِصَالَ
زُمُرُّدٍ فِي تُرْسِ تِبْرِ
فلما
استقرَّ الوردَ في أيديهم أحضرَ البستاني سفرة المُدَام، فوضع بينهم صينية مزركشة
بالذهب الأحمر، وأنشد يقول هذين البيتين:
هَتَفَ
الْفَجْرُ بِالسَّنَا فَاسْقِ خَمْرًا
عَانِسًا تَجْعَلُ الْحَلِيمَ سَفِيهَا
لَسْتُ
أَدْرِي مِنْ لُطْفِهَا وَصَفَاهَا أَبِكَأْسٍ
تُرَى أَمِ الْكَأْسُ فِيهَا
ثم
إن خولي البستان ملأ وشرب، ودار الدور إلى أن وصل إلى نور الدين ابن التاجر تاج
الدين، فملأ خولي البستان كأسًا وناوَلَه إياه، فقال نور الدين: أنت تعرف أن هذا
شيء لا أعرفه ولا شربته قطُّ؛ لأن فيه إثمًا كبيرًا، وقد حرَّمَه في كتابه الربُّ
القدير. فقال خولي البستان: يا سيدي نور الدين، إنْ كنتَ ما تركْتَ شُرْبَه إلا من
أجل الإثم، فإن الله سبحانه وتعالى كريم حليم غفور رحيم، يغفر الذنب العظيم،
ورحمته وسعت كل شيء، ورحمة الله على بعض الشعراء حيث قال:
كُنْ
كَيْفَ شِئْتَ فَإِنَّ اللهَ ذُو كَرَمٍ
وَمَا عَلَيْكَ إِذَا أَذْنَبْتَ مِنْ بَاسِ
إِلَّا
اثْنَتَيْنِ فَلَا تَقْرَبْهُمَا أَبَدًا
الشِّرْكَ بِاللهِ وَالْإِضْرَارَ بِالنَّاسِ
ثم
قال واحد من أولاد التجار: بحياتي عليك يا سيدي نور الدين أن تشرب هذا القدح.
وتقدَّمَ شاب آخَر وحلف عليه بالطلاق، وآخَر وقف بين يدَيْه على أقدامه، فاستحى
نور الدين وأخذ القدح من خولي البستان وشرب منه جرعة، ثم بصَقَها، وقال: هذا مرٌّ.
فقال له الشاب خولي البستان: يا سيدي نور الدين، لولا أنه مُرٌّ ما كانت فيه هذه
المنافع، أَلَمْ تعلم أن كلَّ حلو إذا أُكِل على سبيل التداوي يجده الآكِل مرًّا؟
وأن هذه الخمرة منافعها كثيرة؟ فمن جملة منافعها أنها تهضم الطعام، وتصرف الهم
والغم، وتزيل الأرياح وتروق الدم، وتصفي اللون وتنعش البدن، وتشجع الجبان وتقوي
همة الرجل على الجماع، ولو كنا ذكرنا منافعها كلها لَطال علينا شرح ذلك، وقد قال
بعض الشعراء:
شَرِبْنَا
وَعَفْوُ اللهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَدَاوَيْتُ
أَسْقَامِي بِرَشْفِي لِلْكَاسِ
وَمَا
غَرَّنِي فِيهَا وَأَعْرِفُ إِثْمَهَا
سِوَى قَوْلِهِ: فِيهَا مَنَافِعُ لِلنَّاسِ
ثم
إن خولي البستان نهض قائمًا على أقدامه من وقته وساعته، وفتح مخدعًا من مخادع ذلك
الإيوان، وأخرج منه قمع سكرٍ مكرَّرٍ وكسر منه قطعة كبيرة ووضعها لنور الدين في
القدح، وقال له: يا سيدي، إنْ كنتَ هِبتَ شرْبَ الخمر من مرارته، فاشرب الآن فقد
حلا. فعند ذلك أخذ نور الدين القدح وشربه، ثم ملأ الكأسَ واحدٌ من أولاد التجار
وقال: يا سيدي نور الدين، أنا عبدك. وكذا الآخر قال: أنا خدَّامك. وقام الآخَر
وقال: من أجل خاطري. وقام الآخَر وقال: بالله عليك يا سيدي نور الدين اجبرْ
بخاطري. ولم يزل العشرة أولاد التجار بنور الدين إلى أن أسقَوْه العشرة أقداح، كل
واحد قدحًا. وكان نور الدين باطنه بكر، عمره ما شرب خمرًا قطُّ إلا في تلك الساعة،
فدار الخمر في دماغه، وقوي عليه السكر فوقف على حيله، وقد ثقل لسانه واستعجم
كلامه، وقال: يا جماعة، والله أنتم ملاح، وكلامكم مليح، ومكانكم مليح، إلا أنه يحتاج
إلى سماع طيب، فإن الشراب بلا سماع عدمه أولى من وجوده، كما قال فيه الشاعر هذين
البيتين:
أَدِرْهَا
بِالْكَبِيرِ وَبِالصَّغِيرِ وَخُذْهَا
مِنْ يَدِ الْقَمَرِ الْمُنِيرِ
وَلَا
تَشْرَبْ بِلَا طَرَبٍ فَإِنِّي رَأَيْتُ
الْخَيْلَ تَشْرَبُ بِالصَّفِيرِ
فعند
ذلك نهض الشاب صاحب البستان وركب بغلة من بغال أولاد التجار وغاب، ثم عاد ومعه
صبِيَّة مصرية كأنها لية طرية، أو فضة نقية، أو دينار في صينية، أو غزال في برية،
بوجهٍ يُخجِل الشمس المضيئة، وعيونٍ بلبلية وحواجبَ كأنها قسي محنية، وخدودٍ وردية
وأسنانٍ لؤلُئِيَّة، ومراشفَ سكَّريةٍ وعيونٍ مَرْخية، ونُهودٍ عاجيَّة وبطنٍ
خماصية، وأعكانٍ مطوية وأردافٍ كأنهن مخدات محشيَّة، وفخذين كالجداول الشامية،
وبينهما شيء كأنه صرَّة في بقجة مطوية، كما قيل فيها هذه الأبيات:
وَلَوْ
أَنَّهَا لِلْمُشْرِكِينَ تَعَرَّضَتْ رَأَوْا وَجْهَهَا مِنْ دُونِ
أَصْنَامِهِمْ رَبَّا
وَلَوْ
أَنَّهَا فِي الشَّرْقِ لَاحَتْ لِرَاهِبٍ
لَخَلَّى سَبِيلَ الشَّرْقِ وَاتَّبَعَ الْغَرْبَا
وَلَوْ
تَفَلَتْ فِي الْبَحْرِ وَالْبَحْرُ مَالِحٌ لَأَصْبَحَ مَاءُ الْبَحْرِ مِنْ رِيقِهَا
عَذْبَا
وقال
آخَر هذه الأبيات:
أَبْهَى
مِنَ الْبَدْرِ كَحْلَاءُ الْعُيُونِ بَدَتْ كَظَبْيَةٍ قَنَصَتْ أَشْبَالَ آسَادِ
أَرْخَتْ
عَلَيْهَا اللَّيَالِي مِنْ ذَوَائِبِهَا
بَيْتًا مِنَ الشَّعْرِ لَمْ يُشْدَدْ بَأَوْتَادِ
مِنْ
وَرْدِ وَجْنَتِهَا النِّيرَانُ مَا اتَّقَدَتْ إِلَّا بِأَفْئِدَةٍ ذَابَتْ وَأَكْبَادِ
فَلَوْ
رَآهَا حِسَانُ الْعَصْرِ قُمْنَ لَهَا
عَلَى الرُّءُوسِ وَقُلْنَ: الْفَضْلُ لِلْبَادِي
وما أحسن قول بعض الشعراء:
ثَلَاثَةٌ
مَنَعَتْهَا عَنْ زِيَارَتِنَا خَوْفَ الرَّقِيبِ وَخَوْفَ الْحَاسِدِ
الْحَنِقِ
ضَوْءُ
الْجَبِينِ وَوَسْوَاسُ الْحُلِيِّ وَمَا
حَوَتْ مَعَاطِفُهَا مِنْ عَنْبَرٍ عَبِقِ
هَبِ
الْجَبِينَ بِفَضْلِ الْكِمِّ تَسْتُرُهُ
وَالْحَلْيَ تَنْزَعُهُ مَا حِيلَةُ الْعَرَقِ
وتلك
الصَّبِيَّة كأنها البدر إذا بدر في ليلةِ أربعةَ عشرَ، وعليها بدلة زرقاء بقناع
أخضر فوق جبين أزهر، تدهش العقول وتحيِّر أربابَ المعقول. وأدرك شهرزاد الصباح،
فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 867﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن خولي البستان لما جاءَ لهم بالصَّبِيَّة التي ذكرنا
أنها في غايةٍ من الحُسْن والجمال، ورشاقة القَدِّ والاعتدال، كأنها المُرَادة
بقول الشاعر:
أَقْبَلَتْ
فِي غِلَالَةٍ زَرْقَاءَ لَازَوَرْدِيَّةٍ
كَلَوْنِ السَّمَاءِ
فَتَحَقَّقْتُ
فِي الْغِلَالَةِ مِنْهَا قَمَرَ
الصَّيْفِ فِي لَيَالِي الشِّتَاءِ
وما
أحسن قول الآخَر وأجوده:
جَاءَتْ
مُبَرْقِعَةً فَقُلْتُ لَهَا اسْفِرِي
عَنْ وَجْهِكِ الْقَمَرِ الْمُنِيرِ الْأَزْهَرِي
قَالَتْ
أَخَافُ الْعَارَ قُلْتُ لَهَا اقْصِرِي
بِحَوَادِثِ الْأَيَّامِ لَا تَتَحَيَّرِي
رَفَعَتْ
نِقَابَ الْحُسْنِ عَنْ وَجَنَاتِهَا
فَتَسَاقَطَ الْبَلُّورُ فَوْقَ الْجَوْهَرِ
وَلَقَدْ
هَمَمْتُ بِقَتْلِهَا مِنْ حُبِّهَا
كَيْمَا تَكُونَ خَصِيمَتِي فِي الْمَحْشَرِ
وَنَكُونَ
أَوَّلَ عَاشِقَيْنِ تَخَاصَمَا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبٍّ أَكْبَرِ
وَأَقُولُ
طَوِّلْ فِي الْحِسَابِ وُقُوفَنَا حَتَّى
يَطُولَ إِلَى الْحَبِيبَةِ مَنْظَرِي
ثم
إن الشاب خولي البستان قال لتلك الصَّبِيَّة: اعلمي يا سيدة الملاح وكل كوكبٍ
لاحَ، أننا ما قصدنا بحضورك في هذا المكان إلا أن تُنادِمي هذا الشابَّ المليح
الشمائل، سيدي نور الدين، فإنه لم يأتِ محلَّنا إلا في هذا اليوم. فقالت له
الصَّبِيَّة: ليتكَ كنتَ أخبرتني لأجل أن أجيء بالذي كان معي. فقال لها: يا سيدتي،
أنا أروح وأجيء به إليك. فقالت الصبية: افعل ما بَدَا لكَ. فقال لها: أعطيني
أمارة. فأعطَتْه منديلًا، فعند ذلك خرج سريعًا وغاب ساعة زمانية، ثم عاد ومعه كيس
أخضر من حرير أطلس بشكلين من الذهب، فأخذته الصَّبِيَّة منه وحلَّتْه ونفضته، فنزل
من اثنتان وثلاثون قطعة خشب، ثم ركَّبتِ الخشبَ في بعضه على صورة ذكر في أنثى،
وأنثى في ذكر، وكشفت عن معاصمها وأقامته، فصار عودًا محكوكًا مجرودًا صنعة الهنود،
ثم انحنَتْ عليه تلك الصبِيَّة انحناءَ الوالدة على ولدها وزغزغته بأنامل يدها،
فعند ذلك أنَّ العودُ ورَنَّ، ولأماكنه القديمة قد حَنَّ، وقد تذكَّرَ المياهَ
التي قد سقته، والأرض التي نبَتَ منها وتربَّى فيها، وتذكَّرَ النجَّارين الذين
قطعوه، والدهَّانين الذين دهنوه، والتجار الذين جلبوه، والمراكب التي حملته، فصرخ
وصاح وعدَّدَ وناح، وكأنها سألته عن ذلك كله فأجابها بلسان الحال منشدًا هذه
الأبيات:
لَقَدْ
كُنْتُ عُودًا لِلْبَلَابِلِ مَنْزِلًا
أَمِيلُ بِهَا وَجْدًا وَفَرْعِي أَخْضَرُ
يَنُوحُونَ
مِنْ فَوْقِي تَعَلَّمْتُ نَوْحَهُمْ
وَمِنْ أَجْلِ ذَاكَ النَّوْحِ سِرِّيَ مُجْهَرُ
رَمَانِي
بِلَا ذَنْبٍ عَلَى الْأَرْضِ قَاطِعِي
وَصَيَّرَنِي عُودًا نَحِيلًا كَمَا تَرُوا
وَقَدْ
ضَرَّ بِيَّ بِالْأَنَامِلِ مُخْبِرٌ
بِأَنِّي قَتِيلٌ فِي الْأَنَامِ مُصَبَّرُ
فَمِنْ
أَجْلِ هَذَا صَارَ كُلُّ مُنَادِمٍ
إِذَا مَا رَأَى نَوْحِي يَهِيمُ وَيَسْكَرُ
وَقَدْ
حَنَّنَ الْمَوْلَى عَلَيَّ قُلُوبَهُمْ
وَقَدْ صِرْتُ فِي أَعْلَى الصُّدُورِ أُصَدَّرُ
تُعَانِقُ
قَدِّي كُلُّ مَنْ فَاقَ حُسْنُهَا وَكُلُّ
غَزَالٍ نَاعِسِ الطَّرْفِ أَحْوَرُ
فَلَا
فَرَّقَ اللهُ الْمُهَيْمِنُ بَيْنَنَا
وَلَا عَاشَ مَحْبُوبٌ يُصَدُّ وَيُهْجَرُ
ثم
سكتَتِ الصبِيَّةُ ساعةً، وبعد ذلك أخذَتْ ذلك العود في حجرها وانحنَتْ عليه
انحناءَ الوالدة على ولدها، وضربَتْ عليه طُرقًا عديدة، ثم عادت إلى طريقتها
الأولى، وأنشدَتْ هذه الأبيات:
لَوْ
أَنَّهُمْ جَنَحُوا لِلصَّبِّ أَوْ زَارُوا
لَحُطَّ عَنْهُ مِنَ الْأَشْوَاقِ أَوْزَارُ
وَعَنْدَلِيبٌ
عَلَى غُصْنٍ يُشَاجِرُهُ كَأَنَّهُ
عَاشِقٌ شَطَّتْ بِهِ الدَّارُ
قُمْ
وَانْتَبِهْ فَلَيَالِي الْوَصْلِ مُقْمِرَةٌ كَأَنَّهَا بِاجْتِمَاعِ الشَّمْلِ
أَسْحَارُ
وَالْيَوْمَ
فِي غَفْلَةٍ عَنَّا حَوَاسِدُنَا وَقَدْ
دَعَتْنَا إِلَى اللَّذَاتِ أَوْتَارُ
أَمَا
تَرَى أَرْبَعًا فِي اللَّحْظِ قَدْ جُمِعَتْ آسٌ وَوَرْدٌ وَمَنْثُورٌ وَأَنْوَارُ
وَالْيَوْمَ
قَدْ جُمِعَتْ لِلَّحْظِ أَرْبَعَةٌ
صَبٌّ وَخِلٌّ وَمَشْرُوبٌ وَدِينَارُ
فَاظْفَرْ
بِحَظِّكَ فِي الدُّنْيَا فَلَذَّتُهَا
تَفْنَى وَتَبْقَى رِوَايَاتٌ وَأَخْبَارُ
فلما
سمع نور الدين من الصبِيَّة هذه الأبيات، نظر إليها بعين المحبَّة حتى كاد لا يملك
نفسه من شدة الميل إليها، وهي الأخرى كذلك؛ لأنها نظرت إلى الجماعة الحاضرين من
أولاد التجار كلهم وإلى نور الدين، فرأته بينَهم كالقمر بين النجوم؛ لأنه كان
رخيمَ اللفظ والدلال، كامِلَ القَدِّ والاعتدال، والبهاء والجمال، ألطف من النسيم
وأرق من التسنيم، كما قيل فيه هذه الأبيات:
قَسَمًا
بِوَجْنَتِهِ وَبَاسِمِ ثَغْرِهِ وَبِأَسْهُمٍ
قَدْ رَانَهَا مِنْ سِحْرِهِ
وَبِلِينِ
مِعْطَفِهِ وَنَبْلِ لِحَاظِهِ وَبَيَاضِ
غُرَّتِهِ وَأَسْوَدِ شَعْرِهِ
وَبِحَاجِبٍ
حَجَبَ الْكَرَى عَنْ نَاظِرِي وَسَطَا
عَلَيَّ بِنَهْيِهِ وَبِأَمْرِهِ
وَعَقَارِبَ
قَدْ أُرْسِلَتْ مِنْ صُدْغِهِ وَسَعَتْ
لِقَتْلِ الْعَاشِقِينَ بِهَجْرِهِ
وَبِوَرْدِ
خَدَّيْهِ وَآسِ عِذَارِهِ وَعَقِيقِ
مَبْسِمِهِ وَلُؤْلُؤِ ثَغْرِهِ
وَبِغُصْنِ
قَامَتِهِ الَّذِي هُوَ مُثْمِرٌ رُمَّانُهُ
يَزْهُو جَنَاهُ بِصَدْرِهِ
وَبِرِدْفِهِ
الْمَرِّيخُ فِي حَرَكَاتِهِ وَسُكُونِهِ
وَبِدِقَّةٍ فِي خَصْرِهِ
وَحَرِيرِ
مَلْبَسِهِ وَخِفَّةِ ذَاتِهِ وَبِمَا
حَوَاهُ مِنَ الْجَمَالِ بِأَسْرِهِ
إِنَّ
الشَّذَا قَدْ فَاحَ مِنْ أَنْفَاسِهِ
وَالرِّيحُ يَرْوِي طِيبُهَا عَنْ نَشْرِهِ
وَكَذَلِكَ
الشَّمْسُ الْمُنِيرَةُ دُونَهُ وَكَذَا
الْهِلَالُ قُلَامَةٌ مِنْ ظُفْرِهِ
وأدرك
شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 868﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن نور الدين لما سمع كلام تلك الصبِيَّة وشِعْرها،
أعجبه نظامها، وكان قد مالَ من السُّكْر، فجعل يمدحها ويقول:
عَوَّادَةٌ
مَالَتْ بِنَا فِي نَشْوَةِ
الْمُتَنَبِّذِ
قَالَتْ
لَنَا أَوْتَارُهَا أَنْطَقَنَا
اللهُ الَّذِي
فلما
تكلَّمَ نور الدين بهذا الكلام، وأنشد هذا الشعر والنظام، نظرت له تلك الصبِيَّة
بعين المَحبَّة، وزادت فيه عِشْقًا وغَرامًا، وقد صاحت متعجِّبةً من حُسْنه
وجماله، ورَشاقة قَدِّه واعتداله، فلم تملك نفسَها بل احتضنَتِ العودَ ثانيًا،
وأنشدت هذه الأبيات:
يُعَاتِبُنِي
عَلَى نَظَرِي إِلَيْهِ وَيَهْجُرُنِي
وَرُوحِي فِي يَدَيْهِ
وَيُبْعِدُنِي
وَيَعْلَمُ مَا بِقَلْبِي كَأَنَّ
اللهَ قَدْ أَوْحَى إِلَيْهِ
كَتَبْتُ
مِثَالَهُ فِي وَسْطِ كَفِّي وَقُلْتُ
لِنَاظِرِي عَوِّلْ عَلَيْهِ
فَلَا
عَيْنِي تَرَى مِنْهُ بَدِيلًا وَلَا
قَلْبِي يُصَبِّرُنِي لَدَيْهِ
فَيَا
قَلْبِي نَزَعْتُكَ مِنْ فُؤَادِي لِأَنَّكَ
فِي الْعَدَاوَةِ مِنْ بَنِيهِ
إِذَا
مَا قُلْتُ يَا قَلْبِي تَسَلَّى يُجَاوِبُنِي
فَيَا لَكَ مِنْ كَرِيهِ
فلما
أنشدت الصبِيَّة تلك الأبيات، تعجَّبَ نور الدين من حُسْن شِعْرها وبلاغة كلامها،
وعذوبة لفظها وفصاحة لسانها، فطار عقله من شدة الغرام، والوَجْد والهيام، ولم
يَقْدر أن يصبر عنها ساعةً من الزمان، بل مالَ إليها وضمَّها إلى صدره، فانطبقت
الأخرى عليه وصارت بكلِّيَّتِها لديه، وقبَّلَتْه بين عينَيْه، وقبَّلَ هو فاهَها
بعد ضمِّ القوام، ولعب معها في التقبيل زقَّ الحمام، فالتفتت له وفعلَتْ معه مثل
ما فعل معها، فهام الحاضرون وقاموا على أقدامهم، فاستحى نور الدين ورفع يده عنها.
ثم إنها أخذَتْ عودها وضربَتْ عليه طرائقَ عديدةً، ثم عادت إلى الطريقة الأولى
وأنشدت هذه الأبيات:
قَمَرٌ
يَسُلُّ مِنَ الْجُفُونِ إِذَا انْثَنَى
غَضَبًا وَيَهْزَأُ بِالْغَزَالِ إِذَا رَنَا
مَلِكٌ
مَحَاسِنُهُ الْبَدِيعَةُ جُنْدُهُ وَلَدَى
الطِّعَانِ قَوَامُهُ يَحْكِي الْقَنَا
لَوْ
أَنَّ رِقَّةَ خَصْرِهِ فِي قَلْبِهِ
مَا جَارَ قَطُّ عَلَى الْمُحِبِّ وَلَا جَنَى
يَا
قَلْبَهُ الْقَاسِي وَرِقَّةَ خَصْرِهِ
هَلَّا انْتَقَلْتَ إِلَى هنَا مِنْ هَا هُنَا
يَا
عَاذِلِي فِي حُبِّهِ كُنْ عَاذِرِي
فَلَكَ الْبَقَاءُ بِحُسْنِهِ وَلِيَ الْفَنَا
فلما
سمع نور الدين حُسْنَ كلامها وبديع نظامها، مالَ إليها من الطرب، ولم يملك عقلَه
من شدة العجب، ثم إنه أنشد هذه الأبيات:
لَقَدْ
خِلْتُهَا شَمْسَ الضُّحَى فَتُخُيِّلَتْ
وَلَكِنْ لَهِيبُ الْحَرِّ مِنْهَا بِمُهْجَتِي
وَمَاذَا
عَلَيْهَا لَوْ أَشَارَتْ فَسَلَّمَتْ
عَلَيْنَا بِأَطْرَافِ الْبَنَانِ وَأَوْمَتِ
رَأَى
وَجْهَهَا اللَّاحِي فَقَالَ وَتَاهَ فِي
مَحَاسِنِهَا اللَّاتِي عَنِ الْحُسْنِ أَجْلَتِ
أَهَذِي
الَّتِي قَدْ هِمْتَ شَوْقًا بِحُبِّهَا
فَإِنَّكَ مَعْذُورٌ فَقُلْتُ هِيَ الَّتِي
رَمَتْنِي
بِسَهْمِ اللَّحْظِ عَمْدًا وَمَا رَثَتْ
لِحَالِي وَذُلِّي وَانْكِسَارِي وَغُرْبَتِي
فَأَصْبَحْتُ
مَسْلُوبَ الْفُؤَادِ مُتَيَّمًا أَنُوحُ
وَأَبْكِي طُولَ يَوْمِي وَلَيْلَتِي
فلما
فرغ نور الدين من شعره، تعجبَّتِ الصبِيَّة من فصاحته ولطافته، وأخذت عودَها
وضربَتْ عليه بأحسن حركاتها، وأعادت جميعَ النغمات، ثم أنشدت هذه الأبيات:
وَحَيَاةِ
وَجْهِكَ يَا حَيَاةَ الْأَنْفُسِ لَا
حِلْتُ عَنْكَ يَئِسْتُ أَمْ لَمْ أَيْأَسِ
فَلَئِنْ
جَفَوْتَ فَإِنَّ طَيْفَكَ وَاصِلٌ أَوْ
غِبْتَ عَنْ عَيْنِي فَذِكْرُكَ مُؤْنِسِي
يَا
مُوحِشًا طَرْفِي وَتَعْلَمُ أَنَّنِي
أَبَدًا بِغَيْرِ هَوَاكَ لَمْ أَسْتَأْنِسِ
خَدَّاكَ
مِنْ وَرْدٍ وَرِيقُكَ قَهْوَةٌ هَلَّا
سَمَحْتَ بِهَا بِهَذَا الْمَجْلِسِ
فعند
ذلك طرب نور الدين من إنشاد تلك الصبِيَّة غاية الطرب، وتعجَّبَ منها غاية العجب،
ثم أجابَها عن شعرها بهذه الأبيات:
مَا
أَسْفَرَتْ عَنْ مُحَيَّا الشَّمْسِ فِي الْغَسَقِ إِلَّا لِتَحْجُبَ بَدْرَ التِّمِّ فِي
الْأُفُقِ
وَلَا
بَدَتْ لِعُيُونِ الصُّبْحِ طُرَّتُهَا
إِلَّا وَعَوَّذْتُ ذَاكَ الْفَرْقَ بِالْفَلَقِ
خُذْ
عَنْ مَجَارِي دُمُوعِي فِي تَسَلْسُلِهَا
وَارْوِ حَدِيثَ الْهَوَى مِنْ أَقْرَبِ الطُّرُقِ
وَرُبَّ
رَامِيَةٍ بِالنَّبْلِ قُلْتُ لَهَا
مَهْلًا بِنَبْلِكِ إِنَّ الْقَلْبَ فِي فَرَقِ
إِنْ
كَانَ دَمْعِي لِبَحْرِ النِّيلِ نِسْبَتُهُ فَإِنْ وُدَّكِ مَنْسُوبٌ إِلَى
الْمَلَقِ
قَالَتْ:
فَهَاتِ جَمِيعَ الْمَالِ قُلْتُ: خُذِي
قَالَتْ: وَنَوْمَكَ أَيْضًا قُلْتُ: مِنْ حَدَقِي
فلما
سمعَتِ الصبِيَّةُ كلامَ نور الدين وحُسْنَ فصاحته، طار قلبُها واندهش لبُّها، وقد
احتوى على مجامع قلبها، فضمَّتْه إلى صدرها وصارت تقبِّله تقبيلًا كزق الحمام،
وكذلك الآخَر قابَلَها بتقبيلٍ متلاحِق، ولكنَّ الفضل للسابق. وبعد أن فرغَتْ من
التقبيل، أخذت العود وأنشدت هذه الأبيات:
وَيْلَاهُ
وَيْلِي مِنْ مَلَامَةِ عَاذِلِي أَشْكُوهُ
أَمْ أَشْكُو إِلَيْهِ تَمَلْمُلِي
يَا
هَاجِرِي مَا كُنْتُ أَحْسَبُ أَنَّنِي
أَلْقَى الْإِهَانَةَ فِي هَوَاكَ وَأَنْتَ لِي
عَنَّفْتُ
أَرْبَابَ الصَّبَابَةِ بِالْجَوَى وَأَبَحْتُ
فِيكَ لِعَاذِلِيكَ تَذَلُّلِي
بِالْأَمْسِ
كُنْتُ أَلُومُ أَرْبَابَ الْهَوَى وَالْيَوْمَ
أَعْذُرُ كُلَّ صَبٍّ مُبْتَلِ
وَإِنِ
اعْتَرَتْنِي مِنْ فِرَاقِكَ شِدَّةٌ
أَصْبَحْتُ أَدْعُو اللهَ بِاسْمِكَ يَا عَلِي
فلما
فرغت تلك الصَّبِيَّة من شِعْرها، أنشدت أيضًا هذين البيتين:
قَدْ
قَالَتِ الْعُشَّاقُ إِنْ لَمْ يَسْقِنَا
مِنْ رِيقِهِ وَرَحِيقِ فِيهِ السَّلْسَلِ
نَدْعُ
إِلَهَ الْعَالَمِينَ يُجِيبُنَا وَيَقُولُ
فِيهِ الْكُلُّ مِنَّا يَا عَلِي
فلما
سمع نور الدين من تلك الصبِيَّةِ هذا الكلام، والشعر والنظام، تعجَّبَ من فصاحة
لسانها، وشكرها على ظرافة افتنانها. فلما سمعت الصبيةُ ثناءَ نور الدين عليها
قامَتْ من وقتها وساعتها على قدمَيْها، وخلعَتْ جميعَ ما كان عليها من ثياب
ومَصاغ، وتجرَّدَتْ من ذلك كله، ثم جلست على ركبتَيْها وقبَّلَتْه بين عينَيْه،
وعلى شامتَيْ خدَّيْه، ووهبت له جميع ذلك. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام
المباح.
﴿اللیلة 869﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الصبِيَّةَ وهبَتْ كلَّ ما كان عليها لنور الدين،
وقالت له: اعلم يا حبيبَ قلبي أن الهدية على مقدار هاديها. فقبِلَ ذلك منها نور
الدين، ثم ردَّه عليها وقبَّلَها في فمها وخدَّيْها وعينَيْها، فلما انقضى ذلك ولم
يَدُمْ إلا الحي القيوم، رازق الطاووس والبوم، قام نور الدين من ذلك المجلس ووقف
على قدمَيْه، فقالت له الصبِيَّةُ: إلى أين يا سيدي؟ فقال لها: إلى بيت والدي.
فحلف عليه أولاد التجار أنه ينام عندهم، فأبَى وركب بغلته، ولم يزل سائرًا حتى وصل
إلى بيت والده، فقامت له أمه وقالت له: يا ولدي، ما سبب غيابك إلى هذا الوقت؟
والله إنكَ قد شوَّشْتَ عليَّ وعلى والدك بغيابك عنَّا، وقد اشتغل خاطرنا عليك. ثم
إن أمه تقدَّمَتْ إليه لتقبِّله في فمه، فشمَّتْ منه رائحةَ الخمر. فقالت: يا
ولدي، كيف بعد الصلاة والعبادة صرْتَ تشرب الخمر، وتعصي مَن له الخلق والأمر؟
فبينما هما في الكلام وإذا بوالده قد أقبَلَ، ثم إن نور الدين ارتَمَى في الفراش
ونام، فقال أبوه: ما لنور الدين هكذا؟ قالت له أمه: كأن رأسه أوجَعَه من هواء
البستان. فعند ذلك تقدَّمَ له والده ليسأله عن وجعه ويسلِّم عليه، فشمَّ منه رائحةَ
الخمر، وكان ذلك التاجر المسمَّى تاج الدين لا يحبُّ مَن يشرب الخمر، فقال له:
ويلك يا ولدي، هل بلغ بك السَّفَهُ إلى هذا الحدِّ حتى تشرب الخمر؟ فلما سمع نور
الدين كلامَ والده رفع يدَه في سُكْره ولطَمَه بها، فجاءَتِ اللطمةُ بالأمر
المقدَّر على عين والده اليمنى، فسالت على خدِّه فوقع على الأرض مغشيًّا عليه،
واستمرَّ في غشيته ساعةً فرَشُّوا عليه ماءَ الورد، فلما أفاقَ من غشيته أراد أن
يضربه فمنعته أمه، فحلف بالطلاق من أمه أنه إذا أصبَحَ الصباح لا بد من قطع يده
اليمنى. فلما سمعَتْ أمه كلامَ والده ضاقَ صدرها وخافت على ولدها، ولم تزل تداري
والده وتأخذ بخاطره إلى أن غلب عليه النوم، فصبرت إلى أن طلع القمر وأتَتْ إلى
ولدها وقد زال عنه السُّكْر، فقالت له: يا نور الدين، ما هذا الفعل القبيح الذي
فعلْتَه مع والدك؟ فقال لها: وما الذي فعلتُه مع والدي؟ فقالت: إنك لطمْتَه بيدكَ
على عينه اليمنى، فسالت على خدِّه، وقد حلف بالطلاق إنه إذا أصبح الصباح، فلا بد
أن يقطع يدك اليمنى. فندم نور الدين على ما وقع منه حيث لا ينفعه الندم، فقالت له
أمه: يا ولدي، إن هذا الندم لا ينفعك، وإنما ينبغي لك أن تقوم في هذا الوقت وتهرب
وتطلب النجاة لنفسك، وتختفي عند خروجك حتى تصل إلى أحدٍ من أصحابك، وانتظِرْ ما
يفعل الله، فإنه يغيِّر حالًا بعد حال.
ثم
إن أمه فتحَتْ صندوقَ المال وأخرجَتْ منه كيسًا فيه مائة دينار، وقالت له: يا
ولدي، خُذْ هذه الدنانير واستعِنْ بها على مصالح حالك، فإذا فرغَتْ منك يا ولدي
فأرسِلْ أعلمني حتى أُرسِلَ إليك غيرها، وإذا راسَلَتْني فأرسِلْ إليَّ أخبارك
سرًّا، ولعل الله أن يقدِّر لك فرَجًا وتعود إلى منزلك. ثم إنها ودَّعته وبكَتْ
بكاءً شديدًا ما عليه من مزيد، فعند ذلك أخذ نور الدين كيسَ الدنانير من أمه،
وأراد أن يخرج، فرأى كيسًا كبيرًا قد نسيته أمه بجنب الصندوق فيه ألف دينار، فأخذه
نور الدين، ثم ربط الاثنين على وسطه وخرج من الزقاق، وتوجَّهَ إلى جهة بولاق قبل
الفجر.
