﴿اللیلة 751﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن زوجة الملك لما قالت للملك: إن هذا ليس بطائر، وإنما
هو رجل مثلك، وهو الملك بدر باسم ابن الملك شهرمان وأمه جلناز البحرية، قال لها:
وكيف صار إلى هذا الشكل؟ قالت له: إنه قد سحرته الملكة جوهرة بنت الملك السمندل.
ثم حدَّثَتْه بما جرى له من أوله إلى آخره، وأنه قد خطب جوهرة من أبيها، فلم
يَرْضَ أبوها بذلك، وأن خاله صالحًا اقتتل هو والملك السمندل، وانتصر صالح عليه
وأسره. فلما سمع الملك كلام زوجته تعجَّبَ غاية العجب، وكانت هذه الملكة زوجته
أسحر أهل زمانها. فقال لها الملك: بحياتي عليك أن تحليه من سحره، ولا تخليه معذبًا
قطع الله تعالى يد جوهرة، ما أقبحها! وما أقل دينها وأكثر خداعها ومكرها! قالت له
زوجته: قل له: يا بدر باسم ادخل هذه الخزانة. فأمره الملك أن يدخل الخزانة. فلما
سمع كلام الملك دخل الخزانة، فقامت زوجة الملك وسترت وجهها، وأخذت في يدها طاسة
ماء، ودخلت الخزانة وتكلَّمَتْ على الماء بكلامٍ لا يُفهَم، وقالت له: بحق هذه
الأسماء العظام والآيات الكرام، وبحق الله تعالى خالق السموات والأرض، ومحيي
الأموات، وقاسم الأرزاق والآجال، أن تخرج من هذه الصورة التي أنت فيها، وترجع إلى
الصورة التي خلقك الله عليها. فلم يتم كلامها حتى انتفض نفضة، ورجع إلى صورته،
فرآه الملك شابًّا مليحًا ما على وجه الأرض أحسن منه.
ثم
إن الملك بدر باسم لما نظر إلى هذه الحالة قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله،
سبحان خالق الخلائق، ومُقدِّر أرزاقهم وآجالهم. ثم إنه قبَّلَ يدي الملك ودعا له
بالبقاء، وقبَّلَ الملك رأس بدر باسم وقال له: يا بدر باسم، حدِّثني بحديثك من
أوله إلى آخِره. فحدَّثَه الملك بحديثه ولم يكتم منه شيئًا، فتعجب الملك من ذلك،
ثم قال له: يا بدر باسم، قد خلَّصَك الله من السحر، فما الذي اقتضاه رأيك؟ وما
تريد أن تصنع؟ قال له: يا ملك الزمان، أريد من إحسانك أن تجهِّز لي مركبًا وجماعة
من خدامك، وجميع ما أحتاج إليه، فإن لي زمانًا طويلًا وأنا غائب، وأخاف أن تروح
المملكة مني، وما أظن أن والدتي بالحياة من أجل فراقي، والغالب على ظني أنها ماتت
من حزنها عليَّ؛ لأنها لا تدري ما جرى لي، ولا تعرف هل أنا حي أم ميت، وأنا أسألك
أيها الملك أن تتم إحسانك عليَّ بما طلبتُه منك. فلما نظر الملك إلى حُسْنه وجماله
وفصاحته، أجابه وقال له: سمعًا وطاعة. ثم إنه جهَّزَ له مركبًا ونقل فيه ما يحتاج
إليه، وسيَّرَ معه جماعة من خدامه، فنزل في المركب بعد أن ودَّعَ الملك، وساروا في
البحر وساعدهم الريح. ولم يزالوا سائرين مدة عشرة أيام متوالية، ولما كان اليوم
الحادي عشر هاج البحر هيجانًا شديدًا، وصار المركب يرتفع وينخفض، ولم تقدر البحرية
أن يمسكوه، ولم يزالوا على هذه الحالة والأمواج تلعب بهم حتى قربوا إلى صخرة من
صخر البحر، فوقعت تلك الصخرة على المركب، فانكسر وغرق جميع مَن كان فيه إلا الملك
بدر باسم، فإنه ركب على لوحٍ من الألواح بعد أن أشرف على الهلاك. ولم يزل ذلك
اللوح يجري به في البحر، ولا يدري إلى أين هو ذاهب، وليس له حيلة في منع اللوح، بل
سار اللوح به مع الماء والريح.
ولم
يزل كذلك مدة ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع طلع به اللوح على ساحل البحر، فوجد
هناك مدينة بيضاء مثل الحمامة الشديدة البياض، وهي مبنية في الجزيرة التي على ساحل
البحر، لكنها عالية الأركان، مليحة البنيان، رفيعة الحيطان، والبحر يضرب في سورها.
فلما عايَنَ الملك بدر باسم تلك الجزيرة التي فيها هذه المدينة، فرح فرحًا شديدًا،
وكان قد أشرف على الهلاك من الجوع والعطش، فنزل من فوق اللوح وأراد أن يصعد إلى
المدينة، فأتت إليه بغال وحمير وخيول عدد الرمل، فصاروا يضربونه ويمنعونه أن يطلع
من البحر إلى المدينة. ثم إنه عام خلف تلك المدينة، وطلع إلى البر، فلم يجد هناك
أحدًا، فتعجَّبَ وقال: يا تُرَى، لمَن هذه المدينة؟ وهي ليس لها ملك، ولا فيها
أحد، ومن أين هذه البغال والحمير والخيول التي منعَتْني من الطلوع؟ وصار متفكِّرًا
في أمره وهو ماشٍ، وما يدري أين يذهب. ثم بعد ذلك رأى شيخًا بقالًا، فلما رآه
الملك بدر باسم سلَّمَ عليه فردَّ عليه السلام، ونظر إليه الشيخ فرآه جميلًا، فقال
له: يا غلام، من أين أقبلتَ؟ ومَن أوصلك إلى هذه المدينة؟ فحدَّثه بحديثه من أوله
إلى آخِره، فتعجَّبَ منه وقال له: يا ولدي، أَمَا رأيتَ أحدًا في طريقك؟ فقال له:
يا والدي، إنما أتعجب من هذه المدينة حيث كانت خالية من الناس. فقال له الشيخ: يا
ولدي، اطلع إلى الدكان لئلا تهلك. فطلع بدر باسم، وقعد في الدكان، فقام الشيخ وجاء
له بشيء من الطعام، وقال له: يا ولدي، ادخل في داخل الدكان، فسبحان مَن سلَّمك من
هذه الشيطانة. فخاف الملك بدر باسم خوفًا شديدًا، ثم أكل من طعام الشيخ حتى اكتفى،
وغسل يده، ونظر إلى الشيخ وقال له: يا سيدي، ما سبب هذا الكلام؟ فقد خوَّفْتَني من
هذه المدينة، ومن أهلها. فقال له الشيخ: يا ولدي، اعلم أن هذه المدينة مدينة
السَّحَرَة، وبها ملكة ساحرة كأنها شيطانة، وهي كاهنة سحَّارة مكَّارة غدَّارة،
والتي تنظرها من الخيل والبغال والحمير، هؤلاء كلهم مثلك ومثلي من بني آدم، لكنهم
غرباء؛ لأن كلَّ مَن يدخل هذه المدينة وهو شاب مثلك، تأخذه هذه الكافرة الساحرة،
وتقعد معه أربعين يومًا، وبعد الأربعين يومًا تسحره فيصير بغلًا أو فرسًا أو
حمارًا من هذه الحيوانات التي نظرتها على جانب البحر. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ
عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 752﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الشيخ البقَّال لما حكى للملك بدر باسم، وأخبره بحال
الملكة السحارة، قال له: إن كل أهل هذه المدينة قد سحرتهم، وإنك لما أردت الطلوع
إلى البحر خافوا عليك أن تسحرك مثلهم، فقالوا لك بالإشارة: لا تطلع لئلا تراك
الساحرة. شفقة عليك، فربما تعمل فيك مثلما عملت فيهم، وقال له: إنها قد ملكت هذه
المدينة من أهلها بالسحر، واسمها الملكة لاب، وتفسيره بالعربي تقويم الشمس. فلما
سمع الملك بدر باسم ذلك الكلام من الشيخ خاف خوفًا شديدًا، وصار يرتعد مثل القصبة
الريحية، وقال له: أنا ما صدقت أني خلصت من البلاء الذي كنتُ فيه من السحر، حتى
ترميني المقادير في مكان أقبح منه؟ فصار متفكرًا في حاله وما جرى له. فلما نظر
إليه الشيخ رآه قد اشتد خوفه، فقال له: يا ولدي، قم واجلس على عتبة الدكان، وانظر
إلى تلك الخلائق وإلى لباسهم وألوانهم، وما هم فيه من السحر، ولا تَخَفْ فإن
الملكة وكلَّ مَن في المدينة يحبني ويراعيني، ولا يرجفون لي قلبًا، ولا يتعبون لي
خاطرًا. فلما سمع الملك بدر باسم كلام الشيخ خرج وقعد على باب الدكان يتفرج، فجازت
عليه الناس، فنظر إلى عالم لا يُحصَى عدده، فلما نظره الناس تقدموا إلى الشيخ
وقالوا له: يا شيخ، هل هذا أسيرك وصيدك في هذه الأيام؟ فقال لهم: هذا ابن أخي،
وسمعت أن أباه قد مات، فأرسلت خلفه وأحضرته لأطفئ نار شوقي به. فقالوا له: إن هذا
شاب مليح الشباب، ولكن نحن نخاف عليه من الملكة لاب لئلا ترجع عليك بالغدر، وتأخذه
منك؛ لأنها تحب الشباب الملاح. فقال لهم الشيخ: إن الملكة لا تعصي أمري، وهي
تراعيني وتحبني، وإذا علمت أنه ابن أخي لا تتعرَّض له ولا تسوءني فيه ولا تشوش
خاطري به. فأقام الملك بدر باسم عند الشيخ مدة أشهر في أكل وشرب، وحبه الشيخ محبة
عظيمة.
ثم
إن بدر باسم كان جالسًا على دكان الشيخ ذات يوم على جري عادته، وإذا بألف خادم
وبأيديهم السيوف مجردة وعليهم أنواع الملابس، وفي وسطهم المناطق المرصعة بالجواهر،
وهم راكبون الخيول العربية متقلدون السيوف الهندية، وقد جاءوا على دكان الشيخ
وسلموا عليه ثم مضوا، وجاء بعدهم ألف جارية كأنهن الأقمار، وعليهن أنواع الملابس
من الحرير الأطلس مطرزة بطرازات الذهب مرصعة بأنواع الجواهر، وكلهن متقلدات الرماح،
وفي وسطهن جارية راكبة على فرس عربية عليها سرج من الذهب مرصع بأنواع الجواهر
واليواقيت، ولم يزلن سائرات حتى وصلن إلى دكان الشيخ وسلمن عليه، ثم توجهن، وإذا
بالملكة لاب قد أقبلت في موكب عظيم، وما زالت مقبلة إلى أن وصلت إلى دكان الشيخ،
فرأت الملك بدر باسم وهو جالس على الدكان كأنه بدر في تمامه، فلما رأته الملكة لاب
حارت في حُسْنه وجماله، واندهشت وصارت ولهانة به، ثم أقبلت على الدكان ونزلت وجلست
عند الملك بدر باسم وقالت للشيخ: من أين لك هذا المليح؟ فقال: هذا ابن أخي جاءني
عن قريب. فقالت: دعه يكون الليلة عندي لأتحدث أنا وإياه. قال لها: أتأخذينه مني
ولا تسحرينه؟ قالت: نعم. قال: احلفي لي. فحلفت أنها لا تؤذيه ولا تسحره، ثم أمرت
أن يقدموا له فرسًا مليحًا مسرجًا ملجمًا بلجامٍ من ذهب، وكل ما عليه ذهب مرصع
بالجواهر، ووهبت للشيخ ألف دينار وقالت له: استعِنْ به. ثم إن الملكة لاب أخذت
الملك بدر باسم، وراحت به وهو كأنه البدر في ليلة أربعة عشر، وسار معها، وصار
الناس كلما نظروا إليه وإلى حُسْنه وجماله يتوجعون عليه، ويقولون: والله إن هذا
الشاب لا يستحق أن تسحره هذه الملعونة. والملك بدر باسم يسمع كلام الناس، ولكنه
ساكت وقد سلَّمَ أمره إلى الله تعالى، ولم يزالوا سائرين إلى القصر. وأدرك شهرزاد
الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 753﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك بدر باسم لم يزل سائرًا هو والملكة لاب
وأتباعها إلى أن وصلوا إلى باب القصر، ثم ترجَّلَ الأمراء والخدام وأكابر الدولة،
وقد أمرت الحجاب أن يأمروا أرباب الدولة كلهم بالانصراف، فقبَّلوا الأرض وانصرفوا،
ودخلت الملكة والخدام والجواري في القصر، فلما نظر الملك بدر باسم إلى القصر، رأى
قصرًا لم يَرَ مثله قطُّ، وحيطانه مبنية بالذهب، وفي وسط القصر بِرْكة عظيمة غزيرة
الماء في بستان عظيم، فنظر الملك بدر باسم إلى البستان، فرأى فيه طيورًا تناغي
بسائر اللغات والأصوات المفرحة والمحزنة، وتلك الطيور من سائر الأشكال والألوان،
فنظر الملك بدر باسم إلى مُلْك عظيم، فقال: سبحان الله مِن كرمه وحلمه يرزق من
يعبد غيره، فجلست الملكة في شباك يشرف على البستان، وهي على سرير من العاج وفوق
السرير فرش عالٍ، وجلس الملك بدر باسم إلى جانبها فقبلته وضمته إلى صدرها، ثم أمرت
الجواري بإحضار مائدة، فحضرت مائدة من الذهب الأحمر مرصعة بالدر والجوهر، وفيها من
سائر الأطعمة، فأكلا حتى اكتفيا وغسلا أيديهما، ثم أحضرت الجواري أواني الذهب
والفضة والبلور، وأحضرت أيضًا جميع أجناس الأزهار وأطباق النقل. ثم إنها أمرت
بإحضار مغنيات، فحضر عشر جوارٍ كأنهن الأقمار بأيديهن سائر آلات الملاهي. ثم إن
الملكة ملأت قدحًا وشربته، وملأت آخَر وناولت الملك بدر باسم إياه فأخذه وشربه، ولم
يزالا كذلك يشربان حتى اكتفيا، ثم أمرت الجواري أن يغنين، فغنين بسائر الألحان،
وتخيل للملك بدر باسم أنه يرقص به القصر طربًا، فطاش عقله وانشرح صدره، ونسي
الغربة وقال: إن هذه الملكة شابة مليحة ما بقيت أروح من عندها أبدًا؛ لأن ملكها
أوسع من ملكي، وهي أحسن من الملكة جوهرة، ولم يزل يشرب معها إلى أن أمسى المساء،
وأوقدت القناديل والشموع، وأطلقوا البخور، ولم يزالا يشربان إلى أن سكرا والمغنيات
يغنين، فلما سكرت الملكة لاب قامت من موضعها، ونامت على سرير، وأمرت الجواري
بالانصراف، ثم أمرت الملك بدر باسم بالنوم إلى جانبها، فنام معها في أطيب عيش إلى
أن أصبح الصباح. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 754﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الملكة لما قامت من النوم دخلت الحمام الذي في القصر،
والملك بدر باسم صحبتها، واغتسلا، فلما خرجا من الحمام أفرغت عليه أجمل القماش،
وأمرت بإحضار آلات الشراب، فأحضرتها الجواري فشربا. ثم إن الملكة قامت وأخذت بيد
الملك بدر باسم وجلسا على الكرسي، وأمرت بإحضار الطعام فأكلا وغسلا أيديهم، ثم
قدمت الجواري لهما أواني الشراب والفواكه والأزهار والنقل، ولم يزالا يأكلان
ويشربان والجواري تغني باختلاف الألحان إلى المساء، ولم يزالا في أكل وشرب وطرب
مدة أربعين يومًا. ثم قالت له: يا بدر باسم، هل هذا المكان أطيب أم دكان عمك
البقال؟ قال لها: والله يا ملكة إن هذا طيب، وذلك أن عمي رجل صعلوك يبيع الباقلا.
فضحكت من كلامه، ثم إنهما رقدا في أطيب حال إلى الصباح. فانتبه الملك بدر باسم من
نومه، فلم يجد الملكة لاب بجانبه، فقال: يا ترى، أين راحت؟ وصار مستوحشًا من
غيبتها ومتحيرًا في أمره، وقد غابت عنه مدة طويلة ولم ترجع، فقال في نفسه: أين
ذهبت؟ ثم إنه لبس ثيابه وصار يفتش عليها فلم يجدها، فقال في نفسه: لعلها ذهبت إلى
البستان. فمضى إلى البستان فرأى فيه نهرًا جاريًا، وبجانبه طيرة بيضاء، وعلى شاطئ
ذلك النهر شجرة، وفوقها طيور مختلفة الألوان، فصار ينظر إلى الطيور والطيور لا
تراه، وإذا بطائر أسود نزل على تلك الطيرة البيضاء فصار يزقها زق الحمام، ثم إن
الطير الأسود وثب على تلك الطيرة ثلاث مرات، ثم بعد ساعة انقلبت تلك الطيرة في
صورة بشر فتأملها وإذا هي الملكة لاب، فعلم أن الطير الأسود إنسان مسحور وهي
تعشقه، وتسحر نفسها طيرة ليجامعها، فأخذته الغيرة واغتاظ على الملكة لاب من أجل
الطير الأسود.
ثم
إنه رجع إلى مكانه ونام على فراشه، وبعد ساعة رجعت إليه، وصارت الملكة لاب تقبِّله
وتمزح معه، وهو شديد الغيظ عليها، فلم يكلِّمها كلمة واحدة، فعلمت ما به وتحقَّقت
أنه رآها حين صارت طيرة، وكيف واقَعَها ذلك الطير، فلم تُظهِر له شيئًا، بل كتمت
ما بها. فلما قضى حاجتها قال لها: يا ملكة، أريد أن تأذني لي في الرواح إلى دكان
عمي، فإني قد تشوَّقت إليه ولي أربعون يومًا ما رأيته. فقالت له: رُحْ إليه ولا
تبطئ عليَّ؛ فإني ما أقدر أن أفارقك، ولا أصبر عنك ساعة واحدة. فقال لها: سمعًا
وطاعة. ثم إنه ركب ومضى إلى دكان الشيخ البقال، فرحَّبَ به وقام إليه وعانَقَه،
وقال له: كيف أنت مع هذه الكافرة؟ فقال له: كنتُ طيبًا في خير وعافية، إلا أنها
كانت في هذه الليلة نائمة في جانبي، فاستيقظت فلم أرها، فلبست ثيابي ودرت أفتش
عليها إلى أن أتيت إلى البستان … وأخبره بما رآه من النهر والطيور التي كانت فوق
الشجرة، فلما سمع الشيخ كلامه قال له: احذر منها واعلم أن الطيور التي كانت على
الشجرة كلهم شباب غرباء عشقتهم وسحرتهم طيورًا، وذلك الطير الأسود الذي رأيته كان
من جملة مماليكها، وكانت تحبه محبة عظيمة، فمدَّ عينه إلى بعض الجواري فسحرته في
صورة طير أسود. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 755﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن بدر باسم لما حكى للشيخ البقال جميع حكاية الملكة لاب
وما رآه منها، أعلمه الشيخ أن الطيور التي على الشجر كلها شباب غرباء وسحرتهم،
وكذلك الطير الأسود كان من مماليكها، وسحرته في صورة طير أسود، وكلما اشتاقت إليه
تسحر نفسها طيرة ليجامعها؛ لأنها تحبه محبة عظيمة، ولما علمت أنك علمت بحالها
أضمرت لك السوء ولا تصفى لك، ولكن ما عليك بأس منها ما دمتُ أراعيك أنا فلا
تَخَفْ، فإني رجل مسلم واسمي عبد الله، وما في زماني أسحر مني، ولكني لا أستعمل
السحر إلا عند اضطراري إليه، وكثيرًا ما أبطل سحر هذه الملعونة، وأخلص الناس منها
ولا أبالي بها؛ لأنها ليس لها عليَّ سبيل، بل هي تخاف مني خوفًا شديدًا، وكذلك كل
مَن كان في المدينة ساحرًا مثلها على هذا الشكل يخافون مني، وكلهم على دينها
يعبدون النار دون الملك الجبار، فإذا كان غد تعالَ عندي وأعلِمْني بما تعمله معك،
فإنها في هذه الليلة تسعى في هلاكك، وأنا أقول لك على ما تفعله معها حتى تتخلص من
كيدها.
ثم
إن الملك بدر باسم ودَّع الشيخ ورجع إليها، فوجدها جالسة في انتظاره، فلما رأته
قامت إليه وأجلسته ورحَّبت به وجاءت له بأكل وشرب فأكلا حتى اكتفيا، ثم غسلا
أيديهما، ثم أمرت بإحضار الشراب فحضر، وصارا يشربان إلى نصف الليل، ثم مالت عليه
بالأقداح وصارت تعاطيه حتى سكر وغاب عن حسِّه وعقله. فلما رأته كذلك قالت له:
بالله عليك وبحق معبودك إنْ سألتك عن شيء فهل تخبرني عنه بالصدق، وتجيبني إلى
قولي؟ فقال لها وهو في حالة السكر: نعم يا سيدتي. قالت له: يا سيدي ونور عيني، لما
استيقظتَ من نومك ولم تَرَني وفتشت عليَّ وجئتني في البستان ورأيت الطير الأسود
الذي وثب عليَّ، فأنا أخبرك بحقيقة هذا الطائر، إنه كان من مماليكي وكنت أحبه
محبةً عظيمة، فتطلَّع يومًا لجارية من جواريَّ فحصلتْ لي غيرة، وسحرتُه في صورة
طير أسود، وأما الجارية فإني قتلتها، وإني اليومَ لم أصبر عنه ساعة واحدة، وكلما
اشتقتُ إليه أسحر نفسي طيرة وأروح إليه لينط عليَّ، ويتمكَّن مني كما رأيتَ، أَمَا
أنت لأجل هذا مغتاظ مني؟ مع أني وحق النار والنور والظل والحرور قد ازددت فيك
محبةً، وجعلتُك نصيبي من الدنيا. فقال وهو سكران: إن الذي فهمتِه من غيظي بسبب ذلك
صحيح، وليس لغيظي سببٌ غير ذلك. فضمَّتْه وقبَّلَتْه، وأظهرت له المحبة ونامت ونام
الآخر بجانبها.
فلما
كان نصف الليل قامت من الفراش، والملك بدر باسم منتبهٌ وهو يُظهِر أنه نائم، وصار
يسرق النظر وينظر ما تفعل، فوجدها قد أخرجَتْ من كيس أحمر شيئًا أحمر، وغرسته في
وسط القصر، فإذا هو صار نهرًا يجري مثل البحر، وأخذت كبشةَ شعيرٍ بيدها وبذرتها
فوق التراب، وسقَتْه من هذا الماء فصار زرعًا مسنبلًا، فأخذته وطحنته دقيقًا، ثم
وضعته في موضع ورجعت نامت عند بدر باسم إلى الصباح. فلما أصبح الصباح قام الملك
بدر باسم وغسل وجهه، ثم استأذَنَ الملكةَ في الرواح إلى الشيخ فأذنت له، فذهب إلى
الشيخ وأعلَمَه بما جرى منها، وما عايَنَ، فلما سمع الشيخ كلامه ضحك، وقال: والله
إن هذه الكافرة الساحرة قد مكرت بك، ولكن لا تبالِ بها أبدًا. ثم أخرَجَ له قدرَ
رطلٍ سويقًا، وقال له: خذْ هذا معك، واعلم أنها إذا رأته تقول لك: ما هذا؟ وما
تعمل به؟ فقُلْ لها: زيادة الخير خير. وكُلْ منه، فإذا أخرجَتْ هي سويقها، وقالت
لك: كُلْ من هذا السويق. فأَرِها أنك تأكل منه وكُلْ من هذا، وإياك أن تأكل من
سويقها شيئًا، ولو حبةً واحدةً، فإنْ أكلتَ منه ولو حبة واحدة، فإن سحرها يتمكَّن
منك فتسحرك، وتقول لك: اخرجْ من هذه الصورة البشرية. فتخرج من صورتك إلى أي صورة
أرادَتْ، وإذا لم تأكل منه، فإن سحرها يبطل ولا يضرك منه شيء، فتخجل هي غاية الخجل
وتقول لك: إنما أنا أمزح معك. وتقرُّ لك بالمحبة والمودة، وكل ذلك نفاق ومكر منها،
فأَظْهِر لها أنت المحبةَ، وقل لها: يا سيدتي ويا نور عيني، كُلِي من هذا السويق
وانظري لذَّتَه. فإذا أكلَتْ منه ولو حبةً واحدة، فخُذْ في كفك ماءً واضربه في
وجهها، وقل لها: اخرجي من هذه الصورة البشرية إلى أي صورةٍ أردتَ. ثم خلِّها
وتعالَ إليَّ حتى أدبِّر لك أمرًا.
ثم
ودَّعه بدر باسم، وسار إلى أن طلع القصر ودخل عليها، فلما رأته قالت له: أهلًا
وسهلًا ومرحبًا. ثم قامت له وقبَّلته وقالت له: أبطأتَ عليَّ يا سيدي. فقال لها:
كنتُ عند عمي. ورأى عندها سويقًا، فقال لها: وقد أطعَمَني عمي من هذا السويق.
فقالت له: إن عندنا سويقًا أحسن منه. ثم إنها حطَّتْ سويقه في صحنٍ وسويقها في
صحنٍ آخَر، وقالت له: كُلْ من هذا، فإنه أطيب من سويقك. فأظهَرَ لها أنه يأكل منه،
فلما علمت أنه أكل منه أخذت في يدها ماءً ورشَّتْه به، وقالت له: اخرجْ من هذه
الصورة يا علق يا لئيم، وكُنْ في صورةِ بغلٍ أعور قبيح المنظر. فلم يتغيَّر، فلما
رأته على حاله لم يتغيَّر، قامَتْ له وقبَّلته بين عينيه، وقالت له: يا محبوبي،
إنما كنتُ أمزح معك، فلا تتغيَّر عليَّ بسبب ذلك. فقال لها: والله يا سيدتي ما
تغيَّرتُ عليك أصلًا، بل أعتقد أنك تحبينني، فكُلِي من سويقي هذا. فأخذت منه لقمةً
وأكلَتْها، فلما استقرت في بطنها اضطربَتْ، فأخذ الملك بدر باسم في كفه ماءً
ورشَّها به في وجهها، وقال لها: اخرجي من هذه الصورة البشرية إلى صورةِ بغلةٍ
زرزورية. فما نظرت نفسها إلا وهي في تلك الحالة، فصارت دموعها تنحدر على خدَّيْها،
وصارت تمرغ خدَّيْها على رجلَيْه، فقام يلجمها فلم تقبل اللجامَ، فتركها وذهب إلى
الشيخ وأعلَمَه بما جرى، فقام الشيخ وأخرج له لجامًا وقال له: خذ هذا اللجام
وألجمها به. فأخذه وأتى عندها، فلما رأته تقدَّمَتْ إليه، وحطَّ اللجام في فمها
وركبها، وخرج من القصر، وتوجَّهَ إلى الشيخ عبد الله، فلما رآها قام لها وقال لها:
أخزاكِ الله تعالى يا ملعونة. ثم قال له الشيخ: يا ولدي، ما بقي لك في هذه البلد
إقامة، فاركبها وسِرْ بها إلى أي مكان شئتَ، وإياكَ أن تسلِّم اللجام إلى أحد.
فشكره الملك بدر باسم وودَّعه وسار.
ولم
يزل سائرًا ثلاثة أيام، ثم أشرف على مدينة فلقيه شيخ مليح الشيبة، فقال له: يا
ولدي، من أين أقبلتَ؟ قال: من مدينة هذه الساحرة. قال له: أنت ضيفي في هذه الليلة.
فأجابه وسار معه في الطريق، وإذا بامرأة عجوز كلَّمَا نظرت البغلة بكت وقالت: لا
إله إلا الله، إن هذه البغلة تشبه بغلة ابني التي ماتت، وقلبي متشوش عليها، فبالله
عليك يا سيدي أن تبيعني إياها. فقال لها: والله يا أمي، ما أقدر أن أبيعها. قالت
له: بالله عليك لا ترد سؤالي، فإن ولدي إن لم أشتَرِ له هذه البغلة ميت لا محالة.
ثم إنها أطنبَتْ عليه في السؤال، فقال: ما أبيعها إلا بألف دينار. وقال بدر باسم
في نفسه: من أين لهذه العجوز تحصيل ألف دينار. فعند ذلك أخرجَتْ من حزامها ألف
دينار، فلما نظر الملك بدر باسم إلى ذلك قال لها: يا أمي، إنما أنا أمزح معك، وما
أقدر أن أبيعها. فنظر إليه الشيخ، وقال له: يا ولدي، إن هذه البلد ما يكذب فيها
أحد، وكلُّ مَن كذب في هذه البلد قتلوه. فنزل الملك بدر باسم من فوق البغلة. وأدرك
شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 756﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك بدر باسم لما نزل من فوق البغلة وسلَّمَها إلى
المرأة العجوز، أخرجت اللجام من فمها وأخذت في يدها ماء ورشتها به، وقالت: يا
بنتي، اخرجي من هذه الصورة إلى الصورة التي كنتِ عليها. فانقلبَتْ في الحال وعادت
إلى صورتها الأولى، وأقبلَتْ كلُّ واحدة منهما على الأخرى وتعانَقَتا، فعلم الملك
بدر باسم أن هذه العجوز أمها وقد تمَّتِ الحيلة عليه، فأراد أن يهرب، وإذا بالعجوز
صفرت صفرة عظيمة فتمثَّلَ بين يديها عفريت كأنه الجبل العظيم، فخاف الملك بدر باسم
ووقف، فركبت العجوز على ظهره وأردفت بنتها خلفها، وأخذت الملك بدر باسم قدامها،
وطار بهم العفريت، فما مضى عليهم غير ساعة ووصلوا إلى قصر الملكة لاب، فلما جلسَتْ
على كرسي الملكة التفتَتْ إلى الملك بدر باسم، وقالت له: يا علق، قد وصلت إلى هذا
المكان ونلت ما تمنيت، وسوف أريك ما أعمل بك وبهذا الشيخ البقال، فكَمْ أحسنتُ له وهو
يسوءني، وأنت ما وصلتَ إلى مرادك إلا بواسطته. ثم أخذت ماءً ورشَّتْه به، وقالت
له: اخرجْ من هذه الصورة التي أنت فيها إلى صورةِ طيرٍ قبيحِ المنظر أقبح ما يكون
من الطيور. فانقلب في الحال وصار طيرًا قبيح المنظر، فجعلته في قفص وقطعت عنه
الأكل والشرب، فنظرت إليه جارية فرحمَتْه، وصارت تُطعِمه وتسقيه وبغير عِلْم
الملكة.
ثم
إن الجارية وجدَتْ سيدتها غافلةً في يوم من الأيام، فخرجت وتوجَّهَتْ إلى الشيخ
البقال وأعلَمَتْه بالحديث وقالت له: إن الملكة لاب عازمةٌ على هلاكِ ابنِ أخيك.
فشكرها الشيخ وقال لها: لا بد أن آخذ المدينةَ منها وأجعلك ملكتها عوضًا عنها. ثم
صفر صفرة عظيمة، فخرج له عفريت له أربعة أجنحة، فقال له: خذ هذه الجارية وامضِ بها
إلى مدينة جلناز البحرية وأمها فراشة، فإنهما أسحرُ مَن يوجد على وجه الأرض. وقال
للجارية: إذا وصلتِ إلى هناك فأخبريهما بأن الملك بدر باسم في أَسْر الملكة لاب.
فحملها العفريت وطار بها، فلم يكن إلا ساعة حتى نزل بها على قصر الملكة جلناز
البحرية، فنزلت الجارية من فوق سطح القصر ودخلت على الملكة جلناز، وقبَّلَتِ
الأرضَ وأعلمَتْها بما قد جرى لولدها من أول الأمر إلى آخِره، فقامت إليها جلناز
وأكرمتها وشكرتها ودقَّتِ البشائرَ في المدينة، وأعلمَتْ أهلها وأكابر دولتها بأن
الملك بدر باسم وُجِد.
ثم
إن جلناز البحرية وأمها فراشة وأخاها صالحًا أحضروا جميع قبائل الجان وجنود البحر؛
لأن ملوك الجان قد أطاعوهم بعد أسر الملك السمندل، ثم إنهم طاروا في الهواء ونزلوا
على مدينة الساحرة، ونهبوا القصر وقتلوا جميع مَن كان فيه، ونهبوا المدينة وقتلوا
جميع مَن كان فيها من الكَفَرة في طرفة عين، وقالت للجارية: أين ابني؟ فأخذت
الجارية القفصَ وأتَتْ به بين يديها، وأشارت إلى الطائر الذي فيه وقالت: هذا ولدك.
فأخرجَتْه الملكة جلناز من القفص، ثم أخذت بيدها ماءً ورشَّتْه به، وقالت له:
اخرجْ من هذه الصورة إلى الصورة التي كنتَ عليها. فلم يتم كلامها حتى انتفض وصار
بشرًا كما كان، فلما رأته أمه على صورته الأصلية قامت إليه واعتنقته، فبكى بكاءً
شديدًا، وكذلك خاله صالح وجَدَّته فراشة وبنات عمه، وصاروا يقبِّلون يدَيْه
ورجلَيْه. ثم إن جلناز أرسلَتْ خلف الشيخ عبد الله وشكرته على فعله الجميل مع
ابنها، وزوَّجَتْه بالجارية التي أرسلها إليها بأخبار ولدها، ودخل بها، ثم جعلته
ملكَ تلك المدينة، وأحضرَتْ ما بقي من أهل المدينة من المسلمين وبايَعَتْهم للشيخ
عبد الله وعاهدتهم وحلَّفتهم أن يكونوا في طاعته وفي خدمته، فقالوا: سمعًا وطاعة.
ثم
إنهم ودَّعوا الشيخ عبد الله وساروا إلى مدينتهم، فلما دخلوا قصرهم تلقَّاهم أهل
مدينتهم بالبشائر والفرح، وزيَّنوا المدينة ثلاثة أيام لشدة فرحهم بملكهم بدر
باسم، وفرحوا فرحًا شديدًا. ثم بعد ذلك قال الملك بدر باسم لأمه: يا أمي، ما بقي
إلا أني أتزوج ويجتمع شملنا ببعضنا أجمعين. فقالت: يا ولدي، نِعْمَ الرأي الذي
رأيتَه، ولكن اصبرْ حتى نسأل على مَن يصلح لك من بنات الملوك.
فقالت
جَدَّته فراشة وبنات عمه وخاله: نحن يا بدر باسم كلنا في الوقت نساعدك على ما
تريد. ثم إن كل واحدة منهن نهضَتْ ومضت تفتِّش في البلاد، وكذلك جلناز البحرية
بعثَتْ جواريها على أعناق العفاريت وقالت لهن: لا تتركنَ مدينةً ولا قصرًا من قصور
الملوك حتى تتأمَّلْنَ جميعَ مَن فيه من البنات الحِسَان. فلما رأى الملك بدر باسم
اعتناءَهن بهذا الأمر، قال لأمه جلناز: يا أمي، اتركي هذا الأمر، فإنه ليس يرضيني
إلا جوهرة بنت الملك السمندل؛ لأنه جوهرة كاسمها. فقالت أمه: قد عرفتُ مقصودك. ثم
أرسلت في الحال مَن يأتيها بالملك السمندل، ففي الوقت أحضروه بين يدَيْها، ثم
أرسلت إلى بدر باسم، فلما جاء باسم أعلمَتْه بمجيء السمندل، فدخل عليه، فلما رآه
الملك السمندل مُقبِلًا قام له وسلَّمَ عليه ورحَّبَ به. ثم إن الملك بدر باسم خطب
منه بنته جوهرة، فقال له: هي في خدمتك وجاريتك وبين يديك. ثم إن الملك السمندل
أرسَلَ بعض أصحابه إلى بلاده وأمرهم بإحضار بنته جوهرة، وأن يُعلِموها أن أباها
عند الملك بدر باسم ابن جلناز البحرية، فطاروا في الهواء وغابوا ساعة ثم جاءوا
ومعهم الملكة جوهرة، فلما عايَنَتْ أباها تقدَّمَتْ إليه واعتنقَتْه، فنظر إليها
وقال: يا بنتي، اعلمي أنني قد زوَّجْتُكِ بهذا الملك الهمام، والأسد الضرغام،
الملك بدر باسم ابن الملكة جلناز، وأنه أحسنُ أهلِ زمانه وأجملهم وأرفعهم قدرًا
وأشرفهم حسبًا، ولا يصلح إلا لكِ ولا تصلحين إلا له. فقالت له: يا أبي، أنا ما
أقدر أن أخالفك، فافعل ما تريد، فقد زال الهمُّ والتنكيد، وأنا له من جملة الخدام.
فعند ذلك أحضروا القضاة والشهود، وكتبوا كتاب الملك بدر باسم ابن الملكة جلناز
البحرية على الملكة جوهرة، وأهل المدينة زيَّنوها، وأطلقوا البشائر وأطلقوا كلَّ
مَن في الحبوس، وكسا الملك الأرامل والأيتام، وخلع على أرباب الدولة والأمراء
والأكابر.
ثم
أقاموا الفرح العظيم، وعملوا الولائم، وأقاموا في الأفراح مساءً وصباحًا مدة عشرة
أيام، وجلوها على الملك بدر باسم بتسع خلع، ثم خلع الملك بدر باسم على الملك
السمندل، وردَّه إلى بلاده وأهله وأقاربه. ولم يزالوا في ألذ عيش وأهنأ أيام،
يأكلون ويشربون ويتنعَّمون، إلى أنْ أتاهم هادم اللذات، ومفرِّق الجماعات، وهذا
آخِر حكايتهم رحمة الله عليهم أجمعين.
واعلمْ
أيها الملك السعيد، أنه كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان، ملكٌ من ملوك
العجم اسمه محمد بن سبائك، وكان يحكم على بلاد خراسان، وكان في كل عام يغزو بلادَ
الكفَّار في الهند والسند والصين، والبلاد التي وراء النهر وغير ذلك من العجم
وغيرها، وكان ملكًا عادلًا شجاعًا كريمًا جوَّادًا، وكان ذلك الملك يحب
المُنادَمات والروايات والأشعار والأخبار والحكايات والأسمار وسِيَر المتقدِّمين،
وكان كلُّ مَن يحفظ حكايةً غريبة ويحكيها له يُنعِم عليه، وقيل إنه كان إذا أتاه
رجل غريب بسَمَر غريب، وتكلَّمَ بين يديه واستحسنه وأعجَبَه كلامه، يخلع عليه خلعة
سنية، ويعطيه ألف دينار، ويُركبه فرسًا مسرجًا ملجمًا، ويكسوه من فوق إلى أسفل،
ويعطيه عطايا عظيمة، فيأخذها الرجل وينصرف لحال سبيله. فاتفق أنه أتاه رجل كبير
بسمرٍ غريب، فتحدَّثَ بين يديه فاستحسنه، وأعجبه كلامه، فأمر له بجائزة سنية ومن
جملتها ألف دينار خراسانية، وفرس بعدة كاملة، ثم بعد ذلك شاعت هذه الأخبار عن هذا
الملك في جميع البلدان، فسمع به رجل يقال له التاجر حسن، وكان كريمًا جوادًا
عالمًا شاعرًا فاضلًا، وكان عند ذلك الملك وزيرٌ حَسُودٌ محضرُ سوءٍ لا يحب الناسَ
جميعًا؛ لا غنيًّا ولا فقيرًا، وكان كلما ورد على ذلك الملك أحدٌ وأعطاه شيئًا
يحسده ويقول: إن هذا الأمر يُفنِي المالَ ويخرِّب الديار، وإن الملك دأبه هذا
الأمر. ولم يكن ذلك الكلام إلا حسدًا وبغضًا من ذلك الوزير.
