kurd-partuk

الليالي من--(701 ← 750)

﴿اللیلة 701﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن العجوز قالت لحسن ابن التاجر محسن: قم اتبعني وأنا أريها لك عريانة. فقام معها وأخذ معه ألف دينار، وقال في نفسه: ربما نحتاج إلى شيء فنشتريه، ونحطُّ معلوم عقد العقد. ثم قالت له العجوز: كن ماشيًا بعيدًا عنها على قدر ما تنظرها بالعين. وقالت العجوز في نفسها: أين تروحين بابن التاجر وقد قفل دكانه، فتعرِّيه هو والصبية؟ ثم مشت والصبية تابعة العجوز، وابن التاجر تابع الصبية، إلى أن أقبلتْ على مصبغة كان فيها واحد معلوم يُسمَّى الحاج محمد، وكان مثل سكين القلاقسي يقطع الذكر والأنثى، يحب أكل التين والرمان، فسمع الخلخال يرن فرفع عينه، فرأى الصبية والغلام، وإذا بالعجوز قعدت عنده وسلَّمَتْ عليه وقالت له: أنت الحاج محمد الصباغ؟ فقال لها: نعم أنا الحاج محمد، أي شيء تطلبين؟ فقالت له: أنا دلَّني عليك أهل الخير، فانظر هذه الصبية المليحة بنتي، وهذا الشاب الأمرد المليح ابني، وأنا ربَّيْتُهما وصرفت عليهما أموالًا كثيرة، واعلم أن لي بيتًا كبيرًا خَسِعًا وصلبته على خشب، وقال لي المهندس: اسكني في مطرح غيره ربما يقع عليك حتى تعمريه، وبعد ذلك ارجعي إليه واسكني فيه. فطلعت أفتِّش لي على مكان فدلَّني عليك أهل الخير، ومرادي أن أسكن عندك بنتي وابني. فقال الصباغ في نفسه: قد جاءتك زبدة على فطيرة. فقال لها: صحيح أن لي بيتًا وقاعة وطبقة، ولكن أنا ما أستغني عن مكان منها للضيوف والفلاحين أصحاب النيلة. فقالت له: يا ابني، معظمه شهر أو شهران حتى نعمر البيت، ونحن ناس غرباء، فاجعل مكان الضيوف مشتركًا بيننا وبينك، وحياتك يا ابني إن طلبت أن ضيوفك تكون ضيوفنا، فمرحبًا بهم، نأكل معهم وننام معهم. فأعطاها المفاتيح واحدًا كبيرًا وآخَر صغيرًا، ومفتاحًا أعوج. وقال لها: المفتاح الكبير للبيت، والأعوج للقاعة، والصغير للطبقة.

فأخذت المفاتيح وتبعتها الصبية ووراءها ابن التاجر، إلى أن أقبلت على زقاق فرأت الباب ففتحته، ودخلت ودخلت الصبية، وقالت لها: يا بنتي، هذا بيت الشيخ أبي الحملات — وأشارت لها إلى القاعة — ولكن اطلعي الطبقة وحلي إزارك حتى أجيء إليك. فدخلتِ الصبية في الطبقة وقعدت، فأقبل ابن التاجر فاستقبلته العجوز وقالت له: اقعد في القاعة حتى أجيء إليك ببنتي لتنظرها. فدخل وقعد في القاعة، ودخلت العجوز على الصبية فقالت لها الصبية: أنا مرادي أن أزور أبا الحملات قبل أن يجيء الناس. فقالت لها: يا بنتي، يخشى عليك. فقالت لها: من أي شيء؟ فقالت لها: هناك ولدي أهبل لا يعرف صيفًا من شتاء دائمًا عريان، وهو نقيب الشيخ، فإن دخلتْ بنت مثلك لتزور الشيخ يأخذ حلقها ويشرم أذنها ويقطع ثيابها الحرير، فأنت تقلعين صيغتك وثيابك لأحفظها لك حتى تزوري. فقلعت الصبية الصيغة والثياب، وأعطت العجوز إياها وقالت لها: إني أضعها لك على ستر الشيخ فتحصل لك البركة. ثم أخذتها العجوز وطلعت وخلتها بالقميص واللباس، وخبأتها في محل في السلالم، ثم دخلت على ابن التاجر فوجدته في انتظار الصبية، فقال لها: أين بنتك حتى أنظرها؟ فلطمت على صدرها، فقال لها: ما لك؟ فقالت له: لا عاش جار السوء، ولا كان جيران يحسدون لأنهم رأَوْك داخلًا معي، فسألوني عنك فقلت: أنا خطبت لبنتي هذا العريس. فحسدوني عليك، فقالوا لبنتي: هل أمك تعبت من مؤنتك حتى تزوِّجك لواحد مبتل؟ فحلفت لها أني ما أخليها تنظرك إلا وأنت عريان. فقال: أعوذ بالله من الحاسدين. وكشف عن ذراعيه فرأتهما مثل الفضة، فقالت له: لا تخشَ من شيء، فإني أدعك تنظرها عريانة مثل ما تنظرك عريان. فقال لها: خليها تجيء لتنظرني. وقلع الفروة السمور والحياصة والسكين، وجميع الثياب حتى صار بالقميص واللباس، وحط الألف دينار في الحوائج، فقالت له: هات حوائجك حتى أحفظها لك. وأخذتها ووضعتها على حوائج الصبية، وحملت جميع ذلك وخرجت به من الباب وقفلته عليهما، وراحت إلى حال سبيلها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 702﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن العجوز لما أخذت حوائج ابن التاجر وحوائج الصبية، وقفلت الباب عليهما، وراحت إلى حال سبيلها، أودعت الذي كان معها عند رجل عطار، وراحت إلى الصباغ فرأته قاعدًا في انتظارها، فقال لها: إن شاء الله يكون البيت أعجبكم؟ فقالت: فيه بركة وأنا رائحة أجيء بالحمَّالين يحملون حوائجنا وفرشنا، وأولادي قد اشتهوا عليَّ عيشًا بلحم، فأنت تأخذ هذا الدينار، وتعمل لهما عيشًا بلحم وتروح تتغدى معهم. فقال الصباغ: ومَن يحرس المصبغة وحوائج الناس فيها؟ فقالت: صبيك. قال: وهو كذلك. ثم أخذ صحنًا ومكبة معه وراح يعمل الغداء.

هذا ما كان من أمر الصباغ وله كلام يأتي، وأما ما كان من أمر العجوز فإنها أخذت من العطار حوائج الصبية وابن التاجر، ودخلت المصبغة وقالت لصبي الصباغ: الحق معلمك وأنا لا أبرح حتى تأتيَا. فقال لها: سمعًا وطاعةً. ثم أخذت جميع ما فيها، وإذا برجل حمَّار حشَّاش له أسبوع وهو بطال، فقالت له العجوز: تعال يا حمَّار. فجاءها فقالت له: هل أنت تعرف ابن الصباغ؟ قال لها: أعرفه. قالت له: هذا مسكين قد أفلس وبقي عليه ديون، وكلما يحبس أطلقه، ومرادنا أن نثبت إعساره، وأنا رائحة أعطي الحوائج لأصحابها، ومرادي أن تعطيني الحمَار حتى أحمل عليه الحوائج للناس، وخذ هذا الدينار كراه، وبعد أن أروح تأخذ الدسترة وتنزح بها الذي في الخوابي، ثم تكسر الخوابي والدنان لأجل إذا نزل كشف من طرف القاضي لا يجد شيئًا في المصبغة. فقال لها: إن المعلم فضله عليَّ، وأعمل شيئًا لله. فأخذت الحوائج وحملتها فوق الحمار وستر عليها الستار، وعمدت إلى بيتها فدخلت على بنتها زينب، فقالت لها: قلبي عندك يا أمي، أي شيء عملت من المناصف؟ فقالت لها: أنا لعبت أربع مناصف على أربعة أشخاص؛ ابن تاجر وامرأة شاويش وصبَّاغ وحمَّار، وجئتُ لك بجميع حوائجهم على حمار الحمَّار. فقالت لها: يا أمي، ما بقيت تقدري أن تشقي في البلد من الشاويش الذي أخذتِ حوائج امرأته، وابن التاجر الذي عرَّيْتِه، والصباغ الذي أخذتِ حوائجَ الناس من مصبغته، والحمَّار صاحب الحمار. فقالت: آه يا بنتي، أنا ما أحسب إلا حساب الحمَّار، فإنه يعرفني.

وأما ما كان من أمر المعلم الصباغ، فإنه جهَّزَ العيش باللحم وحمله على رأس خادمه، وفات على المصبغة فرأى الحمَّار يكسر في الخوابي ولم يَبْقَ فيها قماش ولا حوائج، ورأى المصبغة خرابًا فقال له: ارفع يدك يا حمَّار. فرفع يده وقال له الحمَّار: الحمد لله على السلامة يا معلم، قلبي عليك. فقال له: لأي شيء؟ وما حصل لي؟ فقال له: قد صرتَ مُفلِسًا، وكتبوا حجةَ إعسارك. فقال له: مَن قال لك؟ فقال له: أمك قالت لي، وأمرتني بكسر الخوابي ونزح الدنان خوفًا من الكشاف إذا جاء ربما يجد في المصبغة شيئًا. فقال له: الله يخيب البعيد، إن أمي ماتت من منذ زمان. ودقَّ صدره بيده وقال: يا ضياع مالي ومال الناس. فبكى الحمَّار وقال: يا ضيعة حماري. ثم قال للصباغ: هات لي حماري من أمك. فتعلَّقَ الصبَّاغ بالحمَّار، وصار يلكمه ويقول: أحضِرْ لي العجوز. فقال له: أحضِرْ لي الحمار. فاجتمعت عليهما الخلائق. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 703﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الصباغ تعلَّق بالحَمَّار، والحَمَّار تعلَّق بالصباغ، وتضاربا وصار كلٌّ منهما يدَّعِي على صاحبه، فاجتمعت عليهم الخلائق، فقال واحد منهم: أي شيء الحكاية يا معلم محمد؟ قال له الحمَّار: أنا أحكي لكم الحكاية. وحدَّثَهم بما جرى له، وقال: إني أظن أني مشكور عند المعلم. فلما رآني دقَّ صدره وقال لي: أمي ماتت. وأنا الآخَر أطلب حماري منه؛ لأنه عمل عليَّ هذا المنصف لأجل أن يضيع حماري عليَّ. فقالت الناس: يا معلم محمد، وهذه العجوز أنت تعرفها لأنك استأمنتها على المصبغة والذي فيها؟ فقال:

لا أعرفها، وإنما سكنت عندي في هذا اليوم هي وابنها وبنتها. فقال واحد: في ذمتي أن الحمار في عهدة الصباغ. فقيل له: ما أصله؟ فقال: لأن الحمَّار ما اطمأنَّ وأعطى العجوز حماره إلا لما رأى الصباغ استأمَنَ العجوز على المصبغة والذي فيها. فقال واحد: يا معلم، لما سكنتها عندك وجب عليك أنك تجيء له بحماره. ثم تمشوا قاصدين البيت ولهم كلام يأتي.

وأما ابن التاجر فإنه انتظر مجيء العجوز فلم تجئ ببنتها، وأما الصبية فإنها انتظرت العجوز أن تجيء لها بإذن من ابنها المجذوب الذي هو نقيب الشيخ أبي الحملات فلم ترجع إليها؛ فقامت لتزوره، وإذا بابن التاجر يقول لها حين دخلت: تعالي أين أمك التي جاءت بي لأتزوَّج بك؟

فقالت: إن أمي ماتت، فهل أنت ابنها المجذوب نقيب الشيخ أبي الحملات؟ فقال: هذه ما هي أمي، هذه عجوز نصَّابة نصبتْ عليَّ حتى أخذتْ ثيابي والألف دينار. فقالت له الصبية: وأنا الأخرى نصبتْ عليَّ وجاءت بي لأزور أبا الحملات وأعْرَتْني. فصار ابن التاجر يقول للصبية: أنا ما أعرف ثيابي والألف دينار إلا منك. والصبية تقول: أنا ما أعرف حوائجي وصيغتي إلا منك، فاحضر لي أمك. وإذا بالصباغ داخل عليهما، فرأى ابن التاجر عريانًا والصبية عريانة، فقال: قولا لي أين أمكما؟ فحكت الصبية جميع ما وقع لها، وحكى ابن التاجر جميع ما جرى له. فقال الصباغ: يا ضياع مالي ومال الناس! وقال الحمَّار: يا ضياع حماري! أعطني يا صباغ حماري. فقال الصباغ: هذه عجوز نصَّابة، اطلعوا حتى أقفل الباب. فقال ابن التاجر: يكون عيبًا عليك أن ندخل بيتك لابسين، ونخرج منه عريانين. فكساه وكسى الصبية وروَّحَها بيتها. ولها كلام يأتي بعد قدوم زوجها من السفر.

وأما ما كان من أمر الصباغ، فإنه قفل المصبغة وقال لابن التاجر: اذهب بنا لنفتِّش على العجوز ونسلِّمها للوالي. فراح معه وصحبتهما الحمَّار، ودخلوا بيت الوالي وشكوا إليه، فقال لهما: يا ناس، أي شيء خبركم؟ فحكوا له ما جرى، فقال لهم: وكم عجوز في البلد؟ روحوا وفتِّشوا عليها، وامسكوها وأنا أقرِّرها لكم. فداروا يفتِّشون عليها. ولهم كلام يأتي.

وأما العجوز دليلة المحتالة، فإنها قالت لبنتها زينب: يا بنتي، أنا أريد أن أعمل منصفًا. فقالت لها: يا أمي أخاف عليك، فقالت لها: أنا مثل سقط الفول عاص على الماء والنار. فقامت ولبست ثياب خادمة من خدَّام الأكابر، وطلعت تتلمَّح لمنصف تعمله، فمرت على زقاق مفروش فيه قماش، ومعلَّق فيه قناديل، وسمعت فيه مغانيًا ونقر دفوف، ورأت جارية على كتفها ولد بلباس مطرَّز بالفضة، وعليه ثياب جميلة، وعلى رأسها طربوش مكلَّل باللؤلؤ، وفي رقبته طوق ذهب مجوهر، وعليه عباءة من قطيفة، وكان هذا البيت لشاه بندر التجار ببغداد، والولد ابنه، وله أيضًا بنت بكر مخطوبة، وهم يعملون أملاكها في ذلك اليوم، وكان عند أمها جملة نساء مغنيات، فكلما تطلع أمه أو تنزل يشبط معها الولد، فنادت الجارية وقالت لها: خذي سيدك لاعبيه حتى ينفضَّ المجلس. ثم إن العجوز دليلة لما دخلت رأت الولد على كتف الجارية، فقالت لها: أرى شيئًا عند سيدتك اليوم من الفرح. فقالت: تعمل أملاك بنتها وعندها المغاني. فقالت في نفسها: يا دليلة، ما منصف إلا أخذ هذا الولد من هذه الجارية. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 704﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن العجوز لما قالت لنفسها: يا دليلة، ما منصف إلا أخذ هذا الولد من هذه الجارية. قالت بعد ذلك: يا فضيحة الشوم. ثم طلعت من جيبها برقة صغيرة من الصفر مثل الدينار، وكانت الجارية غشيمة، ثم قالت العجوز للجارية: خذي هذا الدينار وادخلي لسيدتك وقولي لها: أم الخير فرحت لك وفضلك عليها، ويوم المحضر تجيء هي وبناتها وينعمن على المواشط بالنقوط. فقالت الجارية: يا أمي، وسيدي هذا كلما ينظر أمه يتعلق بها. فقالت: هاتيه معي حتى تروحي وتجيئي. فأخذت الجارية البرقة ودخلت، وأما العجوز فإنها أخذت الولد وراحت إلى زقاق، فقلَّعته الصيغة والثياب التي عليه، وقالت لنفسها: يا دليلة، ما شطارة إلا مثل ما لعبت على الجارية وأخذتِه منها، أن تعملي منصفًا وتجعليه رهنًا على شيء بألف دينار. ثم ذهبت إلى سوق الجواهرجية، فرأت يهوديًّا صائغًا وقدَّامه قفص ملآن صيغة، فقالت لنفسها: ما شطارة إلا أن تحتالي على هذا اليهودي وتأخذي منه صيغة بألف دينار، وتحطي الولد رهنًا عنده عليها. فنظر اليهودي بعينه فرأى الولد مع العجوز، فعرف أنه ابن شاه بندر التجار، وكان اليهودي صاحب مال كثير، وكان يحسد جاره إذا باع بيعة ولم يبع هو، فقال لها: أي شيء تطلبين يا سيدتي؟ فقالت له: أنت المعلم عذرة اليهودي؟ - لأنها كانت سألت عن اسمه - فقال لها: نعم. فقالت له: أخت هذا الولد بنت شاه بندر التجار مخطوبة، وفي هذا اليوم عملوا أملاكها وهي محتاجة لصيغة، فأتِ لنا بزوجين خلاخيل ذهبًا، وزوج أساور ذهبًا، وحلق لؤلؤ وحياصة وخنجر وخاتم. فأخذت منه شيئًا بألف دينار وقالت له: أنا آخذ هذا المصاغ على المشاورة، فالذي يعجبهم يأخذونه وآتي إليك بثمنه، وخذ هذا الولد عندك. فقال: الأمر كما تريدين. فأخذت الصيغة وراحت بيتها، فقالت لها بنتها: أي شيء فعلت من المناصف؟ فقالت: لعبت منصفًا، فأخذت ابن شاه بندر التجار وأعريته، ثم رحت رهنته على مصالح بألف دينار، فأخذتها من يهودي. فقالت لها بنتها: ما بقيت تقدري أن تمشي في البلد.

وأما الجارية فإنها دخلت لسيدتها، وقالت: يا سيدتي، إن أم الخير تسلِّم عليك وفرحت لك، ويوم المحضر تجيء هي وبناتها ويعطين النقوط. فقالت لها سيدتها: وأين سيدك؟ فقالت لها: خليته عندها خوفًا أن يتعلق بك، وأعطتني نقوطًا للمغنيات. فقالت لرئيسة المغنيات: خذي نقوطك. فأخذته فوجدته برقة من الصفر، فقالت لها سيدتها: انزلي يا عاهرة انظري سيدك. فنزلت الجارية فلم تجد الولد ولا العجوز، فصرخت وانقلبت على وجهها، وتبدَّل فرحهم بحزن، وإذا بشاه بندر التجار أقبل، فحكت له زوجته جميع ما جرى، فطلع يفتش عليه، وصار كل تاجر يفتش من طريق، ولم يزل شاه بندر التجار يفتش حتى رأى ابنه عريانًا على دكان اليهودي، فقال له: هذا ولدي. فقال اليهودي: نعم. فأخذه أبوه ولم يسأل عن ثيابه لشدة فرحه به.

وأما اليهودي فإنه لما رأى التاجر أخذ ابنه، تعلَّقَ به وقال: الله ينصر فيك الخليفة. فقال له التاجر: ما بالك يا يهودي؟ فقال اليهودي: إن العجوز أخذتْ مني صيغةً لبنتك بألف دينار، ورهنت هذا الولد عندي وما أعطيتها إلا لأنها تركت هذا الولد عندي رهنًا على الذي أخذته، وما ائتمنتها إلا لكوني أعرف أن هذا الولد ولدك. فقال التاجر: إن بنتي لا تحتاج إلى صيغة، فاحضر لي ثياب الولد. فصرخ اليهودي وقال: أدركوني يا مسلمين، وإذا بالحمَّار والصبَّاغ وابن التاجر دائرون يفتشون على العجوز، فسألوا التاجر واليهودي عن سبب خناقهما، فحكيا لهم ما حصل، فقالوا: إن هذه عجوز نصَّابة ونصبت علينا قبلكما. وحكوا جميع ما جرى لهم معها، فقال شاه بندر التجار: لما لقيت ولدي، الثياب فداه، وإن وقعت العجوز طلبت الثياب منها. فتوجه شاه بندر التجار بابنه لأمه، ففرحت بسلامته.