فلما
أصبح الصباح، وقامت الخلائق توحِّد الملك الفتَّاح، وخرج كل واحد منهم إلى مقصده
ليحصل ما قسم الله له، كان نور الدين وصل إلى بولاق، فصار يمشي على ساحل البحر،
فرأى مركبًا سقالتها ممدودة، والناس تطلع فيها وتنزل منها، ومراسيها ربع مدقوقة في
البر، ورأى البحرية واقفين، فقال لهم نور الدين: إلى أين أنتم مسافرون؟ فقالوا له:
إلى مدينة إسكندرية. فقال لهم نور الدين: خذوني معكم. فقالوا له: أهلًا وسهلًا
ومرحبًا بك يا شاب يا مليح. فعند ذلك نهض نور الدين من وقته وساعته، ومضى إلى
السوق واشترى ما يحتاج إليه من زوَّادة وفرش وغطاء، ثم رجع إلى المركب، وكانت تلك
المركب تجهَّزَتْ للسفر، فلما نزل نور الدين في المركب لم تمكث إلا قليلًا وسارت
من وقتها وساعتها، ولم تَزَلْ تلك المركب سائرةً حتى وصلَتْ إلى مدينة رشيد، فلما
وصلوا إلى هناك رأى نور الدين زورقًا صغيرًا سائرًا إلى إسكندرية، فنزل فيه وعدَّى
الخليج، ولم يَزَلْ سائرًا إلى أن وصل إلى قنطرةٍ تُسمَّى قنطرة الجامي، فطلع نور
الدين من ذلك الزورق ودخل من بابٍ يقال له باب السدرة، وقد ستر الله عليه فلم
ينظره أحدٌ من الواقفين في الباب، فمشى نور الدين حتى دخل مدينة إسكندرية. وأدرك
شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 870﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن نور الدين لما دخل مدينة إسكندرية، رآها مدينة حصينة
الأسوار حسنة المنتزهات، تلذ لسكانها وترغب في إيطانها، قد ولَّى عنها فصلُ الشتاء
ببرده، وأقبل عليه فصل الربيع بورده، وازدهت أزهارها وأَوْرَقَتْ أشجارها،
وأينعَتْ أثمارها وتدفَّقَتْ أنهارها، وهي مدينة مليحة الهندسة والقياس، وأهلها
أجناد من خيار الناس، إذا غلقت أبوابها أمنت أصحابها، وهي كما قيل فيها هذه
الأبيات:
قَدْ
قُلْتُ يَوْمًا لِخِلٍّ لَهُ
مَقَالٌ فَصِيحُ
إِسْكَنْدَرِيَّةَ
صِفْهَا فَقَالَ: ثَغْرٌ مَلِيحُ
قُلْتُ:
وَفِيهَا مَعَاشٌ؟ فَقَالَ: إِنْ
هَبَّ رِيحُ
وقال
بعض الشعراء:
إِسْكَنْدَرِيَّةُ
ثَغْرٌ رُضُابُهُ يُسْتَطَابُ
مَا
أَحْسَنَ الْوَصْلَ فِيهَا إِنْ
لَمْ يُصِبْهَا غُرَابُ
فمشى
نور الدين في تلك المدينة، ولم يَزَلْ ماشيًا فيها إلى أن وصل إلى سوق النجارين،
ثم إلى سوق الصرَّافين، ثم إلى سوق النقلية، ثم إلى سوق الفكهانية، ثم إلى سوق
العطَّارين، وهو يتعجَّب من تلك المدينة؛ لأن وصفها قد شاكَلَ اسمها، فبينما هو
يمشي في سوق العطَّارين، وإذا برجل كبير السن نزل من دكانه وسلَّمَ عليه، ثم أخذه
من يده ومضى به إلى منزله، فرأى نور الدين زقاقًا مليحًا مكنوسًا مرشوشًا، قد هبَّ
عليه النسيم وراقَ، وظلَّلَتْه من الأشجار أوراق، وفي ذلك الزقاق ثلاث دور، وفي
صدر ذلك الزقاق دار أساسها راسخ في الماء، وجدرانها شاهقة إلى عنان السماء، قد
كنسوا الساحة التي قدَّامها ورشوها، ويشمُّ روائحَ الأزهار قاصِدوها، يقابلها
النسيم كأنه من جنات النعيم، فأول ذلك الزقاق مكنوس مرشوش، وآخره بالرخام مفروش،
فدخل الشيخ بنور الدين إلى تلك الدار، وقدَّمَ له شيئًا من المأكول وأكل هو وإياه،
فلما فرغَا من الأكل قال له الشيخ: متى كان القدوم من مدينة مصر إلى هذه المدينة؟
فقال له: يا والدي، في هذه الليلة. قال له: ما اسمك؟ قال: علي نور الدين. فقال له
الشيخ: يا ولدي يا نور الدين، يلزمني الطلاق ثلاثًا إنك ما دمتَ في هذه المدينة لا
تفارقني، وأنا أخلي لك موضعًا تسكن فيه. فقال له نور الدين: يا سيدي الشيخ، زدني
بك معرفة. فقال له: يا ولدي، اعلم أني دخلتُ مصر في بعض السنين بتجارةٍ، فبعتُها
فيها واشتريتُ متجرًا آخَر، فاحتجْتُ إلى ألف دينار، فوزنها عني والدك تاج الدين
من غير معرفةٍ له بي، ولم يكتب عليَّ بها منشورًا، وصبر عليَّ بها إلى أن رجعتُ
إلى هذه المدينة وأرسلْتُها إليه مع بعض غلماني ومعها هدية، وقد رأيتُكَ وأنت صغير،
وإن شاء الله تعالى أجازيك ببعض ما فعل والدك معي.
فلما
سمع نور الدين هذا الكلامَ أظهر الفرح والابتسام، وأخرج الكيس الذي فيه الألف
دينار، وأعطاه لذلك الشيخ وقال له: خُذْ هذا وديعةً عندك حتى أشتري به شيئًا من
البضائع لأتَّجِر فيه. ثم إن نور الدين أقام في مدينة إسكندرية مدة أيام، وهو
يتفرج كلَّ يوم في شارع من شوارعها، ويأكل ويشرب ويلتذُّ ويطرب، إلى أن فرغت منه
المائة دينار التي كانت معه برسم النفقة، فأتى إلى الشيخ العطار ليأخذ منه شيئًا
من الألف دينار وينفقه، فلم يجده في الدكان، فجلس في دكانه ينتظره إلى أن يعود،
وصار يتفرج على التجار ويتأمَّل ذات اليمين وذات الشمال، فبينما هو كذلك وإذا
بأعجمي قد أقبَلَ على السوق وهو راكب على بغلة، وخلفه جارية كأنها فضة نقية، أو
بلطية في فسقية، أو غزالة في برية، بوجْهٍ يُخجِل الشمسَ المضيئة، وعيون بابلية،
ونهود عاجية، وأسنان لؤلُئِية، وبطن خماصية، وأعطاف مطوية، وسيقان كأطراف لية،
كاملة الحُسْن والجمال، ورشيقة القَدِّ والاعتدال، كما قال فيها بعض واصفيها:
كَأَنَّهَا
مِثْلَ مَا تَهْوَاهُ قَدْ خُلِقَتْ
فِي رَوْنَقِ الْحُسْنِ لَا طُولٌ وَلَا قِصَرُ
الْوَرْدُ
مِنْ خَدِّهَا يَحْمَرُّ مِنْ خَجَلٍ
وَالْغُصْنُ مِنْ قَدِّهَا يَزْهُو بِهِ الثَّمَرُ
الْبَدْرُ
طَلْعَتُهَا وَالْمِسْكُ نَكْهَتُهَا
وَالْغُصْنُ قَامَتُهَا مَا مِثْلُهَا بَشَرُ
كَأَنَّهَا
أُفْرِغَتْ مِنْ مَاءِ لُؤْلُؤَةٍ فِي
كُلِّ جَارِحَةٍ مِنْ حُسْنِهَا قَمَرُ
ثم
إن الأعجمي نزل عن بغلته وأنزَلَ الصبِيَّة، وصاح على الدلَّال، فحضر بين يدَيْه
فقال له: خُذْ هذه الجارية، ونادِ عليها في السوق. فأخذها الدلَّال ونزل بها إلى
وسط السوق وغاب ساعةً، ثم عاد ومعه كرسي من الأبنوس مزركش بالعاج الأبيض، فوضعه
الدلَّال على الأرض وأجلس عليه تلك الصبِيَّة، ثم كشف القناع عن وجهها، فبانَ من
تحته وجهٌ كأنه ترس ديلمي أو كوكب دري، وهي كأنها البدر إذا بدر في ليلة أربعة
عشر، بغاية الجمال الباهر كما قال الشاعر:
قَدْ
عَارَضَ الْبَدْرُ جَهْلًا حُسْنَ صُورَتِهَا فَرَاحَ مُنْكَسِفًا وَانْشَقَّ
بِالْغَضَبِ
وَسَرْحَةُ
الْبَانِ إِنْ قِيسَتْ بِقَامَتِهَا
تَبَّتْ يَدًا مَنْ غَدَتْ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ
وما
أحسن قول الشاعر:
قُلْ
لِلْمَلِيحَةِ فِي الْخِمَارِ الْمُذْهَبِ
مَاذَا فَعَلْتِ بِعَابِدٍ مُتَرَهِّبِ
نُورُ
الْخِمَارِ وَنُورُ وَجْهِكَ تَحْتَهُ
هَزَمَا بِضَوْئِهِمَا جُيُوشَ الْغَيْهَبِ
وَإِذَا
أَتَى طَرْفِي لِيَسْرِقَ نَظْرَةً فِي
الْخَدِّ حُرَّاسٌ رَمتْهُ بِكَوْكَبِ
فعند
ذلك قال الدلَّال للتجار: كم دفعْتُم في دُرَّة الغوَّاص وفَلِيتة القنَّاص؟ فقال
له تاجرٌ من التجار: عليَّ بمائة دينار. وقال آخَر: بمائتين. وقال آخَر:
بثلاثمائة. ولم يَزَلِ التجارُ يتزايدون في تلك الجارية إلى أن أوصلوا ثمنها إلى
تسعمائة وخمسين دينارًا، وتوقَّفَ البيع على الإيجاب والقبول. وأدرك شهرزاد
الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 871﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن التجار صاروا يتزايدون في الجارية إلى أن بلغ ثمنها
تسعمائة وخمسين دينارًا، فعند ذلك أقبَلَ الدلَّال على الأعجمي سيدِها، وقال له:
إن جاريتك بلغ ثمنها تسعمائة وخمسين دينارًا، فهل نبيع ونقبض لك الثمن؟ فقال
الأعجمي: هل هي راضية بذلك؟ فإني أحِبُّ مراعاة خاطرها؛ لأني ضعفت في هذه السفرة،
وخدَمَتْني هذه الجارية غايةَ الخدمة، فحلفتُ أني لا أبيعها إلا لمَن تشتهي وتريد،
وجعلت بيعها بيدها فشاوِرْها، فإن قالت رضيتُ، فبِعْها لمَن أرادته، وإن قالت لا،
فلا تبِعْها. فعند ذلك تقدَّمَ الدلَّالُ إليها وقال لها: يا سيدة الملاح، اعلمي
أن سيِّدك قد جعل بيعك بيدك، وقد بلغ ثمنك تسعمائة وخمسين دينارًا، أفتأذنين أن
أبيعك؟ فقالت الجارية للدلَّال: أَرِني الذي يريد أن يشتريني قبل انعقاد البيع.
فعند ذلك جاء الدلَّال بها إلى رجلٍ من التجار، وهو شيخ كبير هَرِم، فنظرت إليه
الجارية ساعةً زمانيةً، وبعد ذلك التفتَتْ إلى الدلال وقالت له: يا دلَّال، هل أنت
مجنون أو مصاب في عقلك؟ فقال لها الدلال: لأي شيء يا سيدة الملاح تقولين لي هذا
الكلام؟ فقالت له الجارية: أيَحِلُّ لكَ من الله أن تبيع مثلي لهذا الشيخ الهَرِم
الذي قال في شأن زوجته هذه الأبيات:
تَقُولُ
لِي وَهْيَ غَضْبَى مِنْ تَدَلُّلِهَا
وَقَدْ دَعَتْنِي إِلَى شَيْءٍ فَمَا كَانَا
إِنْ
لَمْ تَنِكْنِي نَيْكَ الْمَرْءِ زَوْجَتَهُ فَلَا تَلُمْنِي إِذَا أَصْبَحْتَ قَرْنَانَا
كَأَنَّ
أَيْرَكَ شَمْعٌ مِنْ رَخَاوَتِهِ فَكُلَّمَا
عَرَكَتْهُ رَاحَتِي لَانَا
وقال
في أيره أيضًا:
لِيَ
أَيْرٌ يَنَامُ لُؤْمًا وَشُؤْمًا كُلَّمَا
نِلْتُ مِنْ حَبِيبٍ وِصَالَا
وَإِذَا
مَا غَدَوْتُ فِي الْبَيْتِ فَرْدًا
طَلَبَ الطَّعْنَ وَحْدَهُ وَالنِّزَالَا
وقال
في أيره أيضًا:
وَلِي
أَيْرُ سُوءٍ كَثِيرُ الْجَفَا يُعَامِلُ
بِاللُّؤْمِ مَنْ يُكْرِمُهْ
إِذَا
نِمْتُ قَامَ وَإِنْ قُمْتُ نَامَ فَلَا
رَحِمَ اللهُ مَنْ يَرْحَمُهْ
فلما
سمع شيخ التجار من تلك الصبية هذا الهجْوَ القبيح، اغتاظَ غيظًا شديدًا ما عليه من
مزيد، وقال للدلال: يا أنحس الدلَّالين، ما جئتَ لنا في السوق إلا بجاريةٍ مشئومةٍ
تتجارى عليَّ وتهجوني بين التجار. فعند ذلك أخذها الدلَّال وانصرف عنه وقال لها:
يا سيدتي، لا تكوني قليلةَ الأدب، إن هذا الشيخ الذي هجوتِه هو شيخ السوق ومحتسبه،
وصاحب مشورة التجار. فضحكَتْ وأنشدَتْ هذين البيتين:
يُصْلِحُ
لِلْحُكَّامِ فِي عَصْرِنَا وَذَاكَ
لِلْحُكَّامِ مِمَّا يَجِبْ
الشَّنْقُ
لِلْوَالِي عَلَى بَابِهِ وَالضَّرْبُ
بِالدِّرَّةِ لِلْمُحْتَسِبْ
ثم
إن تلك الجارية قالت للدلال: والله يا سيدي، أنا لا أُباع لهذا الشيخ، فبعني إلى
غيره؛ لأنه ربما خجل مني فيبيعني إلى آخَر، فأصير ممتهنةً، ولا ينبغي لي أن أدنس
نفسي بالامتهان، وقد علمت أن أمرَ بيعي مفوَّض إليَّ. فقال لها الدلال: سمعًا
وطاعة. ثم توجَّهَ بها إلى رجلٍ من التجار الكبار، فلما وصل بها إلى ذلك الرجل قال
لها: يا سيدتي، هل أبيعك إلى سيدي شريف الدين هذا بتسعمائة وخمسين دينارًا؟
فنظرَتْ إليه الجاريةُ فرأَتْه شيخًا، ولكن لحيته مصبوغة، فقالت للدلال: هل أنت
مجنون أو مصاب في عقلك حتى تبيعني إلى هذا الشيخ الفاني؟ فهل أنا من كتكت المشاق
أو من مهلهل الأخلاق حتى تطوف بي على شيخ بعد شيخ؟ وكلاهما كجدارٍ آيلٍ إلى
السقوط، أو عفريت محَقَه النجم بالهبوط؛ أما الأول فإنه ناطقٌ فيه لسانُ الحال
بقولِ مَن قال:
طَلَبْتُ
قُبْلَتَهَا فِي الثَّغْرِ قَائِلَةً
لَا وَالَّذِي أَوْجَدَ الْأَشْيَاءَ مِنْ عَدَمِ
مَا
كَانَ لِي فِي بَيَاضِ الشَّيْبِ مِنْ أَرَبٍ أَفِي الْحَيَاةِ يَكُونُ الْقُطْنُ
حَشْوَ فَمِي
وما
أحسن قول الشاعر:
قَالُوا
بَيَاضَ الشَّعْرِ نُورٌ سَاطِعٌ يَكْسُو
الْوُجُوهَ مَهَابَةً وَضِيَاءَ
حَتَّى
بَدَا وَخْطُ الْمَشِيبِ بِمَفْرَقِي
فَوَدَدْتُ أَنْ لَا أُعْدَمَ الظَّلْمَاءَ
لَوْ
أَنَّ لِحْيَةَ مَنْ يَشِيبُ صَحِيفَةٌ
بِمَعَادِهِ مَا اخْتَارَهَا بَيْضَاءَ
وأحسن
منه قول الآخر:
ضَيْفٌ
أَلَمَّ بِرَأْسِي غَيْرُ مُحْتَشِمٍ
السَّيْفُ أَحْسَنُ فِعْلًا مِنْهُ بِاللِّمَمِ
أَبْعِدْ
بَعُدْتَ بَيَاضًا لَا بَيَاضَ لَهُ
لَأَنْتَ أَسْوَدُ فِي عَيْنِي مِنَ الظُّلَمِ
وأما
الآخَر فإنه ذو عيب وريب، ومسود وجه الشيب، قد أتى في خضاب شيبه بأقبح مين، وأنشد
لسان حاله هذين البيتين:
قَالَتْ
أَرَاكَ خَضَبْتَ الشَّيْبَ قُلْتُ لَهَا
كَتَمْتُهُ عَنْكِ يَا سَمْعِي وَيَا بَصَرِي
فَقَهْقَهَتْ
ثُمَّ قَالَتْ إِنَّ ذَا عَجَبٌ تَكَاثَرَ
الْغِشُّ حَتَّى صَارَ فِي الشَّعَرِ
وما
أحسن قول الشاعر:
يَا
مَنْ يُخَضِّبُ بِالسَّوَادِ مَشِيبَهُ
كَيْ يَسْتَقِرَّ لَهُ الشَّبَابُ وَيَحْصُلُ
هَا
فَاخْتَضِبْ بِسَوَادِ حَظِّي مَرَّةً
وَلَكَ الضَّمَانُ بِأَنَّهُ لَا يَنْصُلُ
فلما
سمع الشيخ الذي صبغ لحيته من تلك الجارية هذا الكلام، اغتاظ غيظًا شديدًا ما عليه
من مزيد، وقال للدلال: يا أنحس الدلالين، ما جئتَ في هذا اليوم سوقنا إلا بجارية
سفيهة تسفه على كلِّ مَن في السوق واحدًا بعد واحد، وتهجوهم بالأشعار والكلام
الفشار. ثم إن ذلك التاجر نزل من دكانه وضرب الدلَّال على وجهه، فأخذها الدلال
ورجع بها وهو غضبان وقال: والله إني ما رأيتُ عمري جاريةً أقل حياءً منك، وقد قطعتِ
رزقي ورزقك في هذا النهار، وقد بغضني من أجلك جميعُ التجار. فرآهما في الطريق رجل
من التجار، فزاد في ثمنها عشرة دنانير، وكان اسم ذلك التاجر شهاب الدين، فاستأذن
الدلَّالُ الجاريةَ في البيع، فقالت: أَرِني إياه حتى أنظر إليه، وأسأله عن حاجة،
فإن كانت تلك الحاجة في بيته فأنا أُباع له، وإلا فَلَا. فخلاها الدلال واقفة، ثم
تقدَّمَ إليه وقال له: يا سيدي شهاب الدين، اعلم أن هذه الجارية قالت لي إنها
تسألك عن حاجةٍ، فإن كانت عندك فإنها تُباع لك، وها أنت قد سمعتَ ما قالته لأصحابك
من التجار. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 872﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الدلَّال قال للتاجر: إنك سمعتَ ما قالته هذه الجارية
لأصحابك التجار، وأنا والله خائف أن أجيء بها إليك، فتعمل معك مثل ما عملَتْ مع
جيرانك، وأبقى أنا معك مفضوحًا، فإن أذنْتَ لي في المجيء بها أجيء بها إليك. فقال:
ائتني بها. فقال الدلال: سمعًا وطاعة. ثم ذهب الدلال وأتى بالجارية إليه، فنظرته
الجارية وقالت له: يا سيدي شهاب الدين، هل في بيتك مدورات مَحْشوَّة بقطاعة فَرْو
السنجاب؟ فقال لها: نعم يا سيدة الملاح، عندي في البيت عشرة مدورات مَحْشوَّة بقطاعة
فرو السنجاب، فبالله عليك، ما تصنعين بهذه المدورات؟ فقالت: أصبر عليك حتى ترقد،
وأجعلها على فمك وأنفك حتى تموت. ثم إنها التفتَتْ إلى الدلال وقالت له: يا أخس
الدلالين، كأنك مجنون حتى تعرضني من منذ ساعة على اثنين من الشيوخ، في كل واحد
منهما عيبان، وبعد ذلك تعرضني على سيدي شهاب الدين، وفيه ثلاثة عيوب؛ الأول أنه
قصير، والثاني أن أنفه كبير، والثالث أن لحيته طويلة، وقد قال فيه بعض الشعراء:
مَا
رَأَيْنَا وَلَا سَمِعْنَا بِشَخْصٍ
مِثْلَ هَذَا بَيْنَ الْخَلَائِقِ أَجْمَعْ
فَلَهُ
لِحْيَةٌ ذِرَاعٌ وَأَنْفٌ طُولُ
شِبْرٍ وَقَامَةٌ طُولُ أُصْبُعْ
وقال
بعضهم أيضًا:
مَنَارَةُ
الْجَامِعِ فِي وَجْهِهِ كَرِقَّةِ
الْخِنْصَرِ فِي الْخَاتِمِ
لَوْ
دَخَلَ الْعَالَمُ فِي أَنْفِهِ أَصْبَحَتِ
الدُّنْيَا بِلَا عَالَمِ
فلما
سمع التاجر شهاب الدين من الجارية ذلك الكلام، نزل من الدكَّان وأخذ بطوق الدلال
وقال له: يا أنحس الدلالين، كيف تأتي إلينا بجارية توبِّخنا وتهجونا واحدًا بعد
واحد بالأشعار والكلام الفشار؟ فعند ذلك أخذها الدلال وذهب من بين يديه وقال لها:
والله طول عمري وأنا في هذه الصناعة، ما رأيت جاريةً أقلَّ أدبًا منك، ولا أنحس
عليَّ من نجمك؛ لأنك قطعتِ رزقي في هذا اليوم، ولا ربحتُ منك إلا الصَّفْع على
القفا والأخذ بالطوق. ثم إن الدلال وقف بتلك الجارية أيضًا على تاجرٍ صاحبِ عبيدٍ
وغلمان، وقال لها: أَتُباعِين لهذا التاجر سيدي علاء الدين؟ فنظرته فوجدته أحدب،
فقالت: إن هذا أحدب، وقد قال فيه الشاعر:
قَصُرَتْ
مَنَاكِبُهُ وَطَالَ فِقَارُهُ فَحَكَاهُ
شَيْطَانٌ يُصَادِفُ كَوْكَبَا
وَكَأَنَّهُ
قَدْ ذَاقَ أَوَّلَ دِرَّةٍ وَأَحَسَّ
ثَانِيَةً فَصَارَ مُعَجَّبَا
وقال
فيه بعض الشعراء أيضًا:
لَمَّا
ارْتَقَى أَحَدُكُمْ بَغْلَةً صَارَ
بِهَا بَيْنَ الْوَرَى مُثْلَةْ
أَمَالَهُ
الضِّحْكُ فَلَا تَعْجَبُوا إِنْ
جَفَلَتْ مِنْ تَحْتِهِ الْبَغْلَةْ
وكما
قال فيه بعض الشعراء:
وَلَرُبَّ
أَحْدَبَ زَادَ فِي حَدَبَاتِهِ قُبْحًا
فَقَاطِبَةُ الْعُيُونِ تَمُجُّهُ
فَكَأَنَّهُ
غُصْنٌ تَقَلَّصَ يَابِسٌ وَلَوَاهُ
مِنْ طُولِ الْمَدَى أَتْرُجُّهُ
فعند
ذلك أسرع الدلال إليها وأخذها وأتى بها إلى تاجر آخَر وقال لها: أَتُباعِين لهذا؟
فنظرت إليه فوجدته أعمش، فقالت: إن هذا أعمش، كيف تبيعني له، وقد قال فيه بعض
الشعراء:
رَمَدٌ
بِهِ أَمْرَاضُهُ هَدَّتْ قُوَى
لِحْيَتِهْ
يَا
قَوْمُ قُومُوا فَانْظُرُوا هَذَا
الْقَذَى فِي عَيْنِهْ
فعند
ذلك أخذها الدلال وأتى بها إلى تاجر آخَر وقال لها: أتُبَاعِين لهذا؟ فنظرت إليه
فرأت لحيته كبيرة. فقالت للدلال: ويلك، إن هذا الرجل كبش، ولكن طلع ذيله في حلقه،
كيف تبيعني له يا أنحس الدلالين؟ أَمَا سمعت أن كلَّ طويل الذقن قليل العقل، وعلى
قدر طول اللحية يكون نقصان العقل، وهذا الأمر مشهور بين العقلاء، كما قال بعض
الشعراء:
مَا
رَجُلٌ طَالَتْ لَهُ لِحْيَةٌ فَزَادَتِ اللِّحْيَةُ فِي هَيْبَتِهْ
إِلَّا
وَمَا يَنْقُصُ مِنْ عَقْلِهِ يَكُونُ
طُولًا زَادَ فِي لِحْيَتِهْ
وكما
قال فيه بعض الشعراء أيضًا:
لَنَا
صَدِيقٌ لَهُ لِحْيَةٌ طُوَّلَهَا
اللهُ بِلَا فَائِدَةْ
كَأَنَّهَا
بَعْضُ لَيَالِي الشِّتَاءِ طَوِيلَةٌ
مُظْلِمَةٌ بَارِدَةْ
فعند
ذلك أخذها الدلال ورجع، فقالت له: أين تتوجَّه بي؟ فقال لها: إلى سيدك الأعجمي،
وكفانا ما جرى لنا بسببك في هذا النهار، وقد تسبَّبتِ في منع رزقي ورزقه بقلة
أدبك. ثم إن الجارية نظرت في السوق والتفتَتْ يمينًا وشمالًا، وخلفًا وأمامًا،
فوقع نظرها بالأمر المقدَّر على نور الدين علي المصري، فرأته شابًّا مليحًا نقيَّ
الخد، رشيقَّ القَد، وهو ابن أربع عشرة سنة، بديع الحُسْن والجمال، والظرف
والدلال، كأنه البدر إذا بدا في ليلة أربعة عشر، بجبين أزهر، وخدٍّ أحمر، وعنق
كالمرمر، وأسنان كالجوهر، وريق أحلى من السكر، كما قال فيه بعض واصفيه:
بَدَتْ
لِتُحَاكِيَ حُسْنَهُ وَجَمَالَهُ بُدُورٌ
وَغِزْلَانٌ فَقُلْتُ لَهَا قِفِي
رُوَيْدَكِ
يَا غِزْلَانُ لَا تَتَشَبَّهِي بِهَذَا
وَيَا أَقْمَارُ لَا تَتَكَلَّفِي
وما
أحسن قول بعض الشعراء:
وَمُهَفْهَفٍ
مِنْ شَعْرِهِ وَجَبِينِهِ تَغْدُو
الْوَرَى فِي ظُلْمَةٍ وَضِيَاءِ
لَا
تُنْكِرُوا الْخَالَ الَّذِي فِي خَدِّهِ
كُلَّ الشَّقِيقِ بِنُقْطَةٍ سَوْدَاءِ
فلما
نظرت تلك الجارية إلى نور الدين حال بينها وبين عقلها، ووقع في خاطرها موقعًا
عظيمًا، وتعلَّقَ قلبها بمحبته. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 873﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية لما رأَتْ عليًّا نور الدين تعلَّقَ قلبُها
بمحبته، فالتفتَتْ إلى الدلَّال وقالت له: هل هذا الشاب التاجر الذي هو جالس بين
التجار وعليه الفرجية الجوخ العودي، ما زاد في ثمني شيئًا؟ فقال لها الدلَّال: يا
سيدة الملاح، إن هذا شاب غريب مصري، ووالده من أكابر التجار بمصر، وله الفضل على
جميع تجارها وأكابرها، وله مدة يسيرة في هذه المدينة، وهو مقيم عند رجل من أصحاب
أبيه، ولم يتكلَّم فيك بزيادة ولا نقصان. فلما سمعَت الجارية كلامَ الدلَّال، نزعت
من إصبعها خاتمَ ياقوت مثمنًا، وقالت للدلَّال: وصلني عند هذا الشاب المليح، فإن
اشتراني كان هذا الخاتم لك في نظير تعبك في هذا اليوم معنا. ففرح الدلال وتوجَّهَ
بها إلى نور الدين، فلما صارت عنده تأمَّلَتْه فرأته كأنه بدر التمام؛ لأنه ظريف
الجمال، رشيق القَدِّ والاعتدال، كما قال فيه بعض واصفيه:
صَفَا
فِي وَجْهِهِ مَاءُ الْجَمَالِ وَمِنْ
أَلْحَاظِهِ رَمْيُ النِّبَالِ
وَيُشْرِقُ
كُلُّ صَبٍّ إِنْ سَقَاهُ بِمُرِّ
صُدُودِهِ مِنْ وَصْلِ حَالِ
فَغُرَّتُهُ
وَقَامَتُهُ وَعِشْقِي كَمَالٌ فِي
كَمَالٍ فِي كَمَالِ
وَإِنَّ
غَلَائِلَ الْأَثْوَابِ مِنْهُ مُزَرَّرَةٌ
عَلَى طَوْقِ الْهِلَالِ
وَمُقْلَتُهُ
وَخَالَاهُ وَدَمْعِي لَيَالٍ فِي
لَيَالٍ فِي لَيَالِ
وَحَاجِبُهُ
وَطَلْعَتُهُ وَجِسْمِي هِلَالٌ فِي
هِلَالٍ فِي هِلَالِ
وَطَافَتْ
مُقْلَتَاهُ بِكَأْسِ خَمْرٍ عَلَى
الْعُشَّاقِ إِنْ مَرَّ حِيَالِي
وَأَرْشَفَنِي
عَلَى ظَمَأٍ زُلَالًا بِبِاسِمِ
ثَغْرِهِ يَوْمَ الْوِصَالِ
فَقَتْلِي
عِنْدَهُ وَدَمِي لَدَيْهِ حَلَالٌ
فِي حَلَالٍ فِي حَلَالِ
ثم
إن الجارية نظرَتْ إلى نور الدين وقالت له: يا سيدي، بالله عليك أَمَا أنا مليحة؟
فقال لها: يا سيدة الملاح، وهل في الدنيا أحسنُ منك؟! فقالت له الجارية: ولأي شيءٍ
رأيت التجارَ كلَّهم زادوا في ثمني، وأنت ساكت ما تكلَّمْتَ بشيءٍ، ولا زدتَ في
ثمني دينارًا واحدًا، كأنني ما عجبتك يا سيدي؟ فقال لها: يا سيدتي، لو كنتُ في
بلدي كنتُ أشتريك بجميع ما تملكه يدي من المال. فقالت له: يا سيدي، أنا ما قلتُ لك
اشتَرِني على غير مرادك، ولكن لو زدتَ في ثمني شيئًا لَجبرتَ بخاطري، ولو كنتَ لا
تشتريني لأجل أن تقول التجار لولا أن هذه الجارية مليحة ما زاد فيها هذا التاجر
المصري؛ لأن أهل مصر لهم خبرة بالجواري. فعند ذلك استحى نور الدين من كلام الجارية
الذي ذكرته، واحمرَّ وجهه وقال للدلَّال: كَمْ بلغ ثمن هذه الجارية؟ قال: بلغ
ثمنها تسعمائة وخمسين دينارًا غير الدِّلَالة، وأما قانون السلطان فإنه على
البائع. فقال نور الدين للدلَّال: خلِّها عليَّ بالألف دينار دِلَالةً وثمنًا.
