kurd-partuk

الليالي من--(801 ← 850)

﴿اللیلة 801﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشيخ عبد القدوس لما أعطى حسنًا الكتابَ أعلَمَه بما يتحصل له وقال له: إنَّ كل مَن خاطَرَ بنفسه أهلَكَ نفسَه، فإن كنتَ تخاف على نفسك فلا تُلْقِ بها إلى الهلاك، وإن كنتَ لا تخاف فدونك وما تريد، فقد بيَّنْتُ لك الأمورَ، وإنْ شئتَ الرواح لصواحبك فهذا الفيل حاضر، فإنه يسير بك إلى بنات أخي وهنَّ يوصلْنَك إلى بلادك ويردُدْنَك إلى وطنك، ويرزقك الله خيرًا من هذه البنت التي تعلَّقتَ بها. فقال حسن للشيخ: وكيف تطيب لي الحياة من غير أن أبلغ مرادي؟ والله إني لا أرجع أبدًا حتى أبلغ حبيبتي أو تدركني منيتي. ثم بكى وأنشد هذه الأبيات:

عَلَى فَقْدِ حُبِّي مَعْ تَزَايُدِ صَبْوَتِي        وَقَفْتُ أُنَادِي بِانْكِسَارِي وَذِلَّتِي

وَقَبَّلْتُ تُرْبَ الرَّبْعِ شَوْقًا لَأَجْلِهِ        وَلَمْ يُجْدِنِي إِلَّا تَزَايُدُ حَسْرَتِي

رَعَى اللهُ مَنْ بَانُوا وَفِي الْقَلْبِ ذِكْرُهُمْ        فَوَاصَلْتُ آلَامِي وَفَارَقْتُ لَذَّتِي

يَقُولُونَ لِي صَبْرًا وَقَدْ رَحَلُوا بِهِ        وَقَدْ أَضْرَمُوا يَوْمَ التَّرَحُّلِ زَفْرَتِي

وَمَا رَاعَنِي إِلَّا الْوَدَاعُ وَقَوْلُهُ        إِذَا غِبْتَ فَاذْكُرْنِي وَلَا تَنْسَ صُحْبَتِي

لِمَنْ أَلْتَجِي مَنْ أَرْتَجِي بَعْدَ فَقْدِهِمْ        وَكَانُوا رَجَائِي فِي رَخَائِي وَشِدَّتِي

فَوَا حَسْرَتِي لَمَّا رَجَعْتُ مُوَدِّعًا        وَسُرَّ عَدَاكَ الْمُبْغِضُونَ بِرَجْعَتِي

فَوَا أَسَفًا هَذَا الَّذِي كُنْتُ حَاذِرًا        وَيَا لَوْعَتِي زِيدِي لَهِيبًا بِمُهْجَتِي

فَإِنْ غَابَ أَحْبَابِي فَلَا عَيْشَ بَعْدَهُمْ        وَإِنْ رَجَعُوا يَا فَرْحَتِي وَمَسَرَّتِي

فَوَاللهِ لَمْ يَنْفَضَّ دَمْعِي مِنَ الْبُكَا        عَلَى فَقْدِهِمْ بَلْ عَبْرَةٌ بَعْدَ عَبْرَةِ

فلما سمع الشيخ عبد القدوس إنشادَه وكلامه، علِمَ أنه لا يرجع عن مراده، وأن الكلام لا يؤثِّر فيه، وتيقَّنَ أنه لا بد أن يخاطِرَ بنفسه ولو تَلِفَتْ مهجته، فقال: اعلم يا ولدي أن جزائر واق سبعُ جزائر، فيها عسكر عظيم، وذلك العسكر كله بنات أبكار، وسكان الجزائر الجوانية شياطين ومَرَدَة وسَحَرَة وأرهاط مختلفة، وكل مَن دخل أرضهم لا يرجع، وما وصل إليهم أحد قطُّ ورجع، فبالله عليك أن ترجع إلى أهلك من قريب، واعلم أن البنت التي قصدتَها بنتُ مَلِكِ هذه الجزائر كلها، وكيف تقدر أن تصل إليها؟ فاسمع مني يا ولدي، ولعل الله يعوِّضك خيرًا منها. فقال حسن: والله يا سيدي، لو قُطِّعتُ في هواها إربًا إربًا، ما ازددتُ إلا حبًّا وطربًا، ولا بد من رؤية زوجتي وأولادي، والدخول في جزائر واق، وإن شاء الله تعالى ما أرجع إلا بها وبأولادي. فقال له الشيخ عبد القدوس: حينئذٍ لا بد لك من السفر؟ فقال: نعم، وإنما أريد منك الدعاء بالإسعاف والإعانة، لعل الله يجمع شملي بزوجتي وأولادي عن قريب. ثم بكى من عِظَم شوقه، وأنشد هذه الأبيات:

أَنَتْمُ مُرَادِي وَأَنْتُمْ أَحْسَنُ الْبَشَرِ        أُحِلُّكُمْ فِي مَحَلِّ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ

مَلَكْتُمُ الْقَلْبَ مِنِّي وَهْوَ مَنْزِلُكُمْ        وَبَعْدَكُمْ سَادَتِي أَصْبَحْتُ فِي كَدَرِ

فَلَا تَظُنُّوا انْتِقَالِي عَنْ مَحَبَّتِكُمْ        فَحُبُّكُمْ صَيَّرَ الْمِسْكِينَ فِي حَذَرِ

غِبْتُمْ فَغَابَ سُرُورِي بَعْدَ غَيْبَتِكُمْ        وَأَصْبَحَ الصَّفْوُ عِنْدِي غَايَةَ الْكَدَرِ

تَرَكْتُمُونِي أُرَاعِي النَّجْمَ مِنْ أَلَمٍ        أَبْكِي بِدَمْعٍ يُحَاكِي هَاطِلَ الْمَطَرِ

يَا لَيْلُ طُلْتَ عَلَى مَنْ بَاتَ فِي قَلَقٍ        مِنْ شِدَّةِ الْوَجْدِ يَرْعَى طَلْعَةَ الْقَمَرِ

إِنْ جُزْتَ يَا رِيحُ حَيًّا فِيهِ قَدْ نَزَلُوا        بَلِّغْ سَلَامِي لَهُمْ فَالْعُمْرُ فِي قِصَرِ

وَقُلْ لَهُمْ بَعْضَ مَا لَاقَيْتُ مِنْ أَلَمٍ        إِنَّ الْأَحِبَّةَ لَا يَدْرُونَ عَنْ خَبَرِي

فلما فرغ حسن من شعره بكى بكاءً شديدًا حتى غُشِيَ عليه، فلما أفاق قال له الشيخ عبد القدوس: يا ولدي، إن لك والدةً فلا تُذِقْها ألمَ فقْدِكَ. فقال حسن للشيخ: والله يا سيدي ما بقيت أرجع إلا بزوجتي أو تدركني منيتي. ثم بكى وناح، وأنشد هذه الأبيات:

وَحَقُّ الْهَوَى مَا غَيَّرَ الْبُعْدُ عَهْدَكُمْ        وَمَا أَنَا مِمَّنْ لِلْعُهُودِ يَخُونُ

وَعِنْدِي مِنَ الْأَشْوَاقِ مَا لَوْ شَرَحْتُهُ        إِلَى النَّاسِ قَالُوا قَدْ عَرَاهُ جُنُونُ

فَوَجْدٌ وَحُزْنٌ وَانْتِحَابٌ وَلَوْعَةٌ        وَمَنْ حَالُهُ هَذَا فَكَيْفَ يَكُونُ

فلما فرغ من شعره علم الشيخ أنه لا يرجع عمَّا هو فيه، ولو ذهبَتْ روحه، فناوَلَه الكتاب ودَعَا له وأوصاه بالذي يفعله، وقال له: إني قد أكَّدتُ لك في الكتاب على أبي الرويش بن بلقيس بنت معين، فهو شيخي ومعلمي، وجميع الإنس والجن يخضعون له ويخافون منه. ثم قال له: توجَّهْ على بركة الله. فتوجَّهَ وأرخى عِنان الحصان، فطار به أسرع من البرق، ولم يزل حسنٌ مسرعًا بالحصان مدة عشرة أيام، حتى نظر أمامه شبحًا عظيمًا أسود من الليل قد سدَّ ما بين المشرق والمغرب، فلما قَرُب حسنٌ منه صهل الحصان تحته، فاجتمعَتْ خيول كثيرة مثل المطر لا يُحصَى لها عدد، ولا يُعرَف لها مدد، وصارت تتمسح في الحصان، فخاف حسن منها وفَزِع، ولم يزل سائرًا والخيول حوله إلى أن وصل إلى المغارة التي وصَفَها له الشيخ عبد القدوس، فوقف الحصان على بابها، فنزل حسن من فوقه ووضع عِنانه في سرجه، فدخل الحصان المغارةَ ووقف حسنٌ على الباب كما أمره الشيخ عبد القدوس، وصار متفكِّرًا في عاقبة أمره كيف تكون، حيران وَلْهان لا يعلم الذي يجري له. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 802﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن حسنًا لما نزل من فوق ظهر الحصان، وقف على باب المغارة متفكِّرًا في عاقبة أمره كيف يكون، لا يعلم الذي يجري له، ولم يزل واقفًا على باب المغارة خمسة أيام بلياليها وهو سهران حزنان متفكِّر حيث فارَقَ الأهلَ والأوطان والأصحاب والخلَّانَ، باكي العين حزين القلب، ثم إنه تذكَّرَ والدته وتفكَّرَ فيما يجري له، وفي فراق زوجته وأولاده وفيما قاساه، فأنشد هذه الأبيات:

لَدَيْكُمْ دَوَاءُ الْقَلْبِ وَالْقُلْبُ ذَاهِبُ        وَمِنْ سَفْحِ أَجْفَانِي دُمُوعٌ سَوَاكِبُ

فِرَاقٌ وَحُزْنٌ وَاشْتِيَاقٌ وَغُرْبَةٌ        وَبُعْدٌ عَنِ الْأَوْطَانِ وَالشَّوْقُ غَالِبُ

وَمَا أَنَا إِلَّا عَاشِقٌ ذُو صَبَابَةٍ        بِبُعْدِ الَّذِي يَهْوَى دَهَتْهُ الْمَصَائِبُ

فَإِنْ كَانَ عِشْقِي قَدْ رَمَانِي بِنَكْبَةٍ        فَأَيُّ كَرِيمٍ لَمْ تُصِبْهُ النَّوَائِبُ

فلم يفرغ حسن من شعره إلا والشيخ أبو الرويش قد خرج له، وهو أسود وعليه لباس أسود، فلما نظره حسن عَرَفه بالصفات التي أخبره بها الشيخ عبد القدوس، فرمى نفسه عليه ومرَّغَ خدَيْه على قدمَيْه، ومسك رجله وحطَّها على رأسه وبكى قدامه، فقال الشيخ أبو الرويش: ما حاجتك يا ولدي؟ فمَدَّ يده بالكتاب وناوَلَه للشيخ أبي الرويش، فأخذه منه ودخل المغارة ولم يردَّ عليه جوابًا، فقعد حسن في موضعه على الباب مثلما قال له الشيخ عبد القدوس، وهو يبكي، وما زال قاعدًا مكانه مدةَ خمسة أيام وقد ازداد به القلق، واشتد به الخوف ولازَمَه الأرق، فصار يبكي ويتضجر من ألم البعاد وكثرة السهاد، ثم أنشد هذه الأبيات:

سُبْحَانَ جَبَّارِ السَّمَاءِ        إِنَّ الْمُحَبَّ لَفِي عَنَاءِ

مَنْ لَمْ يَذُقْ طَعْمَ الْهَوَى        لَمْ يَدْرِ مَا جَهْدُ الْبَلَاءِ

لَوْ كُنْتُ أَحْبِسُ عَبْرَتِي        لَوَجَدْتُ أَنْهَارَ الدِّمَاءِ

كَمْ مِنْ صَدِيقٍ قَدْ قَسَا        قَلْبًا وَأَوْلَعَ بِالشَّقَاءِ

فَإِذَا تَعَطَّفَ لَامَنِي        فَأَقُولُ مَا بِي مِنْ بُكَاءِ

لَكَ قَدْ ذَهَبْتُ لِأَرْتَدِي        فَأَصَابَ عَيْنَيَّ رِدَائِي

بَكَتِ الْوُحُوشُ لِوَحْشَتِي        وَكَذَاكَ سُكَّانُ الْهَوَاءِ

ولم يزل حسن يبكي إلى أن لاح الفجر، وإذا بالشيخ أبي الرويش قد خرج إليه وهو لابس لباسًا أبيض، وأومَأَ إليه بيده أنْ يدخل، فدخل حسن فأخذه الشيخ من يده ودخل به المغارة، ففَرِح وأيقَنَ أن حاجته قد قُضِيت. ولم يزل الشيخ سائرًا وحسن معه مقدار نصف نهار، ثم وصَلَا إلى بابٍ مقنطرٍ عليه باب من البولاد، ففتح البابَ ودخل هو وحسن في دهليز معقود بحجارة من المجزع المنقوش بالذهب، ولم يزالَا سائرين حتى وصَلَا إلى قاعة كبيرة مرخمة واسعة، وفي وسطها بستان فيه من سائر الأشجار والأزهار والأثمار، والأطيار على الأشجار تناغي وتسبِّح الله الملك القهَّار، وفي القاعة أربعة لواوين يقابل بعضها بعضًا، وفي كل ليوان مجلس فيه فسقية، وعلى كل ركن من أركان كل فسقية صورة سَبْع من الذهب، وفي كل مجلس كرسيٌّ وعليه شخص جالس وبين يدَيْه كتب كثيرة جدًّا، وبين أيديهم مجامر من ذهب فيها نار وبخور، وكل شيخ منهم بين يدَيْه طلَبَة يقرءون عليه الكتب. فلما دخَلَا عليهم قاموا إليهما وعظَّموهما، فأقبَلَ عليهم وأشار لهم أن يَصْرِفوا الحاضرين فصَرَفوهم، وقام الأربعة مشايخ وجلسوا بين يدَيِ الشيخ أبي الرويش وسألوه عن حال حسن، فعند ذلك أشار الشيخ أبو الرويش إلى حسن وقال له: حدِّثِ الجماعةَ بحديثك وبجميع ما جرى لك من أول الأمر إلى آخِره. فعند ذلك بكى حسن بكاءً شديدًا وحدَّثهم بحديثه، فلما فرغ حسن من حديثه صاحت المشايخ كلهم، وقالوا: هل هذا هو الذي أطلَعَه المجوسي إلى جبل السحاب بالنسور وهو في جِلْد الجمل؟ فقال لهم حسن: نعم. فأقبَلُوا على الشيخ أبي الرويش وقالوا له: يا شيخنا، إن بهرام تحيَّلَ في طلوعه على الجبل، وكيف نزل؟ وما الذي رآه فوق الجبل من العجائب؟ فقال الشيخ أبو الرويش: يا حسن، حدِّثْهم كيف نزلتَ، وأخبِرْهم بالذي رأيتَه من العجائب. فأعاد عليهم ما جرى له من أوله إلى آخِره، وكيف ظفر به وقتله، وكيف غدرَتْ به زوجته وأخذت أولاده وطارت، وبجميع ما قاساه من الأهوال والشدائد؛ فتعجَّبَ الحاضرون مما جرى له، ثم أقبلوا على الشيخ أبي الرويش وقالوا له: يا شيخ الشيوخ، والله إنَّ هذا الشاب مسكين، فعساك أن تساعده على خلاص زوجته وأولاده. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 803﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن حسنًا لما حكى للمشايخ قصته قالوا للشيخ أبي الرويش: هذا الشاب مسكين، فعساك أن تساعده على خلاص زوجته وأولاده. فقال الشيخ أبو الرويش: يا إخواني، إن هذا أمر عظيم خطر، وما رأيتُ أحدًا يكره الحياةَ غير هذا الشاب، وأنتم تعرفون أن جزائرَ واق صعبةُ الوصول، ما وصل إليها أحد إلا خاطَرَ بنفسه، وتعرفون قوتهم وأعوانهم، وأنا حالِفٌ إني ما أدوس لهم أرضًا ولا أتعرَّضُ لهم في شيء، وكيف يصل هذا إلى بنت الملك الأكبر؟ ومَن يقدر أن يوصله إليها أو يساعده على هذا الأمر؟ فقالوا: يا شيخ الشيوخ، إن هذا الرجل أتلَفَه الغرام، وقد خاطَرَ بنفسه وحضر إليك بكتاب أخيك الشيخ عبد القدوس، فحينئذٍ يجب عليك مساعدته. فقام حسن وقبَّلَ قدمَ أبي الرويش، ورفع ذيله ووضعه على رأسه وبكى، وقال له: سألتُكَ بالله أن تجمع بيني وبين أولادي وزوجتي، ولو كان في ذلك ذهاب روحي ومهجتي. فبكى الحاضرون لبكائه، وقالوا للشيخ أبي الرويش: اغتَنِمْ أجرَ هذا المسكين وافعلْ معه جميلًا لأجل أخيك الشيخ عبد القدوس. فقال: إن هذا الشاب مسكين ما يعرف الذي هو قادم عليه، ولكنْ نساعده على قدر الطاقة. ففرح حسن لما سمع كلامه، وقبَّلَ يدَيْه وقبَّلَ أيادي الحاضرين واحدًا بعد واحد، وسألهم المساعدة، فعند ذلك أخذ أبو الرويش ورقةً ودواةً وكتَبَ كتابًا وختمه وأعطاه لحسن، ودفع له خريطة من الأدم، فيها بخور وآلات نار من زناد وغيره، وقال له: احتفظ بهذه الخريطة، ومتى وقعْتَ في شدة فبخِّرْ بقليلٍ منه واذكرني، فإني أحضر عندك وأخلِّصُك منها.

ثم أمر بعض الحاضرين أن يحضر له عفريتًا من الجن الطيَّارة في ذلك الوقت فحضر، فقال له الشيخ: ما اسمك؟ قال: عبدك دهنش بن فقطش. فقال له أبو الرويش: ادنُ مني. فدَنَا منه، فوضع الشيخ أبو الرويش فاهُ على أذن العفريت وقال له كلامًا، فحرَّكَ العفريت رأسه، ثم قال الشيخ لحسن: يا ولدي، قُمِ اركَبْ على كتف هذا العفريت دهنش الطيَّار، فإذا رفعك إلى السماء وسمعت تسبيحَ الملائكة في الجو، فلا تسبِّحْ فتهلك أنت وهو. فقال حسن: لا أتكلم أبدًا. ثم قال له الشيخ: يا حسن، إذا سار بك فإنه يضعك ثاني يوم في وقت السَّحَر على أرضٍ بيضاء نقية مثل الكافور، فإذا وضَعَك هناك فامْشِ عشرةَ أيامٍ وحدك حتى تصل إلى باب المدينة، فإذا وصلْتَ إليها فادخُلْ واسألْ عن مَلِكها، فإذا اجتمعْتَ به فسلِّمْ عليه وقبِّلْ يده وأَعْطِه هذا الكتابَ، ومهما أشار به إليك فافهمْه. فقال حسن: سمعًا وطاعة. وقام مع العفريت، وقام المشايخ ودعوا له ووصَّوا العفريت عليه.

فلما حمله العفريت على عاتقه ارتفع به إلى عَنان السماء، ومشى به يومًا وليلة حتى سمع تسبيحَ الملائكة في السماء، فلما كان الصبح وضعه في أرضٍ بيضاء مثل الكافور وتركه وانصرف، فلما أدرَكَ حسن أنه على الأرض، ولم يكن عنده أحد، سار في الليل والنهار مدة عشرة أيام إلى أن وصل إلى باب المدينة، فدخَلَها وسأل عن الملك فدلوه عليه، وقالوا: إن اسمه الملك حسون ملك أرض الكافور، وعنده من العساكر والجنود ما يملأ الأرض في طولها والعرض. فاستأذن فأُذِنَ له، فلما دخل عليه وجده مَلِكًا عظيمًا، فقبَّلَ الأرض بين يديه، فقال له الملك: ما حاجتك؟ فقبَّلَ حسن الكتابَ وناوَلَه إياه، فأخذه وقرأه ثم حرَّكَ رأسه ساعة، ثم قال لبعض خواصه: خذ هذا الشاب وأنزِلْه في دار الضيافة. فأخذه وسار حتى أنزله هناك، فأقام بها مدة ثلاثة أيام في أكل وشرب، وليس عنده إلا الخادم الذي معه، فصار ذلك الخادم يحدِّثه ويؤانسه ويسأله عن خبره، وكيف وصل إلى هذه الديار، فأخبره بجميع ما حصل له وكل ما هو فيه.

وفي اليوم الرابع أخذه الغلام وأحضَرَه بين يدَيِ الملك، فقال له: يا حسن، أنت قد حضرتَ عندي تريد أن تدخل جزائر واق كما ذكر لنا شيخ الشيوخ، يا ولدي أنا أرسلك في هذه الأيام، إلا أنَّ في طريقك مهالكَ كثيرةً وبراريَّ معطِشةً كثيرةَ المخاوف، ولكنِ اصبرْ ولا يكون إلا خيرًا، فلا بد أن أتحيَّلَ وأوصلك إلى ما تريد إن شاء الله تعالى. واعلم يا ولدي أن هنا عسكرًا من الديلم يريدون الدخول في جزائر واق، مهيَّئِين بالسلاح والخيل والعدد، وما قدروا على الدخول، ولكن يا ولدي لأجل شيخ الشيوخ أبي الرويش ابن بنت اللعين إبليس ما أقدر أن أردَّك إليه إلا مقضيَّ الحاجة، وعن قريبٍ تأتي إلينا مراكبُ من جزائر واق، وما بقي لها إلا القليل، فإذا حضرَتْ واحدة منها أنزلتُكَ فيها وأُوصِي البحرية عليك ليحفظوك ويرسلوك إلى جزائر واق، وكل مَن سألك عن حالك وخبرك فقُلْ له: أنا صهر الملك حسون صاحب أرض الكافور. وإذا رَسَتِ المركبُ على جزائر واق، وقال لك الريس: اطلع البر. فاطلعْ ترى دككًا كثيرة في جميع جهات البر، فاختَرْ لك دكةً واقعدْ تحتها ولا تتحرك، فإذا جنَّ الليلُ ورأيتَ عسكرَ النساء قد أحاط بالبضائع، فمُدَّ يدَكَ وامسكْ صاحبة هذه الدكة التي أنت تحتها واستَجِرْ بها، واعلم يا ولدي أنها إذا جارَتْكَ قُضِيَتْ حاجتُكَ فتصل إلى زوجتك وأولادك، وإنْ لم تُجِرْكَ فاحزنْ على نفسك وايئسْ من الحياة، وتيقَّنْ بهلاك نفسك. واعلم يا ولدي أنك مُخاطِرٌ بنفسك، ولا أقدر لك على شيء غير هذا والسلام. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 804﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن حسنًا لما قال له الملك حسون هذا الكلامَ وأوصاه بالذي ذكرناه، وقال له: أنا لا أقدر لك على شيء غير هذا. قال له بعد ذلك: واعلم أنه لولا حصلَتْ لك عنايةٌ من رب السماء ما وصلْتَ إلى هنا. فلما سمع حسن كلامَ الملك حسون بكى حتى غُشِيَ عليه، فلما أفاق أنشد هذين البيتين:

لَا بُدَّ لِي مِنْ مُدَّةٍ مَحْتُومَةٍ        فَإِذَا انْقَضَتْ أَيَّامُهَا مُتُّ

لَوْ صَارَعَتْنِي الْأُسْدُ فِي غَابَاتِهَا        لَقَهَرْتُهَا مَا دَامَ لِي وَقْتُ

فلما فرغ حسن من شعره قبَّلَ الأرض بين يدي الملك وقال له: أيها الملك العظيم، وكم بقي من الأيام حتى تأتي المراكب؟ قال: مدة شهر، ويمكثون هنا لبيع ما فيها مدة شهرين، ثم يرجعون إلى بلادهم، فلا تترجَّ سفرك فيها إلا بعد ستة أشهر كاملة. ثم إن الملك أمَرَ حسنًا أن يذهب إلى دار الضيافة، وأمر أن يُحمَل إليه كلُّ ما يحتاج إليه من مأكول ومشروب وملبوس من الذي يناسب الملوك، فأقام في دار الضيافة شهرًا، وبعد الشهر حضرت المراكب، فخرج الملك والتجار وأخذ حسنًا معه إلى المراكب، فرأى مركبًا فيها خلق كثير مثل الحصى ما يعلم عددهم إلا الذي خلقهم، وتلك المركب في وسط البحر، ولها زوارق صغار تنقل ما فيها من البضائع إلى البر، فأقام حسن عندهم حتى نزع أهلها البضائع منها إلى البر، وباعوا واشتروا، وما بقي للسفر إلا ثلاثة أيام، فأحضَرَ الملكُ حسنًا بين يدَيْه وجهَّزَ له ما يحتاج إليه، وأنعَمَ عليه إنعامًا عظيمًا، ثم بعد ذلك استدعى ريس تلك المركب وقال له: خذ هذا الشاب معك في المركب، ولا تُعلِم به أحدًا، وأوصله إلى جزائر واق، واتركْه هناك ولا تأتِ به. فقال الريس: سمعًا وطاعة.

ثم إن الملك أوصى حسنًا وقال له: لا تُعلِمْ أحدًا من الذين معك في المركب بشيء من حالك، ولا تُطلِعْ أحدًا على قصتك فتهلك. قال: سمعًا وطاعة. ثم ودَّعَه بعد أن دَعَا له بطول البقاء والدوام، والنصر على جميع الحساد والأعداء، وشكره الملك على ذلك ودَعَا له بالسلامة وقضاء حاجته، ثم سلَّمَه للريس، فأخذه وحطَّه في صندوق وأنزَلَه في قارب، ولم يطلعه في المركب إلا والناس مشغولون في نقل البضائع، وبعد ذلك سافَرَتِ المراكب، ولم تزل مسافرة مدة عشرة أيام، فلما كان اليوم الحادي عشر وصلوا إلى البر، فطلَّعه الريس من المركب، فلما طلع من المركب إلى البر رأى فيه دككًا لا يعلم عددها إلا الله، فمشى حتى وصل إلى دكةٍ ليس لها نظير واختفى تحتها، فلما أقبَلَ الليلُ جاء خلق كثير من النساء كالجراد المنتشر، وهنَّ ماشيات على أقدامهن وسيوفهن مشهورة في أيديهن، ولكنهن غائصات في الزرد، فلما رأت النساء البضائعَ اشتغلن بها، ثم بعد ذلك جلسْنَ لأجل الاستراحة، فجلست واحدة منهن على الدكة التي تحتها حسن، فأخذ حسن طرفَ ذيلها وحطَّه فوق رأسه، ورمى نفسه عليها وصار يقبِّل يدَيْها وقدمَيْها وهو يبكي، فقالت له: يا هذا، قُمْ واقفًا قبل أن يراك أحد فيقتلك. فعند ذلك خرج حسن من تحت الدكة ونهض قائمًا على قدمَيْه وقبَّلَ يدَيْها وقال لها: يا سيدتي، أنا في جيرتك. ثم بكى وقال لها: ارحمي مَن فارَقَ أهله وزوجته وأولاده، وبادَرَ إلى الاجتماع بهم، وخاطَرَ بروحه ومهجته، فارحميني وأيقني أنك تُؤجَرين على ذلك بالجنة، وإنْ لم تقبليني فأسألك بالله العظيم الستَّار أن تستري عليَّ. فصارت التاجرة شاخصةً له وهو يكلِّمها، فلما سمعت كلامه ونظرَتْ تضرُّعَه رحمَتْه ورقَّ قلبها إليه، وعلمت أنه ما خاطَرَ بنفسه وجاء إلى هذا المكان إلا لأمر عظيم، فعند ذلك قالت لحسن: يا ولدي، طِبْ نفسًا، وقرَّ عينًا، وطيِّب قلبك وخاطرك، وارجع إلى مكانك واختفِ تحت الدكة كما كنتَ أولًا إلى الليلة التالية؛ يفعل الله ما يريده. ثم ودَّعَتْه ودخل حسن تحت الدكة كما كان.

ثم إن العساكر بتْنَ يوقدن الشموعَ الممزوجة بالعود الند والعنبر الخام إلى الصباح، فلما طلع النهار رجعت المراكب إلى البر، واشتغل التجار بنقل البضائع والأمتعة إلى أن أقبل الليل وحسن مختفٍ تحت الدكة باكي العين حزين القلب، ولم يعلم بالذي قُدِّرَ له في الغيب، فبينما هو كذلك إذا أقبلت عليه المرأة التاجرة التي كان استجار بها وناولَتْه زردية وسيفًا وحياصة مذهَّبة ورمحًا، ثم انصرفت عنه خوفًا من العسكر، فلما رأى ذلك علم أن التاجرة ما أحضرَتْ له هذه العدة إلا ليلبسها، فقام حسن ولبس الزردية، وشدَّ الحياصة على وسطه، وتقلَّدَ بالسيف تحت إبطه، وأخذ الرمح بيده وجلس على تلك الدكة ولسانه لم يغفل عن ذكر الله تعالى، بل يطلب منه الستر. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 805﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن حسنًا لما أخذ السلاح الذي أعطته إياه الصبية التاجرة التي استجارَ بها وقالت له: اجلس تحت الدكة ولا تخل أحدًا يفهم حالك. تقلَّدَ به، ثم جلس فوق الدكة ولسانه لم يغفل عن ذكر الله، وصار يطلب من الله الستر، فبينما هو جالس إذا أقبلت المشاعل والفوانيس والشموع، وأقبلت عساكر النساء، فقام حسن واختلط بالعسكر وصار كواحدة منهن، فلما قرب طلوع الفجر توجَّهَتِ العساكر وحسن معهن حتى وصلن إلى خيامهن، ودخلت كل واحدة خيمتها، فدخل حسن خيمة واحدة منهن، وإذا هي خيمة صاحبته التي كان استجار بها، فلما دخلت خيمتها ألقَتْ سلاحها وقلعت الزردية والنقاب، وألقى حسن سلاحه فنظر إلى صاحبته فوجدها زرقاء العينين كبيرة الأنف، وهي داهية من الدواهي، أقبح ما يكون في الخلق، بوجه أجدر، وحاجب أمعط، وأسنان مكسرة، وخدود معجرة، وشعر شائب، وفم بالريالة سائل، وهي كما قال في مثلها الشاعر:

لَهَا فِي زَوَايَا الْوَجْهِ تِسْعُ مَصَائِبَ        فَوَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ تُبْدِي جَهَنَّمَا

بِوَجْهٍ بَشِيعٍ ثُمَّ ذَاتٍ قَبِيحَةٍ        كَصُورَةِ خِنْزِيرٍ تَرَاهُ مُرَمْرِمَا

وهي بذات معطاء كحية رقطاء، فلما نظرَتِ العجوزُ إلى حسن تعجَّبَتْ وقالت: كيف وصل هذا إلى هذه الديار؟ وفي أي المراكب حضر؟ وكيف سَلِمَ؟ وصارت تسأله عن حاله وتتعجَّب من وصوله، فعند ذلك وقع حسن على قدمَيْها، ومرَّغَ وجهه على رجلَيْها، وبكى حتى غُشِيَ عليه، فلما أفاق أنشد هذه الأبيات:

مَتَى الْأَيَّامُ تَسْمَحُ بِالتَّلَاقِي        وَتَجْمَعُ شَمْلَنَا بَعْدَ الْفِرَاقِ

وَأَحْظَى بِالَّذِي أَرْضَاهُ مِنْهُمْ        عِتَابًا يَنْقَضِي وَالْوُدُّ بَاقِ

لَو انَّ النِّيلَ يَجْرِي مِثْلَ دَمْعِي        لَمَا خَلَّى عَلَى الدُّنْيَا شَرَاقِي

وَفَاضَ عَلَى الْحِجَازِ وَأَرْضِ مِصْرَ        كَذَاكَ الشَّامُ مَعْ أَرْضِ الْعِرَاقِ

وَذَاكَ لِأَجْلِ صَدِّكَ يَا حَبِيبِي        تَرَفَّقْ بِي وَوَاعِدْ بِالتَّلَاقِي

فلما فرغ من شعره أخذ ذيل العجوز ووضعه فوق رأسه وصار يبكي ويستجير بها، فلما رأت العجوز احتراقه ولوعته وتوجُّعه وكربته، حنَّ قلبها إليه وأجارته وقالت له: لا تَخَفْ أبدًا. ثم سألته عن حاله، فحكى لها جميع ما جرى له من المبتدأ إلى المنتهى، فتعجبت العجوز من حكايته وقالت له: طيِّبْ قلبك وطيِّبْ خاطرك، ما بقي عليك خوف، وقد وصلتَ إلى مطلوبك وقضاء حاجتك إن شاء الله تعالى. ففرح حسن بذلك فرحًا شديدًا، ثم إن العجوز أرسلت إلى قوَّاد العسكر أن يحضرْنَ، وكان ذلك آخِر يوم من الشهر، فلما حضرْنَ بين يدَيْها قالت لهن: اخرجن ونادين في جميع العسكر أن يخرجن في غدٍ بكرة النهار ولا تتخلف واحدة منهن، فإنْ تخلَّفَتْ واحدة راحَتْ روحها، فقلْنَ لها: سمعًا وطاعةً. ثم خرجْنَ ونادَيْنَ في جميع العسكر بالرحيل في غدٍ بكرة النهار، ثم عدن وأخبرْنَها بذلك، فعلم حسن أنها هي رئيسة العسكر وصاحبة الرأي فيه، وهي المقدَّمة عليه.

ثم إن حسنًا لم يقلع السلاح من فوق بدنه في ذلك النهار، وكان اسم تلك العجوز التي هو عندها شواهي وتُكنَّى بأم الدواهي، فما فرغت العجوز من أمرها ونهيها إلا وقد طلع الفجر، فخرج العسكر جميعه من أماكنه ولم تخرج العجوز معهن، فلما سار العسكر وخلت منه الأماكن، قالت شواهي لحسن: ادنُ مني يا ولدي. فدنا منها ووقف بين يدَيْها، فأقبلت عليه وقالت له: ما السبب في مخاطرتك بنفسك ودخولك إلى هذه البلاد؟ وكيف رضيتَ نفسك بالهلاك؟ فأخبِرْني بالصحيح عن جميع شأنك ولا تُخْفِ عني منه شيئًا، ولا تَخَفْ فإنك قد صرتَ في عهدي، وقد أَجَرْتُك ورحمتك ورثيت لحالك، فإن أخبرتَني بالصدق أعنْتُكَ على قضاء حاجتك، ولو كان فيها رواح الأرواح وهلاك الأشياخ، وحيث وصلتَ إليَّ ما بقي عليك بأس، ولا أخلي أحدًا يصل إليك بسوء أبدًا من كل ما في جزائر واق.

فحكى لها قصته من أولها إلى آخِرها، وعرَّفها بشأن زوجته وبالطيور، وكيف اصطادها من بين العشرة، وكيف تزوَّجَ بها، ثم أقام معها حتى رُزِق منها بولدَيْن، وكيف أخذت أولادها وطارت حين عرفت طريق الثوب الريش، ولم يُخْفِ من حديثه شيئًا من أوله إلى يومه الذي هو فيه. فلما سمعت العجوز كلامه حرَّكَتْ رأسها وقالت له: سبحان الله الذي سلَّمَك وأوصلك إلى هنا وأوقعك عندي، ولو كنتَ وقعتَ عند غيري كانت روحك راحت، ولم تُقْضَ لك حاجة، ولكنَّ صِدْقَ نيتك ومحبتك وفرط شوقك إلى زوجتك وأولادك هو الذي أوصَلَك إلى حصول بغيتك، ولولا أنك لها مُحِبٌّ وبها ولهان، ما كنتَ خاطرْتَ بنفسك هذه المخاطرة، والحمد لله على السلامة. وحينئذٍ يجب علينا أن نقضي لك حاجتك ونساعدك على مطلوبك، حتى تنال بغيتك عن قريب إن شاء الله تعالى، ولكن اعلم يا ولدي أن زوجتك في الجزيرة السابعة من جزائر واق، ومسافة ما بيننا وبينها سبعة أشهر ليلًا ونهارًا، فإننا نسير من هنا حتى نصل إلى أرضٍ يقال لها أرض الطيور، فمن شدة صياح الطيور وخفقان أجنحتها لا يسمع بعضنا كلام بعض. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 806﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن العجوز قالت لحسن: إن زوجتك في الجزيرة السابعة، وهي الجزيرة الكبيرة من جزائر واق، ومسافة ما بيننا وبينها سبعة أشهر، فإننا نسير من هنا إلى أرض الطيور، ومن شدة طيرانها وخفقان أجنحتها لا يسمع بعضنا كلام بعض، ثم نسير في تلك الأرض مدة أحد عشر يومًا ليلًا ونهارًا، ثم بعد ذلك نخرج منها إلى أرضٍ يقال لها أرض الوحوش، فمن شدة صياح السباع والضباع والوحوش وعيِّ الذئاب وزئير الأسود، لا نسمع شيئًا، فنسير في تلك الأرض مدة عشرين يومًا، ثم نخرج منها إلى أرضٍ يقال لها أرض الجن، فمن شدة صياح وصعود النيران، وتطاير الشرار والدخان من أفواههم، وتصاعُد زفراتهم وتمرُّدهم؛ يسدون الطريق قدامنا، وتُصَمُّ آذانُنا وتُغشَى أبصارنا، حتى لا نسمع ولا نرى، ولا يمكن أن يلتفت منَّا أحد إلى خلفه فيهلك، ويضع الفارس في ذلك المكان رأسه على قربوص سرجه ولا يرفعها مدة ثلاثة أيام، وبعد ذلك يقابلنا جبل عظيم ونهر جارٍ متصلان بجزائر واق، واعلم يا ولدي أن جميع هذا العسكر بنات أبكار، والحاكم علينا من الملوك امرأة من جزائر واق السبع، ومسيرة تلك السبع جزائر سنة كاملة للراكب المُجِدِّ في السير، وعلى شاطئ هذا النهر جبل يُسمَّى جبل واق، وهذا الاسم علم على شجرة أغصانها تُشبِه رءوس بني آدم، فإذا طلعت عليها الشمس تصيح تلك الرءوس جميعًا وتقول في صياحها: واق واق سبحان الملك الخلَّاق. فإذا سمعنا صياحها نعلم أن الشمس قد طلعت، وكذلك إذا غربت الشمس تصيح تلك الرءوس وتقول في صياحها أيضًا: واق واق سبحان الملك الخلَّاق. فنعلم أن الشمس قد غربت، ولا يقدر أحد من الرجال أن يقيم عندنا ولا يصل إلينا ولا يطأ أرضنا، وبيننا وبين الملكة التي تحكم على هذه الأرض مسافة شهر من هذا البر، وجميع الرعية التي في ذلك البر تحت يد تلك الملكة، وتحت يدها أيضًا قبائل الجان المَرَدَة والشياطين، وتحت يدها من السَّحَرَة ما لا يعلم عددهم إلا الذي خلقهم، فإنْ كنتَ تخاف أرسلتُ معك مَن يوصلك إلى الساحل، وأجيء بالذي يحملك معه في مركب ويوصلك إلى بلادك، وإنْ كان يطيب على قلبك الإقامة معنا فلا أمنعك، وأنت عندي في عيني حتى تقضي حاجتك إنْ شاء الله تعالى. فقال لها: يا سيدتي، ما بقيت أفارقك حتى أجتمع بزوجتي أو تذهب روحي. فقالت له: هذا أمر يسير، فطيِّب قلبك وسوف تصل إلى مطلوبك إن شاء الله تعالى، ولا بد أن أُطلِع الملكة عليك حتى تكون مُساعِدةً لك على بلوغ قصدك. فدَعَا لها حسن وقبَّلَ يدَيْها ورأسها، وشكَرَها على فعلها وفرط مروءتها، وسار معها وهو متفكِّر في عاقبة أمره وأهوال غربته، فصار يبكي وينتحب وجعل ينشد هذه الأبيات:

مِنْ مَكَانِ الْحَبِيبِ هَبَّ نَسِيمُ        فَتَرَانِي مِنْ فَرْطِ وَجْدِي أَهِيمُ

إِنَّ لَيْلَ الْوِصَالِ صُبْحٌ مُضِيءٌ        وَنَهَارُ الْفِرَاقِ لَيْلٌ بَهِيمُ

وَوَدَاعُ الْحَبِيبِ صَعْبٌ شَدِيدٌ        وَفِرَاقُ الْأَنِيسِ خَطْبٌ جَسِيمُ

لَسْتُ أَشْكُو جَفَاهُ إِلَّا إِلَيْهِ        لَمْ يَكُنْ فِي الْوَرَى صَدِيقٌ حَمِيمُ

وَسُلُوِّي عَنْكُمْ مُحَالٌ فَإِنِّي        لَيْسَ يَسْلِي قَلْبِي عَذُولٌ ذَمِيمُ

يَا وَحِيدَ الْجَمَالِ عِشْقِي وَحِيدٌ        يَا عَدِيمَ الْمِثَالِ قَلْبِي عَدِيمُ

كُلُّ مَنْ يَدَّعِي الْمَحَبَّةَ فِيكُمْ        وَيَهَابُ الْمَلَامَ فَهْوَ مَلُومُ

ثم إن العجوز أمرَتْ بدق طبل الرحيل، وسار العسكر وسار حسن صحبةَ العجوز وهو من الغرق في بحر الأفكار يتضجر وينشد الأشعار، والعجوز تصبِّره وتسليه، وهو لا يفيق ولا يعي ما إليه تُلقِيه، ولم يزالوا سائرين إلى أن وصلوا إلى أول جزيرة من الجزائر السبع وهي جزيرة الطيور، فلما دخلوها ظنَّ حسن أن الدنيا قد انقلبَتْ من شدة الصياح، وأوجعَتْه رأسه، وطاش عقله، وعمي بصره، وانسدَّتْ أُذُنَاه، وخاف خوفًا شديدًا وأيقن بالموت، وقال في نفسه: إذا كانت هذه أرض الطيور، فكيف تكون أرض الوحوش؟ فلما رأَتْه العجوز المسمَّاة بشواهي على هذه الحالة، ضحكت عليه وقالت له: يا ولدي، إذا كان هذا حالك من أول جزيرة، فكيف بك إذا وصلتَ إلى بقية الجزائر؟ فسأل الله وتضرَّعَ إليه، وطلب منه أن يُعِينه على ما بلاه به، وأن يبلغه مناه.