وأما اليهودي فإنه سأل الثلاثة وقال لهم: أين تذهبون أنتم؟ فقالوا له: إنا نريد أن نفتش عليها. فقال لهم: خذوني معكم. ثم قال لهم: هل فيكم مَن يعرفها؟ قال الحمَّار: أنا أعرفها. فقال لهم اليهودي: إن طلعنا سواء لا يمكن أن نجدها وتهرب منَّا، ولكن كل واحد منا يروح من طريق، ويكون اجتماعنا على دكان الحاج مسعود المزين المغربي. فتوجه كل واحد من طريق، وإذا هي طلعت لتعمل منصفًا، فرآها الحمَّار فعرفها فتعلَّقَ بها، وقال لها: ويلك، أَلَكِ زمان على هذا الأمر؟ فقالت له: ما خبرك؟ قال لها: حماري هاتيه. فقالت له: استر ما ستر الله يا ابني، أنت طالب حمارك وإلا حوائج الناس؟ فقال: طالب حماري فقط. فقالت له: أنا رأيتك فقيرًا وحمارك أودعته لك عند المزين المغربي، فقف بعيدًا حتى أصل إليك وأقول له بلطافة أن يعطيك إياه. وتقدمت للمغربي، وقبَّلَتْ يده وبكت، فقال لها: ما بالك؟ فقالت له: يا ولدي، انظر ولدي الذي واقف كان ضعيفًا واستهوى فأفسد الهواء عقله، وكان يقني الحمير، فإن قام يقول حماري، وإن قعد يقول حماري، وإن مشى يقول حماري، فقال لي حكيم من الحكماء: إنه اختلَّ في عقله، ولا يطيبه إلا قلع ضرسين، ويُكوَى في أصداغه مرتين، فخذ هذا الدينار ونادِهْ وقل له: حمارك عندي. فقال المغربي: صوم العام يلزمني لأعطينه حماره في كفه. وكان عنده اثنان صنائعية، فقال لواحد منهما: رُحِ احم مسمارين. ثم نادى الحمَّار، والعجوز راحت إلى حال سبيلها. فلما جاءه قال: إن حمارك عندي يا مسكين تعالَ خذه، وحياتي لأعطينك إياه في كفك. ثم أخذه ودخل به في قاعة مظلمة، وإذا بالمغربي لكمه فوقع، فسحبوه وربطوا يديه ورجليه، وقام المغربي قلع له ضرسين، وكواه على صدغه كيتين، ثم تركه، فقام وقال: يا مغربي، لأي شيء عملت معي هذا الأمر؟ فقال له: إن أمك أخبرتني أنك مختل العقل؛ لأنك هويت وأنت مريض، وإن قمتَ تقول حماري، وإن قعدت تقول حماري، وإن مشيت تقول حماري، وهذا حمارك في يدك. فقال له: تلقى من الله بسبب تقليعك أضراسي. فقال له: إن أمك قالت لي … وحكى له جميع ما قالت، فقال: الله ينكِّد عليها. وذهب الحمَّار هو والمغربي يتخاصمان وترك الدكان، فلما رجع المغربي إلى دكانه لم يجد فيها شيئًا، وكانت العجوز حين راح المغربي هو والحمَّار، أخذتْ جميعَ ما في دكانه وراحت لبنتها وحكت لها جميع ما وقع لها وما فعلت.

وأما المزين، فإنه لما رأى دكانه خالية تعلق بالحمَّار، وقال له: أحضر لي أمك؟ فقال له: ما هي أمي، وإنما هي نصَّابة نصبت على ناس كثير وأخذت حماري. وإذا بالصباغ واليهودي وابن التجار مُقبِلون، فرأوا المغربي متعلقًا بالحمَّار والحمَّار مكويًّا في أصداغه، فقالوا له: ما جرى لك يا حمَّار؟ فحكى لهم جميع ما جرى، وكذلك المغربي حكى قصته؛ فقالوا له: إن هذه عجوز نصابة نصبت علينا. وحكوا له ما وقع؛ فقفل دكانه وراح معهم إلى بيت الوالي، وقالوا للوالي: ما نعرف حالنا ومالنا إلا منك. فقال الوالي: وكم عجائز في البلد؟ هل فيكم مَن يعرفها؟ فقال الحمار: أنا أعرفها، ولكن أعطنا عشرة من أتباعك. فخرج الحمَّار بأتباع الوالي والباقي وراءهم، ورأى الحمَّار بالجميع، وإذا بالعجوز دليلة مُقبِلة فقبضها هو وأتباع الوالي، وراحوا بها إلى الوالي، فوقفوا تحت شباك القصر حتى يخرج الوالي. ثم إن أتباع الوالي ناموا من كثرة سهرهم مع الوالي، فجعلت العجوز نفسها نائمة، فنام الحمَّار ورفقاؤه كذلك، فانسلَّتْ منهم، ودخلت إلى حريم الوالي، فقبَّلَتْ يد سيدة الحريم وقالت لها: أين الوالي؟ فقالت: نائم، أي شيء تطلبين؟ فقالت: إن زوجي يبيع الرقيق، فأعطاني خمسة مماليك أبيعهم وهو مسافر، فقابلني الوالي ففصلهم مني بألف دينار ومائتين لي، وقال لي: أوصليهم إلى البيت. فأنا جئت بهم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 705﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن العجوز لما طلعت إلى حريم الوالي، قالت لزوجته: إن الوالي فصل مني المماليك بألف دينار ومائتَيْ دينار لي، وقال لي: أوصليهم البيت. وكان الوالي عنده ألف دينار، وقال لزوجته: احفظيها حتى نشتري بها مماليك. فلما سمعت من العجوز هذا الكلام، تحقَّقَتْ من زوجها ذلك فقالت: وأين المماليك؟ قالت العجوز: يا سيدتي، هم نائمون تحت شباك القصر الذي أنتِ فيه. فطلَّتِ السيدة من الشباك فرأت المغربي لابسًا لبس المماليك، وابن التاجر في صورة مملوك، والصبَّاغ والحمَّار واليهودي في صورة المماليك الحليق، فقالت زوجة الوالي: هؤلاء كل مملوك أحسن من ألف دينار. ففتحت الصندوق وأعطت العجوز الألف دينار وقالت لها: اصبري حتى يقوم الوالي من النوم، ونأخذ لك منه المائتَيْ دينار. فقالت لها: يا سيدتي، منهم مائة دينار لك تحت القلة الشربات التي شربتها، والمائة الأخرى احفظيها لي عندك حتى أحضر. ثم قالت: يا سيدتي، أطلعيني من باب السر. فطلعتها منه وستر عليها الستار، وراحت لبنتها، فقالت لها: يا أمي، ما فعلتِ؟ فقالت: يا بنتي، لعبت منصفًا وأخذت هذا الألف دينار من زوجة الوالي، وبعت الخمسة لها: الحمَّار واليهودي والصبَّاغ والمزين وابن التاجر، وجعلتهم مماليك، ولكن يا بنتي ما عليَّ أضر من الحمَّار، فإنه يعرفني. فقالت لها: يا أمي، اقعدي يكفي ما فعلتِ، فما كل مرة تسلم الجرة.

وأما الوالي، فإنه لما قام من النوم قالت له زوجته: فرحتُ لك بالخمسة مماليك الذين اشتريتَهم من العجوز. فقال لها: أي مماليك؟ فقالت له: لأي شيء تنكر مني؟ إن شاء الله يصيرون مثلك أصحاب مناصب. فقال لها: وحياة رأسي ما اشتريت مماليك، مَن قال ذلك؟ فقالت: العجوز دليلة التي فصلتهم منها، وواعدتها أنك تعطيها حقَّهم ألف دينار ومائتين لها. فقال لها: وهل أعطيتِها المال؟ قالت له: نعم، وأنا رأيت المماليك بعيني، كل واحد عليه بدلة تساوي ألف دينار، وأرسلت وصَّيت عليهم المقدمين. فنزل الوالي فرأى اليهودي والحمَّار والمغربي والصباغ وابن التاجر. فقال: يا مقدمين، أين الخمسة مماليك الذين اشتريناهم من العجوز بألف دينار؟ فقالوا: ما هنا مماليك، ولا رأينا إلا هؤلاء الخمسة الذين أمسكوا العجوز وقبضوا عليها، فنمنا كلنا، ثم إنها انسلَّتْ ودخلت الحريم وأتتِ الجارية تقول: هل الخمسة الذين جاءت بهم العجوز عندكم؟ فقلنا: نعم. فقال الوالي: والله إن هذا أكبر منصف. والخمسة يقولون: ما نعرف حوائجنا إلا منك. فقال لهم: إن العجوز صاحبتكم باعتكم لي بألف دينار. فقالوا: ما يحل من الله، نحن أحرار لا نباع، ونحن وإياك للخليفة. فقال لهم: ما عرَّفَ العجوز طريق البيت إلا أنتم، ولكن أنا أبيعكم للأغراب كل واحد بمائتَيْ دينار.

فبينما هم كذلك وإذا بالأمير حسن شر الطريق جاء من سفره ورأى زوجته عريانة، وحكت له جميع ما جرى لها، فقال: أنا ما خصمي إلا الوالي. فدخل عليه وقال له: هل أنت تأذن للعجائز أن تدور في البلد وتنصب على الناس وتأخذ أموالهم؟ هذا عهدتك ولا أعرف حوائج زوجتي إلا منك. ثم قال للخمسة: ما خبركم؟ فحكوا جميع ما جرى، فقال لهم: أنت مظلومون. والتفت للوالي وقال له: لأي شيء تسجنهم؟ فقال له: ما عرَّف العجوز طريق بيتي إلا هؤلاء الخمسة حتى أخذت مالي الألف دينار وباعتهم للحريم. فقالوا: يا أمير حسن، أنت وكيلنا في هذه الدعوة. ثم إن الوالي قال للأمير حسن: حوائج امرأتك عندي، وضمان العجوز عليَّ، ولكن مَن يعرفها منكم؟ فقالوا كلهم: نحن نعرفها، أرسلْ معنا عشرةَ مقدمين ونحن نمسكها. فأعطاهم عشرة مقدمين، فقال لهم الحمَّار: اتبعوني فإني أعرفها بعيون زرق. وإذا بالعجوز دليلة مُقبِلة من زقاق، وإذا بهم قبضوها وساروا بها إلى بيت الوالي، فلما رآها الوالي قال: أين حوائج الناس؟ فقالت: لا أخذتُ ولا رأيتُ. فقال للسجَّان: احبسها عندك للغد. قال السجَّان: أنا لا آخذها ولا أسجنها مخافة أن تعمل منصفًا وأصير أنا مُلزَمًا بها. فركب الوالي وأخذ العجوز والجماعة وخرج بهم إلى شاطئ دجلة، ونادى للمشاعلي وأمره بصلبها من شعرها، فسحبها المشاعلي في البكر، واستحفظ عليها عشرة من الناس، وتوجَّهَ الوالي لبيته إلى أن أقبل الظلام، وغلب النوم على المحافظين؛ وإذا برجل بدوي سمع رجل يقول لرفيقه: الحمد لله على السلامة، أين هذه الغيبة؟ فقال له: في بغداد، وتغديت زلابية بعسل. فقال البدوي: لا بد من دخولي بغداد، وآكل فيها زلابية بعسل. وكان عمره ما رآها ولا دخل بغداد. فركب حصانه، وسار وهو يقول لنفسه: الزلابية كلها زين، وذمة العرب ما آكل إلا زلابية بعسل. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 706﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن البدوي لما ركب حصانه، وأراد دخول بغداد، سار وهو يقول لنفسه: أكل الزلابية زين، وذمة العرب أنا لا آكل إلا زلابية بعسل. إلى أن وصل عند مصلب دليلة؛ فسمعته وهو يقول لنفسه هذا الكلام، فأقبل عليها وقال لها: أي شيء أنت؟ فقالت له: أنا في جيرتك يا شيخ العرب. فقال لها: إن الله قد أجارك، ولكن ما سبب صلبك؟ فقالت له: لي عدو زيات يقلي الزلابية، فوقفت أشتري منه شيئًا، فبزقتُ فوقعت بزقتي على الزلابية، فاشتكاني للحاكم فأمر الحاكم بصلبي وقال: حكمت أنكم تأخذوا لها عشرة أرطال زلابية بعسل وتطعمونها إياها وهي مصلوبة، فإن أكلتها فحلوها، وإن لم تأكلها فخلوها مصلوبة، وأنا نفسي ما تقبل الحلو. فقال البدوي: وذمة العرب ما جئتُ من النجع إلا لأجل الزلابية بالعسل، وأنا آكلها عوضًا عنك. فقالت له: هذه ما يأكلها إلا الذي يتعلَّق موضعي. فانطبقت عليه الحيلة، فحَلَّها وربطته موضعها بعدما قلَّعته الثياب التي كانت عليه، ثم إنها لبست ثيابه وتعمَّمت بعمامته وركبت حصانه وراحت لبنتها، فقالت لها بنتها: ما هذا الحال؟ فقالت لها: صلبوني. وحكت لها ما وقع لها مع البدوي.

هذا ما كان من أمرها، وأما ما كان من أمر المحافظين، فإنه لما صحا واحد منهم نبَّهَ جماعته، فرأوا النهار قد طلع، فرفع واحد منهم عينه، وقال: دليلة؟ فأجابه البدوي وقال: والله ما نأكل بليلة، هل أحضرتم الزلابية بالعسل؟ فقالوا: هذا رجل بدوي. فقالوا له: يا بدوي، أين دليلة؟ ومَن فكَّها؟ فقال: أنا فككتها، ما تأكل الزلابية بالعسل غصبًا؛ لأن نفسها لم تقبلها. فعرفوا أن البدوي جاهل بحالها، فلعبت عليه منصفًا. وقالوا لبعضهم: هل نهرب أو نستمر حتى نستوفي ما كتبه الله علينا؟ وإذا بالوالي مُقبِل ومعه الجماعة الذين نصبت عليهم، فقال الوالي للمقدمين: قوموا فكوا دليلة. فقال البدوي: ما نأكل بليلة، هل أحضرتم الزلابية بعسل؟ فرفع الوالي عينه إلى المصلب، فرأى بدويًّا بدل العجوز، فقال للمقدمين: ما هذا؟ فقالوا: الأمان يا سيدي. فقال لهم: احكوا لي ما جرى. فقالوا: نحن كنا سهرنا معك في العَسَسِ، وقلنا دليلة منصوبة ونعسنا، فلما صحونا رأينا هذا البدوي مصلوبًا ونحن بين يديك. فقال: يا ناس، هذه نصابة وأمان الله عليكم فحلوا البدوي. فتعلق البدوي بالوالي وقال: الله ينصر فيك الخليفة، أنا ما أعرف حصاني وثيابي إلا منك. فسأله الوالي، فحكى له البدوي قصته؛ فتعجَّبَ الوالي وقال له: لأي شيء حلَلْتَها؟ فقال له: ما عندي خبر أنها نصابة. فقال الجماعة: نحن ما نعرف حوائجنا إلا منك يا والي، فإننا سلَّمناها إليك، وصارت في عهدتك، ونحن وإياك إلى ديوان الخليفة. وكان حسن شر الطريق طلع الديوان، وإذا بالوالي والبدوي والخمسة مُقبِلون وهم يقولون: إننا مظلومون. فقال الخليفة: مَن ظلمكم؟ فتقدَّمَ كلُّ واحد منهم وحكى له ما جرى عليه، حتى الوالي قال: يا أمير المؤمنين، إنها نصبت عليَّ، وباعت لي هؤلاء الخمسة بألف دينار مع أنهم أحرار. فقال الخليفة: جميع ما عدم لكم عندي. وقال للوالي: ألزمتُك بالعجوز. فنفض الوالي طوقه وقال: لا ألتزم بذلك بعدما علَّقْتُها في المصلب، فلعبتْ على هذا البدوي حتى خلَّصَها وعلَّقَتْها في موضعها وأخذت حصانه وثيابه. فقال الخليفة: هل ألزم بها من غيرك؟ فقال له: الزم بها أحمد الدنف، فإن له في كل شهر ألف دينار، ولأحمد الدنف من الأتباع واحد وأربعون، لكل واحد في كل شهر مائة دينار. فقال الخليفة: يا مقدم أحمد. قال له: لبيك يا أمير المؤمنين. قال له: ألزمتك بحضور العجوز. فقال: ضمانها عليَّ. ثم إن الخليفة حجز الخمسة والبدوي عنده. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 707﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الخليفة لما ألزم أحمد الدنف بإحضار العجوز قال له: ضمانها عليَّ يا أمير المؤمنين. ثم نزل هو وأتباعه إلى القاعة، فقالوا لبعضهم: كيف يكون قبضنا إياها؟ وكم عجائز في البلد؟ فقال واحد منهم يقال له علي كتف الجمل لأحمد الدنف: على أي شيء تشاورون حسن شومان؟ وهل حسن شومان أمر عظيم؟ فقال حسن: يا علي، كيف تستقلني؟ والاسمِ الأعظمِ لن أرافقكم في هذه المرة. وقام غضبان. فقال أحمد الدنف: يا شبان، كل قيِّم يأخذ عشرة ويتوجَّه بهم إلى حارة ليفتشوا على دليلة. فذهب علي كتف الجمل بعشرة، وكذلك كل قيِّم، وتوجَّه كل جماعة إلى حارة، وقالوا قبل توجُّههم وافتراقهم: يكون اجتماعنا في الحارة الفلانية في الزقاق الفلاني. فشاع في البلدان: أحمد الدنف التزَمَ بالقبض على دليلة المحتالة. فقالت زينب: يا أمي، إن كنتِ شاطرة تلعبي على أحمد الدنف وجماعته. فقالت: يا بنتي، أنا ما أخاف إلا من حسن شومان. فقالت البنت: وحياة مقصوصي لآخذن لك ثياب الواحد والأربعين. ثم قامت ولبست بدلة وتبرقعت، وأقبلت على واحد عطار له قاعة ببابين، فسلَّمت عليه وأعطته دينارًا، وقالت له: خذ هذا الدينار حلوان قاعتك، وأعطنيها إلى آخِر النهار. فأعطاها المفاتيح وراحت أخذت فرشًا على حمار الحمار، وفرشت القاعة، وحطت في كل ليوان سفرة طعام ومدام، ووقفت على الباب مكشوفة الوجه، وإذا بعلي كتف الجمل وجماعته مُقبِلون، فقبَّلَتْ يده، فرآها صبية مليحة فحبَّها، فقال لها: أي شيء تطلبين؟ فقالت: هل أنت المقدم أحمد الدنف؟ فقال: لا، بل أنا من جماعته، واسمي علي كتف الجمل. فقالت لهم: أين تذهبون؟ فقال: نحن دائرون نفتش على عجوز نصَّابة أخذت أرزاق الناس، ومرادنا أن نقبض عليها. ولكن مَن أنتِ؟ وما شأنك؟ فقالت: إن أبي كان خمَّارًا في الموصل، فمات وخلف لي مالًا كثيرًا، فجئت هذا البلد خوفًا من الحكام، وسألت الناس مَن يحميني؟ فقالوا لي: ما يحميك إلا أحمد الدنف. فقال لها جماعته: اليوم تحتمين به. فقالت لهم: اقصدوا جبر خاطري بلقيمة وشربة ماء. فلما أجابوها أدخلتهم، فأكلوا وسكروا وحطت لهم البنج فبنَّجتهم وقلعتهم حوائجهم، ومثل ما عملت فيهم عملت في الباقي.