فبادرَتِ الجارية وتركت الدلَّال وقالت: بِعْتُ نفسي لهذا الشاب المليح بألف
دينار. فسكَتَ نور الدين، فقال واحد: بعناه. وقال آخَر: يستأهل. وقال آخَر: ملعون
ابن ملعون مَن يزود ولا يشتري. وقال آخَر: والله إنهما يصلحان لبعضهما. فلم يشعر
نور الدين إلا والدلَّال أحضر القضاة والشهود، وكتبوا عقدَ البيع والشراء في ورقةٍ
وناوَلَها لنور الدين، وقال: تسلَّمْ جاريتك، الله يجعلها مبارَكةً عليك، فهي ما
تصلح إلا لك، ولا تصلح أنت إلا لها. وأنشد الدلَّال هذين البيتين:
أَتَتْهُ
السَّعَادَةُ مُنْقَادَةً إِلَيْهِ
تُجَرْجِرُ أَذْيَالَهَا
فَلَمْ
تَكُ تَصْلُحُ إِلَّا لَهُ وَلَمْ
يَكُ يَصْلُحُ إِلَّا لَهَا
فعند
ذلك استحى نور الدين من التجار، وقام من وقته وساعته ووزن الألف دينار التي كان
وضعها وديعةً عند العطار صاحب أبيه، وأخذ الجارية وأتى بها إلى البيت الذي أسكنه
فيه العطار، فلما دخلت الجارية البيت رأَتْ فيه خلق بساط ونطعًا عتيقًا، فقالت له:
يا سيدي، هل أنا ما لي منزلة عندك، ولا أستحق أن توصلني إلى بيتك الأصلي الذي فيه
مصالحك؟ ولأي شيء ما دخلت بي عند أبيك؟ فقال لها نور الدين: والله يا سيدة الملاح،
إن هذا بيتي الذي أنا فيه، ولكنه ملك لشيخ عطار من أهل هذه المدينة، وقد أخلاه لي
وأسكنني فيه، وقد قلتُ لك إنني غريب، وإنني من أولاد مدينة مصر. فقالت له الجارية:
يا سيدي، أقل البيوت يكفي إلى أن نرجع إلى بلدك، ولكن يا سيدي بالله عليك أن تقوم
وتأتي لنا بشيء من اللحم المشوي والمُدَام والنُّقْل والفاكهة. فقال لها نور
الدين: والله يا سيدة الملاح، ما كان عندي من المال غير الألف دينار الذي وزنته في
ثمنك، ولا أملك غير تلك الدنانير شيئًا من المال، وكان معي بعض دراهم صرفتها
بالأمس. فقالت له: أَمَا لك في هذه المدينة صديقٌ تقترض منه خمسين درهمًا وتأتيني
بها حتى أقول لك أي شيء تفعل بها؟ فقال لها: ما لي صديق سوى العطار. ثم ذهب من
وقته وتوجَّهَ إلى العطار وقال له: السلام عليك يا عم. فردَّ عليه السلام وقال: يا
ولدي، أي شيء اشتريت بالألف دينار في هذا اليوم؟ فقال له: اشتريتُ بها جارية. فقال
له: يا ولدي، هل أنت مجنون حتى تشتري جارية واحدة بألف دينار؟ يا ليت شعري، ما
جنسُ هذه الجارية؟ فقال نور الدين: يا عم، إنها جارية من أولاد الإفرنج. وأدرك
شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 874﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن نور الدين قال للشيخ العطار: إنها جارية من أولاد
الإفرنج. فقال له الشيخ: اعلم يا ولدي أن خيار أولاد الإفرنج عندنا في هذه المدينة
ثمنه مائة دينار، ولكن والله يا ولدي قد عُمِلت عليك حيلةٌ في هذه الجارية، فإن
كنتَ أحببتَها فبِتْ عندها في هذه الليلة، واقضِ غرضك منها، وأصبح انزلْ بها السوق
وبِعْها ولو كنتَ تخسر فيها مائتَيْ دينار، وقدِّرْ أنك غرقتَ في البحر أو طلع
عليك اللصوص في الطريق. فقال نور الدين: كلامك صحيح، ولكن يا عم أنت تعرف أنه ما
كان معي غير الألف دينار التي اشتريتُ بها الجارية، ولم يَبْقَ معي شيء أنفقه ولا
درهم واحد، وإني أريد من فضلك وإحسانك أن تقرضني خمسين درهمًا أنفقها إلى غدٍ،
فأبيع الجارية وأردُّها لك من ثمنها. فقال الشيخ: أعطيك يا ولدي على الرأس. ثم وزن
له خمسين درهمًا وقال له: يا ولدي، أنت شاب صغير السن، وهذه الجارية مليحة وربما
تعلَّقَ بها قلبك، فما يهون عليك أن تبيعها وأنت ما تملك شيئًا تنفقه، فتفرغ منك
هذه الخمسون درهمًا فتأتيني فأقرضك أول مرة، وثاني مرة، وثالث مرة إلى عشر مرات،
فإذا أتيتني بعد ذلك فلا أردُّ عليك السلام الشرعي، وتضيع محبتنا مع والدك. ثم
ناوَلَه الشيخ خمسين درهمًا، فأخذها نور الدين وأتى بها إلى الجارية، فقالت له: يا
سيدي، رُحِ السوق في هذه الساعة وهاتِ لنا بعشرين درهمًا حريرًا ملونًا خمسةَ
ألوان، وهاتِ لنا بالثلاثين الأخرى لحمًا وخبزًا وفاكهةً وشرابًا ومشمومًا. فعند
ذلك ذهب نور الدين إلى السوق واشترى منه كلَّ ما طلبته تلك الجارية، وأتى به
إليها، فقامت من وقتها وساعتها وشمَّرَتْ عن يدها وطبخت طعامًا وأتقنَتْه غاية
الإتقان، ثم قدَّمَتْ له الطعامَ فأكل وأكلَتْ معه حتى اكتفيا، ثم قدَّمَتِ
المُدَامَ وشربت هي وإياه، ولم تَزَلْ تسقيه وتؤانسه إلى أن سكر ونام، فقامت
الجارية من وقتها وساعتها وأخرجت من بقجتها جرابًا من أديم طائفي وفتحته وأخرجت
منه مسمارين، وقعدت عملت شغلها إلى أن فرغ، فصار زنارًا مليحًا فلفَّتْه في خرقةٍ
بعد صقله وتنظيفه وجعلته تحت المخدة، ثم قامت تعرَّتْ ونامت بجانب نور الدين
وكبسته، فانتبه من نومه فوجد بجانبه صبيةً كأنها فضة نقية، أنعم من الحرير وأطرى
من اللية، وهي أشهر من عَلَم وأحسن من حُمْر النَّعَم، خماسيةُ القَدِّ قاعدة
النَّهد، بحواجب كأنها قِسِيُّ السهام، وعيونٍ كأنها عيونُ غزلان، وخدودٍ كأنها
شقائقُ النعمان، وبطنٍ خميصةِ الأعكان، وسُرَّةٍ تَسَعُ أوقيةً من دهن البان،
وفخذَيْن كأنهما مخدَّتان محشوَّتان من ريش النعام، وبينهما شيء يكلُّ عن وصفه
اللسان، وتنسكب عند ذِكْره العَبَرات، فكأن الشاعر قصَدَها بهذه الأبيات:
فَمِنْ
شَعْرِهَا لَيْلٌ وَمِنْ فَرْقِهَا فَجْرُ
وَمِنْ خَدِّهَا وَرْدٌ وَمِنْ رِيقِهَا خَمْرُ
وَمِنْ
وَصْلِهَا مَأْوًى وَمِنْ هَجْرِهَا لَظًى
وَمِنْ ثَغْرِهَا دُرٌّ وَمِنْ وَجْهِهَا بَدْرُ
وما
أحسن قول بعض الشعراء:
بَدَتْ
قَمَرًا وَمَاسَتْ غُصْنَ بَانٍ وَفَاحَتْ
عَنْبَرًا وَرَنَتْ غَزَالَا
كَأَنَّ
الْحُزْنَ مَشْغُوفٌ بِقَلْبِي فَسَاعَةَ
هَجْرِهَا يَجِدُ الْوِصَالَا
لَهَا
وَجْهٌ يَفُوقُ عَلَى الثُّرَيَّا وَنُورُ
جَبِينِهَا فَاقَ الْهِلَالَا
وقال
بعضهم أيضًا:
سَفَرْنَ
بُدُورًا وَانْجَلَيْنَ أَهِلَّةً وَمِسْنَ
غُصُونًا وَالْتَفَتْنَ جَآذِرَا
وَفِيهِنَّ
كَحْلَاءُ الْعُيُونِ لِحُسْنِهَا تَوَدُّ
الثُّرَيَّا أَنَّ تَكُونَ لَهَا ثَرَى
فعند
ذلك التفَتَ نور الدين من وقته وساعته إلى تلك الجارية وضمَّها إلى صدره، ومصَّ
شفتها الفوقية بعد أن مصَّ التحتية، ثم زرق اللسان بين الشفتين وقام إليها، فوجدها
دُرَّة ما ثُقِبت، ومَطِيَّة ما رُكِبت، فأزال بكارتَها ونال منها الوصال، وانعقدت
بينهما المحبة بلا انفكاك ولا انفصال، وتابَعَ في خدها تقبيلًا كوَقْع الحصى في
الماء، ورَهْزًا كطعْنِ الرماح في مغارة الشعواء؛ لأن نور الدين كان مشتاقًا إلى
اعتناقِ الحُور، ومصِّ الثغور، وحلِّ الشعور، وضمِّ الخصور، وعضِّ الخدود، وركوبِ
النُّهود، مع حركاتِ مِصْرية، وغنْجِ يمانية، وشهيقِ حبشية، وفتورِ هندية، وغلمةِ
نوبية، وتضجُّرِ ريفية، وأنينِ دمياطية، وحرارةِ صعيدية، وفترةِ إسكندرية، وكانت
هذه الجارية جامعةً لهذه الخِصال مع فرط الجمال والدلال، كما قال فيها الشاعر:
هَذِي
الَّتِي أَنَا طُولَ الدَّهْرِ نَاسِيهَا
فَلَا جَنَحْتُ إِلَى مَنْ لَيْسَ يُدْنِيهَا
كَأَنَّهَا
الْبَدْرُ فِي تَكْوِينِ صُورَتِهَا
سُبْحَانَ خَالِقِهَا سُبْحَانَ بَارِيهَا
إِنْ
كَانَ ذَنْبِي عَظِيمًا فِي مَحَبَّتِهَا
فَلَيْسَ لِي تَوْبَةٌ يَوْمًا أُرَجِّيهَا
قَدْ
صَيَّرَتْنِي حَزِينًا سَاهِرًا دَنِفًا
وَالْقَلْبُ قَدْ حَارَ فِكْرًا فِي مَعَانِيهَا
وَأَنْشَدَتْ
بَيْتَ شِعْرٍ لَيْسَ يَعْرِفُهُ إِلَّا
فَتًى لِقَوَافِي الشِّعْرِ يَرْوِيهَا
لَا
يَعْرِفُ الشَّوْقَ إِلَّا مَنْ يُكَابِدُهُ وَلَا الصَّبَابَةَ إِلَّا مَنْ
يُعَانِيهَا
ثم
نام نور الدين هو وتلك الجارية إلى الصباح في لذَّةٍ وانشراح. وأدرك شهرزاد
الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 875﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن نور الدين لما نام هو وتلك الجارية إلى الصباح في لذة
وانشراح، لابسين حُلَل العِناق المُحْكَمة الأزرار، آمِنين طوارق الليل والنهار،
وقد باتَا على أحسن حالٍ، ولم يخشيَا في الوصال كثرةَ القيل والقال، كما قال فيهما
الشاعر المفضال:
زُرْ
مَنْ تُحِبُّ وَدَعْ مَقَالَةَ حَاسِدِ
لَيْسَ الْحَسُودُ عَلَى الْهَوَى بِمُسَاعِدِ
لَمْ
يَخْلُقِ الرَّحْمَنُ أَحْسَنَ مَنْظَرًا
مِنْ عَاشِقَيْنِ عَلَى فِرَاشٍ وَاحِدِ
مُتَعَانِقَيْنِ
عَلَيْهِمَا حُلَلُ الرِّضَا مَتَوَسِّدَيْنِ
بِمِعْصَمٍ وَبِسَاعِدِ
وَإِذَا
تَآلَفَتِ الْقُلُوبُ عَلَى الْهَوَى
فَالنَّاسُ تَضْرِبُ فِي حَدِيدٍ بَارِدِ
يَا
مَنْ يَلُومُ عَلَى الْهَوَى أَهْلَ الْهَوَى هَلْ تَسْتَطِيعُ صَلَاحَ قَلْبٍ فَاسِدِ
وَإِذَا
صَفَا لَكَ مِنْ زَمَانِكَ وَاحِدٌ نِعْمَ
الصَّدِيقُ وَعِشْ بِذَاكَ الْوَاحِدِ
فلما
أصبح الصباح وأضاء بنور ولاح، انتبه نور الدين من نومه، فرآها أحضرَتِ الماءَ
فاغتسل هو وإياها وأدَّى ما عليه من الصلاة لربه، ثم أتَتْه بما تيسَّرَ من
المأكول والمشروب فأكل وشرب، ثم أدخلَتِ الجاريةُ يدَها تحت المخدة وأخرجت الزنار
الذي صنعَتْه بالليل وناولَتْه إياه، وقالت له: يا سيدي، خُذْ هذا الزنار. فقال
لها: من أين هذا الزنار؟ فقالت له: يا سيدي، هو الحرير الذي اشتريتَه البارحةَ
بالعشرين درهمًا، فقُمْ واذهب به إلى سوق العجم وأعْطِه للدلَّال لينادي عليه، ولا
تَبِعْه إلا بعشرين دينارًا سالمةً ليدك. فقال لها نور الدين: يا سيدة الملاح، هل
شيء بعشرين درهمًا يُباع بعشرين دينارًا يُعمَل في ليلة واحدة؟ قالت له الجارية:
يا سيدي، أنت ما تعرف قيمة هذا، ولكن اذهب به إلى السوق وأعْطِه للدلَّال، فإذا
نادى عليه الدلَّال ظهرَتْ لك قيمته. فعند ذلك أخذ نور الدين الزنارَ من الجارية
وأتى به إلى سوق الأعاجم، وأعطى الزنار للدلَّال وأمره أن ينادي عليه، وقعد نور
الدين على مصطبةِ دكانٍ، فغاب الدلال عنه ساعة، ثم أتى إليه وقال له: يا سيدي، قم
اقبض ثمنَ زنارك، فقد بلغ عشرين دينارًا سالمةً ليدك. فلما سمع نور الدين كلامَ
الدلَّال، تعجَّبَ غايةَ العجب واهتزَّ من الطرب، وقام ليقبض العشرين دينارًا وهو
ما بين مصدِّقٍ ومكذِّبٍ، فلما قبضها ذهب من ساعته واشترى بها كلها حريرًا من سائر
الألوان لتعمله الجارية كله زنانير، ثم رجع إلى البيت وأعطاها الحرير، وقال لها:
اعمليه كله زنانير، وعلِّميني أيضًا حتى أعمل معك، فإني طول عمري ما رأيتُ صنعةً
أحسن من هذه الصنعة، ولا أكثر مكسبًا منها قطُّ، وإنها والله أحسن من التجارة بألف
مرةٍ. فضحكت الجارية من كلامه وقالت له: يا سيدي نور الدين، امضِ إلى صاحبك العطار
واقترِضْ منه ثلاثين درهمًا، وفي غدٍ ادفعها له من ثمن الزنار هي والخمسين درهمًا
التي اقترضْتَها منه قبلها.
فقام
نور الدين وأتى إلى صاحبه العطار وقال له: يا عم، أقرضني ثلاثين درهمًا، وفي غدٍ
إن شاء الله تعالى أجيء لك بالثمانين درهمًا جملةً واحدة. فعند ذلك وزن له الشيخ
العطار ثلاثين درهمًا، فأخذها نور الدين وأتى بها إلى السوق، واشترى بها لحمًا
وخبزًا ونُقْلًا وفاكهة ومشمومًا كمل فعل بالأمس، وأتى بها إلى الجارية، وكان اسم
تلك الجارية مريم الزنارية، فلما أخذت اللحم قامت من وقتها وساعتها وهيَّأَتْ طعامًا
فاخرًا ووضعته قدام سيدها نور الدين، ثم بعد ذلك هيَّأَتْ سفرةَ المُدَام
وتقدَّمَتْ تشرب هي وإياه وصارت تملأ وتسقيه وهو يملأ ويسقيها، فلما لعب المُدَام
بعقلهما أعجبها حُسْن لطافته ورقة معانيه، فأنشدت هذين البيتين:
أَقُولُ
لِأَهْيَفٍ حَيَّا بِكَأْسٍ لَهَا مِنْ مِسْكِ نَكْهَتِهِ خِتَامُ
أَمِنْ
خَدَّيْكَ تُعْصَرُ؟ قَالَ: كَلَّا مَتَّى
عُصِرَتْ مِنَ الْوَرْدِ الْمُدَامُ؟
ولم
تزل تلك الجارية تنادِم نور الدين وينادمها، وتعطيه الكأس والطاس، وتطلب أن يملأ
لها ويسقيها ما تطيب به الأنفاس، وإذا وضع يدَه عليها تتمنَّع منه دلالًا، وقد
زادها السُّكْرُ حُسْنًا وجمالًا، فأنشد هذين البيتين:
وَهَيْفَاءَ
تَهْوَى الرَّاحَ قَالَتْ لِصَبِّهَا
بِمَجْلِسِ أُنْسٍ وَهْوَ يَخْشَى مَلَالَهَا
إِذَا
لَمْ تُدِرْ كَأْسَ الْمُدَامَ وَتَسْقِنِي
أَبِيتُكَ مَهْجُورًا فَخَافَ مُلَالَهَا
ولم
يزالَا كذلك إلى أن غلب عليه السُّكْرُ ونام، فقامت هي من وقتها وساعتها وعملت
شغلها في الزنار على جري عادتها، ولما فرغت أصلحَتْه ولفَّتْه في ورقة، ثم نزعت
ثيابها ونامت بجانبه إلى الصباح. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 876﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن مريم الزنارية لما فرغَتْ من شغل الزنار أصلحَتْه
ولفَّتْه في ورقةٍ، ونزعت ثيابها ونامت بجانبه إلى الصباح، وكان بينهما ما كان من
الوصال، ثم قام نور الدين وقضى شغله وناولَتْه الزنارَ، وقالت له: امضِ به إلى السوق
وبِعْه بعشرين دينارًا كما بِعْتَ نظيره بالأمس. فعند ذلك أخذه ومضى به إلى السوق
وباعه بعشرين دينارًا وأتى إلى العطار ودفع له الثمانين درهمًا، وشكر فضله ودعا
له، فقال: يا ولدي، هل أنت بعتَ الجارية؟ فقال نور الدين: كيف أبيع روحي من جسدي؟
ثم إنه حكى له الحكايةَ من المبتدأ إلى المنتهى، وأخبره بجميع ما جرى له، ففرح
الشيخ العطار بذلك فرحًا شديدًا ما عليه من مزيد، وقال له: والله يا ولدي، إنك قد
فرَّحتني، وإن شاء الله أنت بخيرٍ دائمًا، فإني أودُّ لكَ الخيرَ لمحبتي لوالدك
وبقاء صحبتي معه.
ثم
إن نور الدين فارَقَ الشيخ العطار وراح من وقته وساعته إلى السوق واشترى اللحمَ
والفاكهةَ والشراب، وجميع ما يحتاج إليه على جري العادة، وأتى به إلى تلك الجارية،
ولم يزل نور الدين هو والجارية في أكل وشرب ولعب وانشراح وودٍّ ومنادمة مدةَ سنة،
وهي تعمل في كل ليلة زنارًا، ويصبح يبيعه بعشرين دينارًا ينفق منها ما يحتاج إليه،
والباقي يعطيه لها تحفظه عندها إلى وقت الحاجة إليه، وبعد السنة قالت له الجارية:
يا سيدي نور الدين، إذا بِعْتَ الزنار في غدٍ، فخُذْ لي من حقه حريرًا ملوَّنًا
ستة ألوان، فإنه قد خطر ببالي أن أصنع لك منديلًا تجعله على كتفك، ما فرحت بمثله
أولاد التجار ولا أولاد الملوك. فعند ذلك خرج نور الدين إلى السوق وباع الزنار،
واشترى الحرير الملوَّن كما ذكرَتْ له الجارية وجاء به إليها، فقعدت مريم الزنارية
تصنع في المنديل جمعة كاملة؛ لأنها كلما فرغت من زنار في ليلة تعمل في المنديل
شيئًا إلى أن خلَّصتْه، ثم ناولَتْه لنور الدين فجعله على كتفه، وصار يمشي به في
السوق، فصار التجار والناس وأكابر البلد يقفون عنده صفوفًا ليتفرَّجوا على حُسْنه،
وعلى ذلك المنديل وحُسْن صنعته، فاتفق أن نور الدين كان نائمًا ذات ليلة من
الليالي، فانتبه من منامه فوجد جاريته تبكي بكاءً شديدًا، وتنشد هذه الأبيات:
دَنَا
فِرَاقُ الْحَبِيبِ وَاقْتَرَبَا وَا
حَرَبَا لِلْفِرَاقِ وَا حَرَبَا
تُفَتَّتْ
مُهْجَتِي فَوَا أَسَفِي عَلَى
لَيَالٍ مَضَتْ لَنَا طَرَبَا
لَا
بُدَّ أَنْ يَنْظُرَ الْحَسُودُ لَنَا
بِعَيْنِ سُوءٍ وَيَبْلُغَ الْأَرَبَا
فَمَا
عَلَيْنَا أَضَرُّ مِنْ حَسَدٍ وَمِنْ
عُيُونِ الْوُشَاةِ وَالرُّقَبَا
فقال
لها نور الدين: يا سيدتي مريم، ما لكِ تبكين؟ فقالت له: أبكي من ألم الفراق، فقد
أحَسَّ قلبي به. فقال لها: يا سيدة الملاح، ومَن الذي يفرِّق بيننا، وأنا الآن
أحَبُّ الخلقِ إليك وأعشقهم لك؟ فقالت له: إن عندي أضعافَ ما عندك، ولكنَّ حُسْنَ
الظن بالليالي يُوقِع الناس في الأسف، ولقد أحسن الشاعر حيث قال:
أَحْسَنْتَ
ظَنَّكَ بِالْأَيَّامِ إِذْ حَسُنَتْ
وَلَمْ تَخَفْ سُوءَ مَا يَأْتِي بِهِ الْقَدَرُ
وَسَالَمَتْكَ
اللَّيَالِي فَاغْتَرَرْتَ بِهَا وَعِنْدَ
صَفْوِ اللَّيَالِي يَحْدُثُ الْكَدَرُ
وَفِي
السَّمَاءِ نُجُومٌ لَا عِدَادَ لَهَا
وَلَيْسَ يَكْلَفُ إِلَّا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
وَكَمْ
عَلَى الْأَرْضِ مِنْ خَضْرَاءَ يَابِسَةٍ
وَلَيْسَ يُرْجَمُ إِلَّا مَا لَهُ ثَمَرُ
أَمَا
تَرَى الْبَحْرَ تَعْلُو فَوْقَهُ جِيَفٌ
وَتَسْتَقِرُّ بِأَقْصَى قَاعِهِ الدُّرَرُ
ثم
قالت: يا سيدي نور الدين، إذا كنتَ تحرص على عدم الفراق، فخُذْ حذرَكَ من رجلٍ
إفرنجي أعورِ العين اليمنى، وأعرجِ الرِّجلِ الشمال، وهو شيخٌ أغبرُ الوجه مكلثم
اللحية؛ لأنه هو الذي يكون سببًا لفراقنا، وقد رأيتُه أتى في تلك المدينة، وأظنُّ
أنه ما جاء إلا في طلبي. فقال لها نور الدين: يا سيدة الملاح، إن وقع بصري عليه
قتلتُه ومثَّلْتُ به. فقالت له مريم: يا سيدي، لا تَقْتله ولا تكلِّمه، ولا تبايعه
ولا تُشارِيه، ولا تعامله ولا تجالِسه ولا تُماشِيه، ولا تتحدَّث معه بكلامٍ قطُّ،
وادعُ الله أن يكفينا شرَّه ومكْرَه. فلما أصبح الصباح أخذ نور الدين الزنار وذهب
به إلى السوق وجلس على مصطبة دكان يتحدَّث هو وأولاد التجار، فأخذته سِنةٌ من
النوم، فنام على مصطبة الدكان، فبينما هو نائم وإذا بذلك الإفرنجي مرَّ على ذلك
السوق في تلك الساعة، ومعه سبعة من الإفرنج، فرأى نور الدين نائمًا على مصطبة
الدكان ووجهه ملفوف بذلك المنديل، وطرفه في يده، فقعد الإفرنجي عنده وأخذ طرف
المنديل وقلَّبَه في يده، واستمرَّ يقلِّب فيه ساعة، فأحَسَّ به نور الدين فأفاق
من النوم، فرأى الإفرنجي الذي وصفَتْه الجارية بعينه جالسًا عند رأسه، فصرخ عليه
نور الدين صرخةً عظيمةً أرعبته، فقال له الإفرنجي: لأي شيء تصرخ علينا؟ هل نحن
أخذنا منك شيئًا؟ فقال له نور الدين: والله يا ملعون لو كنتَ أخذْتَ مني شيئًا
لَكنتُ ذهبتُ بك إلى الوالي. فقال له الإفرنجي: يا مسلم، بحقِّ دينك وما تعتقده أن
تخبرني من أين لك هذا المنديل؟ فقال له نور الدين: هو شغلُ والدتي. وأدرك شهرزاد
الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 877﴾
قالت: بلغني أيها الملك السعيد،
أن الإفرنجي لما سأل نور الدين عن الذي عمل المنديل قال له: إن هذا المنديل شغل
والدتي عملته لي بيدها. فقال له الإفرنجي: أتبيعه لي وتأخذ ثمنه مني؟ فقال له نور
الدين: والله يا ملعون لا أبيعه لك ولا لغيرك، فإنها ما عملَتْه إلا على اسمي، ولم
تعمل غيره. فقال له: بِعْه لي وأنا أعطيك ثمنه في هذه الساعة خمسمائة دينار، ودَعِ
التي عملته تعمل لك غيره أحسن منه. فقال له نور الدين: أنا ما أبيعه أبدًا؛ لأنه
لا نظيرَ له في هذه المدينة. فقال له الإفرنجي: يا سيدي، وهل تبيعه بستمائة دينار
من الذهب الخالص؟ ولم يزل يزيده مائة بعد مائة إلى أن أوصله إلى تسعمائة دينار.
فقال له نور الدين: يفتح الله، عليَّ بغير بيعه، أنا ما أبيعه ولا بألفَيْ دينار
ولا بأكثر أبدًا. ولم يزل ذلك الإفرنجي يرغِّب نور الدين بالمال في ذلك المنديل
إلى أن أوصله إلى ألف دينار، فقال له جماعة من التجار الحاضرين: نحن بعناك هذا
المنديل، فادفع ثمنه. فقال نور الدين: أنا ما أبيعه والله. فقال له تاجر من
التجار: اعلم يا ولدي أن هذا المنديل قيمته مائة دينار إنْ كثرت ووُجِد له راغب،
وأن هذا الإفرنجي دفع فيه ألف دينار جملةً، فربحك تسعمائة دينار، فأي ربح تريد
أكثر من هذا الربح؟ فالرأي عندي أنك تبيع هذا المنديل وتأخذ الألف دينار، وتقول
للتي عملَتْه لك تعمل لك غيره أو أحسن منه، واربح أنت الألف دينار من هذا الإفرنجي
الملعون عدو الدين. فاستحى نور الدين من التجار وباع الإفرنجي المنديلَ بألف
دينار، ودفع له الثمن في الحضرة، وأراد نور الدين أن ينصرف ويمضي إلى جاريته مريم
ليبشِّرَها بما كان من أمر الإفرنجي، فقال الإفرنجي: يا جماعة التجار، احجزوا نور
الدين فإنكم وإياه ضيوفي في هذه الليلة، فإن عندي بتيةُ خمرٍ رومي من معتق الخمر،
وخروفًا سمينًا، وفاكهةً ونُقْلًا ومشمومًا، فأنتم تؤانسوننا في هذه الليلة، ولا
يتأخَّر منكم أحدٌ. فقال التاجر: يا سيدي نور الدين، نشتهي أن تكون معنا في مثل
هذه الليلة لنتحدَّثَ وإياك، فمن فضلك وإحسانك أن تكون معنا، فنحن وإياك ضيوف عند
هذا الإفرنجي؛ لأنه رجل كريم. ثم إنهم حلفوا عليه بالطلاق، ومنعوه بالغصب عن
الرواح إلى بيته، ثم قاموا من وقتهم وساعتهم وقفلوا الدكاكين، وأخذوا نور الدين
معهم وراحوا مع الإفرنجي إلى قاعة مُطيَّبة رحيبة بليوانَيْن، فأجلسهم فيها ووضع
بين أيديهم سفرة غريبة الصنع بديعة العمل، فيها صورة كاسر ومكسور، وعاشق ومعشوق،
وسائل ومسئول، ثم وضع الإفرنجي على تلك السفرة الأواني النفيسة من الصيني والبلور،
وكلها مملوءة بنفائس النُّقْل والفاكهة والمشموم، ثم قدَّمَ لهم الإفرنجي بتيةً
ملآنة بالخمر الرومي المعتَّق، وأمر بذبح خروف سمين.
ثم
إن الإفرنجي أوقَدَ النارَ وصار يشوي من ذلك اللحم ويُطعِم التجار ويسقيهم من ذلك
الخمر، ويغمزهم على نور الدين أن ينزلوا عليه بالشراب، فلم يزالوا يسقونه حتى سكر
وغاب عن وجوده، فلما رآه الإفرنجي مستغرقًا في السُّكْر قال: آنستنا يا سيدي نور
الدين في هذه الليلة، فمرحبًا بك، ثم مرحبًا بك. وصار الإفرنجي يؤانسه بالكلام، ثم
تقرَّبَ منه وجلس بجانبه وسارَقَه في الحديث ساعةً زمانية، ثم قال له: يا سيدي نور
الدين، هل تبيعني جاريتك التي اشتريتها بحضرة هؤلاء التجار بألف دينار من مدة سنة،
وأنا أعطيك في ثمنها الآن خمسة آلاف دينار؟ فأبَى نور الدين ولم يزل ذلك الإفرنجي يُطعِمه
ويسقيه ويرغِّبه في المال، حتى أوصَلَ الجارية إلى عشرة آلاف دينار؛ فقال نور
الدين وهو في سُكْره قدامَ التجار: بِعْتُكَ إياها، هات العشرة آلاف دينار. ففرح
الإفرنجي بذلك القول فرحًا شديدًا، وأشهَدَ عليه التجار وباتوا في أكل وشرب
وانشراح إلى الصباح.
ثم
صاح الإفرنجي على غلمانه وقال لهم: ائتوني بالمال. فأحضروا له المال، فعَدَّ لنور
الدين العشرة آلاف دينار نقدًا وقال له: يا سيدي نور الدين، تسلَّمْ هذا المال ثمن
جاريتك التي بِعْتَها لي الليلةَ بحضرة هؤلاء التجار المسلمين. فقال نور الدين: يا
ملعون، أنا ما بِعْتُكَ شيئًا، وأنت تكذب عليَّ وليس عندي جوارٍ. فقال له
الإفرنجي: قد بعتَني جاريتك، وهؤلاء التجار يشهدون عليك بالبيع. فقال التجار كلهم:
نعم يا نور الدين، أنت بِعْتَه جاريتك قدامنا، ونحن نشهد عليك أنك بعته إياها
بعشرة آلاف دينار، قُمِ اقبض الثمن وسلِّم إليه الجارية، والله يعوِّضك خيرًا
منها، أتكره يا نور الدين أنك اشتريت جاريةً بألف دينار ولك سنة ونصف تتمتَّع
بحُسْنها وجمالها، وتتلذَّذ في كل يوم وليلة بمُنادَمتها ووصالها، وبعد ذلك ربحتَ
من هذه الجارية تسعةَ آلاف دينار فوق ثمنها الأصلي، وفي كل يوم تعمل لك منديلًا
تبيعه بعشرين دينارًا، وبعد ذلك كله تُنكِر البيع وتستقلُّ الربح؟ أي ربحٍ أكثر من
هذا الربح؟ وأي مكسبٍ أكثر من هذا المكسب؟ فإن كنتَ تحبها، فها أنت قد شبعتَ منها
في هذه المدة، فاقبض الثمن واشترِ غيرها أحسن منها، أو نزوِّجك بنتًا من بناتنا
بمهرٍ أقل من نصف هذا الثمن، وتكون البنت أجمل منها، ويصير معك باقي المال رأسَ
مالٍ في يدك. ولم يزل التجار يتكلمون مع نور الدين بالملاطفة والمخادعة إلى أن قبض
العشرة آلاف دينار ثمن الجارية، وأحضر الإفرنجي من وقته وساعته القضاة والشهود،
فكتبوا له حجَّةً باشتراء الجارية التي اسمها مريم الزنارية من نور الدين.
هذا
ما كان من أمر نور الدين، وأما ما كان من أمر مريم الزنارية، فإنها قعدت تنتظر
سيدها جميع ذلك اليوم إلى المغرب، ومن المغرب إلى نصف الليل، فلم يَعُدْ إليها
سيدها، فجزعت وصارت تبكي بكاءً شديدًا، فسمعها الشيخ العطار وهي تبكي، فأرسل إليها
زوجته، فدخلَتْ عليها فرأتها تبكي، فقالت لها: يا سيدتي، ما لكِ تبكين؟ فقالت لها:
يا أمي، إني قعدتُ أنتظر مجيءَ سيدي نور الدين، فما جاء إلى هذا الوقت، وأنا خائفة
أن يكون أحدٌ عمل عليه حيلة من أجلي لأجل أن يبيعني، فدخلت عليه الحيلة وباعني.
وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 878﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن مريم الزنارية قالت لزوجة العطار: أنا خائفة أن يكون
أحدٌ عملَ على سيدي حيلةً من شأني لأجل أن يبيعني، فدخلت عليه الحيلة وباعني.