ثم
إن الملك سمع بخبر التاجر حسن، فأرسل إليه وأحضره، فلما حضر بين يديه قال له: يا
تاجر حسن، إن الوزير خالفني وعاداني من أجل المال الذي أعطيه للشعراء والندماء
وأرباب الحكايات والأشعار، وإني أريد منك أن تحكي لي حكاية مليحة وحديثًا غريبًا
بحيث لم أكن سمعتُ مثله قطُّ، فإنْ أعجبني حديثك أعطيتك بلادًا كثيرة بقلاعها،
وأجعلها زيادة على إقطاعك، وأجعل مملكتي كلها بين يديك، وأجعلك كبيرَ وزرائي تجلس
على يميني، وتحكم في رعيتي، وإن لم تَأْتِني بما قلتُ لكَ أخذتُ جميعَ ما في يدك
وطردتُك من بلادي. فقال التاجر حسن: سمعًا وطاعةً لمولانا الملك، لكنْ يطلب منك
المملوك أن تصبر عليه سنة، ثم أحدِّثك بحديثٍ ما سمعتَ مثله في عمرك ولا سمع غيرك
بمثله ولا بأحسن منه قطُّ. فقال الملك: قد أعطيتك مهلة سنة كاملة. ثم دعا بخلعة
سنية فألبسه إياها وقال له: الزمْ بيتك ولا تركب ولا تَرُحْ ولا تَجِئْ مدةَ سنة
كاملة حتى تحضر بما طلبتُه منك، فإن جئتَ بذلك فلك الإنعام الخاص، وأبشر بما
وعدتُك به، وإنْ لم تَجِئْ بذلك فلا أنت منَّا ولا نحن منك. وأدرك شهرزاد الصباح
فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 757﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك محمد بن سبائك لما قال للتاجر حسن: إنْ جئتَني
بما طلبته منك فلك الإنعام الخاص، وأبشِرْ بما وعدتُكَ به، وإنْ لم تَجِئْني بذلك
فلا أنت منَّا ولا نحن منك. فقبَّلَ التاجر حسن الأرضَ بين يديه وخرج، ثم اختار من
مماليكه خمسة أنفس كلهم يكتبون ويقرءون، وهم فضلاء عقلاء أدباء من خواص مماليكه،
وأعطى كلَّ واحد خمسة آلاف دينار، وقال لهم: أنا ما ربَّيتُكم إلا لمثل هذا اليوم،
فأعينوني على قضاء غرض الملك، وأنقذوني من يده. فقالوا له: وما الذي تريد أن تفعل؟
فأرواحنا فداؤك. قال لهم: أريد أن يسافر كلُّ واحد منكم إلى إقليم، وأنْ تستقصوا
على العلماء والأدباء والفضلاء، وأصحاب الحكايات الغريبة والأخبار العجيبة،
وابحثوا لي عن قصة سيف المملوك، وتأتوني بها، وإذا لقيتموها عند أحد فرغِّبوه في
ثمنها، ومهما طلب من الذهب والفضة فأعطوه إياه، ولو طلب منكم ألف دينار فأعطوه المتيسِّر
وعِدُوه بالباقي، وأتوني بها، ومَن وقع منكم بهذه القصة وأتاني بها، فإني أعطيه
الخُلَع السنية والنِّعَم الوفِيَّة، ولم يكن عندي أعز منه. ثم إن التاجر حسن قال
لواحد منهم: رُحْ أنت إلى بلاد الهند والسند وأعمالها وأقاليمها. وقال للآخَر:
رُحْ أنت إلى بلاد العجم والصين وأقاليمها. وقال للآخَر: رُحْ أنت إلى بلاد خراسان
وأعمالها وأقاليمها. وقال للآخَر: رُحْ أنت إلى بلاد المغرب وأقطارها وأقاليمها
وأعمالها وجميع أطرافها. وقال للآخَر وهو الخامس: رُحْ أنت إلى بلاد الشام ومصر
وأعمالها وأقاليمها. ثم إن التاجر اختار لهم يومًا سعيدًا وقال لهم: سافروا في هذا
اليوم واجتهدوا في تحصيل حاجتي ولا تتهاونوا ولو كان فيها بذل الأرواح. فودَّعوه
وساروا وكل واحد منهم ذهَبَ إلى الجهة التي أمره بها، فمنهم أربعة أنفس غابوا
أربعة أَشْهُر وفتَّشوا ولم يجدوا شيئًا، فضاق صدر التاجر حسن لما رجع إليه
الأربعة مماليك، وأخبروه أنهم فتَّشوا المدائن والبلاد والأقاليم على مطلوب سيدهم،
فلم يجدوا شيئًا منه. وأما المملوك الخامس، فإنه سافَرَ إلى أنْ دخل بلادَ الشام
ووصل إلى مدينة دمشق، فوجدها مدينة طيبة أمينة ذات أشجار وأنهار وأثمار وأطيار،
تسبِّح الله الواحد القهَّار، الذي خلق الليل والنهار، فأقام فيها أيامًا وهو يسأل
عن حاجة سيده فلم يُجِبْه أحد، ثم إنه أراد أن يرحل منها ويسافر إلى غيرها، وإذا
هو بشابٍّ يجري ويتعثَّر في أذياله، فقال له المملوك: ما بالك تجري وأنت مكروب؟
وإلى أين تقصد؟ فقال له: هنا شيخ كلَّ يوم يجلس على كرسي في مثل هذا الوقت،
ويحدِّث حكاياتٍ وأخبارًا وأسمارًا مِلَاحًا لم يسمع أحدٌ مثلها، وأنا أجري حتى
أجد لي موضعًا قريبًا، وأخاف أني لا أحصل لي موضعًا من كثرة الخلق. فقال له
المملوك: خذني معك. فقال له الفتى: أسرِعْ في مشيتك. فغلق بابه، وأسرَعَ في
السَّيْر معه حتى وصل إلى الموضع الذي يحدِّث فيه الشيخ بين الناس، فرأى ذلك الشيخ
صبيحَ الوجه، وهو جالس على كرسي يحدِّث الناسَ، فجلس قريبًا منه وصغى ليسمع حديثه،
فلما جاء وقت غروب الشمس فرغ الشيخ من الحديث، وسمع الناس ما تحدَّثَ به وانفضُّوا
من حوله، فعند ذلك تقدَّمَ إليه المملوك وسلَّم عليه، فردَّ عليه وزاده في التحية
والإكرام، فقال له المملوك: إنك يا سيدي الشيخ رجلٌ مليح محتشم، وحديثك مليح،
وأريد أن أسألك عن شيء. فقال له: اسألْ عما تريد. فقال له المملوك: هل عندك قصة
سمر سيف الملوك وبديعة الجمال؟ فقال له الشيخ: وممَّنْ سمعتَ هذا الكلام؟ ومَن
الذي أخبَرَك بذلك؟ فقال المملوك: أنا ما سمعتُ ذلك من أحد، ولكن أنا من بلادٍ
بعيدة وجئتُ قاصدًا لهذه القصة، فمهما طلبتَ من ثمنها أعطيك إنْ كانت عندك وتُنعِم
وتتصدَّق عليَّ بها، وتجعلها من مكارم أخلاقك صدقةً عن نفسك، ولو أن روحي في يدي
وبذلتها لك فيها لطاب خاطري بذلك. فقال له الشيخ: طِبْ نفسًا وقرَّ عينًا وهي تحضر
لك، ولكن هذا سمر لا يتحدَّث به أحد على قارعة الطريق، ولا أعطي هذه القصة لكل
أحد. فقال له المملوك: بالله يا سيدي لا تبخل عليَّ بها، واطلبْ مهما أردتَ. فقال
له الشيخ: إنْ كنتَ تريد هذه القصة فأعطني مائة دينار، وأنا أعطيك إياها، ولكن
بخمسة شروط. فلما عرف أنها عند الشيخ، وأنه سمح له بها، فرح فرحًا شديدًا وقال له:
أعطيك مائة دينار ثمنها وعشرة جعالة، وآخذها بالشروط التي ذكرتَها. فقال له الشيخ:
رُحْ هات الذهب وخذ حاجتك. فقام المملوك، وقبَّلَ يدي الشيخ وراح إلى منزله
فَرِحًا مسرورًا، وأخذ في يده مائةَ دينار وعشرة، ووضعها في كيس كان معه، فلما
أصبح الصباح قام ولبس ثيابه، وأخذ الدنانير وأتى بها إلى الشيخ، فرآه جالسًا على
باب داره، فسلَّمَ عليه فردَّ عليه السلام، فأعطاه المائة دينار وعشرة، فأخذها منه
الشيخ وقام ودخل داره وأدخَلَ المملوك وأجلسه في مكانٍ وقدَّمَ له دواةً وقلمًا
وقرطاسًا، وقدَّمَ له كتابًا وقال له: اكتبِ الذي أنت طالبه من هذا الكتاب من قصة
سمر سيف الملوك. فجلس المملوك يكتب هذه القصة إلى أن فرغ من كتابتها، ثم قرأها على
الشيخ وصحَّحَها، وبعد ذلك قال له الشيخ: اعلمْ يا ولدي أن أول شرطٍ أنك لا تقول
هذه القصة على قارعة الطريق، ولا عند النساء والجواري، ولا عند العبيد والسفهاء،
ولا عند الصبيان، وإنما تقرؤها عند الأمراء والملوك والوزراء، وأهل المعرفة من
المفسِّرين وغيرهم. فقَبِل المملوكُ الشروطَ، وقبَّلَ يدَي الشيخ وودَّعَه، وخرج
من عنده. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 758﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن مملوكَ حسن لما نقل القصة من كتاب الشيخ الذي بالشام،
وأخبره بالشروط وودَّعه، وخرج من عنده وسافَرَ في يومه فرحانًا مسرورًا، ولم يزل
مُجِدًّا في السير من كثرة الفرح الذي حصل له بسبب تحصيله لقصة سمر سيف الملوك حتى
وصل إلى بلاده، وأرسل تابِعَه يبشِّر التاجر ويقول له: إن مملوكك قد وصل سالمًا
وبلغ مراده ومقصوده. وحين وصل المملوك إلى مدينة سيده وأرسَلَ إليه البشير لم
يَبْقَ من الميعاد الذي بين الملك وبين التاجر حسن غير عشرة أيام، ودخل على سيده
التاجر وأخبره بما حصل له، ففرح فرحًا عظيمًا واستراح المملوك في مكانِ خلوته،
وأعطى سيده الكتاب الذي فيه قصة سيف الملوك وبديع الجمال. فلما رأى سيده ذلك خلع
على المملوك جميعَ ما كان عليه من ملابسه وأعطاه عشرة من الخيل الجياد، وعشرة من
الجمال، وعشرة من البغال، وثلاثة عبيد ومملوكَيْن. ثم إن التاجر أخذ القصةَ وكتبها
بخطه مفسَّرة، وطلع إلى الملك وقال له: أيها الملك السعيد، إني جئتُ بسمرٍ وحكايات
مليحة نادرة لم يسمع مثلَها أحدٌ قطُّ. فلما سمع الملك كلامَ التاجر حسن أمَرَ في
وقته وساعته بأن يحضر كل أمير عاقل، وكل عالم فاضل، وكل أديب وشاعر ولبيب، وجلس
التاجر حسن وقرأ هذه السيرة عند الملك، فلما سمعها الملك وكلُّ مَن كان حاضرًا
تعجَّبوا واستحسنوها، وكذلك استحسنها الذين كانوا حاضرين ونثروا عليه الذهب والفضة
والجواهر، ثم أمر الملك للتاجر حسن بخلعة سنية من أفخر ملبوسه، وأعطاه مدينة كبيرة
بقلاعها وضياعها، وجعله من أكابر وزرائه وأجلسه على يمينه، ثم أمر الكتَّابَ أن
يكتبوا هذه القصة بالذهب ويجعلوها في خزائنه الخاصة، وصار الملك كلما ضاق صدره
يُحضِر التاجر حسن فيقرؤها.
ومضمون
هذه القصة أنه كان في قديم الزمان، وسالف العصر والأوان، في مصر ملك يُسمَّى عاصم
بن صفوان، وكان ملكًا سخيًّا جوَّادًا صاحب هيبة ووقار، وكان له بلاد كثيرة وقلاع
وحصون وجيوش وعساكر، وكان له وزير يُسمَّى فارس بن صالح، وكانوا جميعًا يعبدون
الشمس والنار دون الملك الجبار الجليل القهار. ثم إن هذا الملك صار شيخًا كبيرًا
قد أضعَفَه الكِبَر والسَّقَم والهَرَم؛ لأنه عاش مائة وثمانين سنة، ولم يكن له
ولد ذكر ولا أنثى، وكان بسبب ذلك في همٍّ وغمٍّ ليلًا ونهارًا، فاتفق أنه كان جالسًا
يومًا من الأيام على سرير ملكه والأمراء والوزراء والمقدمون وأرباب الدولة في
خدمته على جري عادتهم، وعلى قدر منازلهم، وكل مَن دخل عليه من الأمراء ومعه ولد أو
ولدان يحسده الملك ويقول في نفسه: كلُّ واحد مسرورٌ فرحان بأولاده، وأنا ما لي
ولد، وفي غدٍ أموت وأترك مُلْكي وتختي وضِياعي وخزائني وأموالي، وتأخذها الغرباء،
وما يذكرني أحدٌ قطُّ ولا يبقى لي ذِكْر في الدنيا. ثم إن الملك عاصم استغرق في
بحر الفكر، ومن كثرة توارُد الأحزان والأفكار على قلبه، بكى ونزل من فوق تخته وجلس
على الأرض يبكي ويتضرَّع، فلما رآه الوزير والجماعة الحاضرون من أكابر الدولة فعل
بنفسه ذلك، صاحوا على الناس وقالوا لهم: اذهبوا إلى منازلكم واستريحوا حتى يفيق
الملك ممَّا هو فيه. فانصرفوا ولم يَبْقَ غير الملك والوزير، فلما أفاق الملك
قبَّلَ الوزير الأرضَ بين يدَيْه وقال له: يا ملك الزمان، ما سبب هذا البكاء؟
فأخبِرْني بمَن عاداك من الملوك وأصحاب القلاع أو من الأمراء وأرباب الدولة،
وعرِّفني بمَن يخالفك أيها الملك حتى نكون كلنا عليه ونأخذ روحه من بين جنبَيْه.
فلم يتكلم الملك ولم يرفع رأسه. ثم إن الوزير قبَّلَ الأرضَ بين يدَيْه ثانيًا
وقال له: يا ملك الزمان، أنا مثل ولدك وعبدك، وقد ربَّيْتَني، فأنا لم أعرف سببَ
غمِّك وهمِّك وجزعك وما أنت فيه، فمَن يعرف غيري ويقوم مقامي بين يديك؟ فأخبِرْني
بسبب هذا البكاء والحزن. فلم يتكلم ولم يفتح فاه، ولم يرفع رأسه، وما زال يبكي
ويصوت بصوتٍ عالٍ وينوح بنواحٍ زائد ويتأوَّه، والوزير صابر له. ثم بعد ذلك قال له
الوزير: إنْ لم تَقُلْ لي ما سبب ذلك وإلا قتلتُ نفسي بين يدَيْك من ساعتي، وأنت
تنظر ولا أراك مهمومًا. ثم إن الملك عاصمًا رفع رأسه ومسح دموعه، وقال: يا أيها
الوزير الناصح، خلِّني بهمِّي وغمِّي، فالذي في قلبي من الأحزان يكفيني. فقال له
الوزير: قُلْ لي أيها الملك ما سبب هذا البكاء، لعلَّ الله يجعل الفرجَ على يدي.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 759﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الوزير لما قال للملك عاصم: قُلْ لي ما سبب هذا
البكاء، لعل الله يجعل لك الفرج على يدي. قال له الملك: يا وزير، إن بكائي ما هو
على مالٍ ولا على خيلٍ ولا على شيء، ولكن أنا بقيت رجلًا كبيرًا وصار عمري نحو
مائة وثمانين سنة، ولا رُزِقت ولدًا ذكرًا ولا أنثى، فإذا متُّ يدفنوني، ثم ينمحي
رسمي وينقطع اسمي، ويأخذ الغرباء تختي ومُلْكي، ولا يذكرني أحدٌ أبدًا. فقال
الوزير: يا ملك الزمان، أنا أكبرُ منك بمائة سنة ولا رُزِقت بولدٍ قطُّ، ولم
أَزَلْ ليلًا ونهارًا في همٍّ وغمٍّ، وكيف نفعل أنا وأنت؟ ولكن سمعتُ بخبر سليمان
بن داود عليهما السلام، وأن له ربًّا عظيمًا قادرًا على كل شيء، فينبغي أن أتوجَّه
إليه بهدية وأقصده في أن يسأل ربَّه لعله يرزق كلَّ واحدٍ منا بولد. ثم إن الوزير
تجهَّزَ للسفر وأخذ هدية فاخرة وتوجَّهَ بها إلى سليمان بن داود عليهما السلام.
هذا
ما كان من أمر الوزير، وأما ما كان من أمر سليمان بن داود عليهما السلام، فإن الله
سبحانه وتعالى أوحى إليه وقال: يا سليمان، إن مَلِك مصر أرسَلَ إليك وزيرَه الكبير
بالهدايا والتُّحَف وهي كذا وكذا، فأرسِلْ إليه وزيرَك آصف بن برخيا لاستقباله
بالإكرام والزاد في موضع الإقامات، فإذا حضر بين يديك فقُلْ له: إن الملك أرسلك
تطلب كذا وكذا، وإن حاجتك كذا وكذا، ثم اعرِضْ عليه الإيمانَ. فحينئذٍ أمَرَ
سليمان وزيرَه آصف أن يأخذ معه جماعة من حاشيته لِلِقائهم بالإكرام والزاد الفاخر
في موضع الإقامات، فخرج آصف بعد أنْ جهَّزَ جميعَ اللوازم إلى لقائهم، وسار حتى
وصل إلى فارس وزيرِ ملك مصر، فاستقبله وسلَّمَ عليه وأكرَمَه هو ومَن معه إكرامًا
زائدًا، وصار يقدِّم إليهم الزاد والعلوفات في مواضع الإقامات، وقال لهم: أهلًا
وسهلًا ومرحبًا بالضيوف القادمين، فأبْشِروا بقضاء حاجتكم، وطِيبوا نفسًا، وقرُّوا
عينًا، وانشرحوا صدورًا. فقال الوزير في نفسه: مَن أخبَرَهم بذلك؟ ثم إنه قال لآصف
بن برخيا: ومَن أخبركم بنا وبأغراضنا يا سيدي؟ فقال له آصف: إن سليمان بن داود
عليهما السلام هو الذي أخبرنا بهذا. فقال الوزير فارس: ومَن أخبَرَ سيدنا سليمان؟
قال له: أخبَرَه ربُّ السموات والأرض وإله الخلق أجمعين. فقال له الوزير فارس: ما
هذا إلا إله عظيم. فقال له آصف بن برخيا: وهل أنتم لا تعبدونه؟ فقال فارس وزير ملك
مصر: نحن نعبد الشمس ونسجد لها. فقال له آصف: يا وزير فارس، إن الشمس كوكب من جملة
الكواكب المخلوقة لله سبحانه وتعالى، وحاشا أن تكون ربًّا؛ لأن الشمس تظهر أحيانًا
وتغيب أحيانًا، وربنا حاضر لا يغيب، وهو على كل شيء قدير.
ثم
إنهم سافروا قليلًا حتى وصلوا إلى قرب تخت ملك سليمان بن داود عليهما السلام، فأمر
سليمان بن داود عليهما السلام جنودَه من الإنس والجن وغيرهما أن يصطفُّوا في
طريقهم صفوفًا، فوقفَتْ وحوشُ البحر والفِيَلة والنمور والفهود جميعًا، واصطفوا في
الطريق صفَّيْن، وكل جنس انحازَتْ أنواعُه وحدها، وكذلك الجان، كلٌّ منهم ظهر
للعيون من غير خفاء على صورة هائلة مختلفة الأحوال، فوقفوا جميعًا صفَّيْن،
والطيور نشرَتْ أجنحتَها على الخلائق لتظلَّهم، وصارت الطيور تناغي بعضها بسائر
اللغات وبسائر الألحان. فلما وصل أهل مصر إليهم هابوهم ولم يجسروا على المشي، فقال
لهم آصف: ادخلوا بينهم وامشوا ولا تخافوا منهم، فإنهم رعايا سليمان بن داود وما
يضركم منهم أحد. ثم إن آصف دخل بينهم، فدخل وراءه الخلق أجمعون، ومن جملتهم جماعة
وزير ملك مصر وهم خائفون، ولم يزالوا سائرين حتى وصلوا إلى المدينة فأنزلوهم في
دار الضيافة وأكرموهم غاية الإكرام، وأحضروا لهم الضيافات الفاخرة مدة ثلاثة أيام،
ثم أحضروهم بين يدي سليمان نبي الله عليه السلام، فلما دخلوا عليه أرادوا أن
يقبِّلوا الأرضَ بين يدَيْه، فمنعهم من ذلك سليمان بن داود وقال: لا ينبغي أن يسجد
إنسانٌ على الأرض إلا لله عز وجل خالق الأرض والسموات وغيرهما، ومَن أراد منكم أن
يقف فَلْيقف، ولكن لا يقف أحدٌ منكم في خدمتي. فامتثَلوا، وجلس الوزير فارس وبعض
خدَّامه، ووقف في خدمته بعض الأصاغر، فلما استقر بهم الجلوس مدُّوا لهم الأسمطة،
فأكل العالم والخلق أجمعون من الطعام حتى اكتفوا. ثم إن سليمان أمَرَ وزيرَ مصر أن
يذكر حاجتَه لتُقضَى، وقال له: تكلَّمْ ولا تَخَفْ شيئًا ممَّا جئتَ بسببه، فإنك
ما جئتَ إلا لقضاء حاجة، وأنا أخبرك بها، وهي كذا وكذا، وأن ملك مصر الذي أرسَلَك
اسمه عاصم، وقد صار شيخًا كبيرًا هَرِمًا ضعيفًا، ولم يرزقه الله تعالى بولد ذَكَر
ولا أنثى، فصار في الغمِّ والهمِّ والفكر ليلًا ونهارًا، حتى اتفق له أنه جلس على
كرسي مملكته يومًا من الأيام ودخل عليه الأمراء والوزراء وأكابر دولته، فرأى بعضهم
له ولدان وبعضهم له ولد، وبعضهم له ثلاثة أولاد، وهم يدخلون ومعهم أولادهم ويقفون
في الخدمة، فتذكَّرَ في نفسه وقال من فرط حزنه: يا ترى مَن يأخذ مملكتي بعد موتي؟
وهل يأخذها إلا رجل غريب، وأصير أنا كأني لم أكن؟ فغرق في بحر الفكر بسبب هذا، ولم
يزل متفكِّرًا حزينًا حتى فاضَتْ عيناه بالدموع، فغطَّى وجهه بالمنديل وبكى بكاءً
شديدًا، ثم قام من فوق سريره وجلس على الأرض يبكي وينتحب، ولم يعلم ما في قلبه إلا
الله تعالى، وهو جالس على الأرض. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 760﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن نبي الله سليمان بن داود عليهما السلام، لما أخبَرَ
الوزير فارسًا بما حصل للملك من الحزن والبكاء، وما حصل بينه وبين وزيره فارس من
أوله إلى آخِره، قال بعد ذلك للوزير فارس: هل هذا الذي قلتُه لكَ يا وزير صحيح؟
فقال الوزير فارس: يا نبي الله، إن الذي قلتَه حقٌّ وصدق، ولكنْ يا نبي الله،
لمَّا كنتُ أتحدَّث أنا والملك في هذه القضية، لم يكن عندنا أحدٌ قطُّ ولم يشعر
بخبرنا أحدٌ من الناس، فمَن أخبَرَك بهذه الأمور كلها؟ قال له: أخبرني ربي الذي
يعلم خائنةَ الأعين وما تُخفِي الصدور. فحينئذٍ قال الوزير فارس: يا نبي الله، ما
هذا إلا ربٌّ كريم عظيم على كل شيء قدير. ثم أسلَمَ الوزير فارس هو ومَن معه، ثم
قال نبي الله سليمان للوزير: إنَّ معك كذا وكذا من التُّحَف والهدايا. قال الوزير:
نعم. فقال له سليمان: قد قبلتُ منك الجميع، ولكني وهبتُها لكَ فاسترِحْ أنت ومَن
معك في المكان الذي نزلتم فيه حتى يزول عنكم تعبُ السفر، وفي غدٍ إنْ شاء الله تعالى
نقضي حاجتَك على أتم ما يكون بمشيئة الله تعالى، رب الأرض والسماء وخالق الخلق
أجمعين.
ثم
إن الوزير فارسًا ذهب إلى موضعه، وتوجَّهَ إلى السيد سليمان ثاني يوم، فقال له نبي
الله سليمان: إذا وصلتَ إلى الملك عاصم بن صفوان، واجتمعتَ أنت وهو فاطلعَا فوق
الشجرة الفلانية واقعدا ساكتَيْن، فإذا كان بين الصلاتين، وقد برد حرُّ القائلة،
فَانْزِلا إلى أسفل الشجرة وانظرا هناك تجدا ثعبانين يخرجان، رأس أحدهما كرأس
القرد، ورأس الآخَر كرأس العفريت، فإذا رأيتماهما فارمياهما بالنشاب واقتلاهما، ثم
ارميا من جهةِ رأسَيْهما قدرَ شبرٍ واحد، ومن جهةِ ذيلَيْهما كذلك، فتبقى لحومهما،
فاطبخاهما، وأتْقِنَا طبخهما وأطعماهما زوجتَيْكما، وناما معهما تلك الليلة،
فإنهما يحملان بإذن الله تعالى بأولادٍ ذكور. ثم إن سليمان عليه السلام أحضَرَ
خاتمًا وسيفًا وبقجة فيها قباءان مكلَّلان بالجواهر، وقال: يا وزير فارس، إذا كبر
ولداكما وبلغا مبلغَ الرجال فأعطيا كلَّ واحد منهما قباءً من هذين القباءين. ثم
قال للوزير: باسم الله، قضى الله تعالى حاجتك، وما بقي لك إلا أن تسافر على بركة
الله تعالى، فإن الملك ليلًا ونهارًا ينتظر قدومك وعينه دائمًا تلاحظ الطريق.
ثم
إن الوزير فارسًا تقدَّمَ لنبي الله سليمان بن داود عليهما السلام وودَّعَه، وخرج
من عنده بعد أن قبَّلَ يدَيْه، وسافَرَ بقيةَ يومه وهو فرحان بقضاء حاجته، وجدَّ
في السفر ليلًا ونهارًا، ولم يزل مسافرًا حتى وصل إلى قرب مصر، فأرسَلَ بعض
خدَّامه ليُعلِم الملكَ عاصمًا بذلك، فلما سمع الملك عاصم بقدومه وقضاء حاجته،
فرِحَ فرحًا شديدًا هو وخواصه وأرباب مملكته وجميع جنوده، وخصوصًا بسلامة الوزير
فارس. فلما تلاقى الملك هو والوزير، ترجَّلَ الوزير وقبَّلَ الأرضَ بين يدَيْه
وبشَّرَ الملك بقضاء حاجته على أتمِّ الوجوه، وعرض عليه الإيمانَ والإسلام،
فأسلَمَ الملك عاصم وقال للوزير فارس: رُحْ بيتك واستَرِحْ هذه الليلة، واستَرِحْ
أيضًا جمعةً من الزمان، وادخُلِ الحمَّامَ وبعد ذلك تعالَ عندي حتى أُخبِرَك بشيء
نتدبَّر فيه. فقبَّلَ الوزير الأرضَ وانصرف هو وحاشيته وغلمانه وخَدَمه إلى داره واستراح
ثمانيةَ أيام، ثم بعد ذلك توجَّهَ إلى الملك وحدَّثَه بجميع ما كان بينه وبين
سليمان بن داود عليهما السلام، ثم إنه قال للملك: قُمْ وحدك وتعالَ معي. فقام هو
والوزير وأخذا قوسَيْن ونشابين، وطلعا فوق الشجرة وقعدا ساكتين إلى أن مضى وقت
القائلة، ولم يزالا إلى قرب العصر، ثم نزلا ونظرا فرأَيَا ثعبانَيْن خرجَا من أسفل
تلك الشجرة، فنظرهما الملك وأحَبَّهما؛ لأنهما أعجباه حين رآهما بالأطواق الذهب،
وقال: يا وزير، إن هذين الثعبانين مطوَّقان بالذهب، والله إن هذا شيء عجيب، خلِّنا
نمسكهما ونجعلهما في قفص ونتفرَّج عليهما. فقال الوزير: هذان خلقهما الله
لمنفعتهما، فارْمِ أنت واحدًا بنشابة، وأرمي أنا واحدًا بنشابة. فرمى الاثنان
عليهما بالنشاب، فقتلاهما وقطعا من جهةِ رأسَيْهما شبرًا، ومن جهةِ ذنبَيْهما
شبرًا ورمياها، ثم ذهبا بالباقي إلى بيت الملك، وطلبا الطباخ، وأعطياه ذلك اللحم
وقالا له: اطبخْ هذا اللحم طبخًا مليحًا بالتقلية والأبازير، وأغرِقْه في زبديتين
وهاتهما وتعالَ هنا في الوقت الفلاني والساعة الفلانية ولا تُبطِئ. وأدرك شهرزاد
الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 761﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك والوزير لما أعطيَا الطباخ لحمَ الثعبانَيْن،
وقالا له: اطبخْه واغرفْه في زبديتين وهاتهما هنا، ولا تبطئ. أخذ الطباخ اللحمَ
وذهب به إلى المطبخ وطبخه، وأتقن طبخه بتقلية عظيمة، ثم غرفه في زبديتين وأحضرهما
بين يدي الملك والوزير، فأخذ الملك زبدية والوزير زبدية وأطعماهما لزوجتَيْهما،
وباتا تلك الليلة معهما، فبإرادة الله سبحانه وتعالى وقدرته ومشيئته حملتَا في تلك
الليلة، فمكث الملك بعد ذلك ثلاثة أشهر، وهو متشوش الخاطر يقول في نفسه: يا تُرَى،
هل هذا الأمر صحيح أم غير صحيح؟ ثم إن زوجته كانت جالسة يومًا من الأيام فتحرك
الولد في بطنها، فعلمت أنها حامل، فتوجعت وتغيَّرَ لونها، وطلبت واحدًا من الخدام
الذين عندها وهو أكبرهم، وقالت: اذهبْ إلى الملك في أي موضع يكون، وقل له: يا ملك
الزمان، أبشِّرك أن سيدتنا ظهر حملها والولد قد تحرَّكَ في بطنها. فخرج الخادم
سريعًا وهو فرحان، فرأي الملك وحده ويده على خده، وهو متفكِّر في ذلك، فأقبَلَ
عليه الخادم وقبَّلَ الأرض بين يديه، وأخبره بحمل زوجته، فلما سمع كلامَ الخادم
نهض قائمًا على قدمَيْه، ومن شدة فرحه قبَّلَ يدَ الخادم ورأسَه، وخلع ما كان عليه
وأعطاه إياه، وقال لمَن كان حاضرًا في مجلسه: مَن كان يحبني فَلْيُنْعِم عليه.
فأعطوه من الأموال والجواهر واليواقيت والخيل والبغال والبساتين شيئًا لا يُعَد
ولا يُحصَى.
ثم
إن الوزير دخل في ذلك الوقت على الملك وقال: يا ملك الزمان، أنا في هذه الساعة كنت
قاعدًا في البيت وحدي، وأنا مشغول الخاطر متفكِّر في شأن الحمل، وأقول في نفسي: يا
تُرَى هل هو حق؟ وإن خاتون تحبل أم لا؟ وإذا بالخادم دخل عليَّ، وبشَّرَني بأن
زوجتي خاتون حامل، وأن الولد قد تحرَّكَ في بطنها وتغيَّرَ لونها، فمن فرحتي خلعتُ
ما كان عليَّ من القماش وأعطيتُ الخادم إياه، وأعطيته ألف دينار وجعلته كبيرَ
الخدام. ثم إن الملك عاصمًا قال: يا وزير، إن الله تبارك وتعالى أنعَمَ علينا
بفضله وإحسانه وجوده وامتنانه، وبالدين القويم، وأكرمنا بكرمه وفضله، وقد أخرجنا
من الظلمات إلى النور، وأريد أن أفرِّج على الناس وأُفرِحهم. فقال الوزير: افعلْ
ما تريد؟ فقال: يا وزير، انزلْ في هذا الوقت، وأخرِجْ كلَّ مَن كان في الحبس من
أصحاب الجرائم، ومَن عليهم ديون، وكل مَن وقع منه ذنب، بعد ذلك نجازيه بما يستحقه،
ونرفع عن الناس الخراج ثلاثَ سنوات، وانصبْ في دائر هذه المدينة مطبخًا حول
الحيطان، ومُرِ الطبَّاخين أن يعلِّقوا عليه جميعَ أنواع القدور، وأن يطبخوا سائر
أنواع الطعام، ويداوموا الطبخ بالليل والنهار، وكل مَن كان في هذه المدينة وما
حولها من البلاد البعيدة والقريبة يأكلون ويشربون ويحملون إلى بيوتهم، ومُرْهم أن
يفرحوا ويزيِّنوا المدينةَ سبعةَ أيام، ولا يقفلوا حوانيتهم ليلًا ولا نهارًا.
فخرج
الوزير من وقته وساعته وفعل ما أمره به الملك عاصم، وزيَّنوا المدينةَ والقلعةَ
والأبراجَ أحسن الزينة، ولبسوا أحسن ملبوس، وصار الناس في أكل وشرب ولعب وانشراح
إلى أن حصل الطلق لزوجة الملك بعد انقضاء أيامها، فوضعَتْ ولدًا ذكرًا كالقمر ليلة
تمامه فسمَّاه سيف الملوك، وكذلك زوجة الوزير وضعَتْ ولدًا كالصباح، فسمَّاه
ساعدًا. فلما بلغا رشدهما صار الملك عاصم كلما ينظرهما يفرح بهما الفرحَ الشديد،
فلما صار عمرهما عشرين سنة طلب الملكُ وزيرَه فارسًا في خلوة، وقال له: يا وزير،
قد خطر ببالي أمرٌ أريد أن أفعله ولكن أستشيرك فيه. فقال له الوزير: مهما خطر
ببالك فافعلْه، فإن رأيك مبارك. فقال الملك عاصم: يا وزير، أنا صرت رجلًا كبيرًا
شيخًا هَرِمًا؛ لأني طعنتُ في السن، وأريد أن أقعد في زاوية لأعبد الله تعالى،
وأعطي ملكي وسلطنتي لولدي سيف الملوك؛ فإنه صار شابًّا مليحًا كاملَ الفروسيةِ
والعقل والأدب والحشمة والرياسة، فما تقول أيها الوزير في هذا الرأي؟ فقال الوزير:
نِعْمَ الرأي الذي رأيتَه، وهو رأي مبارك سعيد، فإذا فعلتَ أنت هذا فأنا الآخَر
أفعل مثلك، ويكون ولدي ساعدٌ وزيرًا له؛ لأنه شاب مليح ذو معرفة ورأي، ويصير
الاثنان مع بعضهما، ونحن ندبِّر شأنهما ولا نتهاون في أمرهما، بل ندلُّهما على
الطريق المستقيم.
ثم
قال الملك عاصم لوزيره: اكتبِ الكُتُبَ وأرسِلْها مع السعاة إلى جميع الأقاليم
والبلاد والحصون والقلاع التي تحت أيدينا، ومُرْ أكابرها أن يكونوا في الشهر
الفلاني حاضرين في ميدان الفيل. فخرج الوزير فارس من وقته وساعته، وكتب إلى جميع
العمَّال وأصحاب القلاع، ومَن كان تحت حكم الملك عاصم، أنْ يحضروا جميعهم في الشهر
الفلاني، وأمَرَ أن يحضر كلُّ مَن في المدينة من قاصٍ ودان، ثم إن الملك عاصمًا
بعد مضيِّ غالبِ تلك المدة أمَرَ الفرَّاشين أن يضربوا القباب في وسط الميدان، وأن
يزيِّنوها بأفخر الزينة، وأن ينصبوا التخت الكبير الذي لا يقعد عليه الملك إلا في
الأعياد، ففعلوا في الحال جميعَ ما أمرهم به ونصبوا التخت، وخرجت النواب والحجاب
والأمراء، وخرج الملك وأمر أن يُنادَى في الناس: باسم الله ابرزوا إلى الميدان.
فبرز الأمراء والوزراء وأصحاب الأقاليم والضياع إلى ذلك الميدان، ودخلوا في خدمة
الملك على جري عادتهم، واستقروا كلهم في مراتبهم، فمنهم مَن قعد ومنهم مَن وقف إلى
أن اجتمعت الناس جميعهم، وأمر الملك أن يمدوا السماط فمدوه وأكلوا وشربوا ودعوا
للملك.
ثم
أمر الملك الحجَّاب أن ينادوا في الناس بعدم الذهاب، فنادوا وقالوا في المناداة:
لا يذهب منكم أحدٌ حتى يسمع كلام الملك. ثم رفعوا الستور، فقال الملك: مَن
أحَبَّني فَلْيمكثْ حتى يسمع كلامي. فقعد الناس جميعهم مطمئني النفوس بعد أن كانوا
خائفين، ثم قام الملك على قدميه وحلَّفَهم ألَّا يقوم أحد من مقامه، وقال لهم:
أيها الأمراء والوزراء وأرباب الدولة، كبيركم وصغيركم، ومَن حضر من جميع الناس، هل
تعلمون أن هذه المملكة لي وراثة عن آبائي وأجدادي؟ قالوا له: نعم أيها الملك، كلنا
نعلم ذلك. فقال لهم: أنا وأنتم كنا كلنا نعبد الشمس والقمر، ورزقنا الله تعالى
الإيمان، وأنقذنا من الظلمات إلى النور، وهدانا الله سبحانه وتعالى إلى دين
الإسلام، واعلموا أني الآن صرتُ رجلًا كبيرًا شيخًا هرمًا عاجزًا، وأريد أن أجلس
في زاوية أعبد الله تعالى فيها، وأستغفره من الذنوب الماضية، وهذا ولدي سيف الملوك
حاكم، وتعرفون أنه شاب مليح فصيح خبير بالأمور عاقل فاضل عادل، فأريد في هذه
الساعة أن أعطيه مملكتي وأجعله ملكًا عليكم عوضًا عني، وأجلسه سلطانًا في مكاني،
وأتخلَّى أنا لعبادة الله تعالى في زاوية، وابني سيف الملوك يتولَّى المُلْك ويحكم
بينكم؛ فأي شيء قلتم كلكم بأجمعكم؟ فقاموا كلهم وقبَّلوا الأرض بين يدَيْه،
وأجابوا بالسمع والطاعة، وقالوا: يا ملكنا وحامينا، لو أقمتَ علينا عبدًا من عبيدك
لَأطعناه وسمعنا قولك وامتثلنا أمرك، فكيف بولدك سيف الملوك؟ قَبِلناه ورضيناه على
العين والرأس. فقام الملك عاصم بن صفوان، ونزل من فوق سريره، وأجلَسَ ولدَه على
التخت الكبير، ورفع التاج من فوق رأس نفسه، ووضعه فوق رأس ولده، وشد وسطه بمنطقة
الملك، وجلس الملك عاصم على كرسي مملكته بجانب ولده، فقام الأمراء والوزراء وأكابر
الدولة وجميع الناس، وقبَّلوا الأرض بين يدَيْه وصاروا وقوفًا يقولون لبعضهم: هو
حقيق بالملك، وهو أولى به من الغير. ونادوا بالأمان، ودعوا له بالنصر والإقبال.
ونثر سيفُ الملوك الذهبَ والفضةَ على رءوس الناس أجمعين. وأدرك شهرزاد الصباح
فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 762﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك عاصمًا لما أجلَسَ ولدَه سيف الملوك على التخت،
ودعا له كامل الناس بالنصر والإقبال، نثَرَ الذهبَ والفضة على رءوس الناس أجمعين،
وخلَعَ الخُلَع ووهب وأعطى، ثم بعد لحظة قام الوزير فارس وقبَّلَ الأرض وقال: يا
أمراء، يا أرباب الدولة، هل تعرفون أني وزيرٌ ووزارتي قديمة قبل أن يتولَّى الملك
عاصم بن صفوان، وهو الآن قد خلع نفسه من المُلْك وولَّى ولده عوضًا عنه؟ قالوا:
نعم، نعرف وزارتك أبًّا عن جد. فقال: والآن أخلع نفسي وأولِّي ولدي ساعدًا هذا،
فإنه عاقل فَطِن خبير، فأي شيء تقولون بأجمعكم؟ فقالوا: لا يصلح وزيرًا للملك سيف
الملوك إلا ولدك ساعد، فإنهما يصلحان لبعضهما. فعند ذلك قام الوزير فارس وقلع
عمامة الوزارة ووضعها فوق رأس ولده ساعد، وحطَّ دَوَاة الوزراء قدَّامه أيضًا،
وقالت الحجاب والأمراء: إنه يستحق الوزارة. فعند ذلك قام الملك عاصم والوزير فارس
وفتحا الخزائن، وخلعا الخُلَع السنية على الملوك والأمراء والوزراء وأكابر الدولة
والناس أجمعين، وأعطيا النفقة والأنعام، وكتبا لهم المناشير الجديدة والمراسيم
بعلامة سيف الملوك وعلامة الوزير ساعد ابن الوزير فارس، وأقام الناس في المدينة
جمعةً، وبعدها كلٌّ منهم سافَرَ إلى بلاده ومكانه.
ثم
إن الملك عاصمًا أخذ ولده سيف الملوك وساعدًا ولد الوزير، ثم دخلوا المدينة وطلعوا
القصر، وأحضروا الخازندار وأمروه بإحضار الخاتم والسيف والبقجة، وقال الملك عاصم:
يا ولديَّ، تعالَيَا كل واحد منكما يختار من هذه الهدية شيئًا ويأخذه. فأول مَن
مدَّ يده سيف الملوك فأخذ البقجة والخاتم، ومدَّ ساعدٌ يدَه فأخذ السيف والمُهْر،
وقبَّلَا يدي الملك، وذهبا إلى منزلَيْهما. فلما أخذ سيف الملوك البقجةَ لم يفتحها
ولم ينظر ما فيها، بل رماها فوق التخت الذي ينام عليه بالليل هو وساعد وزيره، وكان
من عادتهما أن يناما مع بعضهما. ثم إنهما فرشا لهما فراشَ النوم، ورقد الاثنان مع
بعضهما على فراشهما والشموع تضيء عليهما، واستمرا إلى نصف الليل، ثم انتبه سيف
الملوك من نومه، فرأى البقجة عند رأسه، فقال في نفسه: يا تُرَى أي شيء في هذه
البقجة التي أهداها لنا الملك من التحف؟ فأخذها وأخذ الشمعة ونزل من فوق التخت
وترك ساعدًا نائمًا، ودخل الخزانة وفتح البقجة فرأى فيها قباء من شغل الجان، ففتح
القباء وفرده فوجد على البطانة التي من داخل في جهة ظهر القباء صورة بنت منقوشة
بالذهب، ولكنَّ جمالها شيء عجيب، فلما رأى هذه الصورة طار عقله من رأسه، وصار
مجنونًا بعشق تلك الصورة، ووقع في الأرض مَغشيًّا عليه، وصار يبكي وينتحب ويلطم
على وجهه وصدره ويقبِّلها، ثم أنشد هذين البيتين:
الْحُبُّ
أَوَّلُ مَا يَكُونُ مُجَاجَةً تَأْتِي
بِهِ وَتَسُوقُهُ الْأَقْدَارُ
حَتَّى
إِذَا خَاضَ الْفَتَى لُجَجَ الْهَوَى
جَاءَتْ أُمُورٌ لَا تُطَاقُ كِبَارُ
ولم
يزل سيف الملوك ينتحب ويبكي ويلطم على وجهه وصدره حتى انتبه الوزير ساعد، وتأمَّل
الفرش فلم يَرَ سيف الملوك، فرأى شمعة، فقال في نفسه: أين راح سيف الملوك؟ ثم أخذ
الشمعة وقام يدور في القصر جميعه حتى وصل إلى الخزانة التي فيها سيف الملوك، فرآه
وهو يبكي بكاءً شديدًا وينتحب، فقال له: يا أخي، لأي سببٍ هذا البكاء؟ أي شيء جرى
لك؟ فحدِّثْني وأخبِرْني بسبب ذلك. وسيف الملوك لم يكلِّمه ولم يرفع رأسه، بل يبكي
وينتحب ويدق يده على صدره. فلما رآه ساعد على هذه الحالة قال: أنا وزيرك وأخوك
وتربيت أنا وإياك، وإنْ لم تبيِّن لي أمورك وتُطلِعني على سرك، فعلى مَن تخرج سرك
وتُطلِعه عليه؟ ولم يزل ساعدٌ يتضرَّع ويقبِّل الأرض ساعةً زمانية، وسيف الملوك لم
يلتفت إليه، ولم يكلِّمه كلمة واحدة، بل يبكي. فلما راع ساعدًا حالُه وأعياه أمره،
خرج من عنده وأخذ سيفًا ودخل الخزانة التي فيها سيف الملوك، وحطَّ ذبابه على صدر
نفسه وقال لسيف الملوك: انتبه يا
أخي، إنْ لم تقل لي أي شيء جرى، قتلتُ روحي ولا أراك في هذه الحال. فعند ذلك رفع
سيف الملوك رأسه إلى وزيره ساعد، وقال له: يا أخي، أنا استحييت أن أقول لك وأخبرك
بالذي جرى لي. فقال له ساعد: سألتك بالله رب الأرباب، ومُعتق الرقاب، ومُسبِّب
الأسباب، الواحد التواب، الكريم الوهَّاب، أن تقول لي ما الذي جرى لك ولا تستحي
مني؛ فأنا عبدك ووزيرك، ومشيرك في الأمور كلها. فقال سيف الملوك: تعالَ انظرْ إلى
هذه الصورة. فلما رأى ساعد تلك الصورة تأمَّلَ فيها ساعة زمانية، ورأى مكتوبًا على
رأس الصورة باللؤلؤ المنظوم: هذه الصورةُ صورةُ بديعةِ الجمال بنت شماخ بن شاروخ
ملك من ملوك الجان المؤمنين، الذين هم نازلون في مدينة بابل، وساكنون في بستان إرم
بن عاد الأكبر. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 763﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن سيفَ الملوك ابن الملك عاصم، والوزيرَ ساعدًا ابن
الوزير فارس لما قرآ الكتابة التي على القباء، ورأيا فيها صورة بديعة الجمال بنت
شماخ بن شاروخ ملك بابل، من ملوك الجان المؤمنين النازلين بمدينة بابل، الساكنين
في بستان إرم بن عاد الأكبر؛ قال الوزير ساعد للملك سيف الملوك: يا أخي، أتعرف مَن
صاحبة هذه الصورة من النساء حتى تفتش عليها؟ فقال سيف الملوك: لا والله يا أخي ما
أعرف صاحبة هذه الصورة. فقال ساعد: تعالَ اقرأ هذه الكتابة. فتقدَّمَ سيف الملوك،
وقرأ الكتابة التي على التاج وعرف مضمونها، فصرخ من صميم قلبه وقال: آه آه! فقال
له ساعد: يا أخي، إن كانت صاحبة هذه الصورة موجودة، واسمها بديعة الجمال وهي في
الدنيا، فأنا أُسرِع في طلبها من غير مهلة حتى تبلغ مرادك، فبالله يا أخي أن تترك
البكاء لأجل أن تدخل أهل الدولة في خدمتك، فإذا كان ضحوة النهار فاطلُبِ التجار
والفقراء والسواحين والمساكين واسألهم عن صفات هذه المدينة، لعل أحدًا ببركة الله
سبحانه وتعالى وعونه يدلُّنا عليها وعلى بستان إرم.
فلما
أصبح الصباح، قام سيف الملوك وطلع فوق التخت وهو معانق للقباء؛ لأنه صار لا يقوم
ولا يقعد ولا يأتيه نوم إلا وهو معه، فدخلت عليه الأمراء والوزراء والجنود وأرباب
الدولة، فلما تم الديوان وانتظم الجمع قال الملك سيف الملوك لوزيره ساعد: ابرزْ
لهم، وقل لهم إن الملك حصل له تشويش، والله ما بات البارحة إلا وهو ضعيف. فطلع
الوزير ساعد وأخبر الناس بما قال الملك، فلما سمع الملك عاصم ذلك لم يَهُنْ عليه
ولده، فعند ذلك دعا بالحكماء والمنجمين، ودخل بهم على ولده سيف الملوك، فنظروا
إليه ووصفوا له الشراب، واستمر موضعَه مدةَ ثلاثة أشهر، فقال الملك عاصم للحكماء
الحاضرين وهو مغتاظ عليهم: ويلكم يا كلاب، هل عجزتم كلكم عن مداواة ولدي؟ فإن لم
تداووه في هذه الساعة أقتلكم جميعًا. فقال رئيسهم الكبير: يا ملك الزمان، إننا
نعلم أن هذا ولدك، وأنت تعلم أننا لا نتساهل في مداواة الغريب، فكيف بمداواة ولدك؟
ولكن ولدك به مرض صعب، إنْ شئتَ معرفتَه نذكره لك ونحدِّثك به. قال الملك عاصم: أي
شيء ظهر لكم من مرض ولدي؟ فقال له الحكيم الكبير: يا ملك الزمان، إن ولدك الآن
عاشق ويحب مَن لا سبيلَ إلى وصاله. فاغتاظ الملك عليهم وقال: من أين علمتم أن ولدي
عاشق؟ ومن أين جاء العشق لولدي؟ فقالوا له: اسأل أخاه ووزيره ساعدًا، فإنه هو الذي
يعلم حاله. فعند ذلك قام الملك عاصم ودخل في خزانة وحده، ودعا بساعد وقال له:
اصدُقْني بحقيقة مرض أخيك. فقال له: ما أعلم حقيقته. فقال الملك للسياف: خذ ساعدًا
واربط عينيه واضرب رقبته. فخاف ساعد على نفسه، وقال: يا ملك الزمان، اعطِني
الأمان. فقال له: قُلْ لي ولك الأمان. فقال له ساعد: إن ولدك عاشق. فقال له الملك:
ومَن معشوقه؟ فقال ساعد: بنت ملك من ملوك الجان، فإنه رأى صورتها في قباء من
البقجة التي أهداها إليكم سليمان نبي الله.