فدار أحمد الدنف يفتش على دليلة فلم يجدها، ولم يَرَ من أتباعه أحدًا إلى أن أقبل على الصبية، فقبَّلت يده، فرآها فحبها، فقالت له: أنت المقدم أحمد الدنف؟ فقال لها: نعم، ومَن أنتِ؟ قالت: غريبة من الموصل، وأبي كان خمَّارًا، ومات وخلف لي مالًا كثيرًا، وجئت به إلى هنا خوفًا من الحكام، ففتحت هذه الخمارة فجعل الوالي عليَّ قانونًا، ومرادي أن أكون في حمايتك، والذي يأخذه الوالي أنت أولى به. فقال أحمد الدنف: لا تعطيه شيئًا ومرحبًا بك. فقالت له: اقصد جبر خاطري، وكُلْ طعامي. فدخل وأكل وشرب مدامًا فانقلب من السكر، فبنَّجته وأخذت ثيابه وحملت الجميع على فرس البدوي، وحمار الحمَّار، وأيقظتْ عليًّا كتف الجمل وراحت. فلما أفاق رأى نفسه عريانًا، ورأى أحمد الدنف والجماعة مُبنَّجين، فأيقظهم بضد البنج، فلما أفاقوا رأوا أنفسهم عرايا. فقال أحمد الدنف: ما هذا الحال يا شباب؟ نحن دائرون نفتِّش عليها لنصطادها، فاصطادتنا هذه العاهرة، يا فرحة حسن شومان فينا، ولكن نصبر حتى تدخل العتمة ونروح، وكان حسن شومان قال للنقيب: أين الجماعة؟ فبينما هو يسأله عنهم وإذا بهم قد أقبلوا وهم عرايا، فأنشد حسن شومان هذين البيتين:

وَالنَّاسُ مُشْتَبِهُونَ فِي إِيرَادِهِمْ        وَتَبَايُنِ الْأَقْوَامِ فِي الْإِصْدَارِ

وَمِنَ الرِّجَالِ مَعَالِمُ وَمَجَاهِلُ        وَمِنَ النُّجُومِ غَوَامِضُ وَدَرَارِي

فلما رآهم قال لهم: مَن لعب عليكم وعرَّاكم؟ فقالوا: تعهَّدنا بعجوز نفتش عليها، ولا عرَّانا إلا صبية مليحة. فقال حسن شومان: نِعْمَ ما فعلتْ بكم. فقالوا: هل أنت تعرفها يا حسن؟ فقال: أعرفها وأعرف العجوز. فقالوا له: أي شيء تقول عند الخليفة؟ فقال شومان: يا دنف، انفض طوقك قدامه، فيقول الخليفة: مَن يتعهَّد بها؟ فإن قال لك: لأي شيء ما قبضتَ عليها؟ فقل: أنا ما أعرفها وألزم بها حسن شومان. فإن ألزمني بها فأنا أقبضها. وباتوا، فلما أصبحوا طلعوا إلى ديوان الخليفة، فقبَّلوا الأرض، فقال الخليفة: أين العجوز يا مقدم أحمد؟ فنفض طوقه، فقال له: لأي شيء؟ فقال: أنا ما أعرفها، وألزِمْ بها شومان، فإنه يعرفها هي وبنتها. وقال: إنها ما عملت هذه الملاعب طمعًا في حوائج الناس، ولكن لبيان شطارتها وشطارة بنتها لأجل أن ترتِّب لها راتبَ زوجها، ولبنتها مثل راتب أبيها، فشفع فيها شومان من القتل وهو يأتي بها. فقال الخليفة: وحياة أجدادي إن أعادتْ حوائجَ الناس، عليها الأمان وهي في شفاعته. فقال شومان: أعطني الأمان يا أمير المؤمنين. فقال له: هي في شفاعتك. وأعطاه منديل الأمان، فنزل شومان وراح إلى بيت دليلة، فصاح عليها فجاوبته بنتها زينب، فقال لها: أين أمك؟ فقالت: فوق. فقال لها: قولي لها تجيء بحوائج الناس وتذهب معي لتقابل الخليفة، وقد جئتُ لها بمنديل الأمان، فإن كانت لا تجيء بالمعروف لا تلوم إلا نفسها. فنزلت دليلة وعلقت المحرمة في رقبتها، وأعطته حوائج الناس على حمار الحمَّار، وفرس البدوي، فقال لها شومان: بقي ثياب كبيري وثياب جماعته. فقالت: والاسمِ الأعظم إني ما عرَّيْتُهم. فقال: صدقتِ، ولكن هذا منصف بنتك زينب، وهذه جميلة عملتها معك. وسار وهي معه إلى ديوان الخليفة، فتقدَّمَ حسن وعرض حوائج الناس على الخليفة، وقدَّمَ دليلة بين يديه، فلما رآها أمر برَمْيها في بقعة الدم، فقالت: أنا في جيرتك يا شومان. فقام شومان وقبَّلَ أيادي الخليفة وقال له: العفو، أنت أعطيتَها الأمان. فقال الخليفة: وهي في كرامتك، تعالي يا عجوز، ما اسمك؟ فقالت: اسمي دليلة. فقال: ما أنت إلا حيالة ومحتالة، فلُقِّبْتِ بدليلة المحتالة. ثم قال لها: لأي شيء عملت هذه المناصف وأتعبتِ قلوبنا؟ فقالت: أنا ما فعلت هذه المناصف بقصد الطمع في متاع الناس، ولكن سمعت بمناصف أحمد الدنف التي لعبها في بغداد، ومناصف حسن شومان، فقلت: أنا الأخرى أعمل مثلهما، وقد رددتُ حوائجَ الناس إليهم. فقام الحمَّار وقال: شرع الله بيني وبينها؛ فإنها ما كفاها أخذ حماري حتى سلَّطَتْ عليَّ المزين المغربي، فقلع أضراسي وكواني في أصداغي كيتين. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 708﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الحمَّار لما قام وقال: شرع الله بيني وبينها، ما كفاها أخذ حماري حتى سلطت عليَّ المزين، فقلع أضراسي وكواني في أصداغي كيتين. أمر الخليفة للحمَّار بمائة دينار، وللصبَّاغ بمائة دينار، وقال: انزل عمِّرْ مصبغتك. فدعَوَا للخليفة ونزلَا، وأخذ البدوي حوائجه وحصانه، وقال: حرام عليَّ دخول بغداد وأكل الزلابية بالعسل. وكلُّ مَن كان له شيء أخذه، وانفضوا كلهم. وقال الخليفة: تمني عليَّ يا دليلة. فقالت: إن أبي كان عندك حاكم البطاقة، وأنا ربيت حمام الرسائل، وزوجي كان مقدم بغداد، ومرادي استحقاق زوجي، ومراد بنتي استحقاق أبيها. فرسم لهما الخليفة بما أرادتاه، ثم قالت له: أتمنى عليك أن أكون بوَّابة الخان. وكان الخليفة قد عمل خانًا بثلاثة أدوار ليسكن فيه التجار، وكان متدركًا بالخان أربعون عبدًا وأربعون كلبًا، وكان الخليفة جاء بهم من ملك السليمانية حين عزله، وعمل للكلاب أطواقًا، وكان في الخان عبد طباخ يطبخ الطعام للعبيد ويُطعِم الكلاب اللحم. فقال الخليفة: يا دليلة، أكتب عليك درك الخان، وإنْ ضاع منه شيء تكوني مُطالَبة به؟ فقالت: نعم، ولكن أسكِنْ بنتي في القصر الذي على باب الخان، فإن القصر له سطوح ولا تصح تربية الحمام إلا في الوسع. فأمر لها بذلك، وحوَّلت بنتها جميع حوائجها في القصر الذي على باب الخان، وتسلَّمَتِ الأربعين طيرًا التي تحمل الرسائل؛ وأما زينب فإنها علقت الأربعين بدلة وبدلة أحمد الدنف عندها في القصر، وكان الخليفة جعل دليلة المحتالة رئيسة على الأربعين عبدًا، وأوصاهم بإطاعتها، وجعلت محل قعودها خلف باب الخان، وصارت كلَّ يوم تطلع الديوان لربما يحتاج الخليفة إلى إرسال بطاقة للبلاد، فلم تنزل من الديوان إلا آخِر النهار، والأربعون عبدًا واقفون يحرسون الخان، فإذا دخل الليل تُطلِق الكلاب لأجل أن تحرس الخان بالليل. هذا ما جرى لدليلة المحتالة في مدينة بغداد.

 

وأما ما كان من أمر علي الزيبق المصري، فإنه كان شاطرًا بمصر في زمن رجل يُسمَّى صلاح المصري مقدم ديوان مصر، وكان له أربعون تابعًا، وكان أتباع صلاح المصري يعملون مكائد للشاطر علي ويظنون أنه يقع فيها، فيفتشون عليه فيجدونه قد هرب كما يهرب الزيبق، فمن أجل ذلك لقَّبوه بالزيبق المصري. ثم إن الشاطر علي كان جالسًا يومًا من الأيام في قاعةٍ بين أتباعه، فانقبض قلبه وضاق صدره، فرآه نقيب القاعة قاعدًا عابس الوجه، فقال له: ما لك يا كبيري؟ إن ضاق صدرك فشقَّ شقة في مصر، فإنه يزول عنك الهم إذا مشيتَ في أسواقها. فقام وخرج ليشق في مصر؛ فازداد غمًّا وهمًّا، فمرَّ على خمارة، فقال لنفسه: أدخل وأسكر. فدخل فرأى في الخمارة سبعة صفوف من الخلق، فقال: يا خمَّار، أنا ما أقعد إلا وحدي. فأجلسه الخمَّار في طبقة وحده، وأحضر له المدام، فشرب حتى غاب عن الوجود، ثم طلع من الخمارة وسار في مصر، ولم يزل سائرًا في شوارعها حتى وصل إلى الدرب الأحمر، وخلت الطريق قدامه من الناس هيبةً له، فالتفَتَ فرأى رجلًا سقَّاء يسقي بالكوز، ويقول في الطريق: يا معوض، ما شراب إلا من زبيب، ولا وصال إلا من حبيب، ولا يجلس في الصدر إلا لبيب. فقال له: تعالَ اسقني. فنظر إليه السقَّاء وأعطاه الكوز، فطلَّ في الكوز وخضَّه وكبَّه على الأرض، فقال له السقَّاء: ما تشرب؟ فقال له: اسقني. فملأه فأخذه وخضَّه وكبَّه في الأرض، وثالث مرة كذلك. فقال له: إن كنتَ ما تشرب روح. فقال له: اسقني. فملأ الكوز وأعطاه إياه، فأخذه منه وشرب، ثم أعطاه دينارًا، وإذا بالسقَّاء نظر إليه واستقلَّ به، وقال له: أَنْعِم بك، أَنْعِم بك يا غلام، صغار قوم كبار قوم آخَرين. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 709﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشاطر علي لما أعطى السقَّاء دينارًا، نظر إليه واستقل به، وقال له: أَنْعِم بك، أَنْعِم بك، صغار قوم كبار قوم آخرين. فنهض الشاطر علي وقبض على جلابيب السقَّاء، وسحب عليه خنجرًا مثمنًا، كما قيل في هذين البيتين:

اضْرِبْ بِخَنْجَرِكَ الْعَنِيدَ وَلَا تَخَفْ        أَحَدًا سِوَى مِنْ سَطْوَةِ الْخَلَّاقِ

وَتَجَنَّبِ الْخُلُقَ الذَّمِيمَ وَلَا تَكُنْ        أَبَدًا بِغَيْرِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ

فقال له: يا شيخ، كلِّمني بمعقول، فإن قربتك إن غلا ثمنها يبلغ ثلاثة دراهم، والكوزان اللذان دلقتهما على الأرض مقدار رطل من الماء. قال له: نعم. قال له: فأنا أعطيتك دينارًا من الذهب، ولأي شيء تستقل بي؟ فهل رأيت أحدًا أشجع مني أو أكرم مني؟ فقال له: رأيت أشجع منك وأكرم منك، فإنه ما دامت النساء تَلِد، ما على الدنيا شجاع ولا كريم. فقال له: مَن الذي رأيتَ أشجع مني وأكرم مني؟ فقال له: اعلم أن لي واقعة من العجب، وذلك أن أبي كان شيخ السقَّائين بالشربة في مصر، فمات وخلف لي خمسة جمال وبغلًا ودكانًا وبيتًا، ولكن الفقير لا يستغني، وإذا استغنى مات، فقلت في نفسي: أنا أطلع الحجاز. فأخذت قطار جمال، وما زلت أقترض حتى صار عليَّ خمسمائة دينار، وضاع مني جميع ذلك في الحج، فقلت في نفسي: إن رجعتُ إلى مصر تحبسني الناس على أموالهم. فتوجهت مع الحج الشامي حتى وصلت إلى حلب، وتوجهت من حلب إلى بغداد، ثم سألت عن شيخ السقائين ببغداد، فدلوني عليه، فدخلت وقرأت له الفاتحة، فسألني عن حالي، فحكيت له جميع ما جرى لي، فأخلى لي دكانًا وأعطاني قربة وعدة وسرحت على باب الله، وطفت في البلد، فأعطيت واحدًا الكوز ليشرب فقال لي: لم آكل شيئًا حتى أشرب عليه؛ لأنه عزمني بخيل في هذا اليوم، وجاءني بقلتين بين يديه، فقلت له: يابن الخسيس، هل أطعمتني شيئًا حتى تسقيني عليه؟ فرح يا سقَّاء حتى آكل شيئًا، وبعد ذلك اسقني. فجئت للثاني فقال: الله يرزقك. فصرتُ على هذا الحال إلى وقت الظهر، ولم يعطني أحدٌ شيئًا، فقلت: يا ليتني ما جئت إلى بغداد. وإذا أنا بناس يُسرِعون في الجري فتبعتهم، فرأيت موكبًا عظيمًا منجرًّا اثنين اثنين، وكلهم بالطوقي والشدود والبرانس واللبد والبولاد، فقلت لواحد: هذا موكب مَن؟ فقال: موكب المقدم أحمد الدنف. فقلت له: أي شيء رُتْبَته؟ فقال: مقدم الديوان ومقدم بغداد، وعليه درك البر، وله على الخليفة في كل شهر ألف دينار، ولكل واحد من أتباعه مائة دينار، حسن شومان له مثله ألف دينار، وهم نازلون من الديوان إلى قاعتهم.

وإذا بأحمد الدنف رآني، فقال: تعالَ اسقني. فملأت الكوز وأعطيته إياه، فخضَّه وكبَّه، وثاني مرة كذلك، وثالث مرة شرب رشفة مثلك، وقال لي: يا سقاء، من أين أنت؟ فقلت له: من مصر. فقال: حيَّا الله مصر وأهلها، وما سبب مجيئك إلى هذه المدينة؟ فحكيت له قصتي، وأفهمته أني مديون وهربان من الدين والعيلة، فقال: مرحبًا بك. ثم أعطاني خمسة دنانير، وقال لأتباعه: اقصدوا وجه الله وأحسنوا إليه. فأعطاني كل واحد دينارًا، وقال لي: يا شيخ، ما دمتَ في بغداد لك علينا ذلك كلما أسقيتَنا. فصرت أتردَّد عليهم وصار يأتيني الخير من الناس، ثم بعد أيام أحصيت الذي اكتسبته منهم؛ فوجدته ألف دينار، فقلت في نفسي: صار رواحك إلى البلاد أصوب. فرحت له القاعة، وقبَّلْتُ يديه، فقال: أي شيء تطلب؟ فقلت له: أريد السفر. وأنشدته هذين البيتين:

إِقَامَاتُ الْغَرِيبِ بِكُلِّ أَرْضٍ        كَبُنْيَانِ الْقُصُورِ عَلَى الرِّيَاحِ

هُبُوبُ الرِّيحِ يَهْدُمُ مَا بَنَاهُ        لَقَدْ عَزَمَ الْغَرِيبُ عَلَى الرَّوَاحِ

وقلت له: إن القافلة متوجِّهة إلى مصر، ومرادي أن أروح إلى عيالي. فأعطاني بغلة ومائة دينار، وقال: غرضنا أن نرسل معك أمانة يا شيخ، فهل أنت تعرف أهل مصر؟ فقلت له: نعم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 710﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السقَّاء لما قال: إن أحمد الدنف أعطاني بغلة ومائة دينار، وقال: غرضنا أن نُرسِل معك أمانة، فهل أنت تعرف أهل مصر؟ قال السقَّاء: فقلت له نعم. فقال خذ هذا الكتاب وأوصله إلى علي الزيبق المصري، وقل له: كبيرك يسلِّم عليك، وهو الآن عند الخليفة. فأخذت منه الكتاب وسافرت حتى دخلت مصر، فرآني أرباب الديون، فأعطيتهم الذي عليَّ، ثم عملت سقَّاء ولم أوصل الكتاب؛ لأني لم أعرف قاعة علي الزيبق المصري. فقال له: يا شيخ، طبْ نفسًا وقرَّ عينًا، فأنا علي الزيبق المصري، أول صبيان المقدم أحمد الدنف، فهات الكتاب. فأعطاه إياه، فلما فتحه وقرأه رأى فيه هذين البيتين:

كَتَبْتُ إِلَيْكَ يَا زَيْنَ الْمِلَاحِ        عَلَى وَرَقٍ يَسِيرُ مَعَ الرِّيَاحِ

وَلَوْ أَنِّي أَطِيرُ لَطِرْتُ شَوْقًا        وَكَيْفَ يَطِيرُ مَقْصُوصُ الْجَنَاحِ؟

وبعدُ، فالسلام من المقدم أحمد الدنف إلى أكبر أولاده علي الزيبق المصري، والذي نعلمك به أني تقصدت صلاح الدين المصري، ولعبت معه مناصف حتى دفنتُه بالحياة، وأطاعتني صبيانه ومن جملتهم علي كتف الجمل، وتولَّيْتُ مقدم مدينة بغداد في ديوان الخليفة، ومكتوب على درك البر؛ فإن كنتَ ترعى العهد الذي بيني وبينك فَأْتِ عندي لعلك تلعب منصفًا في بغداد يقرِّبك من خدمة الخليفة، فيكتب لك جامكية وجراية ويعمر لك قاعة، هذا هو المرام والسلام. فلما قرأ الكتاب قبَّله وحطَّه على رأسه، وأعطى السقَّاء عشرة دنانير بشارة، ثم توجه إلى القاعة ودخل على صبيانه، وأعلمهم بالخبر، وقال لهم: أوصيكم ببعضكم. ثم قلع ما كان عليه ولبس مشلحًا وطربوشًا، وأخذ علبة فيها مزراق من عود القنا طوله أربعة وعشرون ذراعًا، وهو معشق في بعضه، فقال له النقيب: أتسافر والمخزن قد فرغ؟ فقال له: إذا وصلت إلى الشام أرسل إليكم ما يكفيكم. وسار إلى حال سبيله، فلحق ركبًا مسافرًا، فرأى فيه شاه بندر التجار ومعه أربعون تاجرًا قد حملوا حمولهم وحمول شاه بندر التجار على الأرض، ورأى مقدمه رجلًا شاميًّا، وهو يقول للبغالين: واحد منكم يساعدني. فسبوه وشتموه، فقال علي في نفسه: لا يحسن سفري إلا مع هذا المقدم. وكان علي أمردًا مليحًا، فتقدَّم إليه وسلَّم عليه، فرحَّب به وقال له: أي شيء تطلب؟ فقال له: يا عمي، رأيتك وحيدًا وحمولتك أربعون بغلًا، ولأي شيء ما جئت لك بناس يساعدونك؟ فقال: يا ولدي، قد اكتريت ولدين وكسيتهما، ووضعت لكل واحد في جيبه مائتَيْ دينار، فساعداني إلى الخانكة وهربا. فقال له: وإلى أين تذهبون؟ قال: إلى حلب. فقال له: أنا أساعدك. فحملوا الحمول وساروا، وركب شاه بندر التجار بغلته وسار، ففرح المقدم الشامي بعليٍّ وعشقه إلى أن أقبل الليل، فنزلوا وأكلوا وشربوا، فجاء وقت النوم، فحطَّ علي جنبه على الأرض، وجعل نفسه نائمًا، فنام المقدم قريبًا منه، فقام علي من مكانه وقعد على باب صيوان التاجر، فانقلب المقدم وأراد أن يأخذ عليًّا في حضنه فلم يجده، فقال في نفسه: لعله واعَدَ واحدًا فأخذه، ولكن أنا أولى، وفي غير هذه الليلة أحجزه.