فقالت لها زوجة العطار: يا سيدتي مريم، لو أعطَوْا سيدك فيك ملْءَ هذه القاعة
ذهبًا لم يبعك لما أعرفه من محبَّتِه لك، ولكن يا سيدتي مريم ربما يكون جماعة
أتَوْا من مدينة مصر من عند والدته، فعمل لهم عزومةً في المحل الذي هم نازلون فيه،
واستحى أن يأتي بهم إلى هذا المحل لأنه لا يسعهم، أو لأن مَرْتبتَهم أقلُّ من أن
يجيء بهم إلى البيت، أو أحَبَّ أن يخفي أمرك عنهم، فبات عندهم إلى الصباح ويأتي إن
شاء الله تعالى إليك في غدٍ بخير، فلا تحمِّلي نفسك همًّا ولا غمًّا يا سيدتي،
فهذا سبب غيابه عنكِ في هذه الليلة، وها أنا أبيت عندك في هذه الليلة وأسليك إلى
أن يأتي إليك سيدك. ثم إن زوجة العطار صارت تلاهي مريم وتسلِّيها بالكلام إلى أن
ذهب الليل كله، فلما أصبح الصباح نظرت مريم سيدها نور الدين وهو داخل من الزقاق،
وذلك الإفرنجي وراءه وجماعة التجار حواليه، فلما رأتهم مريم ارتعدَتْ فرائصُها
واصفرَّ لونها، وصارت ترتعد كأنها سفينة في وسط بحر مع شدة الريح، فلما رأتها
امرأة العطار قالت لها: يا سيدتي مريم، ما لي أراكِ قد تغيَّرَ حالك، واصفرَّ
وجهك، وزاد بك الذبول؟ فقالت لها الجارية: يا سيدتي، والله إن قلبي قد أحسَّ
بالفراقِ وبُعْد التلاقي. ثم إن الجارية تأوَّهَتْ بتصاعد الزفرات، وأنشدت هذه
الأبيات:
لَا
تَرْكَنَنَّ إِلَى الْفِرَاقِ فَإِنَّهُ
مُرُّ الْمَذَاقِ
الشَّمْسُ
عِنْدَ غُرُوبِهَا تَصْفَرُّ مِنْ
أَلَمِ الْفِرَاقِ
وَكَذَاكَ
عِنْدَ شُرُوقِهَا تَبْيَضُّ مِنْ
فَرَحِ التَّلَاقِي
ثم
إن مريم الزنارية بكَتْ بكاءً شديدًا ما عليه مزيد، وتيقَّنَتِ الفراقَ وقالت
لزوجة العطار: يا سيدتي، أَمَا قلتُ لك إن سيدي نور الدين قد عُمِلت عليه حيلة من
أجل بيعي؟ فما أشكُّ أنه باعني في هذه الليلة لهذا الإفرنجي، وقد كنتُ حذَّرْتُه
منه، ولكن لا ينفع حذر من قدر؛ فقد بانَ لكِ صدْقُ قولي. فبينما هي وزوجة العطار
في الكلام، وإذا بسيدها نور الدين قد دخل عليها في تلك الساعة، فنظرت إليه الجارية
فرأَتْه قد تغيَّرَ لونه، وارتعدَتْ فرائصُه، ويَلُوح على وجهِهِ أثرُ الحزن
والندامة، فقالت له: يا سيدي نور الدين، كأنك بعتَني؟ فبكى بكاءً شديدًا وتأوَّهَ وتنفَّسَ
الصعداء، وأنشد هذه الأبيات:
هِيَ
الْمَقَادِيرُ فَمَا يُغْنِي الْحَذَرْ
إنْ كُنْتَ أَخْطَأْتَ فَمَا أَخْطَا الْقَدَرْ
فَإِذَا
أَرَادَ اللهُ أَمْرًا بِامْرِئٍ وَكَانَ
ذَا عَقْلٍ وَسَمْعٍ وَبَصَرْ
أَصَمَّ
أُذْنَيْهِ وَأَعْمَى عَيْنَهُ وَسَلَّ
مِنْهُ عَقْلَهُ سَلَّ الشَّعَرْ
حَتَّى
إِذَا أَنْفَذَ فِيهِ حُكْمَهُ رَدَّ
إِلَيْهِ عَقْلَهُ لِيَعْتَبِرْ
فَلَا
تَقُلْ فِيمَا جَرَى كَيْفَ جَرَى فَكُلُّ
شَيْءٍ بِقَضَاءٍ وَقَدَرْ
ثم
إن نور الدين اعتذر إلى الجارية وقال لها: والله يا سيدتي مريم، إنه قد جرى القلم
بما الله حكم، والناس قد عملوا عليَّ حيلةً من أجل بيعك، فدخلَتْ عليَّ الحيلة
فبِعْتُكِ وقد فرَّطتُ فيك أعظمَ تفريط، ولكنْ عسى مَن حكَمَ بالفراقِ أن يمنَّ
بالتلاقي. فقالت له: قد حذَّرْتُكَ من هذا وكان في وهمي. ثم ضمَّتْه إلى صدرها
وقبَّلَتْه ما بين عينَيْه، وأنشدَتْ هذه الأبيات:
وَحَقِّ
هَوَاكُمْ مَا سَلَوْتُ وِدَادَكُمْ
وَلَوْ تَلِفَتْ رُوحِي هَوًى وَتَشَوُّقَا
أَنُوحُ
وَأَبْكِي كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ كَمَا
نَاحَ قُمْرِيٌّ عَلَى شَجَرِ النَّقَا
تَنَغَّصَ
عَيْشِي بَعْدَكُمْ يَا أَحِبَّتِي مَتَى
غِبْتُمُ عَنِّي فَمَا لِيَ مُلْتَقَى
فبينما
هما على هذه الحالة، وإذا بالإفرنجي قد طلع عليهما وتقدَّمَ ليقبِّل أيادي السيدة
مريم، فلطمَتْه بكفِّها على خده وقالت له: ابعد يا ملعون، فما زلت ورائي حتى
خدعْتَ سيدي، ولكن يا ملعون إن شاء الله تعالى لا يكون إلا خيرًا. فضحك الإفرنجي
من قولها، وتعجَّبَ من فعلها، واعتذر إليها وقال لها: يا سيدتي مريم، أيُّ شيءٍ
ذنبي أنا؟ وإنما سيدك نور الدين هذا هو الذي باعك برضا نفسه وطِيبِ خاطره، وإنه
وحقِّ المسيح لو كان يحبك ما فرَّطَ فيك، ولولا أنه فرغ غرضه منك ما باعك، وقد قال
بعض الشعراء:
مَنْ
مَلَّنِي فَلْيَمْضِ عَنِّي عَامِدًا
إِنْ عُدْتُ أَذْكُرُهُ فَلَسْتُ بِرَاشِدِ
مَا
ضَاقَتِ الدُّنْيَا عَلَيَّ بِأَسْرِهَا
حَتَّى تَرَانِي رَاغِبًا فِي زَاهِدِ
وقد
كانت هذه الجارية بنت ملك إفرنجة، وهي مدينة واسعة الجهات كثيرة الصنائع والغرائب
والبنات، تشبه مدينة القسطنطينية، وقد كان لخروج تلك الجارية من مدينة أبيها حديثٌ
غريب وأمرٌ عجيب، نسوقه على الترتيب حتى يطرب السامع ويطيب. وأدرك شهرزاد الصباح،
فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 879﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أنَّ لخروج مريم الزنارية من عند أبيها وأمها سببًا
عجيبًا وأمرًا غريبًا؛ وذلك أنها تربَّتْ عند أبيها وأمها في العزِّ والدلال،
وتعلَّمَتِ الفصاحةَ والكتابةَ والحساب والفروسية والشجاعة، وتعلَّمَتْ جميعَ
الصنائع مثل الزركشة والخياطة والحياكة وصنعة الزنار والعقادة، ورمي الذهب على
الفضة، والفضة على الذهب، وتعلَّمَتْ جميعَ صنائع الرجال والنساء حتى صارت فريدةَ
زمانِها ووحيدةَ عصرها وأوانها، وقد أعطاها الله عزَّ وجلَّ من الحُسْن والجمال
والظرف والكمال، ما فاقَتْ به على جميع أهل عصرها، فخطبها ملوك الجزائر من أبيها،
وكلُّ مَن خطبها منه يأبى أن يزوِّجَها له؛ لأنه كان يحبُّها حبًّا عظيمًا، ولا
يقدر على فراقها ساعةً واحدة، ولم يكن عنده بنت غيرها، وكان معه من الأولاد الذكور
كثير، ولكنه كان مشغوفًا بحبها أكثر منهم؛ فاتفق أنها مرضَتْ في بعض السنين مرضًا
شديدًا حتى أشرفت على الهلاك، فنذرَتْ على نفسها أنها إذا عُوفِيت من هذا المرض
تزور الديرَ الفلاني الذي في الجزيرة الفلانية، وكان ذلك الدير معظَّمًا عندهم،
ويُنذِرون له النذورَ ويتبرَّكون به، فلما عُوفِيت مريم من مرضها أرادَتْ أن
توفِّي بنذرها الذي نذرَتْه على نفسها لذلك الدير، فأرسَلَها والدها ملك إفرنجة
إلى ذلك الدير في مركب صغير، وأرسل معها بعضًا من بنات أكابر المدينة ومن البطارقة
لأجل خدمتها، فلما قَرُبتْ من الدير خرجَ مركب من مراكب المسلمين المجاهدين في
سبيل الله، فأخذوا جميعَ ما في تلك المركب من البطارقة والبنات والأموال
والتُّحَف، فباعوا ما أخذوه من مدينة القيروان، فوقعَتْ مريم في يدِ رجلٍ أعجمي
تاجرٍ من التجار، قد كان ذلك الأعجمي عنينًا لا يأتي النساء، ولم تنكشف له عورةٌ
على امرأةٍ فجعلها للخِدْمة، ثم إن ذلك الأعجمي مرضَ مرضًا شديدًا حتى أشرَفَ على
الهلاك، وطال عليه المرض مدة شهور، فخدمته مريم وبالغَتْ في خدمته إلى أنْ عافاه
الله من مرضه، فتذكَّرَ ذلك الأعجمي منها الشفقة والحنية عليه والقيام بخدمته،
فأراد أن يُكافِئَها على ما فعلَتْه معه من الجميل، فقال لها: تمنِّي عليَّ يا
مريم. فقالت: يا سيدي، تمنَّيْتُ عليك ألَّا تبيعني إلا لمَن أريده وأحبه. فقال
لها: نعم، لك عليَّ ذلك، والله يا مريم ما أبيعك إلا لمَن تريدينه، وقد جعلتُ بيعك
بيدك. ففرحت فرحًا شديدًا، وكان الأعجمي قد عرض عليها الإسلام فأسلَمَتْ،
وعلَّمَها العبادات فتعلَّمَتْ من ذلك الأعجمي في تلك المدة أمرَ دينها، وما وجب
عليها، وحفَّظَها القرآن وما تيسَّرَ من العلوم الفقهية والأحاديث النبوية، فلما
دخل بها مدينة إسكندرية باعَها لمَن أرادَتْه، وجعل بيعها بيدها كما ذكرنا، فأخذها
علي نور الدين كما أخبرنا.
هذا
ما كان من سبب خروجها من بلادها، وأما ما كان من أمر أبيها ملك إفرنجة، فإنه لما
بلغه أمرُ ابنته ومَن معها، قامت عليه القيامة وأرسَلَ خلفَها المراكب، وصحبتهم
البطارقة والفرسان والرجال الأبطال، فلم يقعوا لها على خبرٍ بعدَ التفتيش في جزائر
المسلمين، ورجعوا إلى أبيها بالويل والثُّبُور وعظائم الأمور؛ فحزن عليها أبوها
حزنًا شديدًا، فأرسل وراءها ذلك الأعوار اليمين والأعرج الشمال؛ لأنه كان أعظم
وزرائه، وكان جبَّارًا عنيدًا ذا حِيَلٍ وخداع، وأمره أن يفتِّشَ عليها في جميع
بلاد المسلمين ويشتريها ولو بملءِ مركبٍ ذهبًا، ففتَّشَ عليها ذلك الملعون في
جزائر البحار وسائر المدن، فلم يقع لها على خبر، إلى أن وصل إلى مدينة إسكندرية
وسأل عنها، فوقع على خبرها عند نور الدين علي المصري، فجرى له معه ما جرى، وعمل
عليه الحيلة حتى اشتراها منه كما ذكرنا بعد الاستدلال عليها بالمنديل الذي لا
يُحسِن صنعتَه غيرها، وكان قد وصَّى التجار واتَّفَق معهم على خلاصها بالحيلة،
فلما صارت عنده مكثَتْ في بكاءٍ وعويل، فقال لها: يا سيدتي مريم، خلِّي عنك هذا
الحزن والبكاء، وقومي معي إلى مدينة أبيك ومحل مملكتك، ومنزل عزِّكِ ووطنك، لتكوني
بين خَدَمِكِ وغلمانك، واتركي هذا الذلَّ وهذه الغربة، ويكفي ما قد حصل لي من
التعب والسفر من أجلك وصرف الأموال، فإن لي في السفر والتعب وصرف الأموال نحوَ
سنةٍ ونصف، وقد أمرني والدك أن أشتريك ولو بملءِ مركبٍ ذهبًا.
ثم
إن وزير ملك إفرنجة صار يقبِّل قدمَيْها ويتخضَّع لها، ولم يَزَلْ يكرِّر تقبيلَ
يدَيْها وقدمَيْها ويزداد غضبها عليه كلما فعل ذلك أدبًا معها، وقالت له: يا
ملعون، الله تعالى لا يبلِّغك ما في مرادك. ثم قدَّمَ إليها الغلمان في تلك
الساعةِ بغلةً بسرْجٍ مزركش، وأركبوها عليها، ورفعوا فوق رأسها سحابةً من حرير
بعواميد من ذهب وفضة، وصار الإفرنج يمشون حولها حتى طلعوا بها من باب البحر
وأنزلوها في قارب صغير، وصاروا يجدِّفون بها إلى أن أوصلوها إلى المركب الكبير
وأنزلوها فيه؛ فعند ذلك نهض الوزير الأعور وقال لبحرية المركب: ارفعوا الصاري.
فرفعوه من وقتهم وساعتهم، ونشروا القلوع والأعلام، ونشروا القطن والكتان، وأعملوا
المجاديف، وسافر بهم ذلك المركب. هذا كله ومريم تنظر ناحيةَ إسكندرية حتى غابت عن
عينها، فصارت تبكي في سرِّها بكاءً شديدًا. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن
الكلام المباح.
﴿اللیلة 880﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن وزير ملك إفرنجة لما سافَرَ بهم المركب وفيه مريم الزنارية،
صارت تنظر إلى ناحية إسكندرية حتى غابَتْ عن عينها، فبكَتْ وانتحبَتْ وسكبَتِ
العَبَرات، وأنشدت هذه الأبيات:
أَيَا
مَنْزِلَ الْأَحْبَابِ هَلْ لَكَ عَوْدَةٌ
إِلَيْنَا وَمَا عِلْمِي بِمَا اللهُ صَانِعُ
فَسَارَتْ
بِنَا سُفُنُ الْفِرَاقِ وَأَسْرَعَتْ
وَطَرْفِي قَرِيحٌ قَدْ مَحَتْهُ الْمَدَامِعُ
لِفُرْقَةِ
خِلٍّ كَانَ غَايَةَ مَقْصِدِي بِهِ
يُشْتَفَى سَقْمِي وَتُمْحَى الْمَوَاجِعُ
أَلَا
يَا إِلَهِي كُنْ عَلَيْهِ خَلِيفَتِي
فَعِنْدَكَ يَوْمًا لَا تَضِيعُ الْوَدَائِعُ
ولم
تزل مريم كلما تذكَّرتْه تبكي وتنوح، فأقبَلَ عليها البطارقة يلاطفونها، فلم تقبل
منهم كلامًا، بل شغلها داعي الوَجْدِ والغرام، ثم إنها بكَتْ وأنَّتْ واشتكَتْ،
وأنشدت هذه الأبيات:
لِسَانُ
الْهَوَى فِي مُهْجَتِي لَكَ نَاطِقُ
يُخَبِّرُ عَنِّي أَنَّنِي لَكَ عَاشِقُ
وَلِي
كَبِدٌ جَمْرُ الْهَوَى قَدْ أَذَابَهَا
وَقَلْبِي جَرِيحٌ مِنْ فِرَاقِكَ خَافِقُ
وَكَمْ
أَكْتُمُ الْحُبَّ الَّذِي قَدْ أَذَابَنِي
فَجَفْنِي قَرِيحٌ وَالدُّمُوعُ سَوَابِقُ
ولم
تَزَلْ مريم على هذه الحالة لا يقر لها قرار، ولا يطاوعها اصطبار مدةَ سفَرِها.
هذا ما كان من أمرها هي والوزير الأعور، وأما ما كان من أمر نور الدين علي المصري
ابن التاجر تاج الدين، فإنه بعد نزول مريم المركب وسفرها، ضاقت عليه الدنيا وصار
لا يقرُّ له قرار، ولا يطاوعه اصطبار، فتوجَّهَ إلى القاعة التي كان مُقِيمًا بها
هو ومريم، فرآها في وجهه سوداء مُظلِمة، ورأى العدَّةَ التي كانت تشتغل عليها
الزنانير، وثيابَها التي كانت على جسدها، فضَمَّها إلى صدره وبكى، وفاضت من جفْنِه
العَبَرات، وأنشد هذه الأبيات:
تُرَى
هَلْ يَعُودُ الشَّمْلُ بَعْدَ تَشَتُّتِي
وَبَعْدَ تَوَالِي حَسْرَتِي وَتَلَفُّتِي
فَهَيْهَاتِ
مَا قَدْ كَانَ لَيْسَ بِرَاجِعٍ فَيَا
هَلْ تُرَى أَحْظَى بِوَصْلِ حَبِيبَتِي
وَيَا
هَلْ تُرَى قَدْ يَجْمَعُ اللهُ شَمْلَنَا
وَيَذْكُرُ أَحْبَابِي عُهُودَ مَوَدَّتِي
وَيَحْفَظُ
وُدِّي مَنْ بِجَهْلِي أَضَعْتُهُ وَيَرْعَى
عُهُودِي ثُمَّ سَالِفَ صُحْبَتِي
فَمَا
أَنَا إِلَّا مَيِّتٌ بَعْدَ بُعْدِهِمْ
وَهَلْ تَرْتَضِي الْأَحْبَابُ يَوْمًا مَنِيَّتِي
فَيَا
أَسَفِي إِنْ كَانَ يُجْدِي تَأَسُّفِي
لَقَدْ ذُبْتُ وَجْدًا مِنْ تَزَايُدِ حَسْرَتِي
وَضَاعَ
زَمَانٌ كَانَ فِيهِ تَوَاصُلِي فَيَا
هَلْ تُرَى دَهْرِي يَجُودُ بِمُنْيَتِي
فَيَا
قَلْبُ زِدْ وَجْدًا وَيَا عَيْنُ أَهْمِلِي دُمُوعًا وَلَا تُبْقِي الدُّمُوعَ
بِمُقْلَتِي
وَيَا
بُعْدَ أَحْبَابِي وَفَقْدَ تَصَبُّرِي
وَقَدْ قَلَّ أَنْصَارِي وَزَادَتْ بَلِيَّتِي
سَأَلْتُ
إِلَهِي أَنْ يُتَمِّمَ فَرْحَتِي بِعَوْدِ
حَبِيبِي وَالْوِصَالِ كَعَادَتِي
ثم
إن نور الدين بكى بكاءً شديدًا ما عليه من مزيد، ونظر إلى زوايا القاعة وأنشد هذين
البيتين:
أَرَى
آثَارَهُمْ فَأَذُوبُ شَوْقًا وَأُجْرِي
فِي مَوَاطِنِهِمْ دُمُوعِي
وَأَسْأَلُ
مَنْ قَضَى بِالْبُعْدِ عَنْهُمْ يَمُنُّ
عَلَيَّ يَوْمًا بِالرُّجُوعِ
ثم
إن نور الدين نهض من وقته وساعته، وقفل باب الدار وخرج يجري إلى البحر، وصار
يتأمَّل في موضع المركب الذي سافر بمريم، ثم بكى وصعَّد الزَّفَرات، وأنشد هذه
الأبيات:
سَلَامٌ
عَلَيْكُمْ لَيْسَ لِي عَنْكُمُ غِنًى
وَإِنِّي عَلَى الْحَالَيْنِ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ
أَحِنُّ
إِلَيْكُمْ كُلَّ وَقْتٍ وَسَاعَةٍ وَأَشْتَاقُكُمْ
شَوْقَ الْعِطَاشِ إِلَى الْوَرْدِ
وَعِنْدَكُمُ
سَمْعِي وَلُبِّي وَنَاظِرِي وَتَذْكَارُكُمْ
عِنْدِي أَلَذُّ مِنَ الشَّهْدِ
فَيَا
أَسَفِي لَمَّا اسْتَقَلَّتْ رِكَابُكُمْ
وَحَادَتْ بِكُمْ تِلْكَ السَّفِينَةُ عَنْ قَصْدِي
ثم
إن نور الدين ناح وبكى، وأَنَّ وحَنَّ واشتكى، ونادى: يا مريم، يا مريم، هل كانت
رؤيتي لك في المنام أم أضغاث أحلام؟ ولمَّا زادت به الحسرات أنشد هذه الأبيات:
فَهَلْ
بَعْدَ هَذَا الْبُعْدِ عَيْنِي تَرَاكُمُ
وَأَسْمَعُ مِنْ قُرْبِ الدِّيَارِ نِدَاكُمُ
وَتَجْمَعُنَا
الدَّارُ الَّتِي أَنِسَتْ بِنَا وَأُعْطَى
مُنَى قَلْبِي وَأَنْتُمْ مُنَاكُمُ
خُذُوا
لِعِظَامِي أَيْنَ سِرْتُمْ مَحَفَّةً
وَأَيْنَ حَلَلْتُمْ فَادْفُنُونِي حِذَاكُمُ
فَلَوْ
كَانَ لِي قَلْبَانِ عِشْتُ بِوَاحِدٍ
وَأَتْرُكُ قَلْبًا مُغْرَمًا فِي هَوَاكُمُ
وَلَوْ
قِيلَ لِي مَاذَا عَلَى اللهِ تَشْتَهِي
لَقُلْتُ رِضَا الرَّحْمَنِ ثُمَّ رِضَاكُمُ
فبينما
نور الدين على هذه الحالة يبكي ويقول: يا مريم، يا مريم. وإذا بشيخٍ قد طلع من
مركب وأقبَلَ عليه، فرآه يبكي وينشد هذين البيتين:
يَا
مَرْيَمَ الْحُسْنِ عُوْدِي إِنَّ لِي مُقَلًا سَحَائِبُ الْمُزْنِ تَجْرِي مِنْ
سَوَاكِبِهَا
وَاسْتَخْبِرِي
عُذَّلِي دُونَ الْأَنَامِ تَرِي أَجْفَانَ
عَيْنَيَّ غَرْقَى فِي كَوَاكِبِهَا
فقال
له الشيخ: يا ولدي، كأنك تبكي على الجارية التي سافرَتِ البارحةَ مع الإفرنجي.
فلما سمع نور الدين كلامَ الشيخ خرَّ مغشيًّا عليه ساعةً زمانية، ثم أفاق وبكى
بكاءً شديدًا ما عليه من مزيد، وأنشد هذه الأبيات:
فَهَلْ
بَعْدَ هَذَا الْبُعْدِ يُرْجَى وِصَالُهَا
وَلَذَّةُ أُنْسِي قَدْ يَعُودُ كَمَالُهَا
فَإِنَّ
بِقَلْبِي لَوْعَةً وَصَبَابَةً وَيُزْعِجُنِي
قِيلُ الْوُشَاةِ وَقَالُهَا
أُقِيمُ
نَهَارِي بَاهِتًا مُتَحَيِّرًا وَفِي
اللَّيْلِ أَرْجُو أَنْ يَزُورَ خَيَالُهَا
فَوَاللهِ
لَا أَسْلُو عَنِ الْعِشْقِ سَاعَةً
وَكَيْفَ وَنَفْسِي فِي الْوُشَاةِ مُلَالُهَا
مُنَعَّمَةُ
الْأَطْرَافِ مَهْضُومَةُ الْحَشَا لَهَا
مُقْلَةٌ فِي الْقَلْبِ مِنِّي نِبَالُهَا
يُحَاكِي
قَضِيبَ الْبَانِ فِي الرَّوْضِ قَدُّهَا
وَيُخْجِلُ ضَوْءَ الشَّمْسِ حُسْنًا جَمَالُهَا
وَلَوْلَا
أَخَافُ اللهَ جَلَّ جَلَالُهُ لَقُلْتُ
لِذَاتِ الْحُسْنِ: جَلَّ جَلَالُهَا
فلما
نظر ذلك الشيخ إلى نور الدين ورأى جماله وقَدَّه واعتداله، وفصاحةَ لسانه ولطفَ
افتتانه، حزن قلبه عليه ورَقَّ لحاله، وكان ذلك الشيخ رئيسَ مركبٍ مسافرة إلى
مدينة تلك الجارية، وفيها مائة تاجر من تجَّار المسلمين المؤمنين؛ فقال له: اصبر
ولا يكون إلا خير، فإن شاء الله سبحانه وتعالى أوصلك إليها. وأدرك شهرزاد الصباح،
فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 881﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الشيخ الريس لما قال لنور الدين: أنا أوصلك إليها إن
شاء الله تعالى. قال له نور الدين: متى السفر؟ قال الريس: قد بقي لنا ثلاثة أيام
ونسافر في خير وسلامة. فلما سمع نور الدين كلام الريس فرح فرحًا شديدًا وشكر فضله
وإحسانه، وبعد ذلك تذكَّرَ أيامَ الوصال واجتماع الشَّمْل بجاريته العديمة المثال،
فبكى بكاءً شديدًا، وأنشد هذه الأبيات:
فَهَلْ
يَجْمَعُ الرَّحْمَنُ لِي وَلَكُمْ شَمْلًا
وَهَلْ أَبْلُغُ الْمَقْصُودَ يَا سَادَتِي أَمْ لَا
وَيَسْمَحُ
صَرْفُ الدَّهْرِ مِنْكُمْ بِزَوْرَةٍ
وَأُطْبِقُ أَجْفَانِي عَلَى ذَاتِكُمْ بُخْلًا
وَلَوْ
كَانَ وَصْلُكُمْ يُبَاعُ اشْتَرَيْتُهُ
بِرُوحِي وَلَكِنِّي أَرَى وَصْلَكُمْ أَغْلَى
ثم
إن نور الدين طلع من وقته وساعته وتوجَّهَ إلى السوق، وأخذ منه جميع ما يحتاج إليه
من الزاد وأدوات السفر، وأقبَلَ على ذلك الريس، فلما رآه قال له: يا ولدي، ما هذا
الذي معك؟ قال: زوادتي وما أحتاج إليه في السفر. فضحك الريس من كلامه وقال له: يا
ولدي، هل أنت رائح تتفرَّج على عمود السواري؟ إن بينك وبين مقصدك مسيرة شهرين إذا
طاب الريح وصفَتِ الأوقات. ثم إن ذلك الشيخ أخذ من نور الدين شيئًا من الدراهم،
وطلع إلى السوق واشترى له جميع ما يحتاج إليه في السفر على قدر كفايته، وملأ له
بتيةً ماءً حلوًا، ثم أقام نور الدين في المركب ثلاثة أيام إلى أن تجهَّزَ التجار
وقضَوْا مصالحهم ونزلوا في المركب، ثم حلَّ الريس قلوعها وساروا مدةَ واحدٍ وخمسين
يومًا، وبعد ذلك خرج عليهم القراصِن قطَّاع الطريق، فنهبوا المركب وأسروا جميع مَن
فيها، وأتوا بهم إلى مدينة إفرنجة وعرضوهم على الملك، وكان نور الدين من جملتهم،
فأمر الملك بحبسهم، وفي وقت نزولهم من عند الملك إلى الحبس، وصل الغُراب الذي فيه
الملكة مريم الزنارية مع الوزير الأعور، فلما وصل الغُراب إلى المدينة طلع الوزير
إلى الملك وبشَّرَه بوصول ابنته مريم الزنارية سالمةً، فدقُّوا البشائر وزيَّنوا
المدينةَ بأحسن زينة، وركب الملك في جميع عسكره وأرباب دولته، وتوجَّهوا إلى البحر
ليقابلوها، فلما وصلت المركب طلعت ابنته مريم فعانَقَها وسلَّم عليها وسلَّمت
عليه، وقدَّمَ لها جوادًا فركبته، فلما وصلت إلى القصر قابلتها أمها وعانقَتْها
وسلَّمَتْ عليها وسألتها عن حالها، وهل هي بِكْر مثل ما كانت عندهم سابقًا أو صارت
امرأة ثيِّبًا؟ فقالت لها مريم: يا أمي، بعد أن يباع الإنسان في بلاد المسلمين من
تاجر إلى تاجر ويصير محكومًا عليه، كيف يبقى بنتًا بكرًا؟ إن التاجر الذي اشتراني
هدَّدني بالضرب وغصبني وأزال بكارتي وباعني لآخَر، وآخَر باعني لآخَر. فلما سمعت
أمها منها هذا الكلام، صار الضياء في وجهها ظلامًا، ثم أعادت على أبيها هذا
الكلام، فصعب ذلك عليه وكَبُر أمره لديه، وعرض حالها على أرباب دولته وبطارقته،
فقالوا له: أيها الملك، إنها تنجَّسَتْ من المسلمين، وما يطهِّرها إلا ضرب مائة
رقبة من المسلمين. فعند ذلك أمر بإحضار الأسارى الذين في الحبس، فأحضروهم جميعًا
بين يدَيْه ومن جملتهم نور الدين، فأمر الملك بضرب رقابهم، فأول مَن ضربوا رقبته
ريس المركب، ثم ضربوا رقاب التجار واحدًا بعد واحدٍ، حتى لم يَبْقَ إلا نور الدين،
فشرطوا ذيله وعصبوا عينَيْه وقدَّموه إلى نطع الدم، وأرادوا أن يضربوا رقبته، وإذا
بامرأةٍ عجوز أقبلَتْ على الملك في تلك الساعة وقالت له: يا مولاي، أنت كنتَ نذرتَ
لكلِّ كنيسةٍ خمسةَ أسارى من المسلمين، إنْ ردَّ الله بنتك مريم، لأجل أن يساعدوا
في خدمتها، والآن قد وصلَتْ إليك بنتك السيدة مريم، فأَوْفِ بنذرك الذي نذرته.