فعند
ذلك قام الملك عاصم ودخل على ابنه سيف الملوك، وقال له: يا ولدي، أي شيء دهاك؟ وما
هذه الصورة التي عشقتَها؟ ولأي شيء لم تخبرني؟ فقال سيف الملوك: يا أبت، كنتُ
أستحيي منك، وما كنت أقدر أن أذكر لك، ولا أقدر أن أُظهِر أحدًا على شيء منه
أبدًا، والآن قد علمتَ بحالي، فانظرْ كيف تعمل في مداواتي. فقال له أبوه: كيف تكون
الحيلة؟ لو كانت هذه من بنات الإنس كنَّا دبَّرْنا حيلةً في الوصول إليها، ولكن
هذه من بنات ملوك الجان، ومَن يقدر عليها إلا إذا كان سليمان بن داود؟ فإنه هو
الذي يقدر على ذلك، ولكن يا ولدي قُمْ في هذه الساعة، وقوِّ روحك، واركبْ ورح إلى
الصيد والقنص واللعب في الميدان، واشتغل بالأكل والشرب، واصرف الهمَّ والغمَّ عن
قلبك، وأنا أجيء لك بمائة بنت من بنات الملوك، وما لك حاجة ببنات الجان التي ليس
لنا قدرة عليهم، ولا هم من جنسنا. فقال له: أنا ما أتركها ولا أطلب غيرها. فقال له:
كيف يكون العمل يا ولدي؟ فقال له ابنه: احضر لنا جميع التجار والمسافرين والسواحين
في البلاد لنسألهم عن ذلك، لعل الله يدلنا على بستان إرم، وعلى مدينة بابل. فأمر
الملك عاصم أن يحضر كل تاجر في المدينة، وكل غريب فيها، وكل رئيس في البحر، فلما
حضروا سألهم عن مدينة بابل وعن جزيرتها وعن بستان إرم، فما أحد منهم عرف هذه
الصفة، ولا أخبر عنها بخبر، وعند انفضاض المجلس قال واحد منهم: يا ملك الزمان، إنْ
كنتَ تريد أن تعرف ذلك فعليك ببلاد الصين، فإنها مدينة كبيرة، ولعل أحدًا منها
يدلك على مقصودك.
ثم
إن سيف الملوك قال: يا أبي، جهِّزْ لي مركبًا للسفر إلى بلاد الصين. فقال له أبوه
الملك عاصم: يا ولدي، اجلسْ أنت على كرسي مملكتك واحكم في الرعية، وأنا أسافر إلى
بلاد الصين وأمضي إلى هذا الأمر بنفسي. فقال سيف الملوك: يا أبي، إن هذا الأمر
مُتعلقٌ بي وما، يقدر أحد أن يفتش عليه مثلي، وأي شيء يجري إذا كنتَ تعطيني إذنًا
بالسفر، وأتغرَّب مدةً من الزمان؟ فإنْ وجدتُ لها خبرًا حصل المراد، وإنْ لم أجد
لها خبرًا يكون في السفر انشراح صدري، ونشاط خاطري، ويهون أمري بسبب ذلك، وإن عشتُ
رجعتُ إليك سالمًا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 764﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن سيف الملوك قال لوالده الملك عاصم: جهِّزْ لي مركبًا
لأسافر فيها إلى بلاد الصين حتى أفتِّش على مقصودي، فإنْ عشتُ رجعتُ إليك سالمًا.
فنظر الملك إلى ابنه فلم يَرَ له حيلة غير أنه يعمل له الذي يرضيه، فأعطاه إذنًا
بالسفر، وجهَّزَ له أربعين مركبًا وعشرين ألفَ مملوك غير الأتباع، وأعطاه أموالًا
وخزائن وكل شيء يحتاج إليه من آلات الحرب، وقال له: سافِرْ يا ولدي في خير وعافية
وسلامة، وقد استودعتُك عند مَن لا تخيب عنده الودائع. فعند ذلك ودَّعَه أبوه وأمه،
وشُحِنت المراكب بالماء والزاد والسلاح والعساكر، ثم سافروا. ولم يزالوا مسافرين
حتى وصلوا إلى مدينة الصين، فلما سمع أهل الصين أنه وصل إليهم أربعون مركبًا
مشحونة بالرجال والعُدَد والسلاح والذخائر، اعتقدوا أنهم أعداء جاءوا إلى قتالهم
وحصارهم، فقفلوا أبواب المدينة وجهَّزوا المنجنيقات، فلما سمع الملك سيف الملوك
ذلك أرسَلَ إليهم مملوكين من مماليكه الخواص، وقال لهم: امضوا إلى ملك الصين،
وقولوا له: إن هذا سيف الملوك ابن الملك عاصم، جاء إلى مدينتك ضيفًا ليتفرج في
بلادك مدة من الزمان، ولا يقاتل ولا يخاصم، فإنْ قبلتَه نزل عندك، وإنْ لم تقبله
رجع ولا يشوِّش عليك ولا على أهل مدينتك.
فلما
وصل المماليك إلى المدينة قالوا لأهلها: نحن رُسُل الملك سيف الملوك. ففتحوا لهم
الباب، وذهبوا بهم وأحضروهم عند ملكهم، وكان اسمه قعفوشاه، وكان بينه وبين الملك
عاصم قبل تاريخه معرفة، فلما سمع أن الملك القادم عليه هو سيف الملوك ابن الملك
عاصم، خلع على الرُّسُل وأمَرَ بفتح الأبواب وجهَّزَ الضيافات، وخرج بنفسه مع خواص
دولته وجاء إلى سيف الملوك وتعانَقَا، وقال له: أهلًا وسهلًا ومرحبًا بمَن قدم
علينا، وأنا مملوكك ومملوك أبيك ومدينتي بين يديك، وكل ما تطلبه يحضر إليك. وقدَّمَ
له الضيافات والزاد في مواضع الإقامات، وركب الملك سيف الملوك وساعد وزيره ومعهما
خواص دولتهما وبقية العساكر، وساروا في ساحل البحر إلى أن دخلوا المدينة، وضُرِبت
الكاسات ودُقَّت البشائر، وأقاموا فيها مدة أربعين يومًا في ضيافات حسنة.
ثم
بعد ذلك قال له: يا ابن أخي، كيف حالك؟ هل أعجبتك بلادي؟ فقال له سيف الملوك: أدام
الله تعالى تشريفها بك أيها الملك. فقال الملك قعفوشاه: ما جاء بك إلا حاجة طرأَتْ
لك، وأي شيء تريده من بلادي فأنا أقضيه لك. فقال له سيف الملوك: إن حديثي عجيب،
وهو أني عشقتُ صورةَ بديعةِ الجمال. فبكى ملك الصين رحمةً له وشفقةً عليه، وقال
له: وما تريد الآن يا سيف الملوك؟ فقال له: أريد منك أن تحضر لي جميع السوَّاحين
والمسافرين، ومَن له عادة بالأسفار حتى أسألهم عن صاحبة هذه الصورة، لعل أحدًا
منهم يخبرني بها. فأرسل الملك قعفوشاه النواب والحجاب والأعوان، وأمرهم أن
يُحضِروا جميعَ مَن في البلاد من السواحين والمسافرين، فأحضروهم وكانوا جماعة
كثيرة، فاجتمعوا عند الملك قعفوشاه، ثم سأل الملك سيف الملوك عن مدينة بابل، وعن
بستان إرم، فلم يردَّ عليه أحدٌ منهم جوابًا. فتحيَّرَ الملك سيف الملوك في أمره،
ثم بعد ذلك قال واحد من الرؤساء البحرية: أيها الملك، إنْ أردتَ أن تعلم هذه
المدينة وذلك البستان، فعليك بالجزائر التي في بلاد الهند. فعند ذلك أمر سيف
الملوك أن يحضروا المركب، ففعلوا ونقلوا فيها الماءَ والزادَ وجميعَ ما يحتاجون
إليه، وركب سيف الملوك وساعد وزيره بعد أن ودَّعوا الملك قعفوشاه، وسافروا في
البحر مدة أربعة أشهر في ريح طيبة سالمين مطمئنين، فاتفق أن خرج عليهم ريح في يوم
من الأيام، وجاءهم الموج من كل مكان، ونزلت عليهم الأمطار وتغيَّرَ البحر من شدة
الريح، ثم ضربت المراكب بعضها بعضًا من شدة الريح، فانكسرت جميعها وكذلك الزوارق
الصغيرة، وغرقوا جميعهم وبقي سيف الملوك مع جماعة من مماليكه في زروق صغير.
ثم
سكت الريح وسكن بقدرة الله تعالى، وطلعت الشمس ففتح سيف الملوك عينه، فلم يَرَ
شيئًا من المراكب، ولم يَرَ غير السماء والماء، وهو ومَن معه في الزورق الصغير،
فقال لمَن معه من مماليكه: أين المراكب والزوارق الصغيرة؟ وأين أخي ساعد؟ فقالوا
له: يا ملك الزمان، لم يَبْقَ مراكب ولا زوارق، ولا مَن فيها، فإنهم غرقوا كلهم
وصاروا طعمًا للسمك. فصرخ سيف الملوك، وقال كلمة لا يخجل قائلها وهي: لا حول ولا
قوة إلا بالله العلي العظيم. وصار يلطم على وجهه، وأراد أن يرمي نفسه في البحر،
فمنعه المماليك وقالوا له: يا ملك، أي شيء يفيدك من هذا؟ فأنت الذي فعلتَ بنفسك
هذه الفعال، ولو سمعت كلام أبيك ما كان جرى عليك من هذا شيء، ولكن كل هذا مكتوب من
القِدَم بإرادةِ بارئ النسم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 765﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن سيف الملوك لما أراد أن يرمي نفسه في البحر منعته
المماليك، وقالوا له: أي شيء يفيدك من هذا؟ فأنت الذي فعلتَ بنفسك هذه الفعال،
ولكن هذا شيء مكتوب من القِدَم بإرادة بارئ النسم، حتى يستوفي العبد ما كتب الله
عليه، وقد قال المنجِّمون لأبيك عند ولادتك: إن ابنك هذا تجري عليه الشدائد كلها،
وحينئذٍ ليس لنا حيلة إلا الصبر حتى يفرِّج الله علينا الكرب الذي نحن فيه. فقال
سيف الملوك: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لا مفرَّ من قضاء الله تعالى
ولا مهرب. ثم إنه تنهَّدَ وأنشد هذه الأبيات:
تَحَيَّرْتُ
وَالرَّحْمَنُ لَا شَكَّ فِي أَمْرِي
وَأَدْرَكَنِي الْوَسْوَاسُ مِنْ حَيْثُ لَا أَدْرِي
سَأَصْبِرُ
حَتَّى يَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّنِي صَبَرْتُ
عَلَى شَيْءٍ أَمَرَّ مِنَ الصَّبْرِ
وَمَا
طَعْمُ صَابِ الصَّبْرِ صَبْرِي وَإِنَّمَا
صَبَرْتُ عَلَى شَيْءٍ أَحَرَّ مِنَ الْجَمْرِ
وَمَا
حِيلَتِي فِي الْأَمْرِ هَذَا وَإِنَّمَا
أُفَوِّضُ أَحْوَالِي إِلَى صَاحِبِ الْأَمْرِ
ثم
غرق في بحر الأفكار، وجرَتْ دموعه على خده كالمدرار، ونام ساعة من النهار، ثم استفاق
وطلب شيئًا من الأكل، فأكل حتى اكتفى ورفعوا الزاد من قدامه والزورق سائر بهم، ولم
يعلموا إلى أي جهةٍ يتوجه بهم، ولم يزل يسير بهم مع الأمواج والرياح ليلًا ونهارًا
مدةً مديدة من الزمان، حتى فرغ منهم الزاد، وذهلوا عن الرشاد، وصاروا في أشد ما
يكون من الجوع والعطش والقلق، وإذا بجزيرة قد لاحت لهم على بُعْدٍ، فصارت الرياح
تسوقهم إلى أن وصلوا إليها وأرسوا عليها، وطلعوا من الزورق وتركوا فيه واحدًا، ثم
توجَّهوا إلى تلك الجزيرة، فرأوا فيها فواكه كثيرة من سائر الألوان، فأكلوا منها
حتى اكتفوا، وإذا بشخص جالس بين تلك الأشجار، طويل الوجه، رؤيته عجيبة، أبيض
اللحية والبدن، فنادى بعض المماليك باسمه وقال له: لا تأكلْ من هذه الفواكه؛ لأنها
لم تستوِ وتعالَ عندي حتى أطعمك من هذه الفواكه المستوية. فنظر إليه المملوك وظنَّ
أنه من جملة الغرقى الذين غرقوا وطلع على هذه الجزيرة، ففرح برؤيته غايةَ الفرح
ومشى حتى وصل قريبًا منه، وذلك المملوك لا يعلم الذي قدر عليه في الغيب، وما هو
مُسطَّر على جبينه، فلما صار ذلك المملوك قريبًا منه وثب عليه ذلك الرجل لأنه
مارد، وركب فوق أكتافه ولفَّ إحدى رجلَيْه على رقبته، والأخرى أرخاها على ظهره،
وقال له: امشِ ما بقي لك مني خلاص، وأنت بقيت حماري. فصاح ذلك المملوك على رفقائه
وصار يبكي ويقول: وا سيداه! اخرجوا وانجوا بأنفسكم من هذه الغابة واهربوا؛ لأن
واحدًا من سكانها ركب فوق أكتافي، وإن البقية يطلبونكم ويريدون أن يركبوكم مثلي.
فلما
سمعوا ذلك الكلام الذي قاله المملوك، هربوا كلهم ونزلوا في الزورق، فتبعوهم في
البحر وقالوا لهم: أين تذهبون؟ تعالوا اقعدوا عندنا ولنركب فوق ظهوركم ونطعمكم
ونسقيكم وتبقوا حميرنا. فلما سمعوا منهم هذا الكلام أسرعوا بالسير في البحر إلى أن
بعدوا عنهم وتوجَّهوا متوكلين على الله تعالى. ولم يزالوا كذلك مدةَ شهر حتى بانت
لهم جزيرة أخرى، فطلعوا في تلك الجزيرة فرأوا فيها فواكه مختلفة الأنواع، فاشتغلوا
بأكل الفواكه، وإذا هم بشيء في الطريق يلوح على بُعْد، فلما قربوا منه نظروا إليه
فرأوه بَشِع المنظر مرميًّا مثل عامود من فضة، فلكزه مملوك برجله وإذا هو شخص طويل
العينين، مشقوق الرأس، وهو مُخْتَفٍ تحت إحدى أذنيه؛ لأنه كان إذا نام يحطُّ أذنَه
تحت رأسه ويتغطَّى بالأذن الأخرى. ثم خطف ذلك المملوكَ الذي لكزه وراح به في وسط
الجزيرة، فإذا هي كلها غيلان يأكلون بني آدم. ثم إن ذلك المملوك صاح على رفقائه
وقال لهم: فوزوا بأنفسكم فإن هذه الجزيرة جزيرة الغيلان، يأكلون بني آدم ويريدون
أن يقطعوني ويأكلوني. فلما سمعوا هذا الكلام ولَّوْا مُعرِضين، ونزلوا من البر إلى
الزورق، ولم يجمعوا من هذه الفواكه شيئًا.
وساروا
مدة أيام، فاتفق أنه ظهرت لهم يومًا من الأيام جزيرة أخرى، فلما وصلوا إليها وجدوا
فيها جبلًا عاليًا، فطلعوا في ذلك الجبل فرأوا فيه غابة كثيرة الأشجار وهم جياع،
فاشتغلوا بأكل الفواكه، فلم يشعروا إلا وقد خرج لهم من بين الأشجار أشخاص هائلة
المنظر طوال، طول كل واحد منهم خمسون ذراعًا، وأنيابه خارجة من فمه مثل أنياب الفيل،
وإذا هم بشخص جالس على قطعة لباد أسود فوق صخرة من الحجر وحواليه الزنوج، وهم
جماعة كثيرة واقفون في خدمته، فجاء هؤلاء الزنوج وأخذوا سيف الملوك ومماليكه
وأوقفوهم بين يدي ملكهم، وقالوا: إنَّا لقينا هذه الطيور بين الأشجار. وكان الملك
جائعًا، فأخذ من المماليك اثنين وذبحهما وأكلهما. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن
الكلام المباح.
﴿اللیلة 766﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الزنوج لما أخذوا الملك سيف الملوك ومماليكه،
وأوقفوهم بين يدي ملكهم، وقالوا له: يا ملك، إنَّا لقينا هذه الطيور بين الأشجار.
فأخذ ملكهم مملوكَيْن، وذبحهما وأكلهما، فلما رأى سيف الملوك هذا الأمر خاف على
نفسه وبكى، ثم أنشد هذين البيتين:
أَلِفَ
الْحَوَادِثَ مُهْجَتِي وَأَلِفْتُهَا
بَعْدَ التَّنَافُرِ وَالْكَرِيمُ أَلُوفُ
لَيْسَ
الْهُمُومُ عَلَيَّ صِنْفًا وَاحِدًا
عِنْدِي بِحَمْدِ اللهِ مِنْهُ أُلُوفُ
ثم
تنهد وأنشد أيضًا هذين البيتين:
رَمَانِي
الدَّهْرُ بِالْأَرْزَاءِ حَتَّى
فُؤَادِي فِي غِشَاءٍ مِنْ نِبَالِ
فَصِرْتُ
إِذَا أَصَابَتْنِي سِهَامٌ
تَكَسَّرَتِ النِّصَالُ عَلَى النِّصَالِ
فلما
سمع الملك بكاءه وتعديده قال: إن هؤلاء طيور مليحة الصوت والنغمة، قد أعجبتني
أصواتهم، فاجعلوا كلَّ واحد منهم في قفص. فحطوا كلَّ واحد منهم في قفص، وعلقوهم
على رأس الملك ليسمع أصواتهم، وصار سيف الملوك ومماليكه في الأقفاص، والزنوج
يُطعِمونهم ويسقونهم، وهم ساعة يبكون، وساعة يضحكون، وساعة يتكلمون، وساعة يسكتون،
كل هذا وملك الزنوج يتلذَّذ بأصواتهم. ولم يزالوا على تلك الحالة مدة من الزمان،
وكان للملك بنت متزوجة في جزيرة أخرى، فسمعت أن أباها عنده طيور لها أصوات مليحة،
فأرسلت جماعة إلى أبيها تطلب منه شيئًا من الطيور، فأرسل إليها أبوها سيف الملوك
وثلاثة مماليك في أربعة أقفاص مع القاصد الذي جاء في طلبهم، فلما وصلوا إليها
ونظرتهم أعجبوها، فأمرت أن يطلعوهم في موضع فوق رأسها، فصار سيف الملوك يتعجب مما
جرى له، ويتفكر ما كان فيه من العز، وصار يبكي على نفسه والمماليك الثلاثة يبكون
على أنفسهم، كل هذا وبنت الملك تعتقد أنهم يغنون. وكانت عادة بنت الملك إذا وقع
عندها أحد من بلاد مصر أو من غيرها وأعجبها، يصير له عندها منزلة عظيمة، وكان
بقضاء الله تعالى وقدره أنها لما رأت سيف الملوك أعجبها حسنه وجماله وقده
واعتداله، فأمرت بإكرامهم.
واتفق
أنها اختلت يومًا من الأيام بسيف الملوك وطلبت منه أن يجامعها، فأبى سيف الملوك
ذلك، وقال لها: يا سيدتي، أنا رجل غريب وبحبِّ الذي أهواه كئيب، وما أرضى بغير
وصاله. فصارت بنت الملك تلاطفه وتراوده، فامتنع منها، ولم تقدر أن تدنو منه، ولا
أن تصل إليه بحالٍ من الأحوال، فلما أعياها أمره غضبت عليه وعلى مماليكه، وأمرتهم
أن يخدموها وينقلوا إليها الماء والحطب، فمكثوا على هذه الحالة أربع سنوات، فأعيا
سيف الملوك ذلك الحال وأرسل يتشفع عند الملكة عسى أن تعتقهم ويمضوا إلى حال
سبيلهم، ويستريحوا مما هم فيه، فأرسلت أحضرت سيف الملوك وقالت: إنْ وافقتَني على
غرضي أعتقتُك من الذي أنت فيه، وتروح لبلادك سالمًا غانمًا. وما زالت تتضرع إليه
وتأخذ بخاطره فلم يُجِبْها إلى مقصودها، فأعرضت عنه مغضبةً، وصار سيف الملوك
والمماليك عندها في الجزيرة على تلك الحالة، وعرف أهلها أنهم طيور بنت الملك فلم
يتجاسر أحد من أهل المدينة على أن يضرهم بشيء، وصار قلب بنت الملك مطمئنًّا عليهم،
وتحقَّقت أنهم ما بقي لهم خلاص من هذه الجزيرة، فصاروا يغيبون عنها اليومين
والثلاثة، ويدورون في البرية ليجمعوا الحطب من جوانب الجزيرة، ويأتوا به إلى مطبخ
بنت الملك، فمكثوا على هذه الحالة خمس سنوات، فاتفق أن سيف الملوك قعد هو ومماليكه
يومًا من الأيام على ساحل البحر يتحدثون فيما جرى، فالتفت سيف الملوك فرأى نفسه في
هذا المكان هو ومماليكه، فتذكَّرَ أمه وأباه وأخاه ساعدًا، وتذكَّر العزَّ الذي
كان فيه، فبكى وزاد في البكاء والنحيب، وكذلك المماليك بكوا مثله.
ثم
قال المماليك: يا ملك الزمان، إلى متى نبكي والبكاء لا يفيد؟ وهذا أمر مكتوب على
جباهنا بتقدير الله عز وجل، وقد جرى القلم بما حكم، وما ينفعنا إلا الصبر؛ لعل
الله سبحانه وتعالى الذي ابتلانا بهذه الشدة يفرجها عنا. فقال لهم سيف الملوك: يا
إخوتي، كيف نعمل في خلاصنا من هذه الملعونة؟ ولا أرى لنا خلاصًا إلا أن يخلصنا
الله منها بفضله، ولكن خطر ببالي أننا نهرب ونستريح من هذا التعب. فقالوا له: يا
ملك الزمان، أين نروح من هذه الجزيرة، وهي كلها غيلان يأكلون بني آدم؟ وكل موضع
توجَّهْنا إليه وجدونا فيه، فإما أن يأكلونا وإما أن يأسرونا ويردونا إلى موضعنا،
وتغضب علينا بنت الملك. فقال سيف الملوك: أنا أعمل لكم شيئًا، لعل الله تعالى
يساعدنا به على الخلاص، ونخلص من هذه الجزيرة. فقالوا له: كيف تعمل؟ فقال: نقطع من
هذه الأخشاب الطوال ونفتل من قشرها حبالًا، ونربط بعضها في بعض ونجعلها فلكًا
ونرميه في البحر، ونملؤه من تلك الفاكهة ونعمل له مجاديف وننزل فيه، لعل الله
تعالى أن يجعل لنا به فرجًا، فإنه على كل شيء قدير، وعسى الله أن يرزقنا الريح
الطيب الذي يوصلنا إلى بلاد الهند ونخلص من هذه الملعونة. فقالوا له: هذا رأي حسن.
وفرحوا به فرحًا شديدًا، وقاموا في الوقت والساعة يقطعون الأخشاب لعمل الفلك، ثم
فتلوا الحبال لربط الأخشاب في بعضها، واستمروا على تلك مدةَ شهر، وكل يوم في آخِر
النهار يأخذون شيئًا من الحطب، ويروحون به إلى مطبخ بنت الملك، ويجعلون بقية
النهار لأشغالهم في صنع الفلك إلى أن أتَمُّوه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن
الكلام المباح.
﴿اللیلة 767﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن سيف الملوك ومماليكه لما قطعوا الأخشاب من الجزيرة
وفتلوا الحبال، ربطوا الفلك الذي عملوه، فلما فرغوا من عمله رموه في البحر، ووسقوه
من الفواكه التي في الجزيرة من تلك الأشجار، وتجهَّزوا في آخِر يومهم، ولم
يُعلِموا أحدًا بما فعلوا، ثم ركبوا في ذلك الفلك، وساروا في البحر مدة أربعة
أشهر، ولم يعلموا أين يذهب بهم، وفرغ منهم الزاد، وصاروا في أشد ما يكون من الجوع
والعطش، وإذا بالبحر قد أرغى وأزبد، وطلع له أمواج عالية، فأقبل عليهم تمساح هائل،
ومد يده وخطف مملوكًا من المماليك وبلعه، فلما رأى سيف الملوك ذلك التمساح فعل
بالمملوك ذلك الفعل، بكى بكاءً شديدًا، وصار في الفلك هو والمملوك الباقي وحدهما،
وبعدَا عن مكان التمساح وهما خائفان، ولم يزالا كذلك حتى ظهر لهما يومًا من الأيام
جبلٌ عظيم هائل عالٍ شاهق في الهواء، ففرحا به، وظهر لهما بعد ذلك جزيرة، فجدَّا
في السير إليها وهما مستبشران بدخولهما الجزيرة. فبينما هما على تلك الحال، وإذا
بالبحر قد هاج وعلت أمواجه وتغيَّرت حالاته، فرفع تمساح رأسه ومد يده، فأخذ
المملوك الذي بقي من مماليك سيف الملوك وبلعه، فصار سيف الملوك وحده حتى وصل إلى
الجزيرة، وصار يعالج إلى أن صعد فوق الجبل، ونظر فرأى غابة، فدخل الغابة ومشى بين
الأشجار، وصار يأكل من الفواكه، فرأى الأشجار قد طلع فوقها ما يزيد عن عشرين قردًا
كبارًا، كل واحد منهم أكبر من البغل، فلما رأى سيف الملوك هذه القرود حصل له خوف
شديد، ثم نزلت القرود واحتاطوا به من كل جانب، وبعد ذلك ساروا أمامه، وأشاروا إليه
أن يتبعهم، ومشوا فمشى سيف الملوك خلفهم، وما زالوا سائرين وهو تابعهم حتى أقبلوا
على قلعة عالية البنيان مشيدة الأركان، فدخلوا تلك القلعة ودخل سيف الملوك وراءهم،
فرأى فيها من سائر التحف والجواهر والمعادن ما يكلُّ عنه وصفه اللسان، ورأى في تلك
القلعة شابًّا لا نباتَ بعارضَيْه، لكنه طويل زائد الطول. فلما رأى سيف الملوك ذلك
الشاب استأنس به، ولم يكن في تلك القلعة غير ذلك الشاب من البشر.
ثم
إن الشاب لما رأى سيف الملوك أعجبه غاية الإعجاب، فقال له: ما اسمك؟ ومن أي البلاد
أنت؟ وكيف وصلتَ إلى هنا؟ فأخبرني بحديثك، ولا تكتم منه شيئًا. فقال له سيف
الملوك: أنا والله ما وصلت إلى هنا بخاطري، ولا كان هذا المكان مقصودي، وأنا لا
أقدر أن أسير من مكان إلى مكان حتى أنال مطلوبي. فقال له الشاب: وما مطلوبك؟ فقال
له سيف الملوك: أنا من بلاد مصر واسمي سيف الملوك، وأبي اسمه الملك عاصم بن صفوان
… ثم إنه حكى له ما جرى له من أول الأمر إلى آخِره؛ فقام ذلك الشاب في خدمة سيف
الملوك وقال: يا ملك الزمان، أنا كنت في مصر وسمعت بأنك سافرت إلى بلاد الصين،
وأين هذه البلاد من بلاد الصين؟ إن هذا لَشيء عجيب وأمر غريب. فقال له سيف الملوك:
كلامك صحيح، ولكن سافرت بعد ذلك من بلاد الصين إلى بلاد الهند، فخرج علينا ريح
وهاج البحر وكسرت جميع المراكب التي كانت معي. وذكر له جميع ما جرى له إلى أن قال:
وقد وصلت إليك في هذا المكان. فقال له الشاب: يا ابن الملك، يكفي ما جرى لك من هذه
الغربة وشدائدها، والحمد لله الذي أوصلك إلى هذا المكان، فاقعد عندي لآنس بك إلى
أن أموت وتكون أنت ملكًا على هذا الإقليم، فإن فيه هذه الجزيرة التي لا يُعرَف لها
حد، وإن هذه القرود أصحاب صنائع وكل شيء طلبته تجده ها هنا. فقال سيف الملوك: يا
أخي، ما أقدر أن أقعد في مكان حتى تُقضَى حاجتي، ولو أطوف جميع الدنيا وأسأل عن
غرضي، لعل الله يبلغني مرادي أو يكون سعيي إلى مكان فيه أجلي فأموت.
ثم
إن الشاب التفَتَ إلى قرد وأشار إليه، فغاب القرد ساعة ثم أتى ومعه قرود مشدودة
الوسط بالفوط الحرير، وقدموا السماط ووضعوا فيه نحو مائة صحفة من الذهب والفضة،
وفيها من سائر الأطعمة، وصارت القرود واقفة على عادة الأتباع بين يدي الملوك. ثم
أشار للحجاب بالقعود، فقعدوا ووقف الذي عادته الخدمة، ثم أكلوا حتى اكتفوا، ثم
رفعوا السماط وأتوا بطشوت وأباريق من الذهب فغسلوا أيديهم، ثم جاءوا بأواني الشراب
نحو أربعين آنية، كل آنية فيها نوع من الشراب، فشربوا وتلذذوا وأطربوا وطاب لهم
وقتهم، وجميع القرود يرقصون ويلعبون وقت اشتغال الآكلين بالأكل. فلما رأى سيف
الملوك ذلك تعجَّبَ منهم، ونسي ما جرى له من الشدائد. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ
عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 768﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن سيف الملوك لما رأى فعل القرود ورقصهم، تعجَّب منهم
ونسي ما جرى له من الغربة وشدائدها، فلما كان الليل أوقدوا الشموع ووضعوها في الشمعدانات
الذهب والفضة، ثم أتوا بأواني النُّقْل والفاكهة فأكلوا، ولما جاء وقت النوم فرشوا
لهم الفرش وناموا. فلما أصبح الصباح قام الشاب على عادته، ونبه سيف الملوك وقال
له: أخرِجْ رأسك من هذا الشباك، وانظر أي شيء هذا الواقف تحت الشباك. فنظر فرأى
قرودًا ملأت الفلا الواسع والبرية كلها، وما يعلم عدد تلك القرود إلا الله تعالى.
فقال سيف الملوك: هؤلاء قرود كثيرون قد ملئوا الفضاء، ولأي شيء اجتمعوا في هذا
الوقت؟ فقال له الشاب: إن هذه عادتهم، وجميع ما في الجزيرة قدامي، وبعضهم جاء من
سَفَر يومين أو ثلاثة أيام، فإنهم يأتون في كل يوم سبت ويقفون هنا حتى أنتبه من
منامي، وأُخرِج رأسي من هذا الشباك، فحين يبصرونني يقبِّلون الأرض بين يدي، ثم
ينصرفون إلى أشغالهم. وأخرَجَ رأسه من الشباك حتى رأوه، فلما نظروه قبَّلوا الأرض
بين يديه وانصرفوا.
ثم
إن سيف الملوك قعد عند الشاب مدة شهر كامل، وبعد ذلك ودَّعَه وسافَرَ، فأمر الشاب
نفرًا من القرود نحو المائة قرد بالسفر معه، فسافروا في خدمة سيف الملوك مدة سبعة
أيام حتى أوصلوه إلى آخِر جزائرهم، ثم ودَّعوه ورجعوا إلى أماكنهم. وسافَرَ سيف
الملوك وحده في الجبال والتلال والبراري والقفار مدة أربعة أشهر، يوم يجوع ويوم
يشبع، ويوم يأكل من الحشيش، ويوم يأكل من ثمر الأشجار، وصار يتندم على ما فعل
بنفسه وعلى خروجه من عند ذلك الشاب، وأراد أن يرجع إليه على أثره، فرأى شبحًا أسود
يلوح على بعد، فقال في نفسه: هل هذه بلدة سوداء أم كيف الحال؟ ولكن لا أرجع حتى
أنظر أي شيء هذا الشبح. فلما قرب منه رآه قصرًا عالي البنيان، وكان الذي بناه يافث
بن نوح عليه السلام، وهو القصر الذي ذكره الله تعالى في كتابه العزيز، وبقوله: وَبِئْرٍ
مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ
مَشِيدٍ، ثم إن سيف الملوك جلس على باب القصر وقال في نفسه: يا تُرَى، ما شأن داخل
هذا القصر؟ ومَن فيه من الملوك؟ فمَن يخبرني بحقيقة الأمر؟ وهل سكانه من الإنس أو
من الجن؟ فقعد يتفكَّر ساعة زمانية، ولم يجد أحدًا يدخله ولا يخرج منه، فقام يمشي
وهو متوكل على الله حتى دخل القصر، وعدَّ في طريقه سبعة دهاليز، فلم يَرَ أحدًا،
ونظر على يمينه ثلاثة أبواب، وقدامه باب عليه ستارة مسبولة، فتقدَّمَ إلى ذلك
الباب ورفع الستارة بيده، ومشى داخل الباب، وإذا هو بإيوان كبير مفروش بالبسط
الحرير، وفي صدر ذلك الإيوان تخت من الذهب، وعليه بنت جالسة وجهها مثل القمر،
وعليها ملبوس الملوك وهي كالعروس في ليلة زفافها، وتحت التخت أربعون سماطًا وعليها
صحاف الذهب والفضة وكلها ملآنة بالأطعمة الفاخرة. فلما رآها سيف الملوك أقبَلَ
عليها وسلَّمَ، فردَّتْ عليه السلام وقالت له: هل أنت من الإنس أو من الجن؟ فقال:
أنا من خيار الإنس، فإني ملك ابن ملك. فقالت له: أي شيء تريد؟ دونك وهذا الطعام،
وبعد ذلك حدِّثني بحديثك من أوله إلى آخِره؟ وكيف وصلتَ إلى هذا الموضع؟
فجلس
سيف الملوك على السماط، وكشف المكبة عن السُّفرة، وكان جائعًا، وأكل من تلك الصحاف
حتى شبع، وغسل يده وطلع على التخت، وقعد عند البنت، فقالت له: مَن أنت؟ وما اسمك؟
ومن أين جئتَ؟ ومَن أوصلك إلى هنا؟ فقال لها سيف الملوك: أما أنا فحديثي طويل.
فقالت له: قل لي من أين أنت؟ وما سبب مجيئك إلى هنا؟ وما مرادك؟ فقال لها: أخبريني
أنتِ ما شأنك؟ وما اسمك؟ ومَن جاء بك إلى هنا؟ ولأي شيء أنتِ قاعدة في هذا المكان
وحدك؟ فقالت له البنت: أنا اسمي دولة خاتون بنت ملك الهند، وأبي ساكن في مدينة
سرنديب، ولأبي بستان مليح كبير ما في الهند وأقطارها أحسن منه، وفيه حوض كبير،
فدخلت في ذلك البستان يومًا من الأيام مع جواري وتقرَّبت أنا وجواري، ونزلنا في
ذلك الحوض وصرنا نلعب وننشرح، فلم أشعر إلا وشيء مثل السحاب نزل عليَّ وخطفني من
بين جواري، وطار بي بين السماء والأرض، وهو يقول: يا دولة خاتون، لا تخافي وكوني
مطمئنة القلب. ثم طار بي مدة قليلة، وبعد ذلك أنزلني هذا القصر، ثم انقلب من وقته
وساعته، فإذا هو شاب مليح حسن الشباب نظيف الثياب، وقال لي: أتعرفينني؟ فقلت: لا يا
سيدي. فقال: أنا ابن الملك الأزرق ملك الجان، وأبي ساكن في قلعة القلزم، وتحت يده
ستمائة ألف من الجن الطيارة والغواصين، واتفق لي أنى كنت عابرًا في طريق ومتوجهًا
إلى حال سبيلي، فرأيتك وعشقتك، ونزلت عليك وخطفتك من بين الجواري، وجئت بك إلى هذا
القصر المشيد، وهو موضعي ومسكني، فلا أحد يصل إليه قطُّ لا من الجن ولا من الإنس،
ومن الهند إلى هنا مسير مائة وعشرين سنة، فتحقَّقي أنك لا تنظرين بلاد أبيك وأمك
أبدًا، فاقعدي عندي في هذا المكان مطمئنة القلب والخاطر، وأنا أحضر بين يديك كل ما
تطلبينه. ثم بعد ذلك عانقني وقبَّلني. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام
المباح.
﴿اللیلة 769﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن البنت قالت لسيف الملوك: ثم إن ابن ملك الجان بعد أن
أخبرني عانقني وقبَّلني وقال لي: اقعدي هنا ولا تخافي من شيء. ثم تركني وغاب ساعة
وبعد ذلك أتى ومعه هذا السماط والفرش والبسط، ولكن يجيئني في كل يوم ثلاثاء على
هذه الحالة، وعند مجيئه يأكل ويشرب معي ويعانقني ويقبِّلني، وأنا بنت بكر على
الحالة التي خلقني الله تعالى عليها ولم يفعل بي شيئًا. وأبي اسمه تاج الملوك ولم
يعلم لي بخبر، ولم يقع لي على أثر، وهذا حديثي فحدِّثني أنت بحديثك. فقال لها سيف
الملوك: إن حديثي طويل وأخاف إن حدَّثْتُك يطول الوقت علينا فيجيء العفريت. فقالت
له: إنه لم يسافر من عندي إلا قبل دخولك بساعة، ولن يأتي إلا في يوم الثلاثاء،
فاقعدْ واطمئنَّ وطيِّب خاطرك، وحدِّثني بما جرى لك من الأول إلى الآخر. فقال سيف
الملوك: سمعًا وطاعة.
ثم
ابتدأ بحديثه حتى أكمله من الأول إلى الآخر، فلما وصل إلى حكاية بديعة الجمال
تغرغرت عيناها بالدموع الغزار وقالت: ما هو ظني فيك يا بديعة الجمال، آه من الزمان
يا بديعة الجمال، أما تذكرينني ولا تقولين أختي دولة خاتون أين راحت! ثم إنها زادت
في البكاء وصارت تتأسف حيث لم تذكرها بديعة الجمال، فقال لها سيف الملوك: يا دولة
خاتون، إنك إنسية وهي جنية، فمن أين تكون هذه أختك؟ فقالت له: إنها أختي من
الرضاع، وسبب ذلك أن أمي نزلت تتفرج في البستان فجاءها الطلق فولدتني في البستان،
وكانت أم بديعة الجمال في البستان هي وأعوانها، فجاءها الطلق فنزلت في طرف البستان
وولدت بديعة الجمال، وأرسلت بعض جواريها إلى أمي تطلب منها طعامًا وحوائج للولادة،
فبعثت إليها أمي ما طلبته وعزمت عليها، فقامت وأخذت بديعة الجمال معها، وأتت إلى
أمي فأرضعت أمي بديعة الجمال، ثم أقامت أمها وهي معها عندنا في البستان مدة شهرين،
وبعد ذلك سافرت إلى بلادها وأعطت أمي حاجة وقالت لها: إذا احتجتِ إليَّ أجيئك في
وسط البستان. وكانت تأتي بديعة الجمال مع أمها في كل عام ويقيمان عندنا مدة من
الزمان، ثم يرجعان إلى بلادهما، فلو كنت أنا عند أمي يا سيف الملوك ونظرتك عندنا
في بلادنا، ونحن مجتمع شملنا مثل العادة، كنت أتحيل عليها بحيلة حتى أوصلك إلى
مرادك، ولكن أنا في هذا المكان ولا يعرفون خبري، فلو عرفوا خبري وعلموا أني هنا
كانوا قادرين على خلاصي من هذا المكان، ولكن الأمر إلى الله سبحانه وتعالى، وأي
شيء أعمل؟
فقال
سيف الملوك: قومي وتعالي معي نهرب ونسير إلى حيث يريد الله تعالى. فقالت له: لا
نقدر على ذلك، والله لو هربنا مسيرة سنة لجاء بنا هذا الملعون في ساعة ويهلكنا.
فقال سيف الملوك: أنا أختفي في موضع وإذا جاز عليَّ أضربه بالسيف فأقتله. فقالت
له: ما تقدر أن تقتله إلا إنْ قتلتَ روحه. فقال لها سيف الملوك: وروحه في أي مكان؟
فقالت: أنا سألته عنها مرات عديدة فلم يقر لي بمكانها، فاتفق أني ألححتُ عليه
يومًا من الأيام فاغتاظ مني، وقال لي: كم تسألينني عن روحي! ما سبب سؤالك عن روحي؟
فقلت له: يا حاتم، أنا ما بقي لي أحد غيرك إلا الله، وأنا ما دمت بالحياة لم أزل
معانقة لروحك، وإنْ كنتُ أنا ما أحفظ روحك وأحطها في وسط عيني، فكيف تكون حياتي
بعدك؟ وإذا عرفتُ روحك حفظتُها مثل عيني اليمين. فعند ذلك قال لي: إني حين وُلِدت
أخبر المنجمون أن هلاك روحي يكون على يد واحد من أولاد الملوك الإنسية، فأخذت روحي
ووضعتها في حوصلة عصفور، وحبست العصفور في حقٍّ، ووضعت الحق في علبة، ووضعت العلبة
في داخل سبع علب، ووضعت العلب في قلب سبع صناديق، ووضعت الصناديق في طابق من رخام
في جانب هذا البحر المحيط؛ لأن هذا الجانب بعيد عن بلاد الإنس، وما يقدر أحد من الإنس
أن يصل إليه، وها أنا قلت لك، ولا تقولي لأحد على هذا فإنه سر بيني وبينك. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 770﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن دولة خاتون لما أخبرت سيف الملوك بروح الجني الذي
خطفها، وبيَّنَتْ له ما قاله الجني إلى أن قال لها: وهذا سر بيننا. قالت له: مَن
أحدِّثه به، وما يأتيني أحد غيرك حتى أقول له؟ ثم والله إنك جعلت روحك في حصن حصين
عظيم لا يصل إليه أحد، فكيف يصل إلى ذلك أحد من الإنس؟ حتى لو فرض المحال وقدَّرَ
الله مثل ما قال المنجِّمون فكيف يكون أحد من الإنس يصل إلى هذا؟ فقال: ربما كان
أحد منهم في إصبعه خاتم سليمان بن داود عليهما السلام، ويأتي إلى هنا ويضع يده
بهذا الخاتم على وجه الماء، ثم يقول: بحق هذه الأسماء إن روح فلان تطلع. فيطلع
التابوت فيكسره، والصناديق كذلك والعلب، ويخرج العصفور من الحق ويخنقه فأموت أنا.
فقال
سيف الملوك: هو أنا ابن الملك، وهذا خاتم سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام في
إصبعي، فقومي بنا إلى شاطئ هذا البحر حتى نبصر هل كلامه هذا كذب أم صدق؟ فعند ذلك
قام الاثنان ومشيا إلى أن وصلا إلى البحر، ووقفت دولة خاتون على جانب البحر، ودخل
سيف الملوك في الماء إلى وسطه وقال: بحق ما في هذا الخاتم من
الأسماء
والطلاسم، وبحق سليمان عليه السلام، أن تخرج روح فلان ابن الملك الأزرق الجني.
فعند ذلك هاج البحر وطلع التابوت فأخذه سيف الملوك، وضربه على الحجر فكسره وكسر
الصناديق والعلب، وأخرج العصفور من الحق وتوجَّهَا إلى القصر، وطلعا فوق التخت،
وإذا بغبرة هائلة وشيء عظيم طائر وهو يقول: أبقني يا ابن الملك ولا تقتلني واجعلني
عتيقك وأنا أبلغك مقصودك. فقالت له دولة خاتون: قد جاء الجني فاقتل العصفور لئلا
يدخل هذا الملعون القصر ويأخذه منك ويقتلك ويقتلني بعدك. فعند ذلك خنق العصفور
فمات فوقع الجني على الأرض كوم رماد أسود. فقالت خاتون: قد خلصنا من يد هذا
الملعون وكيف نعمل؟ فقال سيف الملوك: المستعان بالله تعالى الذي بلانا، فإنه
يدبرنا ويعيننا على خلاصنا ممَّا نحن فيه.
ثم
قام سيف الملوك وقلع من أبواب القصر نحو عشرة أبواب، وكانت تلك الأبواب من الصندل
والعود، ومساميرها من الذهب والفضة، ثم أخذا حبالًا كانت هناك من الحرير
والإبريسم، وربط الأبواب بعضها في بعض، وتعاوَنَ هو ودولة خاتون إلى أن وصلا بها
إلى البحر ورمياها فيه بعد أن صارت فلكًا، وربطوه على الشاطئ، ثم رجعا إلى القصر وحملا
الصحاف الذهب والفضة وكذلك الجواهر واليواقيت والمعادن النفيسة، ونقلا جميع ما في
القصر من الذي خفَّ حمله وغلا ثمنه، وحطَّاه في ذلك الفلك وركبا فيه متوكلين على
الله تعالى الذي مَن توكَّلَ عليه كفاه ولا يخيبه، وعملا لهما خشبتين على هيئة
المجاديف، ثم حلَّا الحبال، وتركا الفلك يجري بهما في البحر، ولم يزالا سائرين على
تلك الحالة مدة أربعة أشهر حتى فرغ منهما الزاد، واشتد عليهما الكرب وضاقت
أنفسهما، فطلبا من الله أن يرزقهما النجاة مما هما فيه.