وأما علي فإنه لم يزل على باب صيوان التاجر إلى أن قرب الفجر، فجاء ورقد عند المقدم، فلما استيقظ المقدم وجده فقال في نفسه: إن قلت له أين كنتَ يتركني ويروح، ولم يزل يخادعه إلى أن أقبلوا على مغارة فيها غابة، وفي تلك الغابة سَبْعٌ كاسِر، وكلما تمر قافلة يعملون القرعة بينهم، فكلُّ مَن خرجت عليه القرعة يرمونه إلى السبع، فعملوا القرعة فلم تخرج إلا على شاه بندر التجار، وإذا بالسبع قطع عليهم الطريق ينتظر الذي يأخذه من القافلة، فصار شاه بندر التجار في كرب شديد، وقال للمقدم: الله يخيب كعبك وسفرتك، ولكن وصيتك بعد موتي أن تعطي أولادي حمولي. فقال الشاطر علي: ما سبب هذه الحكاية؟ فأخبروه بالقصة. فقال: ولأي شيء تهربون من قطِّ البر؟ فأنا ألتزم لكم بقتله. فراح المقدم إلى التاجر وأخبره فقال: إن قتله أعطيته ألف دينار. وقال بقية التجار: ونحن كذلك نعطيه. فقام علي وخلع المشلح، فبان عليه عدة من بولاد، فأخذ شريط بولاد وفرك لولبه، وانفرد قدام السبع وصرخ عليه، فهجم عليه السبع فضربه علي المصري بالسيف بين عينيه فقسمه نصفين، والمقدم والتاجر ينظرونه، وقال للمقدم: لا تَخَفْ يا عمي. فقال له: يا ولدي، أنا بقيت صبيك. فقام التاجر واحتضنه وقبَّله بين عينيه وأعطاه الألف دينار، وكل تاجر أعطاه عشرين دينارًا، فحطَّ جميع المال عند التاجر، وباتوا وأصبحوا عامدين إلى بغداد، فوصلوا إلى غابة الآساد ووادي الكلاب، وإذا فيه رجل بدوي عاصٍ قاطعٌ للطريق ومعه قبيلة، فطلع عليهم فولَّتِ الناس من بين أيديهم. فقال التاجر: ضاع مالي. وإذا بعلي أقبل عليهم وهو لابس جلدًا ملآن جلاجل، وأطلع المزراق وركب عُقَله في بعضها، واختلس حصانًا من خيل البدوي وركبه، وقال للبدوي: بارِزْني بالرمح! وهزَّ الجلاجل، فجفلت فرس البدوي من الجلاجل، وضرب مزراق البدوي فكسره، وضربه على رقبته فرمى دماغه. فنظره قومه فانطبقوا على علي، فقال: الله أكبر. ومال عليهم فهزمهم وولَّوْا هاربين، ثم رفع دماغ البدوي على رمح، وأنعم عليه التجار وسافروا حتى وصلوا إلى بغداد، فطلب الشاطر علي المال من التاجر فأعطاه إياه، فسلَّمَه إلى المقدم وقال له: لما تروح مصر اسأل عن قاعتي، وأعطِ المال لنقيب القاعة.

ثم بات علي وأصبح دخل المدينة، وشقَّ فيها وسأل عن قاعة أحمد الدنف، فلم يدله أحد عليها، ثم تمشَّى حتى وصل إلى ساحة النفض، فرأى أولادًا يلعبون وفيهم ولدٌ يُسمَّى أحمد اللقيط. فقال علي: لا تُأخَذ أخبارهم إلا من صغارهم. فالتفت علي فرأى حلوانيًّا، فاشترى منه حلاوة وصاح على الأولاد، وإذا بأحمد اللقيط طرد الأولاد عنه، ثم تقدَّمَ هو وقال لعلي: أي شيء تطلب؟ قال له: أنا كان معي ولد ومات، فرأيته في المنام يطلب حلاوة فاشتريتها، فأريد أن أعطي لكل ولد قطعة، وأعطى أحمد اللقيط قطعة، فنظرها فرأى فيها دينارًا لاصقًا بها، فقال له: رح أنا ما عندي فاحشة واسأل عني. فقال له: يا ولدي، ما يأخذ الكرى إلا شاطر، ولا يحط الكرى إلا شاطر، أنا درتُ في البلد أفتش على قاعة أحمد الدنف فلم يدلني عليها أحد، وهذا الدينار كراك وتدلني على قاعة أحمد الدنف. فقال له: أنا أروح أجري قدامك، وأنت تجري ورائي إلى أن أقبل على القاعة، فآخذ في رجلي حصوة، فأرميها على الباب فتعرفها. فجرى الولد وجرى علي وراءه، إلى أن أخذ الحصوة برجله ورماها على باب القاعة فعرفها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 711﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن أحمد اللقيط لما جرى قدَّام الشاطر علي وأراه القاعة وعرفها، قبض على الولد، وأراد أن يخلص منه الدينار فلم يقدر، فقال له: رح تستاهل الإكرام؛ لأنك زكي كامل العقل والشجاعة، وإن شاء الله إن عملت مقدمًا عند الخليفة أجعلك من صبياني. فراح الولد. وأما علي الزيبق المصري فإنه أقبل على القاعة، وطرق الباب، فقال أحمد الدنف: يا نقيب افتح الباب، هذه طرقة علي الزيبق المصري. ففتح له الباب ودخل على أحد الدنف وسلَّم عليه وقابله بالعناق، وسلَّم عليه الأربعون، ثم إن أحمد الدنف ألبسه حلة، وقال له: إني لما ولَّاني الخليفة مقدمًا عنده، كسا صبياني، فأبقيت لك هذه الحلة.

ثم أجلسوه في صدر المجلس بينهم، وأحضروا الطعام فأكلوا، والشراب فشربوا وسكروا إلى الصباح، ثم قال أحمد الدنف لعلي المصري: إياك أن تشق في بغداد، بل استمر جالسًا في هذه القاعة. فقال له: لأي شيء؟ فهل جئتُ لأُحْبَس؟ أنا ما جئتُ إلا لأجل أن أتفرَّج. فقال له: يا ولدي، لا تحسب أن بغداد مثل مصر، هذه بغداد محل الخلافة، وفيها شطار كثير، وتنبت فيها الشطارة كما ينبت البقل في الأرض. فأقام علي في القاعة ثلاثة أيام، فقال أحمد الدنف لعلي المصري: أريد أن أقربك عند الخليفة لأجل أن يكتب لك جامكية. فقال له: حتى يئين الأوان. فترك سبيله.

ثم إن عليًّا كان قاعدًا في القاعة يومًا من الأيام، فانقبض قلبه وضاق صدره، فقال لنفسه: قم شق في بغداد ينشرح صدرك. فخرج وسار من زقاق إلى زقاق، فرأى في وسط السوق دكانًا، فدخل وتغدى فيه، وطلع يغسل يديه، وإذا بأربعين عبدًا بالشريطات البولاد واللبد، وهم سائرون اثنين اثنين، وآخِر الكل دليلة المحتالة راكبة فوق بغلة، وعلى رأسها خوذة مطلية بالذهب وبيضة من بولاد وزردية، وما يناسب ذلك، وكانت دليلة نازلة من الديوان إلى الخان، فلما رأت علي الزيبق المصري تأمَّلَتْ فيه فرأته يشبه أحمد الدنف في طوله وعرضه، وعليه عباءة وبرنس وشريط من بولاد ونحو ذلك، والشجاعة لائحة عليه تشهد له ولا تشهد عليه، فسارت إلى الخان، واجتمعت ببنتها زينب، وأحضرت تخت رمل، فضربت الرمل فطلع لها اسمه علي المصري، وسعده غالب على سعدها وسعد بنتها زينب. فقالت لها:

يا أمي أي شيء ظهر لك حين ضربتِ هذا التخت؟ فقالت: أنا رأيت اليوم شابًّا يشبه أحمد الدنف، وخائفة أن يسمع أنك أعريتِ أحمد الدنف وصبيانه، فيدخل الخان ويلعب معنا منصفًا لأجل أن يخلِّص ثأر كبيره، وثأر الأربعين، وأظن أنه نازل في قاعة أحمد الدنف. فقالت لها بنتها زينب: أي شيء هذا؟ أظن أنك حسبت حسابه. ثم لبست بدلة من أفخر ما عندها، وخرجت تشق في البلد. فلما رآها الناس صاروا يتعشقون فيها، وهي توعد وتحلف وتسمع وتسطح، وسارت من سوق إلى سوق حتى رأت عليًّا المصري مُقبِلًا عليها، فزاحمَتْه بكتفها والتفتت، وقالت: الله يحيي أهل النظر. فقال لها: ما أحسن شكلك! لمَن أنت؟ فقالت: للغندور الذي مثلك. فقال لها: هل أنت متزوجة أم عازبة؟ فقالت: متزوجة. فقال لها: عندي أم عندك؟ فقالت: أنا بنت تاجر، وزوجي تاجر، وعمري ما خرجت إلا في هذا اليوم، وما ذاك إلا أني طبخت طعامًا وأردت أن آكل فما لقيت لي نفسًا، ولما رأيتك وقعتْ محبتُك في قلبي، فهل يمكن أن تقصد جبر قلبي، وتأكل عندي لقمة؟ فقال لها: مَن دُعِي فَلْيُجِبْ.

ومشت وتبعها من زقاق إلى زقاق، ثم قال في نفسه وهو ماشٍ خلفها: كيف تفعل وأنت غريب؟ وقد ورد مَن زنى في غربته ردَّه الله خائبًا، ولكن ادفعها عنك بلطف. ثم قال: خذي هذا الدينار واجعلي الوقت غير هذا. فقالت له: والاسمِ الأعظمِ ما يمكن إلا أن تروح معي في هذا الوقت إلى البيت وأصافيك. فتبعها إلى أن وصلت باب دارٍ عليها بوابة عالية والضبة مغلقة، فقالت له: افتح هذه الضبة. فقال لها: وأين مفتاحها؟ فقالت له: ضاع. فقال لها: كلُّ مَن فتح ضبة بغير مفتاح يكون مجرمًا، وعلى الحاكم تأديبه، وأنا ما أعرف شيئًا حتى أفتحها بلا مفتاح. فكشفت الإزار عن وجهها، فنظرها نظرة أعقبته ألف حسرة، ثم أسبلت إزارها على الضبة وقرأت عليها أسماء أم موسى ففتحتها بلا مفتاح، ودخلت فتبعها، فرأى سيوفًا وأسلحة من البولاد، ثم إنها خلعت الإزار وقعدت معه، فقال لنفسه: استوفِ ما قدَّرَه الله عليك. ثم مال عليها ليأخذ قبلةً من خدها، فوضعت كفها على خدها، وقالت له: ما صفاء إلا في الليل. وأحضرت سفرة طعام ومدام فأكلا وشربا، وقامت ملأت الإبريق من البئر وكبت على يديه فغسلهما. فبينما هما كذلك وإذا بها دقت على صدرها وقالت: إن زوجي كان عنده خاتم من ياقوت مرهون على خمسمائة دينار، فلبسته فجاء واسعًا فضيَّقته بشمعة، فلما أدليت الدلو سقط الخاتم في البئر، ولكن التفت إلى جهة الباب حتى أتعرَّى، وأنزل البئر لأجيء به. فقال لها: عيب عليَّ أن تنزلي وأنا موجود، فما ينزل إلا أنا. فقلع ثيابه، وربط نفسه في السلبة، وأدلته في البئر، وكان الماء فيه غزيرًا، ثم قالت له: إن السلبة قد قصرت مني، ولكن فك نفسك وانزل. ففكَّ نفسه ونزل في الماء وغطس فيه قامات، ولم يحصل قرار البئر، وأما هي فإنها لبست إزارها وأخذت ثيابه، وراحت إلى أمها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 712﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن عليًّا المصري لمَّا نزل في البئر وأخذت ثيابه، راحت إلى أمها وقالت لها: قد عرَّيتُ عليًّا المصري، وأوقعته في بئر الأمير حسن صاحب الدار، وهيهات أن يخلص. وأما الأمير حسن صاحب الدار، فإنه كان في وقتها غائبًا في الديوان، فلما أقبل رأى بيته مفتوحًا، فقال للسائس: لأي شيء ما أغلقتَ الضبة؟ فقال: يا سيدي، إني أغلقتها بيدي. فقال: وحياة رأسي إن بيتي قد دخله حرامي. ثم دخل الأمير حسن وتلفَّتَ في البيت فلم يجد أحدًا، فقال للسائس: املأ الإبريق حتى أتوضأ. فأخذ السائس الدلو وأدلاه، فلما سحبه وجده ثقيلًا، فطلَّ في البئر فرأى شيئًا قاعدًا في السطل، فألقاه في البئر ثانيًا، ونادى وقال: يا سيدي، قد طلع لي عفريت من البئر. فقال له الأمير حسن: رح هات أربعة فقهاء يقرءون القرآن عليه حتى ينصرف. فلما أحضر الفقهاء قال لهم: احتاطوا بهذا البئر واقرءوا على هذا العفريت. ثم جاء العبد والسائس وأنزلَا الدلو، وإذا بعلي المصري تعلَّقَ به، وخبَّأ نفسه في الدلو، وصبر حتى صار قريبًا منهم، ووثب من الدلو وقعد بين الفقهاء. فصاروا يلطشون بعضهم، ويقولون: عفريت عفريت. فرآه الأمير حسن غلامًا إنسيًّا، فقال له: هل أنت حرامي؟ فقال: لا. فقال له: ما سبب نزولك في البئر؟ فقال له: أنا نمت واحتلمت، فنزلت لأغتسل في بحر الدجلة فغطست وجذبني الماء تحت الأرض حتى خرجت من هذه البئر. فقال له: قُلِ الصدقَ. فحكى له جميع ما جرى له، فأخرجه من البيت بثوبٍ قديم، فتوجَّهَ إلى قاعة أحمد الدنف وحكى له ما وقع له، فقال: أَمَا قلتُ لك إن بغداد فيها نساء تلعب على الرجال؟ فقال علي كتف الجمل: بحق الاسم الأعظم أن تخبرني كيف تكون رئيس فتيان مصر وتعرِّيك صبية؟ فصعب عليه ذلك وندم، فكساه أحمد الدنف بدلة غيرها.

ثم قال حسن شومان: هل أنت تعرف الصبية؟ فقال: لا. فقال له: هذه زينب بنت دليلة المحتالة بوابة خان الخليفة، فهل وقعتَ في شبكتها يا علي؟ قال: نعم. فقال له: يا علي، إن هذه أخذت ثياب كبيرك وثياب جميع صبيانه. فقال: هذا عار عليكم. فقال له: وأي شيء مرادك؟ فقال: مرادي أن أتزوَّج بها. فقال له: هيهات، سلِّ فؤادك عنها. فقال له: وما حيلتي في زواجها يا شومان؟ فقال: مرحبًا بك إن كنتَ تشرب من كفي، وتمشي تحت رايتي، بلغت مرادك منها. فقال له: نعم. فقال له: يا علي، اقلع ثيابك. فقلع ثيابه وأخذ قدرًا وغلى فيه شيئًا مثل الزفت، ودهنه به، فصار مثل العبد الأسود، ودهن شفتيه وخديه وكحَّلَه بكحل أحمر، وألبسه ثياب خدام، وأحضر عنده سفرة كباب ومدام وقال له: إن في الخان عبدًا طباخًا، وأنت صرت شبيهه، ولا يحتاج من السوق إلا اللحمة والخضار، فتوجَّه إليه بلطف وكلِّمه بكلام العبيد وسلِّم عليه وقل له: زمان ما اجتمعت بك في البوظة. فيقول لك: أنا مشغول، في رقبتي أربعون عبدًا أطبخ لهم سماطًا في الغداء، وسماطًا في العشاء، وأطعم الكلاب، وسفرة لدليلة وسفرة لبنتها زينب. ثم قُلْ له: تعالَ نأكل كبابًا ونشرب بوظة. وادخل وإياه القاعة وأسكره، ثم اسأله عن الذي يطبخه كم لون هو؟ وعن أكل الكلاب، وعن مفتاح المطبخ، وعن مفتاح الكرار، فإنه يخبرك؛ لأن السكران يخبر بجميع ما يكتمه في حال صحوه، وبعد ذلك بنِّجْه والبس ثيابه، وخذ السكاكين في وسطك، وخذ مقطف الخضار واذهب إلى السوق واشترِ اللحم والخضار، ثم ادخل المطبخ والكرار واطبخ الطبيخ، ثم اغرفه وخذ الطعام وادخل به على دليلة في الخان، وحط البنج في الطعام حتى تبنج الكلاب والعبيد ودليلة وبنتها زينب، ثم اطلع القصر وائتِ بجميع الثياب منه. وإن كان مرادك أن تتزوَّج بزينب تجيء معك بالأربعين طيرًا التي تحمل الرسائل.

فطلع فرأى العبد الطباخ فسلَّمَ عليه، وقال له: زمان ما اجتمعنا بك في البوظة. فقال له: أنا مشغول بالطبيخ للعبيد والكلاب. فأخذه وأسكره وسأله عن الطبيخ كم لون هو؟ فقال له: كل يوم خمسة ألوان في الغداء، وخمسة ألوان في العشاء، وطلبوا مني أمس لونًا سادسًا وهو الزردة، ولونًا سابعًا وهو طبيخ حب الرمان. فقال: وأي شيء حال السفرة التي تعملها؟ فقال: أؤدي سفرة إلى زينب، وبعدها سفرة لدليلة، وأعشي العبيد، وبعدهم أعشي الكلاب وأُطعِم كل واحد كفايته من اللحم، وأقل ما يكفيه رطل. وأنسته المقادير أن يسأله عن المفاتيح، ثم قلَّعَه ثيابه ولبسها هو، وأخذ المقطف وراح السوق، فأخذ اللحم والخضار. وأدرك شهرزد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 713﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن عليًّا الزيبق المصري لما بنَّجَ العبد الطباخ، أخذ السكاكين وحطها في حزامه، وأخذ مقطف الخضار، ثم ذهب إلى السوق واشترى اللحم والخضار، ثم رجع ودخل من باب الخان، فرأى دليلة قاعدة تنتقد الداخل والخارج، ورأى الأربعين عبدًا مسلَّحين، فقوَّى قلبه، فلما رأته دليلة عرفته، فقالت له: ارجع يا رئيس الحرامية، أتعمل عليَّ منصفًا في الخان؟ فالتفتَ علي المصري وهو في صورة العبد إلى دليلة، وقال لها: ما تقولين يا بوابة؟ فقالت له: ماذا صنعتَ بالعبد الطباخ؟ وأي شيء فعلتَ فيه؟ فهل قتلته أو بنَّجته؟ فقال لها: أي عبد طباخ؟ فهل هناك عبد طباخ غيري؟ فقالت: تكذب، أنت علي الزيبق المصري. فقال لها بلغة العبيد: يا بوابة، هل المصرية بيضة أم سودة؟ أنا ما بقيت أخدم. فقال العبيد: ما لك يا بن عمنا؟ فقالت دليلة: هذا ما هو ابن عمكم، هذا علي الزيبق المصري، وكأنه بنج ابن عمكم أو قتله. فقالوا: هذا ابن عمنا سعد الله الطباخ. فقالت لهم: ما هو ابن عمكم، بل هو علي المصري وصبغ جلده. فقال لها: مَن علي؟ أنا سعد الله. فقالت: إن عندي دهان الاختبار. وجاءت بدهان فدهنت به ذراعه وحكَّتْه، فلم يطلع السواد. فقال العبيد: خليه يروح ليعمل لنا الغداء. فقالت لهم: إن كان هو ابن عمكم يعرف أي شيء طلبتم منه ليلة أمس، ويعرف كم لونًا يطبخها في كل يوم. فسألوه عن الألوان وعمَّا طلبوه ليلة أمس، فقال: عدس وأرز وشوربة ويخني وماء وردية، ولون سادس وهو زردة، ولون سابع وهو حب الرمان، وفي العشاء مثلها. فقال العبيد: صدق. فقالت لهم: ادخلوا معه، فإن عرف المطبخ والكرار فهو ابن عمكم، وإلا فاقتلوه. وكان الطباخ قد ربَّى قطًّا، فكلما يدخل الطباخ يقف القط على باب المطبخ، ثم ينط على أكتافه إذا دخل، فلما دخل ورآه القط نطَّ على أكتافه فرماه، فجرى قدامه إلى المطبخ، فلحظ أن القط ما وقف إلا على باب المطبخ، فأخذ المفاتيح فرأى مفتاحًا عليه أثر الريش، فعرف أنه مفتاح المطبخ ففتحه وحط الخضار، وخرج فجرى القط قدامه وعمد إلى باب الكرار، فلحظ أنه الكرار، فأخذ المفاتيح ورأى مفتاحًا عليه أثر الدهان، فعرف أنه مفتاح الكرار ففتحه، فقال العبيد: يا دليلة، لو كان غريبًا ما عرف المطبخ والكرار، ولا عرف مفتاح كل مكان من بين المفاتيح، وإنما هذا ابن عمنا سعد الله. فقالت: إنما عرف الأماكن من القط، وميَّزَ المفاتيح من بعضها بالقرينة، وهذا الأمر لا يدخل عليَّ. ثم إنه دخل المطبخ وطبخ الطعام وطلَّع سفرة إلى زينب، فرأى جميع الثياب في قصرها، ثم نزل وحطَّ سفرة لدليلة وغدَّى العبيد وأطعم الكلاب، وفي العشاء كذلك، وكان الباب لا يفتح ولا يقفل إلا بشمس في الغداة والعشي.