ولم يزالوا سائرين حتى قطعوا أرض الطيور، وخرجوا منها ودخلوا في أرض الجان، فلما رآها حسن خاف وندم على دخوله فيها معهم، ثم استعان بالله تعالى وسار معهم، فعند ذلك خلصوا من أرض الجان ووصلوا إلى النهر، فنزلوا تحت جبل عظيم شاهق ونصبوا خيامهم على شاطئ النهر، ووضعت العجوز لحسن دكةً من المرمر، مرصَّعةً بالدرر والجوهر، وسبائك الذهب الأحمر، على جنب النهر فجلس عليها، وتقدَّمت العساكر فعرضتهم عليه، ثم بعد ذلك نصبوا خيامهم حوله واستراحوا ساعة، ثم أكلوا وشربوا وناموا مطمئنين؛ لأنهم وصلوا إلى بلادهم، وكان حسن واضعًا على وجهه لثامًا بحيث لا يظهر منه غير عينيه، وإذا بجماعة من البنات مشَيْنَ إلى قرب خيمة حسن، ثم قلعن ثيابهن ونزلن في النهر، فصار حسن ينظر إليهن وهن يغتسلن، فصرن يلعبن وينشرحن ولا يعلمن أنه ناظرٌ إليهن؛ لأنهن ظنَنَّ أنه من بنات الملوك؛ فاشتدَّ على حسن وتره حيث كان ينظر إليهن وهن مجرَّدات من ثيابهن، وقد رأى ما بين أفخاذهن أنواعًا مختلفة، ما بين ناعم مقبقب وسمين مربرب، وغليظ المشافر وكامل وبسيط ووافر، ووجوههن كالأقمار، وشعورهن كلَيْلٍ على نهار؛ لأنهن من بنات الملوك. ثم إن العجوز نصبت له سريرًا وأجلسَتْه فوقه، فلما خلصن طلعن من النهر وهن متجردات كالقمر ليلة البدر، وقد اجتمع جميع العسكر قدام حسن؛ لأن العجوز أمرَتْ أن يُنادَى في جميع العسكر أن يجتمعن قدام خيمته ويتجرَّدْنَ من ثيابهن، وينزلن في النهر ويغتسلن فيه، لعل زوجته أن تكون فيهن فيعرفها، وصارت العجوز تسأله عنهن طائفة بعد طائفة فيقول: ما هي في هؤلاء يا سيدتي. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 807﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن العجوز كانت تسأل حسنًا عن البنات طائفةً بعد طائفةٍ، لعله يعرف زوجته من بينهن، وكلما سألته عن طائفة يقول: ما هي في هؤلاء يا سيدتي. ثم بعد ذلك تقدَّمَتْ جارية في آخِر الناس، وفي خدمتها ثلاثون خادمة كلهن نواهد أبكار، فنزعْنَ ثيابهن ونزلن معها في النهر، فصارت تتدلل عليهن وترميهن في البحر وتغطسهن، ولم تزل معهن على هذا الحال ساعة زمانية، ثم طلعن من النهر وقعدن، فقدَّمْنَ إليها مناشف من حرير مزركشة بالذهب، فأخذتها وتنشفت بها، ثم قدَّمْنَ إليها ثيابًا وحللًا وحليًّا من عمل الجن، فأخذتها ولبستها وقامت تخطر بين العسكر هي وجواريها، فلما رآها حسن طار قلبه وقال: هذه أشبه الناس بالطيرة التي رأيتُها في البحيرة في قصر أخواتي البنات، وكانت تتدلل على أتباعها مثلها. فقالت العجوز: يا حسن، هل هذه زوجتك؟ فقال: لا وحياتك يا سيدتي ما هذه زوجتي، ولا عمري رأيتها، وما في جميع البنات التي رأيتهن في هذه الجزيرة مثل زوجتي، ولا مثل قدِّها واعتدالها وحُسْنها وجمالها. فقالت: صِفْها لي وعرِّفني بجميع أوصافها حتى تكون في ذهني، فإني أعرف كل بنت في جزائر واق؛ لأني نقيبة عسكر البنات والحاكمة عليهن، وإنْ وصفتَها لي عرفتُها وتحيَّلت لك في أخذها. فقال لها حسن: إن زوجتي صاحبة وجه مليح وقَدٍّ رجيح، أسيلة الخد قائمة النهد، دعجاء العينين ضخمة الساقين، بيضاء الأسنان حلوة اللسان، ظريفة الشمائل كأنها غصن مائل، بديعة الصفة حمراء الشفة، بعيون كحال وشفايف رقاق، على خدها الأيمن شامة، وعلى بطنها من تحت سرتها علامة، وجهها منير كقمر مستدير، وخصرها نحيل وردفها ثقيل، وريقها يشفي العليل كأنه الكوثر أو السلسبيل. فقالت العجوز: زِدْني في أوصافها بيانًا زادَكَ الله فيها افتتانًا. فقال لها حسن: إن زوجتي ذات وجه جميل، وخد أسيل، وعنق طويل، وطرف كحيل، وخدود كالشقيق، وفم كخاتم عقيق، وثغر لامع البريق، يُغنِي عن الكأس والإبريق، قد ركبت في هيكل اللطافة، وبين فخذيها تخت الخلافة، ما مثل حرمه بين المشاعر، كما قال في حقه الشاعر:

اسِمُ الَّذِي حَيَّرَنِي        حُرُوفُهُ مُشْتَهِرَةْ

أَرْبَعَةٌ فِي خَمْسَةٍ        وَسِتَّةٌ فِي عَشَرَةْ

ثم بكى حسن وغنَّى بهذا الموال:

وَجْدِي بِكُمْ وَجْدُ هِنْدِيٍّ ضَيَّعَ الْقَصْعَةْ        أَوْ وَجْدُ سَاعٍ وَفِي رِجْلِهِ الْيُمْنَى قَصْعَةْ

أَوْ وَجْدُ مُضْنًى عَلِيلٍ بِجُرُوحٍ مُتَّسِعَةْ        أَوْ وَجْدُ مَنْ حَرَّرَ السَّبْعَةَ عَلَى الْعِشْرِينْ

وَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى مَنْ يَتْبَعِ التِّسْعَةْ

فأطرقت العجوز برأسها إلى الأرض ساعةً من الزمان، ثم رفعت رأسها إلى حسن وقالت: سبحان الله العظيم الشأن، إني بُلِيت بك يا حسن، فيا ليتني ما كنتُ عرفتُك؛ لأن المرأة التي وصفتَها لي هي زوجتك بعينها، فإني قد عرفتُها بصفاتها، وهي بنت الملك الأكبر الكبيرة التي تحكم على جزائر واق بأسرها، فافتحْ عينك وتدبَّرْ أمرك، وإنْ كنتَ نائمًا فانتبه، فإنه لا يمكنك الوصول إليها أبدًا، وإنْ وصلتَ إليها لا تقدر على تحصيلها؛ لأن بينك وبينها مثل ما بين السماء والأرض، فارجع يا ولدي من قريب ولا ترمِ نفسك في الهلاك وترميني معك، فإني أظن أنه ليس لك فيها نصيب، وارجعْ من حيث أتيتَ لئلا تروح أرواحنا. وخافت على نفسها وعليه. فلما سمع حسن كلامَ العجوز بكى بكاءً شديدًا حتى غُشِيَ عليه، فما زالَتِ العجوز ترش على وجهه الماء حتى أفاق من غشيته، وصار يبكي حتى بلَّ ثيابه بالدموع من عِظَم ما لحقه من الهم والغم من كلام العجوز، وقد يئس من الحياة، ثم قال للعجوز: يا سيدتي، وكيف أرجع بعد أن وصلتُ إلى هنا؟ وما كنتُ أظن في نفسي أنكِ تعجزين عن تحصيل غرضي، خصوصًا وأنت نقيبة عسكر البنات والحاكمة عليهن؟ فقالت: بالله عليك يا ولدي أن تختار لك بنتًا من هؤلاء البنات، وأنا أعطيك إياها عوضًا عن زوجتك لئلا تقع في يد الملوك، فلا يبقى لي في خلاصك حيلة، فبالله عليك أن تسمع مني وتختار لك واحدة من هؤلاء البنات غير تلك البنت، وترجع إلى بلادك من قريب سالمًا، ولا تجرعني غصتك، والله لقد رميتَ نفسك في بلاء عظيم وخطر جسيم لا يقدر أحد أن يخلِّصَك منه. فعند ذلك أطرَقَ حسن رأسه وبكى بكاءً شديدًا، وأنشد هذه الأبيات:

فَقُلْتُ لِعُذَّلِي لَا تَعْذِلُونِي        لِغَيْرِ الدَّمْعِ مَا خُلِقَتْ جُفُونِي

مَدَامِعُ مُقْلَتِي طَفَحَتْ فَفَاضَتْ        عَلَى خَدِّي وَأَحْبَابِي جَفَوْنِي

دَعُونِي فِي الْهَوَى قَدْ رَقَّ جِسْمِي        لِأَنِّي فِي الْهَوَى أَهْوَى جُنُونِي

وَيَا أَحْبَابُ قَدْ زَادَ اشْتِيَاقِي        إِلَيْكُمْ مَا لَكُمْ لَا تَرْحَمُونِي

جَفَوْتُمْ بَعْدَ مِيثَاقٍ وَعَهْدٍ        وَخُنْتُمْ صُحْبَتِي وَتَرَكْتُمُونِي

وَيَوْمَ الْبَيْنِ لَمَّا قَدْ رَحَلْتُمْ        سُقِيتُ مِنَ الصُّدُودِ شَرَابَ هُونِ

فَيَا قَلْبِي عَلَيْهِمْ ذُبْ غَرَامًا        وَجُودِي بالْمَدَامِعِ يَا عُيُونِي

وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 808﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العجوز لما قالت لحسن: بالله عليك يا ولدي أن تسمع مني كلامي، وتختار لك واحدة من هؤلاء البنات غير زوجتك وترجع إلى بلادك من قريبٍ سالمًا. فأطرق رأسه وبكى بكاءً شديدًا، وأنشد الأبيات المذكورة، فلما فرغ من شعره بكى حتى غُشِيَ عليه، فما زالت العجوز ترشُّ الماءَ على وجهه حتى أفاق من غشيته، ثم أقبلَتْ عليه وقالت: يا سيدي، ارجع إلى بلادك، فإني متى سافرتُ بكَ إلى المدينة راحت روحك وروحي؛ لأن الملكة إذا علمَتْ بذلك تلومني على دخولي بك إلى بلادها وجزائرها التي لم يصلها أحدٌ من أولاد بني آدم، وتقتلني حيث حملتُكَ معي، وأطلعتُكَ على هؤلاء الأبكار اللاتي رأيتَهن في البحر، مع أنه لم يمسهنَّ فَحْل ولم يقربهن بَعْل. فحلف حسن أنه ما نظر إليهن نظر سوء قطُّ، فقالت له: يا ولدي، ارجع إلى بلادك وأنا أعطيك من المال والذخائر والتحف ما تستغني به عن جميع النساء، فاسمع كلامي وارجع من قريب ولا تخاطر بنفسك فقد نصحتك. فلما سمع حسن كلامها بكى ومرَّغَ خدَيْه على قدميها وقال: يا سيدتي ومولاتي وقرة عيني، كيف أرجع بعدما وصلتُ إلى هذا المكان ولم أنظر مَن أريد؟ وقد قربت من دار الحبيب، وترجيت اللقاءَ عن قريب، ولعله أن يكون لي في الاجتماع نصيب. ثم أنشد هذه الأبيات:

يَا مُلُوكَ الْجَمَالِ رِفْقًا بِأَسْرَى        لِجُفوُنٍ تَمَلَّكَتْ مُلْكَ كِسْرَى

قَدْ غَلَبْتُمْ رَوَائِحَ الْمِسْكِ طِيبًا        وَبَهَرْتُمْ مَحَاسِنَ الْوَرْدِ زَهْرَا

وَنَسِيمُ النَّعِيمِ حَيْثُ حَلَلْتُمْ        فَالصَّبَا مِنْ هُنَاكَ تَعْبَقُ نَشْرَا

عَاذِلِي كُفَّ عَنْ مَلَامِي وَنُصْحِي        إِنَّمَا جِئْتَ بِالنَّصِيحَةِ نُكْرَا

مَا عَلَى صَبْوَتِي مِنَ الْعَذْلِ وَاللَّوْ        مِ إِذَا لَمْ تُحِطْ بِذَلِكَ خُبْرَا

أَسَرَتْنِي الْعُيُونُ وَهْيَ مِرَاضٌ        وَرَمَتْنِي فِي الْحُبِّ عُنْفًا وَقَهْرَا

أَنْثُرُ الدَّمْعَ حِينَ أَنْظُمُ شِعْرِي        هَاكَ مِنِّي الْحَدِيثَ نَظْمًا وَنَثْرَا

حُمْرَةُ الْخَدِّ قَدْ أَذَابَتْ فُؤَادِي        فَتَلَظَّتْ مِنِّي الْجَوَارِحُ جَمْرَا

خَبِّرَانِي مَتَى تَرَكْتُ حَدِيثِي        فَبِأَيِّ الْحَدِيثِ أَشْرَحُ صَدْرَا

طُولُ عُمْرِي فِي هَوَى الْغِيدِ وَلَكِنْ        يُحْدِثُ اللهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرَا

فلما فرغ حسن من شعره، رقَّتْ له العجوز ورحمته، وأقبلت عليه وطيَّبَتْ خاطره، وقالت له: طِبْ نفسًا وقرَّ عينًا، وأخل فكرك من الهم، والله لَأخاطِرَنَّ معك بروحي حتى تبلغ مقصودك أو تدركني منيتي. فطاب قلب حسن وانشرح صدره، وجلس يتحدَّث مع العجوز إلى آخِر النهار، فلما أقبَلَ الليل تفرَّقت البنات كلهن؛ فمنهن مَن دخلت قصرها في البلد، ومنهن مَن باتت في الخيام. ثم إن العجوز أخذت حسنًا معها ودخلت به البلد، فأخلَتْ له مكانًا وحده لئلا يطَّلِع عليه أحدٌ فيُعلِم الملكة به فتقتله وتقتل مَن أتى به، ثم صارت تخدمه بنفسها وتخوِّفه من سطوة الملك الأكبر أبي زوجته، وهو يبكي بين يديها ويقول: يا سيدتي، قد اخترتُ الموتَ لنفسي وكرهت الدنيا، إنْ لم أجتمع بزوجتي وأولادي، فأنا أخاطِرُ بروحي، إما أن أبلغ مرادي وإما أن أموت.

فصارت العجوز تتفكَّر في كيفية وصاله واجتماعه بزوجته، وكيف تكون الحيلة في أمر هذا المسكين الذي رمى روحه في الهلاك، ولم ينزجر عن قصده بخوف ولا غيره، وقد سلا نفسه، وصاحِبُ المثل يقول: العاشق لا يسمع كلام خليٍّ. وكانت تلك البنت ملكة الجزيرة التي هم نازلون فيها، وكان اسمها نور الهدى، وكان لهذه الملكة سبع أخوات بنات أبكار مُقِيمات عند أبيهن الملك الأكبر، الذي هو حاكم على السبع جزائر وأقطار واق، وكان تخت ذلك الملك في المدينة التي هي أكبر مدن ذلك البر، وكانت بنته الكبيرة وهي نور الهدى هي الحاكمة على تلك المدينة التي فيها حسن وعلى سائر أقطارها. ثم إن العجوز لما رأت حسنًا محترقًا على الاجتماع بزوجته وأولاده، قامت وتوجَّهَتْ إلى قصر الملكة نور الهدى، فدخلَتْ عليها وقبَّلَتِ الأرضَ بين يدَيْها، وكان للعجوز فضل عليها؛ لأنها ربَّتْ بناتَ المَلِك جميعهن، ولها على الجميع سلطنة، وهي مكرَّمة عندهن عزيزة عند الملك.

فلما دخلت العجوز على الملكة نور الهدى، قامت لها وعانقَتْها وأجلَسَتْها جنبها، وسألتها عن سفرتها، فقالت لها: والله يا سيدتي إنها كانت سفرة مباركة، وقد استصحبتُ لكِ معي هدية سأحضِرُها بين يديك. ثم قالت لها: يا بنتي، يا ملكة العصر والزمان، إني قد أتيتُ معي بشيء عجيب وأريد أن أُطلِعَكِ عليه لأجل أن تساعديني على قضاء حاجته. فقالت لها: وما هو؟ فأخبرَتْها بحكاية حسن من أولها إلى آخِرها وهي ترتعد كالقصبة في مهبِّ الريح العاصف، حتى وقعَتْ بين يدي بنت الملك، وقالت لها: يا سيدتي، قد استجارَ بي شخصٌ على الساحل كان مختفيًا تحت الدكة فأجرْتُه، وأتيتُ به معي بين عسكر البنات وهو حامل السلاح بحيث لا يعرفه أحدٌ، وأدخلته البلد. ثم قالت لها: وقد خوَّفْتُه من سطوتكِ وعرَّفْتُه ببأسك وقوتك، وكلما أخوِّفه يبكي وينشد الأشعار ويقول لي: لا بد من رؤية زوجتي وأولادي، أو أموت ولا أرجع إلى بلادي من غيرهم. وقد خاطَرَ بنفسه وجاء إلى جزائر واق، ولم أَرَ عمري آدميًّا أقوى قلبًا منه، ولا أشد بأسًا، إلا أن الهوى قد تمكَّنَ منه غاية التمكُّن. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 809﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن العجوز لما حكَتْ للملكة نور الهدى حكايةَ حسن، قالت لها: وما رأيتُ أقوى قلبًا منه، إلا أن الهوى قد تمكَّنَ منه غاية التمكُّن. فلما سمعتِ الملكةُ كلامها وفهمت قصة حسن، غضبت غضبًا شديدًا وأطرقَتْ رأسها إلى الأرض ساعةً، ثم رفعت رأسها ونظرت إلى العجوز وقالت لها: يا عجوزَ النحس، هل بلغ من خبثك أنك تحملين الذكورَ وتأتين بهم معك إلى جزائر واق، وتدخلين بهم عليَّ ولم تخافي من سطوتي؟

وحق رأس الملك لولا ما لكِ عليَّ من التربية لَقتلتُكِ أنت وإياه في هذه الساعة أقبحَ قتلة، حتى يعتبر المسافرون بك يا ملعونة؛ لئلا يفعل أحد مثل ما فعلتِ من هذه الفعلة العظيمة التي لم يقدر أحدٌ عليها، ولكن اخرجي وأحضريه في هذه الساعة حتى أنظره. فخرجت العجوز من بين يدَيْها وهي مدهوشة لا تدري أين تذهب وتقول: كل هذه المصيبة ساقَهَا الله لي من هذه الملكة على يد حسن. ومضَتْ إلى أن دخلت على حسن فقالت له: قُمْ كلِّمِ الملكةَ يا مَن آخِرُ عمره قد دَنَا. فقام معها ولسانه لا يفتر عن ذِكْر الله تعالى ويقول: اللهم الطُفْ بي في قضائك، وخلِّصْني من بلائك. فسارت به حتى أوقفَتْه بين يدي الملكة نور الهدى، وأوصَتْه العجوز في الطريق بما يتكلَّم به معها، فلما تمثَّلَ بين يدَيْ نور الهدى رآها ضاربةً لثامًا، فقبَّلَ الأرضَ بين يديها وسلَّمَ عليها، وأنشد هذين البيتين:

أَدَامَ اللهُ عِزَّكِ فِي سُرُورٍ        وَخَوَّلَكِ الْإِلَهُ بِمَا حَبَاكِ

وَزَادَكِ رَبُّنَا عِزًّا وَمَجْدًا        وَأَيَّدَكِ الْقَدِيرُ عَلَى عِدَاكِ

فلما فرغ من شعره أشارت الملكة إلى العجوز أن تخاطبه قدامها لتسمع مجاوَبتَه، فقالت العجوز: إن الملكة تردُّ عليك السلام وتقول لك: ما اسمك؟ ومن أيِّ البلاد أنتَ؟ وما اسم زوجتك وأولادك الذين جئتَ من أجلهم؟ وما اسم بلادك؟ فقال لها وقد ثبت جنانه وساعدته المقادير: يا ملكة العصر والأوان، ووحيدة الدهر والزمان، أمَّا أنا فاسمي حسن الكثير الحزن، وبلدي البصرة، وأما زوجتي فلا أعرف لها اسمًا، وأما اسم أولادي فواحد اسمه ناصر، والآخَر منصور. فلما سمعت الملكة كلامه وحديثه قالت: فمن أين أخذت أولادها؟ فقال لها: يا ملكة، من مدينة بغداد من قصر الخلافة. فقالت له: وهل قالت لكم شيئًا عندما طارت؟ قال: إنها قالت لوالدتي: إذا جاء ولدكِ وطالَتْ عليه أيام الفراقِ، واشتهى القُرْبَ والتلاق، وهَزَّتْه رياح الاشتياق، فَلْيجئني إلى جزائر واق. فحرَّكَتِ الملكة نور الهدى رأسها، ثم قالت له: إنها لو كانت ما تريدك ما قالت لأمك هذا الكلام، ولولا أنها تريدك وتشتهي قُرْبك ما كانت أعلمَتْكَ بمكانها ولا طلبتك إلى بلادها. فقال حسن: يا سيدة الملوك، والحاكمة على كل ملك وصعلوك، الذي جرى أخبرتُكِ به وما أخفيتُ منه شيئًا، وأنا أستجير بالله وبكِ ألَّا تظلميني، فارحميني واربحي أَجْرِي وثوابي، وساعديني على الاجتماع بزوجتي وأولادي، وردِّي لهفتي وقرِّي عيني بأولادي، وأسعِفِيني برؤيتهم. ثم بكى وحنَّ واشتكى، وأنشد هذين البيتين:

لَأَشْكُرَنَّكِ مَا نَاحَتْ مُطَوَّقَةٌ        جَهْدِي وَإِنْ كُنْتُ لَا أَقْضِي الَّذِي وَجَبَ

فَمَا تَقَلَّبْتُ فِي نَعْمَاءَ سَابِقَةٍ        إِلَّا وَجَدْتُكِ فِيهَا الْأَصْلَ وَالسَّبَبَ

فأطرقت الملكة نور الهدى رأسها إلى الأرض وحرَّكته زمانًا طويلًا، ثم رفعته وقالت له: قد رحمتُكَ ورثيتُ لك، وقد عزمتُ على أن أعرض عليك كلَّ بنت في المدينة وفي بلاد جزيرتي، فإنْ عرفْتَ زوجتك سلَّمْتُها إليك، وإنْ لم تعرفها قتلْتُكَ وصلبْتُكَ على باب دار العجوز. فقال لها حسن: قبلتُ ذلك منكِ يا ملكة الزمان. ثم أنشد هذه الأبيات:

أَقَمْتُمْ غَرَامِي فِي الْهَوَى وَقَعَدْتُمُ        وَأَسْهَرْتُمُ جَفْنِي الْقَرِيحَ وَنِمْتُمُ

وَعَاهَدْتُمُونِي أَنَّكُمْ لَنْ تُمَاطِلُوا        فَلَمَّا أَخَذْتُمْ بِالْقِيَادِ غَدَرْتُمُ

عَشِقْتُكُمُ طِفْلًا وَلَمْ أَدْرِ مَا الْهَوَى        فَلَا تَقْتُلُونِي إِنَّنِي مُتَظَلِّمُ

أَمَا تَتَّقُونَ اللهَ فِي قَتْلِ عَاشِقٍ        يَبِيتُ يُرَاعِي النَّجْمَ وَالنَّاسُ نُوَّمُ

فَبِاللهِ يَا قَوْمِي إِذَا مِتُّ فَاكْتُبُوا        عَلَى لَوْحِ قَبْرِي: إِنَّ هَذَا مُتَيَّمُ

لَعَلَّ فَتًى مِثْلِي أَضَرَّ بِهِ الْهَوَى        إِذَا مَا رَأَى قَبْرِي عَلَيَّ يُسَلِّمُ

فلما فرغ من شعره قال: رضيتُ بالشرط الذي شرطتِه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم. فعند ذلك أمرَتِ الملكةُ نور الهدى ألَّا تبقى بنت في المدينة حتى تطلع القصر وتمر أمامه، ثم إن الملكة أمرَتِ العجوزَ شواهي أن تنزل بنفسها إلى المدينة، وتحضر كل بنت كانت في المدينة إلى الملكة في قصرها، وصارت الملكة تُدخِل البنات على حسن مائة بعد مائة، حتى لم يَبْقَ في المدينة بنت إلا وقد عرضَتْها على حسن، فلم يَرَ زوجته فيهن، فسألَتْه الملكة وقالت له: هل رأيتَها في هؤلاء؟ فقال لها: وحياتك يا ملكة ما هي فيهن. فاشتدَّ غضب الملكة عليه وقالت للعجوز: ادخلي وأَخْرِجي كلَّ مَن كنَّ في القصر واعرضيهن عليه. فلما عرضت عليه كلَّ مَن في القصر، لم يَرَ زوجته فيهن وقال للملكة: وحياة رأسك يا ملكة ما هي فيهن. فغضبت وصرخت على مَن حولها وقالت: خذْنَه واسحبْنَه على وجهه فوق الأرض، واضربْنَ عنقه؛ لئلا يخاطرَ بنفسه أحد بعده ويطَّلِع على حالنا، ويجوز علينا في بلادنا، ويطأ أرضنا وجزائرنا. فسحبْنَه على وجهه وطرحْنَ ذيله فوقه وغمَّضْنَ عينَيْه، ووقفْنَ بالسيوف على رأسه ينتظرْنَ الإذن، فعند ذلك تقدَّمَتْ شواهي إلى الملكة وقبَّلَتِ الأرضَ بين يديها، ومسكت ذيلها ورفعَتْه فوق رأسها وقالت لها: يا ملكة، بحق التربية لا تعجلي عليه، خصوصًا وأنت تعرفين أن هذا المسكين غريب قد خاطَرَ بنفسه، وقاسَى أمورًا ما قاسَاها أحد قبله، ونجَّاه الله تعالى عز وجل من الموت لطول عمره، وقد سمع بعَدْلِكِ فدخل بلادك وحِمَاك، فإنْ قتلتِه تنتشر الأخبار عنكِ مع المسافرين بأنك تبغضين الأغرابَ وتقتلينهم، وهو على كل حال تحت قهرك، ومقتول سيفك إنْ لم تظهر زوجته في بلدك، وأي وقت تشتهين حضوره فأنا قادرة على ردِّه إليك، وأيضًا فأنا ما أَجَرْتُه إلا طمعًا في كرمك بسبب ما لي عليك من التربية، حتى ضمنتُ له أنك توصلينه إلى بغيته؛ لعلمي بعدلك وشفقتك، ولولا أني أعلم منك هذا ما كنتُ أدخلْتُه بلدك، وقلتُ في نفسي: إن الملكة تتفرَّج عليه وعلى ما يقوله من الأشعار والكلام المليح الفصيح الذي يشبه الدر المنظوم، وهذا قد دخل بلادنا وأكل زادنا، فوجَبَ حقُّه علينا. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 810﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملكة نور الهدى لما أمرت غلمانها بأخذ حسن وضرب عنقه، صارت العجوز تأخذ بخاطرها وتقول لها: إنه دخل بلادنا وأكل زادنا، فوجب حقه علينا، خصوصًا وقد وعدته بالاجتماع بك، وأنت تعرفين أن الفراق صعب، وتعرفين أن الفراق قتَّال، خصوصًا فراق الأولاد، وما بقي علينا من النساء واحدة إلا أنتِ، فأَرِيه وجهك. فتبسَّمَتِ الملكة وقالت: من أين له أن يكون زوجي وخلَّفَ مني أولادًا حتى أُرِيه وجهي. ثم أمرت بحضوره، فأدخلوه عليها وأوقفوه بين يدَيْها، فكشفت وجهها، فلما رآه حسن صرَخَ صرخةً عظيمةً وخرَّ مغشيًّا عليه، فلم تَزَلِ العجوزُ تلاطِفه حتى أفاق، فلما أفاق من غشيته أنشد هذه الأبيات:

يَا نَسِيمًا هَبَّ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقْ        فِي زَوَايَا أَرْضِ مَنْ قَدْ قَالَ وَاقْ

بَلِّغِ الْأَحْبَابَ عَنِّي أَنَّنِي        مِتُّ مِنْ طَعْمِ الْهَوَى الْمُرِّ الْمَذَاقْ

يَا أُهَيْلَ الْحُبِّ مِنُّوا وَاعْطِفُوا        ذَابَ قَلْبِي مِنْ تَبَارِيحِ الْفِرَاقْ

فلما فرغ من شعره قام ونظر الملكةَ وصاح صيحة عظيمة كاد منها القصر أن يسقط على مَن فيه، ثم وقع مغشيًّا عليه، فما زالت العجوز تلاطفه حتى أفاق وسألته عن حاله، فقال: إن هذه الملكة إما زوجتي، وإما أشبه الناس بزوجتي. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 811﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن العجوز لما سألته عن حاله قال لها: إن هذه الملكة إما زوجتي، وإما أشبه الناس بزوجتي. فقالت الملكة للعجوز: ويلكِ يا داية، إن هذا الغريب مجنون أو مختل؛ لأنه ينظر في وجهي ويحملق عينيه. فقالت لها العجوز: يا ملكة، إن هذا معذور فلا تؤاخذيه، فإنه يقال في المثل: مريض الهوى ما له دواء، وهو والمجنون سواء. ثم إن حسنًا بكى بكاءً شديدًا، وأنشد هذين البيتين:

أَرَى آثَارَهُمْ فَأَذُوبُ شَوْقًا        وَأَسْكُبُ فِي مَوَاطِنِهِمْ دُمُوعِي

وَأَسْأَلُ مَنْ بِفُرْقَتِهِمْ بَلَانِي        يَمُنُّ عَلَيَّ مِنْهُمُ بِالرُّجُوعِ

ثم إن حسنًا قال للملكة: والله ما أنت زوجتي، ولكنك أشبه الناس بها. فضحكَتِ الملكة نور الهدى حتى استلقت على قفاها ومالت على جنبها، ثم قالت: يا حبيبي، تمهَّلْ على روحك وميِّزني وجاوبني عن الذي أسألك عنه، ودَعْ عنك الجنونَ والحيرةَ والذهولَ، فإنه قد قرب لك الفرج. فقال حسن: يا سيدة الملوك، وملجأ كل غني وصعلوك، إني حين نظرتُكِ جننتُ؛ لأنك إما زوجتي وإما أشبه الناس بزوجتي، فاسأليني الآن عمَّا تريدين. فقالت: أي شيء في زوجتكِ يشبهني؟ فقال: يا سيدتي، جميع ما فيكِ من الحُسْن والجمال والظرف والدلال، كاعتدال قوامك وعذوبة كلامك، وحمرة خدودك وبروز نهودك، وغير ذلك يشبهها. ثم إن الملكة التفتَتْ إلى شواهي أم الدواهي وقالت لها: يا أمي، أَرْجِعيه إلى موضعه الذي كان فيه عندك، واخدميه أنتِ بنفسك حتى أتفحَّصَ عن أمره، فإنْ كان هذا الرجل صاحب مروءة بحيث يحفظ الرفق الصحبة والود، وجَبَ علينا مساعدته على قضاء حاجته، خصوصًا وقد نزل أرضنا وأكل طعامنا، مع ما تحمَّلَه من مشقَّاتِ الأسفار ومكابدة أهوال الأخطار، ولكن إذا أوصلتِه إلى بيتكِ، فأوصي عليه أتباعك وارجعي إليَّ بسرعة، وإن شاء الله تعالى لا يكون إلا خيرًا. فعند ذلك خرجت العجوز وأخذت حسنًا ومضَتْ به إلى منزلها، وأمرت جواريها وخَدَمها وحشمها بخدمته، وأمرتهم أن يحضروا له جميع ما يحتاج إليه، وألَّا يقصِّروا في حقه، ثم عادت إلى الملكة بسرعة، فأمرتها أن تحمل سلاحها وتأخذ معها ألف فارس من الشجعان، فامتثلت العجوز شواهي أمرها، ولبست دروعها وأحضرت الألف فارس، ولما وقفَتْ بين يدَيْها وأخبرتها بإحضار الألف فارس، أمرتها أن تسير إلى مدينة الملك الأكبر أبيها، وتنزل عند بنته منار السنا أختها، وتقول لها: أَلْبِسِي ولَدَيْكِ الدرعين اللذين عملتهما لهما، وأرسليهما إلى خالتهما فإنها مشتاقة إليهما. وقالت لها: أوصيك يا أمي بكتمان أمر حسن، فإذا أخذتِهما فقولي لها: إن أختك تستدعيك إلى زيارتها. فإذا أعطتْكِ ولدَيْها وخرجت بهما قاصدة الزيارة، فاحضري بهما سريعًا وخلِّيها تحضر على مهلها، وتعالي من طريق غير الطريق التي تجيء منها، ويكون سفرك ليلًا ونهارًا، واحذري أن يطَّلِع على هذا الأمر أحدٌ أبدًا، ثم إني أحلف بجميع الأقسام إنْ طلعَتْ أختي زوجتَه، وظهر أن وَلَدَيْها ولدَاه، لا أمنعه من أخذها ولا من سفرها معه بأولادها. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 812﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملكة قالت: إني أحلف بالله، وأقسم جميع الأقسام أنها إنْ طلعت زوجته لا أمنعه من أخذها، بل أساعده على أخذها وعلى سفرها معه إلى بلاده. فوَثِقت العجوز بكلامها، ولم تعلم بما أضمرَتْه في نفسها، وقد أضمرت العاهرةُ في نفسها أنها إنْ لم تكن زوجته ولا أولادها يشبهونه تقتله. ثم إن الملكة قالت للعجوز: يا أمي، إن صدق حزري تكون زوجته أختي منار السنا، والله أعلم، فإن هذه الصفات صفاتها، وجميع الأوصاف التي ذكرها من الجمال البارع والحسن الباهر لا توجد في أحدٍ غير أخواتي، خصوصًا الصغيرة. ثم إن العجوز قبَّلَتْ يدها ورجعت إلى حسن وأعلمَتْه بما قالته الملكة، فطار عقله من الفرح وقام إلى العجوز وقبَّلَ رأسها، فقالت له: يا ولدي، لا تقبِّلْ رأسي وقبِّلني في فمي، واجعل هذه القبلة حلاوةَ السلامة، وطِبْ نفسًا وقرَّ عينًا، ولا يكن صدرك إلا منشرحًا، ولا تستكره تقبيلي في فمي؛ فإني أنا السبب في اجتماعك بها، فطيِّبْ قلبك وخاطرك ولا تكن إلا منشرح الصدر، قرير العين، مطمئن النفس. ثم ودَّعته وانصرفت، فأنشد حسن هذين البيتين:

لِي فِي مَحَبَّتِكُمْ شُهُودٌ أَرْبَعٌ        وَشُهُودُ كُلِّ قَضِيَّةٍ اثْنَانِ

خَفَقَانُ قَلْبِي وَاضْطِرَابُ جَوَارِحِي        وَنُحُولُ جِسْمِي وَانْعِقَادُ لِسَانِي

ثم أنشد أيضًا هذين البيتين:

شَيْئَانِ لَوْ بَكَتِ الدِّمَاءَ عَلَيْهِمَا        عَيْنَايَ حَتَّى تُؤْذِنَا بِذَهَابِ

لَمْ يَقْضِيَا الْمِعْشَارَ مِنْ حَقَّيْهِمَا        شَرْخُ الشَّبَابِ وَفُرْقَةُ الْأَحْبَابِ