فقال لها الملك: يا أمي، وحقِّ المسيح والدين الصحيح، لم يَبْقَ عندي من الأسارى
غير هذا الأسير الذي يريدون قتله، فخذيه معك يساعدك في خدمة الكنيسة إلى أن يأتي
إلينا أسارى من المسلمين، فأُرسِل إليك أربعةً آخَرين، ولو كنتِ سبقت قبل أن
يضربوا رقاب هؤلاء الأسارى لَأعطيناك كلَّ ما تريدينه. فشكرَتِ العجوزُ صنيعَ
الملك ودعَتْ له بدوام العز والبقاء والنِّعَم، ثم تقدَّمَتِ العجوز من وقتها
وساعتها إلى نور الدين وأخرجته من نطع الدم، ونظرَتْ إليه فرأته شابًّا لطيفًا
ظريفًا رقيق البشرة، ووجهه كأنه البدر إذا بدر في ليلة أربعة عشر، فأخذته ومضت به
إلى الكنيسة وقالت له: يا ولدي، اقلع ثيابَك التي عليك فإنها لا تصلح إلا لخدمة
السلطان. ثم إن العجوز جاءت لنور الدين بجبةٍ من صوف أسود، ومِئْزرٍ من صوف أسود،
وسير عريض، فألبسته تلك الجبة وعمَّمَتْه بالمِئْزر، وشدَّتْ وسطه بالسير،
وأمَرَتْه أن يخدم الكنيسة، فخدم الكنيسة مدة سبعة أيام، فبينما هو كذلك وإذا بتلك
العجوز قد أقبلَتْ عليه وقالت له: يا مسلم، خذ ثيابك الحرير والبسها، وخذ هذه
العشرة دراهم واخرج في هذه الساعة لتتفرج في هذا اليوم، ولا تقف هنا ساعة واحدة
لئلا تروح روحك. فقال لها نور الدين: يا أمي، أيُّ شيءٍ الخبر؟ فقالت له العجوز:
اعلم يا ولدي، أن بنت الملك السيدة مريم الزنارية تريد أن تدخل الكنيسة في هذا
الوقت لأجل أن تزورها وتتبرَّك بها وتقرِّب لها قربانًا حلاوةَ السلامة بسبب
خلاصها من بلاد المسلمين، وتُوفِّي لها النُّذُر التي نذرَتْها إنْ نجَّاها
المسيح، ومعها أربعمائة بنت، ما واحدة منهن إلا كاملة في الحُسْن والجمال، ومن
جملتهن بنت الوزير وبنات الأمراء وأرباب الدولة، وفي هذه الساعة يحضرون، وربما يقع
نظرهن عليك في هذه الكنيسة فيقطِّعنك بالسيوف. فعند ذلك أخذ نور الدين من العجوز
العشرة دراهم بعد أن لبس ثيابه وخرج إلى السوق، وصار يتفرج في شوارع المدينة حتى
عرف جهاتها وأبوابها. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 882﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن نور الدين لمَّا لبس ثيابه أخذ العشرة دراهم من
العجوز، ثم خرج إلى السوق وغاب ساعة حتى عرف جهات المدينة، ثم رجع إلى الكنيسة
فرأى مريم الزنارية بنت ملك إفرنجة قد أقبلَتْ على الكنيسة ومعها أربعمائة بنت
نواهد أبكار كأنهن الأقمار، ومن جملتهن بنت الوزير الأعور وبنات الأمراء وأرباب الدولة،
وهي تمشي بينهن كأنها القمر بين النجوم، فلما وقع نظر نور الدين عليها لم يتمالك
نفسه، بل صرخ من صميم قلبه وقال: يا مريم، يا مريم. فلما سمعت البنات صياحَ نور
الدين وهو ينادي يا مريم، هجَمْنَ عليه وجرَّدْنَ بيضَ الصفاح مثل الصواعق،
وأرَدْنَ قتله في تلك الساعة، فالتفتَتْ مريم وتأمَّلَتْه فعرفته غاية المعرفة،
فقالت للبنات: اتركْنَ هذا الشاب فإنه مجنون بلا شك؛ لأن علامة الجنون لائحةٌ على
وجهه. فلما سمع نور الدين من السيدة مريم هذا الكلام كشف رأسه وحملق عينَيْه،
وأشاح بيدَيْه وعوج رجلَيْه، وأخرج الزبد من فِيه وشدقَيْه، فقالت السيدة مريم:
أَمَا قلتُ لكُنَّ إن هذا مجنون. أحضِرْنَه عندي وابعدْنَ عنه حتى أسمع ما يقول،
فإني أعرف كلام العرب وأنظر حاله، وهل داء جنونه يقبل المداواة أم لا. فعند ذلك
حمله البنات وجئْنَ به بين يدَيْها، ثم بعدْنَ عنه، فقالت له: هل جئتَ إلى هنا من
أجلي، وخاطرت بنفسك وعملت نفسك مجنونًا؟ فقال لها نور الدين: يا سيدتي، أَمَا
سمعتِ قول الشاعر:
قَالُوا
جُنِنْتَ بِمَنْ تَهْوَى فَقُلْتُ لَهُمْ
مَا لَذَّةُ الْعَيْشِ إِلَّا لِلْمَجَانِينِ
هَاتُوا
جُنُونِي وَهَاتُوا مَنْ جُنِنْتُ بِهِ
فَإِنْ وَفَى بِجُنُونِي لَا تَلُومُونِي
فقالت
له مريم: والله يا نور الدين، إنك الجاني على نفسك، فإني حذَّرْتُكَ من هذا قبل
وقوعه، فلم تقبل قولي وتبعت هوى نفسك، وأنا ما أخبرتك لا من باب الكشف ولا من باب
الفراسة ولا من باب الرؤية في المنام، وإنما هو من باب المشاهدة والعِيَان؛ لأني
رأيتُ الوزيرَ الأعور، فعرفتُ أنه ما دخل في هذه البلدة إلا في طلبي. فقال لها نور
الدين: يا سيدتي مريم، نعوذ بالله من زلة العاقل. ثم تزايَدَ بنور الدين الحال
فأنشد هذا المقال:
هَبْ
لِي جِنَايَةَ مَنْ زَلَّتْ بِهِ الْقَدَمُ
قَدْ يَشْمَلُ الْعَبْدَ مِنْ
سَادَاتِهِ كَرَمُ
حَسْبُ
الْمُسِيءِ بِذَنْبٍ مِنْ جِنَايَتِهِ
فَرْطُ النَّدَامَةِ إِذْ لَا يَنْفَعُ النَّدَمُ
فَعَلْتُ
مَا يَقْتَضِي التَّأْدِيبُ مُعْتَرِفًا
فَأَيْنَ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَفْوُ وَالْكَرَمُ
ولم
يَزَلْ نور الدين هو والسيدة مريم الزنارية في عتاب يطول شرحه، وكلٌّ منهما يحكي
لصاحبه ما جرى له، وينشدان الأشعار ودموعهما تجري على خدودهما شبه البحار، ويشكوان
لبعضهما شدة الهوى وأليم الوحدة والجوى، إلى أنْ لم يَبْقَ لأحدهما قوةٌ على
الكلام، وكان النهار قد ولَّى وأقبَلَ الظلام، وقد كان على السيدة مريم حلة خضراء
مزركشة بالذهب الأحمر، مرصَّعة بالدر والجوهر، فزاد حُسْنها وجمالها وظرف معانيها،
وقد أجاد من قال فيها:
تَبَدَّتْ
كَبَدْرِ التِّمِّ فِي الْحُلَلِ الْخُضْرِ
مُفَكَّكَةَ الْأَزْرَارِ مَحْلُولَةَ الشَّعْرِ
فَقُلْتُ
لَهَا: مَا الْإِسْمُ؟ قَالَتْ: أَنَا الَّتِي كَوَيْتُ قُلُوبَ الْعَاشِقِينَ عَلَى
الْجَمْرِ
أَنَا
الْفِضَّةُ الْبَيْضَاءُ وَالذَّهَبُ الَّذِي يُفَكُّ بِهِ الْمَأْسُورُ مِنْ شِدَّةِ
الْأَسْرِ
فَقُلْتُ
لَهَا: إِنَّ الصُّدُودَ أَذَابَنِي
فَقَالَتْ: أَتَشْكُو لِي وَقَلْبِيَ مِنْ صَخْرِ
فَقُلْتُ
لَهَا: إِنْ كَانَ قَلْبُكِ صَخْرَةً
فَقَدْ أَنْبَعَ اللهُ الزُّلَالَ مِنَ الصَّخْرِ
فلما
جنَّ الليل أقبلَتِ السيدةُ مريم على البنات وقالت لهن: هل أغلقتُنَّ الباب؟
فقلْنَ لها: قد أغلقْناه. فعند ذلك أخذت السيدة مريم البنات وأتَتْ بهِنَّ إلى
مكانٍ يُقال له «مكان السيدة مريم العذراء أم النور»؛ لأن النصارى يزعمون أن
روحانيتها وسرها في ذلك المكان، فصار البنات يتبرَّكْنَ به ويَطُفْنَ في الكنيسة
كلها، ولما فرغْنَ من زيارتها التفتَتِ السيدة مريم إليهنَّ وقالت لهنَّ: إني أريد
أن أدخل وحدي في هذه الكنيسة وأتبرَّك بها، فإنه حصل لي اشتياق إليها بسبب طول
غيبتي في بلاد المسلمين، وأما أنتنَّ فحيث فرغتُنَّ من الزيارة، فنمْنَ حيث
شئتنَّ. فقلْنَ لها: حبًّا وكرامة، وافعلي أنتِ ما تريدينه. ثم إنهن تفرَّقْنَ
عنها في الكنيسة ونِمْنَ، فعند ذلك استغفلتهن مريم وقامت تفتِّش على نور الدين،
فرأته في ناحيةٍ جالسًا على مقالي الجمر وهو في انتظارها، فلما أقبلَتْ عليه قام
لها على قدمَيْه وقبَّلَ يدَيْها، فجلست وأجلسته في جانبها، ثم نزعت ما كان عليها
من الحلي والحلل ونفيس القماش، وضمَّتْ نور الدين إلى صدرها وجعلته في حضنها، ولم
تزل هي وإياه في بوس وعناق، ونغمات خاق باق، وهما يقولان: ما أقصر ليل التلاقي،
وما أطول يوم الفراقِ، وينشدان قول الشاعر:
يَا
لَيْلَةَ الْوَصْلِ وَبِكْرُ الدَّهْرِ
بَلْ أَنْتِ غُرَّةُ اللَّيَالِي الْغُرِّ
قَدْ
جِئْتِنِي بِالصُّبْحِ وَقْتَ الْعَصْرِ
هَلْ كُنْتِ كُحْلًا فِي عُيُونِ الْفَجْرِ
أَوْ
كُنْتِ نَوْمًا فِي عُيُونٍ رُمْ
يَا
لَيْلَةَ الْهَجْرِ وَمَا أَطَوْلَهَا
آخِرُهَا مُوَاصِلٌ أَوَّلَهَا
كَحَلْقَةٍ
مُفْرَغَةٍ مَا إِنْ لَهَا مِنْ
طَرْفٍ وَالْحَشْرُ أَيْضًا قَبْلَهَا
فَالصَّبُّ
بَعْدَ الْبَعْثِ مَيْتُ الصَّدِّ
فبينما
هما في هذه اللذة العظيمة والفرحة العميمة، وإذا بغلامٍ من الغلمان النفيسة يضرب
الناقوس فوق سطح الكنيسة، ليقيم من عبادتهم الشعائر، وهو كما قال الشاعر:
رَأَيْتُهُ
يَضْرِبُ النَّاقُوسَ قُلْتُ لَهُ:
مَنْ عَلَّمَ الظَّبْيَ ضَرْبًا بِالنَّوَاقِيسِ
وَقُلْتُ
لِلنَّفْسِ: أَيُّ الضَّرْبِ يُؤْلِمُكِ
ضَرْبُ النَّوَاقِيسِ أَمْ ضَرْبُ النَّوَى قِيسِي
وأدرك
شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 883﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن مريم الزنارية ما زالت هي ونور الدين في لذة وطرب إلى
أن طلع الغلام النواقيسي فوق سطح الكنيسة وضرب الناقوس، فقامت من وقتها وساعتها
ولبست ثيابها وحلِيَّها، فشقَّ ذلك على نور الدين وتكدَّر وقته، فبكى وسكب
العَبَرات، وأنشد هذه الأبيات:
لَا
زِلْتُ أَلْثُمُ وَرْدَ خَدٍّ غَضٍّ
وَأَعُضُّ ذَاكَ مُبَالِغًا فِي الْعَضِّ
حَتَّى
إِذَا طِبْنَا وَنَامَ رَقِيبُنَا وَعُيُونُهُ
مَالَتْ لِنَحْوِ الْغُمْضِ
ضَرَبَتْ
نَوَاقِيسَ فَشُبِّهَ مِثْلُهَا بِمُؤَذِّنٍ
يَدْعُو صَلَاةَ الْفَرْضِ
قَامَتْ
عَلَى عَجَلٍ لِلُبْسِ ثِيَابِهَا مِنْ
خَوْفِ نَجْمِ رَقِيبِنَا الْمُنْقَضِّ
وَتَقُولُ:
يَا سُؤْلِي وَيَا كُلَّ الْمُنَى جَاءَ
الصَّبَاحُ بِوَجْهِهِ الْمُبْيَضِّ
أَقْسَمْتُ
لَوْ أُعْطِيتُ يَوْمَ وِلَايَةٍ وَبَقِيتُ
سُلْطَانًا شَدِيدَ الْقَبْضِ
لَهَدَمْتُ
أَرْكَانَ الْكَنَائِسِ كُلِّهَا وَقَتَلْتُ
كُلَّ مُقَسِّسٍ فِي الْأَرْضِ
ثم
إن السيدة مريم ضمَّتْ نور الدين إلى صدرها، وقبَّلت خده وقالت له: يا نور الدين،
كم يومًا لك في هذه المدينة؟ فقال: سبعة أيام. فقالت له: هل سرتَ في هذه المدينة
وعرفت طرقها ومخارجها وأبوابها التي من ناحية البر والبحر؟ قال: نعم. قالت: وهل
تعرف طريق صندوق النذر الذي في الكنيسة؟ قال: نعم. قالت له: حيث كنتَ تعرف ذلك
كله، إذا كانت الليلة القابلة ومضى ثلث الليل الأول، فاذهب في تلك الساعة إلى
صندوق النذر وخذ منه ما تريد وتشتهي، وافتح باب الكنيسة الذي فيه الخوخة التي توصل
إلى البحر، فإنك تجد سفينة صغيرة فيها عشرة رجال بحرية، فمتى رآك الريس يمدُّ
يدَيْه إليك، فناوِلْه يدك فإنه يطلعك في السفينة، فاقعد عنده حتى أجيء إليك،
والحذر ثم الحذر من أن يلحقك النوم في تلك الليلة، فتندم حيث لا ينفعك الندم. ثم
إن السيدة مريم ودَّعَتْ نور الدين وخرجت من عنده في تلك الساعة ونبَّهَتْ جواريها
وسائر البنات من نومهن، وأخذتهن وأتت إلى باب الكنيسة ودقَّتْه، ففتحت العجوز
الباب، فلما طلعت منه رأت الخُدَّام والبطارقة وقوفًا، فقدَّموا لها بغلةً فركبتها
وأرخَوْا عليها ناموسية من الحرير، وأخذ البطارقة بزمام البغلة ووراءها البنات،
واحتاط بها الجاووشية وبأيديهم السيوف مسلولة، وساروا بها إلى أن وصلوا إلى قصر
أبيها.
هذا
ما كان من أمر مريم الزنارية، وأما ما كان من أمر نور الدين المصري، فإنه لم
يَزَلْ مختفيًا وراء الستارة التي كان مستترًا خلفها هو ومريم إلى أن طلع النهار،
وانفتح باب الكنيسة وكثرت الناس فيها، فاختلط بالناس وجاء إلى تلك العجوز قيِّمة
الكنيسة، فقالت له: أين كنتَ راقدًا في هذه الليلة؟ قال: في محلٍّ داخلَ المدينة
كما أمرتِني. فقالت له العجوز: إنك فعلتَ الصوابَ يا ولدي، ولو كنتَ بِتَّ الليلةَ
في الكنيسة كانت قتلتك أقبح قتلة. فقال لها نور الدين: الحمد لله الذي نجَّاني من
شر هذه الليلة. ولم يزل نور الدين يقضي شغله في الكنيسة إلى أن مضى النهار وأقبل
الليل بدياجي الاعتكار، فقام نور الدين وفتح صندوق النذر وأخذ منه ما خفَّ حمله
وغلا ثمنه من الجواهر، ثم صبر إلى أن مضى ثلث الليل الأول وقام ومشى إلى باب
الخوخة التي توصل إلى البحر، وهو يطلب الستر من الله، ولم يزل يمشي إلى أن وصل إلى
الباب وفتحه وخرج من تلك الخوخة وراح إلى البحر، فوجد السفينة راسيةً على شاطئ
البحر بجوار الباب، ووجد الريس شيخًا كبيرًا ظريفًا، لحيته طويلة وهو واقف في
وسطها على رجلَيْه، والعشرة رجال واقفون قدامه، فناوله نور الدين يده كما أمرته
مريم، فأخذه من يده وجذبه من البحر، فصار في وسط السفينة، فعند ذلك صاح الشيخ
الريس على البحرية وقال لهم: اقلعوا مرساة السفينة من البر، وعوموا بنا قبل أن
يطلع النهار. فقال واحد من العشرة البحرية: يا سيدي الريس، كيف نعوم والملك أخبرنا
أنه في غدٍ يركب السفينة في هذا البحر ليطَّلِع على ما فيه؛ لأنه خائف على ابنته
مريم من سرَّاق المسلمين؟ فصاح عليهم الريس وقال: ويلكم يا ملاعين، هل بلغ من
أمركم أنكم تخالفونني وتردُّون كلامي؟ ثم إن ذلك الشيخ الريس سلَّ سيفه من غمده
وضرب به ذلك المتكلم على عنقه، فخرج السيف يلمع من رقبته، فقال له واحد: وأي شيء
عمل صاحبنا من الذنوب حتى تضرب رقبته؟ فمدَّ يده إلى السيف وضرب به عنق هذا
المتكلم، ولم يزل ذلك الريس يضرب أعناق البحرية واحدًا بعد واحد حتى قتل العشرة
ورماهم على شاطئ البحر، ثم التفت إلى نور الدين وصاح عليه صيحةً عظيمة أرعَبَتْه،
وقال له: انزل اقْلعِ الوتد. فخاف نور الدين من ضرب السيف ونهض قائمًا ووثب إلى
البر وقلع الوتد، ثم طلع في السفينة أسرع من البرق الخاطف، وصار الريس يقول له:
افعل كذا وكذا، ودور كذا وكذا، وانظر في النجوم، ونور الدين يفعل جميع ما يأمره به
الريس وقلبه خائف مرعوب، ثم رفع شراع المركب وسارت بهما في البحر العجاج المتلاطم
الأمواج. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 884﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الشيخ الريس لما رفع شراع المركب توجَّهَ بالمركب هو
ونور الدين في البحر العجاج، وقد طاب لهما الريح، كل ذلك ونور الدين ماسك بيده
الراجع وهو غريق في بحر الأفكار، ولم يَزَلْ مستغرقًا في الفكر ولم يعلم بما هو
مخبوء له في الغيب، وكلما نظر إلى الريس ارتعب قلبه ولم يعلم بالجهة التي يتوجَّه
إليها الريس، بل صار مشغولًا في فكرٍ ووسواسٍ إلى أن تَضحَّى النهار، فعند ذلك نظر
نور الدين إلى الريس، فرآه قد أخذ لحيته الطويلة بيده وجذبها، فطلعت من موضعها في
يده، وتأمَّلَها نور الدين فوجدها لحية كانت مُلصَقة زورًا، ثم تأمَّلَ نور الدين
في ذات الريس ودقَّقَ نظره فيها، فرآه السيدة مريم معشوقته ومحبوبة قلبه، وكانت قد
تحيَّلَتْ بتلك الحيلة حتى قتلت الريس، وسلخَتْ وجهه بلحيته وأخذت جلده وركَّبَتْه
على وجهها؛ فتعجَّبَ نور الدين من فعلها وشجاعتها، ومن قوة قلبها، وقد طار عقله من
الفرح، واتسع صدره وانشرح وقال لها: مرحبًا يا مُنْيَتي وسُؤْلي وغاية مطلبي. ثم
إن نور الدين هزَّه الشوق والطرب، وأيقن ببلوغ الأمل والأرب، فردَّدَ صوته بأطيب
النغمات، وأنشد هذه الأبيات:
قُلْ
لِقَوْمٍ هُمْ لِعِشْقِي جَهِلُوا فِي
حَبِيبٍ مَا إِلَيْهِ وَصَلُوا
عَنْ
غَرَامِي بَيْنَ قَوْمِي فَاسْأَلُوا
قَدْ حَلَا نَظْمِي وَرَقَّ الْغَزَلُ
فِي
هَوَى قَوْمٍ بِقَلْبِي نَزَلُ
ذِكْرُهُمْ
عِنْدِي يُزِيلُ السَّقَمَا عَنْ
فُؤَادِي وَيُزِيحُ الْأَلَمَا
زَادَ
شَوْقِي وَهُيَامِي عِنْدَمَا أَصْبَحَ
الْقَلْبُ كَئِيبًا مُغْرَمًا
وَبِهِ
فِي النَّاسِ سَارَ الْمَثَلُ
أَنَا
لَا أَقْبَلُ فِيهِمْ لَوْمَهْ لَا
وَلَا أَقْصُدُ عَنْهُمْ سَلْوَهْ
لَكِنِ
الْحُبُّ رَمَانِي حَسْرَهْ أَشْعَلَتْ
مِنْهُ بِقَلْبِي جَمْرَهْ
حَرُّهَا
فِي كَبِدِي يَشْتَعِلُ
مِنْ
عَجِيبٍ قَدْ أَبَاحُوا سَقَمِي مَعْ
سُهَادِي طُولَ لَيْلٍ مُظْلِمِ
كَيْفَ
رَامُوا بِالتَّجَافِي عَدَمِي وَاسْتَحْلَوْا فِي الْهَوَى سَفْكَ دَمِي
إِنَّهُمْ
فِي جَوْرِهِمْ مَا عَدَلُوا
يَا
تُرَى مَنْ ذَا الَّذِي أَوْصَاكُمُ
بِالتَّجَافِي عَنْ فَتًى يَهْوَاكُمُ
وَلَعَمْرِي
وَالَّذِي أَنْشَاكُمُ إِنْ يَقُلْ
عُذَّلُ قَوْلًا عَنْكُمُ
كَذَبُوا
وَاللهِ فِيمَا نَقَلُوا
لَا
أَزَاحَ اللهُ عَنِّي عِلَلَا لَا
وَلَا شَافٍ لِقَلْبِي غَلَلَا
يَوْمَ
أَشْكُو مِنْ هَوَاكُمْ مَلَلَا أَنَا
لَا أَرْضَى سِوَاكُمْ بَدَلَا
عَذِّبُوا
قَلْبِي وَإِنْ شِئْتُمْ صِلُوا
لِي
فُؤَادٌ لَمْ يَحُلْ عَنْ حُبِّكُمْ لَوْ يُعَانِي حَسْرَةً مِنْ صَدِّكُمْ
سُخْطُ
هَذَا وَالرِّضَا مِنْ عِنْدِكُمْ مَا
تَشَاءُوا فَافْعَلُوا فِي عَبْدِكُمْ
هُوَ
بِالرُّوحِ لَكُمْ لَا يَبْخَلُ
فلما
فرغ نور الدين من شِعْره تعجَّبَتْ منه السيدة مريم غايةَ العجب، وشكرته على قوله،
وقالت له: مَن هذه حالته ينبغي أن يسلك مَسالِكَ الرجال، ولا يفعل فعل الأندال
والأرذال، وقد كانت السيدة مريم قويةَ القلب، تعرف بأحوال سير المراكب في البحر
المالح، وتعرف الأهواء واختلافها، وتعرف جميع طرق البحر، فقال لها نور الدين:
والله يا سيدتي، لو أطلتِ عليَّ هذا الأمر لمتُّ من شدة الخوف والفزع، خصوصًا مع
نار الوَجْد والاشتياق وأليم عذاب الفراق. فضحكَتْ من كلامه وقامت من وقتها
وساعتها وأخرجت شيئًا من المأكول والمشروب، فأكلوا وشربوا وتلذَّذوا وطربوا، بعد
ذلك أخرجَتْ من اليواقيت والجواهر وأصناف المعادن والذخائر الغالية وأنواع الذهب
والفضة ما خفَّ حمله وغلا ثمنه، من الذي جاءت به وأخرجته من قصر أبيها وخزائنه،
وعرضت ذلك على نور الدين، ففرح به غاية الفرح، كل ذلك والريح معتدل والمركب سائرة،
ولم يزالوا سائرين حتى أشرفوا على مدينة إسكندرية وشاهدوا أعلامها القديمة
والجديدة، وشاهدوا عمود السواري. فلما
وصلوا إلى المينا، طلع نور الدين من وقته وساعته على تلك السفينة وربطها في حجر من
أحجار القصارين، وأخذ معه شيئًا من الذخائر التي جاءت بها الجارية معها، وقال
للسيدة مريم: اقعدي يا سيدتي في السفينة حتى أطلع بك إلى إسكندرية مثل ما أحب
وأشتهي. فقالت له: ولكن ينبغي أن يكون ذلك بسرعة؛ لأن التراخي في الأمور يورث
الندامة. فقال لها: ما عندي تراخٍ. فقعدت مريم في السفينة وتوجَّهَ نور الدين إلى
بيت العطار صاحب أبيه ليستعير لها من زوجته نقابًا وحبرة وخفًّا وإزارًا كعادة
نساء إسكندرية، ولم يعلم بما لم يكن له في حساب من تصرُّفات الدهر أبي العجب
العجاب.
هذا
ما كان من أمر نور الدين ومريم الزنارية، وأما ما كان من أمر أبيها ملك إفرنجة،
فإنه لما أصبح الصباح تفقَّدَ ابنته مريم فلم يجدها، فسأل عنها من جواريها
وخَدَمِها فقالوا له: يا مولانا، إنها خرجت بالليل وراحت إلى الكنيسة، وبعد ذلك لم
نعرف لها خبرًا. فبينما الملك يتحدَّثُ مع الجواري والخَدَم في تلك الساعة، وإذا
بصرختين عظيمتين تحت القصر دوَّى لهما المكان؛ فقال الملك: ما الخبر؟ فقالوا له:
أيها الملك، إنه وُجِد عشرة رجال مقتولون على ساحل البحر، وسفينة الملك قد فُقِدت،
ورأينا باب الخوخة الذي في الكنيسة من جهة البحر مفتوحًا، والأسير الذي كان في
الكنيسة يخدمها قد فُقِد. فقال الملك: إن كانت سفينتي التي في البحر فُقِدت فبنتي
مريم فيها بلا شك ولا ريب. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 885﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن ملك إفرنجة لما فُقِدت ابنته مريم جاءوا له بالخبر
وقالوا له: إن سفينتك فُقِدت. فقال: إن كانت سفينتي قد فُقِدت فابنتي مريم فيها
بلا شك ولا ريب. ثم إن الملك دعَا من وقته وساعته بريس المينا وقال له: وحقِّ
المسيحِ والدينِ الصحيح إن لم تلحق سفينتي في هذه الساعة بعسكرٍ وتأتيني بها وبمَن
فيها لَأقتلَنَّك أشنعَ قِتْلة، وأمثِّل بك. ثم صرخ عليه الملك، فخرج من بين
يدَيْه وهو يرتعد، وطلب العجوزَ من الكنيسة وقال لها: ما كنتِ تسمعين من الأسير
الذي كان عندك في شأن بلاده؟ ومن أي البلاد هو؟ فقالت له: كان يقول أنا من مدينة
إسكندرية. فلما سمع الريس كلام العجوز، رجع من وقته وساعته إلى المينا وصاح على
البحرية وقال لهم: تجهَّزوا وحلُّوا القلوع. ففعلوا ما أمرهم به وسافروا، ولم
يزالوا مسافرين ليلًا ونهارًا حتى أشرفوا على مدينة إسكندرية في الساعة التي طلع
فيها نور الدين من السفينة وترك فيها السيدة مريم، وكان من جملة الإفرنج الوزير
الأعور الذي كان اشتراها من نور الدين، فرأوا السفينة مربوطة فعرفوها، فربطوا
مراكبهم بعيدًا عنها وأتوا إليها في مركب صغير من مراكبهم يعوم على ذراعين من
الماء، وفي ذلك المركب مائة مقاتل، ومن جملتهم الوزير الأعور الأعرج؛ لأنه كان
جبَّارًا عنيدًا، وشيطانًا مريدًا، ولصًّا محتالًا لا يقدر أحدٌ على احتياله، يشبه
أبا محمد البطال؛ ولم يزالوا سائرين إلى أن وصلوا إلى تلك السفينة، فهجموا عليها
وحملوا حملة واحدة، فلم يجدوا فيها أحدًا إلا السيدة مريم، فأخذوها هي والسفينة
التي هي فيها بعد أن طلعوا على الشاطئ وأقاموا زمنًا طويلًا، ثم عادوا من وقتهم
وساعتهم إلى مراكبهم وقد فازوا ببغيتهم من غير قتال ولا شَهْر سلاح، ورجعوا قاصدين
بلاد الروم، وسافروا وقد طاب لهم الريح، ولم يزالوا مسافرين على حمايةٍ إلى أن
وصلوا إلى مدينة إفرنجة، وطلعوا بالسيدة مريم إلى أبيها وهو في تخت مملكته؛ فلما
نظر إليها أبوها قال لها: ويلكِ يا خائنة، كيف تركتِ دينَ الآباء والأجداد وحصن المسيح
الذي عليه الاعتماد، واتَّبَعْتِ دينَ الإسلام الذي قام بالسيف على رغم الصليب
والأصنام؟ فقالت له مريم: أنا ما لي ذنب؛ لأني خرجت في الليل إلى الكنيسة لأزور
السيدة مريم وأتبرَّك بها، فبينما أنا في غفلةٍ وإذا بسرَّاقِ المسلمين قد هجموا
عليَّ وسدُّوا فمي وشدُّوا وثاقي، وحطُّوني في السفينة وسافروا بي إلى بلادهم،
فخادعتهم وتكلَّمْتُ معهم في دينهم إلى أن فكُّوا وثاقي، وما صدَّقتُ أن رجالك
أدركوني وخلَّصوني، وأنا وحقِّ المسيح والدينِ الصحيح، وحقِّ الصليب ومَن صُلِب
عليه، قد فرحتُ بفكاكي من أيديهم غايةَ الفرح، واتَّسَعَ صدري وانشرح، حيث خلصت من
أَسْر المسلمين. فقال لها أبوها: كذبتِ يا فاجرة يا عاهرة، وحقِّ ما في مُحْكم
الإنجيل من منزل التحريم والتحليل، لا بد لي من أن أقتلك أقبح قِتْلة، وأمثِّل بك
أشنعَ مُثْلة، أَمَا كفاكِ الذي فعلتِه في الأول ودخل علينا محالك، حتى رجعتِ
إلينا ببُهْتانك؟ ثم إن الملك أمر بقتلها وصَلْبها على باب القصر، فدخل عليه
الوزير الأعور في تلك الساعة وكان مُغرَمًا بحبها قديمًا وقال له: أيها الملك، لا
تقتلها وزوِّجني بها، وأنا أحرص عليها غاية الحرص، وما أدخل عليها حتى أبني لها
قصرًا من الحجر الجلمود، وأعلِّي بنيانه حتى لا يستطيع أحدٌ من السارقين الصعودَ
على سطحه، وإذا فرغتُ من بنيانه ذبحتُ على بابه ثلاثين من المسلمين، وأجعلهم
قربانًا للمسيح عني وعنها. فأنعَمَ عليه الملكُ بزواجها، وأذِنَ للقسيسين والرهبان
والبطارقة أن يزوِّجوها له، فزوَّجوها للوزير الأعور، وأذِنَ أن يشرعوا لها في
بنيان قصرٍ مشيدٍ يليق بها، فشرعت العمَّال في العمل.
هذا
ما كان من أمر الملكة مريم وأبيها والوزير الأعور، وأما ما كان من أمر نور الدين
والشيخ العطار، فإن نور الدين لما توجَّهَ إلى العطار صاحب أبيه واستعار من زوجته
إزارًا ونقابًا وخفًّا وثيابًا كثياب نساء إسكندرية، ورجع بها إلى البحر وقصد
السفينةَ التي فيها السيدة مريم، فوجد الجوَّ قَفْرًا والمزارَ بعيدًا. وأدرك
شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 886﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن نور الدين لمَّا وجد الجوَّ قَفْرًا والمزار بعيدًا،
صار قبله حزينًا، فبكى بدمع متواتر، وأنشد قول الشاعر:
سَرَى
طَيْفُ سَعْدَى طَارِقًا فَاسْتَفَزَّنِي
سُحِيرًا وَصَحْبِي فِي الفَلَاةِ رُقُودُ
فَلَمَّا
انْتَبَهْنَا لِلْخَيَالِ الَّذِي سَرَى
أَرَى الْجَوَّ قَفْرًا وَالْمَزَارُ بَعِيدُ
فمشى
نور الدين على شاطئ البحر يتلفَّتْ يمينًا وشمالًا، فرأى ناسًا مجتمعين على الشاطئ
وهم يقولون: يا مسلمين، ما بقي لمدينة إسكندرية حرمةٌ حتى صار الإفرنج يدخلونها
ويخطفون مَن فيها ويعودون إلى بلادهم على هِينَة، ولا يخرج وراءهم أحدٌ من المسلمين
ولا من العساكر المغازين؟! فقال لهم نور الدين: ما الخبر؟ فقالوا له: يا ولدي، إن
مركبًا من مراكب الإفرنج فيه عساكر هجموا في تلك الساعة على تلك المينا، وأخذوا
سفينةً كانت راسيةً هنا بمَن فيها، وراحوا على حمايةٍ إلى بلادهم. فلما سمع نور
الدين كلامهم وقع مغشيًّا عليه، فلما أفاقَ سألوه عن قضيته، فأخبرهم بخبره من
الأول إلى الآخِر، فلما فهموا خبره صار كلٌّ منهم يشتمه ويسبُّه ويقول له: لأيِّ
شيء ما تخرجها إلا بإزار ونقاب؟ وسارَ كلُّ واحدٍ من الناس يقول له كلامًا
مُؤلِمًا، ومنهم مَن يقول: خلُّوه في حاله يكفيه ما جرى له. وصار كل واحد يُوجِعه
بالكلام ويرميه بسهام المَلَام حتى وقع مغشيًّا عليه، فبينما الناس مع نور الدين
على تلك الحالة، وإذا بالشيخ العطار مُقبِلًا فرأى الناس مجتمعين، فتوجَّهَ إليهم
ليعرف الخبرَ، فرأى نور الدين راقدًا بينهم وهو مغشي عليه، فقعد عند رأسه
ونبَّهَه، فلما أفاق قال له: يا ولدي، ما هذا الحال الذي أنت فيه؟ فقال له: يا عم،
إن الجارية التي كانت راحَتْ مني قد جئْتُ بها من مدينة أبيها في مركب، وقاسيت ما
قاسيت في المجيء بها، فلما وصلتُ بها إلى هذه المدينة ربطتُ السفينة في البر
وتركتُ الجاريةَ فيها، وذهبت إلى منزلك وأخذت من زوجتك مصالحَ للجارية لأطلعها بها
إلى المدينة، فجاء الإفرنج وأخذوا السفينة والجارية فيها، وراحوا على حماية حتى
وصلوا إلى مراكبهم.
فلما
سمع الشيخ العطار من نور الدين هذا الكلامَ، صار الضياءُ في وجهه ظلامًا، وتأسَّفَ
على نور الدين تأسُّفًا عظيمًا، وقال له: يا ولدي، لأيِّ شيء ما أخرجتها من
السفينة إلى المدينة من غير إزار؟ ولكن في هذا الوقت ما ينفع الكلام، قُمْ يا ولدي
واطلع معي إلى المدينة، لعل الله يرزقك بجارية أحسن منها، فتتسلَّى بها عنها،
والحمد لله الذي ما خسَّرك فيها شيئًا، بل حصل لك الربح فيها، واعلم يا ولدي أن
الاتصال والانفصال بيد الملك المتعال. فقال له نور الدين: والله يا عم إني ما أقدر
أن أسلاها أبدًا، ولا أترك طلبها ولو سُقِيتُ من أجلها كأسَ الردى. فقال له
العطار: يا ولدي، وأي شيء في ضميرك تريد أن تفعله؟ فقال له: نويتُ أن أرجع إلى
بلاد الروم، وأدخل إلى مدينة إفرنجة، وأخاطر بنفسي، فإما عليها وإما لها. فقال له:
يا ولدي، إنَّ في الأمثال السائرة: «ما كل مرة تسلم الجرة» وإنْ كانوا ما فعلوا بك
في المرة الأولى شيئًا، ربما يقتلونك في هذه المرة، لا سيما وقد عرفوك حق المعرفة.
فقال نور الدين: يا عم، دَعْني أسافر وأُقتَل في هواها سريعًا ولا أُقتَل بتركها
صبرًا وتحسُّرًا.
وكان
بمصادَفة القدر مركب راسٍ في المينا مجهَّز للسفر وركَّابه، قد قضى جميعَ أشغاله،
وفي تلك الساعة قلعوا أوتاده، فنزل فيه نور الدين وسافر ذلك المركب مدة أيام، وقد
طاب لركَّابه الوقت والريح، فبينما هم سائرون وإذا بمركب من مراكب الإفرنج دائر في
البحر العجاج، لا يرون مركَبًا إلا يأسرونه خوفًا على بنت الملك من سرَّاق
المسلمين، وإذا أخذوا مركبًا يوصلون جميع مَن فيه إلى ملك إفرنجة، فيذبحهم ويوفي
بهم نَذْره الذي كان نذَرَه من أجل ابنته مريم، فرأوا المركب الذي فيه نور الدين
فأسروه وأخذوا كلَّ مَن كان فيها وأتوا بهم إلى الملك أبي مريم، فلما أوقفوهم بين
يدَيْه وجدهم مائة رجل من المسلمين، فأمر بذبحهم في الوقت والساعة، ومن جملتهم نور
الدين، فذبحوهم كلهم ولم يَبْقَ منهم غير نور الدين، وكأنَّ الجلَّاد قد أخَّره
شفقةً عليه لصِغَر سنه ورشاقة قدِّه، فلما رآه الملك عرفه حق المعرفة، فقال: أَمَا
أنت نور الدين الذي كنتَ عندنا في المرة الأولى قبل هذه المرة؟ فقال له: ما كنتُ
عندكم، وليس اسمي نور الدين، وإنما اسمي إبراهيم. فقال له الملك: تكذب، بل أنت نور
الدين الذي وهبتُكَ للعجوز القيِّمة على الكنيسة لتساعِدَها في خدمة الكنيسة. فقال
نور الدين: يا مولاي، أنا اسمي إبراهيم. فقال له الملك: إن العجوز قيِّمة الكنيسة
إذا حضرَتْ ونظرَتْكَ تعرف هل أنت نور الدين أم غيره. فبينما هم في الكلام وإذا
بالوزير الأعور الذي تزوَّجَ بنت الملك قد دخل في تلك الساعة وقبَّلَ الأرض بين
أيادي الملك، وقال له: أيها الملك، اعلم أن القصر قد فرغ بنيانه، وأنت تعرف أني
نذرتُ للمسيح إذا فرغتُ من بنائه أن أذبح على بابه ثلاثين من المسلمين، وقد
أتيتُكَ لآخذ من عندك ثلاثين مسلمًا فأذبحهم وأوفي بهم نَذْر المسيح، ويكونوا في
ذمتي على سبيل القرض، ومتى جاءني أسارى أعطيتُكَ بدلهم. فقال الملك: وحقِّ المسيح
والدين الصحيح، ما بقي عندي غير هذا الأسير. وأشار إلى نور الدين، وقال له: خذه
واذبحه في هذه الساعة حتى أُرسِلَ إليك البقيةَ إذا جاءني أسارى من المسلمين. فعند
ذلك قام الوزير الأعور وأخذ نور الدين ومضى به إلى القصر ليذبحه على عتبة بابه،
فقال له الدهَّانون: يا مولانا، بقي علينا من الدهان شغل يومين، فاصبر علينا
وأخِّرْ ذَبْحَ هذا الأسير حتى نفرغ من الدهان، عسى أن يأتي إليك بقية الثلاثين
فتذبح الجميع دفعةً واحدةً، وتوفي بنَذْرك في يوم واحد. فعند ذلك أمر الوزير بحبس
نور الدين. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 887﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الوزير لما أمر بحبس نور الدين أخذوه مقيَّدًا جائعًا
عطشانًا يتحسَّر على نفسه وقد نظر الموت بعينه، وكان بالأمر المقدَّر والقضاء
المبرَم للملك حِصانان أخَوَان شقيقان، أحدهما اسمه سابق والآخَر اسمه لاحق، وكانت
بحسرةِ تحصيلِ واحدٍ منهما الملوكُ الأكاسرة، وكان أحدهما أشهبَ نقيًّا، والآخَر
أدهمَ كالليل الحالك، وكان ملوك الجزائر جميعًا يقولون: كلُّ مَن سرق لنا حِصانًا
من هذين الحِصانَيْن نعطيه جميعَ ما يطلبه من الذهب الأحمر والدر والجوهر، فلم
يقدر أحدٌ على سرقة واحد من هذين الحِصانين، فحصل لأحدهما مرض في عينَيْه، فأحضر
الملك جميعَ البياطرة لدوائه فعجزوا عنه كلهم، فدخل على الملكِ الوزيرُ الأعور
الذي تزوَّجَ ابنته، فرآه مهمومًا من قبل ذلك الحِصان، فأراد أن يزيل همه فقال:
أيها الملك، أعطني هذا الحصان وأنا أُداوِيه. فأعطاه له، فنقله إلى الإصطبل الذي محبوس
فيه نور الدين، فلمَّا فارَقَ هذا الحِصانُ أخاه، صاحَ صيحةً عظيمة وصهل حتى أزعج
الناس من الصياح، فعرف الوزير أنه ما حصل منه هذا الصياح إلا لفراقه من أخيه، فراح
وأعلَمَ الملك بذلك، فلما تحقَّقَ الملكُ كلامَه قال: إذا كان ذلك حيوانًا ولم
يصبر على فراق أخيه، فكيف بذوي العقول؟ ثم أمر الغلمان أن ينقلوا الحصان عند أخيه
بدار الوزير زوج مريم، وقال لهم: قولوا للوزير إن الملك يقول لك إن الحصانين
إنعامٌ منه عليك لأجل خاطر ابنته مريم.