ثم إن عليًّا قام ونادى في الخان: يا سكان، قد سهرت العبيد للحرس، وأطلقنا الكلاب، وكل مَن طلع فلا يلوم إلا نفسه. وكان علي أخَّر عشاء الكلاب وحطَّ فيه السم، ثم قدَّمه إليها فلما أكلته ماتت، وبنَّجَ جميع العبيد ودليلة وبنتها زينب، ثم طلع فأخذ جميع الثياب وحمام البطاقة، وفتح الخان، وخرج وسار إلى أن وصل إلى القاعة، فرآه حسن شومان فقال له: أي شيء فعلت؟ فحكى له جميع ما كان، فشكره، ثم إنه قام ونزع ثيابه، وغلى له عشبًا وغسله به، فعاد أبيض كما كان، وراح إلى العبد وألبسه ثيابه، وأيقظه من البنج، فقام العبد وذهب إلى الخضري، فأخذ الخضار ورجع إلى الخان.

هذا ما كان من أمر علي الزيبق المصري، وأما ما كان من أمر دليلة المحتالة، فإنه طلع من طبقته رجل تاجر من السكان عندما لاح الفجر، فرأى باب الخان مفتوحًا والعبيد مبنَّجة والكلاب ميتة، فنزل إلى دليلة فرآها مبنَّجة وفي رقبتها ورقة، ورأى عند رأسها أسفنجة فيها ضد البنج، فحطها على مناخير دليلة فأفاقت؛ فلما أفاقت قالت: أين أنا؟ فقال لها التاجر: أنا نزلت فرأيت باب الخان مفتوحًا، ورأيتُك مبنَّجة، وكذلك العبيد، وأما الكلاب فرأيتها ميتة. فأخذتِ الورقةَ فرأت فيها: ما عمل هذا العمل إلا علي المصري. فشمَّمَتِ العبيد وزينب بنتها ضد البنج وقالت: أَمَا قلتُ لكم إن هذا علي المصري؟ ثم قالت للعبيد: اكتموا هذا الأمر. وقالت لبنتها: كم قلتُ لكِ إن عليًّا ما يخلي ثأره؟ وقد عمل هذا العمل في نظير ما فعلتِ معه، وكان قادرًا أن يفعل معك شيئًا غير هذا، ولكنه اقتصر على هذا إبقاءً للمعروف وطلبًا للمحبة بيننا. ثم إن دليلة خلعت لباس الفتوة ولبست لباس النساء، وربطت المحرمة في رقبتها وقصدت قاعة أحمد الدنف، وكان عليٌّ حين دخل بالثياب وحمام الرسائل، قام شومان وأعطى للنقيب حق أربعين حمامة، فاشتراها وطبخها بين الرجال، وإذا بدليلة تدق الباب، فقال أحمد الدنف: هذه دقة دليلة، قم افتح لها يا نقيب. فقام وفتح لها فدخلت دليلة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 714﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن النقيب لما فتح القاعة لدليلة دخلت، فقال لها شومان: ما جاء بك هنا يا عجوز النحس، وقد تحزَّبْتِ أنتِ وأخوكِ زريق السماك؟ فقالت: يا مقدم، إن الحق عليَّ، وهذه رقبتي بين يديك، ولكن الفتى الذي عمل معي هذا المنصف مَن هو منكم؟ فقال أحمد الدنف: هو أول صبياني. فقالت له: أنت سياق الله عليه أنه يجيء لي بحمام الرسائل وغيره، وتجعل ذلك إنعامًا عليَّ. فقال حسن شومان: الله يقابلك بالجزاء يا علي، لأي شيء طبختَ ذلك الحمام؟ فقال علي: ليس عندي خبر أنه حمام الرسائل. ثم قال أحمد: يا نقيب هات نائبها. فأعطاها فأخذت قطعة من حمامة ومضغتها، فقالت: هذا ما هو لحم طير الرسائل، فإني أعلفه حب المسك، ويبقى لحمه كالمسك. فقال لها شومان: إن كان مرادك أن تأخذي حمام الرسائل، فاقضي حاجة علي المصري. فقالت: أي شيء حاجته؟ فقال لها: أن تزوِّجيه بنتك زينب. فقالت: أنا ما أحكم عليها إلا بالمعروف. فقال حسن لعلي المصري: أَعْطِها الحمام. فأعطاه إياه، فأخذته وفرحت به، فقال شومان: لا بد أن تروي علينا جوابًا كافيًا. فقالت: إن كان مراده أن يتزوَّج بها، فهذا المنصف الذي عمله هو شطارة، وما الشطارة إلا أن يخطبها من خالها المقدم زريق، فإنه وكيلها الذي ينادي: يا رطل سمك بجديدين. وقد علق في دكانه كيسًا حطَّ فيه من الذهب ألفَيْن. فعندما سمعوها تقول ذلك قاموا وقالوا: ما هذا الكلام يا عاهرة، إنما أردتِ أن تعدمينا أخانا عليًّا المصري. ثم إنها راحت من عندهم إلى الخان، فقالت لبنتها: قد خطبك مني علي المصري. ففرحت لأنها أحَبَّتْه لعفته عنها، وسألتها عمَّا جرى، فحكت لها ما وقع وقالت: شرطتُ عليه أن يخطبك من خالك وأوقعته في الهلاك.

وأما علي المصري فإنه التفت إليهم، وقال: ما شأن زريق؟ وأي شيء يكون هو؟ فقالوا: هو رئيس فتيان أرض العراق، يكاد أن ينقب الجبل ويتناول النجم، ويأخذ الكحل من العين، وهو في هذا الأمر ليس له نظير، ولكنه تاب عن ذلك، وفتح دكان سماك، فجمع من السمك ألفَيْ دينار ووضعها في كيس وربط في الكيس قيطانًا من حرير، ووضع في القيطان جلاجل وأجراسًا من نحاس، وربطه في وتد من داخل باب الدكان متصلًا بالكيس، وكلما يفتح الدكان يعلق الكيس وينادي: أين أنتم يا شطار مصر ويا فتيان العراق ويا مَهَرة بلاد العجم؟ زريق السماك علَّقَ كيسًا على وجه الدكان، كلُّ مَن يدَّعِي الشطارة ويأخذه بحيلة، فإنه يكون له. فتأتي الفتيان أهل الطمع، ويريدون أنهم يأخذونه فلم يقدروا؛ لأنه واضع تحت رجليه أرغفة من رصاص وهو يقلي ويوقد النار، فإذا جاء الطماع ليساهيه ويأخذه يضربه برغيف من رصاص فيتلفه أو يقتله، فيا علي، إذا تعرَّضْتَ له تكون كمَن يلطم في الجنازة، ولا يعرف مَن مات، فما لك قدرة على مقارعته، فإنه يُخشَى عليك منه، ولا حاجةَ لك بزواجك زينب، ومَن ترك شيئًا عاش بلاه. فقال: هذا عيب يا رجال؛ فلا بد لي من أخذ الكيس، ولكن هاتوا لي لبس صبية. فأحضروا له لبس صبية، فلبسه وتحنَّى وأرخى لثامًا، وذبح خروفًا وأخذ دمه، وطلع المصران ونظفه وعقده من تحتٍ وملأه بالدم، وربطه على فخذه ولبس عليه اللباس والخف، وعمل له نهدين من حواصل الطير وملأهما باللبن، وربط على بطنه بعض قماش، ووضع بينه وبين بطنه قطنًا، وتحزَّم عليه بفوطة كلها نشاء، فصار كل مَن ينظره يقول: ما أحسن هذا الكفل! وإذا بحمَّار مُقبِل فأعطاه دينارًا، وأركبه وسار به إلى جهة دكان زريق السماك، فرأى الكيس معلَّقًا، ورأى الذهب ظاهرًا منه، وكان زريق يقلي السمك، فقال: يا حمَّار، ما هذه الرائحة؟ فقال له: رائحة سمك زريق. فقال له: أنا امرأة حامل والرائحة تضرني، هات لي منه قطعة سمك. فقال الحمَّار لزريق: هل أصبحت تفوح الرائحة على النساء الحوامل؟ أنا معي زوجة الأمير حسن شر الطريق قد شمت الرائحة وهي حامل، فهات لها قطعة سمك؛ لأن الجنين تحرَّكَ في بطنها، فقال زريق: يا ستِّير، اللهم اكفنا شر هذا النهار. فأخذ قطعة سمك وأراد أن يقليها، فانطفأت النار، فدخل ليوقد النار، وكان علي المصري قاعدًا، فاتكأ على المصران فقطعه؛ فساح الدم من بين رجلَيْه، فقال: آه يا جنبي يا ظهري. فالتفت الحمَّار فرأى الدم سائحًا، فقال لها: ما لك يا سيدتي؟ فقال له وهو في صورة المرآة: قد أسقطتُ الجنين. فطلَّ زريق فرأى الدم، فهرب في الدكان وهو خائف، فقال له الحمَّار: الله ينكد عليك يا زريق، إن الصبية قد أسقطتِ الجنين، وإنك ما تقدر على زوجها، فلأي شيء أصبحت تفوح الرائحة؟ وأنا أقول لك: هات لها قطعة سمك ما ترضى. ثم أخذ الحمَّار حماره وتوجَّه إلى حال سبيله. وحين هرب زريق داخل الدكان مدَّ علي المصري يده إلى الكيس، فلما حصَّله خشخش الذهب الذي فيه وصلصلت الجلاجل والأجراس والحلق، فقال زريق: ظهر خداعك يا علق، أتعمل عليَّ منصفًا وأنت في صورة صبية؟ ولكن خذ ما جاءك. وضربه برغيفٍ من رصاص فراح خائبًا وحطَّ في غيره. فقام عليه الناس وقالوا: هل أنت سوقي وإلا مضارب؟ فإن كنت سوقيًّا فنزِّل الكيس واكف الناس شرك. فقال لهم: باسم الله على الرأس.

وأما علي فإنه راح إلى القاعة فقال له شومان: ما فعلت؟ فحكى له جميع ما وقع له، ثم قلع لبس النساء وقال: يا شومان، أحضر لي ثياب سائس. فأحضرها له فأخذها ولبسها، ثم أخذ صحنًا وخمسة دراهم، وراح لزريق السماك، فقال له: أي شيء تطلب يا أسطى؟ فأراه الدراهم في يده، فأراد زريق أن يعطي له من السمك الذي على الطبلية، فقال له: أنا ما آخذ إلا سمكًا سخنًا. فحطَّ السمك في الطاجن وأراد أن يقليه؛ فانطفأت النار، فدخل ليوقدها فمدَّ علي المصري يده ليأخذ الكيس، فحصل طرفه فخشخشت الأجراس والحلق والجلاجل، فقال له زريق: ما دخل عليَّ منصفك ولو جئتني في صورة سائس، وأنا عرفتك من قبض يدك على الفلوس والصحن. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 715﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن عليًّا المصري لما مدَّ يده ليأخذ الكيس خشخشت الأجراس والحلق، فقال له زريق: ما دخل عليَّ منصفك ولو جئتَني في صورة سائس، فأنا عرفتك من قبض يدك على الفلوس والصحن. وضربه برغيفٍ من رصاص، فراغ عنه علي المصري، فلم ينزل الرغيف الرصاص إلا في طاجن ملآن باللحم السخن، فانكسر ونزل بمرقته على كتف القاضي وهو سائر، ونزل الجميع في عب القاضي حتى وصل إلى محاشمه، فقال القاضي: يا محاشمي! ما أقبحك يا شَقِي؟ مَن عمل معي هذه العَملة؟ فقال له الناس: يا مولانا، هذا ولد صغير رجم بحجر فوقع في الطاجن، ما دفع الله كان أعظم. ثم التفتوا فوجدوا الرغيف الرصاص، والذي رماه إنما هو زريق السماك، فقاموا عليه وقالوا: ما يحل من الله يا زريق، نزِّلِ الكيس أحسن لك. فقال: إن شاء الله أنزله.

وأما علي المصري فإنه راح إلى القاعة، ودخل على الرجال، فقالوا له: أين الكيس؟ فحكى لهم جميع ما جرى له، فقالوا له: أنت أضعتَ ثلثَيْ شطارته. فقلع ما عليه، ولبس بدلة تاجر، وخرج فرأى حاويًا معه جراب فيه ثعابين وجربندية فيها أمتعته، فقال له: يا حاوي، مرادي أن تفرِّج أولادي وتأخذ إحسانًا، فأتى به إلى القاعة وأطعمه وبنَّجَه ولبس بدلته، وراح إلى زريق السماك، وأقبل عليه وزمَّرَ بالزمارة، فقال له: الله يرزقك. وإذا به طلَّعَ الثعابين ورماها قدامه، وكان زريق يخاف من الثعابين؛ فهرب منها داخل الدكان، فأخذ الثعابين ووضعها في الجراب ومدَّ يده إلى الكيس، فحصل طرفه فشن الحلق والجلاجل والأجراس، فقال له: ما زلت تعمل عليَّ المناصف حتى عملتَ حاويًا؟ ورماه برغيف من رصاص، وإذا بواحد جندي سائر ووراءه السائس، فوقع الرغيف في رأس السائس فبطحه. فقال الجندي: مَن بطحه؟ فقال له الناس: هذا حجر نزل من السقيفة. فسار الجندي والتفتوا فرأوا الرغيف الرصاص، فقاموا عليه، وقالوا له: نزِّلِ الكيس. فقال: إن شاء الله أنزله في هذه الليلة. وما زال علي يلعب مع زريق حتى عمل معه سبعة مناصف ولم يأخذ الكيس، ثم إنه أرجع ثياب الحاوي ومتاعه إليه وأعطاه إحسانًا، ورجع إلى دكان زريق، فسمعه يقول: أنا إن بيَّتُّ الكيسَ في الدكان نقَّبَ عليه وأخذه، ولكن آخذه معي إلى البيت. ثم قام زريق وعزل الدكان ونزل الكيس وحطه في عبه، فتبعه علي إلى أن قرب من البيت، فرأى زريق جاره عنده فرح، فقال زريق في نفسه: حتى أروح البيت وأعطي زوجتي الكيس وألبس حوائجي، ثم أعود إلى الفرح. ومشى وعلي تابعه، وكان زريق متزوجًا بجارية سوداء من معاتيق الوزير جعفر، ورُزِق منها بولد وسمَّاه عبد الله، وكان يوعدها أنه يطاهر الولد بالكيس ويزوِّجه، ويصرفه في فرحه. ثم دخل زريق على زوجته وهو عابس الوجه، فقالت له: ما سبب عبوسك؟ فقال لها: ربنا بلاني بشاطر لعب معي سبعة مناصف على أنه يأخذ الكيس، فما قدر أن يأخذه. فقالت: هاتِه حتى أدَّخِره لفرح الولد. فأعطاها إياه.

وأما علي المصري فإنه تخبأ في مخدع، وصار يسمع ويرى، فقام زريق وقلع ما عليه ولبس بدلته، وقال لها: احفظي الكيس يا أم عبد الله، وأنا رائح إلى الفرح. فقالت له: نم لك ساعة. فنام، فقام علي ومشى على أطراف أصابعه وأخذ الكيس وتوجَّه إلى بيت الفرح ووقف يتفرَّج. وأما زريق فإنه رأى في منامه أن الكيس أخذه طائر، فأفاق مرعوبًا وقال لأم عبد الله: قومي انظري الكيس. فقامت تنظره فما وجدته، فلطمت على وجهها، وقالت: يا سواد حظك يا أم عبد الله، الكيس أخذه الشاطر. فقال: والله ما أخذه إلا الشاطر علي، وما أحد غيره أخذ الكيس، ولا بد أني أجيء به. فقالت: إن لم تجئ به وإلا قفلت عليك الباب وتركتك تبيت في الحارة. فأقبل زريق على الفرح فرأى الشاطر عليًّا يتفرَّج، فقال: هذا الذي أخذ الكيس، ولكنه نازل في قاعة أحمد الدنف. فسبقه زريق إلى القاعة وطلع على ظهرها ونزل فرآهم نائمين، وإذا بعلي أقبل ودقَّ الباب، فقال زريق: مَن بالباب؟ فقال: علي المصري. فقال له: هل جئت بالكيس؟ فظنَّ أنه شومان، فقال له: جئتُ به فافتح الباب. فقال له: ما يمكن أن أفتح لك حتى أنظره، فإنه وقع بيني وبين كبيرك رهان. فقال له: مدَّ يدك. فمدَّ يده من جنب عقب الباب، فأعطاه الكيس، فأخذه زريق وطلع من الموضع الذي نزل منه، وراح إلى الفرح. وأما علي فإنه لم يزل واقفًا على الباب، ولم يفتح له أحد، فطرق الباب طرقة مزعجة، فصحا الرجال وقالوا: هذه طرقة علي المصري. ففتح له النقيب وقال له: جئت بالكيس؟ فقال: يكفي مزاحًا يا شومان أَمَا أعطيتُك إياه من جنب عقب الباب، وقلت لي: أنا حالف أني لا أفتح لك الباب حتى تريني الكيس. فقال: والله ما أخذتُه، وإنما زريق هو الذي أخذه منك. فقال له: لا بد أني أجيء به. ثم خرج علي المصري متوجِّهًا إلى الفرح، فسمع الخلبوص يقول: شوبش يا أبا عبد الله، العاقبة عندك لولدك. فقال علي: أنا صاحب السعد. وتوجَّه إلى بيت زريق وطلع من فوق ظهر البيت ونزل، فرأى الجارية نائمة، فبنَّجَها ولبس بدلتها، وأخذ الولد في حجره ودار يفتش، فرأى مقطفًا فيه كعك العيد من بخل زريق، ثم إن زريقًا أقبل إلى البيت وطرق الباب، فجاوبه الشاطر علي وجعل نفسه الجارية وقال له: مَن بالباب؟ فقال: أبو عبد الله. فقال: أنا حلفت ما أفتح لك الباب حتى تجيء بالكيس؟ فقال: جئتُ به. فقال: هاتِه قبل فتح الباب. فقال: أدلي المقطف وخذيه فيه. فأدلى المقطف فحطَّه فيه، ثم أخذه الشاطر علي وبنَّجَ الولد وأيقظ الجارية، ونزل من الموضع الذي طلع منه وقصد القاعة، فدخل على الرجال وأراهم الكيس والولد معه، فشكروه وأعطاهم الكعك فأكلوه، وقال: يا شومان، هذا الولد ابن زريق فاخْفِه عندك. فأخذه وأخفاه وأتى بخروفٍ فذبحه وأعطاه للنقيب فطبخه قممة وكفنه، وجعله كالميت.