وكان
سيف الملوك في مدة سيرهما، إذا نام يجعل دولة خاتون خلف ظهره، فإذا انقلب كان
السيف بينهما. فبينما هما على تلك الحالة ليلةً من الليالي، فاتفق أن سيف الملوك
كان نائمًا ودولة خاتون يقظانة، وإذا بالفلك مال إلى طرف البر وجاء إلى مينا، وفي
تلك المينا مراكب، فنظرت دولة خاتون المراكب وسمعت رجلًا يتحدث مع البحرية، وكان الذي
يتحدث رئيس الرؤساء وكبيرهم، فلما سمعت دولة خاتون صوت الرئيس علمت أن هذا البر
مينا مدينة من المدن، وأنهما وصلا إلى العمار؛ ففرحت فرحًا شديدًا ونبَّهَتْ سيف
الملوك من النوم وقالت له: قُمْ واسأل هذا الريس عن اسم هذه المدينة وعن هذه
المينا. فقام سيف الملوك وهو فرحان وقال له: يا أخي، ما اسم هذه المدينة؟ وما يقال
لهذه المينا؟ وما اسم ملكها؟ فقال له الريس: يا صاقع الوجه، يا بارد اللحية، إذا
كنت لا تعرف هذه المينا، ولا هذه المدينة، فكيف جئتَ إلى هنا؟ فقال سيف الملوك:
أنا غريب وقد كنت في سفينة من سفن التجار، فانكسرت وغرقت بجميع ما فيها وطلعت على
لوح فوصلت إلى هنا، فسألتك، والسؤال ما هو عيب. فقال الريس: هذه مدينة عمارية،
وهذه المينا تُسمَّى مينا كمين البحرين. فلما سمعت دولة خاتون هذا الكلام فرحت
فرحًا شديدًا، وقالت: الحمد لله. فقال سيف الملوك: ما الخبر؟ فقالت: يا سيف
الملوك، أبشِرْ بالفرج القريب، فإن ملك هذه المدينة عَمِّي أخو أبي. وأدرك شهرزاد
الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 771﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن دولة خاتون لما قالت لسيف الملوك: أبشِرْ بالفرج
القريب، فإن ملك هذه المدينة عمي أخو أبي، واسمه عالي الملوك. ثم قالت له: اسأله
وقل له: هل سلطان هذه المدينة عالي الملوك طيب؟ فسأله عن ذلك، فقال له الريس وهو
مغتاظ منه: أنت تقول عمري ما جئت إلى هنا، وإنما أنا رجل غريب فمَنْ عرَّفك باسم
صاحب المدينة؟ ففرحت دولة خاتون وعرفت الريس، وكان اسمه معين الدين وهو من رؤساء
أبيها، وإنما خرج ليفتِّش عليها حين فقدت فلم يجدها، ولم يزل دائرًا حتى وصل إلى
مدينة عمها، ثم قالت لسيف الملوك: قل له: يا ريس معين الدين تعالَ كلِّمْ سيدتك.
فناداه بما قالته له، فلما سمع الريس كلام سيف الملوك اغتاظ غيظًا شديدًا، وقال
له: يا كلب، مَن أنت وكيف عرفتني؟ ثم قال لبعض البحرية: ناولوني عصًا من الشوم حتى
أروح إلى هذا النحس وأكسر رأسه. فأخذ العصا وتوجَّهَ إلى جهة سيف الملوك، فرأى
الفلك ورأى فيه شيئًا عجيبًا بهيجًا فاندهش عقله، ثم تأمَّلَ وحقَّقَ النظر فرأى
دولة خاتون وهي جالسة مثل فلقة القمر، فقال له الريس: ما الذي عندك؟ فقال له: عندي
بنت تُسمَّى دولة خاتون. فلما سمع الريس هذا الكلام وقع مغشيًّا عليه حين سمع
باسمها وعرف أنها سيدته وبنت ملكه، فلما أفاق ترك الفلك وما فيه وتوجَّهَ إلى
المدينة وطلع قصر الملك فاستأذن عليه، فدخل الحاجب إلى الملك، وقال: إن الريس معين
جاء إليك ليبشِّرك. فأذِنَ له بالدخول، فدخل على الملك وقبَّلَ الأرضَ بين يديه
وقال له: يا ملك، عندك البشارة، فإن بنت أخيك دولة خاتون وصلت إلى المدينة طيبة
بخير، وهي في الفلك وصحبتها شاب مثل القمر ليلة تمامه.
فلما
سمع الملك خبر بنت أخيه فرح وخلع على الريس خلعة سنية، وأمر من ساعته أن يزيِّنوا
المدينةَ لسلامة بنت أخيه، وأرسَلَ إليها وأحضَرَها عنده هي وسيف الملوك، وسلَّمَ
عليهما وهنَّأهما بالسلامة، ثم إنه أرسَلَ إلى أخيه ليُعلِمه بأن ابنته وُجِدت وهي
عنده. ثم إنه لما وصل إليه الرسول تجهَّزَ واجتمعت العساكر، وسافَرَ تاج الملوك
أبو دولة خاتون حتى وصل إلى أخيه عالي الملوك، واجتمع ببنته دولة خاتون وفرحوا
فرحًا شديدًا، وقعد تاج الملوك عند أخيه جمعة من الزمان، ثم إنه أخذ بنته وكذلك
سيف الملوك وسافروا حتى وصلوا إلى سرنديب بلاد أبيها، واجتمعت دولة خاتون بأمها
وفرحوا بسلامتها وأقاموا الأفراح، وكان ذلك يومًا عظيمًا لا يُرَى مثله، وأما
الملك فإنه أكرَمَ سيف الملوك وقال له: يا سيف الملوك، إنك فعلتَ معي ومع ابنتي
هذا الخير كله، وأنا لا أقدر أن أكافِئَك عليه، وما يكافِئُك إلا رب العالمين،
ولكن أريد منك أن تقعد على التخت في موضعي وتحكم في بلاد الهند، فإني قد وهبتُ لك
ملكي وتختي وخزائني وخَدَمي، وجميع ذلك يكون هبةً مني لك.
فعند
ذلك قام سيف الملوك، وقبَّلَ الأرض بين يدي الملك وشكَرَه، وقال له: يا ملك
الزمان، قد قَبِلتُ جميعَ ما وهبْتَه لي، وهو مردود مني إليك هدية أيضًا، وأنا يا
ملك الزمان ما أريد مملكة ولا سلطنة، وما أريد إلا أن الله تعالى يبلغني مقصودي.
فقال له الملك: هذه خزائني بين يديك يا سيف الملوك، مهما طلبته منها فخذه، ولا
تشاورني فيه وجزاك الله عني كل خير. فقال سيف الملوك: أعَزَّ الله الملك، لا حظَّ
لي في المُلْك ولا في المال حتى أبلغ مرادي، ولكن غرضي الآن أن أتفرج في هذه
المدينة وأنظر شوارعها وأسواقها. فأمر تاج الملوك أن يحضروا له فرسًا من جياد
الخيل، فأحضروا له فرسًا مسرجًا ملجمًا من جياد الخيل، فركبها وطلع إلى السوق
وشقَّ في شوارع المدينة. فبينما هو ينظر يمينًا وشمالًا إذ رأى شابًّا ومعه قباء
وهو ينادي عليه بخمسة عشر دينارًا، فتأمَّلَه فوجده يشبه أخاه ساعدًا، وفي نفس
الأمر هو بعينه إلا أنه تغيَّرَ لونه وحاله من طول الغربة ومشقات السفر فلم يعرفه،
ثم قال لمَن حوله: هاتوا هذا الشاب لأستخبره. فأتوا به إليه، فقال: خذوه وأوصلوه
إلى القصر الذي أنا فيه وخلوه عندكم إلى أن أرجع من الفرجة. فظنوا أنه قال لهم
خذوه وأوصلوه إلى السجن، وقالوا: لعل هذا مملوك من مماليكه هرب منه. فأخذوه
وأوصلوه إلى السجن وقيَّدوه وتركوه قاعدًا، فرجع سيف الملوك من الفرجة وطلع القصر
ونسي أخاه ساعدًا، ولم يذكره له أحد، فصار ساعد في السجن، ولما خرجوا بالأسارى إلى
أشغال العمارات أخذوا ساعدًا معهم، وصار يشتغل مع الأسارى وكثر عليه الوسخ، ومكث
ساعد على هذه الحالة مدة شهر وهو يتذكر في أحواله، ويقول في نفسه: ما سبب سجني؟
وقد
اشتغل سيف الملوك بما هو فيه من السرور وغيره، فاتفق أن سيف الملوك جلس يومًا من
الأيام وتذكَّرَ أخاه ساعدًا، فقال للمماليك الذين كانوا معه: أين المملوك الذي
كان معكم في اليوم الفلاني؟ فقالوا: أَمَا قلتَ لنا أوصلوه إلى السجن؟ فقال سيف
الملوك: أنا ما قلتُ لكم هذا الكلام، وإنما قلت لكم أوصلوه إلى القصر الذي أنا
فيه. ثم إنه أرسل الحجَّاب إلى ساعد فأتوا به وهو مقيَّد، ثم فكوه من قيده وأوقفوه
بين يدي سيف الملوك، فقال له: يا شاب، من أي البلاد أنت؟ فقال له: أنا من مصر،
واسمي ساعد بن الوزير فارس. فلما سمع سيف الملوك كلامه نهض من فوق التخت وألقى
نفسه عليه، وتعلَّقَ برقبته، ومن فرحه صار يبكي بكاءً شديدًا، وقال: يا أخي ساعد،
الحمد لله حيث عشت ورأيتك، فأنا أخوك سيف الملوك ابن الملك عاصم. فلما سمع ساعد
كلام أخيه وعرفه، تعانَقَا مع بعضهما وتباكيا، فتعجَّبَ الحاضرون منهما، ثم أمر
سيف الملوك أن يأخذوا ساعدًا ويذهبوا به إلى الحمام، فذهبوا به إلى الحمام وعند
خروجه من الحمام ألبسوه ثيابًا فاخرة وأتوا به إلى مجلس سيف الملوك، فأجلَسَه معه
على التخت، ولما علم تاج الملوك فرح فرحًا شديدًا باجتماع سيف الملوك وأخيه ساعد،
وحضر وجلس الثلاثة يتحدثون فيما جرى لهم من الأول إلى الآخر.
ثم
إن ساعدًا قال: يا أخي، يا سيف الملوك، لما غرقت المركب وغرقت المماليك طلعت أنا
وجماعة من المماليك على لوح خشب، وسار بنا في البحر مدة شهر كامل، ثم بعد ذلك
رمانا الريح بقدرة الله تعالى على جزيرة، فطلعنا عليها ونحن جياع، فدخلنا بين
الأشجار وأكلنا من الفواكه، واشتغلنا بالأكل، فلم نشعر إلا وقد خرج علينا أقوام
مثل العفاريت، فوثبوا علينا وركبوا فوق أكتافنا وقالوا لنا: امشوا بنا، فأنتم صرتم
حميرنا. فقلتُ للذي ركبني: ما أنت؟ ولأي شيء ركبتَني؟ فلما سمع مني هذا الكلام
لفَّ رجله على رقبتي حتى كدتُ أن أموت، وضرب ظهري برجله الأخرى، فظننت أنه قطع
ظهري، فوقعت في الأرض على وجهي وما بقي عندي قوة بسبب الجوع والعطش؛ فحيث وقعت عرف
أني جائع، فأخذ بيدي وأتى بي إلى شجرة كثيرة الأثمار وهي من الكمثرى، فقال لي:
كُلْ من هذه الشجرة حتى تشبع. فأكلت من تلك الشجرة حتى شبعت، وقمت أمشي بغير
اختياري، فما مشيت غير قليل حتى ولَّى ذلك الشخص وركب فوق أكتافي، فصرت ساعةً
أمشي، وساعة أجري، وساعة أهرول، وهو راكب يضحك ويقول: عمري ما رأيت حمارًا مثلك.
فاتفق
أننا جمعنا شيئًا من عناقيد العنب يومًا من الأيام ثم وضعناه في حفرة بعد أن دُسْناه
بأرجلنا، فصارت تلك الحفرة بركة كبيرة، فصبرنا مدة وأتينا إلى تلك الحفرة فوجدنا
الشمس قد ضربت ذلك الماء فصار خمرًا. فبقينا نشرب منه ونسكر فتحمرُّ وجوهنا ونغني
ونرقص من نشوة السُّكْر. فقالوا: ما الذي يحمِّر وجوهكم ويصيِّركم ترقصون وتغنون؟
فقلنا لهم: لا تسألون عن هذا، وما تريدون بالسؤال عنه؟ فقالوا: أخبرونا حتى نعرف
حقيقة الأمر. فقلنا: عصير العنب. فذهبوا بنا إلى وادٍ ولم نعرف له طولًا من عرض،
وفي ذلك الوادي كروم من العنب لا يُعرَف أولها من آخِرها، وكل عنقود من العناقيد
التي فيها قدر عشرين رطلًا، وكله داني القطوف. فقالوا لنا: اجمعوا من هذه. فجمعنا
منه شيئًا كثيرًا، ورأيت هناك حفرة كبيرة أكبر من الحوض الكبير، فملأناها عنبًا
ودُسْناه بأرجلنا وفعلنا كما فعلنا أول مرة، فصار خمرًا وقلنا لهم: هذا بلغ حد
الاستواء، فأي شيء تشربون به؟ فقالوا لنا: إنه كان عندنا حمير مثلكم فأكلناهم
وبقيت رءوسهم، فاسقونا في جماجمهم. فأسقيناهم فسكروا ثم رقدوا، وكانوا نحو
المائتين، فقلنا لبعضنا: أَمَا يكفي هؤلاء أن يركبونا حتى يأكلونا أيضًا! فلا حول
ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولكن نحن نقوي عليهم السُّكر ثم نقتلهم ونستريح
منهم، ونخلص من أيديهم. فنبهناهم وصرنا نملأ لهم تلك الجماجم ونسقيهم، فيقولون:
هذا مرٌّ. فقلنا لهم: لأي شيء تقولون هذا مرٌّ؟ وكل مَن قال ذلك إنْ لم يشرب منه
عشر مرات فإنه يموت من يومه. فخافوا من الموت، وقالوا لنا: اسقونا تمام العشر
مرات. فلما شربوا بقية العشر مرات سكروا وزاد عليهم السكر، وهمدت قوتهم، فجررناهم
من أيديهم، ثم إننا جمعنا من حطب تلك الكروم شيئًا كثيرًا، وجعلنا حولهم وفوقهم،
وأوقدنا النار في الحطب ووقفنا من بعيد ننظر ما يكون منهم. وأدرك شهرزاد الصباح
فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 772﴾
قالت
بلغني أيها الملك السعيد، أن ساعدًا قال: لما أوقدت النار في الحطب أنا ومَن معي
من المماليك، وصارت الغيلان في وسطها، وقفنا من بعيد لننظر ما يكون منهم، ثم
قَدِمنا إليهم بعد أن خمدت النار فرأيناهم صاروا كومَ رماد، فحمدنا الله تعالى
الذي خلصنا منهم وخرجنا من تلك الجزيرة، وطلبنا ساحل البحر، ثم افترقنا من بعضنا؛
فأما أنا واثنان من المماليك فمشينا حتى وصلنا إلى غابة كبيرة كثيرة الأشجار
فاشتغلنا بالأكل، وإذا بشخصٍ طويلِ القامة طويلِ اللحية طويلِ الأذنين، بعينين
كأنهما مشعلان، وقدَّامه غنمٌ كثير يرعاها، وعنده جماعة أُخَر في كيفيته، فلما
رآنا استبشر وفرح ورحَّبَ بنا وقال: أهلًا وسهلًا، تعالوا عندي حتى أذبح لكم شاةً
من هذه الأغنام وأشويها وأُطعِمكم. فقلنا له: وأين موضعك؟ فقال: قريب من هذا
الجبل، فاذهبوا إلى هذه الجهة حتى تروا مغارةً فادخلوا فيها، فإنَّ فيها ضيوفًا
كثيرًا مثلكم، فروحوا واقعدوا معهم حتى نجهز لكم الضيافة. فاعتقدنا أن كلامه حق،
فسرنا إلى تلك الجهة، ودخلنا تلك المغارة فرأينا الضيوف الذين فيها كلهم عميانًا،
فحين دخلنا عليهم قال واحد منهم: أنا مريض. وقال الآخَر: أنا ضعيف. فقلنا لهم: أي
شيء هذا القول الذي تقولونه؟ وما سبب ضعفكم ومرضكم؟ فقالوا: مَن أنتم؟ فقلنا لهم:
نحن ضيوف. قالوا لنا: ما الذي أوقعكم في يد هذا الملعون؟ لا حول ولا قوة إلا بالله
العلي العظيم، هذا غول يأكل بني آدم، وقد أعمانا ويريد أن يأكلنا. فقلنا لهم: كيف
أعماكم هذا الغول؟ فقالوا: إنه في هذا الوقت يعميكم مثلنا. فقلنا لهم: وكيف
يعمينا؟ فقالوا لنا: إنه يأتيكم بأقداح من اللبن ويقول لكم: أنتم تعبتم من السفر،
فخذوا هذا اللبن واشربوا منه. فحين تشربون منه تصيرون مثلنا.
فقلت
في نفسي: ما بقي لنا خلاص إلا بحيلة. فحفرتُ حفرة في الأرض وجلستُ عليها، ثم بعد
ساعة دخل الملعون الغول علينا ومعه أقداح من اللبن، فناوَلَني قدحًا وناوَلَ مَن
معي كل واحد قدحًا، وقال لنا: أنتم جئتم من البر عَطَاشَى، فخذوا هذا اللبن
واشربوا منه حتى أشوي لكم اللحم. فأما أنا فأخذتُ القدح وقرَّبتُه من فمي ودلقته
في الحفرة وصحتُ: آه، قد راحت عيني وعميت. وأمسكت عيني بيدي، وصرت أبكي وأصيح وهو
يضحك ويقول: لا تَخَفْ. وأما الاثنان رفيقاي فإنهما شربَا اللبن فعميا، فقام
الملعون من وقته وساعته وغلق باب المغارة وقَرُب مني وجسَّ أضلاعي فوجدني هزيلًا،
وما عليَّ شيء من اللحم، فجسَّ غيري فرآه سمينًا ففرح، ثم ذبح ثلاثة أغنام وسلخها
وجاء بأسياخ من الحديد، ووضع فيها لحم الأغنام ووضعها على النار وشواه وقدَّمه إلى
رفيقيَّ، فأكلا وأكل معهما، ثم جاء بزق ملآن خمرًا وشربه ورقد على وجهه وشخر. فقلت
في نفسي: إنه غرق في النوم وكيف أقتله؟ ثم تذكرتُ الأسياخ، فأخذتُ منها سيخين
ووضعتهما في النار، وصبرت عليهما حتى صارا مثل الجمر، ثم قمتُ وشددتُ وسطي ونهضتُ
على أقدامي، وأخذت السيخين الحديد بيدي وتقربت من الملعون وأدخلتهما في عينَيْه
واتَّكأتُ عليهما بقوتي، فنهض من حلاوة الروح قائمًا على قدمَيْه وأراد أن يمسكني
بعد أن عمي، فهربتُ منه داخل المغارة وهو يسعى خلفي، فقلت للعميان الذين عنده: كيف
العمل مع هذا الملعون؟ فقال واحد منهم: يا ساعد، انهض واصعد إلى الطاقة. وأخذت
السيف وأتيت عند ذلك الرجل، فقال: خذه واضربه في وسطه فإنه يموت في الحال. فقمت
وجريت خلفه وقد تعب من الجري، فجاء إلى العميان ليقتلهم، فجئت إليه وضربته بالسيف
في وسطه، فصار نصفين، فصاح عليَّ وقال لي: يا رجل، حيث أردتَ قتلي فاضربني ضربة
ثانية. فهممتُ أن أضربه ضربةً ثانية، فقال الذي دلَّني على السيف: لا تضربه ضربة
ثانية؛ فإنه لا يموت بل يعيش ويهلكنا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام
المباح.
﴿اللیلة 773﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن ساعدًا قال: لما ضربت الغول بالسيف قال لي: يا رجل،
حيث ضربتَني وأردتَ قتلي، فاضربني ضربة ثانية. فهممتُ أن أضربه، فقال لي الذي
دلَّني على السيف: لا تضربه ضربة ثانية، فإنه لا يموت بل يعيش ويهلكنا. فامتثلتُ
أمرَ ذلك الرجل ولم أضربه، فمات الملعون، فقال لي الرجل: قُمِ افتَحِ المغارة
ودَعْنا نخرج منها، لعل الله يساعدنا ونستريح من هذا الموضع. فقلت له: ما بقي
علينا ضرر، بل نستريح ونذبح من هذه الأغنام ونشرب من هذا النبيذ؛ لأن البر طويل.
فأقمنا في هذا المكان مدة شهرين ونحن نأكل من هذه الأغنام ومن هذه الفواكه، فاتفق
أننا جلسنا على شاطئ البحر يومًا من الأيام، فرأينا مركبًا كبيرة تلوح في البحر
على بُعْد، فأشرنا إلى أهلها وصحنا عليهم، فخافوا من ذلك الغول، وكانوا يعرفون أن
هذه الجزيرة فيها غول يأكل الآدميين فطلبوا الهروب، فأشرنا إليهم بفاضل عمائمنا
وقربنا منهم وصرنا نصيح عليهم، فقال واحد من الركاب وكان حديد البصر: يا معاشر
الركَّاب، إني أرى هذه الأشباح آدميين مثلنا وليس عليهم زيُّ الغيلان. ثم إنهم
ساروا جهتنا قليلًا إلى أن قربوا منا، فلما تحققوا أننا آدميون، سلَّموا علينا
فردَدْنا عليهم السلام وبشَّرناهم بقتل الغول الملعون فشكرونا.
ثم
إننا تزوَّدنا من الجزيرة بشيء من الفواكه فيها، ثم نزلنا المركب وسارت بنا في ريح
طيبة مدة ثلاثة أيام، وبعد ذلك سارت علينا ريح وازداد ظلام الجو، فما كان غير ساعة
واحدة حتى جذب الريحُ المركبَ إلى جبلٍ فانكسرت وتمزَّقت ألواحها، فقدَّرَ الله
العظيم أني تعلَّقْتُ بلوح منها وركبتُه، فسار بي يومين وقد أتَتْ ريح طيبة، فصرت
فوق اللوح أجدف برجلي ساعةً زمانية حتى أوصَلَني الله تعالى إلى البر بالسلامة،
فطلعتُ إلى هذه المدينة وقد صرتُ غريبًا فريدًا وحيدًا لا أدري ما أصنع، وقد أضرَّ
بي الجوع وحصل لي الجهد الأكبر، فأتيتُ إلى سوق المدينة وقد تواريتُ وقلعتُ هذا
القباء، وقلت في نفسي: أبيعه وآكل بثمنه حتى يقضي الله ما هو قاضٍ. ثم إني يا أخي
أخذت القباء في يدي والناس ينظرونه ويتزايدون في ثمنه، حتى أتيتَ أنت ونظرتَني وأمرتَ
بي إلى القصر، فأخذني الغلمان وسجنوني، ثم إنك تذكَّرْتَني بعد هذه المدة
فأحضرتَني عندك، وقد أخبرتُك بما جرى لي، والحمد لله على الاجتماع.
فلما
سمع سيف الملوك وتاج الملوك أبو دولة خاتون حديثَ الوزير ساعد، تعجَّبَا من ذلك
عجبًا شديدًا، وقد أعَدَّ تاج الملوك أبو دولة قانون مكانًا مليحًا لسيف الملوك
وأخيه ساعد، وصارت دولة خاتون تأتي لسيف الملوك وتشكره وتتحدَّث معه على إحسانه،
فقال الوزير ساعد: أيتها الملكة، المراد منك المساعدة على بلوغ غرضه. فقالت: نعم
أسعى في مراده حتى يبلغ مراده إنْ شاء الله تعالى. ثم التفتَتْ إلى سيف الملوك،
وقالت له: طِبْ نفسًا وقرَّ عينًا.
هذا
ما كان من أمر سيف الملوك ووزيره ساعد، وأما ما كان من أمر الملكة بديعة الجمال،
فإنها وصلت إليها الأخبار برجوع أختها دولة خاتون إلى أبيها ومملكتها، فقالت: لا
بد من زيارتها والسلام عليها في زينة بهية وحلى وحلل، فتوجَّهَتْ إليها، فلما قربت
من مكانها قابلَتْها الملكة دولة خاتون، وسلَّمَتْ عليها وعانقَتْها وقبَّلتها بين
عينَيْها، وهنَّتها الملكة بديعة الجمال بالسلامة، ثم جلستا تتحدثان، فقالت بديعة
الجمال لدولة خاتون: أي شيء جرى لك في الغربة؟ فقالت دولة خاتون: يا أختي، لا
تسأليني عما جرى لي من الأمور، يا ما تقاسي الخلائق من الشدائد. فقالت لها بديعة
الجمال: وكيف ذلك؟ قالت: يا أختي، إني كنت في القصر المشيد، وقد احتوى عليَّ فيه
ابن الملك الأزرق … ثم حدَّثَتْها ببقية الحديث من أوله إلى آخره، وحديث سيف
الملوك وما جرى له في القصر، وما قاسى من الشدائد والأهوال حتى وصل إلى القصر
المشيد، وكيف قتل ابن الملك الأزرق، وكيف قلع الأبواب وجعلها فلكًا وعمل لها
مجاديف، وكيف دخل إلى ها هنا؛ فتعجَّبَتْ بديعة الجمال، ثم قالت: والله يا أختي،
إن هذا من أغرب العجائب، وأريد أن أخبرك بأصل حكايته لكن يمنعني الحياء من ذلك.
فقالت لها بديعة الجمال: ما سبب الحياء، وأنت أختي ورفيقتي، وبيني وبينك شيء كثير،
وأنا أعرف أنك ما تطلبين لي إلا الخير، فمن أي شيء تستحيين مني؟ فأخبريني بما عندك
ولا تستحي مني، ولا تُخْفِي مني شيئًا من ذلك. فقالت لها دولة خاتون: إنه نظر
صورتك في القباء الذي أرسَلَه أبوك إلى سليمان بن داود عليهما السلام، فلم يفتحه
ولم ينظر ما فيه، بل أرسَلَه إلى الملك عاصم بن صفوان ملك مصر في جملة الهدايا
والتحف التي أرسَلَها إليه، والملك عاصم أعطاه لولده سيف الملوك قبل أن يفتحه،
فلما أخذه سيف الملوك فتحه وأراد أن يلبسه فرأى فيه صورتك، فعشقها وخرج في طلبك،
وقاسى هذه الشدائد كلها من أجلك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 774﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن دولة خاتون أخبرت بديعة الجمال بأصل محبة سيف الملوك
لها وعشقه إياها، وأن سببها القباء الذي فيه صورتها، وحين عايَنَ الصورةَ خرج من
ملكه هائمًا، وغاب عن أهله من أجلها، وقالت لها: إنه قاسى من الأهوال ما قاساه من
أجلك. فقالت بديعة الجمال وقد احمرَّ وجهها وخجلت من دولة خاتون: إن هذا شيء لا
يكون أبدًا، فإن الإنس لا يتفقون مع الجان. فواصلت دولة خاتون تصف لها سيف الملوك،
وحسن صورته وسيرته وفروسيته، ولم تَزَلْ تُثْنِي عليه وتذكر لها صفاته حتى قالت:
يا أختي، لأجل الله تعالى ولأجلي، تحدَّثي معه ولو كلمة واحدة. فقالت بديعة
الجمال: إن هذا الكلام الذي تقولينه لا أسمعه، ولا أطيعك فيه. وكأنها لم تسمع منه
شيئًا، ولم يقع في قلبها شيء من محبة سيف الملوك وحُسْن صورته وسيرته وفروسيته.
ثم
إن دولة خاتون صارت تتضرع لها، وتقبِّل رجلَيْها، وتقول: يا بديعة الجمال، بحق
اللبن الذي رضعناه أنا وأنتِ، وبحق النقش الذي على خاتم سليمان عليه السلام، أن
تسمعي كلامي هذا، فإني تكلَّفْتُ له في القصر المشيد بأني أُرِيه وجهك، فبالله
عليك أن تُرِيه صورتك مرةً واحدة لأجل خاطري، وأنتِ الأخرى تنظرينه. وصارت تبكي
لها وتتضرع إليها وتقبِّل يدَيْها ورجلَيْها حتى رضيت وقالت: لأجلك أُرِيه وجهي
مرة واحدة. فعند ذلك طاب قلب دولة خاتون وقبَّلَتْ يديها ورجلَيْها وخرجت، وجاءت
إلى القصر الأكبر الذي في البستان وأمرت الجواري أن يفرشْنَه وينصبْنَ فيه تختًا
من الذهب، ويجعلْنَ أواني الشراب مصفوفة. ثم إن دولة خاتون قامت ودخلت على سيف
الملوك وساعد وزيره وهما جالسان في مكانهما، وبشَّرَتْ سيف الملوك ببلوغ إربه
وحصول مراده وقالت له: توجَّهْ إلى البستان أنت وأخوك وادخلا القصر، واختفيا عن
أعين الناس بحيث لا ينظركما أحد ممَّنْ في القصر، حتى أجيء أنا وبديعة الجمال.
فقام سيف الملوك وساعد وتوجَّهَا إلى المكان الذي دلَّتْهما عليه دولة خاتون، فلما
دخلاه رأيا تختًا من الذهب منصوبًا وعليه الوسائد، وهناك الطعام والشراب فجلسا
ساعة من الزمان، ثم إن سيف الملوك تذكَّرَ معشوقته فضاق صدره، وهاج عليه الشوق
والغرام، فقام ومشى حتى خرج من دهليز القصر، فتبعه أخوه ساعد، فقال له: يا أخي،
اقعد أنت مكانك ولا تتبعني حتى أجيء إليك. فقعد ساعد ونزل سيف الملوك ودخل البستان
وهو سكران من خمر الغرام، حيران من فرط العشق والهيام، وقد هَزَّه الشوق، وغلب
عليه الوَجْد، فأنشد هذه الأبيات:
يَا
بَدِيعَ الْجَمَالِ مَا لِي سِوَاكِ
فَارْحَمِينِي إِنِّي أَسِيرُ هَوَاكِ
أَنْتِ
سُؤْلِي وَمُنْيَتِي وَسُرُورِي
قَدْ أَبَى الْقَلْبُ أَنْ يُحِبَّ سِوَاكِ
لَيْتَ
شِعْرِي هَلْ قَدْ عَلِمْتِ بُكَائِي
طُولَ لَيْلِي مُسَهَّدُ الْجَفْنِ بَاكِي
فَأْمُرِي
النَّوْمَ أَنْ يُلِمَّ بِجَفْنِي
فَعَسَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَرَاكِ
فَاعْطِفِي
فِي الْهَوَى عَلَى مُسْتَهَامٍ
أَنْقِذِيهِ مِنْ مُهْلِكَاتِ جَفَاكِ
زَادَكِ
اللهُ بَهْجَةً وَسُرُورًا
وَجَمِيعُ الْعِدَى تَكُونُ فِدَاكِ
يُحْشَرُ
الْعَاشِقُونَ تَحْتَ لِوَائِي
وَجَمِيعُ الْمِلَاحِ تَحْتَ لِوَاكِ
ثم
بكى وأنشد أيضًا هذين البيتين:
بَدِيعَةَ
الْحُسْنِ أَضْحَتْ بُغْيَتِي أَبَدًا
لِأَنَّهَا فِي ضَمِيرِ الْقَلْبِ أَسْرَارِي
فَإِنْ
نَطَقْتُ فَنُطْقِي فِي مَحَاسِنِهَا
وَإِنْ سَكَتُّ فَفِيهَا عَقْدُ إِضْمَارِي
ثم
بكى بكاءً شديدًا وأنشَدَ أيضًا هذه الأبيات:
وَفِي
كَبِدِي نَارٌ يَزِيدُ وَقُودُهَا
وَأَنْتُمْ مُرَادِي وَالْغَرَامُ يَطُولُ
أَمِيلُ
إِلَيْكُمْ لَا أَمِيلُ لِغَيْرِكُمْ
وَأَرْجُو رِضَاكُمْ وَالْمُحِبُّ حَمُولُ
لِكَيْ
تَرْحَمُوا مَنْ أَنْحَلَ الْحُبُّ جِسْمَهُ وَأَضْعَفَهُ وَالْقَلْبُ مِنْهُ عَلِيلُ
فَرِقُّوا
وَجُودُوا وَأَنْعِمُوا وَتَفَضَّلُوا
فَلَمْ أَنْتَقِلْ عَنْكُمْ وَلَسْتُ أَحُولُ
ثم
بكى وأنشد أيضًا هذين البيتين:
وَصَلَتْنِي
الْهُمُومُ وَصْلَ هَوَاكِ
وَجَفَانِي الرُّقَادُ مِثْلُ جَفَاكِ
وَحَكَى
لِي الرَّسُولُ أَنَّكِ غَضْبَى يَا
كَفَى اللهُ شَرَّ مَا هُوَ حَاكِ
ثم
إن ساعدًا استبطأه فخرج من القصر يفتِّش عليه في البستان، فرآه ماشيًا في البستان
متحيرًا وهو ينشد هذين البيتين:
وَاللهِ
وَاللهِ الْعَظِيمِ وَحَقِّ مَنْ
يَتْلُو مِنَ الْقُرْآنِ سُورَةَ فَاطِرِ
مَا
جَالَ طَرْفِي فِي مَحَاسِنَ مَنْ أَرَى
إِلَّا وَشَخْصُكَ يَا بَدِيعُ مُسَامِرِي
ثم
اجتمع سيف الملوك وساعد أخوه وصارا يتفرجان في البستان، ويأكلان من الفواكه. هذا
ما كان من أمر ساعد وسيف الملوك، وأما ما كان من أمر دولة خاتون، فإنها لما أتَتْ
هي وبديعة الجمال إلى القصر دخلتا فيه بعد أن أتحفه الخدام بأنواع الزينة، وفعلوا
فيه جميع ما أمرتهم به دولة خاتون، وقد أعَدُّوا لبديعة الجمال تختًا من الذهب
لتجلس عليه، فلما رأت بديعة الجمال ذلك التخت جلسَتْ عليه، وكان بجانبها طاقة تشرف
على البستان، وقد أتت الخدام بأنواع الطعام الفاخر، فأكلت بديعة الجمال هي ودولة
خاتون، وصارت دولة خاتون تلقِّمها حتى اكتفت، ثم دعت بأنواع الحلويات فأحضرها
الخدام وأكلتا منها بحسب الكفاية وغسلتا أيديهما. ثم إنها هيَّأت الشرابَ وآلات
المدام، وصفت الأباريق والكاسات، وصارت دولة خاتون تملأ وتسقي بديعة الجمال، ثم
تملأ الكأس وتشرب هي. ثم إن بديعة الجمال نظرت من الطاقة التي بجانبها إلى ذلك
البستان، ورأت ما فيه من الأثمار والأغصان، فلاحَتْ منها التفاتةٌ إلى جهة سيف
الملوك، فرأته وهو دائر في البستان وخلفه الوزير ساعد، وسمعت سيف الملوك ينشد
الأشعار وهو يذرف الدموع الغزار، فلما نظرته أعقبَتْها تلك النظرةُ ألفَ حسرة.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 775﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن بديعة الجمال لما رأت سيف الملوك وهو دائر في
البستان، نظرته نظرةً أعقبَتْها ألف حسرة، فالتفتَتْ إلى دولة خاتون وقد لعب الخمر
بأعطافها، وقالت لها: يا أختي، مَن هذا الشاب الذي أراه في البستان وهو حائر ولهان
كئيب؟ فقالت لها دولة خاتون: هل تأذنين في حضوره عندنا حتى نراه؟ قالت لها: إنْ
أمكنكِ أن تُحضريه فأحضريه. فعند ذلك نادَتْه دولة خاتون، وقالت له: يا ابن الملك،
اصعدْ إلينا وأَقْدِمْ بحُسْنك وجمالك علينا. فعرف سيف الملوك صوت دولة خاتون فصعد
إلى القصر، فلما وقع نظره على بديعة الجمال خرَّ مغشيًّا عليه، فرشَّتْ عليه دولة
خاتون قليلًا من ماء الورد فأفاق من غشيته، ثم نهض وقبَّلَ الأرض قدَّام بديعة
الجمال، فبُهِتَتْ من حُسْنه وجماله، فقالت دولة خاتون: اعلمي أيتها الملكة أن هذا
سيف الملوك الذي كانت نجاتي بقضاء الله تعالى على يديه، وهو الذي جرى عليه كامل
المشقات من أجلك، وقصدي أن تشمليه بنظرك. فقالت بديعة الجمال وقد ضحكت: ومَن يَفِي
بالعهود حتى يَفِي بها هذا الشاب؟ لأن الإنس ليس لهم مودة. فقال سيف الملوك: أيتها
الملكة، إن عدم الوفاء لا يكون عندي أبدًا، وما كل الخلق سواء. ثم إنه بكى بين
يديها وأنشد هذه الأبيات:
أَيَا
بَدِيعَ الْجَمَالِ إِنَّنِي شَبَحٌ
مُضْنًى أَهِيمُ بِطَرْفٍ سَاحِرٍ جَانِ
بِحَقِّ
مَا جَمَعَتْ خَدَّاكِ مِنْ مَلَحٍ
مِنْ أَبْيَضَ وَشَقِيقٍ أَحْمَرَ قَانِ
لَا
تَنْقِمِي بِنِكَالِ الْهَجْرِ مِنْ دَنِفٍ
فَإِنَّ جِسْمِي مِنْ طُولِ النَّوَى فَانِ
هَذَا
مُرَادِي وَهَذَا مُنْتَهَى أَمَلِي
وَالْوَصْلُ قَصْدِي عَلَى تَقْدِيرِ إِمْكَانِ
ثم
إنه بكى بكاءً شديدًا وتحكَّمَ عنده العشق والهيام، فصار يسلِّم عليها بهذه
الأبيات:
سَلَامٌ
عَلَيْكُمْ مِنْ مُحِبٍّ مُتَيَّمٍ
وَكُلُّ كَرِيمٍ لِلْكَرِيمِ جَمِيلُ
سَلَامٌ
عَلَيْكُمْ لَا عَدِمْتُ خَيَالَكُمْ
وَلَمْ يَخْلُ مِنْكُمْ مَجْلِسٌ وَمُقِيلُ
أَغَارُ
عَلَيْكُمْ لَسْتُ أَذْكُرُ اسْمَكُمْ
وَكُلُّ حَبِيبٍ لِلْحَبِيبِ يَمِيلُ
فَلَا
تَقْطَعُوا حَسَنَاتِكُمْ عَنْ مُحِبِّكُمْ
فَإِنَّ الْأَسَى يُرْدِيهِ وَهْوَ عَلِيلُ
أُرَاعِي
النُّجُومَ الزُّهْرَ وَهْيَ تَرُوعُنِي
وَلَيْلِيَ فِي فَرْطِ الْغَرَامِ يَطُولُ
وَلَمْ
يَبْقَ لِي صَبْرٌ وَلَا لِي حِيلَةٌ
فَأَيَّ كَلَامٍ فِي السُّؤَالِ أَقُولُ
عَلَيْكُمْ
سَلَامُ فِي سَاعَةِ الْجَفَا
سَلَامٌ مِنَ الْوَلْهَانِ وَهْوَ حَمُولُ
ثم
إنه من كثرة وَجْدِه وغرامه أنشد أيضًا هذه الأبيات:
إِنْ
كَانَ قَصْدِي غَيْرَكُمْ يَا سَادَتِي
لَا نِلْتُ مِنْكُمْ بُغْيَتِي وَإِرَادَتِي
مَنْ
ذَا الَّذِي حَازَ الْجَمَالَ سِوَاكُمُ
حَتَّى تَقُومَ الْآنَ فِيهِ قِيَامَتِي
هَيْهَاتِ
أَنْ أَسْلُو الْهَوَى وَأَنَا الَّذِي
أَفْنَيْتُ فِيكُمْ مُهْجَتِي وَحُشَاشَتِي
فلما
فرغ من شعره بكى بكاءً شديدًا، فقالت له بديعة الجمال: يا ابن الملك، إني أخاف أن
أُقبِلَ عليك بالكلية فلا أجد منك إلفةً ولا محبة، فإن الإنس ربما كان خيرهم
قليلًا وغدرهم جليلًا، واعلم أن السيد سليمان بن داود عليهما السلام أخذ بلقيس
بالمحبة، فلما رأى غيرها أحسن منها أعرَضَ عنها. فقال لها سيف الملوك: يا عيني ويا
روحي، ما خلق الله كل الإنس سواء، وأنا إنْ شاء الله أَفِي بالعهد، وأموت تحت
أقدامك، وسوف تبصرين ما أفعل موافقًا لما أقول، والله على ما أقول وكيل. فقالت له
بديعة الجمال: اقعدْ واطمئِنَّ واحلفْ لي على قدر دينك، ونتعاهد على أننا لا نخون
بعضنا، ومَن خان صاحبه ينتقم الله تعالى منه. فلما سمع سيف الملوك منها ذلك
الكلام، قعد ووضع كل منهما يده في يده صاحبه وتحالَفَا أن كلًّا منهما لا يختار
على صاحبه أحدًا من الإنس ولا من الجن. ثم إنهما تعانَقَا ساعة زمانية وتباكَيَا
من شدة فرحهما، وغلب الوَجْد على سيف الملوك فأنشَدَ هذه الأبيات:
بَكَيْتُ
غَرَامًا وَاشْتِيَاقًا وَلَوْعَةً
عَلَى شَأْنِ مَنْ يَهْوَاهُ قَلْبِي وَمُهْجَتِي
وَبِي
زَادَتِ الْآلَامُ مِنْ طُولِ هَجْرِكُمْ
وَبَاعِي قَصِيرٌ عَنْ تَقَارُبِ نِسْبَتِي
وَحُزْنِيَ
مِمَّا ضَاقَ عَنْهُ تَجَلُّدِي
يُوَضِّحُ لِلُّؤَّامِ بَعْضَ بَلِيَّتِي
وَقَدْ
ضَاقَ بَعْدَ الاتِّسَاعِ حَقِيقَةً
مَجَالُ اصْطِبَارِي لَا بِحَوْلِي وَقُوَّتِي
فَيَا
هَلْ تَرَى قَدْ يَجْمَعُ اللهُ شَمْلَنَا
وَتَبْرَى مِنَ الْآلَامِ وَالسَّقْمِ غُصَّتِي
وبعد
أن تحالفت بديعة الجمال هي وسيف الملوك، قام سيف الملوك يمشي، وقامت بديعة الجمال
تمشي أيضًا ومعها جارية حاملة شيئًا من الأكل، وحاملة أيضًا قنانية ملآنة خمرًا،
ثم قعدت بديعة الجمال ووضعت الجاريةُ بين يديها الأكلَ والمُدَام، فلم يمكثا غير
ساعة إلا وسيف الملوك قد أقبَلَ، فلاقَتْه بالسلام وتعانقا وقعدا. وأدرك شهرزاد
الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 776﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن بديعة الجمال لما أحضرت الطعام والشراب، وجاء سيف
الملوك فلاقَتْه بالسلام، ثم قعدا يأكلان ويشربان ساعة، فقالت بديعة الجمال: يا
ابن الملك، إذا دخلتَ بستان إرم ترى خيمةً كبيرة منصوبة، وهي من أطلس أحمر
وبطانتها من حرير أخضر، فادخلِ الخيمةَ وقوِّ قلبك؛ فإنك ترى عجوزًا جالسة على تخت
من الذهب الأحمر مرصَّع بالدُّرِّ والجوهر، فإذا دخلتَ فسلِّمْ عليها بأدبٍ
واحتشامٍ، وانظرْ إلى جهة التخت تجد تحتَه نعالًا منسوجةً بقضبان الذهب مزركشة
بالمعادن، فخذْ تلك النعال وقبِّلها وضَعْها على رأسك، ثم حطها تحت إبطك اليمنى
وقف قدام العجوز وأنت ساكت مطرق الرأس، فإذا سألَتْك وقالت لك: من أين جئتَ؟ وكيف
وصلتَ إلى ها هنا؟ ومَن عرَّفَك هذا المكان؟ ومن شأن أي شيء أخذتَ هذه النعال؟
فاسكتْ أنت حتى تدخل جاريتي هذه وتتحدَّث معها وتستعطفها عليك وتسترضي خاطرها بالكلام،
لعل الله تعالى يعطف قلبها عليك وتُجِيبك إلى ما تريد. ثم إنها نادت تلك الجارية،
وكانت اسمها مرجانة، وقالت لها: بحق محبتي أن تقضي هذه الحاجة في هذا اليوم، ولا
تتهاوني في قضائها، وإنْ قضيتِها في هذا اليوم فأنتِ حرة لوجه الله تعالى، ولك
الإكرام، ولا يكون عندي أعز منك، ولا أُظهِر سري إلا عليك. فقالت لها: يا سيدتي
ونور عيني، قولي لي ما حاجتك حتى أقضيها لك على رأسي وعيني. فقالت لها: أن تحملي
هذا الإنسي على أكتافك وتوصليه إلى بستان إرم عند جدتي أم أبي، وتوصليه إلى خيمتها
وتحتفظي عليه، وإذا دخلتِ الخيمةَ أنتِ وإياه ورأيتِه أخذ النعال وخدمها وقالت له:
من أين أنت؟ ومن أي طريق أتيت؟ ومَن أوصلك إلى هذا المكان؟ ومن شأن أي شيء أخذت
هذه النعال؟ وأي شيء حاجتك حتى أقضيها لك؟ فعند ذلك ادخلي بسرعة وسلِّمي عليها
وقولي لها: يا سيدتي، أنا الذي جئتُ به هنا، وهو ابن ملك مصر، وهو الذي راح إلى
القصر المشيد وقتل ابن الملك الأزرق وخلَّصَ الملكة دولة خاتون، وأوصَلَها إلى
أبيها سالمةً، وقد أوصلتُه إليك لأجل أن يخبرك ويبشِّرك بسلامتها فتنعمي عليه. ثم
بعد ذلك قولي لها: يا سيدتي، إنه كامل العرض والمروءة والشجاعة، وهو صاحب مصر
ومَلِكها، وقد حوى سائر الخصال الحميدة.