ثم إن العجوز حملت سلاحها وأخذت معها ألفَ فارس حاملين السلاح، وتوجَّهت إلى تلك الجزيرة التي فيها أخت الملكة، وسارت إلى أن وصلت إلى أخت الملكة، وكان بين مدينة نور الهدى وبين مدينة أختها ثلاثة أيام، فلما وصلت شواهي إلى المدينة وطلعت إلى أخت الملكة منار السنا، سلَّمَتْ عليها وبلَّغتها السلام من أختها نور الهدى، وأخبرتها باشتياقها إليها وإلى أولادها، وعرَّفَتْها أن الملكة نور الهدى تعتب عليها بسبب عدم زيارتها إياها، فقالت لها الملكة منار السنا: الحقُّ عليَّ لأختي، وأنا مقصِّرة بعدم زيارتي لها ولكن أزورها الآن. ثم أمرت بتبريز خيامها إلى خارج المدينة، وأخذت لأختها معها ما يصلح لها من الهدايا والتحف. ثم إن الملك أباها نظر من طيقان القصر فرأى الخيام منصوبةً، فسأل عن ذلك، فقالوا له: إن الملكة منار السنا نصبت خيامها بتلك الطريق؛ لأنها تريد زيارة أختها نور الهدى. فلما سمع الملك بذلك جهَّزَ لها عسكرًا يوصلها إلى أختها، وأخرَجَ من خزائنه من الأموال ومن المأكل والمشرب ومن التحف والجواهر، ما يعجز عنه الوصف، وكانت بنات الملك السبع أشِقَّاء من أب واحد وأم واحدة إلا الصغيرة، وكان اسم الكبيرة نور الهدى، والثانية نجم الصباح، والثالثة شمس الضحى، والرابعة شجرة الدر، والخامسة قوت القلوب، والسادسة شرف البنات، والسابعة منار السنا، وهي الصغيرة فيهن وهي زوجة حسن، وكانت أختهن من أبيهن فقط. ثم إن العجوز تقدَّمت وقبَّلت الأرض بين يدَيْ منار السنا، فقالت لها منار السنا: هل لكِ حاجة يا أمي؟ فقالت لها: إن الملكة نور الهدى أختكِ تأمرك أن تغيِّري لولَدَيْكِ وتُلبِسيهما الدرعَيْن اللذين فصَّلتهما لهما، وأن تُرسِليهما معي إليها، فآخذهما وأسبق بهما وأكون المبشِّرة بقدومك عليها. فلما سمعت منار السنا كلامَ العجوز أطرقت رأسها إلى الأرض وقد تغيَّرَ لونها، ولم تَزَلْ مُطرِقةً زمانًا طويلًا، ثم حرَّكَتْ رأسها ورفعتها إلى العجوز وقالت لها: يا أمي، قد ارتجَفَ فؤادي وخفق قلبي عندما ذكرتِ ولَدَيَّ، فإنهما من حين ولادتهما لم ينظر أحدٌ وجهَيْهما من الجن والبشر، لا أنثى ولا ذكر، وأنا أغارُ عليهما من النسيم إذا سرى. فقالت لها العجوز: أي شيء هذا الكلام يا سيدتي؟! أتخافين عليهما من أختك؟ وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 813﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن العجوز لما قالت للسيدة منار السنا: أيُّ شيء هذا الكلام يا سيدتي؟ أتخافين عليهما من أختك؟ سلامة عقلك، وإنْ خالفتِ الملكةَ في هذا الأمر لا يمكنكِ المخالفة، فإنها تعتب عليك، ولكن يا سيدتي ولداك صغيران، وأنتِ معذورة في الخوف عليهما، والمحب مُولَع بسوء الظن، ولكن يا بنتي أنت تعلمين شفقتي ومحبتي لك ولولديكِ، وقد ربيتكن قبلهما، وأنا أتسلَّمهما وآخذهما وأفرش لهما خدي، وأفتح قلبي وأجعلهما في داخله، ولا أحتاج إلى الوصية عليهما في هذا الأمر، فطيبي نفسًا وقرِّي عينًا، وأرسِليهما لها، وأكثر ما أسبقك به يوم واحد أو يومان. ولم تزل تلحُّ عليها حتى لانَ جانبها وخافت من غيظ أختها، ولم تَدْرِ ما هو مخبَّأ لها في الغيب، فسمحَتْ بإرسالهما مع العجوز، ثم إنها دعَتْ بهما وحمَّتْهما وهيَّأَتْهما وغيَّرَتْ لهما وألبستهما الدرعين وسلَّمتهما للعجوز، فأخذتهما وسارت بهما مثل الطير على غير الطريق التي تسير فيها أمهما، مثل ما أوصتها الملكة نور الهدى، ولم تَزَلْ تجِدُّ في السير وهي خائفة عليهما إلى أن وصلت بهما إلى مدينة الملكة نور الهدى، فعدَّتْ بهما البحر ودخلت المدينة وتوجَّهَتْ بهما إلى الملكة نور الهدى خالتهما، فلما رأتهما فرحَتْ بهما وعانَقَتْهما وضمتهما إلى صدرها، وأجلست واحدًا على فخذها الأيمن والثاني على فخذها الأيسر، ثم التفتَتْ إلى العجوز وقالت لها: أحضِرِي الآن حسنًا، فأنا قد أعطيتُه أماني وأجَرَتْه من حسامي، وقد تحصَّنَ بداري ونزل في جِوَاري، بعد أن قاسى الأهوال والشدائد، وتعدَّى أسبابَ الموت التي همُّها متزايد، مع أنه إلى الآن لم يسلم من شرب كأسه وقطع أنفاسه. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 814﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملكة نور الهدى لما أمرَتِ العجوز بإحضار حسن، قالت لها: إنه قاسَى الأهوال والشدائد، وتعدَّى أسباب الموت التي همُّها متزايد، مع أنه إلى الآن لم يسلم من شرب كأسه وقطع أنفاسه. فقالت لها العجوز: إذا أحضرتُه بين يديك، فهل تجمعين بينه وبينهما؟ وإنْ لم يظهر أنهما ولداه تعفي عنه وتردِّيه إلى بلاده؟ فلما سمعت الملكة كلامها غضبت غضبًا شديدًا وقالت: ويلك يا عجوز النحس! إلى متى هذه المخادعة في شأن هذا الرجل الغريب الذي تجاسَرَ علينا، وكشَفَ سترنا، واطَّلَع على أحوالنا؟ هل يظن أنه يجيء أرضنا، وينظر وجوهنا، ويوسِّخ أعراضنا، ويرجع إلى بلاده سالمًا؟ فيفضح أحوالنا في بلاده وبين أهله، وتبلغ أخبارنا سائرَ الملوك في أقطار الأرض، وتسافر التجار بأخبارنا في جميع الجهات، ويقولون: إِنْسِيٌّ دخل جزائر واق، وعدَّى بلاد السَّحَرَة والكَهَنَة، وتخطَّى أرض الجان وأرض الوحوش والطيور ورجع سالمًا؟ فهذا لا يكون أبدًا، وأنا أقسم بخالق السماء وبانيها، وساطح الأرض وداحيها، وخالق الخلق ومُحصِيها، إنْ لم يكونا ولدَيْه لَأقتلَنَّه، وأنا التي أضرب عنقه بيدي. ثم إنها صرخت على العجوز فوقعت من الخوف، وأغرَتْ عليها الحاجب وعشرين مملوكًا وقالت لهم: امضوا مع هذه العجوز وائتوني بالصبي الذي عندها في بيتها بسرعة. فخرجت العجوز مجرورة مع الحاجب والمماليك، وقد اصفرَّ لونها وارتعدَتْ فرائصها، ثم سارت إلى منزلها ودخلت على حسن، فلما دخلت عليه قام إليها وقبَّلَ يدَيْها وسلَّمَ عليها، فلم تسلِّم عليه وقالت له: قُمْ كلِّمِ الملكةَ، أَمَا قلتُ لكَ ارجع إلى بلادك ونهيتُكَ عن هذا كله فما سمعتَ قولي؟ وقلتُ لك أعطيك شيئًا لا يقدر عليه أحد وارجع إلى بلادك من قريب، فما أطعتَني ولا سمعتَ مني، بل خالَفْتَني واخترت الهلاك لي ولك، فدونك وما اخترت، فإن الموت قريب، قُمْ كلِّمْ هذه الفاجرة العاهرة الظالمة الغاشمة. فقام حسن وهو مكسور الخاطر، حزين القلب خائف ويقول: يا سلام سلِّم، اللهم الطُفْ بي فيما قدَّرْتَه عليَّ من بلائك، واسترني يا أرحم الراحمين. وقد يَئِسَ من الحياة وتوجَّهَ مع العشرين مملوكًا والحاجب والعجوز، فدخلوا على الملكة بحسن، فوجد ولدَيْه ناصرًا ومنصورًا جالسَيْن في حجرها وهي تلاعبهما وتؤنسهما، فلما وقع نظره عليهما عرفهما، وصرخ صرخة عظيمة ووقع على الأرض مغشيًّا عليه من شدة الفرح بولدَيْه. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 815﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن حسنًا لما وقع نظره على ولدَيْه عرفهما، وصرخ صرخة عظيمة ووقع على الأرض مغشيًّا عليه، فلما أفاق عرف ولدَيْه وعرفاه، فحركتهما المحبةُ الغريزيةُ فتخلَّصَا من حِجْر الملكة ووقَفَا عند حسن، وأنطقهما الله عز وجل بقولهما: يا أبانا. فبكت العجوز والحاضرون رحمةً لهما وشفقةً عليهما، وقالوا: الحمد لله الذي جمع شملكما بأبيكما. فلما أفاق حسن من غشيته عانَقَ ولدَيْه، ثم بكى حتى غُشِي عليه، فلما أفاق من غشيته أنشد هذه الأبيات:

وَحَقِّكُمْ إِنَّ قَلْبِي لَمْ يُطِقْ جَلَدًا        عَلَى الْفِرَاقِ وَلَوْ كَانَ الْوِصَالُ رَدَى

يَقُولُ لِي طَيْفُكُمْ إِنَّ اللِّقَاءَ غَدًا        وَهَلْ أَعِيشُ عَلَى رَغْمِ الْعُدَاةِ غَدَا

وَحَقِّكُمْ سَادَتِي مِنْ يَوْمِ فُرْقَتِكُمْ        مَا لَذَّ لِي طِيبُ عَيْشٍ بَعْدَكُمْ أَبَدَا

وَإِنْ قَضَى اللهُ نَحْبِي فِي مَحَبَّتِكُمْ        أَمُوتُ فِي حُبِّكُمْ مِنْ أَعْظَمِ الشُّهَدَا

وَظَبْيَةٍ فِي زَوَايَا الْقَلْبِ مَرْتَعُهَا        وَشَخْصُهَا كَالْكَرَى عَنْ مُقْلَتِي شَرَدَا

إِنْ أَنْكَرَتْ فِي مَجَالِ الشَّرْعِ سَفْكَ دَمِي        فَإِنَّهُ فَوْقَ خَدَّيْهَا لَقَدْ شَهِدَا

فلما تحققت الملكة أن الصغيرين ولدا حسن، وأن أختها السيدة منار السنا زوجته التي جاء في طلبها، غضبَتْ عليها غضبًا شديدًا ما عليه من مزيدٍ. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 816﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملكة نور الهدى لما تحقَّقَتْ أن الصغيرين ولدا حسن، وأن أختها منار السنا زوجته التي جاء في طلبها، غضبَتْ عليها غضبًا شديدًا ما عليه من مزيدٍ، وصرخت في وجه حسنٍ فغُشِي عليه، فلما أفاق من غشيته أنشد هذه الأبيات:

بَعُدْتُمْ وَأَنْتُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ فِي الْحَشَا        وَغِبْتُمْ وَأَنْتُمْ فِي الْفُؤَادِ حُضُورُ

فَوَاللهِ مَا قَدْ مِلْتُ عَنْكُمْ لِغَيْرِكُمْ        وَإِنِّي عَلَى جَوْرِ الزَّمَانِ صَبُورُ

تَمُرُّ اللَّيَالِي فِي هَوَاكُمْ وَتَنْقَضِي        وَفِي الْقَلْبِ مِنِّي زَفْرَةٌ وَسَعِيرُ

وَكُنْتُ فَتًى لَا أَرْتَضِي الْبُعْدَ سَاعَةً        فَكَيْفَ وَقَدْ مَرَّتْ عَلَيَّ شُهُورُ

أَغَارُ إِذَا هَبَّتْ عَلَيْكِ نُسَيْمَةٌ        وَإِنِّي عَلَى الْغِيدِ الْمِلَاحِ غَيُورُ

فلما فرغ حسن من شعره خرَّ مغشيًّا عليه، فلما أفاق رآهم قد أخرجوه مسحوبًا على وجهه، فقام يمشي ويتعثَّر في أذياله، وهو لا يصدِّق بالنجاة ممَّا قاساه منها، فعزَّ ذلك على العجوز شواهي ولم تقدر أن تخاطِبَ الملكة في شأنه من قوة غضبها، فلما خرج حسن من القصر صار متحيِّرًا لا يعرف أين يروح ولا أين يجيء ولا أين يذهب، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، ولم يجد مَن يحدِّثه ويؤانِسُه، ولا مَن يسلِّيه ولا مَن يستشيره، ولا مَن يقصده ويلجأ إليه، فأيقَنَ بالهلاك؛ لأنه لا يقدر على السفر، ولا يعرف مَن يسافر معه، ولا يعرف الطريقَ ولا يقدر أن يجوز على وادي الجان وأرض الوحوش وجزائر الطيور؛ فيَئِسَ من الحياة، ثم بكى على نفسه حتى غُشِي عليه، فلما أفاق تفكَّرَ أولادَه وزوجتَه وقدومها على أختها، وتفكَّرَ فيما يجري لها مع الملكة أختها، ثم ندم على حضوره في هذه الديار، وعلى كونه لم يسمع كلامَ أحدٍ، فأنشد هذه الأبيات:

دَعُوا مُقْلَتِي تَبْكِي عَلَى فَقْدِ مَنْ أَهْوَى        فَقَدْ عَزَّ سُلْوَانِي وَزَادَتْ بِيَ الْبَلْوَى

فَكَأْسَ صُرُوفِ الْبَيْنِ صِرْفًا شَرِبْتُهَا        فَمَنْ ذَا عَلَى فَقْدِ الْأَحِبَّةِ قَدْ يَقْوَى

بَسَطْتُمْ بِسَاطَ الْعَتْبِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ        أَلَا يَا بِسَاطَ الْعَتْبِ عَنَّا مَتَى تُطْوَى

سَهِرْتُ وَنِمْتُمْ إِذْ زَعَمْتُمْ بِأَنَّنِي        سَلَوْتُ هَوَاكُمْ إِذْ سَلَوْتُ عَنِ السَّلْوَى

أَلَا إِنَّ قَلْبِي مُولَعٌ بِوِصَالِكُمْ        وَأَنْتُمْ أَطِبَّائِي حُفِظْتُمْ مِنَ الْأَدْوَا

أَلَمْ تَنْظُرُوا مَا حَلَّ بِي مِنْ صُدُودِكُمْ        ذَلَلْتُ لِمَنْ يَسْوَى وَمَنْ لَمْ يَكُنْ يَسْوَى

كَتَمْتُ هَوَاكُمْ وَالْغَرَامُ يُذِيعُهُ        وَقَلْبِي بِنِيرَانِ الْهَوَى أَبَدًا يُكْوَى

فَرِقُّوا لِحَالِي وَارْحَمُونِي لِأَنَّنِي        أَقَمْتُ عَلَى الْمِيثَاقِ فِي السِّرِّ وَالنَّجْوَى

فَيَا هَلْ تُرَى الْأَيَّامُ تَجْمَعُنِي بِكُمْ        فَأَنْتُمْ مُنَى قَلْبِي وَرُوحِي لَكُمْ تَهْوَى

فُؤَادِي جَرِيحٌ بِالْفِرَاقِ فَلَيْتَكُمْ        تُفِيدُونَنَا عَنْ حُبِّكُمْ خَبَرًا يُرْوَى

ثم إنه لما فرغ من شعره لم يزل ذاهبًا إلى أن خرج إلى ظاهر المدينة، فوجَدَ النهرَ فسار على جانبه وهو لا يعلم أين يتوجَّهُ.

هذا ما كان من أمر حسن، وأما ما كان من أمر زوجته منار السنا، فإنها أرادَتِ الرحيلَ في اليوم الثاني بعد اليوم الذي رحلت فيه العجوز، فبينما هي عازمة على الرحيل، إذ دخل عليها حاجب الملك أبيها وقبَّلَ الأرضَ بين يدَيْها. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 817﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن منار السنا بينما هي عازمة على الرحيل، إذ دخل عليها حاجب الملك أبيها وقبَّلَ الأرض بين يدَيْها وقال لها: يا ملكة، إن أباكِ الملك الأكبر يسلِّم عليك ويدعوك إليه. فنهضَتْ متوجِّهةً مع الحاجب إلى أبيها تنظر حاجته، فلما رآها أبوها أجلَسَها إلى جانبه فوق السرير، وقال لها: يا بنتي، اعلمي أني رأيتُ في هذه الليلة رؤيَا وأنا خائفٌ عليك منها، وخائفٌ أن يصل لك من سفرك هذا همٌّ طويل. فقالت له: لأي شيء يا أبتي؟ وأي شيء رأيتَ في المنام؟ قال: رأيتُ كأني دخلتُ كنزًا، فرأيتُ فيه أموالًا عظيمة وجواهر ويواقيت كثيرة، وكأنه لم يعجبني من ذلك الكنز جميعه ولا من تلك الجواهر جميعها إلا سبع حبَّاتٍ، وهي أحسن ما فيه، فاخترتُ من السبع جواهر واحدةً وهي أصغرها وأحسنها وأعظمها نورًا، وكأني أخذتُها في كفي لما أعجبني حُسْنَها وخرجتُ بها من الكنز، فلما خرجتُ من بابه فتحتُ يدي وأنا فرحان وقبَّلْتُ الجوهرةَ، وإذا بطائر غريب قد أقبَلَ من بلاد بعيدة ليس من طيور بلادنا قد انقضَّ عليَّ من السماء، وخطف الجوهرة من يدي ورجع بها إلى المكان الذي أتيتُ بها منه، فلحقني الهمُّ والحزنُ والضيقُ، وفزعت فزعًا عظيمًا أيقظني من المنام، فانتبهْتُ وأنا حزين متأسِّف على تلك الجوهرة، فلما انتبهت من النوم دعوْتُ بالمعبِّرين والمفسِّرين وقصَصْتُ عليهم منامي، فقالوا لي: إن لك سبعَ بناتٍ تفقدُ الصغيرةَ منهن، وتُؤخَذ منك قهرًا بغير رضاك. وأنتِ يا بنتي أصغر بناتي وأعزهن عندي وأكرمهن عليَّ، وها أنت مسافرة إلى أختك، ولا أعلم ما يجري عليك منها، فلا تروحي وارجعي إلى قصرك. فلما سمعت منار السنا كلامَ أبيها خفَقَ قلبها وخافت على ولدَيْها، وأطرقت برأسها إلى الأرض ساعةً، ثم رفعَتْه إلى أبيها وقالت له: أيها الملك، إن الملكة نور الهدى قد هيَّأَتْ لي ضيافةً، وهي في انتظار قدومي عليها ساعة بعد ساعة، ولها أربع سنين ما رأتني، وإنْ قعدتُ عن زيارتها تغضب عليَّ، ومعظم قعودي عندها شهر زمان وأحضر عندك، ومَن هذا الذي يطرق بلادنا ويصل إلى جزائر واق؟ ومَن يقدر أن يصل إلى الأرض البيضاء والجبل الأسود ويصل إلى جزيرة الكافور وقلعة الطيور؟ وكيف يقطع وادي الطيور، ثم وادي الوحوش، ثم وادي الجان، ثم يدخل جزائرنا؟ ولو دخل إليها غريب لَغرق في بحار الهلكات، فطِبْ نفسًا وقرَّ عينًا من شأن سفري، فإنه لا قدرةَ لأحدٍ على أن يدوس أرضنا. ولم تزل تستعطفه حتى أنعَمَ عليها بالإذن في المسير. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 818﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أنها لم تزل تستعطفه حتى أنعَمَ عليها بالإذن في المسير، ثم إنه أمَرَ ألفَ فارس أن يسافروا معها ليوصلوها إلى النهر، ثم يُقِيموا مكانهم حتى تصل إلى مدينة أختها فتدخل قصر أختها، وأمرهم أن يُقِيموا عندها حتى يأخذوها ويحضروا بها إلى أبيها، وأوصاها أبوها أن تقعد عند أختها يومين ثم تعود بسرعة، فقالت: سمعًا وطاعة. ثم إنها نهضت وخرجت وخرج معها أبوها وودَّعَها، وقد أثَّرَ كلامُ أبيها في قلبها، فخافت على أولادها، ولا ينفع التحصُّن بالحذر من هجوم القدر، فجَدَّتْ في السير ثلاثةَ أيام بلياليها حتى وصلت إلى النهر وضربَتْ خيامَها على ساحله، ثم عدَّتِ النهرَ ومعها بعض غلمانها وحاشيتها ووزرائها، ولما وصلت إلى مدينة الملكة نور الهدى طلعت القصر ودخلت عليها، فرأَتْ ولدَيْها يبكون عندها ويصيحون: يا أبانا. فجرَتِ الدموع من عيونها وبكَتْ، ثم ضمَّتْ ولدَيْها إلى صدرها وقالت لهما: هل رأيتما أباكما؟ فلا كانت الساعة التي فارقته فيها، ولو عرفتُ أنه في دار الدنيا لَكنتُ وصلتكما إليه. ثم ناحَتْ على نفسها وعلى زوجها وعلى بكاء ولدَيْها، وأنشدت هذه الأبيات:

أَأَحْبَابَنَا إِنِّي عَلَى الْبُعْدِ وَالْجَفَا        أَحِنُّ إِلَيْكُمْ حَيْثُ كُنْتُمْ وَأَعْطِفُ

وَطَرْفِي إِلَى أَوْطَانِكُمْ مُتَلَفِّتٌ        وَقَلْبِي عَلَى أَيَّامِكُمْ مُتَلَهِّفُ

وَكَمْ لَيْلَةٍ بِتْنَا عَلَى غَيْرِ رِيبَةٍ        مُحِبَّيْنِ يُهْنِينَا الْوَفَى وَالتَّلَطُّفُ

فلما رأتها أختها قد ضمَّتْ ولدَيْها وقالت: أنا التي فعلْتُ بنفسي وبولديَّ هكذا وأخربت بيتي. فلم تسلِّم عليها أختها نور الهدى، بل قالت لها: يا عاهرة، من أين لكِ هذان الولدان؟ هل تزوَّجْتِ بغير علم أبيك أو زَنَيْتِ؟ فإنْ كنتِ زَنَيْتِ وجَبَ تنكيلُكِ، وإنْ كنتِ تزوَّجْتِ من غير علمنا، فلأي شيء فارقْتِ زوجَكِ وأخذتِ ولدَيْكِ وفرَّقْتِ بينهما وبين أبيهما وجئت بلادنا؟ وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 819﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملكة نور الهدى قالَتْ لأختها منار السنا: وإنْ كنتِ تزوَّجْتِ من غير علمنا، فلأي شيء فارقْتِ زوجَكِ وأخذْتِ ولدَيْكِ وفرَّقْتِ بينهما وبين أبيهما، وجئتِ بلادنا وقد أخفيت ولدَيْكِ عنَّا؟ أتظنين أننا لا ندري بذلك، والله تعالى علَّام الغيوب قد أظهَرَ لنا أمرَكِ، وكشف حالَكِ وبيَّنَ عوراتِكِ. ثم بعد ذلك أمرَتْ أعوانها أن يمسكوها فقبضوا عليها، فكتَّفَتْها وقيَّدَتْها بالقيود الحديد وضربَتْها ضربًا وجيعًا، حتى شرَّحَتْ جسدها وصلَبَتْها من شعرها ووضعتها في سجن، وكتبت كتابًا إلى الملك الأكبر أبيها تخبره بخبرها وتقول له: إنه قد ظهر في بلادنا رجل من الإنس، وأختي منار السنا تدَّعِي أنها تزوَّجَتْه في الحلال، وجاءت منه بولدَيْن وقد أخفَتْهما عنَّا وعنكَ، ولم تُظهِر على نفسها شيئًا إلى أن أتانا ذلك الرجل الذي من الإنس، وهو يُسمَّى حسنًا، وأخبرنا أنه تزوَّجَ بها وقعدَتْ عنده مدة طويلة من الزمان، ثم أخذت ولدَيْها وراحت من غير علمه، وأخبرت والدته عند رواحها وقالت لها: قولي لولدك إذا حصل له اشتياق أن يجيئني إلى جزائر واق. فقبضنا على ذلك الرجل عندنا، وأرسلتُ إليها العجوز شواهي تحضرها عندي هي وولدَيْها، فجهَّزَتْ نفسها وحضرت، وقد كنتُ أمرتُ العجوزَ أن تحضر لي ولدَيْها أولًا، فتسبق بهما إليَّ قبل حضورها، فجاءت العجوز بالولدين قبل حضورها، فأرسلتُ إلى الرجل الذي ادَّعَى أنها زوجته، فلما دخل عليَّ ورأى الولدين عرفهما، فتحقَّقْتُ أن الولدين ولداه وأنها زوجته، وعلمت أن كلام الرجل صحيح ولم يكن عنده عيب، ورأيتُ أن القبحَ والعيب عند أختي، فخفت من هَتْكِ عرضنا عند أهل جزائرنا، فلما دخلَتْ عليَّ هذه الفاجرة الخائنة، غضبتُ عليها وضربتُها ضربًا وجيعًا وصلبْتُها من شعرها، وقد أعلمْتُكَ بخبرها والأمر أمرك، فالذي تأمرنا به نفعله، وأنت تعلم أن هذا الأمر فيه هتيكة لنا وعيب في حقنا وحقك، وربما يسمع أهل الجزائر بذلك فنصير بينهم مُثْلَةً، فينبغي أن تردَّ لنا جوابًا سريعًا.

ثم أعطَتِ المكتوبَ للرسول، وسار به إلى الملك، فقرأه الملك الأكبر واغتاظ غيظًا شديدًا على ابنته منار السنا، وكتب إلى ابنته نور الهدى مكتوبًا يقول لها فيه: أنا قد فوَّضْتُ أمرها إليكِ وحكَّمْتُكِ في دمها، فإن كان الأمر كما ذكرْتِ فاقتليها ولا تشاوريني في أمرها. فلما وصل إليها كتاب أبيها وقرأته، أرسلت إلى منار السنا وأحضرتها بين يديها وهي غريقة في دمها، مكتَّفَة بشعرها، مقيَّدَة بقيد ثقيل من حديد وعليها اللباس الشعر، ثم أوقفوها بين يدَيِ الملكة، فوقفَتْ حقيرة ذليلة، فلما رأت نفسها في هذه المذلة العظيمة والهوان الشديد، تفكَّرَتْ ما كانت فيه من العز وبكَتْ بكاءً شديدًا وأنشدت هذين البيتين:

يَا رَبِّ إِنَّ الْعِدَى يَسْعَوْنَ فِي تَلَفِي        وَيَزْعُمُونَ بِأَنِّي لَسْتُ بِالنَّاجِي

وَقَدْ رَجْوَتُكَ فِي إِبْطَالِ مَا صَنَعُوا        يَا رَبِّ أَنْتَ مَلَاذُ الْخَائِفِ الرَّاجِي

ثم بكَتْ بكاءً شديدًا حتى وقعَتْ مغشيًّا عليها، فلما أفاقَتْ أنشدت هذين البيتين:

أَلِفَ الْحَوَادِثَ مُهْجَتِي وَأَلِفْتُهَا        بَعْدَ التَّنَافُرِ وَالْكَرِيمُ أَلُوفُ

لَيْسَ الْهُمُومُ عَلَيَّ صِنْفًا وَاحِدًا        عِنْدِي بِحَمْدِ اللهِ مِنْهُ أُلُوفُ

ثم أنشدت أيضًا هذين البيتين:

وَلَرُبَّ نَازِلَةٍ يَضِيقُ بِهَا الْفَتَى        ذَرْعًا وَعِنْدَ اللهِ مِنْهَا الْمَخْرَجُ

ضَاقَتْ فَلَمَّا اسْتَحْكَمَتْ حَلَقَاتُهَا        فُرِجَتْ وَكُنْتُ أَظُنُّهَا لَا تُفْرَجُ

وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 820﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملكة نور الهدى لما أمرت بإحضار أختها الملكة منار السنا، أوقفوها بين يدَيْها وهي مكتَّفة، فأنشدت الأشعار السابقة، ثم إن أختها أحضرَتْ لها سلمًا من خشب ومدتها عليه، وأمرت أن يربطوها على ظهرها فوق السلم، ومدت سواعدها وربطتها في الحبال، ثم كشفَتْ رأسها ولفَّتْ شعرها على السلم الخشب وقد انتُزِعت الشفقةُ عليها من قلبها، فلما رأت منار السنا نفسها في هذه الحالة من الذل والهوان، صاحَتْ وبكَتْ فلم يُغِثْها أحد، فقالت لها: يا أختي، كيف قسا قلبك عليَّ، فما ترحمينني ولا ترحمين هذين الطفلين الصغيرين؟ فلما سمعت هذا الكلام ازدادت قسوتها وشتمَتْها وقالت لها: يا عاشقة، يا عاهرة، لا رَحِمَ الله مَن يرحمك، كيف أشفق عليك يا خائنة؟ فقالت لها منار السنا وهي مشبوحة: احتسبتُ عليك برب السماء فيما تَسُبِّينني به وأنا بريئة منه، والله ما زنَيْتُ وإنما تزوَّجته في الحلال، وربي يعلم هل قولي صحيح أم لا، وقلبي قد غضب عليك من شدة قسوة قلبك عليَّ، فكيف ترمينني بالزنا من غير علم؟ ولكن ربي يخلِّصني منك، وإنْ كان الذي قد قذفتِني به من الزنا حقًّا فسيعاقبني الله عليه. فتفكَّرَتْ أختها في نفسها حين سمعت كلامها، وقالت لها: كيف تخاطبينني بهذا الكلام؟ ثم قامَتْ لها وضربتها حتى غُشِي عليها، فرشُّوا على وجهها الماءَ حتى أفاقَتْ وقد تغيَّرَتْ محاسنها من شدة الضرب، ومن قوة الرباط ومن فرط ما حصل لها من الإهانة، ثم أنشدت هذين البيتين:

وَإِذَا جَنَيْتُ جِنَايَةً        وَأَتَيْتُ شَيْئًا مُنْكَرَا

أَنَا تَائِبٌ عَمَّا مَضَى        وَأَتَيْتُكُمْ مُسْتَغْفِرَا

فلما سمعَتْ شعرَها نورُ الهدى غضبت غضبًا شديدًا وقالت لها: أتتكلمين يا عاهرة قدامي بالشعر، وتستعذرين من الذي فعلتِه من الكبائر؟ وكان مرادي أن ترجعي لزوجك حتى أشاهد فجورك وقوة عينك؛ لأنك تفتخرين بالذي وقع منك من الفجور والفحش والكبائر. ثم إنها أمرت الغلمان أن يحضروا لها الجريدَ فأحضروه، فقامت وشمرت عن ساعدَيْها ونزلت عليها بالضرب من رأسها إلى قدمَيْها، ثم دعت بسوط مضفور، لو ضُرِب به الفيل لهروَلَ مُسرِعًا، فنزلت بذلك السوط على ظهرها وبطنها وجميع أعضائها حتى غُشِي عليها، فلما رأَتِ العجوز شواهي ذلك من الملكة، خرجَتْ هاربةً من بين يدَيْها وهي تبكي وتدعو عليها، فصاحت على الخدم وقالت لهم: ائتوني بها. فتجاروا عليها ومسكوها وأحضروها بين يدَيْها، فأمرت برميها على الأرض وقالت للجواري: اسحبوها على وجهها وأخرجوها. فسحبوها وأخرجوها من بين يدَيْها.

هذا ما كان من أمر هؤلاء، وأما ما كان من أمر حسن، فإنه قام متجلدًا ومشى في شاطئ النهر واستقبل البرية وهو حيران مهموم، وقد يَئِس من الحياة وصار مدهوشًا لا يعرف الليل من النهار لشدة ما أصابه، وما زال يمشي إلى أن قرب من شجرة فوجَدَ عليها ورقة معلَّقة، فتناوَلَها حسن بيده ونظرها، فإذا مكتوب فيها هذه الأبيات:

دَبَّرْتَ أَمْرَكَ عِنْدَمَا        كُنْتَ الْجَنِينَ بِبَطْنِ أُمِّكْ

وَعَلَيْكَ قَدْ حَنَّنْتَهَا        حَتَّى لَقَدْ جَادَتْ بِضَمِّكْ

وَأَنَا لَكَافِؤُكَ الَّذِي        يَأْتِي بِهَمِّكَ أَوْ بِغَمِّكْ

فَاضْرَعْ إِلَيْنَا نَاهِضًا        نَأَخُذْ بِكَفِّكَ فِي مُهِمِّكْ

فلما فرغ من قراءة الورقة أيقَنَ بالنجاة من الشدة، وظفره بجمع الشمل، ثم مشى خطوتين فوجد نفسه وحيدًا في موضعٍ قفرٍ ذي خطر لا يجد فيه أحدًا يستأنس به، فطار قلبه من الوحدة والخوف، وارتعدَتْ فرائصه من هذا المكان المخوف، وأنشد هذه الأبيات:

نَسِيمَ الصَّبَا إِنْ جُزْتَ أَرْضَ أَحِبَّتِي        فَبَلِّغْهُمُ عَنِّي جَزِيلَ سَلَامِي

وَقُلْ لَهُمُ إِنِّي رَهِينُ صَبَابَةٍ        وَإِنَّ غَرَامِي فَوْقَ كُلِّ غَرَامِ

عَسَى عَطْفَةٌ مِنْهُمْ يَهُبُّ نَسِيمُهَا        فَيَحْيَا بِهَا صَبٌّ رَمِيمُ عِظَامِ

وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 821﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن حسنًا لما قرأ الورقة أيقَنَ بالنجاة من الشدة، وتحقَّقَ الظفر بجمع الشمل، ثم قام ومشى خطوتين فوجد نفسه وحيدًا في موضعٍ ذي خطر، ولم يكن عنده أحد يؤانسه، فبكى بكاءً شديدًا، وأنشد الأشعار التي ذكرناها، ثم مشى على جانب النهر خطوتين، فوجد ولدَيْن صغيرين من أولاد السَّحَرَة والكهان، وبين أيديهما قضيب من النحاس منقوش بالطلاسم، وبجانب القضيب طاقية من الأدم بثلاثة تروك منقوش عليها بالبولاد أسماء وخواتم، والقضيب والطاقية مرميان على الأرض والولدان يختصمان ويتضاربان عليهما حتى سال الدم بينهما، وهذا يقول: ما يأخذ القضيب إلا أنا. والآخَر يقول: ما يأخذ القضيب إلا أنا. فدخل حسن بينهما وخلَّصهما من بعضهما وقال لهما: ما سبب هذه المخاصمة؟ فقالَا له: يا عم احكمْ بيننا، فإن الله تعالى ساقَكَ إلينا لتقضي بيننا بالحق. فقال: قُصَّا عليَّ حكايتكما وأنا أحكم بينكما. فقالَا له: نحن الاثنان أخوان شقيقان، وكان أبونا من السَّحَرة الكبار، وكان مُقِيمًا في مغارة في هذا الجبل، ثم مات وخلَّفَ لنا هذه الطاقية وهذا القضيب، وأخي يقول: ما يأخذ القضيب إلا أنا. وأنا أقول: ما يأخذه إلا أنا. فاحكمْ بيننا وخلِّصنا من بعضنا. فلما سمع حسن كلامهما قال لهما: ما الفرق بين القضيب والطاقية؟ وما مقدارهما؟ فإن القضيبَ بحسب الظاهر يساوي ستةَ جدد، والطاقية تساوي ثلاثةَ جدد. فقالَا له: أنت ما تعرف فضلهما. فقال لهما: أي شيء فضلهما؟ قالَا له: في كلٍّ منهما سرٌّ عجيب، وهو أن القضيب يساوي خراجَ جزائر واق بأقطارها، والطاقية كذلك. فقال لهما حسن: يا ولديَّ، بالله اكشفَا لي عن سرهما. فقالَا له: يا عم إن سرهما عظيم؛ لأن أبانا عاش مائة وخمسًا وثلاثين سنة يعالج تدبيرهما حتى أحكمهما غايةَ الإحكام، وركَّبَ فيهما السرَّ المكنون، واستخدمهما الاستخدامات الغريبة ونقشهما على مثل الفلك الدائر، وحلَّ بهما جميعَ الطلسمات، وعندما فرغ من تدبيرهما أدركه الموت الذي لا بد لكلِّ أحدٍ منه؛ فأما الطاقية فإن سرها أن كلَّ مَن وضعها على رأسه اختفى عن أعين الناس جميعًا، فلا ينظره أحد ما دامت على رأسه، وأما القضيب فإن سرَّه أن كلَّ مَن ملكه يحكم على سبع طوائف من الجن، والجميع يخدمون ذلك القضيب، فكلهم تحت أمره وحكمه، وكلُّ مَن ملكه وصار في يده إذا ضرب به الأرض خضعت له ملوكها، وتكون جميع الجن في خدمته.

فلما سمع حسنٌ هذا الكلام أطرَقَ برأسه إلى الأرض ساعةً، ثم قال في نفسه: والله إنني لَمنصور بهذا القضيب وبهذه الطاقية إن شاء الله تعالى، فإنا أحقُّ بهما منهما، ففي هذه الساعة أتحيَّل على أخذهما منهما لأستعينَ بهما على خلاصي وخلاص زوجتي وأولادي من هذه الملكة الظالمة، ونسافر من هذا المكان المُظلِم الذي ما لأحد من الإنس خلاص منه ولا مفر، ولعل الله ما ساقني لهذين الغلامين إلا لأستخلص منهما القضيبَ والطاقية.