وأما زريق فإنه لم يزل واقفًا على الباب، ثم دقَّ الباب دقة مزعجة، فقالت له الجارية: هل جئت بالكيس؟ فقال لها: أَمَا أخذتِه في المقطف الذي أدليتِه؟ فقالت: أنا ما أدليتُ مقطفًا ولا رأيت كيسًا ولا أخذته. فقال: والله إن الشاطر علي سبقني وأخذه. ونظر في البيت فرأى الكعك معدومًا والولد مفقودًا، فقال: وا ولداه! فدقت الجارية على صدرها وقالت: أنا وإياك للوزير، ما قتل ابني إلا الشاطر الذي يفعل معك المناصف، وهذا بسببك. فقال لها: ضمانه عليَّ. ثم طلع زريق وربط المحرمة في رقبته وراح إلى قاعة أحمد الدنف ودقَّ الباب، ففتح له النقيب ودخل على الرجال، فقال شومان: ما جاء بك؟ فقال: أنتم سياق على علي المصري ليعطيني ولدي وأسامحه في الكيس الذهب. فقال شومان: الله يقابلك يا علي بالجزاء، لأي شيء ما أعلمتَني أنه ابنه؟ فقال زريق: أي شيء جرى عليه؟ فقال شومان: أطعمناه زبيبًا فشرق ومات وهو هذا. فقال: وا ولداه! ما أقول لأمه؟ ثم قام وفكَّ الكفن فرآه قممة، فقال له: أطربتني يا علي. ثم إنهم أعطوه ابنه، فقال أحمد الدنف: أنت كنتَ معلقًا الكيس لكلِّ مَن كان شاطرًا يأخذه، فإن أخذه شاطر يكون حقه، وإنه صار حق علي المصري. فقال: وأنا وهبته له. فقال له علي الزيبق المصري: اقبله من شأن بنت أختك زينب. فقال له: قبلته. فقالوا: نحن خطبناها لعلي المصري. فقال: أنا ما أحكم عليها إلا بالمعروف. ثم إنه أخذ ابنه وأخذ الكيس، فقال شومان: هل قبلتَ منَّا الخطبة؟ فقال: قبلتُها ممَّن كان يقدر على مهرها. فقال له: وأي شيء مهرها؟ فقال: إنها حالفة ألَّا يركب صدرها إلا مَن يجيء لها ببدلة قمر بنت عذرة اليهودي، وباقي حوائجها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 716﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن زريقًا قال لشومان: إن زينب حالفة ألَّا يركب صدرها إلا الذي يجيء لها ببدلة قمر بنت عذرة اليهودي والتاج والحياصة والتاسومة الذهب. فقال علي المصري: إن لم أجئ ببدلتها في هذه الليلة لا حقَّ لي في الخطبة. فقال له: يا علي، تموت إن عملت معها منصفًا. فقال لهم: ما سبب ذلك؟ فقالوا له: إن عذرة اليهودي ساحر مكَّار غدَّار يستخدم الجن، وله قصر خارج المملكة حيطانه طوبة من ذهب وطوبة من فضة، وذلك القصر ظاهر للناس ما دام قاعدًا فيه، ومتى خرج فإنه يختفي، ورُزِق ببنت اسمها قمر، وجاء لها بهذه البدلة من كنز، فيضع البدلة في صينية من الذهب ويفتح شبابيك القصر وينادي: أين شطَّار مصر وفتيان العراق ومَهَرة العجم؟ كلُّ مَن أخذ البدلة تكون له. فحاوَلَه بالمناصف سائر الفتيان فلم يقدروا أن يأخذوها، وسَحَرهم قرودًا وحميرًا. فقال علي: لا بد من أخذها، وتتجلى بها زينب بنت دليلة المحتالة. ثم توجَّهَ علي المصري إلى دكان اليهودي فرآه فظًّا غليظًا، وعنده ميزان وصنج وذهب وفضة ومناقد، ورأى عنده بغلة، فقام اليهودي وقفل الدكان، وحطَّ الذهب والفضة في كيسين، وحطهما في خُرْجٍ وحطَّه على البغلة وركب، وسار إلى أن وصل خارج البلد وعلي المصري وراءه وهو لم يشعر. ثم أطلع اليهودي ترابًا من كيس في جيبه وعزم عليه ورشَّه في الهواء، فرأى الشاطرُ عليٌّ قصرًا ما له نظير، ثم طلعت البغلة باليهودي في السلالم، وإذا بالبغلة عون يستخدمه اليهودي، فنزَّلَ الخُرْج عن البغلة، وراحت البغلة واختفت. وأما اليهودي فإنه قعد في القصر وعليٌّ ينظر فعله، فأحضر اليهودي قصبة من ذهب، وعلق فيها صينية من ذهب بسلاسل من ذهب، وحط البدلة في الصينية، فرآها علي من خلف الباب، ونادى اليهودي أين شطَّار مصر وفتيان العراق ومَهَرة العجم؟ مَن أخذ هذه البدلة بشطارته فهي له. وبعد ذلك عزم فوضعت سفرة طعام فأكل، ثم رُفِعت السفرة بنفسها، وعزم مرة أخرى فوُضِعت بين يديه سفرة مدام فشرب، فقال علي: أنت لا تعرف أن تأخذ هذه البدلة إلا وهو يسكر. فجاءه من خلفه وسحب شريط البولاد في يده، فالتفت اليهودي وعزم وقال ليده: قفي بالسيف. فوقفت يده بالسيف في الهواء، فمدَّ يده الشمال فوقفت في الهواء، وكذلك رجله اليمنى، وصار واقفًا على رجل، ثم إن اليهودي صرف عنه الطلسم، فعاد علي المصري كما كان أولًا.

ثم إن اليهودي ضرب تخت رمل، فطلع له أن اسمه علي الزيبق المصري؛ فالتفت إليه وقال له: تعال، مَن أنت؟ وما شأنك؟ فقال: أنا علي المصري، صبي أحمد الدنف، وقد خطبت زينب بنت دليلة المحتالة، وعملوا عليَّ مهرها بدلة بنتك، فأنت تعطيها إليَّ إن أردتَ السلامة وتسلم. فقال له: بعد موتك، فإن ناسًا كثيرًا عملوا عليَّ مناصف من شأن أخذ البدلة، فلم يقدروا أن يأخذوها مني، فإن كنت تقبل النصيحة تسلم بنفسك، فإنهم ما طلبوا منك البدلة إلا لأجل هلاكك، ولولا أني رأيت سعدك غالبًا على سعدي لَكنتُ رميت رقبتك. ففرح علي لكون اليهودي رأى سعده غالبًا على سعده، فقال له: لا بد لي من أخذ البدلة وتسلم. فقال له: هل هذا مرادك ولا بد؟ قال: نعم. فأخذ اليهودي طاسة، وملأها ماء وعزم عليها، وقال: اخرج من الهيئة البشرية إلى هيئة حمار. ورَّشَه منها فصار حمارًا بحوافر وآذان طوال، وصار ينهق مثل الحمير، ثم ضرب عليه دائرة فصارت عليه سورًا، وصار اليهودي يسكر إلى الصباح، فقال له: أنا أركبك وأريح البغلة.

ثم إن اليهودي وضع البدلة والصينية والقصبة والسلاسل في خشخانة، ثم طلع وعزم عليه، فتبعه وحطَّ على ظهره الخُرْج، وركب عليه، واختفى القصر عن الأعين وسار وهو راكبه إلى أن نزل على دكانه، وفرغ الكيس الذهب والكيس الفضة في المنقد قدامه. وأما علي فإنه مربوط في هيئة حمار، ولكنه يسمع ويعقل ولا يقدر أن يتكلم، وإذا برجل ابن تاجر جار عليه الزمن، فلم يجد له صنعة خفيفة إلا السقاية، فأخذ أساور زوجته وأتى إلى اليهودي وقال له: أعطني ثمن هذه الأساور لأشتري لي به حمارًا؟ فقال اليهودي: تحمل عليه أي شيء؟ فقال له: يا معلم، أملأ عليه ماء من البحر وأقتات من ثمنه. فقال له اليهودي: خذ مني حماري هذا. فباع له الأساور وأخذ من ثمنها الحمار، وأعطاه اليهودي الباقي، وسار بعلي المصري وهو مسحور إلى بيته، فقال علي لنفسه: متى ما حطَّ عليك الحمَّار الخشب والقربة، وذهب بك عشرة مشاوير أعدمك العافية وتموت. فتقدَّمَتِ امرأةُ السقا تحطُّ له عليقه، وإذا به لطشها بدماغه، فانقلبت على ظهرها ونطَّ عليها ودق بفمه في دماغها، وأدلى الذي خلفه له الوالد، فصاحت فأدركها الجيران، فضربوه ورفعوه عن صدرها، وإذا بزوجها الذي أراد أن يعمل سقاء جاء إلى البيت، فقالت له: إما أن تطلقني وإما أن ترد الحمار إلى صاحبه. فقال لها: أي شيء جرى؟ فقالت له: هذا شيطان في صفة حمار، فإنه نطَّ عليَّ ولولا الجيران رفعوه من فوق صدري لفعل بي القبيح. فأخذه وراح إلى اليهودي، فقال له اليهودي: لأي شيء رددتَه؟ فقال له: هذا فعل مع زوجتي فعلًا قبيحًا. فأعطاه دراهمه وراح، وأما اليهودي فإنه التفت إلى علي وقال له: أتدخل باب المكر يا مشئوم حتى ردَّكَ إليَّ. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 717﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن اليهودي لما ردَّ له السقاء الحمار أعطاه دراهمه، والتفت إلى علي المصري وقال: أتدخل باب المكر يا مشئوم حتى ردك إليَّ؟ ولكن حيثما رضيت أن تكون حمارًا أنا أخليك فرجة للكبار والصغار، وأخذ الحمار وركبه وسار خارج البلد وأخرج الرماد وعزم عليه ورشَّه في الهواء، وإذا بالقصر ظهر، فطلع القصر ونزَّلَ الخُرْج من على ظهر الحمار، وأخذ كيسَي المال، وأخرج القصبة، وعلق فيها الصينية بالبدلة، ونادى مثل ما ينادي كل يوم: أين الفتيان من جميع الأقطار؟ مَن يقدر أن يأخذ هذه البدلة؟ وعزم مثل الأول، فوضع له سماط فأكل، وعزم فحضر المدام بين يديه، فسكر وأخرج طاسة فيها ماء، وعزم عليها ورشَّ منها على الحمار، وقال له: انقلبْ من هذه الصورة إلى صورتك الأولى. فعاد إنسانًا كما كان أولًا، فقال له: يا علي، اقبل النصيحة واكتف شري، ولا حاجة لك بزواج زينب وأَخْذ بدلة ابنتي، فإنها ما هي سهلة عليك، وترك الطمع أولى لك، وإلا أسحرك دبًّا أو قردًا، أو أسلِّط عليك عونًا يرميك خلف جبل قاف. فقال له: يا عذرة، أنا التزمتُ بأخذ البدلة، ولا بدَّ من أخذها وتسلم وإلا أقتلك. فقال له: يا علي أنت مثل الجوز، لو لم تنكسر ما تُؤكَل. وأخذ طاسة فيها ماء وعزم عليها ورشَّ منها عليه وقال: كن في صورة دبٍّ. فانقلب دبًّا في الحال، وحط الطوق في رقبته وربط فمه ودقَّ له وتدًا من حديد، وصار يأكل ويرمي له بعض لقم، ويكب عليه فضل الكأس.

فلما أصبح الصباح قام اليهودي ورفع الصينية والبدلة، وعزم على الدب فتبعه إلى دكانه، ثم قعد في الدكان وفرغ الذهب والفضة في المنقد، وربط السلسلة التي في رقبة الدب في الدكان، فصار علي يسمع ويعقل ولا يقدر أن ينطق، وإذا برجل تاجر أقبل على اليهودي وقال: يا معلم، أتبيعني هذا الدب؟ فإن لي زوجة وهي بنت عمي، قد وصفوا لها أن تأكل لحم دبٍّ وتندهن بشحمه. ففرح اليهودي وقال في نفسه: أبيعه لأجل أن يذبحه ونرتاح منه. فقال علي في نفسه: والله إن هذا يريد أن يذبحني والخلاص عند الله. فقال اليهودي: هو من عندي إليك هدية. فأخذه التاجر ومرَّ به على جزار، فقال له: هات العدة وتعالَ معي. فأخذ السكاكين وتبعه، ثم تقدَّمَ الجزار وربطه وصار يسنُّ السكين، وأراد أن يذبحه، فلما رآه علي المصري قاصده، فرَّ من بين يديه وطار بين السماء والأرض، ولم يزل طائرًا حتى نزل في القصر عند اليهودي.

وكان السبب في ذلك أن اليهودي ذهب إلى القصر بعد أن أعطى التاجر الدب، فسألته بنته، فحكى لها جميع ما وقع، فقالت: أحضر عونًا واسأله عن علي المصري، هل هو هذا أو رجل غيره يعمل منصفًا؟ فعزم وأحضر عونًا وسأله: هل هذا علي المصري أم هو رجل آخَر يعمل منصفًا؟ فاختطفه العون وجاء به وقال: هذا هو علي المصري بعينه، فإن الجزار كتَّفَه وسنَّ السكين، وشرع في ذبحه، فخطفته من بين يديه وجئت به. فأخذ اليهودي طاسة فيها ماء وعزم عليها ورشَّه منها، وقال له: ارجع إلى صورتك البشرية. فعاد كما كان أولًا، فرأته قمر بنت اليهودي شابًّا مليحًا، فوقعت محبتُه في قلبها، ووقعتْ محبتُها في قلبه، فقالت له: يا مشئوم، لأي شيء تطلب بدلتي حتى يفعل بك أبي هذه الفعال؟ فقال: أنا التزمت بأخذها لزينب النصابة لأجل أن أتزوَّج بها. فقالت له: غيرك لعب مع أبي مناصف لأجل أخذ بدلتي، فلم يتمكَّن منها. ثم قالت له: اترك الطمع. فقال: لا بد لي من أخذها ويسلم أبوك وإلا أقتله. فقال لها أبوها: انظري يا بنتي هذا المشئوم كيف يطلب هلاك نفسه؟ ثم قال له: أنا أسحرك كلبًا، وأخذ طاسة مكتوبة وفيها ماء وعزم عليها ورشَّه منها وقال له: كُنْ في صورة كلب. فصار كلبًا، وصار اليهودي يسكر هو وبنته إلى الصبح، ثم قام رفع البدلة والصينية وركب البغلة، وعزم على الكلب فتبعه، وصارت الكلاب تنبح عليه، فمرَّ على دكان سقطي، فقام السقطي منع عنه الكلاب فنام قدامه، والتفت اليهودي فلم يجده، فقام السقطي عزل دكانه، وراح بيته والكلب تابعه، فدخل السقطي داره فنظرت بنت السقطي فرأت الكلب، فغطَّتْ وجهها وقالت: يا أبي، أتجيء بالرجل الأجنبي فتُدخِله علينا؟ فقال: يا بنتي، هذا كلب. فقالت له: هذا علي المصري، سَحَره اليهودي. فالتفت إليه وقال له: أنت علي المصري؟ فأشار له برأسه نعم. فقال لها أبوها: لأي شيء سَحَره اليهودي؟ قالت له: بسبب بدلة بنته قمر، وأنا أقدر أن أخلِّصه. فقال: إن كان خيرًا، فهذا وقته. فقالت: إن كان يتزوَّج بي خلَّصته. فأشار لها برأسه نعم، فأخذت طاسة مكتوبة، وعزمت عليها، وإذا بصرخة عظيمة والطاسة وقعت من يدها، فالتفتَتْ فرأت جارية أبيها هي التي صرخت وقالت لها: يا سيدتي، أهذا هو العهد الذي بيني وبينك؟ وما أحد علمك هذا الفن إلا أنا، واتفقتِ معي أنك لا تفعلين شيئًا إلا بمشورتي، والذي يتزوَّج بك يتزوَّجني، وتكون لي ليلة ولك ليلة؟ قالت: نعم. فلما سمع السقطي هذا الكلام من الجارية، قال لبنته: ومَن علَّمَ هذه الجارية؟ قالت له: يا أبتِ، هي التي علَّمَتْني واسألها عن الذي علَّمها. فسأل الجارية، فقالت له: اعلم يا سيدي، أني لما كنتُ عند عذرة اليهودي، كنت أتسلَّل عليه وهو يتلو العزيمة، ولما يذهب إلى الدكان أفتح الكتب وأقرأ فيها، إلى أن عرفت عِلْم الروحاني؛ فسكر اليهودي يومًا من الأيام وطلبني للفراش، فأبيت وقلت: لا أمكِّنُك من ذلك حتى تُسلِم. فأَبَى، فقلت له: سوق السلطان. فباعني لك، وأتيت إلى منزلك، فعلَّمْتُ سيدتي، واشترطتُ عليها ألَّا تفعل منه شيئًا إلا بمشورتي، والذي يتزوَّج بها يتزوَّجني، ولي ليلة ولها ليلة. وأخذت الجارية طاسة فيها ماء وعزمت عليها ورشَّتْ منها الكلب وقالت له: ارجع إلى صورتك البشرية. فعاد إنسانًا كما كان أولًا، فسلَّمَ عليه السقطي وسأله عن سبب سحره، فحكى له جميع ما وقع له. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 718﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السقطي لما سلم على علي المصري، وسأله عن سبب سحره، وما وقع له، حكى له جميع ما جرى له. فقال له: أتكفيك بنتي والجارية؟ فقال: لا بد من أخذ زينب. وإذا بداق يدق الباب فقالت الجارية: مَن بالباب؟ فقالت: قمر بنت اليهودي، هل علي المصري عندكم؟ فقالت لها بنت السقطي: يا ابنة اليهودي، وإذا كان عندنا أي شيء تفعلين به؟ انزلي يا جارية افتحي لها الباب. ففتحت لها الباب فدخلت، فلما رأت عليًّا ورآها قال لها: ما جاء بك هنا يا بنت الكلب؟ فقالت: أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. فأسلمت وقالت له: هل الرجال في دين الإسلام يمهرون النساء أو النساء تمهر الرجال؟ فقال لها: الرجال يمهرون النساء. فقالت: وأنا جئت أمهر نفسي لك بالبدلة والقصبة والسلاسل، ودماغ أبي عدوك وعدو الله. ورمت دماغ أبيها قدامه، وقالت: هذه رأس أبي عدوك وعدو الله.

وسبب قتلها أباها أنه لما سحر عليًّا كلبًا، رأت في المنام قائلًا يقول لها: أسلمي. فأسلمت، فلما انتبهت عرضت على أبيها الإسلام فأبى، فلما أبى الإسلام بنجته وقتلته، فأخذ علي الأمتعة وقال للسقطي: في غد نجتمع عند الخليفة لأجل أن أتزوج بنتك والجارية. وطلع وهو فرحان قاصد القاعة ومعه الأمتعة، وإذا برجل حلواني يخبط على يديه ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، الناس صار كدُّهم حرامًا لا يروح إلا في الغش، سألتك بالله أن تذوق هذه الحلاوة. فأخذ منه قطعة وأكلها فإذا فيها البنج، فبنجه وأخذ منه البدلة والقصبة والسلاسل، وحطها داخل صندوق الحلاوة وحمل الصندوق وطبق الحلاوة وسار، وإذا بقاضٍ يصيح عليه ويقول له: تعال يا حلواني. فوقف وحط القاعدة والطبق فوقها وقال: أي شيء تطلب؟ فقال له: حلاوة وملبسًا. ثم أخذ منهما في يده شيئًا وقال: إن هذه الحلاوة والملبس مغشوشان. وأخرج القاضي حلاوة من عبه وقال للحلواني: انظر هذه الصنعة، ما أحسنها! فكُلْ منها واعمل نظيرها. فأخذها الحلواني فأكل منها، وإذا فيها البنج، فبنجه وأخذ القاعدة والصندوق والبدلة وغيرها، وحط الحلواني في القاعدة وحمل الجميع وتوجَّه إلى القاعة التي فيها الدنف، وكان القاضي حسن شومان، وسبب ذلك أن عليًّا لما التزم بالبدلة وخرج في طلبها، لم يسمعوا عنه خبرًا فقال أحمد الدنف: يا شباب اطلعوا فتشوا على أخيكم علي المصري. فطلعوا يفتشون عليه في المدينة، فطلع حسن شومان في صفة قاضٍ، فقابل الحلواني فعرف أنه أحمد اللقيط، فبنجه وأخذه، وصحبته البدلة، وسار به إلى القاعة.