فبينما
نور الدين نائم في الإصطبل وهو مقيَّد مُكبَّل، إذ نظَرَ الحصانَيْن فوجَدَ على
عينَيْ أحدهما غشاوة، وكان عنده بعض معرفة بأحوال الخيل وممارسة دوائها، فقال في
نفسه: هذا والله وقت فرصتي، فأقوم وأكذب على الوزير وأقول له أنا أداوي هذا
الحِصان، وأعمل له شيئًا يُتلِف عينَيْه فيقتلني وأستريح من هذه الحياة الذميمة.
ثم إن نور الدين انتظَرَ الوزير إلى أن دخَلَ الإصطبل ينظر الحِصانين، فلما دخل
قال له نور الدين: يا مولاي، أيُّ شيء يكون لي عليك إذا أنا داويْتُ لك هذا
الحصان، وأعمل له شيئًا يطيِّب عينَيْه؟ فقال له الوزير: وحياة رأسي إن داويتَه
أعتقك من الذبح، وأخليك تتمنَّى عليَّ. فقال له: يا مولاي، مُرْ بفكِّ قيدي. فأمر
الوزير بإطلاقه، فنهض نور الدين وأخذ زجاجًا بكرًا وسحقه، وأخذ جيرًا بلا طفي
وخلَطَه بماء البصل، ثم وضع الجميع في عينَيِ الحصان وربطهما، وقال في نفسه: الآن
تغور عيناه فيقتلوني وأستريح من هذه العيشة الذميمة.
ثم
إن نور الدين نام تلك الليلة بقلبٍ خالٍ من وسواس الهمِّ، وتضرَّعَ إلى الله تعالى
وقال: يا رب، في علمك ما يُغنِي عن السؤال. فلما أصبح الصباح وأشرقت الشمس على
الروابي والبطاح، جاء الوزير إلى الإصطبل وفكَّ الرباط عن عينَي الحصان ونظر
إليهما، فرآهما أحسن عيون ملاح بقدرة الملك الفتَّاح. فقال له الوزير: يا مسلم، ما
رأيتُ في الدنيا مثلك في حُسْن معرفتك، وحق المسيح والدين الصحيح إنك أعجبتَني
غايةَ الإعجاب، فإنه عجز عن دواء هذا الحصان كلُّ بيطار في بلادنا. ثم تقدَّمَ إلى
نور الدين وحلَّ قيْدَه بيده، ثم ألبَسَه حلةً سنية وجعله ناظرًا على خيله،
ورتَّبَ له مرتبات وجرايات، وأسكنه في طبقة على الإصطبل، وكان في القصر الجديد
الذي بناه للسيدة مريم شبَّاك مُطِلٌّ على بيت الوزير وعلى الطبقة التي فيها نور
الدين، فقعد نور الدين مدةَ أيام يأكل ويشرب، ويتلذَّذ ويطرب، ويأمر وينهى على
خدمة الخيل، وكلُّ مَن غاب منهم ولم يعلق على الخيل المربوطة على الطُّوَالة التي
فيها خدمته، يرميه ويضربه ضربًا شديدًا، ويضع في رجلَيْه القيدَ الحديد. وفرح
الوزير بنور الدين غايةَ الفرح، واتسع صدره وانشرح، ولم يَدْرِ ما يئول أمره إليه.
وكان نور الدين كلَّ يوم ينزل إلى الحصانين ويمسحهما بيده لِمَا يعلم من
معزَّتِهما عند الوزير ومحبته لهما، وكان للوزير الأعور بنت بِكْر في غاية الجمال،
كأنها غزال شارد وغصن مائد، فاتفق أنها كانت جالسةً ذات يوم من الأيام في الشباك
المُطِلِّ على بيت الوزير، وعلى المكان الذي فيه نور الدين، إذ سمعت نور الدين
يغني ويسلِّي نفسه على المشقات، بإنشاد هذه الأبيات:
يَا
عَاذِلًا أَصْبَحَ فِي ذَاتِهْ مُنَعَّمًا
يَزْهُو بِلَذَّاتِهْ
لَوْ
عَضَّكَ الدَّهْرُ بِآفَاتِهْ لَقُلْتَ
مِنْ ذَوْقِ مَرَارَاتِهْ
آهِ
مِنَ الْعِشْقِ وَحَالَاتِهْ أَحْرَقَ
قَلْبِي بِحَرَارَاتِهْ
لَكِنْ
سَلِمْتَ الْيَوْمَ مِنْ غَدْرِهْ وَمِنْ
تَنَاهِيهِ وَمِنْ جُورِهْ
فَلَا
تَلُمْ مَنْ حَارَ فِي أَمْرِهْ وَقَالَ
مِنْ فَرْطِ صَبَابَاتِهْ
آهِ
مِنَ الْعِشْقِ وَحَالَاتِهْ أَحْرَقَ
قَلْبِي بِحَرَارَاتِهْ
كُنْ
عَاذِرَ الْعُشَّاقِ فِي حَالِهِمْ وَلَا
تَكُنْ عَوْنًا عَلَى عَذْلِهِمْ
إِيَّاكَ
أَنْ تَشْتَدَّ فِي حَبْلِهِمْ مُجَرَّعًا
مِنْ مُرِّ لَوْعَاتِهْ
آهِ
مِنَ الْعِشْقِ وَحَالَاتِهْ أَحْرَقَ
قَلْبِي بِحَرَارَاتِهْ
قَدْ
كُنْتُ مِنْ قَبْلِكَ بَيْنَ الْعِبَادْ
كَمِثْلِ مَنْ بَاتَ خَلِيَّ الْفُؤَادْ
لَمْ
أَعْرِفِ الْعِشْقَ وَطَعْمَ السُّهَادْ
حَتَّى دَعَانِي لِمَقَامَاتِهْ
آهِ
مِنَ الْعِشْقِ وَحَالَاتِهْ أَحْرَقَ
قَلْبِي بِحَرَارَاتِهْ
لَمْ
يَدْرِ مَا الْعِشْقُ وَمَا ذِلُّهْ
إِلَّا الَّذِي أَسْقَمَهُ طُولُهْ
وَضَاعَ
مِنْهُ فِي الْهَوَى عَقْلُهْ وَشُرْبُهُ
مِنْ مُرِّ جُرْعَاتِهْ
آهِ
مِنَ الْعِشْقِ وَحَالَاتِهْ أَحْرَقَ
قَلْبِي بِحَرَارَاتِهْ
كَمْ
عَيْنِ صَبٍّ فِي الدُّجَى أَسْهَرَ وَأَحْرَمَ الْجَفْنَ لَذِيذَ الْكَرَى
وَكَمْ
أَسَالَ دَمْعَهُ أَنْهُرَا تَجْرِي
عَلَى الْخَدِّ بِلَوْعَاتِهْ
آهِ
مِنَ الْعِشْقِ وَحَالَاتِهْ أَحْرَقَ
قَلْبِي بِحَرَارَاتِهْ
كَمْ
فِي الْوَرَى مِنْ مُغْرَمٍ مُسْتَهَامْ
سَهْرَانَ مِنْ وَجْدٍ بَعِيدِ الْمَنَامْ
أَلَبْسَهُ
ثَوْبَ الضَّنَى وَالسَّقَامْ مَنْ
قَدْ نَفَى عَنْهُ مَنَامَاتِهْ
آهِ
مِنَ الْعِشْقِ وَحَالَاتِهْ أَحْرَقَ
قَلْبِي بِحَرَارَاتِهْ
كَمْ
قَلَّ صَبْرِي وَبَرَى أَعْظُمِي وَسَالَ
دَمْعِي مِنْهُ كَالْعَنْدَمِ
مُهَفْهَفٌ
أَمَرُّ مِنْ مَطْعَمِي مَا كَانَ
حُلْوًا فِي مَذَاقَاتِهْ
آهِ
مِنَ الْعِشْقِ وَحَالَاتِهْ أَحْرَقَ
قَلْبِي بِحَرَارَاتِهْ
مِسْكِينُ
مَنْ فِي النَّاسِ مِثْلِي عَشِقْ وَبَاتَ
فِي جُنْحِ اللَّيَالِي أَرِقْ
إِنْ
عَامَ فِي بَحْرِ التَّجَافِي غَرِقْ
يَشْكُو مِنَ الْعِشْقِ وَزَفْرَاتِهْ
آهِ
مِنَ الْعِشْقِ وَحَالَاتِهْ أَحْرَقَ
قَلْبِي بِحَرَارَاتِهْ
مَنْ
ذَا الَّذِي بِالْعِشْقِ لَمْ يَبْتَلِ
وَمَنْ نَجَا مِنْ كَيْدِهِ الْأَسْهَلِ
وَمَنْ
يَعِشْ مِنْهُ بِعَيْشِ الْخَلِي وَأَيْنَ
مَنْ فَازَ بِرَاحَاتِهْ
آهِ
مِنَ الْعِشْقِ وَحَالَاتِهْ أَحْرَقَ
قَلْبِي بِحَرَارَاتِهْ
يَا
رَبِّ دَبِّرْ مَنْ بِهِ قَدْ بُلِي
وَاكْفَلْهُ نِعْمَ أَنْتَ مِنْ كَافِلِ
وَارْزُقْهُ
مِنْكَ بِالثَّبَاتِ الْجَلِي وَالْطُفْ
بِهِ فِي كُلِّ آفَاتِهْ
آهِ
مِنَ الْعِشْقِ وَحَالَاتِهْ أَحْرَقَ
قَلْبِي بِحَرَارَاتِهْ
فلما
استتم نور الدين أقصى كلامه، وفرغ من شعره ونظامه، قالت في نفسها بنت الوزير:
وحقِّ المسيح والدين الصحيح، إن هذا المسلم شاب مليح، ولكنه لا شكَّ عاشق مفارِق،
فيا تُرَى هل معشوق هذا الشاب مليحٌ مثله؟ وهل عنده مثل ما عنده أم لا؟ فإن كان
معشوقه مليحًا مثله يحقُّ له إسالة العَبَرات وشكوى الصبابات، وإنْ كان غير مليح
فقد ضيَّعَ عمره في الحسرات، وحُرِمَ طعْمَ اللذات. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ
عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 888﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن بنت الوزير قالت في نفسها: فإن كان معشوقه مليحًا
يحقُّ له إسالة العَبَرات، وإن كان غير مليح فقد ضيَّعَ عمره في الحسرات. وكانت
مريم الزنارية زوجةَ الوزير قد نُقِلت إلى القصر أمس ذلك اليوم، وعلمَتْ منها بنتُ
الوزير ضِيقَ الصدر، فعزمت أن تذهب إليها وتحدِّثها بخبر هذا الغلام، وما سمعت منه
من النظام، فما استتمَّتِ الفكرَ في هذا الكلام، حتى أرسلت خلفها السيدةُ مريم
زوجةُ أبيها لأجلِ أن تؤانسها بالحديث، فذهبت إليها فرأَتْ صدرها ضيِّقًا ودموعها
جارية على خدِّها، وهي تبكي بكاءً شديدًا ما عليه من مزيد، تُكفكِف العَبَرات
وتنشد هذه الأبيات:
مَضَى
عُمْرِي وَعُمْرُ الْوَجْدِ بَاقِ وَصَدْرِي
ضَاقَ مِنْ فَرْطِ اشْتِيَاقِي
وَقَلْبِي
ذَابَ مِنْ أَلَمِ الْفِرَاقِ يُؤَمِّلُ
عَوْدَ أَيَّامِ التَّلَاقِي
لِيَنْتَظِمَ
الْوِصَالُ عَلَى اتِّسَاقِ
أَقِلُّوا
اللَّوْمَ عَنْ مَسْلُوبِ قَلْبِ نَحِيلُ
الْجِسْمِ مِنْ شَوْقٍ وَكَرْبِ
وَلَا
تَرْمُوا هَوَاهُ بِسَهْمِ عَتْبِ فَمَا
فِي الْكَوْنِ أَشْقَى مِنْ مُحِبِّ
فَمُرُّ
الْعِشْقِ حُلْوٌ فِي الْمَذَاقِ
فقالت
بنت الوزير للسيدة مريم: ما لك أيتها المَلِكة ضيِّقة الصدر مشتَّتة الفكر؟ فلما
سمعَتِ السيدةُ مريم كلامَ بنت الوزير تذكَّرَتْ ما فات من عظيم اللذات، وأنشدت
هذين البيتين:
سَأَصْبِرُ
تَوْطِينًا عَلَى هَجْرِ صَاحِبِي وَأُرْسِلُ
دُرَّ الدَّمْعِ نَثْرًا عَلَى نَثْرِ
عَسَى
فَرَجٌ يَأْتِي بِهِ اللهُ إِنَّهُ طَوَى
كُلَّ يُسْرٍ تَحْتَ جَانِحَةِ الْعُسْرِ
فقالت
لها بنت الوزير: أيتها الملكة، لا تضيقي صدرًا وقومي معي في هذه الساعة إلى شباك
القصر، فإن عندنا في الإصطبل شابًّا مليحًا رشيقَ القوام حلوَ الكلام كأنه عاشق
مفارق. فقالت لها السيدة مريم: بأي علامة عرفتِ أنه عاشق مفارِق؟ فقالت لها بنت
الوزير: أيتها الملكة، عرفتُ ذلك بإنشاده القصائد والأشعار آناءَ الليل وأطراف
النهار. فقالت السيدة مريم في نفسها: إنْ كان قول بنت الوزير بيقين، فهذه صفات الكئيب
المسكين علي نور الدين، فيا هل تُرَى هو ذلك الشاب الذي ذكرَتْه بنت الوزير؟ ثم إن
السيدة مريم زاد بها العشق والهيام، والوَجْد والغرام، فقامت من وقتها وساعتها
ومشَتْ مع بنت الوزير إلى الشباك ونظرت منه، فرأتْ محبوبها وسيدها نور الدين،
ودقَّقَتِ النظر فيه فعرفته حق المعرفة، ولكنه سقيمٌ من كثرة عشقه لها ومحبته
إياها، ومن نار الوَجْد وألم الفراق والوَلَه والاشتياق، قد زاد به النحول فصار
ينشد ويقول:
الْقَلْبُ
مَمْلُوكٌ وَعَيْنِي جَارِيَهْ لَيْسَ
لَهَا سَحَابَةٌ مُجَارِيَهْ
بَيْنَ
بُكَائِي وَسُهَادِي وَالْجَوَى وَالنَّوْحُ
وَالْحُزْنُ عَلَى أَحْبَابِيَهْ
وَا
حُرْقَتِي وَا حَسْرَتِي وَا لَوْعَتِي
تَكَامَلَتْ أَعْدَادُهَا ثَمَانِيَهْ
وَتَابَعَتْهَا
خَمْسَةٌ فِي خَمْسَةٍ أَلَا قِفُوا
وَاسْتَمِعُوا مَقَالِيَهْ
ذِكْرٌ
وَفِكْرٌ وَزَفِيرٌ وَضَنًى وَفَرْطُ
شَوْقٍ وَاشْتِغَالُ بَالِيَهْ
فِي
مِحْنَةٍ وَغُرْبَةٍ وَصَبْوَةٍ وَلَهْفَةٍ
وَفَرْحَةٍ تَرَانِيَهْ
قَلَّ
اصْطِبَارِي وَاحْتِمَالِي لِلْجَوَى
لَمَّا نَأَى صَبْرِي دَنَا مُحَالِيَهْ
قَدْ
زَادَ فِي قَلْبِي تَبَارِيحَ الْجَوَى
يَا سَائِلًا عَنْ نَارِ قَلْبِي مَا هِيَهْ
مَا
بَالُ دَمْعِي مُوقَدًا فِي مُهْجَتِي
فَنَارُ قَلْبِي لَا تَزَالُ حَامِيَهْ
أَصْبَحْتُ
فِي طُوفَانِ دَمْعِي غَارِقًا وَمِنْ
لَظَى هَذَا الْهَوَى فِي هَاوِيَهْ
فلما
رأت السيدة مريم سيدها نور الدين وسمعت بليغَ شِعْره وبديع نَثْره، وتحقَّقَتْ أنه
هو، ولكنها كتمت أمرها عن بنت الوزير وقالت لها: وحق المسيح والدين الصحيح، ما
كنتُ أحسب أن عندك خبرًا بضِيق صدري. ثم نهضت من وقتها وساعتها وقامت من الشباك
ورجعت إلى مكانها، ومضت بنت الوزير إلى شغلها، ثم صبرت السيدة مريم ساعةً زمانية
ورجعت إلى الشباك وجلسَتْ فيه، وصارت تنظر إلى سيدها نور الدين وتتأمَّل في لطفه
ورقة معانيه، فرأته كالبدر إذا بدَرَ في ليلة أربعة عشر، لكنه دائمُ الحسرات جاري
العَبَرات؛ لأنه تذكَّرَ ما فات، فأنشد هذه الأبيات:
أَمِّلْتُ
وَصْلَ أَحِبَّتِي مَا نِلْتُهُ أَبَدًا
وَمُرُّ الْعَيْشِ قَدْ وَاصَلْتُهُ
دَمْعِي
يُحَاكِي الْبَحْرَ فِي جَرَيَانِهِ
وَإِذَا رَأَيْتُ عَوَاذِلِي كَفْكَفْتُهُ
آهٍ
عَلَى دَاعٍ دَعَا بِفِرَاقِنَا لَوْ
نُلْتُ مِنْهُ لِسَانَهُ لَقَطَعْتُهُ
لَا
عَتْبَ لِلْأَيَّامِ فِي أَفْعَالِهَا
مَزَجَتْ بِصَرْفِ الْمُرِّ مَا جُرِّعْتُهُ
فَلِمَنْ
أَسِيرُ إِلَى سِوَاكُمْ قَاصِدًا وَالْقَلْبُ
فِي عَرَصَاتِكُمْ خَلَّفْتُهُ
مَنْ
مُنْصِفِي مِنْ ظَالِمٍ مُتَحَكِّمٍ
يَزْدَادُ ظُلْمًا كُلَّمَا حَكَّمْتُهُ
مَلَّكْتُهُ
رُوحِي لِيَحْفَظَ مُلْكَهُ فَأَضَاعَنِي
وَأَضَاعَ مَا مَلَّكْتُهُ
أَنْفَقْتُ
عُمْرِي فِي هَوَاهُ وَلَيْتَنِي أُعْطَى
وِصَالًا بِالَّذِي أَنْفَقْتُهُ
يَا
أَيُّهَا الرَّشَأُ الْمُلِمُّ بِمُهْجَتِي
يَكْفِي مِنَ الْهِجْرَانِ مَا قَدْ ذُقْتُهُ
أَنْتَ
الَّذِي جَمَعَ الْمَحَاسِنَ وَجْهُهُ
لَكِنْ عَلَيْهِ تَصَبُّرِي فَرَّقْتُهُ
أَحْلَلْتُهُ
قَلْبِي فَحَلَّ بِهِ الْبَلَا إِنِّي
لَرَاضٍ بِالَّذِي أَحْلَلْتُهُ
وَجَرَتْ
دُمُوعِي مِثْلَ بَحْرٍ زَاخِرٍ لَوْ
كُنْتُ أَعْرِفُ مَسْلَكًا لَسَلَكْتُهُ
وَخَشِيتُ
خَوْفًا أَنْ أَمُوتَ بِحَسْرَةٍ وَيَفُوتَ
مِنِّي كُلُّ مَا أَمَّلْتُهُ
فلما
سمعت مريم من نور الدين العاشِق المفارِق المسكين إنشادَ هذه الأشعار، حصل عندها
من كلامه إشعار، فأفاضت دموعَ العين وأنشدت هذين البيتين:
تَمَنَّيْتُ
مَنْ أَهْوَى فَلَمَّا لَقِيتُهُ ذُهِلْتُ
فَلَمْ أَمْلُكْ لِسَانًا وَلَا طَرْفًا
وَكُنْتُ
مُعِدًّا لِلْعِتَابِ دَفَاتِرًا فَلَمَّا
اجْتَمَعْنَا مَا وَجَدْتُ وَلَا حَرْفَا
فلما
سمع نور الدين كلام السيدة مريم عرفها، فبكى بكاءً شديدًا وقال: والله إن هذه نغمة
السيدة مريم الزنارية بلا شك ولا ريب ولا رجم الغيب. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ
عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 889﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن نور الدين لما سمعها تنشد الأشعار قال في نفسه: إن
هذه نغمة السيدة مريم بلا شك ولا ريب ولا رجم غيب، فيا تُرَى هل ظنِّي صحيح وأنها
هي بعينها أم غيرها؟ ثم إن نور الدين زادت به الحسرات، فتأوَّهَ وأنشد هذه الأبيات:
لَمَّا
رَآنيِ لَائِمِي فِي الْهَوَى صَادَفْتُ
حِبِّي فِي مَكَانٍ رَحِيبْ
وَلَمْ
أَفُهْ بِالْعَتْبِ عِنْدَ اللِّقَا
وَرُبَّ عَتْبٍ فِيهِ بُرْءُ الْكَئِيبْ
فَقَالَ:
مَا هَذَا السُّكُوتُ الَّذِي صَدَّكَ
عَنْ رَدِّ الْجَوَابِ الْمُصِيبْ؟
فَقُلْتُ:
يَا مَنْ قَدْ غَدَا جَاهِلًا بِحَالِ
أَهْلِ الْعِشْقِ كَالْمُسْتَرِيبْ
عَلَامَةُ
الْعَاشِقِ فِي عِشْقِهِ سُكُوتُهُ
عِنْدَ لِقَاءِ الْحَبِيبْ
فلما
فرغ من شعره أحضرَتِ السيدة مريم دواةً وقرطاسًا، وكتبت فيه بعد البسملة الشريفة:
«أما بعد، فسلام الله عليك ورحمته وبركاته، وأخبرك أن الجارية مريم تسلِّم عليك،
وهي كثيرة الشوق إليك، وهذه مراسلتها إليك، فساعة وقوع هذه الورقة بين يديك، انهض
من وقتك وساعتك واهتم بما تريده منك غاية الاهتمام، والحذرَّ كلَّ الحذرِ من
المخالَفة ومن أن تنام، فإذا مضى ثلث الليل الأول، فإن تلك الساعة من أسعد
الأوقات، فلا يكون لك فيها شغل إلا أن تشد الفرسين وتخرج بهما خارج المدينة، وكل
مَن قال لك: أين أنت رائح؟ فقُلْ له: أنا رائح أسيِّرهما. فإذا قلتَ ذلك لا يمنعك
أحدٌ، فإن أهل هذه المدينة واثقون بقفل الأبواب.«
ثم
إن السيدة مريم لفَّتِ الورقة في منديل حرير ورمَتْها إلى نور الدين من الشباك،
فأخذها وقرأها وفهم ما فيها وعرف أنه خط السيدة مريم، فقبَّلها ووضعها بين
عينَيْه، وتذكَّر ما حصل له معها من طيب الوصال، فأسال دمعَ العين وأنشد هذين
البيتين:
أَتَانِي
كِتَابٌ مِنْكُمُ جُنْحَ لَيْلَةٍ فَهَيَّجَنِي
شَوْقًا إِلَيْكُمْ وَأَبْرَانِي
وَذَكَّرَنِي
عَيْشًا مَضَى بِوِصَالِكُمْ فَسُبْحَانَ
رَبِّي بِالتَّفَرُّقِ أَبْلَانِي
ثم
إن نور الدين لما جنَّ عليه الليل، اشتغل بإصلاح الحِصانين، وصبر حتى مضى من الليل
ثلثه الأول، ثم قام من وقته وساعته إلى الحِصانين، ووضع عليهما سرجَيْن من أحسن
السروج، وخرج بها من باب الإصطبل وقفل الباب وسار بهما إلى باب المدينة، وجلس
ينتظر السيدة مريم.
هذا
ما كان من أمر نور الدين، وأما ما كان من أمر الملكة مريم، فإنها ذهبت من وقتها
وساعتها إلى المجلس الذي هو مُعَدٌّ لها في ذلك القصر، فوجدَتِ الوزير الأعور
جالسًا في ذلك المجلس متَّكِئًا على مخدة محشوَّة من ريش النعام، وهو مستحٍ أن
يمدَّ يده إليها أو يخاطبها، فلما رأته ناجَتْ ربها في قلبها وقالت: اللهم لا
تبلغه مني أرَبًا، ولا تحكم عليَّ بالنجاسة بعد الطهارة. ثم أقبلَتْ عليه وأظهرَتْ
له المودَّة، وجلست في جانبه ولاطفَتْه وقالت له: يا سيدي، ما هذا الإعراض عنَّا؟
هل هو منك تِيهٌ ودلالٌ علينا؟ ولكن صاحب المثل السائر يقول: «إذا بار السلام سلمت
القعود على القيام» فإنْ كنتَ يا سيدي ما تجيء عندي وتخاطبني، أجيء أنا عندك
وأخاطبك. فقال لها الوزير: الفضل والجميل لك يا ملكة الأرض في الطول والعرض، وهل
أنا إلا من بعض خدَّامك وأقل غلمانك؟ وإنما أنا مستحٍ أن أتهجَّمَ على مخاطبتك
الفخيمة أيتها الدرة اليتيمة، ووجهي منك في الأرض. فقالت له: دَعْنا من هذا الكلام
وآتنا بالمأكل والمشرب. فعند ذلك صاح الوزير على جواريه وخَدَمه، وأمرهم بإحضار
المأكل والمشرب، فقدَّموا له سفرة فيها ما درَجَ وطار وسبح في البحار، من قطا
وسُمَّان وأفراخ الحمام، ورضيع الضأن وإوز سمين، وفيها دجاج محمَّر وفيها سائر
الأشكال والألوان. فمدَّتِ السيدة مريم يدها إلى السفرة وأكلت وصارت تلقِّمُ
الوزير وتبوِّسه في فمه، وما زالَا يأكلان حتى اكتفَيَا من الأكل، ثم غسَلَا
أيديهما، وبعد ذلك رفع الخدم سفرةَ الطعام وأحضروا سفرةَ المُدَام، فصارت مريم
تملأ وتشرب وتسقيه، وقامت بخدمته حق القيام حتى كاد أن يطير قلبه من الفرح، واتسع
صدره وانشرح، فلما غاب عقله عن الصواب، وتمكَّنَ منه الشراب، مدَّتْ يدها إلى
جيبها وأخرجَتْ منه قرصًا من البنج البكر المغربي، الذي إذا شمَّ منه الفيلُ أدنى
رائحةٍ نام من العام إلى العام، كانت أعَدَّتْه لهذه الساعة، ثم غافلَتِ الوزيرَ
وفركته في القدح وملأته وأعطته إياه، فطارَ عقله من الفرح وما صدَّقَ أنها تناوله
إياه، فأخذ القدح وشربه، فما استقرَّ في جوفه حتى خرَّ صريعًا على الأرض في الحال،
فقامت السيدة مريم على قدمَيْها وعمدت إلى خُرْجَيْن كبيرين وملأتهما مما خفَّ
حمله وغلا ثمنه، من الجواهر واليواقيت وأصناف المعادن المثمنة، ثم حملت معها شيئًا
من المأكل والمشرب، ولبستْ آلة الحرب والكفاح من العدة والسلاح، وأخذت معها لنور
الدين ما يسرُّه من الملابس الملوكية الفاخرة وأُهْبة السلاح القاهرة، ثم إنها
رفعت الخُرْجَيْن على أكتافها وخرجت من القصر، وكانت ذات قوة وشجاعة، وتوجَّهَتْ
إلى نور الدين. هذا ما كان من أمر مريم، وأما ما كان من أمر نور الدين … وأدرك شهرزاد
الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 890﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن مريم لما خرجت من القصر توجَّهَتْ إلى نور الدين،
وكانت ذات قوة وشجاعة. هذا ما كان من أمر مريم، وأما ما كان من أمر نور الدين
العاشق المسكين، فإنه قعد على باب المدينة ينتظرها ومقاود الحِصانَيْن في يده،
فأرسَلَ الله عز وجل عليه النوم، فنام وسبحان مَن لا ينام، وكانت ملوك الجزائر في
ذلك الزمان يبذلون المال رشوةً على سرقة هذين الحِصانَيْن أو واحد منهما، وكان
موجودًا في تلك الأيام عبدٌ أسود تربَّى في الجزائر يُعرَف بسرقة الخيل، فصار ملوك
الإفرنج يرشونه بمال كثير لأجل أن يسرق أحد الحِصانَيْن، ووعدوه أنه إنْ سرق
الحِصانَيْن يعطوه جزيرةً كاملةً، ويخلعوا عليه خِلَعًا سنيَّة، وقد كان لذلك
العبد زمان طويل يدور في مدينة إفرنجة وهو متخفٍّ، فلم يقدر على أخذ الحِصانَيْن
وهما عند الملك، فلما وهبهما للوزير الأعور ونقلهما إلى إصطبله، فرح العبدُ فرحًا
شديدًا وطمع في أخذهما وقال: وحق المسيح والدين الصحيح لَأسرقنهما.
ثم
إن العبد خرج في تلك الليلة قاصدًا ذلك الإصطبل ليسرق الحِصانَيْن، فبينما هو ماشٍ
في الطريق؛ إذ لاحَتْ منه التفاتة فرأى نور الدين نائمًا ومقاود الحِصانَيْن في
يده، فنزع المقاوِد من رأسَيْهما وأراد أن يركب واحدًا ويسوق الآخَر قدامه، وإذا
بالسيدة مريم قد أقبلَتْ وهي حاملة الخُرْجَيْن على كتفها، فظنَّتْ أن العبد هو
نور الدين، فناولَتْه أحد الخُرْجَيْن فوضعه على الحصان، ثم ناولَتْه الثاني فوضعه
على الحصان الآخَر وهو ساكت وهي تظن أنه نور الدين، ثم إنها خرجت من باب المدينة
والعبد ساكت، فقالت له: يا سيدي نور الدين، ما لك ساكت؟ فالتفَتَ العبد إليها وهو
مغضب وقال لها: أي شيء تقولين يا جارية؟ فسمعت بربرة العبد، فعرفت أنها غير لغة
نور الدين، فرفعت رأسها إليه ونظرته فوجدت له مناخير كالإبريق، فلما نظرته صار
الضياء في وجهها ظلامًا. فقالت له: مَن تكون يا شيخ بني حام؟ وما اسمك بين الأنام؟
فقال لها: يا بنت اللئام، أنا اسمي مسعود سرَّاق الخيل والناس نيام. فما ردَّتْ
عليه بشيء من الكلام، بل جرَّدَتْ من وقتها الحسام وضربته على عاتقه، فطلع يلمع من
علائقه، فوقع صريعًا على الأرض يختبط في دمه، وعجَّلَ الله بروحه إلى النار وبئس
القرار.
فعند
ذلك أخذَتِ السيدةُ مريم الحِصانَيْن وركبت واحدًا منهما، وقبضَتِ الآخرَ بيدها
ورجعت على عقبها تفتِّش على نور الدين، فلقيَتْه راقدًا في المكان الذي واعدَتْه
بالاجتماع فيه، والمقاود في يده وهو نائم يغطُّ في نومه، ولم يعرف يدَيْه من
رجليه، فنزلت عن ظهر الحصان ولكزته بيدها، فانتبه من نومه مرعوبًا، وقال لها: يا
سيدتي، الحمد لله على مجيئك سالمة. فقالت له: قُمِ اركَبْ هذا الحصان وأنت ساكت.