ثم رفع رأسه إلى الغلامين وقال لهما: إنْ شئتمَا فَصْلَ القضية فأنا امتحنكما، فمَن غلب رفيقه يأخذ القضيب ومَن عجز يأخذ الطاقية، فإن امتحنتكما وميَّزْتُ بينكما عرفتُ ما يستحقُّه كلٌّ منكما. فقالَا له: يا عم، وكَّلْنَاكَ في امتحاننا، والحكم بيننا بما تختار. فقال لهما حسن: هل تسمعان مني وترجعان إلى قولي؟ فقالَا له: نعم. فقال لهما حسن: أنا آخذ حجرًا وأرميه فمَن سبق منكما إليه وأخذه قبل رفيقه يأخذ القضيب، ومَن تأخَّرَ ولم يلحقه يأخذ الطاقية. فقالَا: قبلنا منكَ هذا الكلام ورضينا به. ثم إن حسنًا أخذ حجرًا ورماه بعزمه فغاب عن العيون، فتسارَعَ الغلامان نحوه، فلما بَعُدَا أخَذَ حسن الطاقية ولبسها، وأخذ القضيب في يده وانتقل من موضعه لينظر صحة قولهما في شأن سرِّ أبيهما، فسبق الولد الصغير إلى الحجر وأخذه ورجع به إلى المكان الذي فيه حسن، فلم يَرَ له أثرًا، فصاح على أخيه وقال له: أين الرجل الحاكم بيننا؟ فقال: لا أراه ولم أعرف هل طلع إلى السماء العليا أو نزل إلى الأرض السفلى. ثم إنهما فتَّشَا عليه فلم ينظراه وحسن واقف في مكانه، فشتما بعضهما وقالَا: قد راح القضيب والطاقية لا لي ولا لك، وكان أبونا قال لنا هذا الكلام بعينه، ولكنَّا نسينا ما أخبرَنا به. ثم إنهما رجعَا على أعقابهما، ودخل حسن المدينة وهو لابس الطاقية وفي يده القضيب، فلم يَرَه أحد من الناس، ثم دخل القصر وطلع إلى الموضع الذي فيه شواهي ذات الدواهي، فدخل عليها وهو لابس الطاقية فلم تَرَه، ومشى حتى تقرَّبَ من رفٍّ كان فوق رأسها وعليه زجاج وصيني، فحرَّكَه بيده فوقع الذي فوقه على الأرض، فصاحت شواهي ذات الدواهي ولطمت على وجهها، ثم قامت وأرجعت الذي وقع إلى مكانه وقالت في نفسها: والله ما أظن إلا أن الملكة نور الهدى أرسلَتْ إليَّ شيطانًا فعمل معي هذه العملة، فأنا أسأل اللهَ أن يخلِّصَني منها ويسلِّمني من غضبها، فيا رب إذا كان هذا فعلها القبيح من الضرب مع أختها وهي عزيزة عند أبيها، فكيف يكون فعلها مع الغريب مثلي إذا غضبَتْ عليه؟ وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 822﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن العجوز ذات الدواهي لما قالت: إذا كانت الملكة نور الهدى تفعل هذه الفعال مع أختها، فكيف يكون حال الغريب معها إذا غضبَتْ عليه؟ ثم قالت: أقسمتُ عليك أيها الشيطان بالحنَّان المنَّان، العظيم الشأن القوي السلطان، خالق الإنس والجان، وبالنقش الذي على خاتم سليمان بن داود عليهما السلام، أن تكلِّمَني وتُجِيبَني. فأجابها حسن وقال لها: ما أنا شيطان، أنا حسن الولهان الهائم ثم الحيران. ثم قلع الطاقية من فوق رأسه فظهر للعجوز وعرفته، فأخذته واختلَتْ به وقالت له: أي شيء حصل لك في عقلك حتى عبرت إلى هنا؟ رُحِ اختَفِ، فإن هذه الفاجرة صنعَتْ بزوجتك ما صنعَتْ من العذاب وهي أختها، فكيف إذا وقعت بك؟ ثم حكَتْ له جميعَ ما وقع لزوجته، وما هي فيه من الضيق والعقوبة والعذاب، وكذلك حكَتْ له ما وقع لها من العذاب، ثم قالت له: إن الملكة ندمت حيث أطلقَتْكَ، وقد أرسلَتْ إليك مَن يحضرك لها وتعطيه من الذهب قنطارًا، وتجلُّه في رتبتي عندها، وحلفَتْ إنْ أرجَعُوكَ قتلَتْكَ وتقتل زوجتك وولدَيْك. ثم إن العجوز بكَتْ وأظهرَتْ لحسن ما فعلَتْه الملكة بها، فبكى حسن وقال: يا سيدتي، كيف الخلاص من هذه الديار ومن هذه الملكة الظالمة؟ وما الحيلة التي توصِّلني إلى أن أخلِّص زوجتي وولدَيَّ، ثم أرجع بهم إلى بلادي؟ فقالت له العجوز: ويلكَ انجُ بنفسك. فقال: لا بد لي من خلاصها وخلاص ولادَيَّ منها قهرًا عنها. فقالت له العجوز: وكيف تخلِّصهم قهرًا عنها؟ رُحْ واختَفِ يا ولدي حتى يأذن الله تعالى. ثم إن حسنًا أراها القضيبَ النحاس والطاقية، فلما رأتهما العجوز فرحَتْ بهما فرحًا شديدًا وقالت له: سبحان مَن يُحيِي العظام وهي رميم، والله يا ولدي ما كنتَ أنت وزوجتك إلا من الهالكين، والآن يا ولدي قد نجوتَ أنت وزوجتك وولداك؛ لأني أعرف القضيب وأعرف صاحبه، فإنه كان شيخي الذي علَّمَني السحر، وكان ساحرًا عظيمًا مكث مائةً وخمسًا وثلاثين سنة حتى أتقَنَ هذا القضيب وهذه الطاقية، فلما انتهى من إتقانهما أدرَكَه الموت الذي لا بد منه، وسمعْتُه يقول لولدَيْه: يا ولديَّ، هذان ما هما من نصيبكما، وإنما يأتي شخص غريب الديار يأخذهما منكما قهرًا ولا تعرفان كيف يأخذهما. فقالَا: يا أبانا، عرِّفنا كيف يصل إلى أخذهما؟ فقال: لا أعرف ذلك. فكيف وصلتَ يا ولدي لأخذهما؟ فحكى لها كيف أخذهما من الولدَيْن. فلما حكى لها فرحَتْ بذلك وقالت له: يا ولدي، كما ملكت زوجتك وولديك، اسمعْ مني ما أقول لك عليه؛ أنا ما بقي لي عند هذه الفاجرة إقامة بعدما تجاسرَتْ عليَّ ونكَّلَتْني، وأنا راحلة من عندها إلى مغارة السَّحَرة لأقيم عندهم وأعيش معهم إلى أن أموت، وأنت يا ولدي البس الطاقية وخُذِ القضيبَ في يدك وادخل على زوجتك وولدَيْك في المكان الذي هم فيه، واضرب الأرضَ بالقضيب وقُلْ: يا خدَّامَ هذه الأسماءِ. تطلع إليك خدَّامه، فإن طلع لك أحد من رءوس القبائل فَأْمُره بما تريد وتختار. ثم إنه ودَّعها وخرج ولبس الطاقية وأخذ القضيب معه ودخل المكان الذي فيه زوجته، فرآها في حالة العدم مصلوبة على السلم، وشعرها مربوط فيه، وهي باكية العين حزينة القلب في أسوأ حالٍ، لا تدري طريقةً لخلاصها، وولداها تحت السلم يلعبان، وهي تنظرهما وتبكي عليهما وعلى نفسها بسببِ ما جرى لها ممَّا أصابها، وهي تقاسي من العذاب والضرب المؤلم أشد النكال، فلما رآها في أسوأ الحالات سمعها تنشد هذه الأبيات:

لَمْ يَبْقَ إِلَّا نَفَسٌ هَافِتٌ        وَمُقْلَةٌ إِنْسَانُهَا بَاهِتُ

وَمُغْرَمٌ تُضْرَمُ أَحْشَاؤُهُ        بِالنَّارِ إِلَّا أَنَّهُ سَاكِتُ

يَرْثِي لَهُ الشَّامِتُ مِمَّا رَأَى        يَا وَيْحَ مَنْ يَرْثِي لَهُ الشَّامِتُ

ثم إن حسنًا لما رأى ما هي فيه من العذاب والذلِّ والهوان، بكى حتى غُشِي عليه، فلما أفاق ورأى ولدَيْه وهما يلعبان وقد غُشِيَ على أمهما من كثرة التألُّمِ، كشف الطاقية عن رأسه فصاحا: يا أبانا. فغطَّى رأسه، واستفاقت أمهما من غشيتها على صياحهما، فلم تنظر زوجها، وإنما نظرَتْ ولدَيْها وهما يبكيان ويصيحان: يا أبانا. فبَكَتْ لما سمعتهما يذكران أباهما ويبكيان، وانكسر قلبها وتقطَّعَتْ أحشاؤها، ونادَتْ من كبدٍ قد تصدَّعَ وقلبٍ مُوجَع: أين أنتما وأين أبوكما؟ ثم تذكَّرَتْ أوقاتَ اجتماع شملهم، وتذكَّرَتْ ما جرى عليها بعد فراقه، فبكَتْ بكاءً شديدًا حتى جرحت دموعُها خدَّيْها وبلَّتِ الأرضَ، وصارت خدودها غريقة في دموعها من كثرة البكاء، وليس لها يد مطلوقة حتى تمسح دموعَها بها عن خدودها، وشبع الذباب من جلدها، ولم تجد لها مساعدًا غير البكاء والتسلِّي بإنشاد الأشعار، فأنشدت هذه الأبيات:

وَذَكَرْتُ يَوْمَ الْبَيْنِ بَعْدَ مُوَدِّعِي        فَجَرَتْ دُمُوعِي أَنْهُرًا فِي مَرْجِعِي

وَحَدَا بِهِمْ حَادِي الرِّكَابِ فَلَمْ أَجِدْ        صَبْرًا وَلَا جَلَدًا وَلَا قَلْبِي مَعِي

وَرَجَعْتُ لَا أَدْرِي الطَّرِيقَ وَلَمْ أَفِقْ        مِنْ لَوْعَتِي وَتَوَلُّعِي وَتَوَجُّعِي

وَأَضَرَّ مَا بِي فِي رُجُوعِي شَامِتٌ        قَدْ جَاءَنِي فِي صُورَةِ الْمُتَخَشِّعِ

يَا نَفْسُ إِذْ بَعُدَ الْحَبِيبُ فَفَارِقِي        طِيبَ الْحَيَاةِ وَفِي الْبَقَا لَا تَطْمَعِي

يَا صَاحِبِي أَنْصِتْ لِأَخْبَارِ الْهَوَى        حَاشَا لِقَلْبِكَ أَنْ أَقْوُلَ وَلَا يَعِي

أَرْوِي الْغَرَامَ مُسَلْسَلًا بِعَجَائِبٍ        وَغَرَائِبٍ حَتَّى كَأَنِّي الْأَصْمَعِي

وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 823﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن حسنًا لما دخل على زوجته رأى ولدَيْه وسمعها تنشد الأبيات التي ذكرناها، وقد التفتَتْ يمينًا وشمالًا لترى سببَ صياح ولدَيْها وندائهما لأبيهما، فلم تَرَ أحدًا، ولما لم تَرَ أحدًا تعجَّبَتْ من ذِكْر ولدَيْها لأبيهما في هذا الوقت. هذا ما كان من أمرهم، وأما ما كان من أمر حسن فإنه لما سمع شِعْرها بكى حتى غُشِي عليه، وجرَتْ دموعه على خدَّيْه مثل المطر، ودَنَا من الولدَيْن وكشف الطاقية، فلما رأياه عرفاه وصاحا بقولهما: يا أبانا. فبكَتْ أمهما حين سمعتهما يذكران أباهما وقالت: لا حيلةَ في قَدَر الله. وقالت في نفسها: يا للعجب! ما سبب ذِكْرهما لأبيهما في هذا الوقت وندائهما له؟ ثم بكَتْ وأنشدت هذه الأبيات:

خَلَتِ الدِّيَارُ مِنَ السِّرَاجِ الطَّالِعِ        يَا مُقْلَتِي جُودِي بِفَيْضِ الْأَدْمُعِ

رَحَلُوا فَكَيْفَ تَصَبُّرِي مِنْ بَعْدِهِمْ        أَقْسَمْتُ مَا قَلْبِي وَلَا صَبْرِي مَعِي

يَا رَاحِلِينَ وَفِي الْفُؤَادِ مَحَلُّهُمْ        هَلْ بَعْدَ ذَا يَا سَادَتِي مِنْ مَرْجِعِ

مَا ضَرَّ لَوْ رَجَعُوا وَفُزْتُ بِأُنْسِهِمْ        وَرَثَوْا لِفَيْضِ مَدَامِعِي وَتَوَجُّعِي

أَجْرَوْا سَحَائِبَ مُقْلَتِي يَوْمَ النَّوَى        عَجَبًا وَلَمْ يُطْفَأْ تَضَرُّمُ أَضْلُعِي

وَطَمِعْتُ أَنْ يَبْقَوْا فَعَانَدَنِي الْبَقَا        فِيهِمْ وَخَيَّبَ بِالتَّفَرُّقِ مَطْمَعِي

بِاللهِ يَا أَحْبَابَنَا عُودُوا لَنَا        فَلَقَدْ كَفَى مَا قَدْ جَرَى مِنْ أَدْمُعِي

فلم يُطِقْ حسنٌ الصبرَ دون أن يكشف الطاقية عن رأسه، فنظرَتْه زوجته، فلما عرفَتْه زعقت زعقة أزعجَتْ جميع مَن في القصر، ثم قالت له: كيف وصلتَ إلى هنا؟ هل من السماء نزلتَ أو من الأرض طلعتَ؟ ثم تغرغرت عيونها بالدموع، فبكى حسن، فقالت له: يا رجل، ما هذا وقت بكاء ولا وقت عتاب، قد نفذ القضاء وعمي البصر وجرى القلم بما حكم الله في القدم، فبالله عليك، من أي مكانٍ جئتَ رُحْ واختَفِ لئلا ينظرك أحدٌ فيُعلِم أختي بذلك فتذبحني وتذبحك. فقال لها حسن: يا سيدتي وسيدة كل ملكة، أنا خاطرتُ بروحي وجئتُ إلى هنا، فإما أن أموت، وإما أن أخلِّصَكِ من الذي أنتِ فيه وأسافر أنا وأنتِ وولدَيَّ إلى بلادي على رغم أنف هذه الفاجرة أختك. فلما سمعت كلامه تبسَّمَتْ وضحكَتْ وصارت تحرِّك رأسها زمانًا طويلًا وقالت له: هيهات يا روحي أن يخلِّصني أحد مما أنا فيه إلا الله تعالى، ففُزْ بنفسك وارحلْ ولا تَرْمِ روحك في الهلاك، فإن لها عسكرًا جرارًا ما قدر أحد أن يقابله، وهَبْ أنك أخذتَني وخرجتَ، فكيف تصل إلى بلادك وتخلص من هذه الجزائر وصعوبة هذه الأماكن؟ وقد رأيت في الطريق الذي نظرته من العجائب والغرائب والأهوال والشدائد ما لا يخلص منه أحد من الجن المتمردة؛ فَرُحْ من قريب ولا تزدني همًّا على همي، ولا غمًّا على غمي، ولا تدَّعِي أنك تخلِّصني من هذا، فمَن يوصلني إلى بلادك في هذه الأودية والأرض المعطشة والأماكن المهلكة؟ فقال لها حسن: وحياتك يا نور عيني ما أخرج من هنا ولا أسافر إلا بك. فقالت له: يا رجل، كيف تقدر على هذا الأمر؟ أي شيء جنسك؟ فإنك لا تعرف الذي تقوله، ولو كنتَ تحكم على جان وعفاريت وسَحَرة وأرهاط وأعوان، فإنه لا يقدر أحد أن يتخلَّص من هذه الأماكن؛ ففُزْ أنت بنفسك سالمًا، وخلني لعل الله يُحدِث بعد الأمور أمورًا. فقال لها حسن: يا سيدة الملاح، أنا ما جئتُ إلا لأخلِّصكِ بهذا القضيب وبهذه الطاقية.

ثم حكى لها حكايته مع الولدين، فبينما هو في الحديث وإذا بالملكة دخلَتْ عليهما فسمعت حديثهما، فلما رأى الملكة لبس الطاقية، فقالت لأختها: يا فاجرة، مَن الذي كنتِ تتحدثين معه؟ فقالت لها: ومَن عندي يكلِّمني غير هذين الطفلين؟ فأخذت السوط وصارت تضربها به وحسن واقف ينظر، ولم تَزَلْ تضربها حتى غُشِيَ عليها، ثم أمرت بنقلها من ذلك المحل إلى محل آخَر، فحلوها وخرجوا بها إلى محل غيره، وخرج حسن معهم إلى المكان الذي أوصلوها إليه، ثم ألقوها مغشيًّا عليها ووقفوا ينظرون إليها، فلما أفاقت من غشيتها أنشدت هذه الأبيات:

وَلَقَدْ نَدِمْتُ عَلَى تَفَرُّقِ شَمْلِنَا        نَدَمًا أَفَاضَ الدَّمْعَ مِنْ أَجْفَانِي

وَنَذَرْتُ إِنْ عَادَ الزَّمَانُ يَلُمُّنَا        مَا عُدْتُ أَذْكُرُ فُرْقَةً بِلِسَانِي

وَأَقُولُ لِلْحُسَّادِ مُوتُوا حَسْرَةً        وَاللهِ إِنِّي قَدْ بَلَغْتُ أَمَانِي

طَفَحَ السُّرُورُ عَلَيَّ حَتَّى إِنَّهُ        مِنْ فَرْطِ مَا قَدْ سَرَّنِي أَبْكَانِي

يَا عَيْنُ مَا بَالُ الْبُكَا لَكِ عَادَةٌ        تَبْكِينَ فِي فَرَحٍ وَفِي أَحْزَانِ

فلما فرغت من شعرها خرج من عندها الجواري، فعند ذلك قلع حسن الطاقية فقالَتْ له زوجته: انظر يا رجل ما حلَّ بي، هذا كله إلا لكوني عصيتُكَ وخالفتُ أمرك وخرجت من غير إذنك، فبالله عليك يا رجل لا تؤاخذني بذنبي، واعلم أن المرأة ما تعرف قيمة الرجل حتى تفارقه، وأنا أذنبت وأخطأت، ولكن أستغفر الله العظيم ممَّا وقع مني، وإنْ جمَعَ الله شملنا لا أعصي لك أمرًا بعد ذلك أبدًا. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 824﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن زوجة حسن اعتذرت إليه وقالت له: لا تؤاخذني بذنبي، وأنا أستغفر الله العظيم. فقال لها حسن وقد أوجعه قلبه عليها: أنتِ ما أخطأتِ وما أخطأ إلا أنا؛ لأني سافرتُ وخليتك عند مَن لا يعرف قدرك ولا يعرف لك قيمةً ولا مقدارًا، واعلمي يا حبيبة قلبي وثمرة فؤادي ونور عيني أن الله سبحانه أقدرني على تخليصك، فهل تحبين أن أوصلك إلى ديار أبيك وتستوفي عنده ما قدَّره الله عليكِ، أم تسافرين إلى بلادنا عن قريب حيث حصل لك الفرج؟ فقالت له: ومَن يقدر على تخليصي إلا رب السماء؟ فرُحْ بلادك وخلِّ عنك الطمع، فإنك لا تعرف أخطارَ هذه الديار، وإن لم تُطِعني فسوف تنظر. ثم إنها أنشدت هذه الأبيات:

عَلَيَّ وَعِنْدِي مَا تُرِيدُ مِنَ الرِّضَا        فَمَا لَكَ غَضْبَانًا عَلَيَّ وَمُعْرِضَا

وَمَا قَدْ جَرَى حَاشَا الَّذِي كَانَ بَيْنَنَا        مِنَ الْوُدِّ أَنْ يُنْسَى قَدِيمًا وَيُنْقَضَ

وَمَا بَرِحَ الْوَاشِي لَنَا مُتَجَنِّبًا        فَلَمَّا رَأَى الْإِعْرَاضَ مِنَّا تَعَرَّضَ

فَإِنِّي بِحُسْنِ الظَّنِّ مِنْكَ لَوَاثِقٌ        وَإِنْ جَهِلَ الْوَاشِي وَقَالَ وَحَرَّضَ

عَلَيْنَا فَسِرُّ الْحُبِّ سَوْفَ نَصُونُهُ        وَلَوْ كَانَ سَيْفُ الْعَذْلِ بِاللَّوْمِ مُنْتَضَى

أَظَلُّ نَهَارِي كُلَّهُ مُتَشَوِّقًا        لَعَلَّ بَشِيرًا مِنْكَ يُقْبِلُ بِالرِّضَا

ثم بكت هي وولداها، فسمع الجواري بكاءهم فدخلْنَ عليهم فوجدْنَ الملكة منار السنا تبكي هي وولداها، ولم ينظرن حسنًا عندهم، فبكَتِ الجواري رحمةً لهم ودعوْنَ على الملكة نور الهدى، فصبر حسن إلى أن أقبَلَ الليل وذهب الحرس الموكلون بها إلى مراقدهم، ثم بعد ذلك قام وشدَّ وسطه وجاء إلى زوجته وحلَّها وقبَّلَ رأسها وضمَّها إلى صدره، وقبَّل ما بين عينَيْها وقال لها: ما أطول شوقنا إلى ديارنا واجتماع شملنا هناك! فهل اجتماعنا هذا في المنام أم في اليقظة؟ ثم إنه حمل ولده الكبير وحملَتْ هي الولد الصغير وخرجَا من القصر وقد أسبَلَ الله عليهما السترَ وسارَا، فلما وصلَا إلى خارج القصر وقفَا عند الباب الذي يقفل على سراية الملكة، فلما صارَا هناك رأيَاه مقفولًا، فقال حسن: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إنا لله وإنا إليه راجعون. ثم إنهما يَئِسَا من الخلاص، فقال حسن: يا مفرِّج الكروب. ودقَّ يدًا على يد وقال: كل شيء حسبتُه ونظرتُ في عاقبته إلا هذا، فإنه إذا طلع علينا النهار يأخذوننا، وكيف تكون الحيلة في هذا الأمر؟ ثم إن حسنًا أنشد هذين البيتين:

حَسَّنْتَ ظَنَّكَ بِالْأَيَّامِ إِذْ حَسُنَتْ        وَلَمْ تَخَفْ سُوءَ مَا يَأْتِي بِهِ الْقَدَرُ

وَسَالَمَتْكَ اللَّيَالِي فَاغْتَرَرْتَ بِهَا        وَعِنْدَ صَفْوِ اللَّيَالِي يَحْدُثُ الْكَدَرُ

ثم بكى حسن وبكَتْ زوجته لبكائه ولما هي فيه من الإهانة وآلام الزمان، فالتفَتْ حسن إلى زوجته وأنشد هذين البيتين:

يُعَانِدُنِي دَهْرِي كَأَنِّي عَدُوُّهُ        وَفِي كُلِّ يَوْمٍ بِالْكَرِيهَةِ يَلْقَانِي

وَإِنْ رُمْتُ خَيْرًا جَاءَ دَهْرِي بِضِدِّهِ        إِذَا مَا صَفَا يَوْمًا تَكَدَّرَنِي الثَّانِي

وأنشد أيضًا هذين البيتين:

تَنَكَّرَ لِي دَهْرِي وَلَمْ يَدْرِ أَنَّنِي        أَعِزُّ وَأَنَّ النَّائِبَاتِ تَهُونُ

وَبَاتَ يُرِينِي الْخَطْبَ كَيْفَ اعْتِدَاؤُهُ        وَبِتُّ أُرِيهِ الصَّبْرَ كَيْفَ يَكُونُ

فقالت له زوجته: والله ما لنا فرج إلا أن نقتل أرواحنا ونستريح من هذا التعب العظيم، وإلا نصبح نقاسي العذابَ الأليم. فبينما هما في الكلام وإذا بقائلٍ يقول من خارج الباب: والله ما أفتح لكِ يا سيدتي منار السنا وزوجك حسن، إلا إن تطاوعاني فيما أقوله لكما. فلما سمعَا هذا الكلام منه سكتَا وأرادَا الرجوع إلى المكان الذي كانَا فيه، وإذا بقائل يقول: ما لكما سكتما ولم تردَّا على الجواب؟ فعرفَا صاحبَ القول، وهي العجوز شواهي ذات الدواهي، فقالَا لها: مهما تأمرينا به نعمله، ولكن افتحي لنا الباب، فإن أولًا هذا الوقت ما هو وقت كلام. فقالت لهما: والله ما أفتح لكما حتى تحلفَا لي أنكما تأخذاني معكما ولا تتركاني عند هذه العاهرة، ومهما أصابكما أصابني، وإن سلمتما سلمتُ، وإن عطبتما عطبتُ، فإن هذه الفاجرة المساحقة تحتقرني، وفي كل ساعة تنكلني من أجلكما، وأنتِ يا بنتي تعرفين مقداري. فلما عرفاها اطمأنَا بها وحلفَا لها بالأيمان التي تثق بها، فلما حلفَا لها بما تثق فتحَتْ لهما الباب وخرجَا، فلما خرجَا وجدَاها راكبة على زير رومي من فخار أحمر، وفي حلق الزير حبل من ليف وهو يتقلَّب من تحتها، ويجري جريًا أقوى من جري المُهْر النجدي، فتقدَّمَتْ قدامهما وقالت لهما: اتبعاني ولا تفزعَا من شيء، فإني أحفظ أربعين بابًا من السِّحْر، أقل باب منها أجعل به هذه المدينة بحرًا عجاجًا متلاطمًا بالأمواج، وأسحر كل بنت فيها فتصير سمكة، وكل ذلك أعمله قبل الصبح، ولكني كنتُ لا أقدر أن أفعل شيئًا من ذلك الشر خوفًا من الملك أبيها ورعايةً لأخوتها؛ لأنهم مستعزُّون بكثرة الأعوان والأرهاط والخدم، ولكن سوف أريكما عجائب سحري، فسيرَا بنا على بركة الله تعالى وعونه. فعند ذلك فرح حسن هو وزوجته وأيقنَا الخلاص. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 825﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن حسنًا وزوجته والعجوز شواهي لما طلعوا من القصر وأيقنوا بالخلاص، خرجوا إلى ظاهر المدينة فأخذ حسن القضيبَ بيده وضرب به الأرض وقوَّى جنانه، وقال: يا خدم هذه الأسماء، احضروا لي وأطلعوني على إخوانكم. وإذا بالأرض قد انشقَّتْ وخرج منها عشرة عفاريت، كل عفريت منهم رجلاه في تخوم الأرض ورأسه في السحاب، فقبَّلوا الأرضَ بين يدَيْ حسن ثلاثَ مرات، وقالوا كلهم بلسان واحد: لبيك يا سيدنا والحاكم علينا، بأي شيء تأمرنا؟ فنحن لأمرك سامعون ومُطِيعون، إنْ شئتَ نيبس لك البحار، وننقل لك الجبال من أماكنها. ففرح حسن بكلامهم وبسرعة جوابهم، فشجَّعَ قلبه وقوَّى جنانه وعزمه وقال لهم: مَن أنتم؟ وما اسمكم؟ ولمَن تُنسَبون من القبائل؟ ومن أي طائفة أنتم؟ ومن أي قبيلة؟ ومن أي رهط؟ فقبَّلوا الأرض ثانيًا وقالوا بلسان واحد: نحن سبعة ملوك، كل ملك منَّا يحكم على سبع قبائل من الجن والشياطين والمَرَدة، فنحن سبعة ملوك نحكم على تسع وأربعين قبيلة من سائر طوائف الجن والشياطين والمَرَدة والأرهاط والأعوان الطيَّارة والغوَّاصة، وسكَّان الجبال والبراري والقفار وعمَّار البحار، فَأْمُرنا بما تريد فنحن لك خدَّام وعبيد، وكلُّ مَن ملك هذا القضيب ملك رقابنا جميعًا ونصير تحت طاعته. فلما سمع حسن كلامهم فرح فرحًا عظيمًا، وكذلك زوجته والعجوز، فعند ذلك قال حسن للجان: أريد منكم أن تُطلِعوني على رهطكم وجنودكم وأعوانكم. فقالوا: يا سيدنا، إذا أَطْلَعناك على رهطنا نخاف عليك وعلى مَن معك؛ لأنهم جند كثيرة مختلفة الصور والخَلْق والألوان والوجوه والأبدان، فمنَّا رءوس بلا أبدان، ومنَّا أبدان بلا رءوس، ومنَّا مَن هو على صفة الوحوش، ومنَّا مَن هو على صفة السباع، ولكن إنْ شئتَ ذلك فلا بد لنا من أن نعرض عليك أولًا مَن هو على صفة الوحوش، ولكن يا سيدي ما تريد منَّا في هذا الوقت؟ فقال لهم حسن: أريد منكم أن تحملوني أنا وزوجتي وهذه المرأة الصالحة في هذه الساعة إلى مدينة بغداد. فلما سمعوا كلامه أطرقوا رءوسهم، فقال لهم حسن: لِمَ لا تجيبون؟ فقالوا بلسان واحد: أيها السيد الحاكم علينا، إننا من عهد السيد سليمان بن داود عليهما السلام، وكان حلَّفنا أننا لا نحمل أحدًا من بني آدم على ظهورنا، فنحن من ذلك الوقت ما حملنا أحدًا من بني آدم على أكتافنا ولا على ظهورنا، ولكن نحن في هذه الساعة نشدُّ لكَ من خيول الجن ما يبلغك بلادك أنت ومَن معك. فقال لهم حسن: وكم بيننا وبين بغداد؟ فقالوا له: مسافة سبع سنين للفارس المُجِدِّ. فتعجَّبَ حسن من ذلك وقال لهم: كيف جئتُ أنا إلى هنا فيما دون السنة؟ فقالوا له: أنت قد حنَّنَ الله عليك قلوبَ عباده الصالحين، ولولا ذلك ما كنتَ تصل إلى هذه الديار والبلاد ولا تراها بعينك أبدًا؛ لأن الشيخ عبد القدوس الذي أركَبَك الفيلَ وأركَبَك الجَوَادَ الميمون، قطع بك في الثلاثة أيام ثلاث سنين للفارس المُجِدِّ في السير، وأما الشيخ أبو الرويش الذي أعطاك لدهنش، فإنه قد قطع بك في اليوم والليلة مسافة ثلاثة سنين، وهذا من بركة الله العظيم؛ لأن الشيخ أبا الرويش من ذرية آصف بن برخيا، وهو يحفظ اسمَ الله الأعظم، ومن بغداد إلى قصر البنات سنة؛ فهذه هي السبع سنين. فلما سمع حسن كلامه تعجَّبَ عجبًا عظيمًا وقال: سبحان الله مهوِّن العسير، وجابر الكسير، ومقرِّب البعيد، ومذلِّ كلِّ جبارٍ عنيد، الذي هوَّنَ عليَّ كلَّ أمرٍ، وأوصلني إلى هذه الديار، وسخَّرَ لي هؤلاء العالَم وجمع شملي بزوجتي وولديَّ، فما أدري هل أنا نائم أم يقظان؟ وهل أنا صاحٍ أم سكران؟ ثم التفَتَ إليهم وقال لهم: إذا أركبتموني خيولكم ففي كم يوم تصل بنا إلى بغداد؟ فقالوا: تصل بك فيما دون السنة، بعد أن تقاسي الأمور الصعاب والشدائد والأهوال، وتقطع أودية معطشة وقفارًا موحشة وبراري ومهالك كثيرة، ولا نأمن عليك يا سيدي من أهل هذه الجزائر. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 826﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجان قالوا لحسن: لا نأمن عليك يا سيدي من أهل هذه الجزائر، ولا من شر الملك الأكبر، ولا من هذه السَّحَرة والكهنة، فربما يقهروننا ويأخذونكم منَّا ونُبتلَى بهم، وكلُّ مَن بلغه الخبر بعد ذلك يقول لنا: أنتم الظالمون، كيف قَدِمتم على الملك الأكبر وحملتم الإنس من بلاده، وحملتم أيضًا ابنته معكم؟ ولو كنتَ معنا وحدكَ لَهَان علينا الأمر، ولكن الذي أوصَلَك إلى هذه الجزائر قادرٌ أن يوصلك إلى بلادك، ويجمع شملك بأمك قريبًا غير بعيد، فاعزمْ وتوكَّلْ على الله، ولا تَخَفْ فنحن بين يدَيْكَ حتى نوصلك إلى بلادك. فشكرهم حسن على ذلك وقال لهم: جزاكم الله خيرًا. ثم قال لهم: عجِّلوا بالخيل. فقالوا: سمعًا وطاعة. ثم دقعوا الأرض بأرجلهم فانشقَّتْ فغابوا فيها ساعة، ثم حضروا وإذا بهم قد طلعوا ومعهم ثلاث أفراس مسرجة ملجمة، وفي مقدم كل سرج خرج في إحدى عينَيْه ركوة ملآنة ماء، والعين الأخرى ملآنة زادًا، ثم قدَّموا الخيل فركب حسن جوادًا وأخذ ولدًا قدامه، وركبت زوجته الجواد الثاني وأخذَتْ ولدًا قدامها، ثم نزلت العجوز من فوق الزير وركبت الجواد الثالث وساروا، ولم يزالوا سائرين طول الليل حتى أصبح الصباح، فعرجوا عن الطريق وقصدوا الجبل وألسنتهم لا تفتر عن ذكر الله، وساروا النهار كله تحت الجبل، فبينما هم سائرون إذ نظر حسن إلى جبل قدامه مثل العامود، وهو طويل كالدخان المتصاعد إلى السماء، فقرَأَ شيئًا من القرآن وتعوَّذَ بالله من الشيطان الرجيم، فصار ذلك السواد يظهر كلَّما تقرَّبوا منه، فلما دَنَوْا منه وجدوه عفريتًا رأسه كالقبة العظيمة، وأنيابه كالكلاليب، ومنخراه كالإبريق، وأذناه كالأدراق، وفمه كالمغارة، وأسنانه كعواميد الحجارة، ويداه كالمداري، ورجلاه كالصواري، ورأسه في السحاب، وقدمه في تخوم الأرض تحت التراب؛ فلما نظر حسن إلى العفريت انحنى وقبَّلَ الأرض بين يدَيْه، فقال له: يا حسن، لا تخَفْ مني، أنا رئيس عمَّار هذه الأرض، وهذه أول جزيرة من جزائر واق، وأنا مسلم موحِّد بالله، وسمعت بكم وعرفت قدومكم، ولما اطَّلَعْتُ على حالكم اشتهيتُ أن أرحل من بلاد السَّحَرة إلى أرضٍ غيرها تكون خالية من السكان، بعيدة من الإنس والجان، أعيش فيها منفردًا وحدي، وأعبدُ الله حتى يدركني أجلي، فأردتُ أن أرافِقَكم وأكون دليلكم حتى تخرجوا من هذه الجزائر، وأنا ما أظهر إلا بالليل، فطيِّبوا قلوبكم من جهتي، فإنني مسلم مثلما أنتم مسلمون. فلما سمع حسن كلامَ العفريت فرح فرحًا شديدًا وأيقَنَ بالنجاة، ثم التفَتَ إليه وقال له: جزاكَ الله خيرًا، فسِرْ معنا على بركة الله. فسار العفريت قدامهم وصاروا يتحدثون ويلعبون، وقد طابت قلوبهم وانشرحت صدورهم، وصار حسن يحكي لزوجته جميعَ ما جرى له وما قاساه، ولم يزالوا سائرين طول الليل. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 827﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أنهم لم يزالوا سائرين طول الليل إلى الصباح، والخيل تسير بهم كالبرق الخاطف، فلما طلع النهار مدَّ كلُّ واحدٍ يدَه في خرجه وأخرَجَ منه شيئًا وأكله، وأخرَجَ ماءً وشربه، ثم جدُّوا في السير، ولم يزالوا سائرين والعفريت أمامهم وقد عرَّج بهم عن الطريق إلى طريق أخرى غير مسلوكة على شاطئ البحر، وما زالوا يقطعون الأوديةَ والقفار مدةَ شهر كامل، وفي اليوم الحادي والثلاثين طلعت عليهم غبرة سدَّتِ الأقطارَ وأظلَمَ منها النهار، فلما نظرها حسن لحقه الاصفرار، وقد سمعوا ضجات مزعجة، فالتفتَتِ العجوز إلى حسن وقالت له: يا ولدي، هذه عساكر جزائر واق قد لحقونا، وفي هذه الساعة يأخذوننا قبضًا باليد. فقال لها حسن: ما أصنع يا أمي؟ فقالت له: اضرب الأرض بالقضيب. ففعل فطلع إليه السبعة ملوك وسلَّموا عليه وقبَّلوا الأرض بين يدَيْه وقالوا له: لا تخَفْ ولا تحزن. ففرح حسن بكلامهم وقال: أحسنتم يا سادة الجن والعفاريت، هذا وقتكم. فقالوا له: اطلع أنت وزوجتك وولداك ومَن معك فوق الجبل وخلونا نحن وإياهم؛ لأننا نعرف أنكم على الحق وهم على الباطل، وينصرنا الله عليهم. فنزل حسن هو وزوجته وولداه والعجوز عن ظهور الخيل، وصرفوا الخيل وطلعوا على طرف الجبل. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 828﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن حسنًا صعد هو وزوجته وولداه والعجوز على طرف الجبل بعد أن صرفوا الخيل، ثم بعد ذلك أقبلَتِ الملكة نور الهدى بعساكر ميمنة وميسرة، ودارت عليهم النقباء وصفُّوهم جملةً جملةً، وقد التقى العسكران، وتصادم الجمعان، والتهبَتِ النيران، وأقدمت الشجعان، وفرَّ الجبان، ورمَتِ الجن من أفواهها لهيبَ الشرر إلى أن أقبل الليل المعتكر، فافترق الجمعان وانفصل الفريقان، ولما نزلوا عن خيولهم واستقروا على الأرض أشعلوا النيران، وطلع السبعة ملوك إلى حسن وقبَّلوا الأرض بين يدَيْه، فأقبَلَ عليهم وشكرهم ودعَا لهم بالنصر، وسألهم عن حالهم مع عسكر الملكة نور الهدى، فقالوا له: إنهم لا يثبتون معنا غير ثلاثة أيام، فنحن كنَّا اليومَ ظافرين بهم، وقد قبضنا منهم مقدارَ ألفَيْن، وقتلنا منهم خلقًا كثيرًا لا يُحصَى عددهم، فطِبْ نفسًا وانشرِحْ صدرًا. ثم إنهم ودَّعوه ونزلوا إلى عسكرهم يحرسونه، وما زالوا يشعلون النيران إلى أن طلع الصباح، وأضاء بنوره ولاح، فركبت الفرسان الخيلَ القراح، وتضاربوا بمرهفات الصفاح، وتطاعنوا بسُمْر الرماح، وباتوا على ظهور الخيل وهم يلتطمون التطامَ البحار، واستعَرَ بينهم في الحرب لهيبُ النار، ولم يزالوا في نضال وسباق حتى انهزمت عساكر واق، وانكسرت شوكتهم وانحطت همتهم، وزلَّتْ أقدامهم وأينما هربوا فالهزيمة قدامهم، فولَّوا الأدبار وركبوا إلى الفرار، وقُتِل أكثرهم وأُسِرت الملكة نور الهدى، هي وكبار مملكتها وخواصها.

فلما أصبح الصباح حضر الملوك السبعة بين يدَيْ حسن ونصبوا له سريرًا من المرمر مصفَّحًا بالدر والجوهر، فجلس فوقه ونصبوا عنده سريرًا آخَر للسيدة منار السنا زوجته، وذلك السرير من العاج المصفح بالذهب الوهَّاج، ونصبوا جنبَه سريرًا آخَر للعجوز شواهي ذات الدواهي، ثم إنهم قدَّموا الأسارى بين يدَيْ حسن ومِن جملتهم الملكة نور الهدى، وهي مكتَّفة اليدَيْن مقيَّدة الرجلين، فلما رأتها العجوز قالت لها: ما جزاؤك يا فاجرة يا ظالمة إلا من يُجوِّع كلبتين ويربطهما معك في أذناب الخيل، ويسوقهما إلى البحر حتى يتمزَّق جلدك، وبعد ذلك يقطع من لحمك ويُطعِمك؛ كيف فعلتِ بأختك هذه الفعالَ يا فاجرة؟ مع أنها تزوَّجَتْ في الحلال بسُنَّة الله ورسوله؛ لأنه لا رهبانية في الإسلام، والزواج من سنن المرسلين عليهم السلام، وما خُلِقت النساء إلا للرجال. فعند ذلك أمر حسن بقتل الأسارى جميعهم، فصاحَتِ العجوز وقالت: اقتلوهم ولا تبقوا منهم أحدًا. فلما رأت الملكة منار السنا أختها في هذه الحالة وهي مقيَّدة مأسورة، بكَتْ عليها وقالت لها: يا أختي، ومَن هذا الذي أسرنا في بلادنا وغلبنا؟ فقالت لها: هذا أمر عظيم، إن هذا الرجل الذي اسمه حسن قد ملكنا وحكَّمَه الله فينا، وفي سائر ملكنا، وتغلَّب علينا وعلى ملوك الجن. فقالت لها أختها: ما نصره الله عليكم ولا قهركم ولا أسركم إلا بهذه الطاقية والقضيب. فتحقَّقَتْ أختها ذلك، وعرفت أنه خلَّصها بهذا السبب، فتضرَّعَتْ لأختها حتى حنَّ قلبها عليها، ثم قالت لزوجها حسن: ما تريد أن تفعل بأختي؟ فها هي بين يديكَ، وهي ما فعلتَ مكروهًا حتى تؤاخذها به. فقال لها: كفى تعذيبها إياكِ مكروهًا. فقالت له: كل مكروه فعلَتْه معي كانت معذورةً فيه، وأمَّا أنت فإنك قد أحرقَتْ قلبَ أبي بفقدي، فكيف يكون حاله بعد أختي؟ فقال لها حسن: الرأي رأيك مهما أردْتِه فافعليه. فعند ذلك أمرَتِ الملكة منار السنا بحلِّ الأسارى جميعهم، فحلُّوهم لأجل أختها، وكذلك أختها، وبعد ذلك أقبلَتْ على أختها وعانقَتْها وصارت تبكي هي وإياها، ولم يزالَا كذلك ساعة زمانية، ثم قالت الملكة نور الهدى لأختها: يا أختي، لا تؤاخذيني بما فعلته معكِ. فقالت لها السيدة منار السنا: يا أختي، إن هذا كان مقدرًا عليَّ. ثم جلست هي وأختها على السرير يتحدثان، وبعد ذلك أصلحَتْ منار السنا بين العجوز وبين أختها على أحسن ما يكون وطابَتْ قلوبهما، ثم إن حسنًا صرف العسكر الذين كانوا في خدمة القضيب، وشكرهم على ما فعلوه من نصره على أعدائه.