وأما الأربعون فإنهم داروا يفتشون في شوارع البلد، فخرج علي كتف الجمل من بين أصحابه فرأى زحمة، وقصد الناس المزدحمين، فرأى عليًّا المصري بينهم مُبنَّجًا فأيقظه من البنج، فلما أفاق رأى الناس مجتمعين عليه، فقال علي كتف الجمل: أفق لنفسك. فقال: أين أنا؟ فقال له علي كتف الجمل وأصحابه: نحن رأيناك مُبنَّجًا، ولم نعرف مَن بنَّجَك. فقال: بنَّجَني واحد حلواني، وأخذ مني الأمتعة، ولكن أين ذهب؟ فقالوا له: ما رأينا أحدًا، ولكن تعال رُحْ بنا القاعة. فتوجَّهوا إلى القاعة ودخلوا فوجدوا أحمد الدنف، فسلَّم عليهم وقال: يا علي، هل جئتَ بالبدلة؟ فقال: جئتُ بها وبغيرها وجئتُ برأس اليهودي، وقابلني حلواني فبنَّجَني وأخذها مني. وحكى له جميع ما جرى له، وقال له: لو رأيتُ الحلواني لَجازيته. وإذا بحسن شومان طالع من مخدع، فقال له: هل جئتَ بالأمتعة يا علي؟ فقال له: جئتُ بها، وجئتُ برأس اليهودي، وقابلني حلواني فبنَّجَني وأخذ البدلة وغيرها، ولم أعرف أين ذهب، ولو عرفت مكانه لنكيته؛ فهل تعرف أين ذهب ذلك الحلواني؟ فقال: أعرف مكانه. ثم قام وفتح له المخدع، فرأى الحلواني مُبنَّجًا فيه، فأيقظه من البنج، ففتح عينَيْه فرأى نفسه قدام علي المصري وأحمد الدنف والأربعين، فانصرع وقال: أين أنا؟ ومَن قبضني؟ فقال شومان: أنا الذي قبضتك. فقال له علي المصري: يا ماكرًا، تفعل هذه الفعال؟ وأراد أن يذبحه، فقال له حسن شومان: ارفع يدك، هذا صار صهرك. فقال: صهري؟! من أين؟ فقال له: هذا أحمد اللقيط ابن أخت زينب. فقال علي: لأي شيء هكذا يا لقيط؟ فقال له: أمرتني به جدتي دليلة المحتالة، وما ذاك إلا أن زريقًا السماك اجتمع بجدتي الدليلة المحتالة وقال لها: إن عليًّا المصري شاطر بارع الشطارة، ولا بد أن يقتل اليهودي ويجيء بالبدلة. فأحضرَتْني وقالت لي: يا أحمد هل تعرف عليًّا المصري؟ فقلت: أعرفه، وكنت أرشدته إلى قاعة أحمد الدنف. فقالت لي: رح انصب له شَرَكك، فإن كان جاء بالأمتعة، فاعمل عليه منصفًا وخذ منه الأمتعة. فطفت في شوارع المدينة حتى رأيت حلوانيًّا وأعطيته عشرة دنانير، وأخذت بدلته وحلاوته وعدته، وجرى ما جرى.

ثم إن عليًّا المصري قال لأحمد اللقيط: رح إلى جدتك وإلى زريق السماك، وأعلمهما بأني جئت بالأمتعة ورأس اليهودي، وقل لهما: غدًا قابِلاه في ديوان الخليفة، وخذا منه مهر زينب. ثم إن أحمد الدنف فرح بذلك، وقال: لا خابت فيك التربية يا علي. فلما أصبح الصباح، أخذ علي المصري البدلة والصينية والقصبة والسلاسل الذهب ورأس عذرة اليهودي على مزراق، وطلع إلى الديوان مع عمه وصبيانه، وقبَّلوا الأرض بين يدي الخليفة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 719﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن عليًّا لما طلع الديوان مع عمه أحمد الدنف وصبيانه، قبَّلوا الأرض بين يدي الخليفة، فالتفت الخليفة فرأى شابًّا ما في الرجال أشجع منه، فسأل الرجال عنه، فقال أحمد الدنف: يا أمير المؤمنين، هذا علي الزيبق المصري رئيس فتيان مصر، وهو أول صبياني. فلما رآه الخليفة أحبه لكونه رأى الشجاعة لائحة بين عينيه تشهد له لا عليه؛ فقام علي ورمى دماغ اليهود بين يدي الخليفة، وقال له: عدوك مثل هذا يا أمير المؤمنين. فقال له الخليفة: دماغ مَن هذا؟ فقال له: دماغ عذرة اليهودي. فقال الخليفة: ومَن قتله؟ فحكى له علي المصري ما جرى له من الأول إلى الآخِر. فقال الخليفة: ما ظننتُ أنك قتلته؛ لأنه كان ساحرا؟ فقال له: يا أمير المؤمنين، أقدَرَني ربي على قتله. فأرسل الخليفةُ الواليَ إلى القصر، فرأى اليهودي بلا رأس، فأخذه في تابوت وأحضره بين يدي الخليفة، فأمر بحرقه، وإذا بقمر بنت اليهودي أقبلت وقبَّلت الأرض بين يدي الخليفة، وأعلمته بأنها ابنة عذرة اليهودي، وأنها أسلمت، ثم جدَّدت إسلامها ثانيًا بين يدي الخليفة، وقالت له: أنت سياق على الشاطر علي الزيبق المصري أن يتزوَّجني. ووكَّلَتِ الخليفةَ في زواجها بعلي، فوهب الخليفة لعلي المصري قصر اليهودي بما فيه، وقال له: تمنَّ عليَّ. فقال: تمنيت عليك أن أقف على بساطك وآكل من سماطك. فقال الخليفة: يا علي، هل لك صبيان؟ فقال: لي أربعون صبيًّا، ولكنهم في مصر. فقال الخليفة: أرسل إليهم ليجيئوا من مصر. ثم قال له الخليفة: يا علي، هل لك قاعة؟ قال: لا. فقال حسن شومان: قد وهبتُ له قاعتي بما فيها يا أمير المؤمنين. فقال الخليفة: قاعتك لك يا حسن. وأمر الخازندار أن يعطي المعمار عشرة آلاف دينار ليبني له قاعة بأربع لواوين وأربعين مخدعًا لصبيانه. وقال الخليفة: يا علي، هل بقي لك حاجة نأمر لك بقضائها؟ فقال: يا ملك الزمان، أن تكون سياقًا على الدليلة المحتالة أن تزوِّجني بنتها زينب، وتأخذ بدلة بنت اليهودي وأمتعتها في مهرها. فقبلت دليلة سياق الخليفة وأخذت الصينية والبدلة والقصبة والسلاسل الذهب، وكتبوا كتابها عليه، وكتبوا أيضًا كتاب بنت السقطي والجارية وقمر بنت اليهودي عليه، ورتَّبَ له الخليفة جامكية، وجعل له سماطًا في الغداء وسماطًا في العشاء وجراية وعلوفة ومسموحًا، وشرع علي المصري في الفرح حتى كمل مدة ثلاثين يومًا.

ثم إن عليًّا المصري أرسل إلى صبيانه بمصر كتابًا يذكر لهم فيه ما حصل له من الإكرام عند الخليفة، وقال لهم في المكتوب: لا بد من حضوركم لأجل أن تحصلوا الفرح؛ لأني تزوَّجْتُ بأربع بنات. فبعد مدة يسيرة حضر صبيانه الأربعون، وحصلوا الفرح، فوطنهم في القاعة وأكرمهم غاية الإكرام، ثم عرضهم على الخليفة، فخلع عليهم. وجلت المواشط زينب بالبدلة على علي المصري، ودخل عليها فوجدها درة ما ثُقِبت، ومُهْرة لغيره ما رُكِبت، وبعدها دخل على الثلاث بنات فوجدهن كاملات الحُسْن والجمال، ثم بعد ذلك اتفق أن عليًّا المصري سهر عند الخليفة ليلة من الليالي، فقال له الخليفة: مرادي يا علي أن تحكي لي جميع ما جرى لك من الأول إلى الآخر. فحكى له جميع ما جرى من الدليلة المحتالة وزينب النصَّابة وزريق السماك؛ فأمر الخليفة بكتابة ذلك، وأن يجعلوه في خزانة الملك؛ فكتبوا جميع ما وقع له وجعلوه من جملة السِّيَر لأمة خير البشر، ثم قعدوا في أرغد عيش وأهناه، إلى أن أتاهم هادم اللذات ومفرق الجماعات، والله سبحانه وتعالى أعلم.

 

ومما يُحكَى أيضًا أيها الملك السعيد، أنه كان بمدينة شيراز ملك عظيم يُسمَّى السيف الأعظم شاه، وكان قد كبر سنه ولم يُرزَق ولدًا، فجمع الحكماء والأطباء وقال لهم: إني قد كبر سني وقد علمتم حالي وحال المملكة ونظامها، وإني خائف على الرعية من بعدي، وإلى الآن لم أُرزَق ولدًا. فقالوا: نحن نصنع لك شيئًا من العقاقير يكون فيه النفع إن شاء الله تعالى. فصنعوا له شيئًا واستعمله، ثم واقَعَ زوجته فحملت بإذن الله تعالى الذي يقول للشيء كن فيكون، فلما استكملتْ شهورَها وضعتْ ولدًا ذكرًا مثل القمر فسمَّاه أردشير، فكبر وانتشى وتعلَّم العلم والأدب إلى أن صار له من العمر خمس عشرة سنة. وكان بالعراق ملك يُسمَّى الملك عبد القادر، وكان له بنت كالبدر الطالع، وكانت تُسمَّى حياة النفوس، وكانت تبغض الرجال، فلا يكاد أحد أن يذكر الرجال بحضرتها، وقد خطبها من أبيها الملوكُ الأكاسرة، فيكلمها أبوها فتقول: لا أفعل هذا أبدًا، وإنْ غصبتَني عليه قتلتُ نفسي. فسمع ابن الملك أردشير بذِكْرها فأعلم والده بذلك، فنظر إلى حاله ورقَّ له وصار كل يوم يوعده بزواجها، ثم أرسل وزيره إلى أبيها ليخطبها فأبى، فلما رجع الوزير من عند الملك عبد القادر أخبره بما اتفق له معه، وأعلمه بعدم قضاء حاجته، فصعب ذلك على الملك واغتاظ غيظًا شديدًا وقال: هل مثلي يرسل إلى أحدٍ من الملوك في حاجةٍ فلا يقضيها؟ ثم أمر مناديًا أن ينادي في العسكر بتبريز الخيام وكثرة الاهتمام، ولو بالقرض في النفقة، وقال: ما بقيت أرجع حتى أخرب ديار الملك عبد القادر، وأقتل رجاله، وأمحو آثاره، وأنهب أمواله. فلما بلغ ولده أردشير هذا الخبر، قام عن فراشه ودخل على أبيه الملك وقبَّل الأرض بين يديه وقال له: أيها الملك الأعظم، لا تكلف نفسك بشيء من هذا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 720﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن ابن الملك لما بلغه هذا الخبر، دخل على أبيه الملك وقبَّلَ الأرض بين يديه وقال له: أيها الملك الأعظم، لا تكلف نفسك بشيء من هذا، وتجرد هذه الأبطال وهذا العسكر وتنفق مالك، فإنك أقوى منه، ومتى جرَّدْتَ عليه هذا العسكر الذي معك أخربت دياره وبلاده، وقتلت رجاله وأبطاله، ونهبت أمواله ويقتل هو أيضًا، فيبلغ ابنته ذلك مما حصل لأبيها وغيره من تحت رأسها، فتقتل نفسها وأنا أموت بسببها، ولا أعيش بعدها أبدًا. فقال له الملك: فما يكون رأيك يا ولدي؟ قال له: أنا أتوجَّه في حاجتي بنفسي، وألبس لبس التجار وأتحيَّل في الوصول إليها، وأنظر كيف يكون قضاء حاجتي منها. فقال له أبوه: هل اخترتَ هذا الرأي؟ فقال له: نعم يا والدي. فدعا الملك بالوزير وقال له: سافِرْ مع ولدي وثمرة فؤادي، وساعِدْه على مقاصده، واحتفظ عليه ودبِّرْه برأيك الرشيد، فإنك معه عوضًا عني. فقال الوزير: سمعًا وطاعة. ثم إن الملك أعطى ولده ثلاثمائة ألف دينار من الذهب، وأعطاه جواهر وفصوصًا ومصاغًا ومتاعًا وذخائر وما أشبه ذلك. ثم إن الولد دخل إلى والدته وقبَّلَ يديها وسألها الدعاء، فدعَتْ له، ثم قامت من ساعتها وفتحت خزانتها وأخرجت له ذخائر وقلائد ومصاغًا وملابس وتُحَفًا، وجميع الشيء الذي كان مدَّخَرًا من عهد الملوك السالفة ممَّا لا تعادله أموال. ثم أخذ معه من مماليكه وغلمانه ودوَّابه جميعَ ما يحتاج إليه في الطريق وغيره، وتزيَّا بزي التجار هو والوزير ومَن معهما، وودَّعَ والدته وأهله وقرائبه وساروا يقطعون البراري والقفار آناء الليل والنهار، فلما طالت عليه الطريق أنشد هذه الأبيات:

غَرَامِي مِنَ الْأَشْوَاقِ وَالسَّقْمِ زَائِدُ        وَمَا لِي عَلَى جَوْرِ الزَّمَانِ مُسَاعِدُ

أُرَاعِي الثُّرَيَّا وَالسِّمَاكَ إِذَا بَدَا        كَأَنِّيَ مِنْ فَرْطِ الصَّبَابَةِ عَابِدُ

أُرَاقِبُ نَجْمَ الصُّبْحِ حَتَّى إِذَا أَتَى        أَهِيمُ بِأَشْوَاقِي وَوَجْدِي زَائِدُ

أُحِبُّكُمُ لَسْتُ أُحِبُّ سِوَاكُمُ        سَقِيمٌ فُؤَادِي سَاهِرُ الْجَفْنِ وَاجِدُ

فَإِنْ عَزَّ مَا أَرْجُوهُ زَادَ بِيَ الضَّنَا        وَقَلَّ اصْطِبَارِي بَعْدَكُمْ وَالْمُسَاعِدُ

صَبَرْتُ إِلَى أَنْ يَجْمَعَ اللهُ شَمْلَنَا        وَتَكْمَدُ مِنْ ذَاكَ الْعِدَى وَالْحَوَاسِدُ

فلما فرغ من شعره غُشِي عليه ساعة، فرشَّ الوزير عليه ماء الورد، فلما أفاق قال له: يابن الملك صبِّرْ نفسك، فإن الصبر عاقبته الفرج، وها أنت سائر إلى ما تريد. ولم يزل الوزير يلاطفه ويسليه إلى أن سكن روعه وجدُّوا في السير، فلما طالت على ابن الملك الطريقُ تذكَّرَ محبوبته، فأنشد هذه الأبيات:

طَالَ الْبِعَادُ وَزَادَ الْهَمُّ وَالْقَلَقُ        وَمُهْجَتِي فِي لَهِيبِ النَّارِ تَحْتَرِقُ

وَشَابَ رَأْسِيَ مِمَّا قَدْ بُلِيتُ بِهِ        مِنَ الْغَرَامِ وَدَمْعُ الْعَيْنِ يَنْدَفِقُ

أَقْسَمْتُ يَا مُنْيَتِي يَا مُنْتَهَى أَمَلِي        بِخَالِقِ الْخَلْقِ مِنْهَا الْغُصْنُ وَالْوَرَقُ

سَهْلًا حَمَلْتُ عَذَابًا مِنْكِ يَا قَدَرِي        فَلَمْ يُطِقْ حَمْلَهُ فِي النَّاسِ مَنْ عَشِقُوا

فَاسْتَخْبِرُوا اللَّيْلَ عَنِّي فَهْوَ يُخْبِرُكُمْ        إِنْ كَانَ جَفْنِيَ طُولَ اللَّيْلِ يَنْطَبِقُ

فلما فرغ من إنشاد شعره بكى بكاءً شديدًا مما يلاقيه من شدة الغرام، فلاطفه الوزير وسلاه ووعده ببلوغ مُنَاه، وساروا أيامًا قلائل حتى أشرفوا على المدينة البيضاء بعد طلوع الشمس، فقال الوزير لابن الملك: أبشِرْ يا ابن الملك بكل خير، وانظر هذه المدينة البيضاء التي أنت طالبها. ففرح ابن الملك بذلك فرحًا شديدًا، وأنشد هذه الأبيات:

خَلِيلَيَّ إِنِّي مُغْرَمُ الْقَلْبِ هَائِمُ        وَوَجْدِي مُقِيمٌ وَالْغَرَامُ مُلَازِمُ

أَنُوحُ كَمَا الثَّكْلَانُ أَسْهَرَهُ الْأَسَى        إِذَا جَنَّ لَيْلِي لَيْسَ فِي الْعِشْقِ رَاحِمُ

وَإِنْ هَبَّتِ الْأَرْيَاحُ مِنْ نَحْوِ أَرْضِكُمُ        وَجَدْتُ لَهَا بَرْدًا عَلَى الْقَلْبِ قَادِمُ

وَتَنْهَلُّ أَجْفَانِي كَغَيْمٍ مَوَاطِرٍ        فَفِي بَحْرِ دَمْعِي ذَا فُؤَادِي عَائِمُ

فلما وصلا إلى المدينة البيضاء دخلاها وسألا عن خان التجار ومحل أرباب الأموال، فدلُّوهما عليه، فنزلا فيه وأخذا لهما ثلاثة حواصل، فلما أخذا المفاتيح فتحاها وأدخلا فيها بضائعهما وأمتعتهما، وأقاما حتى استراحَا، ثم قام الوزير يتحيَّل في أمر ابن الملك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 721﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الوزير وابن الملك لما نزلا في الخان وأدخلا بضائعهما في الحواصل وأجلسا هناك غلمانهما، ثم أقاما حتى استراحا، قام الوزير يتحيل في أمر ابن الملك فقال له: قد خطر ببالي شيء وأظن أن فيه الصلاح لك إن شاء الله تعالي. فقال له: أيها الوزير الحسن التدبير، افعل ما خطر ببالك سدَّد الله رأيك. قال له الوزير: أريد أن أستكري لك دكانًا في سوق البزازين وتقعد فيها؛ لأن كل أحد من الخاص والعام يحتاج إلى السوق، وأنا أظن أنك إذا جلست في الدكان ونظر إليك الناس بالعيون، تميل إليك القلوب فتقوى على نيل المطلوب؛ لأن صورتك جميلة وتميل إليك الخواطر وتبتهج بك النواظر. فقال له: افعل ما تختار وتريد. فعند ذلك نهض الوزير من ساعته ولبس أفخر ثيابه، وكذلك ابن الملك، وأخذ في جيبه كيسًا فيه ألف دينار، ثم خرجا يمشيان في المدينة، فنظرت الناس إليهما وبُهِتوا في حُسْن ابن الملك وقالوا: سبحان مَن خلق هذا الشاب من ماء مهين، فتبارك الله أحسن الخالقين. وكثر الكلام فيه وقالوا: ما هذا بشرًا، إن هذا إلا ملك كريم. ومن الناس مَن يقول: هل سها رضوان خازن الجنان عن باب الجنة فخرج منها هذا الغلام؟ وصارت الناس تتبعهما إلى سوق القماش حتى دخلا فيه ووقفا، فتقدَّم إليهما شيخ ذو هيبة ووقار، فسلَّمَ عليهما فردَّا عليه السلام، ثم قال لهما: يا سادتي، هل لكم من حاجة نتشرَّف بقضائها؟ قال له الوزير: ومَن تكون أنت يا شيخ؟ قال: أنا عريف السوق. فقال له الوزير: اعلم يا شيخ أن هذا الشاب ولدي، وأنا أشتهي أن آخذ له دكانًا في هذا السوق، ليجلس فيها ويتعلم البيع والشراء والأخذ والعطاء، ويتخلق بأخلاق التجار. قال العريف: سمعًا وطاعة. ثم إن العريف أحضر لهما مفتاح دكان في الوقت والساعة، وأمر الدلالين أن يكنسوها، فكنسوها ونظفوها وأرسل الوزير أحضر من أجل الدكان مرتبة عالية محشوة بريش النعام وعليها سجادة صغيرة، ودائرها مزركش بالذهب الأحمر، وأحضر أيضًا مخدة وأحضر من المتاع والقماش الذي حضر معه ما يملأ الدكان.