فقام وركب الحصان والسيدة مريم ركبت الحصان الثاني، وخرجَا من المدينة وسارَا ساعة
زمانية، وبعد ذلك التفتَتْ مريم إلى نور الدين وقالت له: أَمَا قلتُ لكَ لا
تَنَمْ؟ فإنه لا أفلَحَ مَن ينام. فقال: يا سيدتي، أنا ما نمتُ إلا من برد فؤادي
بميعادك، وأي شيء جرى يا سيدتي؟ فأخبرَتْه بحكاية العبد من المبتدأ إلى المنتهى،
فقال لها نور الدين: الحمد لله على السلامة، ثم جدَّا في إسراع المسير، وقد أسلمَا
أمرهما إلى اللطيف الخبير، وصارَا يتحدثان حتى وصلَا إلى العبد الذي قتلَتْه
السيدة مريم، فرآه مرميًّا في التراب كأنه عفريت، فقالت مريم لنور الدين: انزل
جرِّدْه من ثيابه وخُذْ سلاحَه. فقال لها: يا سيدتي، والله أنا لا أقدر أن أنزل عن
ظهر الحصان ولا أقف عنده ولا أتقرَّب منه. وتعجَّبَ نور الدين من خلقته، وشكر
السيدة مريم على فعلها، وتعجَّبَ من شجاعتها وقوة قلبها، ثم سارَا ولم يزالَا
سائرين سيرًا عنيفًا بقية الليل إلى أن أصبح الصباح وأضاء بنوره ولاح، وانتشرَتِ
الشمسُ على الروابي والبطاح، فوصلَا إلى مرج أفيح فيه الغزلان تمرح، وقد اخضرَّتْ
منه الجوانب وتشكَّلَتْ فيه الأثمار من كل جانب، وأزهاره كبطونِ الحيَّات والطيورُ
فيه عاكفات، وجداوله تجري مختلفة الصفات، كما قال فيه الشاعر وأجاد، ووفَّى
بالمراد:
وَقَانِي
لَفْحَةَ الرَّمْضَاءِ وَادٍ وَفَاهُ
مُضَاعِفُ النَّبْتِ الْعَمِيمِ
نَزَلْنَا
دَوْحَةً فَحَنَا عَلَيْنَا حُنُوَّ
الْمُرْضِعَاتِ عَلَى الْفَطِيمِ
وَأَرْشَفَنَا
عَلَى ظَمَأٍ زُلَالًا أَلَذَّ مِنَ
الْمُدَامَةِ لِلنَّدِيمِ
يَصُدُّ
الشَّمْسَ أَنَّى وَاجَهَتْنَا فَيَحْجُبُهَا
وَيَأْذَنُ لِلنَّسِيمِ
تَرُوعُ
حَصَاهُ حَالِيَةُ الْعَذَارَى فَتَلْمُسُ
جَانِبَ الدُّرِّ النَّظِيمِ
وكما
قال الآخَر:
وَإِذَا
تَرَنَّمَ طَيْرُهُ وَغَدِيرُهُ يَشْتَاقُهُ
الْوَلْهَانُ فِي الْأَسْحَارِ
فَكَأَنَّهُ
الْفِرْدَوْسُ فِي أَكْنَافِهِ ظِلٌّ
وَفَاكِهَةٌ وَمَاءٌ جَارِ
فعند
ذلك نزلت السيدة مريم هي ونور الدين ليستريحَا في ذلك الوادي. وأدرك شهرزاد الصباح،
فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 891﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن السيدة مريم ونور الدين لمَّا نزلَا في ذلك الوادي
أكلَا من أثماره، وشربَا من أنهاره، وأطلقَا الحِصانَيْن يأكلان في المرعى، فأكلَا
وشربَا من ذلك الوادي، وجلس نور الدين هو ومريم يتحدَّثان ويتذكران حكايتهما وما
جرى لهما، وكلٌّ منهما يشكو لصاحبه ما لاقاه من ألم الفراق، وما قاساه من البُعْد
والاشتياق، فبينما هما كذلك وإذا بغبار قد ثار حتى سدَّ الأقطار، وسمعَا صهيلَ
الخيل وقعقعة السلاح، وكان السبب في ذلك أن الملك لما زوَّجَ ابنته للوزير ودخل
عليها في تلك الليلة وأصبح الصباح، أراد الملك أن يصبِّح عليها كما جرت به العادة
عند الملوك في بناتهم، فقام وأخذ معه أقمشة الحرير ونثر الذهب والفضة ليتخاطفها
الخَدَمة والمواشط، ولم يزل الملك يتمشى هو وبعض الغلمان إلى أن وصل إلى القصر
الجديد، فوجد الوزير مرميًّا على الفرش لا يعرف رأسه من رجلَيْه، فالتفت الملك في
القصر يمينًا وشمالًا فلم يَرَ ابنته فيه، فتكدَّرَ حاله واشتغل باله وأمر بإحضار
الماء السخن والخل البكر والكندر، فلما أحضروا له ذلك خلطها ببعضها وسعَطَ الوزير
بهم، ثم هزَّهَ فخرج البنج من جوفه كقطع الجبن. ثم إن الملك سعَطَ الوزير بذلك
ثاني مرة فانتبه، فسأله عن حاله وعن حال ابنته مريم، فقال له: أيها الملك الأعظم،
لا عِلْمَ لي بها، غير أنها أسقتني قدحًا من الخمر بيدها، فمن ذلك الوقت ما عرفت
روحي إلا في هذه الساعة، ولا أعلم ما كان من أمرها. فلما سمع الملك كلام الوزير،
صار الضياء في وجهه ظلامًا، وسحب السيف وضرب به الوزير على رأسه، فخرج يلمع من
أضراسه، ثم إن الملك أرسَلَ من وقته وساعته إلى الغلمان والسيَّاس، فلما حضروا طلب
منهم الحِصانَيْن، فقالوا له: أيها الملك، إن الحِصانَيْن فُقِدَا في هذه الليلة،
وكبيرنا فُقِد معهما أيضًا، فإننا أصبحنا وجَدْنا الأبوابَ كلها مفتوحةً. فقال
الملك: وحقِّ ديني وما يعتقده يقيني، ما أخذ الحِصانَيْن إلا ابنتي هي والأسير
الذي كان يخدم الكنيسة، وكان قد أخذها في المرة الأولى، وعرفته حقَّ المعرفة ولم
يخلِّصه من يدي إلا هذا الوزير الأعور، وقد جُوزِي بفعله.
ثم
إن الملك دعَا في الوقت بأولاده الثلاثة، وكانوا أبطالًا شجعانًا، كل واحد منهم
يقوم بألف فارس في حومة الميدان، ومقام الضرب والطِّعَان، ثم صاح الملك عليهم
وأمرهم بالركوب، فركبوا وركب الملك بجملتهم مع خواصِّ بطارقته وأرباب دولته
وأكابرهم، وصاروا يتَّبِعون أثرهما، فلحقوهما في ذلك الوادي، فلما رأَتْهم مريم
نهضَتْ وركبت جوادها، وتقلَّدَتْ بسيفها وحملت آلةَ سلاحها، وقالت لنور الدين: ما
حالك؟ وكيف قلبك في القتال والحرب والنزال؟ فقال لها: إن ثَباتي في النِّزال مثل
ثبات الوتد في النخال. ثم أنشد وقال:
يَا
مَرْيَمُ اطَّرِحِي أَلِيمَ عِتَابِي
لَا تَقْصُدِي قَتْلِي وَطُولَ عَذَابِي
مِنْ
أَيْنَ لِي أَنِّي أَكُونُ مُحَارِبًا
إِنِّي لَأَفْزَعُ مِنْ نَعِيقِ غُرَابِ
وَإِذَا
نَظَرْتُ الْفَارَ أَفْزَعُ خِيفَةً
وَأَبُولُ مِنْ خَوْفِي عَلَى أَثْوَابِي
أَنَا
لَا أُحِبُّ الطَّعْنَ إِلَّا خَلْوَةً
وَالكُسُّ يَعْرِفُ سَطْوَةَ الْأَزْبَابِ
هَذَا
هُوَ الْرَأْيُ السَّدِيدُ وَمَا يُرَى
مِنْ دُونِ هَذَا الرَّأْيِ غَيْرُ صَوَابِ
فلما
سمعت مريم من نور الدين هذا الكلام والشعر والنظام، أظهرت له الضحك والابتسام،
وقالت له: يا سيدي نور الدين، استقِمْ مكانك وأنا أكفيك شرَّهم، ولو كانوا عددَ
الرمل. ثم إنها تهيَّأَتْ من وقتها وساعتها، وركبت ظهر جوادها، وأطلقَتْ من يدها
طرفَ العِنَان، وأدارت من الرمح جهةَ السِّنان، فخرج ذلك الحصان من تحتها كأنه
الريح الهبوب، أو الماء إذا اندفق من ضيق الأنبوب، وقد كانت مريم أشجع أهل زمانها
وفريدة عصرها وأوانها؛ لأن أباها علَّمَها وهي صغيرةٌ الركوبَ على ظهر الخيل،
وخوْضَ بحار الحرب في ظلام الليل، وقالت لنور الدين: اركب جوادَك وكُنْ خلف ظهري،
وإذا انهزمنا فاحرص على نفسك من الوقوع، فإن جوادك ما يلحقه لاحق. فلما نظر الملك
إلى ابنته مريم، عرفها غايةَ المعرفة والتفَتَ إلى ولده الأكبر وقال له: يا برطوط،
يا ملقَّب برأس القلوط، إن هذه أختك مريم لا شكَّ فيها ولا ريب، قد حملت علينا
وطلبت حرْبَنا وقتالنا، فابرزْ إليها واحملْ عليها، وحقِّ المسيح والدين الصحيح
إنك إنْ ظفرت بها لا تقتلها حتى تعرض عليها دينَ النصارى، فإن رجعَتْ إلى دينها
القديم فارجعْ بها أسيرة، وإن لم ترجع إليه فاقتلها أقبحَ قِتْلة، ومثِّلْ بها
أشنع مُثْلة، وكذلك هذا الملعون الذي معها مثِّلْ به أقبح مُثْلة. فقال له برطوط:
السمع والطاعة. ثم برز لأخته مريم من وقته وساعته، وحمل عليها فلاقَتْه وحملت عليه
ودَنَتْ منه وتقرَّبَتْ إليه، فقال لها برطوط: يا مريم، أَمَا يكفي ما جرى منك حيث
تركتِ دينَ الآباء والأجداد، واتَّبعتِ دينَ السيَّاحين في البلاد؟ (يعني دين الإسلام)،
ثم قال: وحق المسيح والدين الصحيح، إنْ لم ترجعي إلى دين آبائك وأجدادك من الملوك،
وتسلكي فيه أحسن السلوك، لَأقتلَنَّك شرَّ قِتْلة وأمثِّل بك أقبح مُثْلة. فضحكَتْ
مريم من كلام أخيها وقالت: هيهاتَ هيهاتَ أن يعود ما فات، أو يعيش مَن مات، بل
أُجرِّعك أشدَّ الحسرات، أنا والله لستُ براجعةٍ عن دين محمد بن عبد الله الذي
عَمَّ هُدَاه، فإنه هو الدين الحق، فلا أترك الهدى ولو سُقِيتُ كئوسَ الرَّدَى.
وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 892﴾
قالت: بلغني أيها الملك السعيد،
أن مريم قالت لأخيها: هيهاتَ هيهاتَ أن أرجع عن دين محمد بن عبد الله، الذي عمَّ
هُدَاه، فإنه دين الهدى، ولو سُقِيتُ كئوسَ الرَّدَى. فلما سمع الملعون برطوط من
أخته هذا الكلام، صار الضياء في وجهه ظلامًا، وعظُمَ ذلك عليه وكبُرَ لديه، والتهب
بينهما القتال، واشتدَّ الحرب والنزال، وغاص الاثنان في الأودية العِرَاض الطوال،
وصبرَا على الشدائد وشَخَصت لهما الأبصار، فأخذهما الانبهار، ثم جالَا مليًّا
واعتركَا طويلًا، وصار برطوط كلما يفتح لأخته مريم بابًا من الحرب، تُبطِله عليه
وتسدُّه بحُسْن صناعتها وقوة براعتها ومعرفتها وفروسيتها، ولم يزالَا على تلك
الحالة حتى انعقَدَ على رأسيهما الغبار، وغاب الفارسان عن الأبصار، ولم تزل مريم
تحاوله وتسدُّ عليه طريقه حتى كلَّ وبطلت همته، واضمحلَّ عزمه وضعُفَتْ قوَّته،
فضربته بالسيف على عاتقه فخرج من علائقه، وعجَّلَ الله بروحه إلى النار وبئس
القرار.
ثم
إن مريم جالَتْ في حومة الميدان وموقف الحرب والطِّعان، وطلبت البِراز وسألت
الإنجاز. وقالت: هل من مقاتل؟ هل من مناجِز؟ لا يبرز لي اليومَ كسلان ولا عاجز، لا
يبرز لي إلا أبطال أعداء الدين لأسقيهم كأسَ العذاب المهين، يا عبَدةَ الأوثان
وذوي الكفر والطغيان، هذا يوم تبيضُّ فيه وجوه أهل الإيمان، وتسودُّ وجوه أهل
الكفر بالرحمن. فلما رأى الملك ولده الكبير قد قُتِل، لطم على وجهه وشقَّ أثوابه،
وصاح على ولده الوسطاني وقال له: يا برطوس، يا ملقَّب بخرء السوس، ابرز يا ولدي
بسرعة إلى قتال أختك مريم، وخذ منها ثأر أخيك برطوط، وائتني بها أسيرة ذليلة
حقيرة. فقال له: يا أبتِ، السمع والطاعة. ثم إنه برز لأخته مريم وحمل عليها،
فلاقَتْه وحملَتْ عليه، فتقاتلَتْ هي وإياه قتالًا شديدًا أشدَّ من القتال الأول،
فرأى أخوها الثاني نفسَه عاجزًا عن قتالها، فأراد الفرار والهروب، فلم يمكنه ذلك
من شدة بأسها؛ لأنها كلما ركن إلى الفرار تقرَّبَتْ منه ولاصقَتْه وضايقَتْه، ثم
ضربته بالسيف على رقبته، فخرج يلمع من لبِّه، وألحقَتْه بأخيه.
وبعد
ذلك جالَتْ في حومة الميدان وموقف الحرب والطِّعان، وقالت: أين الفرسان والشجعان؟
أين الوزير الأعور الأعرج صاحب الدين الأعوج؟ فعند ذلك صاح أبوها بقلب جريح،
وطرْفٍ من الدمع قريح، وقال: إنها قتلَتْ ولدي الأوسط، وحقِّ المسيح والدين
الصحيح. ثم إنه صاح على ولده الصغير وقال له: يا فسيان، يا ملقَّب بسلح الصبيان،
اخرج يا ولدي إلى قتال أختك وخُذْ منها ثأرَ أخوَيْك وصادِمْها، إما لك أو عليك،
وإنْ ظفرتَ بها فاقتلْها أقبح قِتْلة. فعند ذلك برز لها أخوها الصغير وحمل عليها،
فنهضت إليه ببراعتها، وحملت عليه بحُسْن صناعتها وشجاعتها ومعرفتها بالحرب
وفروسيتها، وقالت له: يا عدو الله وعدو المسلمين، لَألحقنَّك بأخوَيْك وبئس مَثْوى
الكافرين. ثم إنها جذبَتْ سيفها من غِمْده وضربته، فقطعت عنقه وذراعَيْه وألحقَتْه
بأخوَيْه، وعجَّلَ الله بروحه إلى النار وبئس القرار. فلما رأى البطارقة والفرسان
الذين كانوا راكبين مع أبيها أولاده الثلاثة قد قُتِلوا وكانوا أشجعَ أهلِ زمانهم،
وقع في قلوبهم الرعب من السيدة مريم وأدهشتهم الهيبة، ونكَّسُوا رءوسَهم إلى الأرض
وأيقنوا بالهلاك والدمار، والذل والبوار، واحترقت قلوبهم من الغيظ بلهيب النار،
فولَّوا الأدبار وركنوا إلى الفرار.
فلما
نظر الملك إلى أولاده وقد قُتِلوا، وإلى عساكره وقد انهزموا، أخذته الحيرة
والانبهار، واحترق قلبه بلهيب النار، وقال في نفسه: إن السيدة مريم قد استقلَّتْ
بنا، وإن جازفتُ بنفسي وبرزتُ إليها وحدي، ربما غلبَتْ عليَّ وقهرتني فتقتلني أشنع
قِتْلة، وتمثِّل بي أقبح مُثْلة كما قتلَتْ إخوتها؛ لأنها لم يَبْقَ لها فينا
رجاء، ولا لنا في رجوعها طمع، والرأي عندي أن أحفظ حرمتي وأرجع إلى مدينتي. ثم إن
الملك أرخى عِنان فَرَسه، ورجع إلى مدينته، فلما استقرَّ في قصره انطلقَتْ في قلبه
النار من أجل قتل أولاده الثلاثة، وانهزام عسكره وهتك حرمته، فما استقرَّ نصف ساعة
حتى طلب أربابَ دولته وكبراء مملكته، وشكا إليهم فِعْلَ ابنته مريم معه، من قتلها
لإخوتها، وما لاقاه من القهر والحزن، واستشارهم، فأشاروا عليه كلهم أن يكتب كتابًا
إلى خليفة الله في أرضه أمير المؤمنين هارون الرشيد، ويُعلِمه بهذه القضية. فكتب
إلى الرشيد مكتوبًا مضمونه: «بعد السلام على أمير المؤمنين، إنَّ لنا بنتًا اسمها
مريم الزنارية، قد أفسَدَها علينا أسيرٌ من أسرى المسلمين اسمه نور الدين علي ابن
التاجر تاج الدين المصري، وأخذها ليلًا وخرج بها إلى ناحية بلاده، وأنا أسأل من
فضل مولانا أمير المؤمنين أن يكتب إلى سائر بلاد المسلمين بتحصيلها وإرسالها إلينا
مع رسول أمين». وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 893﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن ملك إفرنجة لما كتب إلى الخليفة أمير المؤمنين هارون
الرشيد كتابًا يتضرَّع إليه فيه بطلب ابنته مريم، ويسأله من فضله أن يكتب إلى سائر
بلاد المسلمين بتحصيلها وإرسالها مع رسول أمين، من خدَّام حضرة أمير المؤمنين، ومن
جملة مضمون ذلك الكتاب: «إننا نجعل لكم في نظير مساعدتكم لنا على هذا الأمر، نصفَ
مدينة رومة الكبرى لتبنوا فيها مساجد للمسلمين، ويُحمَل إليكم خَراجُها». وبعد أن
كتب الكتاب برأي أهل مملكته وكبراء دولته، طواه ودعا بوزيره الذي جعله وزيرًا مكان
الوزير الأعور، وأمره أن يختم الكتاب بختم الملك، وكذلك ختمه أربابُ دولته بعد أن
وضعوا خطوط أيديهم فيه، ثم قال لوزيره: إن أتيتَ بها فلك عندي إقطاعُ أميرَيْن،
وأخلع عليك خِلْعة بطرزين. ثم ناوَلَه الكتابَ وأمره أن يسافر إلى مدينة بغداد دار
السلام، ويوصل الكتاب إلى أمير المؤمنين من يده إلى يده. ثم سافر الوزير بالمكتوب،
وسار يقطع الأودية والقفار حتى وصل إلى مدينة بغداد، فلما دخلها مكث فيها ثلاثة
أيام حتى استقرَّ واستراح، ثم سأل عن قصر أمير المؤمنين هارون الرشيد فدلُّوه
عليه، فلما وصل إليه طلَبَ إذنًا من أمير المؤمنين في الدخول عليه، فأُذِنَ له في
ذلك، فدخل عليه وقبَّلَ الأرض بين يدَيْه، وناوَلَه الكتابَ الذي من مَلِك إفرنجة،
وصحبته من الهدايا والتُّحَف العجيبة ما يليق بأمير المؤمنين، فلما فتح الخليفة
المكتوب وقرأه وفهم مضمونه، أمر وزراءه من وقته أن يكتبوا المكاتيب إلى سائر بلاد
المسلمين، ففعلوا ذلك وبيَّنوا في المكاتيب صفة مريم وصفة نور الدين، واسمه
واسمها، وأنهما هاربان، فكلُّ مَن وجدهما فَلْيقبض عليهما ويرسلهما إلى أمير
المؤمنين، وحذَّروهم من أن يعطوا في ذلك إمهالًا أو إهمالًا أو غفلة، ثم خُتِمت
الكتبُ وأُرسِلت مع السعاة إلى العمَّال، فبادروا في امتثال الأمر، وساروا
يفتِّشون في سائر البلاد على مَن يكون بهذه الصفة.
هذا
ما كان من أمر هؤلاء الملوك وأتباعهم، وأما ما كان من أمر نور الدين المصري ومريم
الزنارية بنت ملك إفرنجة، فإنهما ركِبَا بعد انهزام الملك وعساكره من وقتهما
وساعتهما، وسارَا إلى بلاد الشام، وقد ستر عليهما الستَّار، فوصَلَا إلى مدينة
دمشق، وكانت الطوالع التي أرسلها الخليفة قد سبقتهما إلى دمشق بيوم، فعلم أمير
دمشق أنه مأمورٌ بالقبض عليهما متى وجدهما ليُحضِرهما بين يدَيِ الخليفة، فلما كان
يوم دخولهما إلى دمشق، أقبَلَ عليهما الجواسيس فسألوهما عن اسمهما، فأخبراهم
بالصحيح، وقصَّا عليهم قصتهما وجميع ما جرى عليهما، فعرفوهما وقبضوا عليهما،
وأخذوهما وساروا بهما إلى أمير دمشق، فأرسلهما إلى الخليفة بمدينة بغداد دار
السلام، فلما وصلوا إليها استأذنوا في الدخول على أمير المؤمنين هارون الرشيد،
فأذِنَ لهم، فلما دخلوا عليه قبَّلوا الأرض بين يدَيْه، وقالوا له: يا أمير المؤمنين،
إن هذه مريم الزنارية بنت ملك إفرنجة، وهذا نور الدين ابن التاجر تاج الدين المصري
الأسير، الذي أفسدها على أبيها وسرقها من بلاده ومملكته، وهرب بها إلى دمشق،
فوجدناهما وقت دخولهما دمشق وسألناهما عن اسمَيْهما فأجابانا بالصحيح، فعند ذلك
أتينا بهما وأحضرناهما بين يدَيْكَ. فنظر أمير المؤمنين إلى مريم فرآها رشيقةَ
القدِّ والقوام، فصيحة الكلام، مليحة أهل زمانها، فريدة عصرها وأوانها، حلوة
اللسان، ثابتة الجنان، قوية القلب، فلما وصلَتْ إليه قبَّلَتِ الأرضَ بين يدَيْه
ودعَتْ له بدوام العز والنِّعَم، وزوال البؤس والنِّقَم، فأعجَبَ الخليفةَ حُسْنُ
قوامها وعذوبةُ ألفاظها وسرعةُ جوابها، فقال لها: هل أنت مريم الزنارية بنت ملك
إفرنجة؟ قالت: نعم يا أمير المؤمنين وإمام الموحِّدين، وحامي حومة الدين وابن عمِّ
سيد المرسلين. فعند ذلك التفَتَ الخليفة فرأى عليًّا نور الدين، شابًّا مليحًا حسن
الشكل كأنه البدر المنير في ليلة تمامه، فقال له الخليفة: هل أنت علي نور الدين
الأسير ابن التاجر تاج الدين المصري؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين وعمدة القاصدين.
فقال الخليفة: كيف أخذتَ هذه الصبية من مملكة أبيها وهربت بها؟ فصار نور الدين
يحدِّث الخليفة بجميع ما جرى له من أول الأمر إلى آخِره، فلما فرغ من حديثه
تعجَّبَ الخليفة من ذلك غاية العجب، وأخذه من التعجُّب فرط الطرب، وقال: ما أكثر
ما يقاسيه الرجال! وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 894﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الخليفة هارون لما سأل نور الدين عن قصته، أخبره
بجميع ما جرى له من المبتدأ إلى المنتهى، فتعجَّبَ الخليفة من ذلك غايةَ العجب
وقال: ما أكثر ما يقاسيه الرجال! ثم إنه التفَتَ إلى السيدة مريم وقال لها: يا
مريم، اعلمي أن والدك ملك إفرنجة قد كاتَبَنا في شأنك، فما تقولين؟ قالت: يا خليفة
الله في أرضه، وقائمًا بسُنَّة نبيِّه وفرْضِه، خلَّدَ الله عليك النِّعَم، وأجارك
من البؤس والنِّقَم، أنت خليفة الله في أرضه، إني قد دخلتُ دينكم لأنه هو الدين
القويم الصحيح، وتركت ملة الكَفَرة الذين يتكذَّبون على المسيح، وقد صرتُ مؤمنةً
بالله الكريم، ومصدِّقةً بما جاء به رسوله الرحيم، أعبد الله سبحانه وتعالى
وأوحِّده، وأسجد خاضعةً إليه وأمجِّده، وأنا قائلة بين يدَيِ الخليفة: أشهد أن لا
إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، أرسَلَه بالهدى ودين الحق ليُظهِره على
الدين كله ولو كره المشركون؛ فهل في وسعك يا أمير المؤمنين أن تقبل كتابَ ملك
الملحدين، وتُرسِلني إلى بلاد الكافرين، الذين يشركون بالملك العلَّام، ويعظِّمون
الصليب ويعبدون الأصنام، ويعتقدون إلهية عيسى وهو مخلوق؟ فإن فعلتَ بي ذلك يا
خليفة الله، أتعلَّقُ بأذيالك يوم العرض على الله، وأشكوك إلى ابن عمك رسول
الله ﷺ يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا مَن أتى اللهَ بقلب سليم. فقال
أمير المؤمنين: يا مريم، معاذ الله أن أفعل ذلك أبدًا، كيف أردُّ امرأةً مسلمةً
موحِّدةً بالله ومصدِّقةً برسوله، إلى ما نهى الله عنه ورسوله؟ فقالت مريم: أشهد
أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. فقال لها أمير المؤمنين: يا مريم،
بارَكَ الله فيك، وزادَكِ هدايةً إلى الإسلام، وحيث كنتِ مسلمةً موحِّدةً بالله،
فقد صار لك علينا حقٌّ واجب، وهو أنني لا أفرِّط فيك أبدًا، ولو بُذِل لي من أجلك
ملء الأرض جواهر وذهبًا؛ فطِيبي نفسًا وقرِّي عينًا وانشرحي صدرًا، ولا يكن خاطرك
إلا طيِّبًا، فهل رضيتِ أن يكون هذا الشاب علي المصري لكِ بَعْلًا وتكوني له
أهلًا؟ فقالت مريم: يا أمير المؤمنين، كيف لا أرضى أن يكون لي بعلًا، وقد اشتراني
بماله وأحسَنَ إليَّ غايةَ الإحسان، ومن تمام إحسانه أنه خاطَرَ بروحه من أجلي
مرات عديدة. فزوَّجَها به مولانا أمير المؤمنين، وعمل لها مهرًا وأحضَرَ القاضي
والشهود وأكابر دولته يوم زواجها عند كتب الكتاب، وكان يومًا مشهودًا.
ثم
بعد ذلك التفَتَ أمير المؤمنين من وقته وساعته إلى وزير ملك الروم، وكان حاضرًا في
تلك الساعة وقال له: هل سمعتَ كلامها؟ كيف أُرسِلها إلى أبيها الكافر وهي مسلمة
موحِّدة؟ وربما ساءَها وأغلظ عليها، خصوصًا وقد قتلَتْ أولاده، فأتحمَّلُ أنا
ذنبها يوم القيامة، وقد قال الله تعالى: وَلَن
يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلًا، فارجع إلى مَلِكك
وقُلْ له: ارجع عن هذا الأمر ولا تطمع فيه. وكان ذلك الوزير أحمق، فقال للخليفة:
يا أمير المؤمنين، وحق المسيح والدين الصحيح، إني لا يمكنني الرجوع دون مريم ولو
كانَتْ مسلمةً؛ لأني لو رجعتُ إلى أبيها دونها يقتلني. فقال الخليفة: خذوا هذا
الملعون واقتلوه. وأنشد هذا البيت:
هَذَا
جَزَاءُ مَنْ عَصَى مَنْ فَوْقَهُ
وَعَصَانِيَهْ
ثم
أمر بضرب عنق الوزير الملعون وحرقه، فقالت السيدة مريم: يا أمير المؤمنين، لا
تنجِّس سيفك بدم هذا الملعون. ثم جرَّدَتْ سيفها وضربَتْه به، فأطاحت رأسه عن
جثته، فذهب إلى دار البوار ومأواه جهنم وبئس القرار، فتعجَّبَ الخليفة من صلابة
ساعدها وقوة جنانها، ثم خلع على نور الدين خِلْعةً سنيَّة، وأفرَدَ لهما مكانًا في
قصره هي ونور الدين ورتَّبَ لهما المرتبات والجوامك والعلوفات، وأمر بأن يُنقَل
إليهما جميعُ ما يحتاجان إليه من الملابس والمفارش والأواني النفيسة، وأقامَا في
بغداد مدةً من الزمان، وهما في أرغد عيش وأهناه.
وبعد
ذلك اشتاق نور الدين إلى أمه وأبيه، فعرض الأمرَ على الخليفة وطلب منه إذنًا في
التوجُّهِ إلى بلاده وزيارة أقاربه، ودعَا بمريم وأحضرها بين يدَيْه، فأجازه
بالتوجُّه وأتحَفَه بالهدايا والتحف المثمنة، وأوصى مريم ونور الدين ببعضهما، ثم
أمر بالمكاتيب إلى أمراء مصر المحروسة وعلمائها وكبرائها بالوصية على نور الدين هو
ووالدَيْه وجاريته، وإكرامهم غاية الإكرام. فلما وصلَتِ الأخبارُ إلى مصر، فرح
التاجر تاج الدين بعَوْد ولده نور الدين، وكذلك أمه فرحت بذلك غاية الفرح، وخرج
للقائه الأكابر والأمراء وأرباب الدولة، من أجل وصية الخليفة، فلاقوا نور الدين،
وكان لهم يوم مشهود مليح عجيب، اجتمع فيه المحب والمحبوب، واتصل الطالب بالمطلوب،
وصارت الولائم كلَّ يوم على واحد من الأمراء، وفرحوا بهم الفرح الزائد، وأكرموهم
الإكرام المتصاعد. فلما اجتمع نور الدين بوالدته ووالده، فرحوا ببعضهم غاية الفرح،
وزال عنهم الهمُّ والتَّرَح، وكذلك فرحوا بالسيدة مريم وأكرموها غاية الإكرام،
ووصلت إليهم الهدايا والتحف من سائر الأمراء والتجار العظام، وصاروا كلَّ يوم في
انشراح جديد وسرور أعظم من سرور العيد. ولم يزالوا في فرح ولذات، ونِعَم جزيلة
مطربات، وأكل وشرب وفرح وسرور مدةً من الزمان، إلى أن أتاهم هادم اللذات ومفرِّق
الجماعات، ومخرِّب الدور والقصور ومعمِّر بطون القبور، فانتقلوا من الدنيا
بالممات، وصاروا في عداد الأموات، فسبحان الحي الذي لا يموت، وبيده مقاليد الملك
والملكوت.
ومما
يُحكَى أيضًا أن الأمير شجاع الدين محمد متولي القاهرة قال: بتنا عند رجل من بلاد
الصعيد فضيَّفَنا وأكرمنا، وكان ذلك الرجل أسمرَ شديدَ السُّمْرة وهو شيخ كبير، وكان
له ولاد صغار بيض، بياضهم مشرَّب بحُمْرة، فقلنا: يا فلان، ما بال أولادك هؤلاء
بيضًا وأنت شديد السُّمْرة؟ فقال: هؤلاء أمهم إفرنجية، أخذتها ولي معها حديث عجيب.
فقلنا له: أَتْحِفْنا به. فقال: نعم، اعلموا أني قد كنتُ زرعتُ كتَّانًا في هذه
البلدة وقلعته ونفضته وصرفت عليه خمسمائة دينار، ثم أردتُ بيعه فلم يجئ لي منه شيء
أكثر من ذلك. فقالوا لي: اذهبْ به إلى عكاء لعلك تربح فيه ربحًا عظيمًا. وكانت
عكاء ذلك الوقت في يد الإفرنج، فذهبتُ به إلى عكاء وبعتُ بعضه صبرًا إلى ستة أشهر،
فبينما أنا أبيع إذ مرَّتْ بي امرأة إفرنجية، وعادةُ نساءِ الإفرنج أن تمشي في
السوق بلا نقابٍ، فأتَتْ لتشتري مني كتَّانًا، فرأيتُ من جمالها ما بهر عقلي،
فبعتُ لها شيئًا وتساهلت في الثمن، فأخذته وانصرفت، ثم عادت إليَّ بعد أيامٍ فبعتُ
لها شيئًا وتساهلتُ معها أكثرَ من المرة الأولى، فكرَّرَتْ مجيئها لي وعرفت أني
أحبها، وكان عادتها أن تمشي مع عجوز، فقلت للعجوز التي معها: إني قد شُغِفْتُ
بحبها، فهل تتحيَّلين لي في الاتصال بها؟ فقالت: أتحيَّل لكَ في ذلك، ولكن هذا
السر لا يخرج من بين ثلاثتنا، أنا وأنت وهي، ومع ذلك لا بد من أن تبذل مالًا.
فقلتُ لها: إذا ذهبتْ رُوحي باجتماعي عليها فما هو كثير. وأدرك شهرزاد الصباح،
فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 895﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن العجوز لما أجابَتْ ذلك الرجلَ، قالت له: ولكن هذا
السر لا يخرج من بين ثلاثتنا، أنا وأنت وهي، ولا بد من أن تبذل مالًا. فقال لها:
إذا ذهبتْ رُوحي باجتماعي عليها فما هو كثير. واتفق الحال على أن يدفع لها خمسين
دينارًا وتجيء إليه، فجهَّزَ الخمسين دينارًا وسلَّمَها للعجوز. فلما أخذت الخمسين
دينارًا قالت له: هيِّئ لها موضعًا في بيتك وهي تجيء إليك في هذه الليلة. ثم قال:
فمضيتُ وجهَّزْتُ ما قدرتُ عليه من مأكل ومشرب وشمع وحلوى، وكانت داري مُطِلَّة
على البحر، وكان ذلك في زمن الصيف، ففرشتُ على سطح الدار، وجاءت الإفرنجية فأكلنا
وشربنا، وجَنَّ الليل فنمنا تحت السماء والقمر يضيء علينا، وسرنا ننظر خيالَ
النجوم في البحر؛ فقلتُ في نفسي: أَمَا تستحي من الله عز وجل وأنت غريب وتحت
السماء وعلى البحر وتعصي الله تعالى مع نصرانية، وتستوجب عذابَ النار؟ اللهم إني
أُشهِدُكَ أني قد عففتُ عن هذه النصرانية في هذه الليلة حياءً منك وخوفًا من عقابك.