ثم إن السيدة منار السنا حكَتْ لأختها جميعَ ما جرى لها مع زوجها حسن، وجميع ما جرى له وما قاساه من أجلها، وقالت لها: يا أختي، مَن كانت هذه الفعالُ فعالَه، وهذه القوةُ قوتَه، وقد أيَّدَه الله تعالى بشدة البأس حتى دخل بلادنا وأخذكِ وأسرَكِ وهزم عسكركِ، وقهر أباكِ الملك الأكبر الذي يحكم على ملوك الجن، يجب ألَّا يفرط في حقِّه. فقالت لها أختها: والله يا أختي لقد صدقتِ فيما أخبرتِني به من العجائب التي قاساها هذا الرجل، وهل كل هذا من أجلكِ يا أختي؟ وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 829﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السيدة منار السنا لما أخبرَتْ أختها بأوصاف حسن قالت لها: والله إن هذا الرجل ما يُفرَّط فيه، خصوصًا بسبب مروءته، وهل كل هذا من أجلكِ؟ قالت: نعم. ثم إنهم باتوا يتحدثون إلى الصباح، فلما طلعت الشمس أرادوا الرحيل، فودَّعَ بعضهم بعضًا، وودَّعَتْ منار السنا العجوزَ بعدما أصلحَتْ بينها وبين أختها نور الهدى؛ فعند ذلك ضرب حسن الأرض بالقضيب، فطلع له خدَّامه وسلَّموا عليه وقالوا له: الحمد لله على هدوء سرِّكَ، فَأْمُرنا بما تريد حتى نعمله لك في أسرع من لمح البصر. فشكرهم على قولهم وقال لهم: جزاكم الله خيرًا. ثم إنه قال لهم: شدُّوا لنا جوادين من أحسن الخيل. ففعلوا ما أمرهم به في الوقت وقدَّموا له جوادين مسرَّجين، فركب حسن جوادًا منهما وأخذ ولده الكبير قدامه، وركبت زوجته الجوادَ الآخَر وأخذت ولدها الصغير قدامها، وركبت الملكة نور الهدى هي والعجوز، وتوجَّهَ الجميع إلى بلادهم، فسار حسن هو وزوجته يمينًا، وسارت الملكة نور الهدى هي والعجوز شمالًا، ولم يَزَلْ حسن سائرًا هو وزوجته وولداه مدةَ شهر كامل، وبعد الشهر أشرفوا على مدينةٍ فوجدوا حولها أثمارًا وأنهارًا، فلما وصلوا إلى تلك الأشجار نزلوا عن ظهور الخيل وأرادوا الراحة، ثم جلسوا يتحدَّثون، وإذا هم بخيول كثيرة قد أقبلَتْ عليهم، فلما رآهم حسن قام على رجلَيْه وتلقَّاهم، وإذا هم الملك حسون صاحب أرض الكافور وقلعة الطيور، فعند ذلك تقدَّمَ حسن إلى الملك وقبَّلَ يدَيْه وسلَّم عليه، ولما رآه الملك ترجَّلَ عن ظهر جواده، وجلس هو وحسن على الفرش تحت الأشجار، بعد أن سلَّمَ على حسن وهنَّأه بالسلامة، وفرح به فرحًا شديدًا، وقال له: يا حسن، أخبرني بما جرى لك من أوله إلى آخِره. فأخبره حسن بجميع ذلك، فتعجَّبَ منه الملك حسون وقال له: يا ولدي، ما وصل أحد إلى جزائر واق ورجع منها أبدًا إلا أنت، فأمرك عجيب، ولكن الحمد لله على السلامة.

ثم بعد ذلك قام الملك وركب وأمر حسنًا أن يركب ويسير معه ففعل، ولم يزالوا سائرين إلى أن أتوا إلى المدينة، فدخلوا دار الملك، فنزل الملك حسون ونزل حسن هو وزوجته وولداه في دار الضيافة، فلما نزلوا أقاموا عنده ثلاثة أيام في أكل وشرب وطرب، ثم بعد ذلك استأذَنَ حسنٌ الملكَ حسون في السفر إلى بلاده، فأذِنَ له فركب هو وزوجته وولداه، وركب الملك معهم وساروا عشرة أيام، فلما أراد الملك الرجوع ودَّعَ حسنًا، وسار حسن هو وزوجته وولداه، ولم يزالوا سائرين مدة شهر كامل، فلما كان بعد الشهر أشرفوا على مغارة كبيرة أرضها من النحاس الأصفر، فقال حسن لزوجته: انظري هذه المغارة هل تعرفينها؟ قالت: نعم. قال: إن فيها شيخًا يُسمَّى أبا الرويش، وله عليَّ فضل كبير؛ لأنه هو الذي كان سببًا في المعرفة بيني وبين الملك حسون. وصار يحدِّث زوجته بخبر أبي الرويش، وإذا بالشيخ أبي الرويش قد خرج من باب المغارة، فلما رآه حسن نزل عن جواده وقبَّلَ يدَيْه، فسلَّمَ عليه الشيخ أبو الرويش وهنَّأه بالسلامة، وفرح به وأخذه ودخل به المغارة وجلس هو وإياه، وصار يحدِّث الشيخَ أبا الرويش بما جرى له في جزائر واق، فتعجَّبَ الشيخ أبو الرويش غايةَ العجب، وقال: يا حسن، كيف خلَّصْتَ زوجتك وولدَيْك؟ فحكى له حكايةَ القضيب والطاقية، فلما سمع الشيخ أبو الرويش تلك الحكاية تعجَّبَ وقال: يا حسن يا ولدي، لولا هذا القضيب وهذه الطاقية ما كنتَ خلَّصْتَ زوجتك وولدَيْك. فقال له حسن: نعم يا سيدي. فبينما هما في الكلام، وإذا بطارق يطرق باب المغارة، فخرج الشيخ أبو الرويش وفتح الباب، فوجد الشيخ عبد القدوس قد أتى وهو راكب فوق الفيل، فتقدَّمَ الشيخ أبو الرويش وسلَّمَ عليه واعتنقه، وفرح به فرحًا عظيمًا وهنَّأَه بالسلامة، وبعد ذلك قال الشيخ أبو الرويش لحسن: احكِ للشيخ عبد القدوس جميعَ ما جرى لك يا حسن. فشرع حسن يحكي للشيخ جميعَ ما جرى له من أوله إلى آخِره، إلى أن وصل إلى حكاية القضيب. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 830﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن حسنًا شرع يحكي للشيخ عبد القدوس والشيخ أبي الرويش - وهم في المغارة يتحدثون - جميعَ ما جرى له من أوله إلى آخِره، إلى أن وصل إلى حكاية القضيب والطاقية، فقال الشيخ عبد القدوس لحسن: يا ولدي، أما أنت فقد خلَّصتَ زوجتك وولدَيْك، ولم يَبْقَ لك حاجة بهما، وأما نحن فإننا كنَّا السببَ في وصولك إلى جزائر واق، وقد عملت معك الجميل لأجل بنات أخي، وأنا أسألك من فضلك وإحسانك أن تعطيني القضيب، وتعطي الشيخ أبا الرويش الطاقية. فلما سمع حسن كلام الشيخ عبد القدوس أطرَقَ رأسَه إلى الأرض واستحى أن يقول ما أعطيهما لكما، ثم قال في نفسه: إن هذين الشيخين قد فعلَا معي جميلًا عظيمًا، وهما اللذان كانَا السببَ في وصولي إلى جزائر واق، ولولاهما ما وصلتُ إلى هذه الأماكن ولا خلَّصْتُ زوجتي وولديَّ، ولا حصلت على هذا القضيب وهذه الطاقية. ثم رفع رأسه وقال: نعم أنا أعطيهما لكما، ولكنْ يا سادتي إني أخاف من الملك الأكبر والد زوجتي أن يأتيني بعساكر إلى بلادنا، فيقاتلوني ولا أقدر على دفعهم إلا بالقضيب والطاقية. فقال الشيخ عبد القدوس لحسن: يا ولدي، لا تَخَفْ، فنحن نبقى لك جاسوسًا وردًّا في هذا الموضع، وكل مَن أتى إليك من عند والد زوجتك ندفعه عنك، ولا تَخَفْ من شيء أصلًا جملة كافية، فطِبْ نفسًا وقرَّ عينًا وانشرِحْ صدرًا ما عليك بأس. فلما سمع حسن كلامَ الشيخ، أخذه الحياء وأعطى الطاقية للشيخ أبي الرويش، وقال للشيخ عبد القدوس: اصحبني إلى بلادي وأنا أعطيك القضيب. ففرح الشيخان بذلك فرحًا شديدًا، وجهَّزَا لحسن من الأموال والذخائر ما يعجز عنه الوصف، ثم أقام عندهما ثلاثة أيام، وبعد ذلك طلب السفر، فتجهَّزَ الشيخ عبد القدوس للسفر معه، فلما ركب حسن دابةً وأركَبَ زوجته دابةً، صفَّرَ الشيخ عبد القدوس، وإذا بفيل عظيم قد أقبَلَ يهرول بيدَيْه ورجلَيْه من صدر البرية، فأخذه الشيخ عبد القدوس وركبه وسار هو وحسن وزوجته وولداه، وأما الشيخ أبو الرويش فإنه دخل المغارة. وما زال حسن وزوجته وولداه والشيخ عبد القدوس سائرين يقطعون الأرض بالطول والعرض، والشيخ عبد القدوس يدلُّهم على الطريق السهلة والمنافذ القريبة حتى قربوا من الديار، وفرح حسن بقُرْبه من ديار والدته ورجوع زوجته وولدَيْه إليه، وحين وصل حسن إلى تلك الديار بعد هذه الأهوال الصعبة، حمِدَ الله تعالى على ذلك، وشكره على نعمته وفضله، وأنشد هذه الأبيات:

لَعَلَّ اللهَ يَجْمَعُنَا قَرِيبًا        فَنُصْبِحَ فِي مُكَانَفَةِ الْعِنَاقِ

وَأُخْبِرَكُمْ بِأَعْجَبِ مَا جَرَى لِي        وَمَا لَاقَيْتُ مِنْ أَلَمِ الْفِرَاقِ

وَأَشْفِي مُقْلَتِي نَظَرًا إِلَيْكُمْ        فَإِنَّ الْقَلْبَ أَصْبَحَ فِي اشْتِيَاقِ

خَبَأْتُ لَكُمْ حَدِيثًا فِي فُؤَادِي        لِأُخْبِرَكُمْ بِهِ عِنْدَ التَّلَاقِي

أُعَاتِبُكُمْ عَلَى مَا كَانَ مِنْكُمْ        عِتَابًا يَنْقَضِي وَالْوُدُّ بَاقِ

فلما فرغ حسن من شعره نظر، وإذا هم قد لاحَتْ لهم القبة الخضراء والفسقية والقصر الأخضر، ولاح لهم جبل السحاب من بعيد، فقال لهم الشيخ عبد القدوس: يا حسن، أبشِرْ بالخير، فأنت الليلة ضيف عن بنات أخي. ففرح حسن بذلك فرحًا شديدًا وكذلك زوجته، ثم إنهم نزلوا عند القبة واستراحوا وأكلوا وشربوا، ثم ركبوا وساروا حتى قربوا من القصر، فلما أشرفوا عليه خرجت لهم بناتُ أخي الشيخ عبد القدوس وتلقَّيْنَهم وسلَّمْنَ عليهم وعلى عمِّهم، وسلَّمَ عليهم عمُّهم، وقال لهم: يا بنات أخي، ها أنا قد قضيتُ حاجةَ أخيكم حسن، وساعدتُه على خلاص زوجته وولدَيْه. فتقدَّمَ إليه البنات وعانَقْنَه وفرحْنَ به وهنَّأْنَه بالسلامة والعافية وجَمْع الشمل بزوجته وولدَيْه، وكان عندهن يوم عيد. ثم تقدَّمت أخت حسن الصغيرة وعانقَتْه وبكَتْ بكاءً شديدًا، وكذلك حسن بكى معها على طول الوحشة، ثم شكَتْ له ما تجده من ألم الفراق وتعب سرها، وما قاسته من فراقه، وأنشدت هذين البيتين:

وَمَا نَظَرَتْ مِنْ بَعْدِ بُعْدِكَ مُقْلَتِي        إِلَى أَحَدٍ إِلَّا وَشَخْصُكَ مَاثِلُ

وَمَا غَمَضَتْ إِلَّا رَأَيْتُكَ فِي الْكَرَى        كَأَنَّكَ بَيْنَ الْجَفْنِ وَالْعَيْنِ نَازِلُ

فلما فرغت من شِعْرها فرحت فرحًا شديدًا، فقال لها حسن: يا أختي، أنا ما أشكر أحدًا في هذا الأمر إلا أنتِ من دون سائر الأخوات، فالله تعالى يكون لكِ بالعون والعناية. ثم إنه حدَّثَها بجميع ما جرى له في سفره من أوله إلى آخِره، وما قاساه وما اتفق له مع أخت زوجته، وكيف خلَّصَ زوجته وولدَيْه، وحدَّثها بما رآه من العجائب والأهوال الصعاب، حتى إن أختها كانت أرادَتْ أن تذبحه وتذبحها وتذبح ولدَيْهما، وما سلَّمَهم منها إلا الله تعالى. ثم حكى لها حكاية القضيب والطاقية، وأن الشيخ أبا الرويش والشيخ عبد القدوس طلباهما منه، وأنه ما أعطاهما لهما إلا من شأنها؛ فشكرَتْه على ذلك ودَعَتْ له بطولِ البقاء، فقال: والله ما أنسى كلَّ ما فعلتِه معي من الخير من أول الأمر إلى آخِره. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 831﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن حسنًا لما اجتمع بالبنات حكى لأخته جميع ما قاساه وقال لها: أنا ما أنسى الذي فعلتِه معي من أول الزمان إلى آخِره. فالتفتَتْ أخته إلى زوجته منار السنا وعانقَتْها وضمَّتْ ولدَيْها إلى صدرها، ثم قالت لها: يا بنت الملك الأكبر، أَمَا في قلبك رحمة حتى فرَّقْتِ بينه وبين ولدَيْه وحرقتِ قلبه عليهما؟ فهل كنتِ تريدين بهذا الفعل أن يموت؟ فضحكت وقالت: بهذا حكَمَ الله سبحانه وتعالى، ومَن خادَعَ الناس خدَعَه الله. ثم أحضروا شيئًا من الأكل والشرب وأكلوا جميعًا وشربوا وانشرحوا، ثم إنه أقام عندهم عشرة أيام في أكل وشرب وفرح وسرور، ثم بعد العشرة أيام تجهَّزَ حسن للسفر، فقامت أخته وجهَّزَتْ له من المال والتحف ما يعجز عنه الوصف، ثم ضمَّتْه إلى صدرها لأجل الوداع وعانقَتْه، فأشار إليها حسن وأنشد هذه الأبيات:

مَا سَلْوَةُ الْعُشَّاقِ إِلَّا بَعِيدْ        وَمَا فِرَاقُ الْحُبِّ إِلَّا شَدِيدْ

وَمَا الْجَفَا وَالْبُعْدُ إِلَّا عَنَاءْ        وَمَا قَتِيلُ الْحُبِّ إِلَّا شَهِيدْ

مَا أَطْوَلَ اللَّيْلَ عَلَى عَاشِقٍ        قَد فَارَقَ الْخِلَّ وَأَمْسَى فَرِيدْ

دُمُوعُهُ تَجْرِي عَلَى خَدِّهِ        يَقُولُ يَا لَلدَّمْعِ هَلْ مِنْ مَزِيدْ

ثم إن حسنًا أعطى الشيخ عبد القدوس القضيب، ففرح به فرحًا شديدًا وشكر حسنًا على ذلك، وبعد أن أخذه منه ركب ورجع إلى محله، ثم ركب حسن هو وزوجته وأولاده من قصر البنات، ثم خرجوا معه يودِّعْنَه، وبعد ذلك رجعْنَ، ثم توجَّهَ حسن إلى بلاده فسار في البر الأقفر مدة شهرين وعشرة أيام حتى وصل إلى مدينة بغداد دار السلام، فجاء إلى داره من باب السر الذي يفتح إلى جهة الصحراء والبرية، وطَرَقَ الباب، وكانت والدته من طول غيبته قد هجرت المنام ولزمت الحزن والبكاء والعويل حتى مرضت وصارت لا تأكل طعامًا ولا تلتذُّ بمنام، بل تبكي في الليل والنهار، ولا تفتر عن ذِكْر ولدها وقد يئست من رجوعه إليها، فلما وقف على الباب وسمعها تبكي وتنشد هذه الأبيات:

بِاللهِ يَا سَادَتِي طُبُّوا مَرِيضَكُمُ        فَجِسْمُهُ نَاحِلٌ وَالْقَلْبُ مَكْسُورُ

فَإِنْ سَمَحْتُمْ بِوَصْلٍ مِنْكُمُ كَرَمًا        فَالصَّبُّ مِنْ نِعَمِ الْأَحْبَابِ مَغْمُورُ

لَا بَأْسَ مِنْ قُرْبِكُمْ فَاللهُ مُقْتَدِرٌ        أَنْ يَجْمَعَ الشَّمْلَ فَالْإِحْسَانُ تَقْدِيرُ

فلما فرغت من شِعْرها سمعت ولدها حسنًا ينادي على الباب: يا أماه، إن الأيام قد سمحت بجمع الشمل. فلما سمعت كلامه عرفته، فجاءت إلى الباب وهي ما بين مصدِّق ومكذِّب، فلما فتحت الباب رأَتْ ولدها واقفًا هو وزوجته وولداه معه، فصاحَتْ من شدة الفرح ووقعت في الأرض مغشيًّا عليها، فما زال حسن يلاطفها حتى أفاقَتْ وعانقته ثم بكَتْ، وبعد ذلك نادت غلمانه وعبيده وأمرتهم أن يُدخِلوا جميعَ ما معه في الدار، فأدخلوا الأحمالَ في الدار، ثم دخلت زوجته وولداه فقامَتْ لها أمه وعانقَتْها وقبَّلَتْ رأسها وقبَّلَتْ قدمَيْها، وقالت لها: يا ابنة الملك الأكبر، إنْ كنتُ أخطأتُ في حقكِ، فها أنا أستغفر الله العظيم. ثم التفتَتْ إلى ابنها وقالت له: يا ولدي، ما سبب هذه الغيبة الطويلة؟ فلما سألته عن ذلك أخبَرَها بجميع ما جرى له من أوله إلى آخِره، فلما سمعَتْ كلامه صرخَتْ صرخةً عظيمة ووقعَتْ في الأرض مغشيًّا عليها من ذِكْر ما جرى لولدها، فلم يزل يلاطفها حتى أفاقت وقالت له: يا ولدي، والله لقد فرَّطْتَ في القضيب والطاقية، فلو كنتَ احتفظتَ عليهما وأبقيتهما لَكنتَ ملكتَ الأرضَ بطولها والعرض، ولكن الحمد لله يا ولدي على سلامتك أنت وزوجتك وولدَيْك. وباتوا في أهنأ ليلة وأطيبها، فلما أصبح الصباح غيَّرَ ما عليه من الثياب، ولبس بدلة من أحسن القماش، ثم خرج إلى السوق وصار يشتري العبيد والجواري والقماش والشيء النفيس من الحلي والحلل والفراش، ومن الأواني المثمنة التي لا يوجد مثلها إلا عند الملوك، ثم اشترى الدور والبساتين والعقارات وغير ذلك، ثم أقام هو وولداه وزوجته ووالدته في أكل وشرب ولذَّة، ولم يزالوا في أرغد عيش وأهنأه حتى أتاهم هادم اللذات ومفرِّق الجماعات، فسبحان ذي الملك والملكوت، وهو الحي الباقي الذي لا يموت.

خليفة الصياد

ومما يُحكَى أيضًا أنه كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان، بمدينة بغداد رجلٌ صياد يُسمَّى خليفة، وكان ذلك الرجل فقيرَ الحال صعلوكًا لم يتزوَّج في عمره قطُّ، فاتفق له يومًا من الأيام أنه أخذ شبكته ومضى بها إلى البحر مثل عادته ليصطاد قبل الصيَّادين، فلما وصل إلى البحر تحزَّمَ وتشمَّرَ، ثم تقدَّم إلى البحر ونشر شبكته ورماها أول مرة وثاني مرة، فلم يطلع فيها شيء، ولم يَزَل يرميها إلى أن رماها عشر مرات فلم يطلع فيها شيء أبدًا، فضاقَ صدره وتحيَّرَ فكره في أمره وقال: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو، الحي القيوم، وأتوب إليه، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، الرزق على الله عز وجل، وإذا أعطى الله عبدًا لا يمنعه أحد، وإذا منع عبدًا لا يعطيه أحد. ثم إنه من كثرة ما حصل له من الغم أنشد هذين البيتين:

إِذَا رَمَاكَ الدَّهْرُ يَوْمًا بِنَكْبَةٍ        فَهِيِّئْ لَهَا صَبْرًا وَأَوْسِعْ لَهَا صَدْرَا

فَإِنَّ إِلَهَ الْعَالَمِينَ بِجُودِهِ        سَيُعْقِبُ بَعْدَ الْعُسْرِ مِنْ فَضْلِهِ يُسْرَا

ثم جلس ساعة يتفكَّر في أمره وهو مطرق برأسه إلى الأرض، وبعد ذلك أنشد هذه الأبيات:

اصْبِرْ عَلَى حُلْوِ الزَّمَانِ وَمُرِّهِ        وَاعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ

فَلَرُبَّ لَيْلٍ فِي الْهُمُومِ كَدُمَّلٍ        عَالَجْتَهُ حَتَّى ظَفِرْتَ بِفَجْرِهِ

وَلَقَدْ تَمُرُّ الْحَادِثَاتُ عَلَى الْفَتَى        وَتَزُولُ حَتَّى لَا تَعُودَ لِفِكْرِهِ

ثم قال في نفسه: أرمي هذه المرة الأخرى وأتوكَّلُ على الله لعله لا يخيِّب رجائي. ثم إنه تقدَّمَ ورمى الشبكة على طول باعه في البحر، وطوى حبلها وصبر عليها ساعة زمانية، ثم بعد ذلك سحبها فوجدها ثقيلة. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 832﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن خليفة الصياد لما رمى شبكته في البحر مرارًا ولم يطلع له فيها شيء، تفكَّرَ في نفسه وأنشد الأبيات السابقة ثم قال في نفسه: أرمي هذه المرة الأخرى وأتوكَّل على الله، لعله لا يخيِّب رجائي. فقام ورمى الشبكة وصبر عليها ساعة زمانية ثم سحبها فوجدها ثقيلة، فلما عرف أنها ثقيلة مارسها بلطف وسحبها حتى طلعت إلى البر، وإذا فيها قرد أعور أعرج، فلما رآه خليفة قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، أي شيء هذا النجس المنجوس والطالع المنحوس؟ ما الذي حصل لي في هذا النهار المبارك؟ ولكن هذا كله بتقادير الله تعالى. ثم إنه أخذ القرد وربطه في حبل وتقدَّمَ إلى شجرة طالعة على ساحل البحر وربَطَ فيها القرد، وكان معه سوط فأخذه في يده ورفعه في الهواء وأرادَ أن ينزل به على القرد، فأنطَقَ الله هذا القردَ بلسان فصيح، وقال له: يا خليفة، أمسِكْ يدكَ ولا تضربني، وخلني مربوطًا في هذه الشجرة، ورُحْ إلى البحر وارمِ شبكتك وتوكَّلْ على الله، فإنه يأتيكَ برزقك. فلما سمع خليفة كلامَ القرد أخذ الشبكة وتقدَّمَ إلى البحر ورماها، وأرخى لها الحبل ثم سحبها فوجدها أثقل من المرة الأولى، فلم يزل يعالج فيها حتى طلعت إلى البر، وإذا فيها قرد آخَر مفلج الثنايا، مكحل العينين، مخضب اليدين، وهو يضحك وفي وسطه ثوبٌ خَلَق، فقال خليفة: الحمد لله الذي أبدَلَ بسمك البحر القرود. ثم أتى إلى ذلك القرد المربوط في الشجرة وقال له: انظر يا مشئوم، ما أقبح ما أشرتَ به عليَّ! فما أوقَعَني في القرد الثاني إلا أنت، فإنك لما صبَّحتني بعرجك وعورك أصبحتُ غلبان تعبان لا أملك درهمًا ولا دينارًا. ثم إنه أخذ مسوقة في يده ولفَّها في الهواء ثلاث مرات، وأراد أن ينزل بها على القرد، فاستغاث منه وقال له: سألتُكَ بالله أن تعفو عني لأجل صاحبي هذا، واطلب منه حاجتك فإنه يدلُّكَ على ما تريد. فرمى خليفة المسوقة وعفا عنه.

ثم أتى إلى القرد الثاني ووقف عنده، فقال له القرد: يا خليفة، هذا الكلام ما يفيدك شيئًا إلا إذا سمعتَ مني ما أقوله لك، فإنْ سمعتَ مني وطاوعتَني ولم تخالفني كنتُ أنا السبب في غناك. فقال له خليفة: ما الذي تقوله لي حتى أطيعك فيه؟ فقال له: خلِّني مربوطًا مكاني ورُحْ إلى البحر وارمِ شبكتك حتى أقول لك أي شيء تفعله بعد هذا. فأخذ خليفة الشبكة ومضى إلى البحر ورماها وصبر عليها ساعة، ثم سحبها فوجدها ثقيلة، فما زال يعالج فيها حتى طلَّعها إلى البر، وإذا فيها قرد آخَر، إلا أن هذا القرد أحمر، وفي وسطه ثياب زرق، وهو مخضب اليدين والرجلين، مكحل العينين؛ فلما نظره خليفة قال: سبحان الله العظيم، سبحان مالك الملك، إن هذا اليوم مبارك من أوله إلى آخِره؛ لأن طالعه سعيد بوجه القرد الأول، والصحيفة تظهر من عنوانها، فهذا اليوم يوم قرود، ولم يَبْقَ في البحر ولا سمكة، ونحن ما خرجنا اليوم إلا لنصطاد القرود، والحمد لله الذي بدَّلَ بالسمك القرود.

ثم التفَتَ إلى القرد الثالث وقال له: أي شيء تكون أنت الآخَر يا مشئوم؟ فقال له: هل أنت لا تعرفني يا خليفة؟ قال: لا. قال: أنا قرد أبي السعادات اليهودي الصيرفي. فقال له خليفة: وأي شيء تصنع له؟ فقال له: أصبِّحه من أول النهار فيكسب خمسة دنانير، وأمسِّيه في آخِر النهار فيكتسب خمسةَ دنانير. فالتفَتَ خليفة إلى القرد الأول وقال له: انظر يا مشئوم، ما أحسن قرود الناس! وأما أنت فتصبِّحني بعرجك وعورك وشؤم طلعتك، فأصير فقيرًا مُفلِسًا جائعًا. ثم إنه أخذ المسوقة ولفَّها في الهواء ثلاث مرات وأراد أن ينزل بها عليه، فقال له قرد أبي السعادات: اتركْه يا خليفة وارفعْ يدك وتعالَ عندي حتى أقول لك أي شيء تعمل. فرمى خليفة المسوقة من يده وتقدَّمَ إليه وقال له: على أي شيء تقول لي يا سيد القرود كلها؟ فقال له: خذِ الشبكةَ وارْمِها في البحر، وخلني أنا وهؤلاء القرود قاعدين عندك، ومهما طلع لك فيها فهاتِهِ وتعالَ عندي وأنا أخبرك بما يسرُّكَ. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 833﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن قرد أبي السعادات لما قال لخليفة: خُذِ شبكتك وارمها في البحر، وكل شيء طلع لك فيها هاته وتعال عندي حتى أخبرك بما يسرُّكَ. قال له خليفة: سمعًا وطاعة. ثم إنه إخذ الشبكة وطواها على كتفه وأنشَدَ هذه الأبيات:

إِذَا ضَاقَ صَدْرِي أَسْتَعِينُ بِخَالِقِي        قَدِيرٌ عَلَى تَيْسِيرِ كُلِّ عَسِيرِ

فَقَبْلَ ارْتِدَادِ الطَّرْفِ مِنْ لُطْفِ رَبِّنَا        فِكَاكُ أَسِيرٍ وَانْجِبَارُ كَسِيرِ

فَسَلِّمْ إِلَى اللهِ الْأُمُورَ جَمْيعَهَا        فَإِفْضَالُهُ يَدْرِيهِ كُلُّ بَصِيرِ

ثم أنشد أيضًا هذين البيتين:

أَنْتَ الَّذِي قَدْ رَمَيْتَ النَّاسَ فِي تَعَبٍ        تَنْفِي الْهُمُومَ وَأَسْبَابَ الْبَلِيَّاتِ

لَا تُطْمِعَنِّي بِشَيْءٍ لَسْتُ أُدْرِكُهُ        كَمْ طَامِعٍ فَاتَ تَحْصِيلَ الْإِرَادَاتِ

فلما فرغ خليفة من شعره تقدَّم إلى البحر ورمى فيه الشبكة وصبر عليها ساعة ثم سحبها، وإذا فيها حوت سمك كبير الرأس، وذنبه كأنه مغرفة، وعيناه كأنهما ديناران، فلما رآه خليفة فَرِح به؛ لأنه ما اصطاد نظيرَه في عمره، فأخذه وهو متعجِّب منه وأتى به إلى قرد أبي السعادات اليهودي، وهو كأنه قد ملك الدنيا بحذافيرها، فقال له: ما تريد أن تصنع بهذا يا خليفة؟ وأي شيء تعمل في قردك؟ فقال له خليفة: أنا أخبرك يا سيد القرود كلها بما أفعله؛ اعلم أني قبل كل شيء أتدبَّر في هلاك هذا الملعون قردي وأتَّخِذُكَ عوضًا عنه، وأُطعِمك في كل يوم ما تشتهيه. فقال له القرد: حيث إنك قد اخترتَني فأنا أقول لك كيف تفعل أنت، ويكون فيه صلاح حالك إن شاء الله تعالى، فافهم ما أقوله لك، وهو أنك تهيِّئ لي أنا الآخَر حبلًا وتربطني به في شجرة، ثم تتركني وتذهب إلى وسط الرصيف وتطرح شبكتك في بحر الدجلة، وإذا طرحتَها فاصبر عليها قليلًا واسحبها، فإنك تجد فيها سمكةً ما رأيتَ أظرف منها طول عمرك، فهاتها وتعال عندي وأنا أقول لك كيف تفعل بعد ذلك.

فعند ذلك قام خليفة من وقته وساعته وطرح الشبكة في بحر الدجلة وسحبها، فرأى فيها سمكة بيضاء قدر الخروف، ما رأى مثلها في طول عمره، وهي أكبر من الحوت الأول، فأخذها وذهب بها إلى القرد. فقال له القرد: هاتِ لك قدرًا من الحشيش الأخضر واجعل نصفه في قفة، وحط السمكة عليها وغطِّها بالنصف الآخَر واتركنا مربوطَيْن، ثم احمل القفة على كتفك وادخل بها في مدينة بغداد، وكل مَن كلَّمَك أو سألك فلا تردَّ عليه جوابًا حتى تدخل سوق الصيارف، فتجد في صدر السوق دكَّان المعلم أبي السعادات اليهودي شيخ الصيارف، وتراه قاعدًا على مرتبة ووراءه مخدة وبين يدَيْه صندوقان؛ واحد للذهب والآخر للفضة، وعنده مماليك وعبيد وغلمان، فتقدَّمْ إليه وحطَّ القفة قدَّامه وقُلْ له: يا أبا السعادات، إني قد خرجتُ اليومَ إلى الصيد وطرحتُ الشبكة على اسمك، فبعث الله تعالى هذه السمكة. فيقول: هل أَرَيْتَها لغيري؟ فقُلْ له: لا والله. فيأخذها منك ويعطيك دينارًا فردَّه عليه، فيعطيك دينارين فردَّهما عليه، وكلما يعطيك شيئًا ردَّه عليه ولو أعطاك وزنها ذهبًا فلا تأخذ منه شيئًا؛ فيقول لك: قُلْ لي ما تريد؟ فقُلْ له: والله ما أبيعها إلا بكلمتين. فإذا قال لك: وما هما الكلمتان؟ فقُلْ له: قُمْ على رجلَيْكَ وقُلْ: اشهدوا يا مَن حضر في السوق أني أبدلْتُ قردَ خليفة الصياد بقردي، وأبدلْتُ قسمه بقسمي، وبخته ببختي، وهذا ثمنها وما لي حاجة بالذهب. فإذا فعَلَ معك ذلك، فأنا كل يوم أصبِّحك وأمسِّيك، وتبقى كل يوم تكسب عشرة دنانير ذهبًا، ويصير أبو السعادات اليهودي يصبِّحه قرده هذا الأعور الأعرج، فيبليه الله كلَّ يوم بغرامة يغرمها، ولا يزال كذلك حتى يفتقر ويصير لا يملك شيئًا أبدًا؛ فاسمع مني ما أقوله لك تسعد وترشد.

فلما سمع خليفة الصياد كلامَ القرد قال له: قبلتُ ما أشرتَ به عليَّ يا ملك القرود كلها، وأما هذا المشئوم لا بارَكَ الله فيه، فإني لا أدري أي شيء أعمل معه. فقال له: سيبه في الماء وسيبني أنا الآخَر. فقال: سمعًا وطاعة. ثم تقدَّمَ إلى القرود وحلَّها وتركها، فنزلت في البحر، وتقدَّمَ خليفة إلى السمكة وأخذها وغسلها، وجعل تحتها حشيشًا أخضر في المقطف وغطَّاها بحشيش أيضًا، وحملها على كتفه وسار يغنِّي بهذا الموال:

سَلِّمْ أُمُورَكْ إِلَى رَبِّ السَّمَا تَسْلَمْ        وَافْعَلْ جَمِيلًا يَطُلْ عُمْرُكْ وَلَا تَنْدَمْ

وَلَا تُعَاشِرْ لِأَرْبَابِ التُّهَمْ تُتْهَمْ        وَصُنْ لِسَانَكَ لَا تَشْتُمْ بِهِ تُشْتَمْ

وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 834﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن خليفة الصياد لما فرغ من مغانيه، حمل القفة على كتفه وسار، ولم يزل سائرًا إلى أن دخل مدينة بغداد، فلما دخلها عرفه الناس فصاروا يصبِّحون عليه ويقولون: أي شيء معك يا خليفة؟ وهو لا يلتفت إلى أحدٍ منهم حتى وصل إلى سوق الصيارف، وفات الدكاكين كما أوصاه القرد، ثم نظر إلى ذلك اليهودي فرآه جالسًا في الدكان والغلمان في خدمته، وهو كأنه ملك من ملوك خراسان؛ فلما رآه خليفة عرفه، فمشى حتى وقف بين يدَيْه، فرفع اليهودي إليه رأسه فعرفه وقال له: أهلًا بك يا خليفة، ما حاجتك؟ وما الذي تريد؟ فإنْ كان أحد كلَّمَك أو خاصَمَك فقُلْ لي حتى أروح معك إلى الوالي، فيأخذ لك حقك منه. فقال: لا وحياة رأسك يا قيِّمَ اليهود، ما كلَّمني أحد، وإنما أنا سرحت اليوم من بيتي على بختك، ومضيتُ إلى البحر ورميتُ شبكتي في الدجلة فطلعت هذه السمكة. ثم فتح المقطف ورمى السمكة قدام اليهودي، فلما رآها اليهودي استحسنها وقال: وحقِّ التوراة والشعر والكلمات إني كنتُ نائمًا البارحة، فرأيتُ في المنام كأني بين يدَيِ العذراء وهي تقول لي: اعلم يا أبا السعادات أني قد أرسلتُ إليك هديةً مليحةً. فلعل الهدية هذه السمكة من غير شكٍّ.

ثم إنه التفت إلى خليفة وقال له: بحقِّ دينكَ هل رآها أحد غيري؟ فقال له خليفة: لا والله، وحقِّ أبي بكر الصديق يا قيِّمَ اليهود ما رآها أحد غيرك. فالتفَتَ اليهودي إلى أحد غلمانه وقال له: تعالَ خُذْ هذه السمكة ورُحْ بها إلى البيت، وخل سعادة تجهِّزها وتقلي وتشوي إلى حين أقضي شغلي وأجيء. فقال له خليفة أيضًا: رُحْ يا غلام خل امرأة المعلم تقلي منها وتشوي منها. فقال الغلام: سمعًا وطاعة يا سيدي. ثم إنه أخذ السمكة وذهب بها إلى البيت، وأما اليهودي فإنه مدَّ يده بدينار وناوَلَه لخليفة الصياد وقال له: خذ هذا لك يا خليفة واصرفه على عيالك. فلما نظره خليفة في كفه قال: سبحان مالك الملك. وكأنه ما نظر شيئًا من الذهب في عمره، وأخذ الدينار ومشى قليلًا، ثم إنه تذكَّرَ وصيةَ القرد، فرجع ورمى له الدينار وقال له: خُذْ ذهبك وهاتِ سمك الناس، هل أنت عندك الناس سخرية؟ فلما سمع اليهودي كلامه ظنَّ أنه يلعب معه، فناوَلَه دينارين على الدينار الأول، فقال له خليفة: هات السمكة بلا لعب، هل أنت تعرف أني أبيع السمك بهذا الثمن؟ فمَدَّ اليهودي يده إلى اثنين آخَرين وقال له: خذ هذه الخمسة دنانير حق السمكة واترك الطمع. فأخذها خليفة في يده وتوجَّهَ بها وهو فرحان، وصار ينظر إلى الذهب ويتعجَّب منه ويقول: سبحان الله، ليس مع خليفة بغداد مثل ما معي في هذا اليوم.