فإذا
قالت لك: أي شيء حاجته؟ فقولي لها: إن سيدتي تسلِّم عليكِ وتقول لك: إلى متى وهي
قاعدة في البيت عازبة بلا زواج؟ فقد طالت عليها المدة، فما مرادكم بعدم زواجها؟
ولأي شيء ما تزوِّجينها في حياتك وحياة أمها مثل البنات؟ فإذا قالت لك: كيف نعمل
في زواجها؟ فإنْ كانت هي تعرف أحدًا ووقع في خاطرها أحدٌ تخبرنا عنه ونحن نعمل لها
على مرادها على غاية ما يمكن. فعند ذلك قولي لها: يا سيدتي، إن بنتك تقول لك: أنتم
كنتم تريدون تزويجي بسليمان عليه السلام، وصوَّرتم له صورتي في القباء، فلم يكن له
نصيب فيَّ وقَدْ أرسَلَ القباء إلى ملك مصر، فأعطاه لولده، فرأى صورتي منقوشة فيه،
فعشقني وترك مُلْكَ أبيه وأمه وأعرَضَ عن الدنيا وما فيها، وخرج هائمًا في الدنيا
على وجهه، وقاسى أكبر الشدائد والأهوال من أجلي.
ثم
إن الجارية حملت سيف الملوك، وقالت له: غمِّضْ عينيك. ففعل، فطارت به إلى الجو، ثم
بعد ساعة قالت له: يا ابن الملك، افتح عينَيْك. ففتح عينيه فنظر البستان، وهو
بستان إرم، فقالت له الجارية مرجانة: ادخل يا سيف الملوك هذه الخيمة. فذكر اللهَ
سيفُ الملوك ودخل ومدَّ عينَيْه بالنظر في البستان، فرأى العجوز قاعدة على التخت،
وفي خدمتها الجواري، فقَرُب منها بأدب واحتشام، وأخذ النعال وقبَّلَها وفعل ما
وصفَتْه له بديعة الجمال، فقالت له العجوز: مَن أنت؟ ومِن أين أقبلْتَ؟ ومن أي
البلاد أنت؟ ومَن جاء بك إلى هذا المكان؟ ولأي شيء أخذتَ هذه النعال وقبَّلْتَها؟
ومتى قلتَ لي على حاجة ولم أَقْضِها لك؟ فعند ذلك دخلت الجارية مرجانة، وسلَّمَتْ
عليها بأدب واحتشام، ثم تحدثت بحديث بديعة الجمال الذي قالته لها. فلما سمعت
العجوز هذا الكلام صرخت عليها واغتاظت منها، وقالت: من أين يحصل بين الإنس والجن
اتفاق؟ وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 777﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن العجوز لما سمعت الكلام من الجارية اغتاظت غيظًا
شديدًا وقالت: من أين للإنس مع الجن اتفاق؟ فقال سيف الملوك: أنا أتفق معك وأكون
غلامك وأموت على حبك وأحفظ عهدك ولا أنظر غيرك، وسوف تنظرين صدقي وعدم كذبي وحسن
مروءتي معك إنْ شاء الله تعالى. ثم إن العجوز تفكَّرت ساعة زمانية ورأسها مطرق، ثم
رفعت رأسها وقالت: أيها الشاب المليح، هل تحفظ العهد والميثاق؟ فقال لها: نعم
وحقِّ مَن رفع السماء وبسط الأرض على الماء، إني أحفظ العهد. فعند ذلك قالت
العجوز: أنا أقضي لك حاجتك إنْ شاء الله تعالى، ولكن رحْ في الساعة إلى البستان،
وتفرَّجْ فيه وكُلْ من الفواكه التي لا نظيرَ لها ولا في الدنيا مثلها، حتى أبعث
إلى ولدي شهيال فيحضر، وأتحدث معه في شأن ذلك، ولا يكون إلا خيرًا إن شاء الله
تعالى؛ لأنه لا يخالفني ولا يخرج عن أمري، وأزوِّجك بنته بديعة الجمال؛ فطِبْ
نفسًا فإنها تكون زوجةً لك يا سيف الملوك. فلما سمع سيف الملوك منها ذلك الكلام
شكرها وقبَّلَ يدَيْها ورجلَيْها وخرج من عندها متوجهًا إلى البستان. وأما العجوز
فإنها التفتت إلى تلك الجارية وقالت لها: اطلعي فتِّشي على ولدي شهيال، وانظريه في
أي الأقطار والأماكن وأحضريه عندي. فراحت الجارية وفتَّشَتْ على الملك شهيال
فاجتمعت به، وأحضرته عند أمه.
هذا
ما كان من أمرها، وأما ما كان من أمر سيف الملوك، فإنه صار يتفرج في البستان، وإذا
بخمسة من الجان، وهم من قوم الملك الأزرق قد نظروه، فقالوا: من أين هذا؟ ومَن جاء
به إلى هذا المكان، ولعله الذي قتل ابن الملك الأزرق؟ ثم إنهم قالوا لبعضهم: إنَّا
نحتال عليه بحيلة ونسأله ونستخبر منه. ثم صاروا يتمشون قليلًا قليلًا إلى أن وصلوا
إلى سيف الملوك في طرف البستان، وقعدوا عنده وقالوا له: أيها الشاب المليح، ما قصَّرْتَ
في قتل ابن الملك الأزرق وخلاص دولة خاتون منه، فإنه كلب غدَّار قد مكر بها، ولولا
أن الله قيَّضَك لها ما خَلَصتْ أبدًا، وكيف قتلتَه؟ فنظر إليهم سيف الملوك، وقال
لهم: قد قتلتُه بهذا الخاتم الذي في إصبعي. فثبت عندهم أنه هو الذي قتَلَه، فقبض
اثنان على يدَيْه، واثنان على رجلَيْه، والآخَر قبض على فمه حتى لا يصيح فيسمعه
قوم الملك شهيال فينقذوه من أيديهم. ثم إنهم حملوه وطاروا به، ولم يزالوا طائرين
حتى نزلوا عند ملكهم، وأوقفوه بين يديه وقالوا: يا ملك الزمان، قد جئناك بقاتل
ولدك. فقال: وأين هو؟ قالوا: هذا. فقال له الملك الأزرق: هل قتلتَ ولدي وحشاشة
كبدي ونور بصري بغير حقٍّ وبغير ذنب فعله معك؟ فقال له سيف الملوك: نعم، أنا
قتلتُه، ولكن لظلمه وعدوانه؛ لأنه كان يأخذ أولاد الملوك ويذهب بهم إلى البئر
المُعطلة والقصر المشيد ويفرِّق بينهم وبين أهليهم، ويفسق فيهم، وقتلتُه بهذا
الخاتم الذي في إصبعي، وعجَّلَ الله بروحه إلى النار وبئس القرار. فثبت عند الملك
الأزرق أن هذا هو قاتل ولده بلا شك، فعند ذلك دعا بوزيره وقال له: هذا قاتل ولدي
ولا محالة من غير شك، فماذا تشير عليَّ في أمره؟ فهل أقتله أقبح قِتْلة، أو
أعذِّبه أصعب عذاب، أو كيف أعمل؟ فقال الوزير الأكبر: اقطعْ منه عضوًا. وقال آخَر:
اضربه كل يوم ضربًا شديدًا. وقال آخَر: اقطعوا وسطه. وقال آخَر: اقطعوا أصابعه
جميعًا وأحرِقوها بالنار. وقال آخَر: اصلبوه. وصار كل واحد منهم يتكلم بحسب رأيه.
وكان
عند الملك الأزرق أمير كبير له خبرة بالأمور ومعرفة بأحوال الدهور، فقال له: يا
ملك الزمان، إني أقول لك كلامًا ما، والرأي لك في سماعِ ما أشير به عليك. وكان هو
مشير مملكته ورئيس دولته، وكان الملك يسمع كلامه، ويعمل برأيه ولا يخالفه في شيء،
فقام على قدمَيْه وقبَّلَ الأرض بين يدَيْه، وقال له: يا ملك الزمان، إذا أشرتُ
عليك برأي في شأنِ هذا الأمر، فهل تتبعه وتعطيني الأمان؟ فقال له الملك: بيِّنْ
رأيك وعليك الأمان. فقال: يا ملك، إنْ أنت قتلتَ هذا ولم تقبل نصحي ولم تتعقل
كلامي، فإن قتله في هذا الوقت غير صواب؛ لأنه تحت يدك وفي حِمَاك وأسيرك، ومتى
طلبتَه وجدتَه وتفعل به ما تريد، فاصبر يا ملك الزمان، فإن هذا قد دخل بستان إرم
وتزوَّجَ بديعة الجمال بنت الملك شهيال، وصار منهم واحدًا، وجماعتك قبضوا عليه
وأتوا به إليك، وما أخفى حاله منهم ولا منك، فإن قَتَلْتَه فإن الملك شهيال يطلب
ثأرَه منك ويُعادِيك ويأتيك بالعسكر من أجل بنته، ولا مقدرةَ لك على عسكره، وليس
لك به طاقة. فسمع منه ذلك، وأمر بسجنه.
هذا
ما جرى لسيف الملوك، وأما ما كان من أمر السيدة بديعة الجمال، فإنها لما اجتمعَتْ
بوالدها شهيال أرسلَتِ الجاريةَ تفتِّش على سيف الملوك، فلم تجده، فرجعت إلى
سيدتها وقالت: ما وجدتُه في البستان. فأرسلَتْ إلى عَمَلة البستان، وسألَتْهم عن
سيف الملوك، فقالوا: نحن رأيناه قاعدًا تحت شجرة، وإذا بخمسة أشخاص من جماعة الملك
الأزرق نزلوا عنده وتحدَّثوا معه، ثم إنهم حملوه وسدُّوا فمه وطاروا به وراحوا.
فلما سمعت العجوز ذلك الكلام، لم يهن عليها واغتاظَتْ غيظًا شديدًا، وقامت على
أقدامها وقالت لابنها الملك شهيال: كيف تكون ملكًا وتجيء جماعة الملك الأزرق إلى
بستاننا، ويأخذون ضيفنا ويروحون به سالمين وأنت بالحياة، وكذلك أمه؟ وصارت تحرِّضه
وتقول: لا ينبغي أن يتعدَّى علينا أحد في حياتك. فقال لها: يا أمي، إن هذا الإنسي
قتل ابن الملك الأزرق وهو جني، فرماه الله في يده فكيف أذهب وأعاديه من أجل
الإنسي؟ فقالت له أمه: اذهبْ إليه واطلبْ منه ضيفنا، فإن كان بالحياة وسلَّمَه
إليك فخذه وتعالَ، وإنْ كان قتله فامسكِ الملكَ الأزرق بالحياة هو وأولاده وحريمه،
وكل مَن يلوذ به من أتباعه، وائتني بهم بالحياة حتى أذبحهم بيدي وأخرب دياره، وإنْ
لم تفعل ما أمرتُك به لا أجعلك في حلٍّ من لبني، والتربية التي ربيتُها لك تكون
حرامًا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 778﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن العجوز قالت لابنها شهيال: اذهب إلى الملك الأزرق
وانظر سيف لملوك، فإنْ كان باقيًا بالحياة فهاتِه وتعالَ، وإنْ كان قتله فامسِكْه
هو وأولاده وحريمه، وكل مَن يلوذ به وائتني بهم بالحياة حتى أذبحهم بيدي، وأخرب
ملكه، وإنْ لم تذهب إليه وتفعل ما أمرتك به، فلا أجعلك في حلٍّ من لبني، وتكون
تربيتك حرامًا. فعند ذلك قام الملك شهيال وأمر عسكره بالخروج، وتوجَّهَ إليه
كرامةً لأمه ورعايةً لخاطرها وخواطر أحبابها ولأجل شيء كان مقدَّرًا في الأزل. ثم
إن شهيال سافَرَ بعسكره ولم يزالوا مسافرين حتى وصلوا إلى الملك الأزرق وتلاقى
العسكران، فانكسَرَ الملك الأزرق هو وعسكره ومسكوا أولاده كبارًا وصغارًا، وأربابَ
دولته وأكابرها، وربطوهم وأحضروهم بين يدي الملك شهيال، فقال له: يا أزرق، أين سيف
الملوك الإنسي الذي هو ضيفي؟ فقال له الملك الأزرق: يا شهيال، أنت جني وأنا جني،
وهل لأجل إنسي قتَلَ ولدي تفعل هذه الفعال؟ وهو قاتِلُ ولدي وحشاشة كبدي وراحة
روحي، وكيف عملتَ هذه الأعمال كلها وأهرقتَ دمَ كذا وكذا ألف جني؟ فقال له: خلِّ
عنك هذا الكلام، فإنْ كان هو بالحياة فأحضِرْه وأنا أعتقك وأعتق كلَّ مَن قبضتُ
عليه من أولادك، وإنْ كنتَ قتلتَه، فأنا أذبحك أنت وأولادك. فقال له الملك الأزرق:
يا ملك، هل هذا أعزُّ عليك من ولدي؟ فقال له الملك شهيال: إن ولدك ظالم لكونه يخطف
أولاد الناس وبنات الملوك ويضعهم في القصر المشيد والبئر المعطلة ويفسق فيهم. فقال
له الملك الأزرق: إنه عندي، ولكنْ أصلِحْ بيننا وبينه. فأصلح بينهم وخلع عليهم
وكتَبَ بين الملك الأزرق وبين سيف الملوك حجةً من جهة قتل ولده، وتسلَّمَه الملك
شهيال وضيَّفَهم ضيافةً مليحة، وأقام الملك الأزرق عنده هو وعسكره ثلاثة أيام، ثم
أخذ سيف الملوك وأتى به إلى أمه، ففرحَتْ به فرحًا شديدًا، وتعجَّبَ شهيال من حسن
سيف الملوك وكماله وجماله، وحكى له سيف الملوك حكايته من أولها إلى آخِرها وما وقع
له مع بديعة الجمال.
ثم
إن الملك شهيال قال: يا أمي، حيث رضيت بذلك فسمعًا وطاعةً لكل أمرٍ فيه رضاؤك،
فخذيه وروحي به إلى سرنديب، واعملي هناك فرحًا عظيمًا، فإنه شاب مليح وقاسى
الأهوال من أجلها. ثم إنها سافرت هي وجواريها إلى أن وصلْنَ إلى سرنديب، ودخلْنَ
البستان الذي لأم دولة خاتون، ونظرَتْه بديعة الجمال بعد أن مضين إلى الخيمة
واجتمعْنَ، وحدَّثَتْهن العجوز بما جرى له من الملك الأزرق، وكيف كان أشرف على
الموت في سجن الملك الأزرق، وليس في الإعادة إفادة. ثم إن الملك سيف الملوك قال
له: يا ملك العفو، أنا أطلب منك حاجة وأخاف أن تردَّني عنها خائبًا. فقال له تاج
الملوك: والله لو طلبتَ روحي ما منعتُها عنك لما فعلتَ من الجميل. فقال سيف
الملوك: أريد أن تزوِّج دولة خاتون بأخي ساعد، حتى نصير كلنا غلمانك. فقال تاج
الملوك: سمعًا وطاعة. ثم إنه جمع أكابر دولته ثانيًا، وعقَدَ عَقْدَ بنته دولة
خاتون على ساعد، ولما خلصوا من كتب الكتاب نثروا الذهب والفضة، وأمر أن يزيِّنوا
المدينة، ثم أقاموا الفرح ودخل سيف الملوك على بديعة الجمال، ودخل ساعد على دولة
خاتون في ليلة واحدة. ولم يزل سيف الملوك يختلي ببديعة الجمال أربعين يومًا، فقالت
له في بعض الأيام: يا ابن الملك، هل بقي في قلبك حسرة على شيء؟ فقال سيف الملوك:
حاش لله، قد قضيتُ حاجتي وما بقي في قلبي حسرة أبدًا، ولكن قصدي الاجتماع بأبي
وأمي بأرض مصر، وأنظر هل استمروا طيبين أم لا؟ فأمرَتْ جماعة من خَدَمِها أن
يوصِّلوه هو وساعدًا إلى أرض مصر، فوصَّلوهم إلى أهلهم بأرض مصر، واجتمع سيف
الملوك بأبيه وأمه، وكذلك ساعد، وقعدا عندهم جمعة، ثم إن كلًّا منهما ودَّعَ أباه
وأمه وسارا إلى مدينة سرنديب، وصارا كلما اشتاقا إلى أهلهما يروحان ويرجعان. وعاش
سيف الملوك هو وبديعة الجمال في أطيب عيش وأهنأه، وكذلك ساعد مع دولة خاتون، إلى
أن أتاهم هادم اللذات ومفرِّق الجماعات، فسبحان الحي الذي لا يموت، وخلق الخلق
وقضى عليهم بالموت، وهو أول بلا ابتداء وآخِر بلا انتهاء.
ومما
حُكِي أيضًا أنه كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان رجل تاجر من التجار مقيم
بأرض البصرة، وكان ذلك التاجر له وَلَدانِ ذَكَرانِ، وكان عنده مال كثير، فقدَّرَ
الله السميع العليم أن التاجر تُوفِّي إلى رحمة الله تعالى وترك تلك الأموال، فأخذ
ولداه في تجهيزه ودفنه، وبعد ذلك اقتسما الأموال بينهما بالسوية، وأخذ كل واحد
منهما قسمه وفتحا لهما دكَّانَيْن؛ أحدهما نحَّاس، والثاني صائغ، فبينما الصائغ
جالسٌ في دكانه يومًا من الأيام، إذا برجل أعجمي ماشٍ في السوق بين الناس، حتى مر
على دكان الولد الصائغ، فنظر إلى صنعته وتأمَّلَها بمعرفته فأعجَبَتْه، وكان اسم
الولد الصائغ حسن، فهزَّ الأعجمي رأسه وقال: والله إنك صائغ مليح. وصار ينظر إلى
صناعته وهو ينظر إلى كتاب عتيق كان بيده والناس مشغولون بحُسْنه وجماله وقدِّه
واعتداله، فلما كان وقت العصر خلَتِ الدكان من الناس، فعند ذلك أقبَلَ الرجل الأعجمي
عليه وقال له: يا ولدي، أنت شابٌّ مليح، ما هذا الكتاب؟ وأنا ما لي ابن، وقد عرفت
صنعةً ما في الدنيا أحسن منها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 779﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن العجمي لما أقبَلَ على حسن الصائغ قال له: يا ولدي،
أنت شاب مليح، ما هذا الكتاب؟ وأنا ما لي ابن، وقد عرفتُ صنعةً ما في الدنيا
أحسَنَ منها، وقد سألني خلقٌ كثير من الناس في شأن تعليمها، فما رضيتُ أن أعلِّمها
أحدًا منهم، ولكنْ قد سمحَتْ نفسي أن أعلِّمَك إياها، وأجعلك ولدي وأجعل بينك وبين
الفقر حجابًا، وتستريح من هذه الصنعة والتعب في المطرقة والفحم والنار. فقال له
حسن: يا سيدي، ومتى تعلِّمني؟ فقال: في غدٍ آتيك وأصنعُ لك من النحاس ذهبًا خالصًا
بحضرتك. ففرح حسن وودَّع الأعجمي وسار إلى والدته، فدخل وسلَّمَ عليها وأكل معها
وهو مدهوش بلا وعي ولا عقل، فقالت له أمه: ما بالك يا ولدي؟ احذرْ أن تسمع كلامَ
الناس، خصوصًا الأعجام فلا تطاوِعْهم في شيء، فإن هؤلاء غشَّاشون يعملون صنعة
الكيمياء، وينصبون على الناس ويأخذون أموالهم ويأكلونها بالباطل. فقال لها: يا
أمي، نحن ناس فقراء وما عندنا شيء يطمع فيه حتى ينصب علينا، وقد جاءني رجل أعجمي
لكنه شيخ صالح عليه أَثَرُ الصلاح، وإنما هو قد حنَّنَه الله عليَّ. فسكتَتْ أمه
على غيظ، وصار ولدها مشغول القلب ولم يأخذه نومٌ في تلك الليلة من شدة فرحه بقول
الأعجمي له.
فلما
أصبح الصباح قام وأخذ المفاتيح وفتح الدكان، وإذا بالأعجمي قد أقبَلَ عليه، فقام
له وأراد حسن أن بقبِّل يدَيْه، فامتنع ولم يرضَ بذلك وقال: يا حسن، عمِّرِ
البودقة، وركِّبِ الكير. ففعل ما أمره به الأعجمي وأوقَدَ الفحم، فقال له الأعجمي:
يا ولدي، هل عندك نحاس؟ قال: عندي طبق مكسور. فأمره أن يتكئ عليه بالكاز ويقطِّعه
قطعًا صغارًا، ففعل كما قال له وقطَّعه قطعًا صغارًا، ورماه في البودقة ونفخ عليه
بالكير حتى صار ماءً، فمدَّ الأعجمي يده إلى عمامته وأخرَجَ منها ورقةً ملفوفةً
وفتحها وذرَّ منها شيئًا في البودقة مقدار نصف درهم، وذلك الشيء يشبه الكحل
الأصفر، وأمَرَ حَسَنًا أن ينفخ عليه بالكير، ففعل مثل ما أمره حتى صار سبيكة ذهب،
فلما نظر حسن إلى ذلك اندهش وتحيَّرَ عقله من الفرح الذي حصل له، وأخذ السبيكة
وقلبها، وأخذ المبرد وبردها؛ فرآها ذهبًا خالصًا من عال العال، فطار عقله واندهش
من شدة الفرح، ثم انحنى على يد الأعجمي ليقبِّلها، فقال له: خذْ هذه السبيكة
وانزلْ بها إلى السوق وبِعْها واقبضْ ثمنَها سريعًا ولا تتكلم. فنزل حسن إلى السوق
وأعطى السبيكة إلى الدلَّال، فأخذها منه وحكَّها فوجدها ذهبًا خالصًا، ففتحوا
بابها بعشرة آلاف درهم، وقد تزايَدَ فيها التجار فباعها بخمسة عشر ألف درهم، وقبض
ثمنها ومضى إلى البيت وحكى لأمه جميع ما فعل، وقال لأمه: يا أمي، إني قد تعلَّمْتُ
هذه الصنعة. فضحكَتْ عليه وقالت: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 780﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن حسنًا الصائغ لما حكى لأمه ما فعل الأعجمي، وقال لها:
إني قد تعلَّمْتُ هذه الصنعة. قالت: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وسكتَتْ على غيظ منها. ثم إن حسنًا أخذ من جهله هونًا وذهب به إلى الأعجمي وهو
قاعد في الدكان ووضعه بين يديه، فقال له: يا ولدي، ما تريد أن تصنع بهذا الهون؟
قال: نُدخِله النارَ ونعمله سبائك ذهب. فضحك الأعجمي وقال له: يا ولدي، هل أنت
مجنون حتى تنزل السوق بسبيكتين في يوم واحد؟ أَمَا تعلم أن الناس يُنكِرون علينا
وتروح أرواحنا؟ ولكنْ يا ولدي إذا علَّمْتُك هذه الصنعة لا تعملها في السنة إلا
مرة واحدة، فهي تكفيك من السنة إلى السنة. قال: صدقتَ يا سيدي. ثم إنه قعد في
الدكان وركب البودقة، ورمى الفحم في النار، فقال له الأعجمي: يا ولدي، ماذا تريد؟
قال: علِّمني هذه الصنعة. فضحك الأعجمي وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم، أنت يا ابني قليل العقل ما تصلح لهذه الصنعة قطُّ، هل أحدٌ في عمره
يتعلَّم هذه الصنعة على قارعة الطريق أو في الأسواق؟ فإنِ اشتغلنا بها في هذا
المكان يقول الناس علينا إن هؤلاء يصنعون الكيمياء، فتسمع بنا الحكَّام فتروح
أرواحنا، فإنْ كنتَ يا ولدي تريد أن تتعلم هذه الصنعة، فاذهبْ معي إلى بيتي. فقام
حسن وأغلَقَ الدكان وتوجَّهَ مع الأعجمي، فبينما هو في الطريق إذ تذكَّرَ قولَ أمه
وحسب في نفسه ألف حساب، ووقف وأطرَقَ برأسه إلى الأرض ساعة زمانية، فالتفَتَ
الأعجمي فرآه واقفًا، فضحك وقال له: هل أنت مجنون؟ كيف أُضمِرُ لك في قلبي الخيرَ
وأنت تحسب أني أضرك؟ ثم قال له الأعجمي: إنْ كنتَ خائفًا من ذهابك معي إلى بيتي،
فأنا أروح معك إلى بيتك وأعلِّمك هناك. فقال له حسن: نعم يا عم. فقال له: امشِ
قدامي. فسار حسن قدامه إلى منزله، وسار الأعجمي خلفه إلى أن وصل منزلَه، فدخل حسن
إلى داره فوجد والدته، فأعلَمَها بحضور الأعجمي معه والأعجمي واقف على الباب،
ففرشت لهما البيت ورتَّبَتْه، فلما فرغت من أمرها راحت، ثم إنَّ حَسَنًا أَذِنَ
للأعجمي أن يدخل فدخل.
ثم
إن حسنًا أخذ في يده طبقًا وذهَبَ به إلى السوق ليجيء فيه بشيء يأكله، فخرج وجاء
بأكل وأحضَرَه بين يدَيْه وقال له: كُلْ يا سيدي لأجل أنْ يصير بيننا خبز وملح،
والله تعالى ينتقم ممَّن يخون الخبز والملح. فقال له: صدقتَ يا ولدي. ثم تبسَّمَ
وقال: يا ولدي، مَن يعرف قدر الخبز والملح؟ ثم تقدَّمَ الأعجمي وأكل مع حسن حتى
اكتفيا، ثم قال له الأعجمي: يا ولدي يا حسن، هات لنا شيئًا من الحلوى. فمضى حسن
إلى السوق وأحضَرَ عشر قبات من الحلوى، وفرح حسن بكلام الأعجمي. فلما قدَّمَ له
الحلوى أكل منها وأكل معه حسن، ثم قال له الأعجمي: جزاك الله خيرًا يا ولدي، مثلك
مَن يصاحبه الناس ويُظهِرونه على أسرارهم ويعلِّمونه ما ينفعه. ثم قال الأعجمي: يا
حسن، أحضِرِ العدَّة. فما صدق حسن بهذا الحديث، وقد خرج مثل المهر إذا انطلق من
الربيع حتى أتى إلى الدكان، وأخذ العدَّة ورجع ووضعها بين يدَيْه، فأخرَجَ الأعجمي
قرطاسًا من الورق وقال: يا حسن، وحق الخبز والملح لولا أنت أعز من ولدي ما أطلعتُك
على هذه الصنعة، وما بقي معي شيء من هذا الإكسير إلا هذا القرطاس، ولكنْ تأمَّلْ
حين أركِّب العقاقير وأضعها قدامك، واعلم يا ولدي يا حسن أنك تضع على كل عشرة
أرطال نحاسًا نصفَ درهم من هذا الذي في الورقة، فتصير العشرة أرطال ذهبًا خالصًا
إبريزًا. ثم قال له: يا ولدي يا حسن، إن في هذه الورقة ثلاثة أوراق بالوزن المصري،
وبعد أن يفرغ ما في هذه الورقة أعمل لك غيره. فأخذ حسن الورقة، فرأى فيها شيئًا
أصفر أنعَمَ من الأول، فقال: يا سيدي، ما اسم هذا؟ وأين يوجد؟ وفي أي شيء يعمل؟
فضحك الأعجمي وطمع في حسن وقال له: عن أي شيء تسأل؟ اعمل وأنت ساكت. وأخرَجَ طاسة
من البيت وقطعها وألقاها في البودقة، ورمى عليها قليلًا من الذي في الورقة، فصارت
سبيكة من الذهب الخالص.
فلما
رأى حسن ذلك فرح فرحًا شديدًا، وصار متحيرًا في عقله مشغولًا بتلك السبيكة، فأخرج
الأعجمي صرةً من رأسه بسرعة وقطعها ووضعها في قطعة من الحلوى وقال له: يا حسن، أنت
بقيتَ ولدي وصرتَ عندي أعزَّ من روحي ومالي، وعندي بنت أزوِّجُكَ بها. فقال حسن:
أنا غلامك، ومهما فعلتَه معي كان عند الله تعالى. فقال الأعجمي: يا ولدي، طوِّلْ
بالك وصبِّرْ نفسك فيحصل لك الخير. ثم ناوَلَه القطعة الحلوى، فأخذها وقبَّلَ يده
ووضعها في فمه وهو لا يعلم ما له في الغيب، ثم بلع القطعة الحلوى فسبقت رأسه
رجلَيْه، وغاب عن الدنيا؛ فلما رآه الأعجمي وقد حلَّ به البلاء، فرح فرحًا شديدًا
وقام على أقدامه، وقال له: وقعتَ يا علق يا كلب العرب، لي أعوام كثيرة أفتِّش عليك
حتى حصلتُك يا حسن. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 781﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن حسنًا الصائغ لما أكل القطعة الحلوى التي أعطاها له
الأعجمي ووقع منها على الأرض مغشيًّا عليه، فرح الأعجمي وقال له: لي أعوام كثيرة
وأنا أفتِّش عليك حتى حصلتك. ثم إن الأعجمي شدَّ وسطه وكتَّفَ حسنًا وربط رجلَيْه
على يدَيْه، وأخذ صندوقًا وأخرَجَ منه الحوائج التي كانت فيه، ووضع حسنًا فيه
وقفله عليه، وفرَّغَ صندوقًا آخَر وحطَّ فيه جميع المال الذي عند حسن، وسبائك
الذهب التي عملها أولًا وثانيًا وقفله، ثم خرج يجري إلى السوق، وأحضَرَ حمَّالًا
حمل الصندوقين، وتقدَّمَ إلى المركب الرأسية، وكانت تلك المركب مهيَّأة للأعجمي،
وريسها منتظر له، فلما نظرته بحريتها أتوا إليه وحملوا الصندوقين ووضعوهما في
المركب، وصرخ الأعجمي على الريس وعلى جميع البحرية وقال لهم: قوموا قد انقضَتِ
الحاجة، وبلغنا المراد. فصرخ الريس على البحرية وقال لهم: أقلعوا المراسي وحلوا
القلوع. وسارت المركب بريح طيبة.
هذا
ما كان من أمر الأعجمي وحسن، وأما ما كان من أمر أم حسن، فإنها انتظرته إلى العشاء
فلم تسمع له صوتًا ولا خبرًا جملة كافية، فجاءت إلى البيت فرأته مفتوحًا ولم تَرَ
فيه أحدًا ولم تجد الصناديق ولا المال، فعرفَتْ أن ولدها قد فُقِد ونفذ فيه
القضاء، فلطمَتْ على وجهها وشقَّتْ أثوابَها، وصاحت وولولت وصارت تقول: وا ولداه!
وا ثمرة فؤاداه! ثم أنشدت هذه الأبيات:
لَقَدْ
قَلَّ صَبْرِي ثُمَّ زَادَ تَمَلْمُلِي
وَزَادَ نَحِيبِي بَعْدَكُمْ وَتَعَلُّلِي
وَلَا
صَبْرَ لِي وَاللهِ بَعْدَ فِرَاقِكُمْ
وَكَيْفَ اصْطِبَارِي بَعْدَ فُرْقَةِ مَأْمَلِي
وَبَعْدَ
حَبِيبِي كَيْفَ أَلْتَذُّ بِالْكَرَى
وَمَنْ ذَا الَّذِي يَهْنَى بِعَيْشِ التَّذَلُّلِ
رَحَلْتَ
فَأَوْحَشْتَ الدِّيَارَ وَأَهْلَهَا وَكَدَّرْتَ مِنْ صَفْوِي مَشَارِبَ مَنْهَلِي
وَكُنْتَ
مُعِينِي فِي الشِّدَائِدِ كُلِّهَا
وَعِزِّي وَجَاهِي فِي الْوَرَى وَتَوَسُّلِي
فَلَا
كَانَ يَوْمٌ كُنْتَ فِيهِ مُبَاعَدًا
عَنِ الْعَيْنِ إِلَّا أَنْ أَرَاكَ تَعُودُ لِي
ثم
إنها صارت تبكي وتنوح إلى الصباح، فدخل عليها الجيران وسألوها عن ولدها، فأخبرتهم
بما جرى له مع الأعجمي، واعتقدَتْ أنها لا تراه بعد ذلك أبدًا، وجعلت تدور في
البيت وتبكي. فبينما هي دائرة في البيت إذ رأت سطرين مكتوبين على الحائط، فأحضرَتْ
فقيهًا فقرأهما لها، فإذا فيهما:
سَرَى
طَيْفُ لَيْلِي عِنْدَمَا غَلَبَ الْكَرَى
سُحَيْرًا وَصَحْبِي فِي الْفَلَاةِ رُقُودُ
فَلَمَّا
انْتَبَهْنَا لِلْخَيَالِ الَّذِي سَرَى
بَدَا الْجَوُّ قَفْرًا وَالْمَزَارُ بَعِيدُ
فلما
سمعت أم حسن هذه الأبيات صاحت وقالت: نعم يا ولدي، إن الدار قفراء والمزار بعيد.
ثم إن الجيران ودَّعوها بعد أن دعوا لها بالصبر وجمع الشمل قريبًا وانصرفوا، ولم
تزل أم حسن تبكي آناء الليل وأطراف النهار، وبَنَتْ في وسط البيت قبرًا، وكتبَتْ
عليه اسم حسن وتاريخ فقده، وكانت لا تفارق ذلك القبر، ولم يزل ذلك دأبها من حين فارَقَها
ولدها. هذا ما كان من أمرها، وأما ما كان من أمر ولدها حسن مع الأعجمي، فإن
الأعجمي كان مجوسيًّا، وكان يبغض المسلمين كثيرًا، وكلما قدر على أحد من المسلمين
يهلكه، وهو خبيث لئيم كيماوي كما قال فيه الشاعر:
هُوَ
الْكَلْبُ وَابْنُ الْكَلْبِ وَالْكَلْبُ جَدُّهُ وَلَا خَيْرَ فِي كَلْبٍ تَنَاسَلَ مِنْ
كَلْبِ
وكان
اسم ذلك الملعون بهرام المجوسي، وكان له في كل سنة واحد من المسلمين يأخذه ويذبحه
على مطلب، فلما تمَّتْ حيلته على حسن الصائغ، وسار به من أول النهار إلى الليل،
رست المركب على برٍّ إلى الصباح، فلما طلعت الشمس وسارت المركب، أمر الأعجمي عبيده
وغلمانه أن يحضروا له الصندوق الذي فيه حسن فأحضروه له، ففتحه وأخرَجَه منه ونشقه
بالخل ونفخ في أنفه ذرورًا فعطس وتقايا البنج، وفتح عينيه ونظر يمينًا وشمالًا،
فوجد نفسه في وسط البحر والمركب سائرة والأعجمي قاعد عنده؛ فعلم أنها حيلةٌ عُمِلت
عليه قد عملها الملعون المجوسي، وأنه وقع في الأمر الذي كانت أمه تحذِّره منه،
فقال كلمةً لا يخجل قائلُها وهي: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إنا لله
وإنا إليه راجعون، اللهم الطُفْ بي في قضائك، وصبِّرْني على بلائك يا رب العالمين.
ثم التفت إلى الأعجمي وكلَّمَه بكلام رقيق، وقال له: يا والدي، ما هذه الفعال؟
وأين الخبز والملح واليمين التي حلفتَها لي؟ فنظر إليه وقال له: يا كلب، هل مثلي
يعرف خبزًا وملحًا؟ وأنا قد قتلتُ مثلَك ألفَ صبي إلا صبيًّا، وأنت تمام الألف.
وصاح عليه، فسكت وعلم أن سهم القضاء نفذ فيه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن
الكلام المباح.
﴿اللیلة 782﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن حسنًا لما رأى نفسه وقع مع الأعجمي الملعون، كلَّمَه
بكلام رقيق فلم يَفِدْه، بل صاح عليه، فسكَتَ وعلم أن سهم القضاء نفذ فيه، فعند
ذلك أمر الملعون بحلِّ كتافه، ثم سقوه قليلًا من الماء والمجوسي يضحك ويقول: وحق
النار والنور، والظل والحرور، ما كنتُ أظنُّ أنك تقع في شبكتي، ولكن النار
قوَّتْني عليك وأعانَتْني على قبضك حتى أقضي حاجتي وأرجع وأجعلك قربانًا لها حتى
ترضى عني. فقال حسن: قد خنتَ الخبز والملح. فرفع المجوسي يده وضربه ضربة، فوقع
وعضَّ الأرضَ بأسنانه وغُشِي عليه وجرت دموعه على خده. ثم أمر المجوسي أن يوقدوا
له نارًا، فقال له حسن: ما تصنع بها؟ فقال له: هذه النار صاحبة النور والشرر، وهي
التي أعبدها، فإنْ كنتَ تعبدها مثلي فأنا أعطيك نصفَ مالي وأزوِّجك بنتي. فصاح حسن
عليه وقال له: ويلك، إنما أنت مجوسي كافر تعبد النار دون المَلِك الجبَّار، خالق
الليل والنهار، وما هذه إلا مصيبة في الأديان. فعند ذلك غضب المجوسي، وقال: أَمَا
توافقني يا كلب العرب وتدخل في ديني؟ فلم يوافقه حسن على ذلك، فقام المجوسي
الملعون وسجَدَ للنار وأمر غلمانه أن يرموا حسنًا على وجهه، فرموه على وجهه، وصار
المجوسي يضربه بسوط مضفور من جلد حتى شرَّح جوانبه وهو يستغيث فلا يُغاث، ويستجير
فلا يُجِيره أحد، فرفع طرفه إلى المَلِك القهَّار، وتوسَّلَ إليه بالنبي المختار،
وقد عُدِم الاصطبار، وجرت دموعه على خدَّيْه كالأمطار، وأنشد هذين البيتين:
صَبْرًا
لِحُكْمِكَ يَا إِلَهِي فِي الْقَضَا
أَنَا صَابِرٌ إِنْ كَانَ فِي هَذَا رِضَا
جَارُوا
عَلَيْنَا وَاعْتَدَوْا وَتَحَكَّمُوا
فَعَسَاكَ بِالْإِحْسَانِ تَغْفِرُ مَا مَضَى
ثم
إن المجوسي أمَرَ العبيد أن يُقعِدوه، وأمر أن يأتوا إليه بشيء من المأكول
والمشروب، فأحضروه فلم يرضَ أن يأكل ولا يشرب، وصار المجوسي يعذِّبه ليلًا ونهارًا
مسافة الطريق وهو صابر يتضرَّع إلى الله عز وجل، وقد قسا قلب المجوسي عليه، ولم
يزالوا سائرين في البحر مدة ثلاثة أشهر، وحسن معه في العذاب، فلما كملت الثلاثة
أشهر أرسَلَ الله تعالى على المركب ريحًا، فاسودَّ البحر وهاج بالمركب من كثرة
الريح، فقال الريس والبحرية: هذا والله كله ذنب هذا الصبي الذي له ثلاثة أشهر في
العقوبة مع هذا المجوسي، وهذا ما يحل من الله تعالى. ثم إنهم قاموا على المجوسي
وقتلوا غلمانه وكلَّ مَن معه، فلما رآهم المجوسي قتلوا الغلمان أيقَنَ بالهلاك
وخاف على نفسه، وحلَّ حَسَنًا من كتافه وقلعه ما كان عليه من الثياب الرثَّة
وألبَسَه غيرها وصالَحَه، ووعده أن يعلِّمه الصنعةَ ويردَّه إلى بلده، وقال له: يا
ولدي، لا تؤاخذني بما فعلتُ معك. فقال له حسن: كيف بقيت أركنُ إليك؟ فقال له: يا
ولدي، لولا الذنب ما كانت المغفرة، وأنا ما فعلتُ معك هذه الفعال إلا لأجل أن أنظر
صبرك، وأنت تعلم أن الأمر كله بيد الله. ففرحت البحرية والريس بخلاصه، ودعا لهم
حسن وحمد الله تعالى وشكره، فسكنت الرياح وانكشفت الظلمة، وطاب الريح والسفر.
ثم
إن حَسَنًا قال للمجوسي: يا أعجمي، إلى أين تتوجه؟ قال: يا ولدي، أتوجَّه إلى جبل
السحاب الذي فيه الإكسير الذي نعمله كيميائيًّا. وحلف له المجوسي بالنار والنور
أنه ما بقي لحسن عنده ما يُخِيفه، فطاب قلب حسن وفرح بكلام المجوسي وصار يأكل معه
ويشرب وينام ويلبسه من ملبوسه، ولم يزالوا مسافرين مدة ثلاثة أشهر أُخَر، وبعد ذلك
رست المركب على بر طويل كله حصًى أبيض وأصفر وأزرق وأسود، وغير ذلك من جميع
الألوان، فلما رست المركب نهض الأعجمي قائمًا وقال: يا حسن، قُمِ اطلع فإننا قد
وصلنا إلى مطلوبنا ومرادنا. فقام حسن وطلع مع الأعجمي وأوصى المجوسي الريس على
مصالحه، ثم مشى حسن مع المجوسي إلى أنْ بعدَا عن المركب وغابا عن الأعين، ثم قعد
المجوسي وأخرَجَ من جيبه طبلًا نحاسًا وزخمة من حرير منقوشة بالذهب وعليها طلاسم،
وضرب الطبل، فلما فرغ ظهرت غبرة من ظهر البرية، فتعجَّبَ حسن من فعله وخاف منه،
وندم على طلوعه معه وتغيَّرَ لونه، فنظر إليه المجوسي وقال له: ما لك يا ولدي؟ وحق
النار والنور ما بقي عليك خوف مني، ولولا أن حاجتي ما تُقضَى إلا على اسمك ما كنتُ
أطلعتك من المركب، فأبشِرْ كلَّ خير، وهذه الغبرة غبرة شيء نركبه، فيُعِيننا على
قطع هذه البرية، ويسهِّل علينا مشقتَها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام
المباح.
﴿اللیلة 783﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الأعجمي قال: إن هذه الغبرة غبرة شيء نركبه، فيعيننا
على قَطْع هذه البرية ويسهِّل علينا مشقتَها، فما كان إلا قليل حتى انكشفت الغبرة
عن ثلاث نجائب؛ فركب الأعجمي واحدة، وركب حسن واحدة، وحملا زادهما على الثالثة،
وسارا سبعة أيام، ثم انتهيا إلى أرض واسعة، فلما نزلا في تلك الأرض نظرا إلى قبة
معقودة على أربعة أعمدة من الذهب الأحمر، فنزلا من فوق النجائب ودخلا تحت القبة
وأكلا وشربا واستراحا، فلاحت التفاتة من حسن فرأى شيئًا عاليًا، فقال له حسن: ما
هذا يا عم؟ فقال المجوسي: هذا قصر. فقال له حسن: أَمَا تقوم ندخله لنستريح فيه
ونتفرج عليه؟ فذهب المجوسي وقال له: لا تذكر لي هذا القصر، فإن فيه عدوي ووقعَتْ
لي حكاية ليس هذا وقت إخبارك بها. ثم دق الطبل فأقبلَتِ النجائب، فركبا وسارا سبعة
أيام، فلما كان اليوم الثامن قال المجوسي: يا حسن، ما الذي تنظره؟ فقال حسن: أنظر
سحابًا وغمامًا بين المشرق والمغرب. فقال له المجوسي: ما هذا سحاب ولا غمام، وإنما
هو جبل عظيم شاهق ينقسم عليه السحاب، وليس هناك سحاب يكون فوقه من فرط علوِّه
وعِظَم ارتفاعه، وهذا الجبل هو المقصود لي وفوقه حاجتنا، ولأجل هذا جئتُ بك معي
وحاجتي تُقضَى على يديك. فعند ذلك يَئِس حسن من الحياة، ثم قال للمجوسي: بحق
معبودك، وبحق ما تعتقده من دينك، أي شيءٍ الحاجةُ التي جئتَ بي من أجلها؟ فقال له:
إن صنعة الكيمياء لا تصلح إلا بحشيش ينبت في المحل الذي يمر به السحاب وينقطع
عليه، وهو هذا الجبل، والحشيش فوقه، فإذا حصلنا الحشيش أُرِيك أي شيء هذه الصنعة.