ثم
إني نمتُ إلى الصبح وقامت في السَّحَر وهي غَضْبى ومضَتْ إلى مكانها، ومشيتُ أنا
إلى حانوتي فجلستُ فيه، وإذا هي قد عبرَتْ عليَّ هي والعجوز وهي مُغضَبة وكأنها
القمر، فهلكتُ وقلتُ في نفسي: مَن هو أنت حتى تترك هذه الجارية؟ هل أنت السَّرِيُّ
السَّقَطي، أو بِشْر الحافي، أو الجُنَيْد البغدادي، أو الفُضَيْل بن عياض؟ ثم
لحقتُ العجوزَ وقلتُ لها: ارجعي إليَّ بها. فقالت العجوز: وحقِّ المسيح ما ترجع
إليك إلا بمائة دينار. فقلتُ: أعطيكِ مائة دينار. ثم أعطيتُها المائةَ دينار وجاءت
إليَّ ثاني مرة، فلما صارت عندي رجعتُ إلى تلك الفكرة، فعففتُ عنها وتركتها لله
تعالى، ثم مضيتُ ومشيتُ إلى موضعي. ثم عبرَتْ عليَّ العجوزُ وهي غَضْبى، فقلت لها:
ارجعي بها إليَّ. فقالت: وحقِّ المسيح، ما بقيتَ تفرح بها عندك إلا بخمسمائة دينار
وتموت كمدًا. فارتعدتُ لذلك، وعزمتُ أن أغرم ثمنَ الكتَّان جميعه وأفدي نفسي بذلك،
فما شعرتُ إلا والمنادي ينادي ويقول: يا معاشر المسلمين، إن الهدنةَ التي بيننا
وبينكم قد انقضَتْ، وقد أمهلنا مَن هنا من المسلمين جمعةً ليقضوا أشغالهم وينصرفوا
إلى بلادهم. فانقطعَتْ عني وأخذْتُ في تحصيل ثمن الكتَّان الذي اشتراه مني الناسُ
مؤجلًا والمقايَضة على ما بقي منه، وأخذت معي بضاعةً حسنةً، وخرجتُ من عكاء وأنا
في قلبي من الإفرنجية ما فيه من شدة المحبة والعشق؛ لأنها أخذَتْ قلبي ومالي.
ثم
خرجتُ وسرتُ حتى وصلتُ دمشقَ وبعتُ البضاعةَ التي أخذتها من عكاء بأقصى ثمنٍ
لانقطاع وصولها بسبب انقضاء مدة الهدنة، ومَنَّ الله سبحانه وتعالى عليَّ بكسبٍ
جيد، وصرتُ أتَّجِر في جواري السَّبْي ليذهب ما بقلبي من الإفرنجية، ولازمتُ
التجارةَ فيهن، فمضَتْ عليَّ ثلاثُ سنوات وأنا بتلك الحالة، وجرى للملك الناصر مع
الإفرنج ما جرى من الوقائع ونصَرَه الله عليهم وأسَرَ جميعَ ملوكهم وفتح بلاد
الساحل بإذن الله تعالى، فاتفق أنه جاء رجل وطلب مني جارية للملك الناصر، وكان
عندي جارية حسناء فعرضتُها عليه، فاشتراها له مني بمائة دينار، فأوصلني تسعين
دينارًا وبقي لي عشرة دنانير، فلم يجدوها في خزنته ذلك اليوم؛ لأنه أنفق الأموال
جميعها في حرب الإفرنج، فأخبروه بذلك، فقال الملك: امضوا به إلى خزنة السَّبْي
وخيِّروه بين بنات الإفرنج ليأخذ واحدةً منهن في العشرة دنانير. وأدرك شهرزاد
الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 896﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك الناصر لما قال: خيِّروه في واحدةٍ منهن
ليأخذها في العشرة دنانير التي له، أخذوني وتوجَّهوا بي إلى خزنة السَّبْي، فنظرتُ
ما فيها وتأمَّلْتُ في جميع السَّبْي فرأيتُ الجاريةَ الإفرنجية التي كنتُ
تعلَّقْتُ بها وعرفتها حق المعرفة، وكانت امرأةَ فارسٍ من فرسان الإفرنج، فقلتُ:
أعطوني هذه. فأخذتُها ومضيتُ إلى خيمتي وقلتُ لها: أتعرفينني؟ قالت: لا. قلتُ: أنا
صاحبك الذي كنتُ أتاجر في الكتَّان، وقد جرى لي معك ما جرى، وأخذتِ مني الذهب
وقلتِ: ما بقيتَ تنظرني إلا بخمسمائة دينار، وقد أخذتُكِ ملكًا بعشرة دنانير.
فقالت: هذا سرُّ دينك الصحيح، أنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول
الله. فأسلمَتْ وحسُنَ إسلامها، فقلتُ في نفسي: والله لا أفضي إليها إلا بعد عتقها
وإطلاع القاضي. فرُحْتُ إلى ابن شداد وحكيتُ له ما جرى وعقد لي عليها، ثم بعد ذلك
بتُّ معها فحملَتْ، ثم رحل العسكر وأتينا دمشق، فما كان إلا أيام قلائل وأتى رسول
الملك يطلب الأسارى والسَّبْي باتفاقٍ وقَعَ بين الملوك، فرُدَّ كلُّ مَن كان
أسيرًا من النساء والرجال، ولم يَبْقَ إلا المرأة التي عندي، فقالوا: إن امرأةَ
الفارس فلان لم تحضر. وسألوا عنها وألَحُّوا في السؤال والكشف، فأُخبِروا بأنها
عندي، فطلبوها مني، فحضرتُ وأنا في شِدَّة الوَلَه وقد تغيَّرَ لوني. فقالت لي: ما
لك، وما الذي أصابك؟ فقلتُ: جاء رسول الملك يأخذ الأسارى جميعهم وطلبوكِ مني.
فقالت: لا بأس عليك، أوصلني إلى الملك وأنا أعرف الذي أقوله بين يديه. قال:
أخذتُها وأحضرتُها قدام السلطان الملك الناصر، ورسول ملك الإفرنج جالِسٌ على
يمينه. وقلتُ: هذه المرأة التي عندي. فقال لها الملك الناصر والرسول: أتروحين إلى
بلادك أم إلى زوجك؟ فقد فكَّ الله أسْرَكِ أنت وغيركِ. فقالت للسلطان: أنا قد
أسلمتُ وحملتُ وها بطني كما ترون، وما بقيت الإفرنج تنتفع بي. فقال الرسول: أيما
أحَبُّ إليك، أهذا المسلم أم زوجك الفارس فلان؟ فقالت له كما قالت للسلطان. فقال
الرسول لمَن معه من الإفرنج: هل سمعتم كلامها؟ قالوا: نعم. ثم قال لي الرسول: خذ
امرأتك وامضِ بها. فمضيتُ بها، ثم إنه أرسَلَ خلفي عاجلًا وقال: إن أمها أرسلَتْ
إليها معي وديعةً وقالت: إن بنتي أسيرة وهي عريانة، ومرادي أن توصل إليها هذا
الصندوق، فخذه وسلِّمْه إليها. فتسلَّمْتُ الصندوقَ ومضيتُ به إلى الدار وأعطيته
لها، ففتحَتْه فرأَتْ فيه قماشها بعينه ووجدت الصرَّتَيْن الذهب والخمسين دينارًا
والمائة دينار، فرأيتُ الجميعَ برباطي لم يتغيَّر منها شيء، وحمدت الله تعالى،
وهؤلاء الأولاد منها، وهي تعيش إلى الآن، وهي التي عملَتْ لكم هذا الطعام.
فتعجَّبْنا من حكايته وما حصل له من الحظ، والله أعلم.
ومما
يُحكَى أنه كان في قديم الزمان رجلٌ بغدادي من أولاد أهل النِّعَم، ورث عن أبيه
مالًا جزيلًا، وكان يعشق جاريةً فاشتراها وكانت تحبه كما يحبها، ولم يَزَلْ ينفق
عليها إلى أن ذهب جميعُ ماله ولم يَبْقَ منه شيء، فطلب شيئًا من أسباب المعاش
يتعيَّشُ فيه فلم يقدر، وكان ذلك الفتى في أيام غناه يحضر مجالس العارفين بصناعة
الغناء، فبلغ فيها الغاية القصوى، فاستشار أحدَ إخوانه فقال له: أنا لا أعرف لك
صنعةً أحسن من أن تغنِّي أنت وجاريتك، فتأخذ على ذلك المال الكثيرَ وتأكل وتشرب.
فكَرِه ذلك هو والجارية، فقالت له جاريته: قد رأيتُ لك رأيًا. قال: وما هو؟ قالت:
تبيعني ونخلص من هذه الشدة أنا وأنت، وأكون في نعمةٍ، فإن مثلي لا يشتريه إلا ذو
نعمةٍ، وبذلك أكون سببًا في رجوعي إليك. فأطلَعَها إلى السوق، فكان أول مَن رآها
رجلٌ هاشمي من أهل البصرة، وكان ذلك الرجل أديبًا ظريفًا كريمَ النفس، فاشتراها
بألفٍ وخمسمائة دينار، قال ذلك الفتى صاحب الجارية: فلما قبضتُ الثمنَ ندمت وبكيتُ
أنا والجارية، وطلبت الإقالةَ فلم يرضَ، فوضعتُ الدنانير في الكيس وأنا لا أدري
أين أذهب؛ لأن بيتي موحش منها، وحصل لي من البكاء واللطم والنحيب ما لم يحصل لي
قطُّ، فدخلتُ بعضَ المساجد وقعدتُ أبكي فيه، واندهشتُ حتى صرت لا أعلم بنفسي،
فنمتُ وتركت الكيس تحت رأسي كالمخدة، فلم أشعر إلا وإنسان قد جذَبَه من تحت رأسي
ومضى يهرول، فانتبهت فزعًا مرعوبًا فلم أجد الكيس، فقمتُ أجري خلفه وإذا برجلي
مربوطةٌ في حبل، فوقعتُ على وجهي وصرتُ أبكي وألطم، وقلتُ في نفسي: فارقَتْكَ
رُوحُكَ وضاع مالُكَ. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 897﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن ذلك الفتى لما ضاع منه الكيس قال: قلتُ في نفسي:
فارقَتْكَ رُوحُكَ وضاعَ مالُكَ. وزاد بي الحال فجئتُ إلى الدجلة وحملت ثوبي على
وجهي وألقيتُ نفسي في البحر، ففطِنَ بي الحاضرون وقالوا: إنَّ ذلك لعظيم همٍّ حصل
له. فرموا أرواحهم خلفي وأطلعوني وسألوني عن أمري، فأخبرتهم بما حصل لي فتأسَّفوا
لذلك، ثم جاءني شيخ منهم وقال: قد ذهب مالك وكيف تتسبَّبُ في ذهاب رُوحك فتكون من
أهل النار؟ قُمْ معي حتى أرى منزلك. ففعلتُ ذلك، فلما وصلنا إلى منزلي قعد عندي
ساعةً حتى سكن ما بي، فشكرته على ذلك، ثم انصرف، فلما خرج من عندي كدتُ أن أقتل
رُوحي فتذكَّرْتُ الآخرةَ والنار، فخرجتُ من بيتي هاربًا إلى أحد الأصدقاء،
فأخبرته بما جرى لي، فبكى رحمةً لي وأعطاني خمسين دينارًا وقال: اقبَلْ رأيي واخرج
في هذه الساعة من بغداد، واجعل هذه نفقةً لكَ، إلى أن يشتغل قلبك عن حبِّها وتسلو
عنها، وأنت من أولاد أهل الإنشاء والكتابة، وخطك جيد، وأدبك بارع، فاقصد مَن شئتَ
من العمال واطرح نفسك عليه، لعل الله يجمعك بجاريتك. فسمعتُ منه وقد قوي عزمي وزال
عني بعض همِّي، وعزمت على أني أقصد أرض واسط؛ لأن لي بها أقارب؛ فخرجتُ إلى ساحل
البحر فرأيتُ سفينةً راسيةً والبحرية ينقلون إليها أمتعة وقماشًا فاخرًا، فسألتهم
أن يأخذوني معهم، فقالوا: إن هذه السفينة لرجل هاشمي ولا يمكننا أخذك على هذه
الصورة. فرغَّبتُهم في الأجرة، فقالوا: إن كان ولا بد فاقلع هذه الثياب الفاخرة
التي عليك، والبس ثيابَ الملَّاحين واجلس معنا كأنك واحدٌ منَّا. فرجعتُ واشتريتُ
شيئًا من ثياب الملاحين ولبسته وجئتُ إلى السفينة، وكانت متوجِّهةً إلى البصرة،
فنزلت معهم، فما كان إلا ساعةً حتى رأيتُ جاريتي بعينها ومعها جاريتان يخدمانها،
فسكن ما كان عندي من الغيظ وقلتُ في نفسي: ها أنا أراها وأسمع غناءها إلى البصرة.
فما أسرع أن جاء الهاشمي راكبًا ومعه جماعة، فنزلوا في تلك السفينة وانحدرت بهم،
وأخرج الطعام فأكل هو والجارية، وأكل الباقون في وسط السفينة، ثم قال الهاشمي
للجارية: كم هذا التمنُّع عن الغناء ولزوم الحزن والبكاء؟ ما أنتِ أول مَن فارَقَ
مَن يحب! فعلمتُ ما كان عندها من أمر حبي، ثم ضرب ساترًا على الجارية في جانب
السفينة، واستدعى الذين كانوا في ناحيتي وجلس معهم خارج الستارة، فسألتُ عنهم فإذا
هم إخوته، ثم أخرج لهم ما يحتاجون إليه من الخمر والنُّقْل، ولم يزالوا يحثُّون
الجاريةَ على الغناء إلى أن استدعت العود وأصلحته، وأخذت تغنِّي فأنشدَتْ هذين
البيتين:
بَانَ
الْخَلِيطُ بِمَنْ أُحِبُّ فَأَدْلَجُوا
وَعَنِ السُّرَى بِمُنَايَ لَمْ يَتَحَرَّجُوا
وَالصَّبُّ
بَعْدَ أَنِ اسْتَقَلَّ رِكَابُهُمْ
جَمْرُ الْغَضَا فِي قَلْبِهِ يَتَأَجَّجُ
ثم
غلبها البكاء ورمَتِ العودَ وقطعت الغناء، فتنغَّصَ القوم ووقعتُ أنا مغشيًّا
عليَّ، فظنَّ القوم أني قد صُرِعت، فصار بعضهم يقرأ في أذني، ولم يزالوا يلاطفونها
ويطلبون منها الغناء إلى أن أصلحَتِ العودَ وأخذَتْ تغني، فأنشدت هذين البيتين:
فَوَقَفْتُ
أَنْدُبُ ظَاعِنِينَ تَحَمَّلُوا هُمْ
فِي الْفُؤَادِ وَإِنْ نَأَوْا وَتَرَحَّلُوا
وَوَقَفْتُ
بِالْأَطْلَالِ أَسْأَلُ عَنْهُمُ وَالدَّارُ قَفْرٌ وَالْمَنَازِلُ بَلْقَعُ
ثم
وقعَتْ مغشيًّا عليها وارتفع البكاء من الناس، وصرختُ أنا ووقعتُ مغشيًّا عليَّ،
وضجَّ الملَّاحون مني، فقال بعض غلمان الهاشمي: كيف حملتم هذا المجنون؟ ثم قال
بعضهم لبعض: إذا وصلتم إلى بعض القرى فأخرجوه وأريحونا منه. فحصل لي من ذلك همٌّ
عظيمٌ وعذابٌ أليمٌ، فتجلَّدْتُ غاية التجلُّد وقلتُ في نفسي: لا حيلةَ لي في
الخلاص من أيديهم، إلا إذا أعلمتُها بمكاني من السفينة لتمتنع من إخراجي. ثم سرنا
حتى وصلنا إلى قرب ضيعةٍ، فقال صاحب السفينة: اصعدوا بنا إلى الشاطئ. فطلع القوم
وكان ذلك وقت المساء، فقمتُ حتى صرت خلفَ الستارة، وأخذتُ العودَ وغيَّرْتُ الطرقَ
طريقةً بعد طريقة، وضربتُ على الطريقة التي قد تعلَّمَتْها مني، ثم رجعتُ إلى
موضعي من السفينة. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 898﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الفتى قال: ثم رجعتُ إلى موضعي من السفينة، وبعد ذلك
نزل القوم من الشاطئ ورجعوا إلى مواضعهم في السفينة، وقد انبسط القمر على البر
والبحر، فقال الهاشمي للجارية: بالله عليك لا تنغِّصِي علينا عيشنا. فأخذت العودَ
وجسته بيدها وشهقَتْ، فظنُّوا أن رُوحها قد خرجَتْ، ثم قالت: والله إن أستاذي معنا
في هذه السفينة. فقال الهاشمي: والله لو كان معنا ما ضيَّعْتُه من معاشرتنا؛ لأنه
ربما كان يخفِّف ما بكِ فننتفع بغنائك، ولكن كونه في السفينة أمر بعيد. فقالت: لا
أقدر على ضرب العود وتقليب الأهوية ومولاي معنا. قال الهاشمي: نسأل الملَّاحين؟
فقالت: افعل. فسألهم وقال: هل حملتم معكم أحدًا؟ فقالوا: لا. فخفتُ أن ينقطع
السؤال فضحكتُ وقلتُ: نعم، أنا أستاذها وعلَّمْتُها حين كنتُ سيِّدَها. فقالت:
والله إن هذا كلام مولاي. فجاءني الغلمان وأخذوني إلى الهاشمي، فلما رآني عرفني
فقال: ويحك، ما هذا الذي أنت فيه؟ وما أصابك حتى صرتَ في هذه الحالة؟ فحكيتُ له ما
جرى من أمري وبكيتُ، وعلا نحيب الجارية من خلف الستارة، وبكى الهاشمي هو وإخوته
بكاءً شديدًا رأفةً بي، ثم قال: والله ما دنوتُ من هذه الجارية ولا وطئتها، ولا
سمعت لها غناءً إلا اليوم، وأنا رجلٌ قد وسَّع الله عليَّ، وإنما وردت بغداد لسماع
الغناء وطلب أرزاقي من أمير المؤمنين، وقد بلغتُ الأمرَيْن، ولما أردتُ الرجوع إلى
وطني قلتُ في نفسي: أسمع شيئًا من غناء بغداد. فاشتريتُ هذه الجارية ولم أعلم
أنكما على هذه الحالة، فأنا أُشهِد اللهَ على أن هذه الجارية إذا وصلَتْ إلى
البصرة أعتِقُها وأزوِّجُكَ إياها، وأُجرِي لكما ما يكفيكما وزيادة، ولكن على شرط
أني إذا أردتُ السماعَ يُضرَب لها ستارة وتغني من خلف الستارة، وأنت من جملة
إخواني وندمائي. ففرحت بذلك، ثم إن الهاشمي أدخَلَ رأسه في الستارة وقال لها: أيرضِيكِ
ذلك؟ فأخذت تدعو له وتشكره، ثم استدعى غلامًا له وقال له: خذ بيد هذا الشاب وانزع
ثيابه وأَلْبِسه ثيابًا فاخرةً، وبخِّره وقدِّمه إلينا. فأخذني الغلام وفعل بي ما
أمره سيده، وقدَّمني إليه، فوضع بين يدَي الشراب مثل ما وضعه بين أيديهما، ثم
اندفعَتِ الجارية تغنِّي بأحسن النغمات وتنشد هذه الأبيات:
عَيَّرُونِي
بِأَنْ سَكَبْتُ دُمُوعِي حِينَ
جَاءَ الْحَبِيبُ لِلتَّوْدِيعِ
لَمْ
يَذُوقُوا طَعْمَ الْفِرَاقِ وَلَا مَا
أَحْرَقَتْ لَوْعَةُ الْأَسَى مِنْ ضُلُوعِي
إِنَّمَا
يَعْرِفُ الْغَرَامَ كَئِيبٌ سَاقِطُ الْقَلْبِ بَيْنَ تِلْكَ الرُّبُوعِ
قال:
فطرب القوم من ذلك طربًا شديدًا، وزاد فرح الفتى بذلك، ثم أخذ العود من الجارية
وضرب به على أحسن النغمات، وأنشد هذه الأبيات:
اسْأَلِ
الْعُرْفَ إِنْ سَأَلْتَ كَرِيمًا لَمْ
يَزَلْ يَعْرِفُ الْغِنَى وَالْيَسَارَا
فَسُؤَالُ
الْكَرِيمِ يُورِثُ عِزًّا وَسُؤَالُ
اللَّئِيمِ يُورِثُ عَارَا
وَإِذَا
لَمْ يَكُنْ مِنَ الذُّلِّ بُدٌّ فَالْقِ
بِالذُّلِّ إِنْ سَأَلْتَ الْكِبَارَا
لَيْسَ
إِجْلَالُكَ الْكَرِيمَ بِذُلٍّ إِنَّمَا
الذُّلُّ أَنْ تُجِلَّ الصِّغَارَا
ففرح
القوم بي وزاد فرحهم، ولم يزالوا في فرحٍ سرورٍ، وأنا أغني ساعةً والجارية ساعة
إلى أن جئنا إلى بعض السواحل، فرست السفينة هناك وصعد كلُّ مَن فيها وصعدت أنا
أيضًا، وكنت سكران، فقعدت أبول فغلبني النوم فنمت، ورجعت الركاب إلى السفينة
وانحدرت بهم، ولم يعلموا بي؛ لأنهم كانوا سكارى وكنتُ دفعتُ النفقة إلى الجارية،
ولم يَبْقَ معي شيءٌ، ووصلوا إلى البصرة ولم أنتبه إلا من حر الشمس، فقمتُ في ذلك
والتفَتُّ فما رأيت أحدًا، ونسيت أن أسأل الهاشمي عن اسمه، وأين داره بالبصرة،
وبأي شيءٍ يُعرَف، وبقيتُ حيرانَ وكأنَّ ما كنتُ فيه من الفرح بلقاء الجارية منام،
ولم أزَلْ متحيِّرًا حتى اجتازَ بي مركبٌ عظيم، ونزلت فيه ودخلتُ البصرة، وما كنتُ
أعرف بها أحدًا ولا أعرف بيت الهاشمي، فجئتُ إلى بقَّال وأخذت منه دواةً وورقة.
وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 899﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن البغدادي صاحب الجارية لما دخل البصرة وصار حيرانَ
وهو لا يعرف أحدًا ولا يعرف دار الهاشمي، قال: فجئتُ إلى بقَّال وأخذتُ منه دواةً
وورقةً، وقعدت أكتب، فاستحسَنَ خطي ورأى ثوبي دنِسًا، فسألني عن أمري، فأخبرته أني
غريبٌ فقير. فقال: أتُقِيم عندي ولك في كل يومٍ نصفُ درهم، وأكلك وكسوتك، وتضبط لي
حساب دكاني؟ فقلت له: نعم. وأقمتُ عنده وضبطتُ أمره، ودبَّرتُ له دَخْله وخَرْجه،
فلما كان بعد شهر رأى الرجل دَخْله زائدًا وخَرْجه ناقصًا، فشكرني على ذلك، ثم إنه
جعل لي في كلِّ يوم درهمًا إلى أن حالَ الحَوْل، فدعاني أن أتزوَّج بابنته
ويشاركني في الدكان، فأجبته إلى ذلك ودخلتُ بزوجتي ولزمتُ الدكان، إلا أني منكسر
الخاطر والقلب ظاهر الحزن، وكان البقال يشرب ويدعوني إلى ذلك، فأمتنع حزنًا،
فاستمررتُ على تلك الحالة مدة سنتين، فبينما أنا في الدكان وإذا بجماعةٍ معهم
طعامٌ وشرابٌ، فسألت البقال عن القضية فقال: هذا يوم المتنعِّمين، يخرج فيه أهل
الطرب واللعب والفتيان من ذوي النعمة إلى شاطئ البحر، يأكلون ويشربون بين الأشجار
على نهر الأيلة. فدعَتْني نفسي إلى الفرجة على هذا الأمر، وقلت في نفسي: لعلي إذا
شاهدتُ هؤلاء الناس أجتمِعُ بمَن أحب. فقلت للبقال: إني أريد ذلك. فقال: شأنك
والخروج معهم. ثم جهَّزَ لي طعامًا وشرابًا وسرتُ حتى وصلتُ إلى نهر الأيلة، فإذا
الناس منصرفون، فأردتُ الانصراف معهم، وإذا بريس السفينة التي كان فيها الهاشمي
والجارية بعينه وهو سائر في نهر الأيلة، فصحتُ عليهم فعرفني هو ومَن معه، وأخذوني
عندهم وقالوا لي: هل أنت حيٌّ؟ وعانقوني وسألوني عن قصتي فأخبرتهم بها، فقالوا لي:
إنَّا ظننا أنه قوي عليك السُّكْر، وغرقتَ في الماء. فسألتهم عن حال الجارية
فقالوا: إنها لمَّا علمتْ بفقدك، مزَّقَتْ ثيابها وأحرقت العود وأقبلت على اللطم
والنحيب، فلما رجعنا مع الهاشمي إلى البصرة قلنا لها: اتركي هذا البكاء والحزن.
فقالت: أنا ألبس السواد وأجعل لي قبرًا في جانب هذه الدار، فأقيم عند ذلك القبر
وأتوب عن الغناء. فمكَّنَاها من ذلك وهي في تلك الحالة إلى الآن.
ثم
أخذوني معهم، فلما وصلتُ إلى الدار رأيتُها على تلك الحالة، فلما رأتني شهقتْ
شهقةً عظيمةً حتى ظننتُ أنها ماتت، فاعتنقتُها عناقًا طويلًا، ثم قال لي الهاشمي:
خذها. فقلت: نعم، ولكن أعتقها كما وعدتَني وزوِّجني بها. ففعل ذلك ودفع إلينا
أمتعةً نفيسةً وثيابًا كثيرةً وفرشًا وخمسمائة دينارٍ، وقال: هذا مقدار ما أردتُ
إجراءه لكما في كل شهرٍ، ولكن بشرط المنادَمة وسماع الجارية. ثم أخلى لنا دارًا
وأمر بأن يُنقَل إليها جميع ما نحتاج إليه، فلما توجَّهْتُ إلى تلك الدار وجدتُها
قد غُمِرت بالفرش والقماش، وحُمِلت إليها الجارية. ثم إنني جئتُ إلى البقال
وأخبرتُه بجميع ما حصل لي وسألته أن يجعلني في حلٍّ من طلاق ابنته من غير ذنبٍ،
ودفعتُ إليها مهرها وما يلزمني، وأقمتُ مع الهاشمي على ذلك سنتين، وصرتُ صاحبَ
نعمةٍ عظيمة، وعادت لي حالتي التي كنتُ فيها أنا والجارية في بغداد، وقد فرَّجَ
الله الكريم عنَّا، وأسبَغَ جزيلَ النِّعَم علينا، وجعل مآلَ صبرنا إلى الظفر
بالمراد؛ فله الحمد في المبدأ والمعاد، والله أعلم.
ومما
يُحكَى أيضًا أنه كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان، ملكٌ من بلاد الهند،
وكان ملكًا عظيمًا طويل القامة، حسَنَ الصورة، حسَنَ الخُلُق، كريم الطبائع،
مُحسِنًا للفقراء، مُحِبًّا للرعية ولجميع أهل دولته، وكان اسمه جليعاد، وكان تحت
يده في مملكته اثنان وسبعون ملِكًا، ولبلاده ثلاثمائة وخمسون قاضيًا، وكان له
سبعون وزيرًا، وقد جعل على كلِّ عشرة من عسكره رئيسًا، وكان أكبرَ وزرائه شخصٌ
يقال له شماس، وكان عمره اثنتين وعشرين سنة، وكان حسَنَ الخُلُق والطباع، لطيفًا
في كلامه، لبيبًا في جوابه، حاذقًا في جميع أموره، حكيمًا مدبِّرًا رئيسًا مع
صِغَر سنه، عارفًا بكل حكمة وأدب، وكان الملك يحبه محبةً عظيمةً، ويميل إليه
لمعرفته بالفصاحة والبلاغة وأحوال السياسة، ولما أعطاه الله من الرحمة وخفض الجناح
للرعية.
وكان
ذلك الملك عادلًا في مملكته، حافظًا لرعيته، مواصلًا كبيرهم وصغيرهم بالإحسان وما
يليق بهم من الرعاية والعطايا والأمان والطمأنينة، ومخفِّفًا للخراج عن كامل الرعية،
وكان مُحِبًّا لهم كبيرًا وصغيرًا، ومعامِلًا لهم بالإحسان إليهم والشفقة عليهم،
وأتى في حُسْن سيرته بينهم بما لم يأتِ به أحدٌ قبله، ومع هذا كله لم يرزقه الله
تعالى بولدٍ، فشقَّ ذلك عليه وعلى أهل مملكته، فاتفق أن الملك كان مضطجعًا في
ليلةٍ من الليالي وهو مشغول الفكر في عاقبة أمر مملكته، ثم غلب عليه النوم، فرأى
في منامه كأنه يصبُّ ماءً في أصل شجرة.
وأدرك
شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 900﴾
قالت: بلغني أيها الملك السعيد،
أن الملك رأى في منامه كأنه يصب ماءً في أصل شجرة، وحول تلك الشجرة أشجار كثيرة،
وإذا بنارٍ قد خرجَتْ من تلك الشجرة، وأحرقَتْ جميعَ ما كان حولها من الأشجار،
فعند ذلك انتبَهَ الملك من منامه فزعًا مرعوبًا، واستدعى أحد غلمانه وقال له: اذهب
بسرعةٍ وائتني بشماس الوزير عاجلًا. فذهب الغلام إلى شماس وقال له: إن الملك يدعوك
في هذه الساعة؛ لأنه انتبَهَ من نومه مرعوبًا، فأرسَلَني إليك لتحضر عنده عاجلًا.
فلما سمع شماس كلامَ الغلام قام من وقته وساعته، وتوجَّهَ إلى الملك ودخل عليه،
فرآه قاعدًا على فراشه، فسجد بين يدَيْه داعيًا له بدوام العز والنِّعَم، وقال له:
لا أحزَنَك اللهُ أيها الملك، ما الذي أقلقك في هذه الليلة؟ وما سبب طلبك إياي
بسرعةٍ؟ فأذِنَ له الملك بالجلوس فجلس، وصار الملك يقصُّ عليه ما رأى قائلًا: إني
رأيتُ في ليلتي هذه منامًا هالني، وهو كأني أصبُّ ماءً في أصل شجرة، وحول تلك
الشجرة أشجار كثيرة، فبينما أنا في هذه الحالة وإذا بنارٍ خرجَتْ من أصل تلك
الشجرة، وأحرقت جميع ما حولها من الأشجار، ففزعتُ من ذلك وأخذني الرعب، فانتبهتُ
عند ذلك وأرسلتُ دعوتك لكثرة معرفتك، ولِمَا أعلمه من اتساع علمك وغزارة فهمك.
فأطرَقَ
شماس رأسه ساعةً، ثم تبسَّمَ، فقال له الملك: ماذا رأيتَ يا شماس؟ أصدِقْني الخبرَ
ولا تُخْفِ عني شيئًا. فأجابه شماس وقال له: أيها الملك، إن الله تعالى خوَّلك
وأقَرَّ عينك، وأمرُ هذه الرؤيا يَئُول إلى كل خير، وهو أن الله تعالى يرزقك ولدًا
ذَكَرًا يكون وارثًا للمُلْك عنك من بعد طويل عمرك، غير أنه يكون فيه شيء لا أحبُّ
تفسيره في هذا الوقت؛ لأنه غير موافق لتفسيره. ففرح الملك بذلك فرحًا عظيمًا، وزاد
سروره وذهب عنه فزعه وطابت نفسه وقال: إنْ كان الأمر كذلك من حُسْن تأويل المنام،
فكمِّلْ لي تأويله إذا جاء الوقت الموافق لكمال تأويله، فالذي لا ينبغي تأويله
الآن ينبغي أن تؤوِّله لي إذا آنَ أوانه لأجل أن يكمل فرحي؛ لأني لا أبتغي بذلك
غير رضا الله سبحانه وتعالى. فلما رأى شماس من الملك أنه مصمِّم على تمام تفسيره،
احتَجَّ له بحجةٍ دافَعَ بها عن نفسه، فعند ذلك دعا الملك بالمنجِّمين وجميع
المعبِّرين للأحلام الذين في مملكته، فحضروا جميعًا بين يدَيْه وقصَّ عليهم ذلك
المنام وقال لهم: أريد منكم أن تخبروني بصحة تفسيره. فتقدَّمْ واحد منهم وأخذ
إذنًا من الملك بالكلام، فلما أذن له قال: اعلم أيها الملك أن وزيرك شماسًا ليس
بعاجزٍ عن تفسير ذلك، وإنما هو احتشَمَ منك وسكَّن روعك، ولم يُظهِر لك جميعَ
التأويل بالكلية، ولكن إذا أذنْتَ لي بالكلام تكلَّمْتُ. فقال له الملك: تكلَّمْ
أيها المفسِّر بلا احتشام، واصدق في كلامك. فقال المفسِّر: اعلم أيها الملك أنه
يظهر منك غلام يكون وارثًا للملك عنك بعد طول حياتك، ولكنه لا يسير في الرعية
بسيرك، بل يخالف رسومك ويجور على رعيتك، ويصيبه ما أصاب الفأر مع السِّنَّوْر،
فاستعاذ بالله تعالى. فقال الملك: وما حكاية السِّنَّوْر والفأر؟
فقال
المفسِّر: أطالَ الله عُمْرَ الملِك، إن السِّنَّوْر - وهو القط - سرح ليلةً من
الليالي إلى شيءٍ يفترسه في بعض الغيطان، فما وجد شيئًا وضَعُف من شدة البرد
والمطر اللذين صارا في تلك الليلة، فأخذ يحتال لنفسه بشيءٍ، فبينما هو دائر على
تلك الحالة، إذ رأى وكْرًا في أسفل شجرة، فدنا منه وصار يشمشم ويدندن حتى أحَسَّ
أن داخل الوكْرِ فأرًا، فحاوَلَه وهَمَّ بالدخول عليه لكي يأخذه، فلما أحَسَّ به
الفأر أعطاه قفاه، وصار يزحف على يدَيْه ورجلَيْه لكي يسدَّ باب الوكْرِ عليه،
فعند ذلك صار السِّنَّوْر يصوت صوتًا ضعيفًا ويقول له: لِمَ تفعل ذلك يا أخي، وأنا
ملتجئ إليك لتفعل معي رحمة، بأن تقرني في وكْرِك هذه الليلة؟ لأني ضعيف الحال من
كِبَر سني وذهاب قوتي، ولست أقدر على الحركة، وقد توغَّلْتُ في هذا الغيط هذه
الليلة، وكم دعوت بالموت على نفسي لكي أستريح، وها أنا على بابك طريح من البرد
والمطر، وأسألك بالله من صدقتك أن تأخذ بيدي وتدخلني عندك وتأويني في دهليز وكرك؛
لأني غريبٌ ومسكينٌ، وقد قيل: مَن آوى بمنزله غريبًا مسكينًا، كان مأواه الجنة يوم
الدين. فأنت يا أخي حقيق بأن تكسب أجري وتأذن لي في أن أبيت عندك هذه الليلة إلى
الصباح، ثم أروح إلى حال سبيلي. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.