ولم يزل سائرًا حتى وصل إلى رأس السوق، ثم تذكَّرَ كلامَ القرد والوصية التي أوصاه بها، فرجع إلى اليهودي ورمى له الذهب؛ فقال له: ما لك يا خليفة؟ أي شيء تطلب؟ أتأخذ صرف دنانيرك دراهم؟ فقال له: لا أريد دراهم ولا دنانير، وإنما أريد أن تعطيني سمك الناس. فغضب اليهودي وصرخ عليه وقال له: يا صياد، أتجيء لي بسمكة لا تساوي دينارًا وأعطيك فيها خمسة دنانير فلا ترضى؟ هل أنت مجنون؟ قُلْ لي: بكَمْ تبيعها؟ فقال له خليفة: أنا لا أبيعها بفضة ولا بذهب، وما أبيعها إلا بكلمتين تقولهما لي. فلما سمع اليهودي قوله كلمتين، قامت عيناه في أم رأسه وضاقت أنفاسه، وقرط على أضراسه وقال له: يا فظاعة المسلمين، هل تريد أن أفارق ديني لأجل سمكتك، وتُفسِد عليَّ ملتي وعقيدتي التي وجدتُ عليها آبائي من قبلي؟ وصاح على غلمانه فحضروا بين يدَيْه، فقال لهم: ويلكم، دونكم هذا النحس، قطعوا بالصك قفاه، وأكثروا من الضرب أذاه. فنزلوا عليه بالضرب، وما زالوا يضربونه حتى وقع تحت الدكان، فقال لهم اليهودي: خلوا عنه حتى يقوم. فقام خليفة على حيله كأنه لم يكن به شيء، فقال له اليهودي: قُلْ لي أي شيء تريده في ثمن هذه السمكة وأنا أعطيك إياه؟ فإنك ما نلتَ منَّا خيرًا في هذه الساعة. فقال خليفة: لا تخف عليَّ يا معلم من الضرب؛ لأني آكل ضربًا قدر عشرة حمير. فضحك اليهودي من كلامه وقال له: بالله عليك قُلْ لي أي شيء تريد وأنا وحقِّ ديني أعطيك إياه. فقال له: لا يرضيني منك في ثمن هذه السمكة إلا كلمتان. فقال له اليهودي: أظنُّ أنك تطلب مني أن أُسلِمَ. فقال له خليفة: والله يا يهودي، إن أسلمْتَ فإسلامك لا ينفع المسلمين ولا يضرُّ اليهود، وإنْ بقيتَ على كفرك فكفرك لا يضرُّ المسلمين ولا ينفع اليهود، ولكن الذي أطلبه منك أن تقوم على قدمَيْكَ وتقول: اشهدوا عليَّ يا أهل السوق أني قد أبدلْتُ بقردي قردَ خليفة الصياد، وبحظي في الدنيا حظَّه، وببختي بختَه. فقال اليهودي: إن كان هذا الأمر مرادُكَ فهو عليَّ هيِّن. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 835﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن اليهودي قال لخليفة الصياد: إن كان هذا الأمر مرادك فهو عليَّ هيِّنٌ. ثم قام اليهودي من وقته وساعته ووقف على قدمَيْه وقال مثل ما قال له خليفة الصياد، وبعد ذلك التفَتَ إليه وقال له: هل بقي لك عندي شيء؟ فقال الصياد: لا. فقال له اليهودي: مع السلامة. فنهض خليفة من وقته وساعته، وأخذ قفَّتَه وشبكته وجاء إلى بحر الدجلة ورمى الشبكة، ثم سحبها فوجدها ثقيلة، فما طلَّعها إلا بعد جهدٍ، فلما طلَّعَها رآها ملآنة بالسمك من جميع الأصناف، فجاءَتْ له امرأةٌ ومعها طبق، فأعطته دينارًا فأعطاها به سمكًا، وجاء إليه خادم آخَر وأخذ بدينار، وهكذا حتى باع سمكًا بعشرة دنانير، ولم يزل يبيع في كل يوم بعشرة دنانير إلى نهاية عشرة أيام حتى جمع مائة دينار ذهبًا.

وكان لذلك الصياد بيت من داخل ممر التجار، فبينما هو نائم في بيته ليلةً من الليالي، إذ قال في نفسه: يا خليفة، إن الناس كلهم يعرفون أنك رجل فقير صيَّاد، وقد حصل معك مائة دينار من الذهب، فلا بد أن أمير المؤمنين هارون الرشيد يسمع بخبرك من أحد الناس، فربما يحتاج إلى مالٍ فيرسل إليك، ويقول لك: إني محتاج إلى مبلغ من الدنانير، وقد بلغني أن عندك مائةَ دينارٍ فأَقرِضْني إياها. فأقول: يا أمير المؤمنين، أنا رجل فقير، والذي أخبَرَك أن عندي مائةَ دينارٍ كذب عليَّ، وليس معي ولا عندي شيء من ذلك. فيسلِّمني إلى الوالي ويقول له: جرِّده من ثيابه وعاقِبْه بالضرب حتى يُقِرَّ ويأتي بالمائة دينار التي عنده. فالرأي الصواب الذي يخلِّصني من هذه الورطة أني أقوم في هذه الساعة وأعاقب نفسي بالسوط لأكون قد تمرَّنْتُ على الضرب. وقال له حشيشه: قُمْ تجرَّدْ من ثيابك. فقام من وقته وساعته وتجرَّدَ من ثيابه، وأخذ في يده سوطًا كان عنده، وكان عنده مخدة من جلد، فصار يضرب على تلك المخدة ضربة وعلى جلده ضربة ويقول: آه آه، والله إن هذا كلامٌ باطل يا سيدي، وإنهم يكذبون عليَّ، وأنا رجل فقير صيَّاد وليس معي شيء من حطام الدنيا.

فسمع الناس خليفةَ الصياد وهو يعاقب نفسه ويضرب فوق المخدة بالسوط، ولوَقْعِ الضرب على جسده وعلى المخدة دويٌّ في الليل، ومن جملة مَن سمعه التجار، فقالوا: يا تُرَى ما لهذا المسكين يصيح ونسمع وَقْعَ الضرب نازلًا عليه؟ فكأنَّ اللصوص قد نزلوا عليه وهم الذين يعاقبونه؛ فعند ذلك قاموا كلهم على حسِّ الضرب والصياح، وخرجوا من منازلهم وجاءوا إلى بيت خليفة فرأوه مقفولًا، فقالوا لبعضهم: ربما يكون اللصوص نزلوا عليه من وراء القاعة، فينبغي أن نطلع من السطوح. فطلعوا السطوح ونزلوا من الممرق فرأوه عريانًا وهو يعاقب نفسه، فقالوا له: ما لك يا خليفة؟ أي شيء خبرك؟ فقال: اعلموا يا جماعة أني حصَّلْتُ بعضَ دنانير، وأنا خائف أن يُرفَع أمري إلى أمير المؤمنين هارون الرشيد، فيُحضِرني بين يدَيْه ويطلب مني تلك الدنانير، وإذا أنكرتُ أخاف أن يعاقبني؛ فها أنا أعاقب نفسي وأجعل ذلك تمرينًا لنفسي على ما يأتي. فضحك عليه التجار وقالوا له: اتركْ هذه الفعال لا بارَكَ الله فيك ولا في الدنانير التي جاءتْكَ، فقد أقلقْتَنا في هذه الليلة وأزعجْتَ قلوبنا. فبطل خليفة الضرب عن نفسه ونام إلى الصباح، فلما قام من النوم وأراد أن يذهب إلى شغله، تفكَّرَ في أمر المائة دينار التي حصلتْ معه، وقال في نفسه: إذا تركتُها في البيت يسرقها اللصوص، وإنْ وضعتُها في كمر على وسطي، فربما ينظرها أحد فيترصَّدني حتى أنفرد في مكان خالٍ عن الناس فيقتلني ويأخذهم مني، ولكن أنا أفعل شيئًا من الحِيَل وهو مليح نافع جدًّا. ثم إنه نهض من وقته وساعته وخيَّطَ له جيبًا في طوق جبَّتِه، وربط المائة دينار في صرة ووضعها في ذلك الجيب الذي عمله، ثم قام وأخذ شبكته وقفَّتَه وعصاه وسار حتى وصل إلى بحر الدجلة. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 836﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن خليفة الصياد لما وضع المائة دينار في جيبه، أخذ قفَّته وعصاه وشبكته وذهَبَ إلى بحر الدجلة ورمى شبكته فيه، ثم سحبها فلم يطلع له شيء، فانتقل من ذلك الموضع إلى موضعٍ غيره ورمى شبكته فيه، فلم يطلع له شيء، ولم يزل ينتقل من مكان إلى مكان حتى بَعُدَ عن المدينة مسافة نصف يوم وهو يرمي الشبكة ولا يطلع له شيء؛ فقال في نفسه: والله إني ما بقيتُ أرمي شبكتي في الماء إلا هذه المرة، فإما عليها وإما بها. فطرح الشبكة بقوة عزمه لشدة غيظه، فطارت الصرة التي فيها المائة دينار من طوقه ووقعَتْ في وسط البحر وراحت في قوة التيار، فرمى الشبكة من يده وتجرَّدَ من ثيابه وتركها على البر ونزل في البحر وغطس خلف الصرة، ولم يَزَلْ يغطس ويطلع نحو مائة مرة حتى ضعفت قوَّته، فلم يقع بتلك الصرة. فلما يَئِسَ منها طلع إلى البر، فلم يجد سوى العصا والشبكة والقفة، وطلب ثيابه فلم يقع لها على أثر؛ فقال في نفسه أهجن ما يُضرَب به المَثَل: «لا تكمل الحجة إلا بنيك الجمل». ثم إنه فرد الشبكة والتفَّ فيها، وأخذ العصا في يده والقفة على كتفه وسار يهرول مثل الجمل الهائم، يجري يمينًا وشمالًا وخلفًا وأمامًا، أشعَثَ أغبر كالعفريت المتمرِّد إذا انطلق من السجن السليماني.

هذا ما كان من أمر خليفة الصياد، وأما ما كان من أمر الخليفة هارون الرشيد فإنه كان له صاحب جوهري يقال له ابن القرناص، وقد كان جميع الناس والتجار والدلالين والسماسرة يعرفون أن ابن القرناص تاجر الخليفة، وجميع ما يباع في مدينة بغداد من التحف وغيرها من الأمور المثمنة لا يباع حتى يُعرَض عليه، ومن جملة ذلك المماليك والجواري. فبينما ذلك التاجر- الذي هو ابن القرناص - جالس في دكانه يومًا من الأيام، وإذا بشيخ الدلالين قد أقبَلَ عليه ومعه جارية ما رأى الراءون مثلها، وهي في غايةٍ من الحسن والجمال والقدِّ والاعتدال، ومن جملة محاسنها أنها تعرف في جميع العلوم والفنون، وتنظم الأشعار وتضرب على جميع آلات الطرب؛ فاشتراها ابن القرناص الجوهري بخمسة آلاف دينار ذهبًا، وكساها بألف دينار، وأتى بها إلى أمير المؤمنين، فباتَتْ عنده تلك الليلة واختبرها الخليفة في كلِّ فنٍّ، فرآها عارفة بجميع العلوم والصنائع، ليس لها في عصرها نظير، وكان اسمها قوت القلوب، وهي كما قال الشاعر:

أُرَدِّدُ الطَّرْفَ فِيهَا كُلَّمَا سَفَرَتْ        وَفِي تَمَنُّعِهَا لِلطَّرْفِ رَدَّاتُ

تَحْكِي الْغَزَالَ بِجِيدٍ كُلَّمَا الْتَفَتَتْ        وَلِلْغَزَالِ كَمَا قَدْ قِيلَ لَفْتَاتُ

وأين هذا من قول الآخَر:

مَنْ لِي بِأَسْمَرَ تَرْوِي عَنْ مَعَاطِفِهِ السُّــمْرِ        الرِّشَاقِ عَوَالٍ سَمْهَرِيَّاتُ

سَاجِي الْجُفُونِ حَرِيرِيُّ الْعِذَارِ لَهُ        فِي قَلْبِ عَاشِقِهِ الْمُضْنَى مَقَامَاتُ

فلما أصبح الصباح أرسَلَ الخليفة هارون الرشيد إلى ابن القرناص الجوهري، فلما حضَرَ رسم له بعشرة آلاف دينار ثمن تلك الجارية، ثم إن الخليفة اشتغَلَ قلبُه بتلك الجارية المسمَّاة بقوت القلوب، وترك السيدة زبيدة بنت القاسم وهي بنت عمه، وترك جميع المحاظي وقعد شهرًا كاملًا لم يخرج من عند تلك الجارية إلا لصلاة الجمعة، ثم يعود إليها على الفور؛ فعَظُمَ ذلك على أرباب الدولة، فشَكَوْا هذا الأمر إلى الوزير جعفر البرمكي، فصبر الوزير على أمير المؤمنين حتى كان يوم الجمعة، فدخل الجامع واجتمَعَ بأمير المؤمنين وحكَى له جميع ما وقع له من القصص التي تتعلَّق بالعشق الغريبة؛ لأجل أن يستخرج ما عنده، فقال له الخليفة: يا جعفر، والله إن ذلك الأمر ليس باختياري، ولكن قلبي تعلَّقَ في شَرَكِ الهوى، وما أدري كيف يكون العمل. فقال له الوزير جعفر: اعلم يا أمير المؤمنين أن هذه المحظية قوت القلوب قد صارت تحت أمرك ومن جملة خدمك، وما تملكه اليد تزهده النفس، وأنا أخبرك بشيء آخَر، وهو أن أحسن ما تفتخر به الملوك وأبناء الملوك هو الصيد والقنص واغتنام اللهو والفرص، فإذا فعلتَ ذلك ربما تشتغل به عنها وربما تنساها. فقال له الخليفة: نِعْمَ ما قلتَه يا جعفر، فامضِ بنا على الفور في هذه الساعة إلى الصيد. فلما انقضَتْ صلاةُ الجمعة خرَجَا من الجامع وركبَا من وقتهما وساعتهما وسارَا إلى الصيد والقنص. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 837﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الخليفة هارون الرشيد طلع هو وجعفر إلى الصيد والقنص، وسارَا حتى وصَلَا إلى البرية، وقد كان أمير المؤمنين هو والوزير جعفر راكبَيْن على بلغتين، فتشاغَلَا في الحديث مع بعضهما وسبقهما العسكر، وقد حما عليهما الحر فقال الرشيد: يا جعفر، إني قد لحقني العطش الشديد. ثم إن الرشيد مدَّ نظره فرأى زوالًا على كوم عالٍ، فقال للوزير: هل أنت ناظِرٌ ما أنا ناظره؟ فقال له الوزير: نعم يا أمير المؤمنين، أنظر زوالًا على كوم عالٍ، وهو إما حارس بستان أو حارس مقات، وعلى كلِّ حالٍ فلا تخلو جهته من الماء. ثم قال الوزير: أنا أمضي إليه وآتيك بالماء من عنده. فقال الرشيد: إنَّ بغلتي أسرع من بغلتك، فقِفْ أنت هنا من أجل العسكر، وأنا أروح بنفسي وأشرب من عند هذا الشخص وأعود. ثم إن الرشيد ساقَ بغلتَه، فخرجَتْ مثل الريح في المسير أو مثل الماء في الغدير، ولم تَزَلْ منطلقة به حتى وصل إلى ذلك الزوال في مقدار لمح البصر، فلم يجد ذلك الزوال إلا خليفة الصياد؛ فرآه الرشيد وهو عريان ملتَفٌّ بالشبكة وعيناه من غاية الاحمرار كأنهما مشاعل النار، بصورة هائلة وقامة مائلة، وهو أشعث أغبر كأنه عفريت أو غضنفر، فسلَّمَ عليه الرشيد، فردَّ عليه السلام وهو غضبان، ومن نفسه تلتهب النيران. فقال له الرشيد: يا رجل، هل عندك شيء من الماء؟ فقال له خليفة: يا هذا، هل أنت أعمى أو مجنون؟ فدونك بحر الدجلة، فإنه وراء هذا الكوم. فدار الرشيد من خلف الكوم ونزل إلى بحر الدجلة وشرب وسقى بغلته، ثم طلع من وقته وساعته ورجع إلى خليفة الصياد. فقال له: ما شأنك يا رجل واقفًا هنا؟ وما صنعَتُكَ؟ فقال له خليفة: إن هذا السؤال أعجب وأغرب من سؤالك عن الماء، أَمَا تَرَى آلةَ صنعتي على كتفي؟ فقال له الرشيد: كأنك صيَّاد. فقال له: نعم. فقال له الرشيد: فأين جبتك؟ وأين شملتك؟ وأين حرامك؟ وأين ثيابك؟ وقد كانت الحوائج التي راحَتْ من خليفة مثل التي ذكرها له سواء بسواء؛ فلما سمع خليفة ذلك الكلام من الخليفة، ظنَّ في نفسه أنه هو الذي أخذ ثيابه من على شاطئ البحر، فنزل خليفة من وقته وساعته من فوق الكوم أسرع من البرق الخاطف، وقبض على لِجَام بغلة الخليفة وقال له: يا رجل، هاتِ لي حوائجي وخلِّ عنك اللعب والمزاح. فقال له الخليفة: أنا والله ما رأيتُ ثيابك ولا أعرفها. وقد كان الرشيد له خدود كبار وفم صغير، فقال له خليفة: لعل صنعتك أنك مغنٍّ أو زمَّار، ولكن هات لي ثيابي بالتي هي أحسن وإلا أضربك بهذه العصا حتى تبول على نفسك وتلوث ثيابك.

ثم إن الخليفة لمَّا عايَنَ العصا مع خليفة قال في نفسه: والله أنا ما أحمل من هذا الصعلوك نصف ضربة بهذه العصا. وكان على الرشيد قباء من أطلس فقلعه، وقال لخليفة: يا رجل، خُذْ هذا القباء عوضًا عن ثيابك. فأخذه خليفة وقلَّبه وقال: إن ثيابي تساوي عشرة مثل هذه العباءة المزوَّقة. فقال الرشيد: البسه حتى أجيء لك بثيابك. فأخذه خليفة ولبسه فرآه طويلًا عليه، وقد كان مع خليفة سكين مربوطة في أذن القفة، فأخذها وقطع بها ذيل القباء مقدار ثلثه حتى صار لتحت ركبته، ثم إنه التفت إلى الرشيد وقال له: بحق الله عليك يا زمَّار أن تخبرني عن قدر جامكيتك في كل شهر عند أستاذك في صنعة المزمار. فقال له الخليفة: جامكيتي في كل شهر عشرة دنانير ذهبًا. فقال له خليفة: والله يا مسكين لقد حمَّلتني همَّكَ، والله إن العشرة دنانير أكتسِبُها في كل يوم؛ فهل تريد أن تكون معي في خدمتي وأنا أعلِّمك صنعة الصيد وأشاركك في المكسب؟ فتعمل في كل يوم بخمسة دنانير، وتكون غلامي وأحميك من أستاذك بهذه العصا؟ فقال له الرشيد: رضيتُ بذلك.

فقال له: انزل الآن من فوق ظهر الحمارة واربطها حتى تبقى تنفعنا في حمل السمك، وتعالَ حتى أعلِّمَكَ الصيد في هذه الساعة. فعند ذلك نزل الرشيد عن ظهر بغلته وربطها وشمَّرَ أذياله في دور منطقته؛ فقال له خليفة: يا زامر، امسك هذه الشبكة كذا، واعملها على ذراعك كذا، وارميها في بحر الدجلة كذا. فقوَّى الرشيد قلبه وفعل مثل ما أراه خليفة ورمى الشبكة في البحر وسحبها، فما قدر أن يطلعها، فجاء إليه خليفة وسحبها معه فلم يقدر على تطليعها. فقال له خليفة: يا زامر النحس، إن كنتُ أخذتُ عباءتَكَ عوضًا عن ثيابي في المرة الأولى، ففي هذه المرة آخذ حمارتك في شبكتي إن رأيتها تقطَّعَتْ، وأضربك حتى تنساب على روحك. فقال له الرشيد: أسحب أنا وأنت معًا. فسحبها الاثنان معًا، فما قدرَا أن يطلعَا تلك الشبكة إلا بالمشقة، فلما أطلعاها نظرَاها، فإذا هي ملآنة من جميع أنواع السمك ومن سائر ألوانه. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 838﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن خليفة الصياد لما طلع الشبكة هو والخليفة، رأياها ملآنة من جميع أصناف السمك، فقال له خليفة: والله يا زمار إنك قبيح، ولكن إذا عانيتَ الصيد تكون صيَّادًا عظيمًا، فالرأي الصواب أنك تركب حمارتك وتروح إلى السوق وتأتي بفردين، وأنا أحفظ هذا السمك حتى تحضر ونحمله أنا وأنت على ظهر حمارتك، وعندي الميزان والأرطال وجميع ما نحتاج إليه، فنأخذ الجميع معنا، وليس عليك إلا أن تمسك الميزان وتقبض الأثمان، فإن معنا سمكًا يساوي عشرين دينارًا، فأسرِعْ بمجيء الفردين ولا تُبطِئ. فقال له الخليفة: سمعًا وطاعة. ثم تركه وترك السمك وساق بغلته وهو في غاية الفرح، ولم يزل يضحك على ما جرى له مع الصياد حتى وصل إلى جعفر، فلما رآه جعفر قال له: يا أمير المؤمنين، لعلك لما رحتَ إلى الشرب وجدتَ بستانًا طيبًا، فدخلته وتفرَّجت فيه وحدك. فلما سمع الرشيد كلام جعفر ضحك.

ثم إن جميع البرامكة قاموا وقبَّلوا الأرض بين يدَيْه وقالوا له: يا أمير المؤمنين، أدام الله عليك الأفراح وأذهَبَ عنك الأقراحَ، ما سبب تأخيرك حين ذهبتَ إلى الشرب؟ وما الذي جرى لك؟ فقال لهم الخليفة: لقد جرى لي حديث غريب، وأمر مطرب عجيب. ثم أعاد عليهم حديثَ خليفة الصياد وما جرى له معه من قوله أنت سرقت ثيابي، ومن كونه أعطاه قباءه، ومن كون الصياد قطع القباء لما رآه طويلًا. فقال جعفر: والله يا أمير المؤمنين، لقد كان في خاطري أني أطلب القباء منك، ولكن أروح في هذه الساعة إلى الصياد وأشتريها منه. فقال له الخليفة: والله لقد قطع ثلثها من جهة ذيلها وأتلَفَها، ولكن يا جعفر قد كللْتُ من صيدي في البحر؛ لأني قد اصطدتُ سمكًا كثيرًا، وهو على شاطئ البحر عند معلمي خليفة، فإنه واقف هناك ينتظرني حتى أرجع إليه وآخذ له فردين، ثم أروح أنا وإياه إلى السوق فنبيعه ونقسم ثمنه. فقال له: يا أمير المؤمنين، وأنا أجيء إليكم بالذي يشتري منكم. فقال له الخليفة: يا جعفر، وحق آبائي الطاهرين إن كلَّ مَن جاء لي بسمكة من السمك الذي قدام خليفة الذي علَّمني الصيد أعطيه فيها دينارًا ذهبًا. فنادَى المنادي في العسكر أن اطلعوا واشتروا سمكًا لأمير المؤمنين؛ فطلع المماليك وقصدوا شاطئ البحر. فبينما خليفة ينتظر أمير المؤمنين حتى يحضر له فردين، وإذا بالمماليك قد انقضَّتْ عليه مثل العقبان، وأخذوا السمك ووضعوه في مناديل مزركشة من الذهب، وصاروا يتضاربون عليه. فقال خليفة: لا شك أن هذا السمك من سمك الجنَّة. ثم أخذ سمكتين بيده اليمنى وسمكتين بيده اليسرى ونزل في الماء لحلقه وصار يقول: يا الله، بحق هذا السمك، إن عبدك الزمَّار شريكي يجيء في هذه الساعة. وإذا بعبدٍ قد أقبَلَ عليه، وكان ذلك العبد مقدَّمًا على جميع العبيد الذين كانوا عند الخليفة، وكان سبب تأخيره عن المماليك أن جواده وقف يبول في الطريق، فلما وصل عند خليفة وجد السمك لم يَبْقَ منه شيء قليل ولا كثير؛ فنظر يمينًا وشمالًا، فرأى خليفة الصياد واقفًا في الماء ومعه السمك، فعند ذلك قال له: يا صياد تعالَ. فقال له الصياد: رُحْ بلا فضول. فتقدَّمَ إليه الخادم وقال له: هاتِ هذا السمك وأنا أعطيك الثمن. قال خليفة الصياد للخادم: هل أنت قليل العقل، أنا لا أبيعه. فسحب عليه الدبوس، فقال له خليفة: لا تضرب يا شقي، فالأنعام خير من الدبوس. ثم إنه رمى إليه السمك، فأخذه الخادم وجعله في منديله وحطَّ يده في جيبه، فلم يجد ولا درهمًا واحدًا. فقال: يا صياد، إن بختك مشئوم، وأنا والله ما معي شيء من الدراهم، ولكن في غدٍ تعالَ في دار الخلافة وقُلْ دلُّوني على الطواشي صندل، فيدلُّكَ الخدَّام عليَّ، فإذا جئتَني هناك يحصل لك الذي فيه النصيب، فتأخذه وتروح إلى حال سبيلك. فعند ذلك قال خليفة: إن هذا اليوم مبارك، وبركته ظاهرة من أوله.

ثم إنه أخذ شبكته على كتفه ومشى حتى دخل بغداد، ومشى في الأسواق فرأى الناس خلعة الخليفة عليه، وصاروا ينظرون إليه حتى دخل الحارة، وكان دكان خياط أمير المؤمنين على باب الحارة، فنظر الخياط خليفةَ الصياد وعليه خلعة تساوي ألفَ دينار من ملابس الخليفة، فقال: يا خليفة، من أين لك هذه الفرجية؟ فقال له خليفة: وأي شيء لك في الفضول؟ أنا أخذتُها من الذي علَّمْتُه الصيدَ وصار غلامي، وعفوت عنه في قطع يده؛ لأنه سرق ثيابي، وأعطاني هذه العباءة عوضًا عنها. فعلم الخياط أن الخليفة قد عبر عليه وهو يصطاد، ومزح معه وأعطاه الفرجية. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 839﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الخياط علم أن الخليفة قد عبر على خليفة الصياد وهو يصطاد، وقد مزح معه وأعطاه الفرجية، ثم توجَّهَ الصياد إلى بيته. هذا ما كان من أمره، وأما ما كان من أمر الخليفة هارون الرشيد، فإنه ما طلع إلى الصيد والقنص إلا لأجل ما يشتغل عن الجارية قوت القلوب، وكانت زبيدة لما سمعت بالجارية واشتغال الخليفة بها أخذها ما يأخذ النساء من الغيرة، حتى امتنعت عن الطعام والشراب وهجرت لذيذ المنام، وصارت تنتظر غياب الخليفة أو سفره حتى تنصب لقوت القلوب شَرَكَ المكائد، فلما علمت أن الخليفة خرج إلى الصيد والقنص، أمرَتِ الجواري أن يفرشْنَ الدار، وأكثرت من الزينة والافتخار، ووضعت الأطعمة والحلويات، وعملت من جملة ذلك طبقًا صينيًّا فيه حلاوة من ألطف ما يكون، ووضعَتْ فيه البنج وبنَّجته، ثم إنها أمرَتْ بعض الخدَّام أن يمضي إلى الجارية قوت القلوب، ويدعوها إلى زاد السيدة زبيدة بنت القاسم زوجة أمير المؤمنين ويقول لها: إن زوجة أمير المؤمنين قد شربت اليوم دواءً، وقد سمعت بطيب نغمك، فاشتهَتْ أن تتفرج على شيء من صناعتك. فقالت: سمعًا وطاعة لله وللسيدة زبيدة. ثم إنها نهضَتْ قائمةً من وقتها وساعتها، ولم تعلم بما هو مخبوء لها في الغيب، وأخذت معها ما تحتاج من الآلات وسارت مع الخادم، ولم تزل سائرة حتى دخلت على السيدة زبيدة. فلما دخلَتْ عليها قبَّلَتِ الأرضَ بين يدَيْها مرارًا عديدة، ثم نهضت قائمةً على قدمَيْها وقالت: السلام على الستر الرفيع والجناب المنيع، والسلالة العباسية والبضعة النبوية، بلَّغَكِ اللهُ الإقبالَ والسلام في الأيام والأعوام. ثم وقفت من جملة الجواري والخدام، فعند ذلك رفعَتْ إليها السيدة زبيدة رأسَها ونظرت إلى حُسْنها وجمالها، فرأت جاريةً أسيلةَ الخدود، رمانيةَ النهود، بوجهٍ أقمر، وجبينٍ أزهر، وطرفٍ أحور، قد سكنَتْ جفونها فتورًا، وابتهج وجهها نورًا، كأن الشمس تطلع من غرتها، وظلام الليل من طرتها، والمسك يفوح من نكهتها، والأزهار تزهو من بهجتها، والقمر يبدو من جبينها، والغصن يميل من قدِّها، كأنها البدر التام قد أشرق في جنح الظلام، وقد تغزلت عيناها، وتقوَّس حاجباها، وصِيغَتْ من المرجان شفتاها، تذهل بحُسْنها كلَّ مَن نظَرَها، وتَسْحَر بطَرْفها كلَّ مَنْ رآها، جلَّ مَن خلَقَها وكمَّلَها وسوَّاها؛ وهي كما قال الشاعر فيمَن ضاهاها:

إِذَا غَضِبَتْ رَأَيْتَ النَّاسَ قَتْلَى        وَإِنْ رَضِيَتْ فَأَرْوَاحٌ تَعُودُ

لَهَا مِنْ طَرْفِهَا لَحَظَاتُ سِحْرٍ        تُمِيتُ بِهَا وَتُحْيِي مَنْ تُرِيدُ

وَتَسْبِي الْعَالَمِينَ بِمُقْلَتَيْهَا        كَأَنَّ الْعَالَمِينَ لَهَا عَبِيدُ

ثم إن السيدة زبيدة قالت لها: أهلًا وسهلًا ومرحبًا بك يا قوت القلوب، اجلسي حتى تفرجينا على أشغالك وحُسْن صناعتك. فقالت: سمعًا وطاعة. ثم جلست ومدَّتْ يدها وأخذت الدفَّ الذي قال فيه بعضُ واصفيه هذه الأبياتَ:

أَيَا ذَا الطَّارِ قَلْبِي طَارَ شَوْقًا        وَيَصْرُخُ مِنْ جَوَاهُ وَأَنْتَ تَضْرِبْ

فَلَمْ تَأْخُذْ سِوَى قَلْبٍ جَرِيحٍ        عَلَى تَوْقِيعِكَ الْإِنْسَانُ يَرْغَبْ

فَقُلْ قَوْلًا ثَقِيلًا أَوْ خَفِيفًا        وَلَحِّنْ مَا تَشَاءُ فَأَنْتَ تُطْرِبْ

وَطِبْ وَاخْلَعْ عِذَارَكَ يَا مُحِبُّ        وَقُمْ وَارْقُصْ وَمِلْ وَاعْجِبْ وَعَجِّبْ

ثم ضربَتْ ضربًا كثيرًا وغنَّتْ حتى أوقفت الطير وهاجَ بهم المكان، ثم حطَّتِ الدفَّ وأخذت الشبَّابة التي قيل فيها هذا البيتُ:

لَهَا أَعْيُنٌ إِنْسَانُهَا بِأَصَابِعٍ        يُشِيرُ إِلَى لَحْنٍ صَحِيحٍ بِلَا شَكْلِ

وكما قال الشاعر أيضًا هذا البيت:

إِذَا أَنْهَتْ إِلَى الْقَصْدِ الْأَغَانِي        يَطِيبُ الْوَقْتُ مِنْ طَرَبٍ بِوَصْلِ

ثم إنها حطَّتِ الشبَّابةَ بعد أن طرب بها كلُّ مَن حضَرَ، ثم أخذَتِ العودَ الذي قال فيه الشاعر:

وَغُصْنٍ رَطِيبٍ عَادَ عَوْدَةَ قَيْنَةٍ        يَحِنُّ إِلَيْهِ الْأَكْرَمُونَ الْأَفَاضِلُ

تَجُسُّ وَتَبْلُزُهُ لِفَرْطِ ذِكَائِهَا        بِأَنْمُلِهَا مَا أَتْقَنَتْهُ السَّلَاسِلُ

فشدَّتْ أوتاره وعركت آذانه، وحطته في حجرها وانحنت عليه انحناءَ الوالدة على ولدها، فكأنَّ الشاعر قال فيها وفي عودها هذه الأبيات:

قَدْ أَفْصَحَتْ بِالْوَتَرِ الْأَعْجَمِي        وَأَفْهَمَتْ مَنْ لَمْ يَكُنْ فَاهِمْ

وَخَبَّرَتْ أَنَّ الْهَوَى قَاتِلٌ        يُودِي بِعَقْلِ الرَّجُلِ الْمُسْلِمْ

جَارِيَةٌ لِلهِ مِنْ كَفِّهَا        مُصَوِّرٌ يَنْطِقُ عَنْ ذِي فَمْ

قَدْ حَبَسَتْ بِالْعُودِ مَجْرَى الْهَوَى        حَبْسَ الطَّبِيبِ الْعَدْلِ مَجْرَى الدَّمْ

ثم ضربت أربع عشرة طريقة، وغنَّتْ نوية كاملة حتى أذهلَتِ الناظرين وأطربَتِ السامعين، ثم أنشدت هذين البيتين:

قَدَمٌ عَلَيْكَ مُبَارَكٌ        فِيهِ السُّرُورُ يُجَرَّدُ

إِقْبَالُهُ مُتَوَاتِرٌ        وَنَعِيمُهُ لَا يَنْفَدُ

وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 840﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية قوت القلوب لما غنَّتِ الأشعار وضربَتْ على الأوتار بين يدي السيدة زبيدة، كادت أن تعشقها وقالت في نفسها: ما يُلام ابن عمي الرشيد في عشقها. ثم إن الجارية قبَّلَتِ الأرضَ بين يدي زبيدة وقعدت، فقدَّموا لها الطعام، ثم قدَّموا الحلو وقدَّموا الصحن الذي فيه البنج فأكلَتْ منه، فما استقرت الحلوى في جوفها حتى انقلب رأسها وانطرحت على الأرض نائمة، فقالت السيدة زبيدة للجواري: ارفَعْنَها إلى بعض المقاصير حتى أطلبها. فقُلْنَ لها: سمعًا وطاعة. ثم قالت لبعض الخدام: اعمل لنا صندوقًا وَأْتِنِي به. ثم أمرت أن يعمل صورةَ قبرٍ ويشيعوا أن الجارية قد شرقَتْ وماتت، ونبَّهَتْ على خواصِّها أن كلَّ مَن قال إنها بالحياة تضرب رقبته. وإذا بالخليفة قد أتى في تلك الساعة من الصيد والقنص، وأول ما سأل سأل عن الجارية، فتقدَّمَ إليه بعض خدمه وقد كانت أوصته السيدة زبيدة أنه إذا سأله الخليفة عنها يقول له إنها ماتت، فقبَّلَ الأرضَ بين يدَيْه وقال له: يا سيدي تعيش رأسك، وتيقَّنْ أن قوت القلوب غصَّتْ بالطعام فماتَتْ. فقال الخليفة: لا بشَّرَكَ الله بالخير يا عبد السوء. ثم قام ودخل القصر، فسمع بموتها من كلِّ مَن في القصر، فقال: أين قبرها؟ فأتوا به إلى التربة وأروه القبر الذي عُمِل تزويرًا وقالوا له: هذا قبرها. فلما نظره صاح واعتنق القبر وبكى وأنشد هذين البيتين:

بِاللهِ يَا قَبْرُ هَلْ زَالَتْ مَحَاسِنُهَا        وَهَلْ تَغَيَّرَ ذَاكَ الْمَنْظَرُ النَّضِرُ

يَا قَبْرُ مَا أَنْتَ لَا رَوْضٌ وَلَا أُفُقٌ        فَكَيْفَ يُجْمَعُ فِيكَ الْغُصْنُ وَالْقَمَرُ

ثم إن الخليفة بكى عليها بكاءً شديدًا، ومكث هناك ساعة زمانية ثم قام من عند القبر وهو في غاية الحزن، فعلمت السيدة زبيدة أن حيلتها قد تمَّتْ، فقالت للخادم: هاتِ الصندوقَ. فأحضَرَه بين يدَيْها، فأحضرت الجارية ووضعَتْها فيه وقالت للخادم: اجتهِدْ في بيع الصندوق واشترِطْ على مَن يشتريه أن يشتريه وهو مقفول، ثم تصدَّقْ بثمنه. فأخذه الخادم وخرج من عندها وامتثل أمرها.