فقال له حسن من خوفه: نعم يا سيدي. وقد يئس من الحياة، وبكى لفراق أمه وأهله
ووطنه، وندم على مخالفته أمه وأنشد هذين البيتين:
تَأَمَّلْ
صُنْعَ رَبِّكَ كَيْفَ تَأْتِي لَكَ
السَّرَّاءُ مَعْ فَرَجٍ قَرِيبِ
وَلَا
تَيْأَسْ إِذَا مَا نِلْتَ خَطْبًا
فَكَمْ فِي الْخَطْبِ مِنْ لُطْفٍ عَجِيبِ
ولم
يزالوا سائرين إلى أن وصلا إلى ذلك الجبل ووقفا تحته، فنظر حسن فوق ذلك الجبل
قصرًا، فقال للمجوسي: ما هذا القصر؟ فقال المجوسي: هذا مسكن الجان والغيلان
والشياطين. ثم إن المجوسي نزل من فوق نجيبه وأمره بالنزول، وقام إليه وقبَّلَ رأسه
وقال: لا تؤاخذني بما فعلتُه معك، فأنا أحفظك عند طلوعك القصر، وينبغي أنك لا
تخونني في شيء من الذي تحضره منه، وأكون أنا وأنت فيه سواء. فقال له: السمع
والطاعة. ثم إن الأعجمي فتح جرابًا وأخرَجَ منه طاحونًا وأخرَجَ منه أيضًا مقدارًا
من القمح وطحنه على تلك الطاحون، وعجن منه ثلاثة أقراص، وأوقَدَ النار وخبز
الأقراص، ثم أخرَجَ الطبل النحاس والزخمة المنقوشة ودقَّ الطبل، فحضرت النجائب،
فاختار منها نجيبًا وذبحه وسلخ جلده، ثم التفت إلى حسن وقال له: اسمع يا ولدي يا
حسن ما أوصيك به. قال: نعم. قال: ادخل في هذا الجلد وأخيط عليك وأطرحك على الأرض،
فتأتي طيور الرخم فتحملك وتطير بك إلى أعلى الجبل، وخذ هذه السكين معك، فإذا
فرغَتْ من طيرانها وعرفتَ أنها حطَّتْك فوقه، فشُقَّ بها الجلد واخرجْ فإن الطير
يخاف منك ويطير عنك، وطل لي من فوق الجبل وكلِّمني حتى أخبرك بالذي تعمله. ثم
هيَّأَ له الثلاثة أقراص وركوة فيها ماء وحطَّها معه في الجلد، وبعد ذلك خيَّطه عليه،
ثم بَعُد عنه، فجاء طير الرخم حمله وطار به إلى أعلى الجبل ووضعه هناك، فلما عرف
حسن أن الرخم وضعه على الجبل، شقَّ الجلد وخرج منه وكلَّمَ المجوسي، فلما سمع
المجوسي كلامه فَرِح ورقص من شدة الفرح وقال له: امضِ إلى ورائك ومهما رأيتَه
فأعلمني به. فمضى حسن فرأى رممًا كثيرة وعندهم حطب كثير، فأخبره بجميع ما رآه،
فقال له: هذا هو المقصود والمطلوب، فخذ من الحطب ستَّ حزم وارْمِها لي، فإنها هي
التي نعملها كيمياء. فرمى له الست حزم، فلما رأى المجوسي تلك الحزم قد وصلت عنده
قال لحسن: يا علق، قد انقضت الحاجة التي أردتُها منك، وإنْ شئتَ فدُمْ على هذا
الجبل أو أَلْقِ نفسك على الأرض حتى تهلك. ثم مضى المجوسي، فقال حسن: لا حول ولا
قوة إلا بالله العلي العظيم، قد مكر بي هذا الكلب. ثم قعد ينوح على نفسه وأنشَدَ
هذه الأبيات:
إِذَا
أَرَادَ اللهُ أَمْرًا بِامْرِئٍ
وَكَانَ ذَا عَقْلٍ وَسَمْعٍ وَبَصَرْ
أَصَمَّ
أُذْنَيْهِ وَأَعْمَى قَلْبَهُ
وَسَلَّ مِنْهُ عَقْلَهُ سَلَّ الشَّعَرْ
حَتَّى
إِذَا أَنْفَذَ فِيهِ حُكْمَهُ
رَدَّ إِلَيْهِ عَقْلَهُ لِيَعْتَبِرْ
فَلَا
تَقُلْ فِيمَا جَرَى كَيْفَ جَرَى
فَكُلُّ شَيْءٍ بِقَضَاءٍ وَقَدَرْ
وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 784﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن المجوسي لما طلع حسن الجبل ورمى له حاجته من فوقه
وبَّخَه، ثم تركه وسار، فقال حسن: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، قد مكر
بي هذا الكلب الملعون. ثم إنه وقف على قدميه والتفَتَ يمينًا وشمالًا، ثم مضى فوق
الجبل وأيقَنَ في نفسه بالموت، وصار يتمشى حتى وصل إلى الطرف الآخَر من الجبل،
فرأى بجنب الجبل بحرًا أزرق متلاطِمَ الأمواج قد أزبَدَ، وكل موجة منه كالجبل
العظيم؛ فقعد وقرأ ما تيسَّرَ من القرآن، وسأل الله تعالى أن يهوِّن عليه، إما
بالموت وإما بالخلاص من هذه الشدائد، ثم صلى على نفسه صلاةَ الجنازة ورمى نفسه في
البحر، فحملته الأمواج على سلامة الله تعالى إلى أن طلع من البحر سالمًا بقدرة
الله تعالى؛ ففرح وحمد الله تعالى وشكره، ثم قام يمشي ويفتِّش على شيء يأكله،
فبينما هو كذلك وإذا هو بالمكان الذي كان فيه هو وبهرام المجوسي، ثم مشى ساعة فإذا
هو بقصرٍ عظيم شاهق في الهواء فدخله، فإذا هو القصر الذي كان سأل عنه المجوسيَّ
وقال له: إن هذا القصر فيه عدوى. فقال حسن: والله لا بد من دخولي هذا القصر، لعل
الفرج يحصل لي فيه. فلما جاءه رأى بابه مفتوحًا، فدخل من الباب فرأى مصطبة في
الدهليز، وعلى المصطبة بنتان كالقمرين بين أيديهما رقعة شطرنج، وهما يلعبان، فرفعت
واحدة منهما رأسها إليه وصاحت من فرحتها وقالت: والله إن هذا آدمي، وأظنه الذي جاء
به بهرام المجوسي في هذه السنة. فلما سمع حسن كلامها، رمى نفسه بين أيديهما وبكى
بكاءً شديدًا وقال: يا سيداتي، هو أنا ذلك المسكين. فقالت البنت الصغرى لأختها
الكبرى: اشهدي عليَّ يا أختي أن هذا أخي في عهد الله وميثاقه، وأني أموت لموته
وأحيا لحياته، وأفرح لفرحه وأحزن لحزنه. ثم قامت له وعانَقَتْه وقبَّلَتْه، وأخذته
من يده ودخلت به القصر وأختها معها وقلَّعَتْه ما كان عليه من الثياب الرثَّة،
وأتَتْ له ببدلة من ملابس الملوك وألبَسَتْه إياها وهيَّأت له الطعام من سائر
الألوان وقدَّمَتْه له، وقعدت هي وأختها وأكلتا معه وقالتا له: حدِّثنا بحديثك مع
الكلب الفاجر الساحر من حين وقعت في يده إلى حين خَلُصْتَ منه، ونحن نحدِّثك بما
جرى لنا معه من أول الأمر إلى آخره، حتى تصير على حذرٍ إذا رأيتَه.
فلما
سمع حسن منهما هذا الكلام، ورأى الإقبالَ منهما عليه؛ اطمأنَّتْ نفسه، ورجع له
عقله وصار يحدِّثهما بما جرى له معه من الأول إلى الآخِر، فقالتا له: هل سألتَه عن
هذا القصر؟ قال: نعم سألتُه فقال لي: لا أحب سيرتَه؛ فإن هذا القصر للشياطين
والأبالسة. فغضبَتِ البنتان غضبًا شديدًا وقالتا: هل جعَلَنا هذا الكافرُ شياطينَ
وأبالسة؟ فقال لهما حسن: نعم. فقالت الصغيرة أخت حسن: والله لأقتلَنَّه أقبح
قِتْلة وأعدِمَنَّه نسيمَ الدنيا. فقال حسن: وكيف تصلين إليه وتقتلينه؟ قالت: هو
في بستانٍ يُسمَّى المشيد، ولا بد لي من قتله قريبًا. فقالت لها أختها: صدق حسن
وكلُّ ما قاله عن هذا الكلب صحيح، ولكنْ حدِّثِيه بحديثنا كله حتى يبقى في ذهنه.
فقالت البنت الصغيرة: اعلم يا أخي أننا من بنات الملوك، وأبونا ملك من ملوك الجان
العِظَام الشأن، وله جنود وأعوان وخَدَم من المَرَدة، ورزقه الله تعالى بسبع بنات
من امرأة واحدة، ولحقه من الحماقة والغيرة وعزَّة النفس ما لا مزيدَ عليه، حتى إنه
لم يزوِّجنا لأحدٍ من الرجال، ثم إنه أحضر وزراءه وأصحابه وقال لهم: هل أنتم
تعرفون لي مكانًا لا يطرقه طارق لا من الإنس ولا من الجن، ويكون كثيرَ الأشجار
والأثمار والأنهار؟ فقالوا له: ما الذي تصنع به يا ملك الزمان؟ فقال: أريد أن أجعل
فيه بناتي السبعة. فقالوا له: يا ملك، يصلح لهن قصرُ جبلِ السحاب الذي كان أنشأه
عفريت من الجن المَرَدة الذين تمردوا على عهد سليمان عليه السلام، فلما هلك لم
يسكنه أحد بعده لا من الجن ولا من الإنس؛ لأنه منقطع لا يصل إليه أحد، وحوله
الأشجار والأثمار والأنهار، وحوله ماء جارٍ أحلى من الشهد وأبرد من الثلج، ما شرب
منه أحد به برص أو جذام أو غيرهما إلا عُوفِي من وقته وساعته. فلما سمع والدنا
بذلك، أرسلنا إلى هذا القصر، وأرسل معنا العساكر والجنود، وجمع لنا ما نحتاج فيه
إليه، وكان إذا أراد الركوب يضرب الطبل، فيحضر له جميع الجنود، فيختار ما يركبه
منهم وينصرف الباقون، فإذا أراد والدنا أننا نحضر عنده، أمر أتباعه من السَّحَرة
بإحضارنا، فيأتوننا ويأخذوننا ويوصلوننا بين يدَيْه حتى يأتنس بنا ونقضي أغراضنا
منه، ثم يرجعوننا إلى مكاننا، ونحن لنا خمس أَخَوات ذهبْنَ يتصيَّدْنَ في هذه
الفَلَاة، فإن فيها من الوحوش ما لا يُعَد ولا يُحصَى، وكل اثنتين منا عليهما نوبة
في القعود لتسوية الطعام، فجاءت النوبة علينا أنا وأختي هذه، فقعدنا لنسوِّي لهنَّ
الطعام، وكنا نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا شخصًا آدميًّا يؤانسنا، فالحمد
لله الذي أوصَلَك إلينا، فطِبْ نفسًا وقرَّ عينًا، ما عليك بأس.
ففرح
حسن وقال: الحمد لله الذي هدانا إلى طريق الخلاص وحنَّنَ علينا القلوب. ثم قامت
وأخذته من يده وأدخَلَتْه مقصورةً وأخرجت منها من القماش والفرش ما لا يقدر عليه
واحد من المخلوقات، ثم بعد ساعة حضر أَخَواتهما من الصيد والقنص، فأخبرتاهن بحديثِ
حسن، ففرحْنَ به ودخلْنَ عليه في المقصورة وسلَّمْنَ عليه وهنَّيْنَه بالسلامة. ثم
أقام عندهن في أطيب عيش وأهنى سرور، وصار يخرج معهن إلى الصيد والقنص ويذبح الصيد
واستأنَسَ حسن بهن، ولم يزل معهن على هذه الحالة حتى صحَّ جسده وبرئ من الذي كان
به، وقوي جسمه، وغلظ وسمن بسبب ما هو فيه من الكرامة، وقعوده عندهن في ذلك الموضع،
وهو يتفرج ويتفسَّح معهن في ذلك القصر المزخرف وفي جميع البساتين والأزهار، وهنَّ
يأخذْنَ بخاطره ويؤانِسْنَه بالكلام، وقد زالت عنه الوحشة وزادت البنات به فرحًا
وسرورًا، وكذلك هو فرِحَ بهن أكثر ممَّا فرحْنَ به. ثم إن أخته الصغيرة حدَّثَتْ
أَخَواتها بحديث بهرام المجوسي، وأنه جعلهن شياطين وأبالسة وغيلانًا، فحلفْنَ لها
أنه لا بد من قتله. فلما كان العام الثاني، حضر الملعون ومعه شاب مليح مسلم كأنه
القمر، وهو مقيد بقيد ومعذَّب غاية العذاب، فنزل به تحت القصر الذي دخل فيه حسن
على البنات، وكان حسن جالسًا على النهر تحت الأشجار، فلما رآه حسن خفق قلبه
وتغيَّرَ لونه وضرب بكفَّيْه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 785﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن حسنًا الصائغ لما رأى المجوسي، خفق قلبه وتغيَّرَ
لونه وضرب بكفَّيْه، وقال للبنات: بالله يا أَخَواتي، أعِنَّني على قتل هذا
الملعون، فها هو قد حضر في قبضتكن ومعه شاب مسلم أسير من أولاد الناس الأكابر، وهو
يعذِّبه بأنواع العذاب الأليم، وقصدي أن أقتله وأشفي فؤادي منه، وأُرِيح هذا الشاب
من عذابه وأربح الثواب، ويرجع الشاب المسلم إلى وطنه، فيجتمع شمله مع إخوانه وأهله
وأحبابه، ويكون ذلك صدقةً عنكن وتفزْنَ بالأجر من الله تعالى. فقال له البنات:
السمع والطاعة لله ولك يا حسن. ثم إنهن ضربن لهن لثامات ولبسن آلات الحرب،
وتقلَّدْنَ السيوف، وأحضرْنَ لحسن جوادًا من أحسن الخيل، وهيَّأْنَه بعُدَّةٍ
كاملة وسلَّحْنَه سلاحًا مليحًا، ثم ساروا جميعًا؛ فوجدوا المجوسي قد ذبح جملًا
وسلخه وهو يعاقب الشاب ويقول له: ادخل هذا الجلد. فجاء حسن من خلفه والمجوسي ما
عنده علم به، ثم صاح عليه فأذهَلَه، ثم تقدَّمَ إليه وقال له: أمسِكْ يدك يا
ملعون، يا عدو الله وعدو المسلمين، يا كلب يا غدَّار، يا عابد النار يا سالك طريق
الفجَّار، أتعبد النار والنور وتقسم بالظل والحرور؟! فالتفَتَ المجوسي فرأى
حَسَنًا، فقال له: يا ولدي، كيف تخلصتَ؟ ومَن أنزَلَك إلى الأرض؟ فقال له حسن:
خلَّصَني الله الذي جعل قبض روحك على يد أعدائك، كما عذَّبْتَني طولَ الطريق يا
كافر يا زنديق، قد وقعت في الضيق، وزغت عن الطريق، فلا أم تنفعك ولا أخ ولا صديق
ولا عهد وثيق. إنك قلت: مَن يخون العيش والملح ينتقم الله منه. وأنت خنت الخبز
والملح، فأوقَعَك الله في قبضتي وصار خلاصك مني بعيدًا. فقال له المجوسي: والله يا
ولدي أنت أعز من روحي ومن نور عيني. فتقدَّمَ إليه حسن وعجل عليه بضربة على عاتقه،
فخرج السيف يلمع من علائقه، وعجَّلَ الله بروحه إلى النار وبئس القرار.
ثم
إن حسنًا أخذ الجراب الذي كان معه وفتحه، وأخرج الطبل منه والزخمة وضرب بها على
الطبل، فجاءت النجائب مثل البرق إلى حسن، فحلَّ الشاب من وثاقه وأركَبَه نجيبًا،
وحمل له الباقي زادًا وماءً وقال له: توجَّهْ إلى مقصدك. فتوجَّهَ بعد أن خلَّصَه
الله من الضيق على يد حسن. ثم إن البنات لما رأين حسنًا ضرب رقبة المجوسي، فرحْنَ
به فرحًا شديدًا، ودُرْنَ حوله وتعجَّبْنَ من شجاعته، ومن شدة بأسه، وشكرنه على ما
فعل وهنَّأْنَه بالسلامة، وقلن له: يا حسن، لقد فعلتَ فعلًا أشفيتَ به الغليل،
وأرضيتَ به الملك الجليل. وسار هو والبنات إلى القصر، وأقام معهن وهو في أكل وشرب
ولعب وضحك، وطابت له الإقامة عندهن ونسي أمه.
فبينما
هو معهن في ألذ عيش إذ قد طلعت عليهم غبرة عظيمة من صدر البرية أظلم لها الجو،
فقالت له البنات: قُمْ يا حسن وادخلْ مقصورتك واختفِ وإنْ شئتَ فادخلِ البستانَ
وتوارى بين الشجر والكروم فما عليك باس. ثم إنه قام ودخل واختفى في مقصورته
وأغلَقَها عليه من داخل القصر، وبعد ساعة انكشف الغبار وبان من تحته عسكر جرَّار
مثل البحر العجاج، مُقبِلًا من عند الملك أبي البنات، فلما وصل العسكر أنزلْنَهم
أحسن منزل، وضيَّفْنَهم ثلاثة أيام، وبعد ذلك سألتهم البنات عن حالهم وعن خبرهم،
فقالوا: إننا جئنا من عند الملك في طلبكن. فقلن لهم: وما يريد الملك منا؟ قال: إن
بعض الملوك يعمل فرحًا، ويريد أن تحضرن ذلك الفرح لتتفرجن. فقالت لهم البنات: وكم
نغيب عن موضعنا؟ فقالوا: مدة الرواح والمجيء وإقامة شهرين. فقامت البنات ودخلْنَ
القصر على حسن وأعلمْنَه بالحال، وقلن له: إن هذا الموضع موضعك، وبيتنا بيتك،
فطِبْ نفسًا وقرَّ عينًا، ولا تخف ولا تحزن، فإنه لا أحدَ يقدر أن يجيء إلينا في
هذا المكان، فكُنْ مطمئِنَّ القلب منشرح الخاطر حتى نحضر إليك، وهذه مفاتيح
مقاصيرنا معك، ولكن يا أخانا نسألك بحق الأخوة أنك لا تفتح هذا الباب، فإنه ليس لك
بفتحه حاجة. ثم إنهن ودَّعْنَه وانصرفْنَ صحبة العساكر، وقعد حسن في القصر وحده،
ثم إنه ضاق صدره وفرغ صبره وزاد كربه، واستوحش وحزن لفراقهن حزنًا عظيمًا، وضاق
عليه القصر مع اتساعه، فلما رأى نفسه وحيدًا متوحشًا تذكَّرهن وأنشَدَ هذه الأبيات:
ضَاقَ
الْفَضَاءُ جَمِيعُهُ فِي نَاظِرِي
وَتَكَدَّرَتْ مِنْهُ جَمِيعُ خَوَاطِرِي
مُذْ
سَارَتِ الْأَحْبَابُ صَفْوِي بَعْدَهُمْ
كَدَرٌ وَدَمْعِي فَائِضٌ
بِمَحَاجِرِي
وَالنَّوْمُ
فَارَقَ مُقْلَتِي لِفِرَاقِهِمْ
وَتَكَدَّرَتْ مِنِّي جَمِيعُ سَرَائِرِي
أَتَرَى
الزَّمَانَ يَعُودُ يَجْمَعُ شَمْلَنَا
وَيَعُودُ لِي إِلْفِي بِهِمْ وَمُسَامِرِي
وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 786﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن حسنًا بعد ذهاب البنات من عنده، قعد في القصر وحده؛
فضاق صدره من أجل فراقهن، ثم إنه صار يذهب وحده إلى الصيد في البراري، فيأتي به
ويذبحه ويأكل وحده، وزادت به الوحشة والقلق من انفراده، فقام ودار في القصر
وفتَّشَ جميع جهاته، وفتح مقاصير البنات فرأى فيها من الأموال ما يُذهِب عقولَ
الناظرين، وهو لا يلتذُّ بشيءٍ من ذلك بسبب غيبتهن، والتهبت في قلبه النار من أجل
الباب الذي أوصَتْه أخته بعدم فتحه، وأمرته أنه لا يقربه ولا يفتحه أبدًا، فقال في
نفسه: ما أوصتني أختي بعدم فتح هذا الباب إلا لكونه فيه شيء تريد ألَّا يطَّلِع
عليه أحد، والله إني لأقوم وأفتحه وأنظر ما فيه ولو كان فيه المَنِيَّة. فأخذ
المفتاح وفتحه، فلم يَرَ فيه شيئًا من المال، ولكنه رأى سُلَّمًا في صدر المكان
معقودًا بحجر من جزع يماني، فرَقِي على ذلك السلَّم، وصعد إلى أن وصل إلى سطح
القصر، فقال في نفسه: هذا الذي منعَتْني عنه! ودار فوقه، فأشرَفَ على مكان تحت
القصر مملوء بالمزارع والبساتين والأشجار والأزهار والوحوش والطيور، وهي تغرِّد
وتسبِّح الله الواحد القهار، وصار يتأمَّل في تلك المنتزهات، فرأى بحرًا عجاجًا
متلاطمًا بالأمواج. ولم يزل دائرًا حول ذلك القصر يمينًا وشمالًا حتى انتهى إلى
قصر على أربعة أعمدة، فرأى فيه مقعدًا منقوشًا بسائر الأحجار كالياقوت والزمرد
والبلخش وأصناف الجواهر، وهو مبني طوبة من ذهب، وطوبة من فضة، وطوبة من ياقوت،
وطوبة من زمرد أخضر، وفي وسط ذلك القصر بحيرة ملآنة بالماء، وعليها مكعب من الصندل
وعود الند وهو مشبك بقضبان الذهب الأحمر والزمرد الأخضر، ومزركش بأنواع الجواهر
واللؤلؤ التي كل حبة منه قدر بيضة الحمامة، وعلى جانب البحيرة تخت من العود الند
مرصَّع بالدر والجوهر، مشبك بالذهب الأحمر، وفيه من سائر الفصوص الملونة والمعادن
النفيسة، وهي في الترصيع يقابل بعضها بعضًا، وحوله الأطيار تغرِّد بلغات مختلفة،
وتسبِّح الله تعالى بحسن أصواتها واختلاف لغاتها، وهذا القصر لم يملك مثله كسرى
ولا قيصر؛ فاندهش حسن لما رأى ذلك وجلس فيه ينظر ما حوله.
فبينما
هو جالس فيه وهو يتعجب من حسن صنعته ومن بهجة ما حواه من الدر والياقوت، وما فيه
من سائر الصناعات، ومتعجب أيضًا من تلك المزارع والأطيار التي تسبِّح اللهَ الواحد
القهَّار، ويتأمَّل في آثار من قدرة الله تعالى على عمارة هذا القصر، فإنه عظيم
الشأن، وإذا هو بعشرة طيور قد أقبلوا من جهة البر وهم يقصدون ذلك القصر وتلك
البحيرة، فعرف حسن أنهم يقصدون البحيرة ليشربوا من مائها، فاستتر منهم خوفًا أن
ينظروه فيفروا منه. ثم إنهم نزلوا على شجرة عظيمة مليحة وداروا حولها، ونظر منهم
طيرًا عظيمًا مليحًا وهو أحسن ما فيهم، والبقية محتاطون به وهم في خدمته، فتعجَّبَ
حسن من ذلك وصار ذلك الطير ينقر التسعة بمنقاره ويتعاظم عليهم وهم يهربون منه،
وحسن واقف يتفرج عليهم من بعيد. ثم إنهم جلسوا على السرير وشقَّ كلُّ طير منهم
جلده بمخالبه وخرج منه، فإذا هو ثوب من ريش، وقد خرج من الثياب عشر بنات أبكار
يفضحن بحُسْنهن بهجةَ الأقمار، فلما تعرَّيْنَ من ثيابهن نزلْنَ كلهن في البحيرة
واغتسلْنَ، وصرْنَ يلعبْنَ ويتمازحْنَ، وصارت الطيرة الفائقة عليهن ترميهن وتغطسهن
فهربْنَ منها، ولم يقدرْنَ أن يمددن أيديهن إليها، فلما نظرها حسن غاب عن صوابه
وسُلِب عقله، وعرف أن البنات ما نهَيْنَه عن فتح هذا الباب إلا لهذا السبب، فشُغِف
حسن بها حبًّا لما رأى من حُسْنها وجمالها وقَدِّها واعتدالها، وهي في لعب ومزاح
ومراشَّة بالماء، وحسن واقف ينظر إليهن ويتحسَّر؛ حيث لم يكن معهن، وقد حار عقله
من حسن الجارية الصغيرة، وتعلَّقَ قلبه بشَرَك محبتها ووقع في شَرَك هواها، والعين
ناظرة وفي القلب نار محرقة، والنفسُ أمَّارةٌ بالسوء، فبكى حسن شوقًا لحُسْنها
وجمالها، وانطلقت في قلبه النيران من أجلها، وزاد به لهيب لا يُطفَأ شرره، وغرام
لا يخفى أثره. ثم بعد ذلك طلعت البنات من تلك البحيرة، وحسن واقف ينظر إليهن
وهُنَّ لا ينظرْنَه، وهو يتعجب من حُسْنهن وجمالهن ولطف معانيهن وظرف شمائلهن،
فحانَتْ منه التفاتة فنظر حسن إلى الجارية الكبيرة وهي عريانة، فبانَ له ما بين
فخذَيْها، وهو قبة عظيمة مدورة بأربعة أركان كأنه طاسة من فضة أو من بلور، يذكر قول
الشاعر:
وَلَمَّا
كَشَفْتُ الثَّوْبَ عَنْ سَطْحِ كُسِّهَا
وَجَدْتُ بِهِ ضِيقًا كَخَلْقِي وَأَرْزَاقِي
فَأَوْلَجْتُ
فِيهَا نِصْفَهُ فَتَنَهَّدَتْ
فَقُلْتُ: لِمَ هَذَا؟ فَقَالَتْ: عَلَى الْبَاقِي
فلما
خرجْنَ من الماء لبسَتْ كلُّ واحدة ثيابَها وحليها، وأما الجارية الكبيرة فإنها
لبست حلة خضراء، ففاقت بجمالها ملاح الآفاق، وزهت ببهجة وجهها على بدور الإشراق،
وفاقت على الغصون بحُسْن التثنِّي، وأذهلَتِ العقولَ بوهم التجنِّي، وهي كما قال
الشاعر:
وَجَارِيَة
فِي نَشَاطٍ بَدَتْ تَرَى الشَّمْسَ
مِنْ خَدِّهَا مُسْتَعَارَهْ
أَتَتْ
فِي قَمِيصٍ لَهَا أَخْضَرَ
كَخُضْرِ الْغُصُونِ عَلَى جِلَّنَارَهْ
فَقُلْتُ
لَهَا: مَا اسْمُ هَذَا اللِّبَاسِ؟
فَقَالَتْ كَلَامًا مَلِيحَ الْعِبَارَهْ
شَقَقْنَا
مَرَائِرَ أَحْبَابِنَا فَفَاحَ
نَسِيمٌ يَشُقُّ الْمَرَارَهْ
وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 787﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن حسنًا لما رأى البنات قد خرجن من البحيرة، والكبيرة
فيهن أخذت عقله بحُسْنها وجمالها، أنشد تلك الأبيات. ثم إن البنات لما لبسن ثيابهن
جلسْنَ يتحدثن ويتضاحكن وحسن واقف ينظر إليهن وهو غريق في بحر عشقه وتائه في فكره،
وهو يقول في نفسه: والله ما قالت لي أختي لا تفتحْ هذا الباب إلا من شأن هؤلاء
البنات، وخوفًا من أن أتعلق بإحداهن. ثم إنه صار ينظر في محاسن هذه الجارية وكانت
أجمل ما خلق الله في وقتها، وقد فاقت بحُسْنها جميعَ البشر، لها فم كأنه خاتم
سليمان، وشعر أسود من الليل الصدود على الكئيب الولهان، وغرَّة كهلال عيد رمضان،
وعيون تحاكي عيون الغزلان، وأنف أقنى كثير اللمعان، وخدان كأنهما شقائق النعمان،
وشفتان كأنهما مرجان، وأسنان كأنهما لؤلؤ منظوم في قلائد العقيان، وعُنُق كسبيكة
فضة فوق قامة كغُصْن البان، وبطن طيات وأركان يبتهل فيه العاشق الولهان، وسُرَّة
تَسَع أوقية مِسْك طيب الأردان، وأفخاذ غِلَاظ سِمَان كأنها عواميد رخام، أو
مخدتين مَحْشوَّتين من ريش النعام، وبينهما شيء كأنه أعظم العقبان، وأرنب مقطوش
الأذان وله سطوح وأركان، وهذه الصبية فاقت بحُسْنها وقَدِّها على غصون البان، وعلى
قضيب الخيزران، وهي كما قال الشاعر الولهان:
وَخَوْدَاءَ
أَضْحَى رِيقُهَا حَاكِيَ الشَّهْدِ
لَهَا مُقْلَةٌ أَمْضَى مِنَ الصَّارِمِ الْهِنْدِي
وَتُخْجِلُ
غُصْنَ الْبَانِ مِنْ حَرَكَاتِهَا
إِذَا ابْتَسَمَتْ فَالْبَرْقُ مِنْ ثَغْرِهَا تُبْدِي
وَقَايَسْتُ
بِالْوَرْدِ الْمُصَفَّفِ خَدَّهَا
فَصَدَّتْ وَقَالَتْ مَنْ يُقَايِسُ بِالْوَرْدِ
وَشَبَّهَ
بِالرُّمَّانِ نَهْدِي فَمَا اسْتَحَى
وَمِنْ أَيْنَ لِلرُّمَّانِ غُصْنٌ حَوَى نَهْدِي
وَحَقِّ
جَمَالِي وَالْعُيُونِ وُمُهْجَتِي
وَجَنَّةِ وَصْلِي وَالتَّنَهُّدِ فِي الصَّدْرِ
لَئِنْ
عَادَ لِلتَّشْبِيهِ حَقًّا حَرَمْتُهُ
لَذِيذَ وِصَالِي ثُمَّ أَقْلِيهِ بِالصَّدِّ
يَقُولُونَ
فِي الْبُسْتَانِ وَرْدٌ مُصَفَّفٌ
وَمَا وَرْدُهُ خَدِّي وَلَا غُصْنُهُ قَدِّي
إِذَا
كَانَ مِثْلِي فِي الْبَسَاتِينِ عِنْدَهُ
فَمَاذَا الَّذِي قَدْ جَاءَ يَطْلُبُهُ عِنْدِي
ثم
إن البنات لم يزلن في ضحك ولعب وهو واقف على قدمَيْه ينظر إليهن، ونسي الأكل
والشرب إلى أن قَرُبَ العصر، فقالت الصبية لصواحبها: يا بنات الملوك، إن الوقت
أمسى علينا وبلادنا بعيدة، ونحن قد سَئِمْنا المقام هنا، فقمْنَ لنروح محلنا.
فقامت كل واحدة منهن ولبست ثوبها الريش، فلما اندرجْنَ في ثيابهن صرْنَ طيورًا كما
كنَّ أولًا، وطرْنَ كلهن سوية، وتلك الصبية في وسطهن، فيئس حسن منهن وأراد أن يقوم
وينزل، فلم يقدر أن يقوم، وصار دمعه يجري على خده، ثم اشتدَّ به الغرام فأنشد هذه
الأبيات:
حُرِمْتُ
وَفَاءَ الْعَهْدِ إِنْ كُنْتُ بَعْدَكُمْ
عَرَفْتُ لَذِيذَ النَّوْمِ كَيْفَ يَكُونُ
وَلَا
أُغْمِضَتْ عَيْنَايَ بَعْدَ فِرَاقِكُمْ
وَلَا لَذَّ لِي بَعْدَ الرَّحِيلِ سُكُونُ
يُخَيَّلُ
لِي فِي النَّوْمِ أَنِّي أَرَاكُمُ
فَيَا لَيْتَ أَحْلَامَ الْمَنَامِ يَقِينُ
وَإِنِّي
لَأَهْوَى النَّوْمَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ
لَعَلَّ لِقَاكُمْ فِي الْمَنَامِ يَكُونُ
ثم
إن حَسَنًا مشى قليلًا وهو لا يهتدي إلى الطريق حتى نزل إلى أسفل القصر، ولم يزل
يزحف إلى أن وصل إلى باب المخدع، فدخل وأغلَقَه عليه واضطجع عليلًا لا يأكل ولا
يشرب، وهو غريق في بحر أفكاره، فبكى وناح نفسه إلى الصباح. فلما أصبح الصباح أنشد
هذه الأبيات:
فَطَارَتْ
طُيُورٌ بِالْعِشَاءِ وَصَاحُوا
وَمَنْ مَاتَ وَجْدًا مَا عَلَيْهِ جُنَاحُ
أُسِرُّ
حَدِيثَ الْعِشْقِ مَا أَمْكَنَ الْبَقَا
وَإِنْ غَلَبَ الشَّوْقُ الشَّدِيدُ يُبَاحُ
سَرَى
طَيْفُ مَنْ يَحْكِي بِطَلْعَتِهِ الضُّحَى
وَلَيْسَ لِلَيْلِي فِي الْغَرَامِ صَبَاحُ
أَنُوحُ
عَلَيْهِمْ وَالْخَلِيُّونَ نُوَّمٌ
وَقَدْ لَعِبَتْ بِي فِي الْغَرَامِ رِيَاحُ
سَمَحْتُ
بِدَمْعِي ثُمَّ مَالِي وَمُهْجَتِي
وَعَقْلِي وَرُوحِي وَالسَّمَاحُ رَبَاحُ
وَأَقْبَحُ
أَنْوَاعِ الْمَكَارِهِ وَالْأَذَى
إِذَا كَانَ مِنْ عِنْدِ الْمِلَاحِ كِفَاحُ
يَقُولُونَ
وَصْلُ الْغَانِيَاتِ مُحَرَّمٌ
وَسَفْكُ دِمَاءِ الْعَاشِقِينَ مُبَاحُ
وَمَا
حِيلَةُ الْمُضْنَى سِوَى بَذْلِ نَفْسِهِ
يَجُودُ بِهَا هَلْ فِي الْغَرَامِ مُزَاحُ
أَصِيحُ
اشْتِيَاقًا لِلْحَبِيبِ وَلَوْعَةً
وَغَايَةُ جَهْدِ الْمُسْتَهَامِ نُوَاحُ
فلما
طلعت الشمس فتح باب المخدع، وطلع إلى المكان الذي كان فيه أولًا، وجلس في مكان
قبال المنظرة إلى أن أقبَلَ الليل، فلم يحضر أحد من الطيور وهو جالس في انتظارهم،
فبكى بكاءً شديدًا حتى غُشِي عليه، ووقع على الأرض مطروحًا، فلما أفاق من غشيته
زحف ونزل إلى أسفل القصر، وقد أقبَلَ الليل وضاقت عليه الدنيا بأسرها، وما زال
يبكي وينوح على نفسه طول ليله إلى أن أتى الصباح، وطلعت الشمس على الروابي
والبطاح، وهو لا يأكل ولا يشرب ولا ينام، ولا يقر له قرار، وفي نهاره حيران، وفي
ليله سهران مدهوش سكران، من الفكر الذي هو فيه ومن شدة الغرام، وأنشَدَ قولَ
الشاعر الولهان:
أَمُخْجِلَةَ
الشَّمْسِ الْمُنِيرَةِ فِي الضُّحَى
وَفَاضِحَةَ الْأَغْصَانِ مِنْ حَيْثُ لَا تَدْرِي
تُرَى
تَسْمَحُ الْأَيَّامُ مِنْكَ بِعَوْدَةٍ
وَتَخْمُدُ نِيرَانٌ تُوَقَّدُ
فِي صَدْرِي
وَيَجْمَعُنَا
عِنْدَ اللِّقَاءِ تَعَانُقٌ
وَخَدُّكِ فِي خَدِّي وَنَحْرُكِ فِي نَحْرِي
فَمَنْ
قَالَ إِنَّ الْحُبَّ فِيهِ حَلَاوَةٌ
فَفِي الْحُبِّ أَيَّامٌ أَمَرُّ مِنَ الصَّبْرِ
وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 788﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن حسنًا الصائغ لما زاد عشقه أنشَدَ الأشعارَ وهو في
القصر وحده، ولم يجد مَن يؤانسه، فبينما هو في شدة ولهه، وإذا هو بغبرة قد طلعت من
البر، فقام يجري إلى أسفل واختفى، وعرف أن أصحاب القصر قد أتوا، فلم يكن غير ساعة
إلا والعسكر قد نزلوا وداروا بالقصر، ونزلت السبع بنات ودخلْنَ القصر، فنزعْنَ
سلاحهن وما كان عليهن من آلات الحرب. وأما البنت الصغيرة أخته فإنها لم تنزع ما
عليها من آلة الحرب، بل جاءت إلى مقصورة حسن فلم تَرَه، ففتَّشَتْ عليه فوجدته في مخدع
من المخادع وهو ضعيف نحيل، قد كَلَّ جسمه ورقَّ عظمه واصفرَّ لونه، وغابت عيناه في
وجهه من قلة الأكل والشرب، ومن كثرة الدموع بسبب تعلُّقه بالصَّبِية وعشقه لها،
فلما رأته أخته الجنية على هذه الحالة اندهشَتْ وغاب عنها عقلها، فسألته عن حاله
وما هو فيه وأي شيء أصابه، وقالت له: أخبِرْني يا أخي حتى أتحيَّل لك في كشف ضرك،
وأكون فداءك. فبكى بكاءً شديدًا، وأنشد يقول:
مُحِبٌّ
إِذَا مَا بَانَ عَنْهُ حَبِيبُهُ
فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا الْكَآبَةُ وَالضَّرُّ
فَبَاطِنُهُ
سَقْمٌ وَظَاهِرُهُ جَوًى وَأَوَّلُهُ
ذِكْرٌ وَآخِرُهُ فِكْرُ
فلما
سمعت أخته منه ذلك تعجَّبَتْ من فصاحته، ومن بلاغة قوله، ومن حُسْن لفظه،
ومجاوَبَته لها بالشعر، فقالت له: يا أخي، متى وقعتَ في هذا الأمر الذي أنت فيه؟
ومتى حصل لك؟ فإني أراك تتكلم بالأشعار وتُرخِي الدموعَ الغِزَار، فبالله عليك يا
أخي وحرمة الحب الذي بيننا أن تخبرني بحالك، وتُطلِعني على سرِّك، ولا تُخْفِ مني
شيئًا ممَّا جرى لك في غيابنا، فإنه قد ضاق صدري، وتكدَّر عيشي بسببك. فتنهَّدَ
وأرخى الدموع مثل المطر، وقال: أخاف يا أختي إذا أخبرتُكِ أنك لم تساعديني على
مطلوبي، وتتركينني أموت كَمَدًا بغُصَّتِي. فقالت: لا والله يا أخي ما أتخلَّى
عنك، ولو كانت روحي تروح. فحدَّثَها بما جرى له، وما عايَنَه حين فتح الباب،
وأخبَرَها أن سبب الضرر والبلاء عشقُ الصَّبِية التي رآها ومحبته لها، وأن له عشرة
أيام لم يستطعم بطعام ولا شراب. ثم إنه بكى بكاءً شديدًا وأنشَدَ هذين البيتين:
رُدُّوا
الْفُؤَادَ وَالْهَنَاءَ إِلَى الْحَشَى
وَالْمُقْلَتَيْنِ إِلَى الْكَرَى ثُمَّ اهْجُرُوا
أَزَعَمْتُمُ
أَنَّ اللَّيَالِي غَيَّرَتْ عَهْدَ
الْهَوَى لَا كَانَ مَنْ يَتَغَيَّرُ
فبَكَتْ
أخته لبكائه ورقَّتْ لحاله ورحمت غربته، ثم قالت له: يا أخي، طِبْ نفسًا وقرَّ
عينًا، فأنا أخاطِرُ بنفسي معك وأبذل روحي في رضائك، وأدبِّر لك حيلةً ولو كان
فيها ذهاب نفائسي ونفسي، حتى أقضي غرضك إن شاء الله تعالى، ولكنْ أوصيك يا أخي
بكتمان السر عن أخواتي، فلا تُظهِر حالك على واحدةٍ منهن لئلا تروح روحي وروحك،
وإنْ سألْنَك عن فتح الباب، فقُلْ لهن: ما فتحتُه أبدًا، ولكن أنا مشغول القلب من
أجل غيابكن عني، ووحشتي إليكن، وقعودي في القصر وحدي. فقال لها: نعم، هذا هو
الصواب. ثم أنه قبَّلَ رأسها وطاب خاطره وانشرح صدره، وكان خائفًا من أخته بسبب
فتح الباب، فردَّتْ إليه روحه بعد أن كان مُشرِفًا على الهلاك من شدة الخوف. ثم
إنه طلب من أخته شيئًا يأكله، فقامت وخرجت من عنده، ثم دخلت على أخواتها وهي حزينة
باكية عليه، فسألْنَها عن حالها فأخبرتهن أن خاطرها مشغول على أخيها، وأنه مريض
وله عشرة أيام ما نزل في بطنه زادٌ أبدًا، فسألْنَها عن سبب مرضه، فقالت لهن:
سببُه غيابنا عنه حيث أوحشناه، فإن هذه الأيام التي غبناها عنه كانت عليه أطول من
ألف عام، وهو معذور لأنه غريب ووحيد ونحن تركناه وحده وليس عنده مَن يؤانسه ولا
مَن يطيِّب خاطِرَه، وهو شاب صغير على كل حال، وربما تذكَّرَ أهله وأمه، وهي امرأة
كبيرة، فظنَّ أنها تبكي عليه آناء الليل وأطراف النهار ولم تزل حزينة عليه، وكنَّا
نُسْلِيه بصحبتنا له.
فلما
سمع أخواتها كلامها بَكَيْنَ من شدة التأسُّف عليه، وقلْنَ لها: والله إنه معذور.
ثم خرجْنَ إلى العسكر وصرفْنَهم، ودخلْنَ على حسن فسلَّمْنَ عليه ورأيْنَه قد
تغيَّرَتْ محاسنه، واصفرَّ لونه، وانتحل جسمه، فبكَيْنَ شفقةً عليه وقعَدْنَ عنده
وآنسْنَه وطيَّبْنَ قلبه بالحديث، وحكيْنَ له جميع ما رأين من العجائب والغرائب،
وما جرى للعريس مع العروسة. ثم إن البنات أقمْنَ عنده مدة شهر كامل وهنَّ
يؤانِسْنَه ويلاطِفْنَه، وهو كل يوم يزداد مرضًا على مرضه، وكلما رأيْنَه على هذه
الحالة يبكين عليه بكاءً شديدًا وأكثرهن بكاءً البنت الصغيرة. ثم بعد الشهر
اشتاقَتِ البنات إلى الركوب للصيد والقنص، فعزمْنَ على ذلك وسألْنَ أختهن الصغيرة
أن تركب معهن، فقالت لهن: والله يا أخواتي ما أقدر أن أخرج معكن وأخي على هذه
الحالة حتى يتعافى ويزول عنه ما هو فيه من الضرر، بل أجلس عنده لأعلِّله، فلما
سمعْنَ كلامها شكرْنَها على مروءتها، وقلْنَ لها: كل ما تفعلينه مع هذا الغريب
تُؤجَرِين عليه. ثم تركْنَها عنده في القصر، وركبن وأخذن معهن زادَ عشرين يومًا.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 789﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن البنات لما ركبْنَ ورُحْنَ إلى الصيد والقنص، تركْنَ
أختهن الصغرى قاعدةً عند حسن في القصر، فلما بَعُدْنَ عن القصر عرفت أختهن أنهن
قطعْنَ مسافة بعيدة، فأقبلت على أخيها وقالت له: يا أخي، قُمْ أَرِني هذا الموضع
الذي رأيتَ فيه البنات. فقال: باسم الله على الرأس. وفرح بقولها وأيقَنَ ببلوغ
مقصوده، ثم إنه أراد أن يقوم معها ويُرِيها المكان، فلم يقدر على المشي، فحملَتْه
في حضنها وجاءت به إلى القصر، فلما صار فوقه أراها الموضع الذي رأى فيه البنات،
وأراها المقعد وبِرْكة الماء، فقالت له أخته: صِفْ لي يا أخي حالَهن كيف جِئْنَ.