هذا ما كان من أمر هؤلاء، وأما ما كان من أمر خليفة الصياد، فإنه لما أصبح الصباح وأضاء بنوره ولاح، قال: ليس لي شغل في هذا اليوم أحسن من رواحي إلى الطواشي الذي قد اشترى مني السمك، فإنه واعَدَني أن أروح إليه في دار الخلافة. ثم إن خليفة خرج من داره قاصدًا دار الخلافة، فلما وصل إليها وجد المماليك والعبيد والخدم قيامًا وقعودًا، فتأمَّلَهم وإذا بالخادم الذي أخذ منه السمك جالس والمماليك في خدمته، فصاح عليه غلامٌ من المماليك، فالتفَتَ إليه الخادم لينظر مَن هو وإذا هو بالصياد، فلما عرف الصياد أنه رآه وتحقَّقَ ذاته، قال له: ما قصرت يا شقير، هكذا تكون أصحاب الأمانات. فلما سمع الخادم كلامه، ضحك عليه وقال له: والله لقد صدقْتَ يا صياد. ثم إن الخادم صندل أرادَ أن يعطيه شيئًا، فمدَّ يده إلى جيبه وإذا بصياح عظيم، فرفع الخادم رأسه لينظر ما الخبر، وإذا بالوزير جعفر البرمكي خارج من عند الخليفة، فلما رآه الخادم نهض إليه قائمًا ومشى بين يدَيْه وصارَا يتحدثان وهما ماشيان حتى طال الوقت، فوقف خليفة الصياد مدة والخادم لم يلتفت إليه، فلما طال وقوفه تعرَّضَ إليه الصياد وهو بعيد عنه وأشار إليه بيده وقال: يا سيدي شقير، خليني أروح. فسمعه الخادم واستحى أن يردَّ عليه بسبب حضور الوزير جعفر، وصار الخادم يتحدَّث مع الوزير ويتشاغل عن الصياد، فقال خليفة: يا مماطِلُ، قبَّحَ الله كلَّ ثقيل وكلَّ مَن يأخذ متاع الناس ويتثاقل عليهم، أنا دخيلك يا سيدي كرش النخال أن تعطيني الذي لي لأجل أن أروح. فسمعه الخادم فاستحى من جعفر، ورآه أيضًا جعفر وهو يشير بيدَيْه ويتحدَّث مع الخادم، ولكنه لم يعرف ما يقوله له، فقال للخادم وقد أنكَرَ عليه: يا طواشي، أي شيء يطلب منك هذا السائل المسكين؟ فقال له صندل الخادم: أَمَا تعرف هذا يا مولانا الوزير؟ فقال الوزير جعفر: والله ما أعرفه، ومن أين أعرف هذا وأنا ما رأيتُه إلا في هذه الساعة؟ فقال له الخادم: يا مولانا هذا الصياد الذي نهبنا سمكه من شاطئ الدجلة، وكنتُ أنا ما لحقت شيئًا واستحييت أن أرجع إلى أمير المؤمنين بلا شيء وكل المماليك قد أخذوا، فلما وصلتُ إليه وجدتُه واقفًا في وسط البحر يدعو الله ومعه أربع سمكات، فقلتُ له: هاتِ ما معك وخذ حقه. فلما أعطاني السمك أدخلتُ يدي في جيبي وأردتُ أن أعطيه شيئًا، فما رأيت فيه شيئًا. فقلت له: تعالَ إليَّ في القصر وأنا أعطيك شيئًا تستعين به على فقرك. فجاءني في هذا اليوم، فمددتُ يدي وأردتُ أن أعطيه شيئًا فجئتَ أنت، فقمتُ في خدمتك واشتغلتُ بك عنه، فطال عليه الأمر؛ فهذه قصته وهذا سبب وقوفه. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 841﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن صندلًا الطواشي لما حكى لجعفر البرمكي حكايةَ خليفة الصياد، قال له بعد ذلك: فهذه قصته وهذا سبب وقوفه. فلما سمع الوزير كلام الطواشي تبسَّمَ منه وقال: يا طواشي، كيف جاء هذا الصياد في وقت حاجته ولم تَقْضِها له؟ أَمَا تعرفه يا رئيس الطواشية؟ قال: لا. قال: هذا معلم أمير المؤمنين وشريكه، وقد أصبَحَ اليومَ مولانا الخليفة ضيِّقَ الصدر حزينَ القلب مشتغل البال، وما له شيء يشرح صدره إلا هذا الصياد، فلا تخله يروح حتى أشاورَ عليه الخليفة وأُحضِرَه بين يدَيْه، فلعل الله يفرج ما به ويسلِّيه على فَقْدِ قوت القلوب بسبب حضوره، فيعطيه شيئًا يستعين به، فتكون أنت السبب في ذلك. فقال له الخادم: يا مولاي، افعل ما تريد، فالله تعالى يُبقِيك ركنًا لدولة أمير المؤمنين، أدام اللهُ ظلَّها وحفظ فرعها وأصلها. ثم إن الوزير جعفر نهض متوجِّهًا إلى الخليفة، والخادم أمر المماليك أنهم لا يفارقون الصياد. فقال خليفة الصياد عند ذلك: ما أجملَ إحسانَكَ يا شقير! قد صار الطالب مطلوبًا؛ لأني جئتُ لأطلب مالي فحبسوني على البواقي. فلما دخل جعفر على الخليفة وجده قاعدًا وهو مُطرِق برأسه إلى الأرض، ضيِّق الصدر كثير الفكر، يترنم بقول الشاعر:

تُكَلِّفُنِي السُّلْوَانَ عَنْهَا عَوَاذِلِي        وَمَا لِي عَلَى قَلْبِي إِذَا لَمْ يُطِعْ أَمْرِي

وَكَيْفَ يَكُونُ الصَّبْرُ عَنْ حُبِّ طِفْلَةٍ        عَلَى حُبِّهَا فِي الْهَجْرِ لَا يُجْدِنِي صَبْرِي

وَلَمْ أَنْسَهَا وَالْكَأْسُ قَدْ دَارَ بَيْنَنَا        وَقَدْ مَالَ بِي مِنْ خَمْرِ أَلْحَاظِهَا سُكْرِي

فلما صار جعفر بين يدَيِ الخليفة قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، وحامي حرمة الدين، وابن عم سيد المرسلين ﷺ وعلى آله أجمعين. فرفع الخليفة رأسه وقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. فقال جعفر: عن إذن أمير المؤمنين يتكلم خادمه ولا حرج عليه. فقال الخليفة: ومتى كان عليك حرج في الكلام وأنت سيد الوزراء؟ تكلَّمْ بما تريد. فقال له الوزير جعفر: إني خرجتُ يا مولانا من بين يدَيْكَ أريد داري، فرأيت أستاذك ومعلِّمك وشريكك خليفة الصياد واقفًا بالباب، وهو متغيِّر عليك ويشتكي منك ويقول: سبحان الله، قد علَّمته الصيد وذهب ليأتيني بفردين فلم يَعُدْ إليَّ، وما هذا شأن الشركة ولا شأن المعلِّمين. فإن كان لك غرض في الشركة فلا بأس، وإلا فعرِّفْه ليشارِكَ غيركَ. فلما سمع الخليفة كلامه تبسَّمَ وزال ما كان عنده من ضيق الصدر، ثم قال لجعفر: بحياتي عليك، أحقٌّ ما تقوله من أن الصياد واقف بالباب؟ قال جعفر: وحياتك يا أمير المؤمنين إنه واقف بالباب. فعند ذلك قال الخليفة: يا جعفر، والله لَأسعين في قضاء حقه، فإنْ يُرِدِ اللهُ له على يديَّ شقاوةً نالَهَا، وإنْ يُرِدْ له على يديَّ سعادةً نالَهَا.

ثم إن الخليفة أخذ ورقة وقطعها قِطَعًا وقال: يا جعفر، اكتب بيدكَ عشرين قدرًا من دينار إلى ألف دينار، ومراتب الولاية والإمارات من أقل العمل إلى الخلافة، وعشرين صنفًا من أنواع النكال من أقل التعزير إلى القتل. فقال جعفر: سمعًا وطاعة يا أمير المؤمنين. ثم كتب الأوراق بيده كما أمره الخليفة، ثم بعد ذلك قال الخليفة: يا جعفر، أقسِمُ بحقِّ آبائي الطاهرين واتصالي بحمزة وعقيل، إني أريد أن أُحضِر خليفة الصياد وآمره أن يأخذ ورقة من هذه الأوراق لا يعرف ما فيها إلا أنا وأنت، فأي شيء كان فيها ملَّكْتُه له، ولو كان فيها الخلافة نزعتُ نفسي منها وملَّكْتُه إياها، ولا أبخل بها عليه، وإنْ كان فيها شنْقٌ أو قطْعٌ أو هلاكٌ فعلْتُه به، فاذهب وَأْتِنِي به. فلما سمع جعفر هذا الكلام قال في نفسه: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ربما يطلع لهذا المسكين شيء بإتلافه فأكون أنا السبب، ولكن الخليفة قد حلف وما بقي إلا أنه يدخل، ولا يكون إلا ما يريده الله. ثم توجَّهَ إلى خليفة الصياد وقبض على يده وأراد الدخول به، فطار عقل خليفة من رأسه وقال في نفسه: أي شيء عبثيٍّ حتى جئتُ إلى هذا العبد النحس شقير، فجمع بيني وبين كرش النخال؟ ثم إن جعفر لم يزل سائرًا به والمماليك خلفه وقدامه وهو يقول: ما كفى الحبس حتى يكون هؤلاء خلفي وقدامي فيحرموني أن أهرب؟ ولم يزل جعفر سائرًا به حتى قطع سبعة دهاليز، ثم قال الخليفة: ويلك يا صياد، إنك تقف بين يدي أمير المؤمنين وحامي الدين. ثم رفع الستر الأكبر، فوقعَتْ عين خليفة الصياد على الخليفة وهو جالس على سريره، وأرباب الدولة قيام في خدمته، فلما عرفه تقدَّمَ إليه وقال: أهلًا وسهلًا يا زمَّار، ما يصحُّ منك أن تعمل صيَّادًا ثم تتركني قاعدًا أحرس السمك وتروح ولا تجيء، فما شعرتُ إلا والمماليك قد أقبلوا على دوابَّ مختلفة الألوان، فخطفوا السمك مني وأنا واقف وحدي، وهذا كله من تحت رأسك، فلو كنتَ جئتَ بالأفراد سريعًا كنَّا بعنَا منه بمائة دينار، ولكن أنا جئتُ في طلب حقي فحبسوني، وأنت مَن حبَسَك في هذا الموضع؟ فتبسَّمَ الخليفة ثم رفع طرف الستارة وأخرج رأسه من تحتها وقال له: تقدَّمْ وخُذْ لك ورقةً من هذه الأوراق. فقال خليفة الصياد لأمير المؤمنين: أنت كنتَ صيَّادًا وأراكَ اليوم منجِّمًا، ولكن مَن كَثُرَتْ صنائعه كَثُرَ فقره. فقال جعفر: خُذِ الورقة بسرعة من غير كلام وامتثل ما أمرَكَ به أمير المؤمنين. فتقدَّمَ خليفة الصياد ومدَّ يدَه وقال: هيهات إن كان هذا الزمَّار يرجع غلامي ويصطاد معي. ثم أخذ الورقة وناوَلَها للخليفة وقال: يا زمَّار، أي شيء طلع لي فيها لا تُخْفِ منه شيئًا. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 842﴾

قلت: بلغني أيها الملك السعيد، أن خليفة الصياد لما أخذ ورقة من الأوراق وناوَلَها للخليفة قال له: يا زمَّار، أي شيء طلع لي فيها لا تُخْفِ منه شيئًا. فأخذها الخليفة بيده وناوَلَها للوزير جعفر وقال له: اقرأ ما فيها. فنظر إليها جعفر وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فقال الخليفة: خير خير يا جعفر، ما رأيتَ فيها؟ فقال: يا أمير المؤمنين، طلع في الورقة: يُضرَب الصياد مائة عصًا. فأمر الخليفة بضربه مائة عصًا، فامتثلوا أمره وضربوا خليفة مائة عصًا، ثم قام وهو يقول: لعن الله هذا اللعب يا كرش النخال، هل الحبس والضرب من جملة اللعب؟ فقال جعفر: يا أمير المؤمنين، إن هذا المسكين جاء إلى البحر وكيف يرجع عطشانًا؟ نرجو من صدقات أمير المؤمنين أن يأخذ له ورقة أخرى، فلعله يطلع له فيها شيء فيرجع به ليستعين به على فقره. فقال الخليفة: والله يا جعفر إنْ أخَذَ ورقةً وطلع له فيها قتل لَأقتلنه، فتكون أنت السبب. فقال جعفر: إنْ كان يموت فإنه يستريح. فقال له خليفة الصياد: لا بشَّرَكَ الله بالخير، هل أنا ضيَّقْتُ عليكم بغداد حتى تطلبوا قتلي؟ فقال جعفر: خُذْ لك ورقة، واستخِرِ الله تعالى. فمَدَّ يده وأخذ ورقةً وأعطاها لجعفر، فأخذها منه وقرأها وسكَتْ. فقال له الخليفة: ما لك سكَتَّ يا ابن يحيى؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنه طلع في الورقة لا يُعطَى الصياد شيئًا. فقال الخليفة: ما له رزق عندنا، قُلْ له يروح من وجهي. فقال جعفر: بحقِّ آبائك الطاهرين أن تخليه يأخذ الثالثة لعله يطلع له فيها رزق. فقال الخليفة: دَعْه يأخذ له ورقة لا شيء غيرها. فمَدَّ يده وأخذ الورقة الثالثة، وإذا فيها يُعطَى الصياد دينارًا، فقال جعفر لخليفة: طلبتُ لك السعادةَ فما أرادَ اللهُ لكَ إلا هذا الدينار. فقال خليفة: كل مائة عصًا بدينار خير كثير، لا أصحَّ الله لكَ بدنًا. فضحك الخليفة وأخذ جعفر بيدِ خليفة وخرج به.

فلما وصل إلى الباب رآه صندل الخادم فقال له: تعالَ يا صياد أَنْعِمْ علينا مما أعطاك أمير المؤمنين وهو يمزح معك. فقال له خليفة: والله صدقْتَ يا شقير، وهل تريد أن تقاسِمني يا أسود الجلد، وقد أكلتُ مائةَ عصًا وأخذتُ دينارًا واحدًا؟ أنت في حلٍّ منه. ثم رمى الدينارَ للخادم وخرج ودموعه تجري على صحن خده، فلما نظره الخادم وهو على تلك الحالة عرف أنه صادق، فرجع إليه وصاح على الغلمان أن ردُّوه، فَرَدُّوه، فمَدَّ يده إلى جيبه فأخرج منه كيسًا أحمر، ففتحه ونفضه، وإذا فيه مائة دينار من الذهب وقال: يا صياد، خُذْ هذا الذهب حق سمكك وامضِ إلى حال سبيلك. فعند ذلك فرح خليفة الصياد وأخذ المائة دينار ودينار الخليفة وخرج وقد نسي الضرب، ولما أراد الله تعالى إنفاذ ما قضاه، عبَرَ خليفة الصياد في سوق الجواري، فرأى حلقة كبيرة وفيها خلق كثير، فقال خليفة في نفسه: أي شيء هؤلاء الناس؟ ثم تقدَّمَ وشَقَّ بين الناس من تجار وغيرهم. فقال التجار: وسِّعوا للناخوذة زليط. فوسَّعوا له فنظَرَ خليفة وإذا بشيخ قائم على رجلَيْه وبين يدَيْه صندوق وعليه خادم جالس، والشيخ ينادي ويقول: يا تجار، يا أرباب الأموال، مَن يخاطر ويبادر بالعطاء لهذا الصندوق المجهول من دار السيدة زبيدة بنت القاسم زوجة أمير المؤمنين الرشيد بكم عليكم بارَكَ الله فيكم. فقال واحد من التجار: والله إن هذه مخاطرة، فأنا أقول كلامًا وما عليَّ فيه ملام، هو عليَّ بعشرين دينارًا. فقال آخَر: بخمسين دينارًا. ثم تزايَدَ التجار فيه إلى أن وصَلَ مائة دينار، فقال المنادي: هل عندكم زيادة يا تجار؟ فقال خليفة الصياد: عليَّ بمائة دينارٍ ودينار. فلما سمع التجار كلام خليفة حسبوه يلعب، فضحكوا عليه وقالوا: يا طواشي، بِعْ إلى خليفة بالمائة دينار ودينار. فقال الطواشي: والله ما أبيعه إلا له، خُذْ يا صياد بارَكَ الله لك فيه وهاتِ الذهب. فأخرَجَ خليفة الذهبَ وسلَّمَه إلى الخادم ووقعت المعاقَدة. ثم إن الخادم تصدَّقَ بالذهب وهو في موضعه، ورجع إلى القصر وأعلَمَ السيدةَ زبيدة بما فعل، ففرحت بذلك.

ثم إن خليفة الصياد حمل الصندوق على كتفه، فلم يقدر على حمله لعِظَم ثِقَله، فحمله على رأسه وأتى به إلى الحارة ووضعه عن رأسه وكان قد تعب، فقعد يتفكَّر فيما جرى له وصار يقول في نفسه: يا ليتَ شعري ما في هذا الصندوق. ثم فتح باب داره وعالَجَ في الصندوق حتى أدخَلَه داره، وبعد ذلك عالَجَ أن يفتحه فلم يقدر، فقال في نفسه: أي شيء حصل في عقلي حتى اشتريتُ هذا الصندوق؟ فلا بد من كسره وأنظر ما فيه. ثم عالَجَ القفل فلم يقدر، فقال في نفسه: أنا أخليه إلى غدٍ. ثم طلب أن ينام، فلم يجد موضعًا ينام فيه؛ لأن الصندوق جاء على قياس البيت، فطلع ونام فوقه، واستمر ساعة وإذا بشيء يتحرَّك، ففزع خليفة وفرَّ عنه النوم وقد طار عقله. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 843﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن خليفة الصياد لما نام على الصندوق استمرَّ ساعة، وإذا بشيء يتحرَّك، ففزع وطار عقله وقام من النوم وقال: كأنَّ فيه جن، الحمد لله الذي ما جعلني فتحتُه؛ لأني لو كنتُ فتحته لَقاموا عليَّ في الظلام وأهلكوني ولم يحصل لي منهم خير. ثم إنه رجع ونام وإذا بالصندوق يتحرَّك ثاني مرة أكثر من الأول، فنهض خليفة قائمًا وقال: هذه نوبة أخرى لكنها مزعجة. ثم بادَرَ إلى سراج فلم يجده، ولم يكن معه ما يشتري به سراجًا، فخرج من البيت وصاح: يا أهل الحارة. وكان أكثر أهل الحارة نائمين، فانتبهوا على صياحه وقالوا: ما لك يا خليفة؟ فقال: الحقوني بسراج، فإن الجن خرجوا عليَّ. فضحكوا عليه وأعطوه سراجًا، فأخذه ودخل به بيته وضرب قفل الصندوق بحجر فكسره وفتح الصندوق، وإذا هو بجارية كأنه حورية، وهي نائمة في الصندوق وكانت مبنَّجَة، وقد تقيَّأَتِ البنجَ في تلك الساعة فاستفاقت وفتحت عينَيْها وحسَّتْ بالضيق فتحرَّكَتْ، فلما رآها خليفة نهض إليها وقال: بالله يا سيدتي، من أين أنت؟ ففتحت عينها وقالت: هاتِ لي ياسمينًا ونرجسًا. فقال خليفة: ما هنا إلا تمر حناء. فاستفاقت في نفسها ونظرت خليفة فقالت له: أي شيء أنت؟ ثم إنها قالت: وأين أنا؟ قال لها: أنت في بيتي. قالت: أَمَا أنا في قصر الخليفة هارون الرشيد؟ فقال لها: أي شيءٍ الرشيد يا مجنونة؟ ما أنتِ إلا جاريتي، وفي هذا اليوم اشتريتُكِ بمائة دينار ودينار، وجئتُ بكِ إلى بيتي، وكنتِ في هذا الصندوق نائمةً.

فلما سمعت الجارية كلامه قالت له: ما اسمك؟ قال: اسمي خليفة، ما بال نجمي قد سعد وأنا أعرف نجمي غير ذلك! فضحكت وقالت: دعني من هذا الكلام، هل عندك شيء يُؤكَل؟ فقال: والله ولا شيء يُشرَب، وأنا والله لي يومان ما أكلتُ شيئًا، وأنا الآن محتاج إلى لقمة. فقالت له: أَمَا معك دراهم؟ فقال: الله يحفظ هذا الصندوق الذي أفقَرَني؛ لأني أوردتُ ما كان معي فيه وبقيتُ مُفلِسًا. فضحكت عليه الجارية وقالت: قُمِ اطلب من جيرانك شيئًا آكله فإني جائعة. فقام خليفة وخرج من البيت وصاح: يا أهل الحارة. وقد كانوا راقدين فانتبهوا وقالوا: ما لك يا خليفة؟ فقال: يا جيراني أنا جائع، وما عندي شيء آكله. فنزل له واحد برغيف، وآخَر بكسرة، وآخَر بقطعة جبن، وآخَر بخيارة، فامتلأ حجره ودخل البيت وحطَّ الجميع بين يدَيْها وقال لها: كلي. فضحكت عليه وقالت له: كيف آكل من هذا ولا عندي كوز ماء أشرب منه؟ فأخاف أن أشرق بلقمةٍ فأموت. فقال خليفة: أنا أملأ لك هذه الجرة. ثم أخذ الجرة وخرج في وسط الحارة وصاح: يا أهل الحارة. فقالوا له: ما مصيبتك في هذه الليلة يا خليفة؟ فقال لهم: أنتم أعطيتموني فأكلتُ، ولكن عطشتُ فاسقوني. فنزل له هذا بكوز، وهذا بإبريق، وهذا بقلة، فملأ الجرة ودخل بها البيت وقال لها: يا سيدتي، ما بقي لك حاجة. فقالت: صحيح، ما بقي لي حاجة في هذه الساعة. فقال لها: كلِّميني وحدِّثيني بحديثك. فقالت: ويلك، إن كنتَ لم تعرفني فأنا أعرِّفُكَ بنفسي؛ أنا قوت القلوب جارية الخليفة هارون الرشيد، وقد غارَتْ مني السيدة زبيدة وبنَّجَتْني ووضعتني في هذا الصندوق. ثم قالت: الحمد لله الذي كان هذا الأمر السهل ولم يكن غيره، ولكن ما جرى لي هذا إلا من أجل سعادتك، فلا بد أن تأخذ من الخليفة الرشيد مالًا كثيرًا يكون سببًا في غنائك. فقال لها خليفة: أَمَا هو الرشيد الذي كنتُ في قصره محبوسًا؟ قالت: نعم. قال: والله ما رأيتُ أبخل منه ذلك الزمَّار القليل الخير والعقل، فإنه ضربني أمسِ مائةَ عصًا، وأعطاني دينارًا واحدًا، مع أني علَّمْتُه الصيدَ وشاركْتُه فغدَرَ بي. فقالت له: دَعْ عنك هذا الكلام القبيح، وافتح عينك، وعليك بالأدب إذا رأيْتَه بعد هذا المرة، فإنك تبلغ مرادك. فلما سمع كلامها كان كأنه نائم واستيقظ، وكشف الله عن بصيرته لأجل سعادته. فقال لها: على الرأس والعين. ثم قال لها: باسم الله نامي. فقامت ونامت ونام هو بعيدًا عنها إلى الصباح.

فلما أصبحَتْ طلبَتْ منه دواةً وورقة، فأحضرهما لها، فكتبَتْ إلى التاجر الذي هو صاحب الخليفة تُخبِره بحالها وما جرى لها من أنها عند خليفة الصياد، وقد اشتراها، ثم دفعَتْ له الورقة وقالت له: خُذْ هذه الورقة وامضِ بها إلى سوق الجواهر، واسأل عن دكان ابن القرناص الجوهري وأَعْطِهِ هذه الورقةَ ولا تتكلَّم. فقال لها خليفة: سمعًا وطاعة. ثم إنه أخذ الورقة من يدها ومضى بها إلى سوق الجواهر، وسأل عن دكان ابن القرناص فأرشدوه إليه، فأتاه وسلَّمَ عليه، فردَّ عليه السلام واحتقره في عينه وقال له: أي حاجة لك؟ فناوَلَه الورقة، فأخذها ولم يقرأها لظنِّه أنه صعلوك يطلب منه صدقةً. فقال لبعض غلمانه: أعطه نصف درهم. فقال له خليفة: لا حاجةَ لي بالصدقة، ولكن اقرأ الورقة. فأخذ الورقة وقرأها، ففهم ما فيها، فلما عرف ما فيها قبَّلَها ووضعها على رأسه. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 844﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن ابن القرناص لما قرأ الورقة وفهم ما فيها قبَّلَها ووضعها على رأسه ونهض قائمًا وقال له: يا أخي، أين بيتك؟ فقال له خليفة: وما تريد ببيتي؟ فهل مرادك أن تروح إليه وتسرق جاريتي؟ فقال له: لا، بل أشتري لك شيئًا تأكله أنت وإياها. فقال له: بيتي في الحارة الفلانية. فقال له: أحسنت، لا أعطاك الله عافيةً يا مندبور. ثم صاح على عبدَيْن من عبيده وقال لهما: امضيا مع هذا الرجل إلى دكان محسن الصيرفي وقولَا له: يا محسن، أعطِ هذا ألف دينار من الذهب وارجعَا به إليَّ بسرعة. فمضى العبدان مع خليفة إلى دكان الصيرفي وقالَا له: يا محسن، أعطِ هذا الرجل ألفَ دينار من الذهب. فأعطاه إياها، فأخذها خليفة ورجع مع العبدين إلى دكان سيدهما، فوجدوه راكبًا زرزورية تساوي ألف دينار والمماليك والغلمان حوله، وفي جنب بغلته بغلة مثلها مسرَّجة ملجمة، فقال لخليفة: باسم الله اركبْ هذه البغلة. فقال خليفة: أنا لا أركب، والله إني أخاف أن ترميني. فقال له التاجر ابن القرناص: والله لا بد من ركوبك. فتقدَّمَ خليفة ليركبها، فركبها مقلوبًا ومسك ذنبها وصرخ، فرمته على الأرض فضحكوا عليه، ثم قام وقال: أَمَا قلتُ لك ما أركب هذا الحمار الكبير؟ ثم إن ابن القرناص ترك خليفة في السوق وراح إلى أمير المؤمنين وأعلمه بالجارية، ثم رجع ونقلها إلى بيته، ثم إن خليفة ذهب إلى البيت لينظر الجارية، فرأى أهل الحارة مجتمعين وهم يقولون: إن خليفة اليومَ مرهوبٌ بالكلية، يا تُرَى هذه الجارية من أين له؟ فقال واحد منهم: هذا قوَّاد مجنون، لعله وجدها في الطريق سكرانة فحملها وأتى بها إلى بيته، وما غاب إلا لأنه عرف ذنبه.

فبينما هم في الكلام، وإذا بخليفة أقبَلَ عليهم فقالوا له: أي شيء حالك يا مسكين؟ أَمَا تعرف أي شيء جرى لك؟ فقال: لا والله. فقالوا: في هذه الساعة جاء مماليك وأخذوا جاريتك وطلبوك فما وجدوك. فقال خليفة: كيف أخذوا جاريتي؟ فقال واحد: لو كان وقع كانوا قتلوه. فلم يتلفت خليفة إليهم، بل رجع يجري إلى دكان ابن القرناص، فرآه راكبًا فقال له: والله ما يصحُّ منكَ، فإنك شاغَلْتَني وأرسلتَ مماليكك فأخذوا جاريتي. فقال: يا مجنون، تعالَ وأنت ساكت. ثم أخذه وأتى به إلى دار مليحة البناء، فدخل به هناك، فنظر الجارية قاعدة فيها على سريرٍ من ذهب، وحولها عشر جوارٍ كأنهن الأقمار، فلما رآها ابن القرناص قبَّلَ الأرض بين يدَيْها، فقالت له: ما فعلتَ بسيدي الجديد الذي اشتراني بجميع ما يملك؟ فقال لها: يا سيدتي، أعطيتُه ألف دينار من الذهب. وحكى لها خبر خليفة من أوله إلى آخره، فضحكت وقالت: لا تؤاخذه فإنه رجلٌ عاميٌّ. ثم قالت: وهذه ألف دينار أخرى هبة مني إليه، وإن شاء الله تعالى يأخذ من الخليفة ما يُغنِيه.

فبينما هم في الحديث، وإذا بخادمٍ من عند الخليفة قد أقبَلَ يطلب قوتَ القلوب؛ لأنه علم أنها في بيت أبي القرناص، وحين علم ذلك لم يصبر عنها فأمر بإحضارها، فلما توجَّهَتْ إليه أخذَتْ خليفة معها وذهبت حتى أقبلت على الخليفة، فلما وصلَتْ إليه قبَّلَتِ الأرضَ بين يدَيْه، فقام إليها وسلَّمَ عليها ورحَّبَ بها وسألها كيف كان حالها مع مَن اشتراها. فقالت له: إنه رجل يُسمَّى خليفة الصياد وها هو واقف بالباب، وقد ذكر لي أن له مع مولانا أمير المؤمنين مُحاسَبة من أجل الشركة التي كانت بينه وبينه في الصيد. فقال: هل هو واقف؟ قالت: نعم. فأمر بإحضاره، فحضر وقبَّلَ الأرض بين يدَيِ الخليفة ودعَا له بدوام العز والنِّعَم، فتعجَّبَ الخليفة منه وضحك عليه وقال له: يا صياد، هل كنت أمسِ شريكي حقيقةً؟ ففهم خليفة كلامَ أمير المؤمنين فقوَّى قلبه وثبَّتَ جنانه وقال له: وحقِّ مَن أنعَمَ عليك بخلافة ابن عمك، ما أعلمها على أي حالة، وما كان مني غير النظر والحديث. ثم أعاد عليه جميع ما جرى له من الأول إلى الآخِر، وصار الخليفة يضحك عليه. ثم إنه حدَّثَه بحديث الخادم وما جرى له معه، وكيف أعطاه المائة دينار على الدينار الذي أخذه من الخليفة، وحدَّثَه أيضًا بدخوله السوق واشترائه الصندوق بالمائة دينار وهو لا يعلم ما فيه، وحكى له جميع الحكاية من المبتدأ إلى المنتهى؛ فضحك عليه الخليفة وانشرح صدره وقال له: نحن على ما تريد يا موصل الحق إلى أهله. ثم سكَتَ، وبعد ذلك أمَرَ له الخليفة بخمسين ألف دينار ذهبًا، وخلعة سنية من ملابس الخلفاء الكبار وبغلة، وأهدى إليه عبيدًا من السودان يخدمونه، وصار كأنه بعض الملوك الموجودة في ذلك الزمان، وقد فرح الخليفة بقدوم جاريته، وعلم أن هذا كله من فعال السيدة زبيدة بنت عمه. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 845﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الخليفة فرح برجوع قوت القلوب، وعرف أن هذا كله من فعال السيدة زبيدة بنت عمه، فزاد غضبه عليها وهجَرَها مدةً من الزمان، وصار لا يدخل عليها ولا يميل إليها؛ فلما تحقَّقَتْ ذلك، حصل لها من غيظه همٌّ عظيم، واصفرَّ لونُها بعد الاحمرار، فلما أعياها الصبر أرسلَتْ إلى ابن عمها أمير المؤمنين تعتذِرُ إليه وتقرُّ بذنبها، وقد أنشدت هذه الأبيات:

أَمِيلُ إِلَى مَا كَانَ مِنْكُمْ مِنَ الرِّضَا        لِأُطْفِئَ مِنِّي حَسْرَةً وَتَأَسُّفَا

أَيَا سَادَتِي رِقُّوا لِفَرْطِ صَبَابَتِي        فَهَذَا الَّذِي لَاقَيْتُهُ مِنْكُمُ كَفَا

لَقَدْ عِيلَ صَبْرِي بَعْدَكُمْ يَا أَحِبَّتِي        وَكَدَّرْتُمُ الْعَيْشَ الَّذِي كَانَ قَدْ صَفَا

حَيَاتِي إِذَا أَوْفَيْتُمُ بِعُهُودِكُمْ        وَمَوْتِي إِذَا لَمْ تَسْمَحُوا لِي بِالْوَفَا

هَبُوا أَنَّنِي أَذْنَبْتُ ذَنْبًا فَسَامِحُوا        فَوَاللهِ مَا أَحْلَى الْحَبِيبَ إِذَا عَفَا

فلما وصلَتْ مراسلة السيدة زبيدة إلى أمير المؤمنين وقرأها، عرف أنها اعترفَتْ بذنبها وأرسلَتْ تعتذر إليه مما فعلت، فقال في نفسه: إن الله يغفر الذنوب جميعًا، إنه هو الغفور الرحيم. وأرسل إليها ردَّ الجواب عن مراسلتها مشتمِلًا على الرضا والسماح والعفو عمَّا مضى، فحصل لها الفرح العظيم. ثم إن الخليفة رتَّبَ لخليفةَ في كل شهرٍ خمسين دينارًا جائزة له، وصار له عند الخليفة منزلةٌ عظيمة ومقامٌ عالٍ وحرمةٌ واحتشام. ثم إن خليفة قبَّلَ الأرضَ بين يدَيْ أمير المؤمنين عند خروجه وخرج يمشي ويتبختر، فلما وصل إلى الباب نظر إليه الخادم الذي أعطاه المائة دينار، فعرفه وقال له: يا صياد، من أين لك هذا كله؟ فحدَّثَه بما جرى له من أوله إلى آخره؛ ففرح الخادم بذلك حيث كان هو السبب في غنائه، وقال له: أَمَا تعطيني إنعامًا من هذا المال الذي صار لك؟ فمَدَّ خليفة يده إلى جيبه، فطلع منه كيسًا فيه ألف دينار من الذهب وناوَلَه للخادم، فقال له الخادم: خُذْ مالَكَ بارَكَ الله لك فيه. وتعجَّبَ من مروءته وسماحة نفسه على فقره. ثم إن خليفة خرج من عند الخادم وهو راكب على البغلة، والخدَّام ماسكة كفلها وهو سائر إلى أن أتى إلى الخان والناس يتفرجون عليه ويتعجبون لما حصل له من العز، فتقدَّمَ إليه الناس بعدما نزل من فوق البغلة وسألوه عن سبب تلك السعادة، فأخبرهم بما جرى له من الأول إلى الآخر. ثم إنه اشترى دارًا مليحةَ الأركان، وأنفَقَ عليها جملة من المال حتى صارت كاملةَ المعاني، وسكن في تلك الدار وصار ينشد هذين البيتين:

انْظُرْ لِدَارٍ شِبْهِ دَارِ النَّعِيمِ        الْهَمُّ تَنْفِيهِ وَتَشْفِي السَّقِيمْ

قَدْ جَعَلَتْ بُنْيَانَهَا لِلْعُلَا        وَالْخَيْرُ فِيهَا كُلَّ وَقْتٍ مُقِيمْ

ثم إنه لما استقرَّ في داره خطب له بنتًا من بنات أعيان أهل المدينة، من البنات الحِسَان، ودخل بها وحصل له غاية الأنس والحظ الزائد والانبساط، وصار في نعمة زائدة وسعادة كاملة، فلما رأى نفسه في ذلك النعيم، شكر الله سبحانه وتعالى على ما أعطاه من النعمة الوافرة والمكارم المتواترة، وصار لربه حامدًا حمدَ الشاكرين مترنِّمًا بقول الشاعر:

لَكَ الْحَمْدُ يَا مَنْ فَضْلُهُ مُتَوَاتِرُ        وَيَا مَنْ لَهُ جُودٌ عَمِيمٌ وَغَامِرُ

لَكَ الْحَمْدُ مِنِّي فَاقْبَلِ الْحَمْدَ إِنَّنِي        لِجُودِكَ وَالْإِحْسَانِ وَالْفَضْلِ ذَاكِرُ

لَقَدْ جُدْتَ إِنْعَامًا عَلَيَّ وَمِنَّةً        وَفَضْلًا وَإِحْسَانًا فَهَا أَنَا شَاكِرُ

وَكُلُّ الْوَرَى مِنْ بَحْرِ جُودِكَ نَاهِلٌ        وَأَنْتَ لَهُمْ عِنْدَ الشَّدَائِدِ نَاصُرُ

وَخَوَّلْتَنَا يَا رَبُّ آثَارَ نِعْمَةٍ        وَأَسْبَغْتَهَا يَا مَنْ لِذَنْبِيَ غَافِرُ

بِجَاهِ الَّذِي قَدْ جَاءَ لِلنَّاسِ رَحْمَةً        نَبِيٌّ كَرِيمٌ صَادِقُ الْقَوْلِ طَاهِرُ

عَلَيْهِ صَلَاةُ اللهِ ثُمَّ سَلَامُهُ        وَأَنْصَارُهُ وَالْآلُ مَا زَارَ زَائِرُ

وَأَصْحَابُهُ الْغُرُّ الْكِرَامُ أُولِي النُّهَى        مَدَى الدَّهْرِ مَا غَنَّى عَلَى الْأَيْكِ طَائِرُ

ثم إن خليفة صار يتردَّد على الخليفة هارون الرشيد مع القبول عنده، وصار الرشيد يشمله بإحسانه وجوده، ولم يَزَلْ خليفة في أتمِّ نعمةٍ وسرورٍ وعزٍّ وحبور، وفي نعمة زائدة ورفعة متصاعدة، وعيشة طيبة هنية ولذة صافية مرضية، إلى أن أتاهم هادم اللذات ومفرِّق الجماعات، فسبحان مَن له العزُّ والبقاء، وهو حي دائم لا يموت أبدًا.