فوصف لها ما رأى منهن، وخصوصًا البنت التي تعلَّقَ بها، فلما سمعت وصفَها
عرفَتْها؛ فاصفرَّ وجهها وتغيَّرَ حالها، فقال لها: يا أختي، قد اصفرَّ وجهك،
وتغيَّرَتْ حالتك. فقالت له: يا أخي، اعلم أن هذه الصَّبِية بنت ملك من ملوك الجان
العِظَام الشأن، قد ملك أبوها إنسًا وجانًّا، وسَحَرة وكهَّانًا، وأرهاطًا
وأعوانًا، وأقاليم وبلدانًا كثيرة، وأموالًا عظامًا، وأبونا نائب من جملة نوَّابه،
فلا يقدر عليه أحد من كثرة عساكره، واتساع مملكته وكثرة ماله، وقد جعل لأولاده
البنات اللاتي رأيتهن مسيرةَ سنة كاملة طولًا وعرضًا، وقد زاد على ذلك القُطْر
نهرٌ عظيم محيط به، فلا يقدر أحد أن يصل إلى ذلك المكان لا من الإنس ولا من الجان،
وله من البنات الضاربات بالسيوف الطاعنات بالرماح خمسةٌ وعشرون ألفًا، كلُّ واحدة
منهن إذا ركبَتْ جوادها ولبست آلة حربها تقاوم ألف فارس من الشجعان، وله سبع من
البنات فيهن من الشجاعة والفروسية ما في أخواتهن وأزيد، وقد ولَّى على هذا القطر
الذي عرفتك به ابنته الكبرى، وهي أكبر أخواتها، وفيها من الشجاعة والفروسية
والخداع والمكر والسحر ما تغلب به جميع أهل مملكتها. وأما البنات اللاتي معها فهن
أرباب دولتها وأعوانها وخواصها من ملكها، وهذه الجلود الريش التي يَطِرْنَ بها
إنما هي صنعة سَحَرة الجان، وإذا أردتَ أن تملك هذه الصَّبِية وتتزوَّج بها فاقعد
هنا وانتظرها؛ لأنهن يحضرن على رأس كل شهر في هذا المكان، فإذا رأيتهن قد حضرْنَ
فاختفِ، وإياك أن تظهر فتروح أرواحنا جميعًا، فاعرف الذي أقوله لك واحفظه في ذهنك،
واقعد في مكان يكون قريبًا منهن، بحيث إنك تراهن وهن لا يَرَيْنَك، فإذا قلعْنَ
ثيابَهن فأَلْقِ نظرك على الثوب الريش الذي هو للكبيرة التي في مرادك، وخذه ولا
تأخذ شيئًا غيره، فإنه هو الذي يوصلها إلى بلادها، فإنك إذا ملكْتَه ملَكْتَها،
وإياك أن تخدعك وتقول: يا مَن سرق ثوبي، ردَّه عليَّ وها أنا عندك وبين يديك وفي
حوزتك. فإنك إنْ أعطيتَها إياه قتلَتْك وتخرب علينا القصور، وتقتل أبانا، فاعرف
حالك كيف تكون. فإذا رأى أخواتها أن ثوبها قد سُرِق طِرْنَ وتركْنَها قاعدةً
وحدها، فادخلْ عليها وامسكها من شعرها واجذبها، فإذا جذبتَها إليك فقد ملكتَها
وصارت في حوزتك، فاحتفظ بعد هذا بالثوب الريش، فإنه ما دام عندك فهي في قبضتك
وأَسْرِك؛ لأنها لا تقدر أن تطير إلى بلادها إلا به، فإذا أخذتَها فاحملها وانزل
بها إلى مقصورتك، ولا تبيِّن لها أنك أخذتَ الثوب.
فلما
سمع حسن كلام أخته، اطمأنَّ قلبه وسكن روعه وزال ما به من الألم، ثم انتصب قائمًا
على قدمَيْه وقبَّلَ رأس أخته، وبعد ذلك قام ونزل من فوق القصر هو وأخته وناما
ليلتهما وهو يعالج نفسه إلى أن أصبح الصباح. فلما طلعت الشمس قام وفتح الباب وطلع
إلى فوق وقعد، ولم يزل قاعدًا إلى العشاء فطلعت له أخته بشيء من الأكل والشرب،
وغيَّرَتْ ثيابه ونام، ولم تزل معه على هذه الحالة في كل يوم إلى أنْ هلَّ الشهر،
فلما رأى الهلال صار يرتقبهم، فبينما هو كذلك وإذا بهن قد أقبلْنَ عليه مثل البرق،
فلما رآهن اختفى في مكان بحيث يراهن وهن لا يَرَيْنَه، فنزلت الطيور وقعدت كل طيرة
منهن في مكان وقطعن ثيابهن، وكذلك البنت التي يحبها، وكان ذلك في مكان قريب من حسن،
ثم نزلت البحيرة مع أخواتها؛ فعند ذلك قام حسن ومشى قليلًا وهو مختفٍ وستر الله
عليه، فأخذ الثوب ولم تنظره واحدة منهن، بل كنَّ يلعبْنَ مع بعضهن، فلما فرغْنَ
طلعن ولبست كل واحدة منهن ثوبها الريش، فجاءت محبوبته لتلبس ثوبها فلم تجده، فصاحت
ولطمت على وجهها وشقَّتْ ثيابها، فأقبل عليها أخواتها وسألْنَها عن حالها،
فأخبرتهن أن ثوبها الريش قد فُقِد، فبكَيْنَ وصرخْنَ ولطَمْنَ على وجوههن، وحين
أمسى عليهن الليل لم يقدرْنَ أن يقعدْنَ عندها، فتركنها فوق القصر. وأدرك شهرزاد
الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 790﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن حسنًا لما أخذ ثوب البنت طلبَتْه فلم تجده، وطار
أخواتها وتركْنَها وحدها، فلما رآهن حسن طِرْنَ وغِبْنَ عنها أصغى إليها، فسمعها
تقول: يا مَن أخذ ثوبي وأعراني، سألتُك أن تردَّه عليَّ وتستر عورتي، فلا أذاقك
الله حسرتي. فلما سمع حسن هذا الكلام منها، سُلِب عقله في عشقها، وازدادت محبته
لها، ولم يُطِقْ أن يصبر عنها، فقام من مكانه وصار يجري حتى هجم عليها وأمسَكَها،
ثم جذبها إليه ونزل بها إلى أسفل القصر، وأدخَلَها مقصورته ورمى عليها عباءتَه وهي
تبكي وتعضُّ على يدَيْها، فأغلق عليها الباب وراح لأخته وأعلَمَها أنه حصلها
وظَفِر بها، ونزل بها إلى مقصورته، وقال لها: إنها الآن قاعدة تبكي وتعض على
يديها. فلما سمعت أخته كلامَه قامت وتوجَّهَتْ إلى المقصورة ودخلت عليها، فرأتها
تبكي وهي حزينة، فقبَّلَتِ الأرض بين يديها، ثم سلَّمَتْ عليها، فقالت لها
الصَّبِية: يا بنت الملك، أهكذا تفعل الناس مثلكم هذه الفِعَال الرديئة مع بنات
الملوك؟ وأنت تعرفين أن أبي مَلِك عظيم، وأن ملوك الجان تفزع منه وتخاف من سطوته،
وعنده من السَّحَرة والحكماء والكهَّان والشياطين والمَرَدة مَن لا طاقةَ لأحد
عليه، وتحت يده خلق لا يعلم عددَهم إلا الله، وكيف يصح لكم يا بنات الملوك أن
تأوين رجالَ الإنس عندكن وتُطلِعْنَهم على أحوالنا وأحوالكن؟ وإلا فمن أين أن يصل
هذا الرجل إلينا؟ فقالت لها أخت حسن: يا بنت الملك، إن هذا الإنسي كامل المروءة،
وليس قصده أمرًا قبيحًا، وإنما هو يحبك، وما خُلِقت النساء إلا للرجال، ولولا أنه
يحبك ما مرض لأجلك، وكادت روحه أن تزهق في هواك. وحكت لها جميعَ ما أخبرها به حسن
من عشقه لها، وكيف عملت البنات في طيرهن واغتسالهن، وأنه لم يعجبه من جميعهن
غيرها؛ لأن كلهن جوارٍ لها، وأنها كانت تغطسهن في البحيرة، وليست واحدة منهن تقدر
أن تمدَّ يدها إليها.
فلما
سمعت كلامها يئست من الخلاص، فعند ذلك قامت أخت حسن وخرجت من عندها وأحضرت لها
بدلة فاخرة، فألبَسَتْها إياها وأحضرت لها شيئًا من الأكل والشرب، فأكلت هي
وإياها، وطيَّبت قلبها وسكَّنت روعها، ولم تزل تلاطفها بلِينٍ ورفق وتقول لها:
ارحمي مَن نَظَرَكِ نظرةً فأصبح قتيلًا في هواك. ولم تزل تلاطفها وترضيها وتُحسِن
لها القولَ والعبارةَ وهي تبكي إلى أن طلع الفجر، فطابت نفسها وأمسكت عن بكائها
لما علمت أنها وقعت ولم يمكن خلاصها، وقالت لأخت حسن: يا بنت الملك، بهذا حكم الله
على ناصيتي من غربتي وانقطاعي عن بلدي وأهلي وإخوتي، فصبر جميل على ما قضاه ربي.
ثم إن أخت حسن أخلَتْ لها مقصورة في القصر لم يكن هناك أحسن منها، ولم تزل عندها
تُسْلِيها وتطيِّب خاطرها حتى رضيت وانشرح صدرها وضحكت، وزال ما عندها من الكدر
وضيق الصدر من فراق الأهل والأوطان وفراق أخواتها وأبوَيْها وملكها. ثم إن أخت حسن
خرجت إليه وقالت له: قُمِ ادخُلْ عليها في مقصورتها، وقبِّلْ يديها ورجليها. فدخل
وفعل ذلك، ثم قبَّلَ ما بين عينَيْها، وقال لها: يا سيدة الملاح، وحياة الأرواح
ونزهة الناظرين، كوني مطمئنةَ القلب، أنا ما أخذتُك إلا لأجل أن أكون عبدك إلى يوم
القيامة، وأختي هذه جاريتك، وأنا يا سيدتي ما قصدي إلا أن أتزوَّجَك بسُنَّة الله
ورسوله، وأسافر إلى بلادي وأكون أنا وأنت في مدينة بغداد، وأشتري لك الجواري
والعبيد، ولي والدة من خيار النساء تكون في خدمتك، وليس هناك بلادٌ أحسن من
بلادنا، وكل ما فيها أحسن مما في غيرها من سائر البلاد، وأهلها وناسها ناس طيبون
بوجوه صِباح.
فبينما
هو يخاطبها ويؤانسها وهي لا تخاطبه بحرف واحد، وإذا بداقٍّ يدقُّ بابَ القصر، فخرج
حسن ينظر مَن بالباب، وإذا هن البنات قد حضرْنَ من الصيد والقنص، ففرح بهن
وتلقَّاهن وحيَّاهن فدعَيْنَ له بالسلامة والعافية، ودعا لهن هو الآخَر. ثم نزلن
عن خيولهن ودخلن القصر، ودخلت كل واحدة منهن في مقصورتها، ونزعت ما كان عليها من
الثياب الرثة ولبست قماشًا مليحًا، وخرجن إلى الصيد والقنص، فاصطدن شيئًا كثيرًا
من الغزلان وبقر الوحوش والأرانب والسباع والضباع وغير ذلك، وقدَّمْنَ منه شيئًا
إلى الذبح، وتركن الباقي عندهن في القصر، وحسن واقف بينهن مشدود الوسط يذبح لهن،
وهن يلعبن وينشرحن وقد فرحن بذلك فرحًا شديدًا. فلما فرغْنَ من الذبح قعَدْنَ
يعملن شيئًا ليتغَدَّيْن به، فتقدَّمَ حسن إلى البنت الكبيرة وقبَّلَ رأسها، وصار
يقبِّل رأسَهن واحدة بعد واحدة، فقُلْنَ له: لقد أكثرت التنازل إلينا يا أخانا،
وعجبنا من فرط تودُّدك إلينا، وأنت رجل آدمي ونحن من الجن. فدمعت عيونه وبكى بكاءً
شديدًا، فقلن: ما الخبر؟ وما يُبْكِيك؟ فقد كدرتَ عيشنا ببكائك في هذا اليوم! كأنك
اشتقتَ إلى والدتك وإلى بلادك؛ فإنْ كان الأمر كذلك فنجهِّزك ونسافر بك إلى وطنك
وأحبابك؟ فقال لهن: والله ما مرادي فراقكن. فقلن له: وحينئذٍ مَن شوَّشَ عليك
منَّا حتى تكدَّرْتَ؟ فخجل أن يقول ما شوَّشَ عليَّ إلا عِشْق الصَّبِية خيفةَ أن
يُنْكِرْنَ عليه، فسكت ولم يُعْلِمهن بشيء من حاله، فقامت أخته وقالت لهن: إنه
اصطاد طيرة من الهواء، ويريد منكن أن تُعِنَّه على تأهيلها. فالتفتن إليه وقلن له:
نحن كلنا بين يديك ومهما طلبتَه فعلناه، لكن قصَّ علينا خبرَك ولا تكتم عنَّا
شيئًا من حالك. فقال لأخته: قصِّي خبري عليهن، فإني أستحي منهن ولا أقدر أن
أقابلهن بهذا الكلام. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 791﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن حسنًا قال لأخته: قصِّي عليهن قصتي فإني أستحي، ولا
أقدر أن أقابلهن بهذا الكلام. فقالت أخته لهن: يا أخواتي، إننا لما سافرنا وخلينا
هذا المسكن وحده، ضاق عليه القصر وخاف أن يدخل عليه أحد، وأنتن تعرفن أن عقول بني
آدم خفيفة، ففتح الباب الموصل إلى سطح القصر حين ضاق صدره وصار منفردًا وحده، وطلع
فوقه وقعد هناك، وأشرف على الوادي وصار يطلُّ على جهة الباب خوفًا أن يقصد أحدٌ
القصرَ، فبينما هو جالس يومًا من الأيام وإذا بالعشر طيور قد أقبلْنَ عليه قاصدات
القصر، ولم يزلْنَ سائرات حتى جلسْنَ على البحيرة التي فوق المنظرة، فنظر إلى
الطيرة التي هي أحسنهن، وهي تنقرهن وما فيهن واحدة تقدر أن تمدَّ يدها إليها، ثم
جعلْنَ مخالبهن في أطواقهن، فشققْنَ الثيابَ الريش وخرجن منها، وصارت كل واحدة
منهن صبيةً مثل البدر ليلةَ تمامه، ثم خلعْنَ ما عليهن وحسن واقف ينظر إليهن،
ونزلن الماء وصرن يلعبن والصَّبِية الكبيرة تغطسهن وليس منهن واحدة تقدر أن تمد
يدها إليها، وهي أحسنهن وجهًا وأعدلهن قدًّا وأنظفهن لباسًا، ولم يزلْنَ على هذه
الحالة إلى أن قَرُب العصر، ثم طلعن من البحيرة ولبسن ثيابهن ودخلْنَ في القماش
الريش والتففْنَ فيه وطِرْنَ، فاشتغل فؤاده واشتعل قلبه بالنار من أجل الطيرة
الكبيرة، وندم لأنه لم يسرق قماشها الريش، فمرض وأقام فوق القصر ينتظرها، فامتنع
من الأكل والشرب والنوم، ولم يزل كذلك حتى لاح الهلال، فبينما هو قاعد وإذا بهن قد
أقبلْنَ على عادتهن، فقلعْنَ ثيابهن ونزلن البحيرة، فسرق ثوبَ الكبيرة، فلما عرف
أنها لم تقدر أن تطير إلا به أخذه وأخفاه خيفةَ أن يطلعن عليه فيقتلْنَه، ثم صبر
حتى طرن، فقام وقبضها ونزل بها من فوق القصر.
فقلْنَ
لها أخواتها: وأين هي؟ قالت لهن: هي عنده في المخدع الفلاني. فقلن: صِفِيها لنا يا
أختي. فقالت: هي أحسن من القمر ليلةَ تمامه، ووجهُها أضوأ من الشمس، وريقها أحلى
من الشراب، وقَدُّها أرشق من القضيب، ذاتُ طرفٍ أحور، ووجهٍ أقمر، وجبينٍ أزهر،
وصدرٍ كأنه جوهر، ونهدين كأنهما رمانتان، وخدين كأنهما تفاحتان، وبطنٍ مَطْوِيِّ
الأعكان، وسرةٍ كأنها حُقُّ عاجٍ بالمسك ملآن، وساقين كأنهما من المرمر عمودان،
تأخذ القلوب بطَرفٍ كحيل، ودِقَّةِ خُصْرٍ نحيل، ورِدْفٍ ثقيل، وكلام يشفي الغليل،
مليحة القوام، حسنة الابتسام كأنها بدر التمام.
فلما
سمعت البنات هذه الأوصاف الْتَفَتْنَ إلى حسن وقلن له: أَرِنا إياها. فقام معهن
وهو ولهان إلى أنْ أتى بهن إلى المخدع الذي فيه بنت الملك، وفتحه ودخل وهنَّ خلفه،
فلما رأينها وعايَنَّ جمالها، قبَّلْنَ الأرضَ بين يديها، وتعجَّبْنَ من حُسْن
صورتها وظرْفِ معانيها، وسلَّمْنَ عليها وقلن لها: والله يا بنت الملك الأعظم إن
هذا شيء عظيم، ولو سمعتي بوصف هذا الإنسي عند النساء لَكنتِ تتعجَّبِين منه طول
دهرك، وهو متعلق بك غاية التعلُّق، إلا أنه يا بنت الملك لم يطلب فاحشةً، وما طلبك
إلا في الحلال، ولو علمنا أن البنات تستغني عن الرجال لَكنَّا منعناه عن مطلوبه،
مع أنه لم يرسل إليك رسولًا بل أتى إليك بنفسه، وأخبرنا أنه أحرق الثوب الريش،
وإلا كنا أخذناه منه. ثم إن واحدة من البنات اتفقت هي وإياها وتوكَّلَتْ في العقد،
وعقدت عقدها على حسن، وصافَحَها ووضع يده في يدها وزوَّجَتْها له بإذنها، وعملْنَ
في فرحها ما يصلح لبنات الملوك، وأدخلَتْه عليها، فقام حسن وفتح الباب وكشف الحجاب
وفضَّ ختمها، وتزايدت محبته فيها، وتعاظَمَ وَجْدُه شغفًا بها، وحيث حصل مطلوبه
هنَّأ نفسه وأنشد هذه الأبيات:
قَوَامُكَ
فَتَّانٌ وَطَرْفُكَ أَحْوَرُ
وَوَجْهُكَ مِنْ مَاءِ الْمَلَاحَةِ يَقْطُرُ
تَصَوَّرْتَ
فِي عَيْنِي أَجَلَّ تَصَوُّرٍ
فَنِصْفُكَ يَاقُوتٌ وَثُلْثُكَ جَوْهَرُ
وَخُمْسُكَ
مِنْ مِسْكٍ وَسُدْسُكَ عَنْبَرُ
وَأَنْتَ شَبِيهُ الدُّرِّ بَلْ أَنْتَ أَزْهَرُ
وَمَا
وَلَدَتْ حَوَّاءُ مِثْلَكَ وَاحِدًا
وَلَا فِي جِنَانِ الْخُلْدِ مِثْلُكَ آخَرُ
فَإِنْ
شِئْتَ تَعْذِيبِي فَمِنْ سُنَنِ الْهَوَى
وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَعْفُو فَأَنْتَ مُخَيَّرُ
فَيَا
زِينَةَ الدُّنْيَا وَيَا غَايَةَ الْمُنَى
فَمَنْ ذَا الَّذِي عَنْ حُسْنِ وَجْهِكَ يَصْبِرُ
وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 792﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن حسنًا لما دخل على بنت الملك وأزال بكارتها، التذَّ
بها لذةً عظيمة، وزادت محبته لها ووَجْده بها، فأنشَدَ فيها الأبيات المذكورة.
وكانت البنات واقفات على الباب، فلما سمعْنَ الشعر قلْنَ لها: يا بنت الملك، أسمعتِ
قولَ هذا الإنسي؟ كيف تلوميننا وقد أنشَدَ الشِّعْرَ في هواك؟ فلما سمعَتْ ذلك
انبسطت وانشرحت وفرحت. ثم إن حسنًا أقام معها مدة أربعين يومًا في حظ وسرور ولذة
وحبور، والبنات تجدِّد له كلَّ يوم فرحًا ونعمة وهدايا وتحفًا، وهو بينهن في سرور
وانشراح، وطاب لبنت الملك القعود بينهن ونسيت أهلها. ثم بعد الأربعين يومًا كان
حسن نائمًا، فرأى والدته حزينة عليه، وقد رقَّتْ عظامُها، وانتحل جسمها، واصفرَّ
لونها، وتغيَّرَ حالها، وكان هو في حالة حسنة، فلما رأته على هذه الحالة قالت له:
يا ولدي يا حسن، كيف تعيش في الدنيا منعمًا وتنساني؟ فانظر لحالي بعدك، وأنا ما
أنساك، ولا لساني يترك ذِكْرك حتى أموت، وقد عملت لك قبرًا عندي في الدار حتى لا
أنساك أبدًا، أترى أعيش يا ولدي وأنظرك عندي ويعود شملنا مجتمعًا كما كان؟
فانتَبَه حسن من نومه وهو يبكي وينوح، ودموعه تجري على خدَّيْه مثل المطر، وصار
حزينًا كئيبًا لا ترتفع دموعه ولم يَجِئْه نوم، ولم يقرَّ له قرار، ولم يَبْقَ
عنده اصطبار. فلما أصبح دخلت عليه البنات وصبَّحْنَ عليه، وانشرحْنَ معه على
عادتهن، فلم يلتفت إليهن، فسألْنَ زوجته عن حاله، فقالت لهن: ما أدري. فقلن لها:
اسأليه عن حاله. فتقدَّمَتْ إليه وقالت له: ما الخبر يا سيدي؟ فتنهَّدَ وتضجر
وأخبرها بما رآه في منامه، ثم أنشد هذين البيتين:
قَدْ
بَقِينَا مُوَسْوِسِينَ حَيَارَى
نَطْلُبُ الْقُرْبَ مَا إِلَيْهِ سَبِيلُ
فَدَوَاهِي
الْهَوَى تَزِيدُ عَلَيْنَا
وَمُقَامُ الْهَوَى عَلَيْنَا ثَقِيلُ
فأخبرتهن
زوجته بما قاله لها، فلما سمعت البنات الشِّعْرَ رققْنَ لحاله، وقلن له: تفضَّلْ
باسم الله، ما نقدر أن نمنعك من زيارتها، بل نساعدك على زيارتها بكل ما نقدر عليه،
ولكن ينبغي أن تزورنا ولا تنقطع عنَّا، ولو في كل سنة مرة واحدة. فقال لهن: سمعًا
وطاعة. فقامت البنات من وقتهن وعملْنَ له الزاد، وجهَّزْنَ له العروسةَ بالحلي
والحلل وكل شيء غالٍ يعجز عنه الوصف، وهيَّأْنَ له تحفًا تعجز عن حصرها الأقلام.
ثم إنهن ضربن الطبل فجاءت النجائب إليهن من كل مكان، فاخترْنَ منها ما يحمل جميع
ما جهَّزْنَه، وأركبْنَ الجارية وحسنًا، وحملْنَ إليهما خمسة وعشرين تختًا من
الذهب وخمسين من الفضة، ثم سِرْنَ معهما ثلاثة أيام، فقطعن فيها مسافة ثلاثة أشهر،
ثم إنهن ودَّعْنَهما وأردْنَ الرجوع عنهما، فاعتنقَتْه أخته الصغيرة، وبكت حتى
غُشِي عليها، فلما أفاقت أنشدت هذين البيتين:
لَا
كَانَ يَوْمُ الْفِرَاقِ أَصْلًا
لَمْ يُبْقِ فِي الْمُقْلَتَيْنِ نَوْمَا
شَتَّتَ
مِنَّا وَمِنْكَ شَمْلًا وَهَدَّ
مِنَّا قُوًى وَجِسْمَا
فلما
فرغت من شعرها ودَّعته وأكَّدت عليه أنه إذا وصل إلى بلده واجتمع بأمه واطمأنَّ
قلبه لا يقطعها من الزيارة في كل ستة أشهر مرة، وقالت له: إذا أهَمَّك أمرًا وخفتَ
مكروهًا، فدقَّ طبل المجوسي فتحضر لك النجائب واركب وارجع إلينا ولا تتخلَّف
عنَّا. فحلف لها على ذلك، ثم أقسم عليهم أن يرجعن بعد أن ودَّعْنَه وحزنَّ على
فراقه، وأكثرهن حزنًا أخته الصغيرة، فإنها لم يستقر لها قرار ولم يطاوعها اصطبار،
وصارت تبكي ليلًا ونهارًا. هذا ما كان منهن، وأما ما كان من أمر حسن، فإنه سار طول
الليل والنهار يقطع مع زوجته البراري والقفار، والأودية والأوعار، في الهواجر
والأسحار، وكتب الله لهما السلامة، فسَلِما ووصلا إلى مدينة البصرة، ولم يزالا
سائرين حتى أناخا على باب داره نجائبَهما، ثم صرَفَ النجائبَ وتقدَّمَ إلى الباب
ليفتحه، فسمع والدته وهي تبكي بصوت رقيق من كبدٍ ذاقَتْ عذابَ الحريق، وهي تنشد
هذه الأبيات:
وَكَيْفَ
يَذُوقُ النَّوْمَ مَنْ عَدِمَ الْكَرَى
وَيَسْهَرُ لَيْلًا وَالْأَنَامُ رُقُودُ
وَقَدْ
كَانَ ذَا مَالٍ وَأَهْلٍ وَعِزَّةٍ
فَأَضْحَى غَرِيبَ الدَّارِ وَهْوَ وَحِيدُ
لَهُ
جَمْرَةٌ بَيْنَ الضُّلُوعِ وَأَنَّةٌ
وَشَوْقٌ شَدِيدٌ مَا عَلَيْهِ مَزِيدُ
تَوَلَّى
عَلَيْهِ الْوَجْدُ وَالْوَجْدُ حَاكِمٌ
يَنُوحُ بِمَا يِلْقَاهُ وَهْوَ جَلِيدُ
وَحَالَتُهُ
فِي الْحُبِّ تُخْبِرُ أَنَّهُ
حَزِينٌ كَئِيبٌ وَالدُّمُوعُ شُهُودُ
فبكى
حسن لما سمع والدته تبكي وتندب، ثم طرق الباب طرقةً مزعجةً، فقالت أمه: مَن
بالباب؟ فقال لها: افتحي. ففتحت الباب ونظرت إليه، فلما عرفَتْه خرَّتْ مغشيًّا
عليها، فما زال يلاطفها إلى أن أفاقت، فعانَقَها وعانَقَتْه وقبَّلته، ثم نقل
حوائجَه ومتاعه إلى داخل الدار، والجاريةُ تنظر إلى حسن وأمه. ثم إن أم حسن لما
اطمأنَّ قلبها وجمع الله شملها بولدها، أنشدت هذه البيات:
رَقَّ
الزَّمَانُ لِحَالَتِي وَرَثَى لِطُولِ تَحَرُّقِي
وَأَنَالَنِي
مَا أَشْتَهِي وَأَزَالَ خَصْمًا
أَتَّقِي
فَلَأَصْفَحَنْ
عَمَّا جَنَى مِنَ الذُّنُوبِ
السُّبَّقِ
حَتَّى
جِنَايَتُهُ بِمَا فَعَل الْمَشِيبُ
بِمَفْرِقِي
وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 793﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن والدة حسن قعدت هي وإياه يتحدثان، وصارت تقول له: كيف
حالك يا ولدي مع الأعجمي؟ فقال لها: يا أمي، ما كان أعجميًّا بل كان مجوسيًّا يعبد
النار دون الملك الجبار. ثم إنه أخبرها بما فعل به من أنه سافَرَ به وحطَّه في جلد
الجمل وخيَّطه عليه، وحملته الطيور وحطَّتْه فوق الجبل، وأخبَرَها بما رآه فوق
الجبل من الخلائق الميتين الذين كان يحتال عليهم المجوسي ويتركهم فوق الجبل بعد أن
يقضوا حاجته، وكيف رمى روحه في البحر من فوق الجبل وسلَّمَه الله تعالى وأوصَلَه
إلى قصر البنات، ومؤاخاة البنت له وقعوده عند البنات، وكيف أوصَلَ الله المجوسيَّ
إلى المكان الذي هو فيه، وأخبَرَها بعشق الصَّبِية وكيف اصطادها، وبقصتها كلها إلى
أن جمع الله شملهما ببعضهما. فلما سمعت أمه حكايته تعجَّبَتْ وحمدت الله تعالى على
عافيته وسلامته، ثم قامت إلى تلك الحمول فنظرَتْها وسألته عنها، فأخبرها بما فيها،
ففرحت فرحًا عظيمًا، ثم تقدَّمَتْ إلى الجارية تحدِّثها وتؤانسها، فلما وقعت عينها
عليها اندهَشَ عقلها من ملاحتها، وفرحت وتعجَّبَتْ من حُسْنها وجمالها وقدِّها
واعتدالها، ثم قالت له: يا ولدي، الحمد لله على السلامة وعلى رجوعك سالمًا. ثم إن
أمه قعدت جنب الصبية وآنستها وطيَّبَتْ خاطرها، ثم نزلت في بكرة النهار إلى السوق
فاشترت عشر بدلات أفخر ما في المدينة من الثياب، وأحضرت لها الفرش العظيم،
وألبسَتِ الصَّبِية وجمَّلَتْها بكل شيء مليح، ثم أقبلت على ولدها وقالت: يا ولدي،
نحن بهذا المال لا نقدر أن نعيش في هذه المدينة، وأنت تعرف أننا ناس فقراء والناس
يتهموننا بعمل الكيمياء، فقُمْ بنا نسافر إلى مدينة بغداد دار السلام لنقيم في
حَرَم الخليفة، وتقعد أنت في دكان فتبيع وتشتري وتتَّقِي الله عز وجل، فيفتح عليك
بهذا المال.
فلما
سمع حسن كلامَها استصوبه، وقام من وقته وخرج من عندها وباع البيت، وأحضَرَ
النجائبَ وحمل عليها جميعَ أمواله وأمتعته وأمه وزوجته وسار، ولم يزل سائرًا إلى
أن وصل إلى الدجلة، فاكترى مركبًا لبغداد ونقل فيها جميع ماله وحوائجه ووالدته
وزوجته وكل ما كان عنده، ثم ركب المركب فسارت بهم المركب في ريح طيبة مدة عشرة
أيام حتى أشرفوا على بغداد، فلما أشرفوا عليها فرحوا ودخلت بهم المركب المدينة،
فطلع من وقته وساعته إلى المدينة واكترى مخزنًا في بعض الخانات، ثم نقل حوائجه من
المركب إليه، وطلع وأقام ليلة في الخان. فلما أصبح غيَّرَ ما عليه من الثياب، فلما
رآه الدلَّال سأله عن حاجته وعمَّا يريد، فقال: أريد دارًا تكون مليحة واسعة. فعرض
عليه الدُّورَ التي عنده فأعجبته دارٌ كانت لبعض الوزراء، فاشتراها منه بمائة ألف
دينار من الذهب وأعطاه الثمن، ثم عاد إلى الخان الذي نزل فيه ونقل جميع ماله
وحوائجه إلى الدار، ثم خرج إلى السوق وأخذ ما تحتاج إليه الدار من آنية وفرش وغير
ذلك، واشترى خَدَمًا، ومن جملتها عبدٌ صغيرٌ للدار، وأقام مطمئِنًّا مع زوجته في
ألذِّ عيش وسرور مدةَ ثلاث سنين، وقد رُزِق منها بغلامين سمَّى أحدهما ناصرًا
والآخر منصورًا.
وبعد
هذه المدة تذكَّرَ أخواته البنات وتذكَّرَ إحسانهن إليه، وكيف ساعَدْنَه على
مقصوده؛ فاشتاق إليهن وخرج إلى أسواق المدينة فاشترى منها شيئًا من حلي وقماش نفيس
ونقل ما رأَيْنَ مثله قط ولا يعرِفْنَه، فسألته أمه عن سبب اشتراء تلك التحف، فقال
لها: إني عزمت على أن أسافر إلى أخواتي اللاتي فعلْنَ معي كل جميل، ورزقي الذي أنا
فيه من خيرهن وإحسانهن إليَّ، فإني أريد أن أسافر إليهن وأنظرهن وأعود قريبًا إن
شاء الله تعالى. فقالت له: يا ولدي، لا تَغِبْ عليَّ. فقال لها: اعلمي يا أمي كيف
تكونين مع زوجتي، وهذا ثوبها الريش في صندوق مدفون في الأرض، فاحرصي عليه لئلا تقع
عليه فتأخذه وتطير هي وأولادها ويروحون، وأبقى لا أقع لهم على خبر فأموت كمدًا من
أجلهم، واعلمي يا أمي أني أحذِّرك من أن تذكري ذلك لها، واعلمي أنها بنت ملك
الجان، وما في ملوك الجان أكبر من أبيها ولا أكثر منه جنودًا ولا مالًا، واعلمي
أنها سيدةُ قَوْمِها وأعزُّ ما عند أبيها، فهي عزيزة النفس جدًّا؛ فاخدميها أنت
بنفسك ولا تمكِّنيها من أن تخرج من الباب أو تطل من الطاقة أو من حائط، فإني أخاف
عليها من الهواء إذا هبَّ، وإذا جرى عليها أمرٌ من أمور الدنيا، فأنا أقتل روحي من
أجلها. فقالت أمه: أعوذ بالله من مخالفتك يا ولدي، هل أنا مجنونة حتى توصيني بهذه
الوصية وأخالفك فيها؟ سافِرْ يا ولدي وطِبْ نفسًا، وسوف تحضر في خير وتنظرها إن
شاء الله تعالى وتُخبِرك بما جرى لها مني، ولكن يا ولدي لا تقعد غير مسافة الطريق.
وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 794﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن حسنًا لما أراد السفر إلى البنات، وصَّى أمه على
زوجته حسب ما ذكرنا، وكانت زوجته بالأمر المقدَّر تسمع كلامَه لأمه، وهما لا
يعرفان ذلك. ثم إن حسنًا قام وخرج إلى خارج المدينة ودقَّ الطبل، فحضرت له النجائب
فحمل عشرين من تحف العراق وودَّع والدته وزوجته وأولاده، وكان عُمْر واحدٍ من
ولدَيْه سنةً، وعُمْر الآخَر سنتين. ثم إنه رجع إلى والدته وأوصاها ثانيًا، ثم إنه
ركب وسافر إلى أخواته، ولم يزل مسافرًا ليلًا ونهارًا في أودية وجبال وسهول وأوعار
مدةَ عشرة أيام، وفي اليوم الحادي عشر وصل إلى القصر ودخل على أخواته ومعه الذي
أحضَرَه إليهن، فلما رأَيْنَه فرحْنَ به وهنَّأْنَه بالسلامة، وأما أخته فإنها
زيَّنت القصر ظاهره وباطنه. ثم إنهن أخذن الهدية وأنزلنه في مقصورة مثل العادة،
وسألْنَه عن والدته وعن زوجته، فأخبرهن أنها ولدَتْ منه ولدين. ثم إن أخته الصغيرة
لما رأته طيبًا بخير فرحت فرحًا شديدًا وأنشدت هذا البيت:
وَأَسْأَلُ
الرِّيحَ عَنْكُمْ كُلَّمَا خَطَرَتْ
وَغَيْرُكُمْ فِي فُؤَادِي قَطُّ مَا خَطَرَ
ثم
إنه أقام عندهن في الضيافة والكرامة مدةَ ثلاثة أَشْهُر، وهو في فرح وسرور وغِبْطة
وحبور وصيد وقنص. هذا ما كان من حديثه، وأما ما كان من حديث أمه وزوجته، فإنه لما
سافَرَ حسن أقامت زوجته يومًا وثانيًا مع أمه، وقالت لها في اليوم الثالث: سبحان
الله، هل أقعد معه ثلاث سنين ما أدخل الحمام؟ وبكَتْ، فرَّقت أمه لحالها وقالت
لها: يا بنتي، نحن هنا غرباء وزوجك ما هو في البلد، فلو كان حاضرًا كان يقوم
بخدمتك، أما أنا فلا أعرف أحدًا، ولكن يا بنتي أسخن لك الماء وأغسل رأسك في حمام
البيت. فقالت لها: يا سيدتي، لو قلتِ هذا القولَ لبعض الجواري كانت طلبت البيع في
السوق وما كانت تقعد عندكم، ولكن يا سيدتي إن الرجال معذورون، فإن عندهم غيرة
وعقولهم تقول لهم: إن المرأة إذا خرجَتْ من بيتها ربما تعمل فاحشةً، والنساء يا
سيدتي ما كلهن سواء، وأنتِ تعرفين أن المرأة إذا كان لها غرض في شيءٍ، ما يغلبها
أحدٌ ولا يقدر أن يحرص عليها ولا يصونها ولا يمنعها من الحمام ولا غيره، ولا من أن
تعمل كل ما تختاره. ثم إنها بكت ودعت على نفسها، وصارت تعدِّد على نفسها وغربتها،
فرقَّتْ لحالها أمُّ زوجها وعلمت أن كل ما قالته لا بد منه، فقامت وهيَّأَتْ حوائج
الحمام التي يحتاجان إليها، وأخذتها وراحت إلى الحمام.
فلما
دخلتا الحمام قلعتا ثيابهما، فصار النساء جميعًا ينظرْنَ إليها ويسبِّحْنَ الله عز
وجل، ويتأمَّلْنَ فيما خلق من الصورة البهية، وصار كلُّ مَن جاز من النساء على
الحمام يدخل ويتفرَّج عليها، وشاع في البلد ذِكْرها وازدحم النساء عليها، وصار
الحمام لا ينشق من كثرة النساء اللاتي فيه؛ فاتفق بسبب ذلك الأمر العجيب أنه حضر
إلى الحمام في ذلك اليوم جاريةٌ من جواري أمير المؤمنين هارون الرشيد يقال لها
تحفة العوادة، فرأت النساء في زحمة والحمام لا ينشق من كثرة النساء والبنات، فسألت
عن الخبر فأخبرْنَها بالصَّبِية، فجاءت عندها ونظرت إليها وتأمَّلت فيها، فتحيَّرَ
عقلها من حُسْنها وجمالها، وسبَّحت الله جل جلاله على ما خلق من الصور المِلَاح،
ولم تدخل ولم تغتسل وإنما صارت قاعدةً وباهتةً في الصَّبِية إلى أن فرغت الصَّبِية
من الغسل وخرجت لبست ثيابها، فزادت حُسْنًا على حُسْنها. فلما خرجت من الحرارة
قعدت على البساط والمساند، وصارت النساء ناظرات إليها، فالتفتَتْ إليهن وخرجت،
فقامت تحفة العوادة جارية الخليفة وخرجت معها حتى عرفت بيتها وودَّعتها ورجعت إلى
قصر الخليفة، وما زالت سائرة حتى وصلت بين أيادي السيدة زبيدة وقبَّلت الأرض بين
يديها، فقالت السيدة زبيدة: يا تحفة، ما سبب إبطائك في الحمام؟ فقالت: يا سيدتي،
رأيتُ أعجوبة ما رأيتُ مثلها في الرجال ولا في النساء، وهي التي شغلتني وأدهشت
عقلي وحيَّرتني، حتى إنني ما غسلت رأسي. فقالت: وما هي يا تحفة؟ قالت: يا سيدتي،
رأيت جاريةً في الحمام معها ولدان صغيران كأنهما قمران ما رأى أحد مثلها، لا قبلها
ولا بعدها، وليس مثل صورتها في الدنيا بأسرها، وحقِّ نعمتك يا سيدتي إنْ عرَّفتِ
بها أمير المؤمنين قتل زوجها وأخذها منه؛ لأنه لا يوجد مثلها واحدة من النساء، وقد
سألتُ عن زوجها فقالوا إن زوجها رجل تاجر اسمه حسن البصري، وتبعتُها من الحمام إلى
أن دخلت بيتها، فرأيته بيت الوزير الذي له بابان؛ باب من جهة البحر وباب من جهة
البر، وأنا أخاف يا سيدتي أن يسمع بها أمير المؤمنين فيخالف الشرع ويقتل زوجها
ويتزوَّج بها. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 795﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن جارية أمير المؤمنين لما رأت زوجة حسن البصري ووصفت
حُسْنها للسيدة زبيدة، قالت: يا سيدتي، إني أخاف أن يسمع بها أمير المؤمنين فيخالف
الشرع ويقتل زوجها ويتزوَّج بها. فقالت السيدة زبيدة: ويلك يا تحفة، هل بلغَتْ هذه
الجارية من الحُسْن والجمال أن أمير المؤمنين يبيع دينه بدنياه ويخالف الشَّرْعَ
لأجلها؟ والله لا بد لي من النظر إلى هذه الصبية، فإن لم تكن كما ذكرتِ أمرتُ بضرب
عنقك يا فاجرة، إن في سراية أمير المؤمنين ثلاثمائة وستين جاريةً بعدد أيام السنة،
ما فيهن واحدة بالصفات التي تذكرينها. فقالت: يا سيدتي، لا والله ولا في بغداد
بأسرها مثلها، بل ولا في العجم، ولا في العرب، ولا خلَقَ الله عزَّ وجل مثلَها.
فعند ذلك دعَتِ السيدة زبيدة بمسرور، فحضر وقبَّلَ الأرض بين يدَيْها، فقالت له:
يا مسرور، اذهبْ إلى دار الوزير التي ببابين؛ باب على البحر وباب على البر،
وَائْتِ بالصبية التي هناك هي وأولادها والعجوز التي عندها بسرعة ولا تُبطِئْ.
فقال مسرور: السمع والطاعة.
ثم
خرج من بين يدَيْها وسار حتى وصل إلى باب الدار، فطرق الباب فخرجَتْ له العجوز أم
حسن، وقالت: مَنْ بالباب؟ فقال لها: مسرور خادم أمير المؤمنين. ففتحَتِ الباب
ودخل، فسلَّمَ عليها وسلَّمت عليه وسألته عن حاجته، فقال لها: إن السيدة زبيدة بنت
القاسم زوجة أمير المؤمنين هارون الرشيد السادس من بني العباس عمِّ
النبي ﷺ تدعوكِ إليها أنتِ وزوجة ابنكِ وأولادها، فإن النساء أخبَرْنَها
عنها وعن حُسْنها. فقالت أم حسن: يا مسرور، نحن ناس غرباء، وزوج البنت ولدي وما هو
في البلد، ولم يأمرني بالخروج أنا ولا هي لأحدٍ من خلق الله تعالى، وأنا أخاف أن
يجري أمر ويحضر ولدي فيقتل روحه، فمن إحسانك يا مسرور ألَّا تكلِّفنا ما لا نطيق.
فقال مسرور: يا سيدتي، لو علمتُ أن في هذا خوفًا عليكم ما كلَّفْتُكم الرواح،
وإنما مرادُ السيدة أن تنظرها وترجع، فلا تخالفي تندمي، وكما آخذكم أردكم إلى هنا
سالمين إنْ شاء الله تعالى. فما قدرت أم حسن أن تخالفه، فدخلت وهيَّأت الصَّبِية
وأخرجتها هي وأولادها، وساروا خلف مسرور وهو قدامهم إلى قصر الخليفة، فطلع بهم حتى
أوقَفَهم قدام السيدة زبيدة؛ فقبَّلوا الأرض بين يديها ودَعَوْا لها، والصَّبِيةُ
مستورة الوجه، فقالت لها السيدة زبيدة: أَمَا تكشفين عن وجهك لأنظره؟ فقبَّلَتِ
الصَّبِية الأرضَ بين يديها وأسفرَتْ عن وجهٍ يُخجِل البدر في أفق السماء، فلما
نظرتها السيدة زبيدة شخصت إليها وسرحت فيها البصر، وأضاء القصر من نورها وضوء
وجهها، واندهشَتْ زبيدة من حُسْنها، وكذلك كلُّ مَن في القصر، وصار كلُّ مَن رآها
مجنونًا لا يقدر أن يكلِّمَ أحدًا.
ثم
إن السيدة زبيدة قامت وأوقفت الصبية وضمَّتْها إلى صدرها وأجلستها معها على
السرير، وأمرت أن يزيِّنوا القصر، ثم أمرت بأن يحضروا لها بدلةً من أفخر الملبوس،
وعقدًا من أنفس الجواهر، وألبسَتِ الصبية إياهما وقالت لها: يا سيدة الملاح، إنك
أعجبتِني وملأت عيني، أيُّ شيء عندك من الذخائر؟ فقالت الصبية: يا سيدتي، لي ثوب
ريش لو لبستُه بين يديك لَرأيتِ من أحسن الصنائع ما تتعجبين منه، ويتحدث بحُسْنه
كلُّ مَن يراه جيلًا بعد جيل. فقالت: وأين ثوبك هذا؟ قالت: هو عند أم زوجي فاطلبيه
لي منها. فقالت السيدة زبيدة: يا أمي، بحياتي عندك أن تنزلي وتأتي لها بثوبها
الريش حتى تفرِّجنا على الذي تعمله وخذيه ثانيًا. فقالت العجوز: يا سيدتي، هذه
كذَّابة، هل رأينا أحدًا من النساء له ثوب من الريش؟ فهذا لا يكون إلا للطيور.