مسرور وزين المواصف

ومما يُحكَى أنه كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان رجل تاجر اسمه مسرور، وكان ذلك الرجل من أحسن أهل زمانه، كثير المال مرفَّه الحال، ولكنه كان يحِبُّ النزهةَ في الرياض والبساتين، ويلتهي بهوى النساء المِلَاح، فاتفق أنه كان نائمًا في ليلة من الليالي فرأى في نومه أنه في روضةٍ من أحسن الرياض، وفيها أربعة طيور ومن جملتهما حمامة بيضاء مثل الفضة المجلية، فعجبَتْه تلك الحمامة وصار في قلبه منها وَجْدٌ عظيم، وبعد ذلك رأى أنه نزل عليه طائر عظيم خطف تلك الحمامة من يده؛ فعَظُمَ ذلك عليه، ثم بعد ذلك انتبه من نومه فلم يجد الحمامةَ، فصار يعالج أشواقَه إلى الصباح، فقال في نفسه: لا بد أن أروح اليومَ إلى مَن يفسِّر لي هذا المنام. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 846﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن مسرور التاجر لما انتبَهَ من نومه، صار يعالج أشواقه إلى الصباح، فلما أصبح الصباح قال: لا بد أن أروح اليومَ إلى مَن يفسِّر لي هذا المنام. فقام وصار يمشي يمينًا وشمالًا إلى أنْ بَعُدَ عن منزله، فلم يجد مَن يفسِّر له هذا المنام، ثم بعد ذلك طلب الرجوع إلى منزله، فبينما هو في الطريق إذ خطَرَ بباله أنه يميل إلى دارٍ من دُورِ التجار، وكانت تلك الدار لبعض الأغنياء، فلما وصل إليها وإذا به يسمع بها صوتَ أنينٍ من كَبِد حزين، وهو ينشد هذه الأبيات:

نَسِيمُ الصَّبَا هَبَّتْ لَنَا مِنْ رُسُومِهَا        مُعَطَّرَةً يَشْفِي الْعَلِيلَ شَمِيمُهَا

وَقَفْتُ بِأَطْلَالٍ دَوَارِسَ سَائِلًا        وَلَيْسَ يُجِيبُ الدَّمْعَ إِلَّا رَمِيمُهَا

فَقُلْتُ نَسِيمَ الرِّيحِ بِاللهِ خَبِّرِي        هَلِ الدَّارُ هَذِي قَدْ يَعُودُ نَعِيمُهَا

وَأَحْظَى بِظَبْيٍ مَالَ بِي لِينُ قَدِّهِ        وَأَجْفَانُهُ الْوَسْنَى ضَنَانِي سَقِيمُهَا

فلما سمع مسرور ذلك الصوت نظَرَ في داخل البيت، فرأى روضةً من أحسن الرياض، في باطنها سِتْرٌ من ديباج أحمر مكلَّل بالدر والجوهر، وعليه من وراء السِّتْر أربعُ جوارٍ بينهن صبية دون الخماسية وفوق الرباعية، كأنها البدر المنير والقمر المستدير، بعينين كحيلتين، وحاجبين مقرونين، وفَمٍ كأنه خاتم سليمان، وشفتين وأسنانٍ كالدر والمرجان، وهي تسلب العقولَ بحُسْنها وجمالها وقَدِّها واعتدالها، فلما رآها مسرور دخل الدار وبالَغَ في الدخول حتى وصل إلى الستر، فرفعَتْ رأسها إليه ونظرته، فعند ذلك سلَّمَ عليها فردَّتْ عليه السلام بعذوبة الكلام، فلما نظرها وتأمَّلَها طاشَ عقله وذهب قلبه، ونظر إلى الروضة وكانت من الياسمين والمنثور والبنفسج والورد والنارنج، وجميع ما يكون فيها من المشموم، وقد توشَّحَتْ جميعُ الأشجار بالأثمار، والماءُ منحدرٌ من أربعة لواوين يقابل بعضها بعضًا، فتأمَّلَ في الليوان الأول فرأى مكتوبًا على دائره بالزنجفر الأحمر هذان البيتان:

أَلَا يَا دَارُ لَمْ يَدْخُلْكِ حُزْنٌ        وَلَمْ يَغْدُرْ بِصَاحِبِكِ الزَّمَانُ

فَنِعْمَ الدَّارُ تَأْوِي كُلَّ ضَيْفٍ        إِذَا مَا الضَّيْفُ ضَاقَ بِهِ الْمَكَانُ

ثم تأمَّلَ في الليوان الثاني، فرأى مكتوبًا في دائره بالذهب الأحمر هذه الأبيات:

لَاحَتْ عَلَيْكِ ثِيَابُ السَّعْدِ يَا دَارُ        مَا غَرَّدَتْ فِي غُصُونِ الرَّوْضِ أَطْيَارُ

وَدَامَ فِيكِ عُبَيْرَاتٌ مُعَطَّرَةٌ        وَتَنْقَضِي بِكِ لِلْأَحْبَابِ أَوْطَارُ

وَعَاشَ أَهْلُكِ فِي عِزٍّ وَفِي نِعَمٍ        مَا لَاحَ نَجْمٌ عَلَى الْعَلْيَاءِ سَيَّارُ

ثم تأمَّلَ في الليوان الثالث، فرأى مكتوبًا في دائره باللازورد الأزرق هذان البيتان:

بَقِيتِ فِي الْعِزِّ وَالْإِقْبَالِ يَا دَارُ        مَا جَنَّ لَيْلٌ وَمَا قَدْ لَاحَ أَنْوَارُ

فِي بَابِكِ السَّعْدُ يَأْوِي كُلَّ مَنْ دَخَلُوا        وَالْخَيْرُ مِنْكِ لِمَنْ وَافَاكِ مِدْرَارُ

ثم تأمَّلَ الليوان الرابع، فرأى مكتوبًا في دائره بالمدار الأصفر هذا البيت:

هَذِهِ رَوْضَةٌ وَهَذَا غَدِيرُ        مَجْلِسٌ طَيِّبٌ وَرَبٌّ غَفُورُ

وفي تلك الروضة طيورٌ من قرى وحمام وبلبل ويمام، وكل طير يغرِّد بصوته، والصبِيَّة تتمايل في حُسْنها وجمالها وقَدِّها واعتدالها يفتتن بها كلُّ مَن رآها، ثم قالت: أيها الرجل، ما الذي أقْدَمَكَ على دارٍ غير داركَ، وعلى جَوَارٍ غير جواريكَ من غير إجازة أصحابها؟ فقال لها: يا سيدتي، رأيتُ هذه الروضةَ فأعجبني حُسْن اخضرارِها وفيح أزهارها وترنُّم أطيارها، فدخلتها لأتفرج فيها ساعة من الزمان وأروح إلى حال سبيلي. فقالت له: حبًّا وكرامة. فلما سمع مسرور التاجر كلامَها، ونظر إلى طَرْفها ورشاقة قَدِّها، تحيَّرَ من حُسْنها وجمالها، ومن لطافة الروضة والطير؛ فطار عقله من ذلك وصار متحيِّرًا في أمره، وأنشد هذه الأبيات:

قَمَرٌ تَبَدَّى فِي بَدِيعِ مَحَاسِنٍ        بَيْنَ الرُّبَا وَالرُّوحِ وَالرَّيْحَانِ

وَالْآسِ وَالنِّسْرِينِ ثُمَّ بَنَفْسَجٍ        فَاحَتْ رَوَائِحُهُ مِنَ الْأَغْصَانِ

يَا رَوْضَةً كَمُلَتْ بِحُسْنِ صِفَاتِهَا        وَحَوَتْ جَمِيعَ الزَّهْرِ وَالْأَفْنَانِ

فَالْبَدْرُ يَجْلُو تَحْتَ ظِلِّ غُصُونِهَا        وَالطَّيْرُ تَنْشُدُ أَطْيَبَ الْأَلْحَانِ

قُمْرِيُّهَا وَهَزَارُهَا وَيَمَامُهَا        وَكَذَا الْبَلَابِلُ هَيَّجَتْ أَشْجَانِي

وَقَفَ الْغَرَامُ بِمُهْجَتِي مُتَحَيِّرًا        فِي حُسْنِهَا كَتَحَيُّرِ السَّكْرَانِ

فلما سمعت زين المواصف شعر مسرور، نظرَتْ له نظرةً أعقبَتْه ألفَ حسرة، وسلبَتْ بها عقلَه ولبَّه، وأجابته على شعره بهذه الأبيات:

لَا تَرْتَجِي وَصْلَ الَّتِي عُلِّقْتَهَا        وَاقْطَعْ مَطَامِعَكَ الَّتِي أَمَّلْتَهَا

وَذَرِ الَّذِي تَرْجُوهُ إِنَّكَ لَمْ تُطِقْ        صَدَّ الَّتِي فِي الْغَانِيَاتِ عَشِقْتَهَا

تَجْنِي عَلَى الْعُشَّاقِ أَلْحَاظِي وَلَمْ        يَعْظُمْ عَلَيَّ مَقَالَةٌ قَدْ قُلْتُهَا

فلما سمع مسرور كلامها تجلَّدَ وصبر، وكتم أمرها في سره وتنكَّر، وقال في نفسه: ما للبَلِيَّة إلا الصبر. ثم داموا على ذلك إلى أن هجم الليل، فأمرَتْ بحضور المائدة فحضرت بين أيديهما وفيها من سائر الألوان، من السمان وأفراخ الحمام ولحوم الضأن، فأكَلَا حتى اكتفَيَا، ثم أمرت برفع الموائد فرُفِعت، وحضرت آلات الغسل فغسَلَا أيديهما، ثم أمرَتْ بوضع الشمعدانات فوُضِعت وجُعِل فيها شمعُ الكافور، ثم بعد ذلك قالت زين المواصف: والله إن صدري ضيَّق في هذه الليلة لأني محمومة. فقال لها مسرور: شرح الله صدرك، وكشف غمَّك. فقالت: يا مسرور، أنا معوَّدة بلعب الشطرنج، فهل تعرف فيه شيئًا؟ قال: نعم، أنا عارف به. فقدَّمَتْه بين أيديهما، وإذا هو من الأبنوس مقطَّع بالعاج، له رقعة مرموقة بالذهب الوهَّاج، وحجارته من درٍّ وياقوت. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 847﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أنها لمَّا أمرَتْ بإحضار الشطرنج أحضروه بين أيديهما، فلما رآه مسرور حارَ فكْرُه، فالتفتَتْ إليه زين المواصف وقالت له: هل أنت تريد الحُمْر أم البيض؟ فقال: يا سيدة الملاح وزين الصباح، خذِي أنتِ الحُمْر لأنها ملاح ولمثلك أملح، ودَعِي لي الحجارة البيض. فقالت: رضيتُ بذلك. فأخذت الحمر وصَفَّتْها مقابلة البيض، ومدَّتْ يديها إلى القطع تنقل في أول الميدان، فنظر إلى أناملها فرآها كأنها من عجين، فاندهش مسرور من حسن أناملها ولطف شمائلها، فالتفتَتْ إليه وقالت له: يا مسرور، لا تندهش واصبر واثبت. فقال لها: يا ذات الحُسْن الذي فضح الأقمار، إذا نظرَكِ المحِبُّ كيف يكون له اصطبار؟ فبينما هو كذلك وإذا هي تقول له: الشاه مات. فغلبَتْه عند ذلك وعلمت زين المواصف أنه بحبِّها مجنون، فقالت له: يا مسرور، لا ألعب معك إلا برَهْنٍ معلومٍ وقدر مفهوم. فقال لها: سمعًا وطاعة. فقالت له: احلفْ لي وأحلفُ لك أن كلًّا منَّا لا يغدر صاحبه. فتحالَفَا معًا على ذلك، فقالت له: يا مسرور، إنْ غلبتُكَ أخذتُ منك عشرة دنانير، وإنْ غلبتَني لم أُعطِكَ شيئًا. فظَنَّ أنه يغلبها فقال لها: يا سيدتي، لا تحنثي في يمينك، فإني أراكِ أقوى مني في اللعب. فقالت له: رضيتُ بذلك. وصارَا يلعبان ويتسابقان بالبيادق وألحقتهم بالأفراس وصفَّتْهم وقرنتهم بالرِّخَاخ، وسمحت النفس بتقديم الأفراس، وكان على رأس زين المواصف وِشاح من الديباج الأزرق، فوضعَتْه عن رأسها وشمَّرَتْ عن مِعْصَم كأنه عامود من نورٍ، ومرَّتْ بكفها على القِطَع الحُمْر، وقالت له: خُذْ حذرَكَ. فاندهش مسرور وطار عقله وذهب لبُّه، ونظر إلى رشاقتها ورِقَّة معانيها، فاحتار وأخذه الانبهار، فمدَّ يده إلى البيض فراحت إلى الحُمْر، فقالت: يا مسرور، أين عقلك؟ الحُمْر لي والبيض لك. فقال لها: إنَّ مَن ينظر إليكِ ليس يملك عقله. فلما نظرَتْ زين المواصف إلى حاله أخذَتْ منه البيض وأعطَتْه الحُمْر، فلعب بها فغلبته.

ولم يزل يلعب معها وهي تغلبه ويدفع لها في كل مرة عشرةَ دنانير، فلما عرفَتْ زين المواصف أنه مشغول بهواها، قالت: يا مسرور، ما بقيت تنال مرادك إلا إذا كنتَ تغلبني كما هو شرطك، ولا بقيت ألعب معك في كل مرة إلا بمائة دينار. فقال لها: حبًّا وكرامة. فصارت تلاعبه وتغلبه وتكرِّر ذلك، وهو في كل مرة يدفع لها المائة دينار، ودامَا على ذلك إلى الصباح، وهو لم يغلبها قطُّ، فنهض قائمًا على أقدامه، فقالت له: ما الذي تريد يا مسرور؟ قال: أمضي إلى منزلي وآتي بمالٍ لَعَلِّي أبلغ آمالي. فقالت له: افعلْ ما تريد ممَّا بَدَا لك. فمضى إلى منزله وأتاها بالمال جميعه، فلما وصَلَ إليها أنشد هذين البيتين:

رَأَيْتُ طَيْرًا قَدْ تَرَبَّى فِي الْمَنَامْ        فِي رَوْضِ أُنْسٍ زَهْرُهُ ذُو ابْتِسَامْ

لَكِنَّهُ لَمَّا بَدَا لِي صِدْتُهُ        مِنْكَ الْوَفَا تَأْوِيلُ هَذَا الْمَنَامْ

فلما حضر عندها مسرور بجميع ماله، صار يلعب معها وهي تغلبه، ولم يقدر أن يغلبها بِدَورٍ واحدٍ، ولم يزالَا كذلك ثلاثة أيام حتى أخذت منه جميع ماله؛ فلما نفد ماله قالت له: يا مسرور، ما الذي تريد؟ قال: ألاعبكِ على دكان العطارة. قالت له: كم تساوي تلك الدكان؟ قال: خمسمائة دينار. فلعب بها خمسة أشواط فغلبَتْه، ثم لعب معها على الجواري والعقارات والبساتين والعمارات، فأخذت منه ذلك كله وجميع ما يملكه، وبعد ذلك التفتَتْ إليه وقالت له: هل بقي معك شيء من المال تلعب به؟ فقال لها: وحقِّ مَن أوقَعَني معك في شَرَك المحبة، ما بقيَتْ يدي تملك شيئًا من المال وغيره، لا قليلًا ولا كثيرًا. فقالت له: يا مسرور، كل شيء يكون أوله رضًا لا يكون آخِره ندامة، فإنْ كنتَ ندمتَ فخُذْ مالَكَ واذهبْ عنَّا إلى حال سبيلك، وأنا أجعلك في حِلٍّ من قِبَلي. فقال مسرور: وحقِّ مَن قضى علينا بهذه الأمور، لو أردتِ أخذَ روحي لَكانت قليلةً في رضاكِ، فما أعشق أحدًا سواكِ. فقالت له: يا مسرور، حينئذٍ اذهبْ وأحضِرِ القاضي والشهود، واكتبْ لي جميعَ الأملاك والعقارات. فقال: حبًّا وكرامة. ثم نهض قائمًا في الوقت والساعة، وأتى بالقاضي والشهود وأحضَرَهم عندها، فلما رآها القاضي طار عقله وذهَبَ لبُّه وتبلبل خاطره من حُسْن أناملها، وقال لها: يا سيدتي، لا أكتب الحجةَ إلا بشرط أن تشتري العقارات والجواري والأملاك وتصير كلها تحت تصرُّفكِ وفي حيازتك. فقالت: قد اتفقنا على ذلك، فاكتبْ لي حجةً بأن ملك مسرور وجواريه وما تملكه يده يُنقَل إلى ملك زين المواصف بثمنٍ جملته كذا وكذا. فكتب القاضي ووضع الشهود خطوطَهم على ذلك، وأخذت الحجةَ زين المواصف. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 848﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن زين المواصف لما أخذَتِ الحجةَ من القاضي مشتملةً على أن جميع ما كان مِلْكًا لمسرور صار مِلْكًا لها، قالت له: يا مسرور، اذهبْ إلى حال سبيلك. فالتفتَتْ إليه جاريتُها هبوب وقالت له: أنشِدْنا شيئًا من الأشعار. فأنشَدَ في شأن لعب الشطرنج هذه الأبيات:

أَشْكُو الزَّمَانَ وَمَا قَدْ حَلَّ بِي وَجَرَى        وَأَشْتَكِي الْخَسْرَ وَالشَّطَرَنْجَ وَالنَّظَرَا

فِي حُبِّ جَارِيَةٍ غَيْدَاءَ نَاعِمَةٍ        مَا مِثْلُهَا فِي الْوَرَى أُنْثَى وَلَا ذَكَرَا

فَفَوَقَّتْ لِي سِهَامًا مِنْ لَوَاحِظِهَا        وَقَدَّمَتْ لِي جُيُوشًا تَغْلِبُ الْبَشَرَا

حُمْرًا وَبِيضًا وَفُرْسَانًا مُصَادِمَةً        فَبَارَزَتْنِي وَقَالَتْ لِي خُذِ الْحَذَرَا

وَأَهْمَلَتْنِي إِذَا مَرَّتْ أَنَامِلُهَا        فِي جُنْحِ لَيْلٍ بَهِيمٍ يُشْبِهُ الشَّعَرَا

لَمْ أَسْتَطِعْ لِخَلَاصِ الْبِيضِ أَنْقُلُهَا        وَالْوَجْدُ صَيَّرَ مِنِّي الدَّمْعَ مُنْهَمِرَا

بَيَاذِقٌ وَرُخُوخٌ مَعْ فَرَازِنَةٍ        كَرَّتْ فَأَدْبَرَ جَيْشُ الْبِيضِ مُنْكَسِرَا

لَقَدْ رَمَتْنِي بِسَهْمٍ مِنْ لَوَاحِظِهَا        فَصَارَ قَلْبِي بِذَاكَ السَّهْمِ مُنْفَطِرَا

وَخَيَّرَتْنِيَ بَيْنَ الْعَسْكَرَيْنِ مَعًا        فَاخْتَرْتُ تِلْكَ الْجُيُوشَ الْبِيضَ مُقْتَمِرَا

وَقُلْتُ هَذِي جُيُوشُ الْبِيضُ تَصْلُحُ لِي        قَالَتْ تَصَبَّرْ بِفِكْرِي أَنْقُلُ الْحَجَرَا

وَلَاعَبَتْنِي عَلَى رَهْنٍ رَضِيتُ بِهِ        وَلَمْ أَكُنْ عَنْ رِضَاهَا أَبْلُغُ الْوَطَرَا

يَا لَهْفَ قَلْبِي وَيَا شَوْقِي وَيَا حَزَنِي        عَلَى وِصَالِ فِتَاةٍ تُشْبِهُ الْقَمَرَا

مَا الْقَلْبُ فِي حُرَقٍ كَلَّا وَلَا أَسَفٍ        عَلَى عُقَارِي وَلَكِنْ يَأْلَفُ النَّظَرَا

وَصِرْتُ حَيْرَانَ مَبْهُوتًا عَلَى وَجَلٍ        أُعَاتِبُ الدَّهْرَ فِيمَا تَمَّ لِي وَجَرَى

قَالَتْ فَمَا لَكَ مَبْهُوتًا فَقُلْتُ لَهَا        هَلْ شَارِبُ الْخَمْرِ قَدْ يَصْحُو إِذَا سَكِرَا

إِنْسِيَّةٌ سَلَبَتْ عَقْلِي بِقَامَتِهَا        إِنْ لَانَ مِنْهَا فُؤَادٌ يُشْبِهُ الْحَجَرَا

أَطْمَعْتُ نَفْسِي وَقُلْتُ الْيَوْمَ أَمْلُكُهَا        عَلَى الرَّهَانِ وَلَا خَوْفًا وَلَا حَذَرَا

لَا زَالَ يَطْمَعُ قَلْبِي فِي تَوَاصُلِهَا        حَتَّى بَقِيتُ عَلَى الْحَالَيْنِ مُفْتَقِرَا

هَلْ يَرْجِعُ الصَّبُّ عَنْ عِشْقٍ أَضَرَّ بِهِ        وَلَوْ غَدَا فِي بِحَارِ الْوَجْدِ مُنْحَدِرَا

فَأَصْبَحَ الْعَبْدُ لَا مَالٌ يُقَلِّبُهُ        أَسِيرَ شَوْقٍ وَوَجْدٍ مَا قَضَى وَطَرَا

فلما سمعَتْ زين المواصف هذه الأبيات تعجَّبَتْ من فصاحة لسانه، وقالت له: يا مسرور، دَعْ عنك هذا الجنون، وارجعْ إلى عقلك وامضِ إلى حال سبيلك، فقد أفنيتَ مالَكَ وعقارَك في لعب الشطرنج ولم تحصل غرضك، وليس لك جهة من الجهات توصِّلك إليه. فالتفَتَ مسرور إلى زين المواصف وقال لها: يا سيدتي، اطلبي أيَّ شيءٍ ولكِ كلُّ ما تطلبينه، فإني أجيء به إليك وأحضره بين يدَيْكِ. فقالت: يا مسرور، ما بقي معك شيء من المال! فقال لها: يا منتهى الآمال، إذا لم يكن عندي شيء من المال تساعدني الرجال. فقالت له: هل الذي يعطي يصير مستعطيًا؟ فقال لها: إنَّ لي قرائب وأصحابًا، ومهما طلبته يعطوني إياه. فقالَتْ له: أريد منك أربعَ نوافح من المسك الأدفر، وأربعةَ أوانٍ من الغالية، وأربعة أرطال من العنبر، وأربعة آلاف دينار، وأربعمائة حلة من الديباج الملوكي المزركش، فإنْ كنتَ يا مسرور تأتي بذلك الأمر، أبحث لك الوصال. فقال لها: هذا عليَّ هيِّن يا مخجلة الأقمار. ثم إن مسرورًا خرج من عندها ليأتيها بذلك الذي طلبَتْه منه، فأرسلت خلفه هبوبَ الجارية حتى تنظر قدره عند الناس الذين ذكرهم لها، فبينما هو يمشي في شوارع المدينة إذ لاحت منه التفاتة، فرأى هبوبَ على بُعْدٍ، فوقف إلى أنْ لحقَتْه، فقال لها: يا هبوب، إلى أين ذاهبة؟ فقالت له: إن سيدتي أرسلَتْني خلفك من أجل كذا وكذا. وأخبرته بما قالته لها زين المواصف من أوله إلى آخِره. فقال: والله يا هبوب إن يدي لا تملك شيئًا من المال. قالت له: فلأي شيء وعدْتَها؟ فقال: كَمْ من وعدٍ لا يَفِي به صاحبُه، والمَطْل في الحب لا بدَّ منه. فلما سمعت هبوب ذلك منه قالت له: يا مسرور، طِبْ نفسًا وقرَّ عينًا، والله لأكونن سببًا في اتصالك بها.

ثم إنها تركته ومشت، وما زالت ماشيةً إلى أن وصلَتْ إلى سيدتها، فبكَتْ بكاءً شديدًا وقالت لها: يا سيدتي، والله إنه رجل كبير المقدار محترم عند الناس. فقالت لها سيدتها: لا حيلةَ في قضاء الله تعالى، إن هذا الرجل ما وجد عندنا قلبًا رحيمًا لأننا أخذنا ماله، ولم يجد عندنا مودة ولا شفقة في الوصال، وإنْ ملتُ إلى مراده أخاف أن يشيع الأمر. فقالت لها هبوب: يا سيدتي، ما سهل علينا حاله وأخذ ماله، ولكن ما عندك إلا أنا وجاريتك سكوب، فمَن يقدر أن يتكلَّم منَّا فيكِ ونحن جواريك؟ فعند ذلك أطرقَتْ برأسها إلى الأرض، فقال لها الجواري: يا سيدتي، الرأي عندنا أن ترسلي خلفه وتُنعِمي عليه، ولا تدعيه يسأل أحدًا من اللئام، فما أمَرَّ السؤال! فقبلت كلامَ الجواري، ودعَتْ بدواةٍ وقرطاسٍ، وكتبَتْ إليه هذه الأبيات:

دَنَا الْوَصْلُ يَا مَسْرُورُ فَابْشِرْ بِلَا مَطْلِ        إِذَا اسْوَدَّ جُنْحُ اللَّيْلِ فَلْتَأْتِ بِالْفِعْلِ

وَلَا تَسْأَلِ الْأَنْذَالَ فِي الْمَالِ يَا فَتًى        فَقَدْ كُنْتُ فِي سُكْرِي وَقَدْ رُدَّ لِي عَقْلِي

فَمَالُكَ مَرْدُودٌ عَلَيْكَ جَمِيعُهُ        وَزِدْتُكَ يَا مَسْرُورُ مِنْ فَوْقِهِ وَصْلِي

لِأَنَّكَ ذُو صَبْرٍ وَفِيكَ حَلَاوَةٌ        عَلَى جَوْرِ مَحْبُوبٍ جَفَاكَ بِلَا عَدْلِ

فَبَادِرْ لِتَغْنَمْ وَصْلَنَا وَلَكَ الْهَنَا        وَلَا تُعْطِ إِهْمَالًا فَيَدْرِي بِنَا أَهْلِي

هَلُمَّ إِلَيْنَا مُسْرِعًا غَيْرَ مُبْطِئٍ        وَكُلْ مِنْ ثِمَارِ الْوَصْلِ فِي غَيْبَةِ الْبَعْلِ

ثم إنها طوَتِ الكتابَ وأعطَتْه لجاريتها هبوب، فأخذته ومضَتْ به إلى مسرور، فوجدَتْه يبكي وينشد قول الشاعر:

وَهَبَّ عَلَى قَلْبِي نَسِيمٌ مِنَ الْجَوَى        فَفَتَّتَ الْأَكْبَادَ مِنْ فَرْطِ لَوْعَتِي

لَقَدْ زَادَ وَجْدِي بَعْدَ بُعْدِ أَحِبَّتِي        وَفَاضَتْ جُفُونِي فِي تَزَايُدِ عَبْرَتِي

وَعِنْدِي مِنَ الْأَوْهَامِ مَا إِنْ أَبُحْ بِهِ        لِصُمِّ الْحَصَى وَالصَّخْرِ لَانَتْ بِسُرْعَةِ

أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَرَى مَا يَسُرُّنِي        وَأَحْظَى بِمَا أَرْجُوهُ مِنْ نَيْلِ بُغْيَتِي

وَتُطْوَى لَيَالِي الصَّدِّ مِنْ بَعْدِ هَجْرِهَا        وَأَبْرَأُ مِمَّا دَاخَلَ الْقَلْبَ خَلَّتِي

وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 849﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن مسرورًا لما زاد به الهيام، صار ينشد الأشعار وهو في غاية الشوق، فبينما هو يترنَّم بتلك الأبيات ويردِّدها؛ إذ سمعته هبوب فطرقَتْ عليه الباب، فقام وفتح لها فدخلَتْ وناولَتْه الكتاب، فأخذه وقرأه وقال لها: يا هبوب، ما وراءك من أخبار سيدتك؟ فقالت: يا سيدي، إن في هذا الكتاب ما يُغنِي عن ردِّ الجواب، وأنت من ذوي الألباب. ففرح مسرور فرحًا شديدًا وأنشد هذين البيتين:

وَرَدَ الْكِتَابُ فَسَرَّنَا مَضْمُونُهُ        وَسُرِرْتُ أَنِّي فِي الْفُؤَادِ أَصُونُهُ

وَازْدَدْتُ شَوْقًا عِنْدَمَا قَبَّلْتُهُ        فَكَأَنَّمَا دُرُّ الْهَوَى مَكْنُونُهُ

ثم إنه كتب كتابًا جوابًا لها وأعطاه لهبوب، فأخذته وأتَتْ به إلى زين المواصف، فلما وصلَتْ إليها به صارت تشرح لها محاسنه، وتذكر أوصافه وكرمه، وصارت مساعِدةً له على جَمْع شمْلِه بها، فقالت لها زين المواصف: يا هبوب، إنه أبطأ عن الوصول إلينا. فقالت لها هبوب: إنه سيأتي سريعًا. فلم تستتم كلامها وإذا به قد أقبَلَ وطرق الباب، ففتحَتْ له وأخذَتْه وأجلسَتْه عند سيدتها زين المواصف، فسلَّمَتْ عليه ورحَّبَتْ به وأجلسته إلى جانبها، ثم قالت لجاريتها هبوب: هاتِ له بدلةً من أحسن ما يكون. فقامت هبوب وأتَتْ ببدلة مذهبة، فأخذتها وأفرغتها عليه، وأفرغت على نفسها بدلة أيضًا من أفخر الملابس، ووضعت على رأسها سبيكةً من اللؤلؤ الرطب، وربطت على السبيكة عصابةً من الديباج مكلَّلة بالدر والجوهر واليواقيت، وأرخَتْ من تحت العصابة سالفتين، ووضعت في كل سالفة ياقوتة حمراء مرقومة بالذهب الوهَّاج، وأرخَتْ شَعْرها كأنه الليل الداجي، وتبخَّرَتْ بالعود وتعطَّرَتْ بالمسك والعنبر، فقالت لها جاريتها هبوب: الله يحفظك من العين. فصارَتْ تمشي وتتبختر في خطواتها وتتعطَّف، فأنشدت الجارية من بديع شعرها هذه الأبيات:

خَجِلَتْ غُصُونُ الْبَانِ مِنْ خَطَوَاتِهَا        وَسَطَتْ عَلَى الْعُشَّاقِ مِنْ لَحَظَاتِهَا

قَمَرٌ تَبَدَّى فِي غَيَاهِبِ شَعْرِهَا        كَالشَّمْسِ تُشْرِقُ فِي دُجَى وَفَرَاتِهَا

طُوبَى لِمَنْ بَاتَتْ تَلِيهِ بِحُسْنِهَا        وَيَمُوتُ فِيهَا حَالِفًا بِحَيَاتِهَا

فشكَرَتْها زين المواصف، ثم إنها أقبَلَتْ على مسرور وهي كالبدر المشهور، فلما رآها مسرور نهض قائمًا على قدمَيْه، وقال: إنْ صدقني ظني، فما هي إنسية وإنما هي من عرائس الجنة. ثم إنها دعَتْ بالمائدة فحضرت، وإذا مكتوب على أطراف المائدة هذه الأبيات:

عُجْ بِالْمَلَاعِقِ فِي رَبْعِ السَّكَارِيجِ        وَلُذْ بِنَوْعِ الْقَلَايَا وَالطَّيَاهِيجِ

عَلَيْهِ … مَا زِلْتُ أَعْشَقُهَا        مَعَ الْفِرَاخِ … وَالْفَرَارِيجِ

لِلهِ دَرُّ الْكَبَابِ الَّذِي يَزْهُو بِحُمْرَتِهِ        وَالْبَقْلُ يُغْمَسُ فِي خَلِّ السَّكَارِيجِ

نِعْمَ الْأَرُزُّ بِأَلْبَانِ الْحَلِيبِ غَدَتْ        فِيهِ الْكُفُوفُ إِلَى حَدِّ الدَّمَالِيجِ

يَا لَهْفَ قَلْبِي عَلَى لَوْنَيْنِ مِنْ سَمَكٍ        لَدَى رَغِيفَيْنِ مِنْ خُبْزِ التَّوَارِيجِ

ثم إنهم أكلوا وشربوا وتلذَّذوا وطربوا، ورُفِعت سُفْرة الطعام وقدَّموا سُفْرة المُدَام، ودار بينهم الكأس والطاس، وطابت لهم الأنفاس، وملأ الكأسَ مسرور وقال: يا مَن أنا عبدها وهي سيدتي. ثم صار يترنَّم بإنشاد هذه الأبيات:

عَجِبْتُ لِعَيْنِي إِنْ تَمِلْ لِمُلَالِهَا        بِحُسْنِ فَتَاةٍ أَشْرَقَتْ بِجَمَالِهَا

وَلَيْسَ لَهَا فِي عَصْرِهَا مِنْ مُشَابِهٍ        لِلُطْفِ مَعَانِيهَا وَحُسْنِ خِصَالِهَا

وَيَحْسُدُ غُصْنُ الْبَانِ لِينَ قَوَامِهَا        إِذَا خَطَرَتْ فِي حُلَّةٍ بِاعْتِدَالِهَا

بِوَجْهٍ مُنِيرٍ يُخْجِلُ الْبَدْرَ فِي الدُّجَى        وَفَرْقٍ حَكَى فِي النُّورِ ضَوْءَ هِلَالِهَا

إِذَا خَطَرَتْ فِي الْأَرْضِ يَعْبَقُ نَشْرُهَا        نَسِيمًا يُرَى فِي سَهْلِهَا وَجِبَالِهَا

فلما فرغ مسرور من شعره قالت: يا مسرور، كلُّ مَن تمسَّكَ بدينه وقد أكل خبزنا وملحنا، وجَبَ حقُّه علينا، فخلِّ عنك هذه الأمور، وأنا أرد عليك أملاكك وجميع ما أخذناه منك. فقال: يا سيدتي، أنتِ في حِلٍّ مما تذكرينه، وإنْ كنت غدرت في اليمين التي بيني وبينك فأنا أروح وأصير مسلمًا. فقالت لها جاريتها هبوب: يا سيدتي، أنتِ صغيرة السن وتعرفين كثيرًا، وأنا أستشفع عندك بالله العظيم، فإنْ لم تطيعيني في أمري وتَجْبري خاطري، لا أنام الليلةَ عندك في الدار. فقالت لها: يا هبوب، لا يكون إلا ما تريدينه، قومي جدِّدِي لنا مجلسًا آخَر. فنهضَتِ الجاريةُ هبوب وجدَّدَتْ مجلسًا وزيَّنَتْه وعطَّرَتْه بأحسن العطر كما تحب وتختار، وجهَّزَتِ الطعامَ وأحضرَتِ المُدَام، ودار بينهم الكأس والطاس، وطابت منهم الأنفاس. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 850﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن زين المواصف لما أمرَتْ جاريتها هبوب بتجديد مجلس الأنس، قامت وجدَّدَتِ الطعام والمُدام، ودار بينهم الكأس والطاس، وطابت منهم الأنفاس، فقالت زين المواصف: يا مسرور، قد آنَ أوانُ اللقاء والتداني، فإن كنتَ لحبِّنا تعاني، فأنشِدْ لنا شعرًا بديعَ المعاني. فأنشَدَ مسرور هذه القصيدة:

أُسِرْتُ وَفِي قَلْبِي لَهِيبٌ تَضَرَّمَا        بِحَبْلِ وِصَالٍ فِي الْفِرَاقِ تَصَرَّمَا

أُحِبُّ فَتَاةً قَدَّ قَلْبِي قَوَامُهَا        وَقَدْ سَلَبَتْ عَقْلِي بِخَدٍّ تَنَعَّمَا

لَهَا الْحَاجِبُ الْمَقْرُونُ وَالطَّرْفُ أَحْوَرُ        وَثَغْرٌ يُحَاكِي الْبَرْقَ حِينَ تَبَسَّمَا

لَهَا مِنْ سِنِينَ الْعُمْرِ عَشْرٌ وَأَرْبَعٌ        وَدَمْعِي حَكَى فِي حُبِّ هَاتِيكَ عِنْدَمَا

فَعَايَنْتُهَا مَا بَيْنَ نَهْرٍ وَرَوْضَةٍ        بِوَجْهٍ يَفُوقُ الْبَدْرَ فِي أُفُقِ السَّمَا

وَقَفْتُ لَهَا شِبْهَ الْأَسِيرِ مَهَابَةً        وَقُلْتُ سَلَامُ اللهِ يَا سَاكِنَ الْحِمَى

فَرَدَّتْ سَلَامِي عِنْدَ ذَلِكَ رَغْبَةً        بِلُطْفِ حَدِيثٍ مِثْلِ دُرٍّ تَنَظَّمَا

وَحِينَ رَأَتْ قَوْلِي لَدَيْهَا تَحَقَّقَتْ        مَرَامِي وَصَارَ الْقَلْبُ مِنْهَا مُصَمَّمَا

وَقَالَتْ أَمَا هَذَا الْكَلَامُ جَهَالَةٌ        فَقُلْتُ لَهَا كُفِّي عَنِ الصَّبِّ التَّلَوُّمَا

فَإِنْ تَقْبَلِينِي الْيَوْمَ فَالْخَطْبُ هَيِّنٌ        فَمِثْلُكِ مَعْشُوقٌ وَمِثْلِي مُتَيَّمَا

فَلَمَّا تَيَقَّنَتِ الْمَرَامَ تَبَسَّمَتْ        وَقَالَتْ وَرَبِّ خَالِقِ الْأَرْضِ وَالسَّمَا

يَهُودِيَّةٌ أَقْسَى التَّهَوُّدِ دِينُهَا        وَمَا أَنْتَ إِلَّا لِلنَّصَارَى مُلَازِمَا

فَكَيْفَ تَرَى وَصْلِي وَلَسْتَ بِمِلَّتِي        فَمَنْ رَامَ هَذَا الْفِعْلَ أَصْبَحَ نَادِمَا

أَتَلْعَبُ بِالدِّينَيْنِ هَلْ حُلَّ فِي الْهَوَى        لِتُصْبِحَ مِثْلِي بِالمَلَامِ مُكَلَّمَا

وَتَمْضِي بِهَذَا الْأمْرِ فِي كُلِّ وُجْهَةٍ        وَتَبْقَى عَلَى دِينِي وَدِينِكَ مُجْرِمَا

فَإِنْ كُنْتَ تَهْوَانِي تَهَوَّدْ مَحَبَّةً        وَصَيِّرْ سِوَى وَصْلِي عَلَيْكَ مُحَرَّمَا

وَتَحْلِفُ بِالْإِنْجِيلِ قَوْلًا مُحَقَّقًا        لِتَحْفَظَ سِرِّي فِي هَوَاكَ وَتَكْتُمَا

وَأَحْلِفُ بِالتَّوْرَاةِ أَيْمَانَ صَادِقٍ        بِأَنِّي عَلَى الْعَهْدِ الَّذِي قَدْ تَقَدَّمَا

حَلَفْتُ عَلَى دِينِي وَشَرْعِي وَمَذْهَبِي        وَحَلَّفْتُهَا مِثْلِي يَمِينًا مُعَظَّمَا

وَقُلْتُ لَهَا مَا الْإِسْمُ يَا غَايَةَ الْمُنَى        فَقَالَتْ أَنَا زَيْنُ الْمَوَاصِفِ فِي الْحِمَى

فَنَادَيْتُ يَا زَيْنَ الْمَوَاصِفِ إِنَّنِي        بِحُبِّكِ مَشْغُوفٌ فَعِينِي الْمُتَيَّمَا

وَعَايَنْتُ مِنْ تَحْتِ اللِّثَامِ جَمَالَهَا        فَصِرْتُ كَئِيبًا سَيِّئَ الْحَالِ مُغْرَمَا

فَمَا زِلْتُ تَحْتَ السِّتْرِ أَخْضَعُ شَاكِيًا        كَثِيرَ غَرَامٍ فِي الْفُؤَادِ تَحَكَّمَا

فَلَمَّا رَأَتْ حَالِي وَفَرْطَ تَوَلُّهِي        جَلَتْ لِيَ وَجْهًا ضَاحِكًا مُتَبَسِّمَا

وَهَبَّ لَنَا رِيحُ الْوِصَالِ وَعَطَّرَتْ        نَوافِحُ عِطْرِ الْمِسْكِ جِيدًا وَمِعْصَمَا

وَقَدْ عَبَقَتْ مِنْهَا الْأَمَاكِنُ كُلُّهَا        وَقَبَّلْتُ مِنْ فِيهَا رَحِيقًا وَمَبْسِمَا

وَمَالَتْ كَغُصْنِ الْبَانِ تَحْتَ غَلَائِلَ        وَحَلَّلْتُ وَصْلًا كَانَ قَبْلُ مُحَرَّمَا

نَعِمْنَا جَمِيعًا وَالْقُمَيْرُ سَمِيرُنَا        بِضَمٍّ وَلَثْمٍ وَارْتِشَافٍ مِنَ اللَّمَى

وَمَا زِينَةُ الدُّنْيَا سِوَى مَنْ تُحِبُّهُ        يَكُونُ قَرِيبًا مِنْكَ كَيْ تَتَنَعَّمَا

فَلَمَّا تَجَلَّى الصُّبْحُ قَامَتْ وَوَدَّعَتْ        بَوَجْهٍ جَمِيلٍ فَائِقٍ قَمَرَ السَّمَا

وَقَدْ أَنْشَدَتْ عِنْدَ الْوَدَاعِ وَدَمْعُهَا        وَدَمْعِي عَلَى الْخَدَّيْنِ دُرًّا مُنَظَّمَا

فَإِنْ أَنْسَ مَا أَنْسَى عُهُودًا قَطَعْتُهَا        وَحُسْنَ اللَّيَالِي وَالْيَمِينَ الْمُعَظَّمَا

فعند ذلك طربت زين المواصف وقالت: يا مسرور، ما أحسن معانيك! ولا عاش مَن يُعادِيك. ثم دخلت المقصورة ودعَتْ بمسرور، فدخل عندها واحتضَنَها وعانَقَها وقبَّلها، وبلغ منها ما ظنَّ أنه محالٌ، وفرح بما نال من طِيبِ الوصال، فعند ذلك قالت له زين المواصف: يا مسرور، إن مالك حرام علينا حلال لك؛ لأننا قد صرنا أحبابًا. ثم إنها ردَّتْ عليه جميعَ ما أخذته من الأموال، وقالت له: يا مسرور، هل لك من روضة تأتي إليها ونتفرج عليها؟ قال: نعم يا سيدتي، لي روضة ليس لها نظير. ثم مضى إلى منزله وأمر جواريه أن يصنعْنَ طعامًا فاخرًا، وأن يهيِّئن مجلسًا حسنًا وصحبة عظيمة، ثم إنه دعاها إلى منزله، فحضرت هي وجواريها فأكلوا وشربوا وتلذَّذوا وطربوا، ودار بينهم الكأس والطاس، وطابت منهم الأنفاس، وخلا كل حبيب بحبيبه، فقالت له: يا مسرور، إنه خطر ببالي شعر رقيق أريد أن أقوله على العود. فقال لها: قوليه. فأخذت العود بيدها وأصلحَتْ شأنه وحرَّكَتْ أوتاره وحسَّنت النغمات، وأنشدت تقول هذه الأبيات:

قَدْ مَالَ بِي طَرَبٌ مِنَ الْأَوْتَارِ        وَصَفَا الصَّبُوحُ لَنَا لَدَى الْأَسْحَارِ

وَالْحُبُّ يَكْشِفُ عَنْ فُؤَادِ مُتَيَّمٍ        فَبَدَا الْهَوَى بَتَهَتُّكِ الْأَسْتَارِ

مَعْ خَمْرَةٍ رَقَّتْ بِحُسْنِ صِفَاتِهَا        كَالشَّمْسِ تُجْلَى فِي يَدِ الْأَقْمَارِ

فِي لَيْلَةٍ جَاءَتْ لَنَا بِسُرُورِهَا        تَمْحُو بِصَفْوٍ شَائِبَ الْأَكْدَارِ

فلما فرغت من شعرها قالت له: يا مسرور، أنشِدْنا شيئًا من أشعارك، ومتِّعْنا بفواكه أثمارك. فأنشَدَ هذين البيتين:

طَرِبْنَا عَلَى بَدْرٍ يُدِيرُ مُدَامَةً        وَنَغْمَةَ عُودٍ فِي رِيَاضِ مَقَامِنَا

وَغَنَّتْ قَمَارِيهَا وَمَالَتْ غُصُونُهَا        سُحَيْرًا وَفِي أَنْحَائِهَا غَايَةُ الْمُنَى

فلما فرغ من شعره، قالت له زين المواصف: أنشِدْ لنا شعرًا فيما وقَعَ لنا، إنْ كنتَ مشغولًا بحبنا. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

 

 

 

السابق                                                                     التــــالي←

 

 

Read our comment Policy to know your rights & responsibilities before actually leaving a comment for this article.

Post a Comment (0)