فقالت الصَّبِية للسيدة زبيدة: وحياتك يا سيدتي، لي عندها ثوب ريش وهو في صندوق
مدفون في الخزانة التي في الدار. فقلعَتِ السيدة زبيدة من عنقها عقدَ جوهر يساوي
خزائنَ كسرى وقيصر، وقالت لها: يا أمي، خذي هذا العقد. وناولتها إياه وقالت لها:
بحياتي أن تنزلي وتأتي بذلك الثوب لنتفرَّج عليه، وخذيه بعد ذلك. فحلفت لها أنها
ما رأت هذا الثوب ولا تعرف له طريقًا، فصرخت السيدة زبيدة على العجوز وأخذت منها
المفتاح، ونادت مسرورًا فحضر فقالت له: خُذْ هذا المفتاح واذهب إلى الدار، وافتحها
وادخل الخزانة التي بابها كذا وكذا، وفي وسطها صندوق فأطلعه واكسره، وهات الثوب
الريش الذي فيه، وأَحْضِره بين يدي. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام
المباح.
﴿اللیلة 796﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن السيدة زبيدة لما أخذت المفتاح من أم حسن وأعطته
لمسرور، وقالت له: خذ هذا المفتاح وافتح الخزانة الفلانية، وأطلع منها الصندوق
واكسره، وأطلع منه الثوب الريش الذي فيه وأَحْضِره بين يدي. قال: سمعًا وطاعة. ثم
إنه تناول المفتاح من يد السيدة زبيدة وسار، فقامت معه العجوز أم حسن وهي باكية
العين ندمانة على مطاوعة الجارية ورواحها الحمام معها، ولم تكن الصَّبِية طلبت
الحمام إلا مكيدةً. ثم إن العجوز دخلت هي ومسرور وفتحت باب الخزانة، فدخل وأخرَجَ
الصندوق وأخرَجَ منه القميص الريش ولفَّه معه في فوطة، وأتى به إلى السيدة زبيدة،
فأخذته وقلَّبَتْه وقد تعجَّبَتْ من حُسْن صناعته، ثم ناولَتْه لها وقالت لها: هل
هذا ثوبك الريش؟ قالت: نعم يا سيدتي. ومدت الصَّبِية يدَها إليه وأخذته منها وهي
فرحانة. ثم إن الصبية تفقَّدَتْه فرأته صحيحًا كما كان عليها، ولم يَضِعْ منه
ريشة، ففرحت به وقامت من جنب السيدة زبيدة وأخذت القميص وفتحته، وأخذت أولادها في
حضنها واندرجت فيه، وصارت طيرة بقدرة الله عز وجل؛ فتعجَّبَتِ السيدة زبيدة من
ذلك، وكذلك كلُّ مَن حضر، وصار الجميع يتعجبون من فعلها. ثم إن الصبية تمايلت
وتمشَّتْ ورقصت ولعبت، وقد شخص لها الحاضرون وتعجَّبوا من فعلها، ثم قالت لهم
بلسان فصيح: يا سادتي، هل هذا مليح؟ فقال لها الحاضرون: نعم يا سيدة المِلَاح، كل
ما فعلتِه مليح. ثم قالت لهم: وهذا الذي أعمله أحسن منه يا سادتي. وفتحت أجنحتها
وطارت بأولادها وصارت فوق القبة، ووقفت على سطح القاعة فنظروا إليها بالأحداق،
وقالوا لها: والله إن هذه صنعة غريبة مليحة ما رأيناها قطُّ. ثم إن الصبية لما
أرادَتْ أن تطير إلى بلادها تذكَّرَتْ حَسَنًا، وقالت: اسمعوا يا ساداتي. وأنشدت
هذه الأبيات:
يَا
مَنْ خَلَا عَنْ ذِي الدِّيَارِ وَسَارَ
نَحْوَ الْحَبَائِبِ مُسْرِعًا فَرَّارَا
أَتَظُنُّ
أَنِّي فِي نَعِيمٍ بَيْنَكُمْ
وَالْعَيْشُ مِنْكُمْ لَمْ يَكُنْ أَكْدَارَا
لَمَّا
أُسِرْتُ وَصِرْتُ فِي شَرَكِ الْهَوَى
جَعَلَ الْهَوَى سِجْنِي وَشَطَّ مَزَارَا
لَمَّا
اخْتَفَى ثَوْبِي تَيَقَّنَ أَنَّنِي
لَمْ أَدْعُ فِيهِ الْوَاحِدَ الْقَهَّارَا
قَدْ
صَارَ يُوصِي أُمَّهُ بِحِفَاظِهِ
فِي مَخْدَعٍ وَعَدَا عَلَيَّ وَجَارَ
فَسَمِعْتُ
مَا قَالُوهُ ثُمَّ حَفِظْتُهُ
وَرَجَوْتُ خَيْرًا زَائِدًا مِدْرَارَا
فَرَوَاحِيَ
الْحَمَّامَ كَانَ وَسِيلَةً حَتَّى
غَدَتْ فِيَّ الْعُقُولُ حَيَارَى
وَتَعَجَّبَتْ
عِرْسُ الرَّشِيدِ لِبَهْجَتِي إِذْ
شَاهَدَتْنِي يَمْنَةً وَيَسَارَا
نَادَيْتُ
يَا امْرَأَةَ الْخَلِيفَةِ إِنَّ لِي
ثَوْبًا مِنَ الرِّيشِ الْعَلِيِّ فَخَارَا
لَوْ
كَانَ فَوْقِي تَنْظُرِينَ عَجَائِبًا
تَمْحُو الْعَنَا وَتُبَدِّدُ الْأَكْدَارَا
فَاسْتَفْسَرَتْ
عِرْسُ الْخَلِيفَةِ أَيْنَ ذَا
فَأَجَبْتُ فِي دَارِ الَّذِي قَدْ دَارَى
فَانْقَضَّ
مَسْرُورٌ وَحَضَّرَهُ لَهَا
وَإِذَا بِهِ قَدْ أَشْرَقَ الْأَنْوَارَا
فَأَخَذْتُهُ
مِنْ كَفِّهِ وَفَتَحْتُهُ
وَرَأَيْتُ مِنْهُ الْجَيْبَ وَالْأَزْرَارَا
فَدَخَلْتُ
فِيهِ ثُمَّ أَوْلَادِي مَعِي
وَفَرَدْتُ أَجْنِحَتِي وَطِرْتُ فِرَارَا
يَا
أُمَّ زَوْجِي أَخْبِرِيهِ إِذَا أَتَى
إِنْ حَبَّ وَصْلِي فَلْيُفَارِقْ دَارَا
فلما
فرغَتْ من شعرها قالت لها السيدة زبيدة: أَمَا تنزلين عندنا حتى نتملَّى بحُسْنك
يا سيدة المِلَاح؟ فسبحان مَن أعطاك الفصاحة والصباحة! قالت: هيهات أن يرجع ما
فات. ثم قالت لأم حسن الحزين المسكين: والله يا سيدتي يا أم حسن، إنك توحشينني،
فإذا جاء ولدك وطالت عليه أيام الفراق، واشتهى القُرْبَ والتلاق، وهزَّتْه أرياح
المحبة والأشواق، فَلْيَجِئْني إلى جزائر واق. ثم طارت هي وأولادها وطلبت بلادها،
فلما رأت أم حسن ذلك بكت ولطمت وجهها وانتحبت حتى غُشِي عليها، فلما أفاقت قالت
لها السيدة زبيدة: يا سيدتي الحاجة، ما كنتُ أعرف أن هذا يجري، ولو كنتِ أخبرتِني
به ما كنتُ أتعرَّض لكِ، وما عرفتُ أنها من الجن الطيَّارة إلا في هذا الوقت، ولو
عرفتُ أنها على هذه الصفة ما كنتُ مكَّنْتُها من لبس الثوب، ولا كنتُ أخليها تأخذ
أولادها، ولكن يا سيدتي اجعليني في حِلٍّ. فقالت العجوز، وما وجدَتْ في يدها حيلةً:
أنتِ في حِلٍّ. ثم خرجت من قصر الخلافة، ولم تَزَلْ سائرة حتى دخلت بيتها، وصارت
تلطم على وجهها حتى غُشِي عليها، فلما أفاقت من غشيتها استوحشت إلى الصَّبِية وإلى
أولادها وإلى رؤية ولدها، فأنشدت هذه الأبيات:
يَوْمَ
الْفِرَاقِ بِعَادُكُمْ أَبْكَانِي
أَسَفًا لِبُعْدِكُمُ عَنِ الْأَوْطَانِ
نَادَيْتُ
مِنْ أَلَمِ الْفِرَاقِ بِحُرْقَةٍ
وَالدَّمْعُ قَرَّحَ بِالْبُكَا أَجْفَانِي
هَذَا
الْفِرَاقُ فَهَلْ لَنَا مِنْ عَوْدَةٍ
فَلَقَدْ أَزَالَ فِرَاقُكُمْ كِتْمَانِي
يَا
لَيْتَهُمْ عَادُوا إِلَى حُسْنِ الْوَفَا
فَلَعَلَّ إِنْ عَادُوا يَعُودُ زَمَانِي
ثم
قامت وحفرت في البيت ثلاثة قبور، وأقبلت عليها بالبكاء آناءَ الليل وأطراف النهار،
وحين طالت غيبة ولدها وزاد بها القلق والشوق والحزن، أنشدت هذه الأبيات:
خَيَالُكَ
بَيْنَ طَابِقَةِ الْجُفُونِ وَذِكْرُكَ
فِي الْخَوَافِقِ وَالسُّكُونِ
وَحُبُّكَ
قَدْ جَرَى فِي الْعَظْمِ مِنِّي
كَجَرْيِ الْمَاءِ فِي ثَمَرِ الْغُصُونِ
وَيَوْمٌ
لَا أَرَاكَ يَضِيقُ صَدْرِي
وَتَعْذِرُنِي الْعَوَاذِلُ فِي شُجُونِي
أَيَا
مَنْ قَدْ تَمَلَّكَنِي هَوَاهُ وَزَادَ
عَلَى مَحَبَّتِهِ جُنُونِي
خَفِ
الرَّحْمَنَ فِيَّ وَكُنْ رَحِيمًا
هَوَاكَ أَذَاقَنِي رَيْبَ الْمَنُونِ
وأدرك
شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 797﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن أم حسن صارت تبكي آناء الليل وأطراف النهار لفراق
ولدها وزوجته وأولاده. هذا ما كان من أمرها، وأما ما كان من أمر ولدها حسن، فإنه
لما وصل إلى البنات حلفن عليه أن يقيم عندهن ثلاثة أشهر، ثم بعد ذلك جهَّزْنَ له
المال وهيَّأْنَ له عشرة أحمال؛ خمسة من الذهب، وخمسة من الفضة، وهيَّأْنَ له من
الزاد حملًا واحدًا، وسفَّرْنَه وخرجْنَ معه، فحلف عليهن أن يرجعْنَ، فأقبلْنَ على
عناقه من أجل التوديع، فتقدَّمت إليه البنت الصغيرة وعانَقَتْه وبكَتْ حتى غُشِيَ
عليها، وأنشدت هذين البيتين:
مَتَى
تَنْطَفِي نَارُ الْفِرَاقِ بِقُرْبِكُمْ
وَنَقْضِي عَلَى الْفِرْقَةِ وَنَبْقَى كَمَا كُنَّا
لَقَدْ
رَاعَنِي يَوْمَ الْفِرَاقِ وَضَرَّنِي
وَقَدْ زَادَنِي التَّوْدِيعُ يَا سَادَتِي وَهْنَا
ثم
تقدَّمت البنت الثانية وعانقته، وأنشدت هذين البيتين:
وَدَاعُكَ
مِثْلُ وَدَاعِ الْحَيَاةِ
وَفَقْدُكَ يُشْبِهُ فَقْدَ النَّدِيمِ
وَبُعْدُكَ
نَارٌ كَوَتْ مُهْجَتِي وَقُرْبُكَ
عِنْدِي أَرْضُ النَّعِيمِ
ثم
تقدَّمت الثالثة وعانقته، وأنشدت هذين البيتين:
مَا
تَرَكْنَا الْوَدَاعَ يَوْمَ افْتَرَقْنَا
عَنْ مَلَالٍ وَلَا لِوَجْهٍ قَبِيحِ
أَنْتَ
رُوحِي عَلَى الْحَقِيقَةِ قَطْعًا
كَيْفَ أَخْتَارُ أَنْ أُوَدِّعَ رُوحِي
ثم
تقدَّمت البنت الرابعة وعانقته، وأنشدت هذين البيتين:
لَمْ
يُبْكِنِي إِلَّا حَدِيثُ فِرَاقِهِ
لَمَّا أَسَرَّ بِهِ إِلَيَّ مُوَدِّعِي
هُوَ
ذَلِكَ الْقَوْلُ الَّذِي أَوْدَعْتَهُ
فِي مَسْمَعِي أَجْرَيْتَهُ مِنْ مَدْمَعِي
ثم
تقدَّمت البنت الخامسة وعانقته، وأنشدت هذين البيتين:
لَا
تَرْحَلَنَّ فَعَنْكُمْ لَيْسَ لِي جَلَدٌ
كَيْمَا أُوَدِّعَكُمْ تَوْدِيعَ مُرْتَحَلِ
وَلَا
مِنَ الصَّبْرِ مَا أَلْقَى الْفِرَاقَ بِهِ وَلَا مِنَ الدَّمْعِ مَا أُذْرِي عَلَى
طَلَلِ
ثم
تقدَّمت البنت السادسة وعانقته، وأنشدت هذين البيتين:
قَدْ
قُلْتُ مُذْ سَارَ السَّفِينُ بِهِمْ
وَالشَّوْقُ يَنْهَبُ مُهْجَتِي نَهْبَا
لَوْ
كَانَ لِي مُلْكٌ أَصُولُ بِهِ
لَأَخَذْتُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبَا
ثم
تقدَّمت البنت السابعة وعانقته، وأنشدت هذين البيتين:
إِذَا
رَأَيْتَ الْوَدَاعَ فَاصْبِرْ
وَلَا يَهُولَنَّكَ الْبِعَادُ
تَرَقَّبِ
الْعَوْدَ عَنْ قَرِيبٍ فَإِنْ
هَجَرْتَ الْوَدَاعَ عَادُوا
ثم
إن حسنًا ودَّعهن وبكى إلى أن غُشِي عليه بسبب فراقهم، وأنشَدَ هذه الأبيات:
وَلَقَدْ
جَرَتْ يَوْمَ الْفِرَاقِ سَوَامِحِي
دُرَرًا نَظَمْتُ عُقُودَهَا مِنْ أَدْمُعِي
وَحَدَا
بِهِمْ حَادِي الرِّكَابِ فَلَمْ أَجِدْ
جَلَدًا وَلَا صَبْرًا وَلَا قَلْبِي مَعِي
وَدَّعْتُهُمْ
ثُمَّ انْثَنَيْتُ بِحَسْرَةٍ
وَتَرَكْتُ أُنْسَ مَعَاهِدِي وَالْأَرْبُعِ
فَرَجَعْتُ
لَا دَرَّ الطَّرِيقُ وَلَمْ تَطِبْ
نَفْسِي سِوَى أَنِّي أَرَاكَ بِمَرْجِعِي
يَا
صَاحِبِي أَنْصِتْ لِأَخْبَارِ الْهَوَى
حَاشَى لِقَلْبِكَ أَنْ أَقُولَ وَلَا يَعِي
يَا
نَفْسُ مُذْ فَارَقْتِهِنَّ فَفَارِقِي
طِيبَ الْحَيَاةِ وَفِي الْبَقَا لَا تَطْمَعِي
ثم
إنه جَدَّ في المسير ليلًا ونهارًا حتى وصل إلى بغداد دار السلام وحرم الخلافة
العباسية، ولم يَدْرِ بالذي جرى بعد سفره، فدخل الدار على والدته ليسلِّم عليها،
فرآها قد انتحل جسمها ورقَّ عظمها من كثرة النوح والسهر والبكاء والعويل، حتى صارت
مثل الخلال، ولم تقدر أن تردَّ الكلام، فصرف النجائب وتقدَّمَ إليها، فلما رآها
على تلك الحالة قام في الدار وفتَّشَ على زوجته وعلى أولاده، فلم يجد لهم أثرًا،
ثم إنه نظر في الخزانة فوجدها مفتوحة والصندوق مفتوحًا، ولم يجد فيه الثوب؛ فعند
ذلك عرف أنها تمكَّنت من الثوب الريش وأخذته وطارت، وأخذت أولادها معها، فرجع إلى
أمه فرآها قد أفاقت من غشيتها، فسألها عن زوجته وعن أولاده، فبكت وقالت: يا ولدي،
عظَّمَ الله أجرك فيهم، وهذه قبورهم الثلاثة. فلما سمع كلام أمه صرخ صرخةً عظيمة،
وخرَّ مَغْشِيًّا عليه، واستمر كذلك من أول النهار إلى الظهر، فازدادت أمه غمًّا
على غمها، وقد يئست من حياته، فلما أفاق بكى ولطم على وجهه، وشقَّ ثيابه وصار
دائرًا في الدار متحيِّرًا، ثم إنه أنشد هذين البيتين:
شَكَا
أَلَمَ الْفِرَاقِ النَّاسُ قَبْلِي
وَرُوِّعَ بِالنَّوَى حَيٌّ وَمَيْتُ
وَأَمَّا
مِثْلُ مَا ضَمَّتْ ضُلُوعِي
فَإِنِّي لَا سَمِعْتُ وَلَا رَأَيْتُ
فلما
فرغ من شعره أخذ سيفه وسَلَّه، وجاء إلى أمه وقال لها: إنْ لم تُعلِميني بحقيقة
الحال ضربتُ عنقكِ وقتلتُ روحي. فقالت له: يا ولدي، لا تفعل ذلك وأنا أخبرك. ثم
قالت له: أغمِدْ سيفك واقعدْ حتى أحدِّثَك بالذي جرى. فلما أغمَدَ سيفه وجلس إلى
جانبها أعادت عليه القصة من أولها إلى آخِرها، وقالت له: يا ولدي، لولا أني رأيتها
بكَتْ على طلب الحمَّام، وخفتُ منك أن تجيء وتشكو إليك فتغضب عليَّ، ما كنتُ ذهبت
بها إليه، ولولا أن السيدة زبيدة غضبت عليَّ وأخذت مني المفتاح قهرًا ما كنتُ
أخرجت الثوب، ولو كنتُ أموت. ويا ولدي، أنت تعرف أن يد الخلافة لا تطاولها يد،
فلما أحضروا لها الثوب أخذته وقلَّبته وكانت تظن أنه فُقِد منه شيء، فوجدته لم
يُصِبْه شيءٌ، ففرحت وأخذت أولادها وشدَّتْهم في وسطها، ولبست الثوب الريش بعدما
قلعت لها السيدة زبيدة كلَّ ما عليها إكرامًا لها ولجمالها، فلما لبست الثوب الريش
انتفضت وصارت طيرة، ومشت في القصر وهم ينظرون إليها ويتعجبون من حُسْنها وجمالها،
ثم طارت وصارت فوق القصر، وبعد ذلك نظرت إليَّ وقالت لي: إذا جاء ولدك وطالت عليه
ليالي الفراق، واشتهى القُرْبَ مني والتلاق، وهزَّتْه أرياح المحبة والأشواق،
فَلْيفارِقْ وطنه ويذهب إلى جزائر واق. هذا ما كان من حديثها في غيبتك. وأدرك
شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 798﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن حسنًا لما سمع كلام أمه حين حكَتْ له جميع ما فعلَتْ
زوجته وقتما طارت، صرخ صرخة عظيمة ووقع مَغْشِيًّا عليه، ولم يزل كذلك إلى آخِر
النهار، فلما أفاق لطم على وجهه وصار يتقلَّب على الأرض مثل الحية، فقعدت أمه تبكي
عند رأسه إلى نصف الليل، فلما أفاق من غشيته بكى بكاءً عظيمًا وأنشد هذه الأبيات:
قِفُوا
وَانْظُرُوا حَالَ الَّذِي تَهْجُرُونَهُ
لَعَلَّكُمُ بَعْدَ الْجَفَا تَرْحَمُونَهُ
فَإِنْ
تَنْظُرُوهُ تُنْكِرُوهُ لِسَقْمِهِ
كَأَنَّكُمُ وَاللهِ لَا تَعْرِفُونَهُ
وَمَا
هُوَ إِلَّا مَيِّتٌ فِي هَوَاكُمُ
يُعَدُّ مِنَ الْأَمْوَاتِ إِلَّا أَنِينَهُ
وَلَا
تَحْسَبُوا أَنَّ التَّفَرُّقَ هَيِّنٌ
يَعِزُّ عَلَى الْمُشْتَاقِ وَالْمَوْتُ دُونَهُ
فلما
فرغ من شعره قام وجعل يدور في البيت، وينوح ويبكي وينتحب مدة خمسة أيام، ولم
يَذُقْ فيها طعامًا ولا شرابًا، فقامت إليه أمه وحلَّفته وأقسمت عليه أن يسكت من
البكاء، وهو لا يقبل كلامها، وما زال يبكي وينتحب وأمه تُسْلِيه وهو لا يسمع منها
شيئًا، ثم أنشد هذه الأبيات:
أَكَذَا
يُجَازَى وُدُّ كُلِّ قَرِينِ أَمْ
هَذِهِ شِيَمُ الظِّبَاءِ الْعِينِ
أَفَمَا
بُيُوتُ النَّحْلِ بَيْنَ شِفَاهِهِمْ
مَنْضُوضَةٌ أَوْ حَانَةُ الزَّرْجُونِ
قُصُّوا
عَلَيَّ حَدِيثَ مَنْ قَتَلَ الْهَوَى
إِنَّ التَّأَسِّي رُوحُ كُلِّ حَزِينِ
وَوَرَاءَ
ذَيَّاكِ الْمُصَلَّى مَوْرِدٌ
حَصَبْاؤُهُ مِنْ لُؤْلُؤٍ مَكْنُونِ
لَوْ
كُنْتُ زَرْقَاءَ الْيَمَامَةِ مَا رَأَتْ
مِنْ بَارِقٍ حَيًّا عَلَى جَيْرُونِ
تَرْمِي
بِعَيْنَيْكَ الْفُجَاجَ مُقَلِّبًا
ذَاتَ الشِّمَالِ بِهَا وَذَاتَ يَمِينِ
وما
زال حسن على هذه الحالة يبكي إلى الصباح، ثم إنه أغفَتْ عيناه فرأى زوجته حزينةً
وهي تبكي، فقام من نومه وهو صارخ وأنشد هذين البيتين:
خَيَالُكِ
عِنْدِي لَيْسَ يَبْرَحُ سَاعَةً
جَعَلْتُ لَهُ فِي الْقَلْبِ أَشْرَفَ مَوْضِعِ
وَلَوْلَا
رَجَاءُ الْوَصْلِ مَا عِشْتُ لَحْظَةً
وَلَوْلَا خَيَالُ الطَّيْفِ لَمْ أَتَهَجَّعِ
فلما
أصبح الصباح زاد نحيبه وبكاؤه، ولم يزل باكيَ العين، حزينَ القلب، ساهر الليل،
قليل الأكل، واستمر على هذه الحالة مدة شهر كامل، فلما مضى ذلك الشهر خطر بباله
أنه يسافر إلى أخواته لأجل أن يساعِدْنَه على قصده من حصولها، فأحضَرَ النجائب ثم
حمَّلَ هجينةً من تحف العراق وركب واحدة منها، ثم أوصى والدته على البيت وأودَعَ
جميع حوائجه إلا قليلًا أبقاه في الدار، ثم سار متوجِّهًا إلى أخواته لعله أن يجد
عندهن مساعدة على اجتماع زوجته. ولم يزل سائرًا حتى وصل إلى قصر البنات في جبل
السحاب، فلما دخل عليهن قدَّمَ إليهن الهدايا، ففَرِحْنَ بها وهنَّأْنَه بالسلامة،
وقلن له: يا أخانا، ما سبب مجيئك بسرعة، وما لك غير شهرين؟ فبكى وأنشَدَ هذه الأبيات:
أَرَى
النَّفْسَ فِي فِكْرٍ لِفَقْدِ حَبِيبِهَا
فَلَا تَتَهَنَّى بِالْحَيَاةِ وَطِيبِهَا
سَقَامِيَ
دَاءٌ لَيْسَ يُعْرَفُ طِبُّهِ
وَهَلْ يُبْرِئُ الْأَسْقَامَ غَيْرُ طَبِيبِهَا
فَيَا
مَانِعِي طِيبَ الْمَنَامِ تَرَكْتَنِي
أُسَائِلُ عَنْكَ الرِّيحَ عِنْدَ هُبُوبِهَا
قَرِيبَةُ
عَهْدٍ مِنْ حَبِيبِي وَقَدْ حَوَى
مَحَاسِنَ تَدْعُو مُقْلَتِي لِصَبِيبِهَا
فَيَا
أَيُّهَا الشَّخْصُ الْمُلِمُّ بِأَرْضِهِ
عَسَى نَفْحَةٌ تُحْيِي الْقُلُوبَ بِطِيبِهَا
فلما
فرغ من شعره صرخ صرخة عظيمة وخرَّ مَغْشِيًّا عليه، وقعدت البنات حوله يبكين عليه
حتى أفاق من غشيته، فلما أفاق أنشد هذين البيتين:
عَسَى
وَلَعَلَّ الدَّهْرَ يَلْوِي عِنَانَهُ
وَيَأْتِي بِحِبِّي وَالزَّمَانُ غَيُورُ
وَيُسْعِدُنِي
دَهْرِي فَتُقْضَى حَوَائِجِي
وَتَحْصُلُ مِنْ بَعْدِ الْأُمُورِ أُمُورُ
فلما
فرغ من شعره بكى حتى غُشِي عليه، فلما أفاق أنشد هذين البيتين:
بِاللهِ
يَا مُنْتَهَى سَقْمِي وَأَمْرَاضِي
هَلْ أَنْتَ رَاضٍ فَإِنِّي فِي الْهَوَى رَاضِ
أَتَهْجُرِينَ
بِلَا ذَنْبٍ وَلَا سَبَبٍ
فَوَاصِلِي وَارْحَمِي مِنْ هَجْرِكِ الْمَاضِي
فلما
فرغ من شعره بكى حتى غُشِي عليه، فلما أفاق أنشد هذه الأبيات:
هَجَرَ
الْمَنَامَ وَوَاصَلَ التَّسْهِيدَ
وَالْعَيْنُ بِالدَّمْعِ الْمَصُونِ تَجُودُ
تَبْكِي
بِدَمْعٍ كَالْعَقِيقِ صَبَابَةً
يَرْبُو عَلَى طُولِ الْمَدَى وَيَزِيدُ
أَهْدَى
إِلَيَّ الشَّوْقُ يَا أَهْلَ الْهَوَى
نَارًا لَهَا بَيْنَ الضُّلُوعِ وَقُودُ
وَإِذَا
ذَكَرْتُكِ لَمْ تَفِضْ لِي دَمْعَةٌ
إِلَّا وَفِيهَا بَارِقٌ وَرُعُودُ
فلما
فرغ من شعره بكى حتى غُشِي عليه، فلما أفاق من غشيته أنشد هذه الأبيات:
أَفِي
الْعِشْقِ وَالتَّبْرِيحِ دُنْتُمْ كَمَا دُنَّا وَهَلْ وُدُّنَا مِنْكُمْ كَمْا
وُدُّكُمْ مِنَّا
أَلَا
قَاتَلَ اللهُ الْهَوَى مَا أَمَرَّهُ
فَيَا لَيْتَ شِعْرِي مَا يُرِيدُ الْهَوَى مِنَّا
وُجُوهُكُمُ
الْحَسْنَاءُ إِنْ شَطَّتِ النَّوَى
تَمَثَّلُ فِي أَبْصَارِنَا أَيْنَمَا كُنَّا
فَقَلْبِيَ
مَشْغُولٌ بِتَذْكَارِ حَيِّكُمْ
وَيُطْرِبُنِي صَوْتُ الْحَمَامِ إِذَا غَنَّى
أَلَا
يَا حَمَامًا بَاتَ يَدْعُو أَلِيفَهُ
لَقَدْ زِدْتَنِي شَوْقًا وَأَصْحَبْتَنِي حُزْنَا
تَرَكْتَ
جُفُونِي لَا تَمَلُّ مِنَ الْبُكَا
عَلَى سَادَةٍ غَابُوا بِرُؤْيَتِهِمْ عَنَّا
أَحِنُّ
إِلَيْهِمْ كُلَّ وَقْتٍ وَسَاعَةٍ
وَأَشْتَاقُهُمْ فِي اللَّيْلِ وَاللَّيْلُ قَدْ جَنَّ
فلما
سمعَتْ كلامَه أختُه، خرجَتْ إليه فرأته راقدًا مَغْشِيًّا عليه، فصرخت ولطمت
وجهها، فسمعها أخواتها فخرجْنَ إليها، فرأيْنَ حسنًا راقدًا مَغْشِيًّا عليه،
فاحتطْنَ به وبكين عليه، ولم يَخْفَ عليهن حين رأينه ما حلَّ به من الوَجْد
والهيام والشوق والغرام، فسألنه عن حاله، فبكى وأخبرهن بما جرى له في غيابه حيث
طارت زوجته وأخذت أولادها معها، فحَزِنَّ عليها وسألْنَه عن الذي قالت عندما راحت،
قال: يا أخواتي إنها قالت لوالدتي: قولي لولدك إذا جاء وطالت عليه ليالي الفراق،
واشتهى القُرْبَ مني والتلاق، وهزَّتْه أرياح المحبة والأشواق، فَلْيَجِئني إلى
جزائر واق. فلما سمعن كلامه تغامزْنَ وتذكَّرْنَ، وصارت كل واحدة تنظر إلى أختها
وحسن ينظرهن، ثم أطرقْنَ برءوسهن إلى الأرض ساعة، وبعد ذلك رفعْنَها وقلن: لا حول
ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ثم قلن له: امدُدْ يدَكَ إلى السماء، فإنْ وصلت
إلى السماء تصل إلى زوجتك. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 799﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن البنات لما قلنَ لحسن: امدُدْ يدك إلى السماء، فإنْ
وصلَتْ إليها تصل إلى زوجتك وأولادك. جرَتْ دموعه على خديه مثل المطر حتى بلت
ثيابه، وأنشَدَ هذه الأبيات:
قَدْ
هَيَّجَتْنِي الْخُدُودُ الْحُمْرُ وَالْحَدَقُ وَفَارَقَ الصَّبْرُ لَمَّا أَقْبَلَ
الْأَرَقُ
بِيضٌ
نَوَاعِمُ أَضَنَتْ بِالْجَفَا جَسَدِي
لَمْ يَبْقَ مِنْهُ لِأَبْصَارِ الْوَرَى رَمَقُ
حُورٌ
تَمِيسُ كَغِزْلَانِ النَّقَا سَفَرَتْ
عَنْ بَهْجَةٍ لَوْ رَآهَا الْأَوْلِيَا عَلِقُوا
يَمْشِينَ
مِثْلَ نَسِيمِ الرَّوْضِ فِي سَمَرٍ
بِعِشْقِهِنَّ عَرَانِي الهَّمُّ وَالْقَلَقُ
عَلَّقْتُ
مِنْهُنَّ آمَالِي بِغَانِيَةٍ
قَلْبِي لَهَا بِلَظَى النِّيرَانِ يَحْتَرِقُ
خَوْدَاءُ
نَاعِمَةُ الْأَطْرَافِ مَايِسَةٌ
فِي وَجْهِهَا الصُّبْحُ بَلْ فِي شَعْرِهَا الْغَسَقُ
قَدْ
هَيَّجَتْنِي وَكَمْ فِي الْحُبِّ مِنْ بَطَلٍ قَدْ هَيَّجَتْهُ جُفُونُ الْبِيضِ
وَالْحَدَقُ
فلما
فرغ من شعره بكى وبكت البنات لبكائه، وأخذتهن الشفقة والغيرة عليه، وصِرْنَ
يتلطَّفْنَ به ويصبِّرْنَه ويدعِينَ له بجمع الشمل، فأقبلَتْ عليه أخته وقالت له:
يا أخي، طِبْ نفسًا وقرَّ عينًا، واصبر تبلغ مرادك، فمَنْ صبَرَ وتأنَّى نالَ ما
تمنَّى، والصبر مفتاح الفرج؛ فقد قال الشاعر:
دَعِ
الْمَقَادِيرَ تَجْرِي فِي أَعِنَّتِهَا
وَلَا تَبِيتَنَّ إِلَّا خَالِيَ الْبَالِ
مَا
بَيْنَ غَمْضَةِ عَيْنٍ وَانْتِبَاهَتِهَا
يُغَيِّرُ اللهُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالِ
ثم
قالت له: قوِّ قلبك واشدُدْ عزمك، فإن ابن عشرة لا يموت وهو في تسعة، والبكاء
والغم والحزن تمرض وتسقم، واقعد عندنا حتى تستريح، وأنا أتحيَّلُ لك في الوصول إلى
زوجتك وأولادك إنْ شاء الله تعالى. فبكى بكاءً شديدًا وأنشَدَ هذين البيتين:
لَئِنْ
عُوفِيتُ مِنْ مَرَضٍ بِجِسْمِي
فَمَا عُوفِيتُ مِنْ مَرَضٍ بِقَلْبِي
وَلَيْسَ
دَوَاءُ أَمْرَاضِ التَّصَابِي سِوَى وَصْلِ الْحَبِيبِ مَعَ الْمُحِبِّ
ثم
جلس إلى جانب أخته وصارت تحدِّثه وتسليه وتسأله عن الذي كان سببًا في رواحها،
فأخبرها عن سبب ذلك، فقالت له: والله يا أخي إني أردتُ أن أقول لك أحرق الثوبَ
الريش، فأنساني الشيطان ذلك. وصارت تحدِّثه وتلاطفه، فلما طال عليه الأمر وزاد به
القلق، أنشد هذه الأبيات:
تَمَكَّنَ
مِنْ قَلْبِي حَبِيبٌ أَلِفْتُهُ
وَلَيْسَ لِمَا قَدْ قَدَّرَ اللهُ مَدْفَعُ
مِنَ
الْعُرْبِ قَدْ حَازَ الْمَلَاحَةَ كُلَّهَا غَزَالٌ وَلَكِنْ فِي فُؤَادِيَ يَرْتَعُ
لَئِنْ
عَزَّ صَبْرِي فِي هَوَاهُ وَحِيلَتِي
بَكَيْتُ عَلَى أَنَّ الْبُكَا لَيْسَ يَنْفَعُ
مَلِيحٌ
لَهُ سَبْعٌ وَسَبْعٌ كَأَنَّهُ
هِلَالٌ لَهُ خَمْسٌ وَخَمْسٌ وَأَرْبَعُ
فلما
نظرت أخته إلى ما هو فيه من الوَجْد والهيام، وتباريح الهوى والغرام، قامت إلى
أخواتها وهي باكية العين حزينة القلب، وبكت بين أيديهن ورمَتْ نفسها عليهن،
وقبَّلت أقدامهن وسألتهن مساعدةَ أخيها على قضاء حاجته، واجتماعه بأولاده وزوجته،
وعاهدتهن على أن يدبِّرْنَ أمرًا يوصله إلى جزائر واق. وما زالت تبكي بين يدي
أخواتها حتى أبكتهن وقلن لها: طيبي قلبك، فإننا مجتهدات في اجتماعه بأهله إن شاء
الله. ثم إنه أقام عندهن سنةً كاملة وعينه لم تُمسِك عن الدموع، وكان لأخواته عمٌّ
أخو والدهن شقيقه، وكان اسمه عبد القدوس، وكان يحب البنت الكبيرة محبةً كثيرة،
وكان في كل سنة يزورها مرة واحدة ويقضي حوائجها، وكانت البنات قد حدَّثْنَه بحديث
حسن وما وقع له مع المجوسي، وكيف قدر على قتله، ففرح عمهن بذلك ودفع للبنت الكبيرة
صرَّةً فيها بخور، وقال لها: يا بنت أخي، إذا أهَمَّكِ أمرٌ ونالَكِ مكروهٌ، أو
عرضَتْ لكِ حاجة، فأَلْقِي هذا البخورَ في النار واذكريني فإني أحضر لك بسرعةٍ
وأقضي حاجتك. وكان هذا الكلام في أول يوم من السنة، فقالت تلك البنت لبعض أخواتها:
إن السنة مضَتْ بتمامها وعمي لم يحضر، قومي اقدحي الزناد وائتيني بعلبة البخور.
فقامت البنت وهي فرحانة وأحضرت علبة البخور وفتحَتْها وأخذت منها شيئًا يسيرًا
وناوَلَتْه لأختها، فأخذته ورَمَتْه في النار وذكرت عمها، فما فرغ البخور إلا
وغبرة قد ظهرت من صدر الوادي، ثم بعد ساعة انكشف الغبار فبانَ من تحته شيخ راكب
على فيل وهو يصيح من تحته، فلما نظرَتْه البنات صار يشير إليهن بيدَيْه ورجلَيْه،
ثم بعد ساعة وصل إليهن فنزل عن الفيل ودخل عليهن، فعانقْنَه وقبَّلْنَ يديه
وسلَّمْنَ عليه، ثم إنه جلس وصارت البنات يتحدَّثن معه ويسألنه عن غيابه، فقال:
إني كنتُ في هذا الوقت جالسًا أنا وزوجة عمكن فشممتُ البخور، فحضرتُ إليكن على هذا
الفيل، فما تريدين يا بنت أخي؟ فقالت: يا عم، إننا اشتقنا إليكَ وقد مضَتِ السنةُ،
وما عادتك أن تغيب عنَّا أكثرَ من سنة. فقال لهن: إني كنتُ مشغولًا وكنتُ عزمت على
أن أحضر إليكن غدًا. فشكرَنْه ودعَوْنَ له وقعَدْنَ يتحدَّثن معه. وأدرك شهرزاد
الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 800﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن البنات لما قعدن يتحدَّثن مع عمهن، قالت له البنت
الكبيرة: يا عمي، إننا كنَّا حدَّثناك بحديث حسن البصري الذي جاء به بهرام
المجوسي، وكيف قتله، وحدَّثناك بالصَّبِيَّة بنت الملك الأكبر التي أخذها، وما
قاسَى من الأمور الصعاب والأهوال، وكيف اصطاد بنت الملك وتزوَّجَ بها، وكيف سافَرَ
بها إلى بلاده. قال: نعم، فما حدث له بعد هذا؟ قالت له: إنها غدرَتْ به وقد رُزِق
منها بولدَيْن، فأخذتهما وسافرت بهما إلى بلادها وهو غائب، وقالت لأمه: إذا حضر
ولدك وطالت عليه ليالي الفراق، وأراد مني القرب والتلاق، وهزَّتْهُ أرياحُ المحبة
والاشتياق، فَلْيَجِئْني إلى جزائر واق. فحرَّكَ رأسه وعضَّ على إصبعه، ثم أطرق
رأسه إلى الأرض، وصار ينكت في الأرض بإصبعه، ثم التفَتَ يمينًا وشمالًا وحرَّكَ
رأسه، وحسن ينظره وهو متوارٍ عنه، فقالت البنات لعمهن: رُدَّ علينا الجواب، فقد
تفتَّتَتْ منَّا الأكباد. فهزَّ رأسه إليهن وقال لهن: يا بناتي، لقد أتعَبَ هذا
الرجلُ نفسَه، ورمى روحه في هول عظيم وخطر جسيم، فإنه لا يقدر أن يُقبِلَ على
جزائر واق. فعند ذلك نادت البنات حسنًا، فخرج إليهن وتقدَّمَ إلى الشيخ عبد القدوس
وقبَّلَ يده وسلَّمَ عليه، ففرح به وأجلَسَه بجانبه، فقالت البنات لعمهن: يا عم،
بيِّنْ لأخينا حقيقةَ ما قلْتَه. فقال له: يا ولدي، اترك عنك هذا العذاب الشديد،
فإنك لا تقدر أن تصل إلى جزائر واق، ولو كان معك الجن الطيارة والنجوم السيارة؛
لأن بينك وبين الجزائر سبعة أودية، وسبعة بحار، وسبعة جبال عظام، وكيف تقدر أن تصل
إلى هذا المكان؟ ومَن يوصلك إليه؟ بالله عليك أن ترجع من قريب ولا تتعب سرك.
فلما
سمع حسن كلام الشيخ عبد القدوس بكى حتى غُشِيَ عليه، وقعدت البنات حوله يبكين
لبكائه، وأما البنت الصغيرة فإنها شقَّتْ ثيابَها ولطمت على وجهها حتى غُشِيَ
عليها؛ فلما رآهم الشيخ عبد القدوس على هذه الحالة من الهم والوَجْد والحزن، رَقَّ
لهم وأخذته الرأفة عليهم، فقال: اسكتوا. ثم قال لحسن: طيِّبْ قلبك وأبشِرْ بقضاء
حاجتك إن شاء الله تعالى. ثم قال: يا ولدي، قُمْ وشِدَّ حيلك واتبعني. فقام حسن
على حيله بعد أن ودَّعَ البنات وتبعه، وقد فرح بقضاء حاجته. ثم إن الشيخ عبد
القدوس استدعى الفيل فحضر، فركبه وأردَفَ حسنًا خلفه وسار به مدة ثلاثة أيام
بلياليها مثل البرق الخاطف، حتى وصل إلى جبل عظيم أزرق، وحجارته كلها زرق، وفي ذلك
الجبل مغارة وعليها باب من الحديد الصيني، فأخذ الشيخ بيد حسن وأنزَلَه، ثم نزل
الشيخ وأطلَقَ الفيل، ثم تقدَّمَ إلى باب المغارة وطرَقَه فانفتح الباب وخرج إليه
عبد أسود أجرود كأنه عفريت، وبيده اليمنى سيف والأخرى ترس من بولاد، فلما نظَرَ
الشيخَ عبد القدوس رَمَى السيف والترس من يده وتقدَّمَ إلى الشيخ عبد القدوس
وقبَّلَ يده، ثم أخذ الشيخ بيد حسن ودخل هو وإياه وقفل العبد الباب خلفهما، فرأى
حسن المغارة كبيرة واسعة جدًّا ولها دهليز معقود، ولم يزالوا سائرين مقدار ميل، ثم
انتهى بهم السير إلى فلاة عظيمة، وتوجَّهوا إلى ركنٍ فيه بابان عظيمان مسبوكان من
النحاس الأصفر، ففتح الشيخ عبد القدوس بابًا منهما ودخل ورَدَّه، وقال لحسن: اقعدْ
على هذا الباب واحذَرْ أن تفتحه وتدخل حتى أدخل وأرجع إليك عاجلًا.
فلما
دخل الشيخ غاب مدة ساعة فلكية، ثم خرج ومعه حصان مسرَّج ملجَّم، إنْ سارَ طارَ،
وإنْ طارَ لم يلحقه غبار، فقدَّمَه الشيخُ لحسن وقال: اركب. ثم إن الشيخ فتح الباب
الثاني فبانَ منه برية واسعة، فركب حسن الحصان وخرج الاثنان من الباب وسارَا في
تلك البرية، فقال الشيخ لحسن: يا ولدي، خذ هذا الكتاب وسِرْ على هذا الحصان إلى
الموضع الذي يوصلك إليه، فإذا نظرَتْه وقَفَ على باب مغارة مثل هذه، فانزلْ عن
ظهره واجعلْ عِنانه في قربوص السرج وأطلِقْه، فإنه يدخل المغارة فلا تدخل معه
وقِفْ على باب المغارة مدة خمسة أيام ولا تضجر، فإنه في اليوم السادس يخرج إليك
شيخ أسود، عليه لباس أسود، وذقنه بيضاء طويلة نازلة إلى سرته، فإذا رأيته فقبِّلْ
يدَيْه وأمسِكْ ذيله واجعله على رأسك وَابْكِ بين يدَيْه حتى يرحمك، فإنه يسألك عن
حاجتك، فإذا قال لك: ما حاجتك؟ فادفع إليه هذا الكتاب، فإنه يأخذه منك ولا يكلِّمك
ويدخل ويخليك، فقِفْ مكانك خمسة أيام أُخَر ولا تضجر، وفي اليوم السادس انتظره
فإنه يخرج إليك، فإنْ خرج إليك بنفسه فاعلم أن حاجتك تُقضَى، وإنْ خرج إليك أحدٌ
من غلمانه، فاعلم أن الذي خرج إليك يريد قتلك والسلام. واعلم يا ولدي أن كلَّ مَن
خاطَرَ بنفسه أهلَكَ نفسَه. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.