فلما كان في اليوم الثاني، حضر الغلام وفتح الدكان وجلس على تلك المرتبة وأوقف قدامه مملوكين لابسين أحسن الملابس، وأوقف في أسفل الدكان عبدين من أحسن الحبوش، وقد أوصاه الوزير بكتمان سرِّه عن الناس ليجد بذلك الإعانة على قضاء حوائجه، ثم تركه ومضى إلى المخازن، وأوصاه أن يعرفه بجميع ما يتفق له في الدكان يومًا بيوم، فصار الغلام جالسًا في دكانه كأنه البدر في تمامه، وكانت الناس تتسامع به وبحسنه، فيأتون إليه لغير حاجة ويحضرون السوق حتى ينظروا إلى حُسْنه وجماله، وقَدِّه واعتداله، ويسبحون الله تعالى الذي خلقه وسَوَّاه. وصار ذلك السوق لا يقدر أحد أن يشقه من فرط ازدحام الخلق عليه، وصار ابن الملك يتلفت يمينًا وشمالًا وهو متحير في أمره من الناس الذين هم باهتون له، ويترجَّى أن يعمل صحبة من أحد المقربين إلى الدولة؛ لعله أن يجلب إليه ذكر ابنة الملك، فلم يجد إلى ذلك سبيلًا، وضاق صدره لذلك والوزير يمنيه في كل يوم بحصول مراده، ولم يزل على هذا الحال مدة مديدة. فبينما هو جالس في الدكان يومًا من الأيام، وإذا بامرأة عجوز عليها حشمة وهيبة ووقار، وهي لابسة ثياب الصلاح وخلفها جاريتان كأنهما قمران، فوقفت على الدكان وتأملت الغلام ساعة وقالت: سبحان مَن خلق هذه الطلعة وأتقن هذه الصنعة. ثم إنها سلمت عليه فردَّ عليها السلام وأجلسها إلى جانبه، فقالت له: من أي البلاد أنت يا مليح الوجه؟ قال لها: أنا من نواحي الهند يا أمي، وقد جئت إلى هذه المدينة على سبيل الفرجة. فقالت له: كرمتَ مِن قادمٍ. ثم قالت له: أي شيء عندك من البضائع والمتاع والقماش؟ أَرِني شيئًا مليحًا يصلح للملوك. فلما سمع كلامها قال: أتريدين المليح حتى أعرضه عليك؟ فإن عندي كل شيء يصلح لأربابه. قالت له: يا ولدي، أنا أريد شيئًا يكون غالي الثمن مليح الشكل، أغلى شيء يكون عندك. قال لها: لا بد أن تعلميني لمَن تطلبين البضاعة؛ حتى أعرض عليك مقام الطالب. قالت: صدقتَ يا ولدي، أنا اريد شيئًا لسيدتي حياة النفوس بنت الملك عبد القادر صاحب هذه الأرض وملك هذه البلاد.

فلما سمع ابن الملك كلامها، طار عقله فرحًا وخفق قلبه، فمدَّ يده إلى خلفه ولم يأمر مماليكه ولا عبيده، وأخرج صرة فيها مائة دينار ودفعها للعجوز وقال لها: هذه الصرة من أجل غسيل ثيابك. ثم مد يده إلى بقجة وأخرج منها حلة تساوي عشرة آلاف دينارٍ وأكثر، وقال: هذا من جملة ما جئت به إلى أرضكم. فلما نظرت إليها العجوز أعجبتها وقالت: بكم هذه الحلة يا كامل الأوصاف؟ فقال: بغير ثمن. فشكرته وأعادت عليه القول، فقال: والله ما آخذ لها ثمنًا بل هي هبة مني إليكِ إذا لم تقبله الملكة، ويكون ضيافة مني لكِ والحمد لله الذي جمع بيني وبينك، حتى إذا احتجت في بعض الأيام حاجة وجدتك معينة لي على قضائها. فتعجبت العجوز من حسن ذلك الكلام وكثرة كرمه وزيادة أدبه، فقالت له: ما الاسم يا سيدي؟ قال لها: أردشير. قالت: والله هذا اسم عجيب يُسمَّى به أولاد الملوك، وأنت في زيِّ بني التجار؟! قال لها: من محبة والدي إياي سمَّاني بهذا الاسم، وليس الاسم يدل على شيء.

فتعجَّبَتْ منه العجوز وقالت: يا ولدي، خذ ثمن بضاعتك. فحلف أنه لا يأخذ شيئًا، ثم قالت العجوز: يا حبيبي، اعلم أن الصدق أعظم الأشياء، وما هذا الكرم الذي أنت تصنعه معي إلا من أجل أمر، فأَعْلِمني بأمرك وضميرك لعل لك حاجة فأساعدك على قضائها. فعند ذلك حطَّ يده في يدها وعاهَدَها على الكتمان، وحدثها بحديثه كله وأخبرها بمحبته لبنت الملك، وبما هو فيه من أجلها، فهزت العجوز رأسها وقالت: هذا هو الصحيح، ولكن يا ولدي قالت العقلاء في المثل السائر: إذا أردت أن تُطاع، فاسأل عمَّا لا يُستطاع، وأنت يا ولدي اسمك تاجر، ولو كان معك مفاتيح الكنوز لا يقال لك إلا تاجر، وإذا أردتَ أن تُعطَى درجة عالية عن درجتك، فاطلب بنت قاضٍ أو بنت أمير، فلأي شيء يا ولدي ما تطلب إلا بنت ملك العصر والزمان؟ وهي بنتٌ بِكْرٌ عذراء لم تعلم شيئًا من أمور الدنيا، ولا رأت في عمرها غير قَصْرها الذي هي فيه، ومع صغر سنها فإنها عاقلة لبيبة فطنة حاذقة، ذات عقل راجح وفعل صالح ورأي قادح، وإن أباها ما رُزِق إلا هي، وهي عنده أعز من روحه، وفي كل يوم يأتي إليها ويصيح عليها. وكلُّ مَن في قصرها يخاف منها، ولا تظن يا ولدي أن أحدًا يقدر أن يكلِّمها بشيء من هذا الكلام؛ فلا سبيل إلى ذلك. والله يا ولدي إن قلبي وجوارحي تحبك، ومرادي لو كنت مقيمًا عندها، ولكن أنا أعرفك بشيء لعل الله أن يجعل فيه شفاء قلبك، وأخاطر معك بروحي ومالي حتى أقضي لك حاجتك. فقال لها: وما هو يا أمي؟ قالت له: اطلب مني بنت وزير أو بنت أمير، فإن طلبت مني ذلك فأنا أجيبك إلى سؤالك؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يصعد من الأرض إلى السماء بوثبة واحدة. فقال لها الغلام بأدب وعقل: يا أمي، أنت امرأة عاقلة تعرفين مواقع الأمور، هل الإنسان إذا وجعته رأسه يربط يده؟ قالت: لا والله يا ولدي. قال: وهكذا إن قلبي ما يطلب أحدًا سواها، ولم يقتلني غير هواها، والله إني من الهالكين إذا لم أجد لي إرشادَ معينٍ، فبالله عليك يا إمي أن ترحمي غربتي وانسكاب عَبْرتي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 722﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن أردشير ابن الملك قال للعجوز: بالله عليك يا أمي أن ترحمي غربتي وانسكاب عَبْرتي. قالت له: والله يا ولدي إن قلبي يتقطع من أجل كلامك هذا، وليس في يدي حيلة أفعلها. قال: أريد من إحسانك أن تحملي مني هذه الورقة وتوصليها إليها وتقبِّلي لي يدَيْها؟ فحنت عليه وقالت له: اكتب فيها ما تريد وأنا أوصلها إليها. فلما سمع ذلك كاد أن يطير من الفرح، ودعا بدواة وقرطاس وكتب إليها هذه الأبيات:

يَا حَيَاةَ النُّفُوسِ جُودِي بِوَصْلٍ        لِمُحِبٍّ أَذَابَهُ الْهِجْرَانُ

كُنْتُ فِي لَذَّةٍ وَفِي طِيبِ عَيْشٍ        فَأَنَا الْيَوْمَ وَالِهٌ حَيْرَانُ

وَلَزِمْتُ السُّهَادَ فِي طُولِ لَيْلِي        وَسَمِيرِي بِطُولِهِ أَجْنَانُ

فَارْحَمِي عَاشِقًا كَئِيبًا مُعَنَّى        مِنْهُ شَوْقًا تَقَرَّحَتْ أَجْفَانُ

قَلْبِي الْقَلْبُ إِنْ أَحَسَّ بِنَشْوَةْ        فَهْوَ مِنْ قَرْقَفِ الْهَوَى نَشْوَانُ

فلما فرغ من رقم الكتاب، طواه وقبَّله وأعطى العجوز إياه، ثم مدَّ يده إلى الصندوق وأخرج لها صرة أخرى فيها مائة دينار، وأعطاها إياها وقال لها: فرِّقي هذه على الجواري. فامتنعت وقالت: والله يا ولدي ما أنا معك بسبب شيء من ذلك. فشكرها وقال: لا بد من ذلك. فأخذتها منه وقبَّلت يدَيْه وانصرفت. فدخلتْ عليها وقالت: يا سيدتي، جئتك بشيء ما هو عند أهل مدينتنا، وهو من عند شاب مليح ما على وجه الأرض أحسن منه. قالت: يا دايتي، ومن أين الشاب؟ قالت: هو من نواحي الهند، أعطاني هذه الحلة المنسوجة بالذهب مرصَّعة بالدر والجوهر تساوي ملك كسرى وقيصر. فلما فتحَتْها أضاء القصر من نور تلك الحلة بسبب حُسْن صنعتها وكثرة الفصوص والجواهر التي فيها، فتعجَّب منها كلُّ مَن في القصر، وتأملتها بنت الملك فلم تجد لها قيمة ولا ثمنًا إلا خراج مُلْك أبيها عامًا كاملًا، فقالت للعجوز: يا دايتي، هل هذه الحلة من عنده أم من عند غيره؟ قالت: هي من عنده. قالت: يا دايتي، هل هذا التاجر من مدينتنا أم غريب؟ قالت: هو غريب يا سيدتي، وما نزل مدينتنا إلا عن قريب، وهو والله صاحب حشم وخدم، مليح الوجه، معتدل القَدِّ، كريم الأخلاق، واسع الصدر، ما رأيت أحسن منه إلا أنتِ. قالت بنت الملك: إن هذا الشيء عجيب، كيف تكون هذه الحلة التي لا يفي بثمنها مالٌ مع تاجر من التجار؟ وما قدر ثمنها الذي أخبرك به يا دايتي؟ فقالت العجوز: والله يا سيدتي ما أخبرني بمقدار ثمنها، وإنما قال: لا آخذ لها ثمنًا، وإنما هي هدية مني لابنة الملك، فإنها لا تصلح لأحد غيرها. وردَّ الذهب الذي أرسلتِه معي وحلف أنه لا يأخذه وقال: هو لك إن لم تقبله الملكة. قالت بنت الملك: والله ما هذا إلا سماح عظيم وكرم جزيل، وأخشى من عاقبة أمره، ربما يؤدي إلى ضرر، فلأي شيء لم تسأليه يا دايتي إنْ كان له حاجة تقضيها له؟ فقالت: يا سيدتي، سألته وقلت له: هل لك حاجة؟ فقال لي حاجة، ولم يُطْلِعني عليها، إلا أنه قد أعطاني هذه الورقة وقال لي: قدِّميها للملكة. فأخذتها منها وفتحتها وقرأتها إلى آخرها، فتغيَّرَ حالها، وغاب صوابها، واصفرَّ لونها، وقالت للعجوز: ويلك يا دايتي، ما يقال لهذا الكلب الذي يقول هذا الكلام لبنت الملك؟ وما المناسبة بيني وبين هذا الكلب حتى يكاتبني؟ والله العظيم رب زمزم والحطيم، لولا أني أخاف الله تعالى لأبعثن إلى هذا الكلب بتكتيف يديه، وشرم مناخيره، وقطع أنفه وأذنه، وأمثِّل به، وبعد هذا أصلبه على باب السوق الذي فيه دكانه. فلما سمعت العجوز الكلام، اصفرَّ لونها، وارتعدت فرائصها، وانعقد لسانها، ثم قوَّت قلبها وقالت: خيرًا يا سيدتي، وما في الورقة حتى أزعجك؟ هل هو غير قصة رفعها إليك تتضمَّن شكاية حاله من فقر أو ظلم يرجو بها إحسانك إليه أو كشف ظلامته؟ قالت: لا والله يا دايتي، بل هو شِعْر وكلام مستهجن، ولكن يا دايتي هذا الكلب ما يخلو من ثلاثة أحوال: إما أن يكون مجنونًا ليس عنده عقل، وإما أن يكون قاصدًا قتل نفسه أو مستعينًا على مراده مني بذي قوة شديدة وسلطان عظيم، وإما أن يكون سمع بأني من بغايا هذه المدينة التي تبيت عند مَن يطلبها ليلةً أو ليلتين، حتى يراسلني بالأشعار المستهجنة ليفسد عقلي بذلك الأمر. قالت لها العجوز: والله يا سيدتي، لقد صدقت، ولكن لا تعتني بهذا الكلب الجاهل، فأنتِ قاعدة في قصرك العالي المشيد المنيع الذي لا تعلوه الطيور ولا يمر عليه الهواء وهو حائر، ولكن اكتبي له كتابًا ووبِّخيه فيه ولا تتركي له شيئًا من أنواع التوبيخ، وهدِّديه غاية التهديد، واعرضي عليه الموت وقولي له: من أين تعرفني حتى تكاتبني يا كلب التجار؟ يا مَن هو طول دهره مشتَّت في البراري والقفار على درهم يكتسبه أو دينار، والله إن لم تنتبه من رقدتك وتصحُ من سكرتك، لَأصلبنك على باب السوق الذي فيه دكانك. قالت بنت الملك: إني أخاف إن كاتبته أن يطمع. قالت العجوز: وما مقداره؟ وما درجته حتى يطمع فينا؟ وإنما نكتب له لأجل أن ينقطع طمعه ويكثر خوفه. ولم تزل تتحيَّل على بنت الملك حتى أحضرت دواة وقرطاسًا وكتبت إليه هذه الأبيات:

يَا مُدَّعِي الْحُبِّ وَالْبَلْوَى مَعَ السَّهَرِ        تَقْضِي اللَّيَالِي فِي وَجْدٍ وَفِي فِكْرِ

أَتَطْلُبُ الْوَصْلَ يَا مَغْرُورَ مِنْ قَمَرٍ        وَهَلْ يَنَالُ الْمُنَى شَخْصٌ مِنَ الْقَمَرِ

إِنِّي نَصَحْتُكَ فِي الْأَقْوَالِ مُسْتَمِعًا        أَقْصِرْ فَإِنَّكَ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْخَطَرِ

فَإِنْ رَجَعْتَ إِلَى هَذَا السُّؤَالِ فَقَدْ        أَتَاكَ مِنَّا عَذَابٌ زَائِدُ الضَّرَرِ

فَكُنْ أَدِيبًا لَبِيبًا عَاقِلًا فَطِنًاهَا        قَدْ نَصَحْتُكَ فِي شِعْرِي وَفِي خَبَرِي

وَحَقِّ مَنْ خَلَقَ الْأَشْيَاءَ مِنْ عَدَمٍ        وَزَانَ وَجْهَ السَّمَا بِالْأَنْجُمِ الزُّهْرِ

لَئِنْ رَجَعْتَ إِلَى مَا أَنْتَ قَائِلُهُ        لَأَصْلِبَنَّكَ فِي جِذْعٍ مِنَ الشَّجَرِ

ثم طوت الكتاب وأعطت العجوز إياه، فأخذته وسارت إلى أن وصلت إلى دكان الغلام فأعطته إياه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 723﴾

قالت: بلغني إيها الملك السعيد، أن العجوز قد أخذت ما كتبته حياة النفوس وسارت إلى أن أعطت الغلام إياه وهو في دكانه، وقالت له: اقرأ جوابك واعلم أنها لما قرأت الكتاب اغتاظت غيظًا عظيمًا، وما زلت ألاطفها بالحديث حتى ردت لك الجواب. فأخذ الكتاب بفرحة وقرأه وفهم معناه، فلما فرغ من قراءته بكى بكاءً شديدًا، فتألم قلب العجوز وقالت: يا ولدي، لا أبكى الله لك عينا، ولا أحزن لك قلبًا، فأي شيء ألطف من هذا في جواب كتابك حين فعلتَ هذه الفعال؟ فقال: يا أمي، وماذا أفعل من الحيل ألطف من هذا، وهي ترسل تهدِّدني بالقتل وبالصلب، وتنهاني عن مكاتبتها؟ وإني والله أرى موتي خيرًا من حياتي، ولكن أريد من فضلك أن تأخذي هذه الورقة وتوصليها إليها. فقالت له: اكتب وعلي رد الجواب، والله لأخاطرن معك بروحي في حصول مرادك، ولو هلكت في رضاك. فشكرها وقبَّلَ يديها وكتب إليها هذه الأبيات:

تُهَدِّدُونِي بِقَتْلِي فِي مَحَبَّتِكُمْ        وَالْقَتْلُ لِي رَاحَةٌ وَالْمَوْتُ مَقْدُورُ

وَالْمَوْتُ أَهْنَى لِصَبٍّ أَنْ تَطُولَ بِهِ        حَيَاتَهُ وَهْوَ مَطْرُودٌ وَمَنْهُورُ

فَإِنْ تَزُورُوا مُحِبًّا قَلَّ نَاصِرُهُ        فَإِنَّ سَعْيَ الْوَرَى فِي الْخَيْرِ مَشْكُورُ

وَإِنْ عَزَمْتُمْ عَلَى أَمْرٍ فَدُونَكُمُ        قَدْ صِرْتُ عَبْدًا لَكُمْ وَالْعَبْدُ مَأْسُورُ

كَيْفَ السَّبِيلُ وَلَا لِي عَنْكَ مُصْطَبَرٌ        فَكَيْفَ هَذَا وَقَلْبُ الصَّبِّ مَجْبُورُ

يَا سَادَتِي فَارْحَمُوا فِي حُبِّكُمْ دَنِفًا        فَكُلُّ مَنْ يَعْشَقِ الْأَحْرَارَ مَعْذُورُ

ثم طوى الكتاب وأعطى العجوز إياه وأعطاها صرتين فيهما مائتا دينار، فامتنعت من أخذهما، فحلف عليها، فأخذتهما وقالت: لا بد أنني أبلغك مناك على رغم أنف عداك. وسارت حتى دخلت على حياة النفوس وأعطتها الكتاب، فقالت لها: ما هذا يا دايتي؟ قد صرنا في مراسلة وأنت رائحة جائية، إني أخاف أن ينكشف خبرنا فنُفضَح. قالت العجوز: وكيف ذلك يا سيدتي؟ ومَن يقدر أن يتكلم بهذا الكلام؟ فأخذت الكتاب منها وقرأته وفهمت معناه ودقت يدًا على يدٍ، وقالت: قد بُلِينا بهذا، ما عرفنا من أين جاءنا هذا الغلام! قالت العجوز: يا سيدتي، بالله عليك أن تكتبي له كتابًا، ولكن أغلِظِي عليه القول وقولي له: إنْ أرسلتَ كتابًا بعد ذلك ضربتُ عنقك. فقالت لها: يا دايتي، أنا أعرف أن هذا ما ينتهي على هذه الصورة والأليق عدم المكاتبة، وإن لم يرجع هذا الكلب بالتهديد السابق ضربتُ عنقه. قالت لها العجوز: اكتبي له كتابًا وعرِّفيه بهذا الحال. فدعت بنت الملك بدواة وقرطاس وكتبت له تهدِّده بهذه الأبيات:

أَيَا غَافِلًا عَنْ حَادِثَاتِ الطَّوَارِقِ        وَيَا مَنْ إِلَى وَصْلٍ لَهُ قَلْبُ عَاشِقِ

تَأَمَّلْ أَيَا مَغْرُورُ هَلْ تُدْرِكُ السَّمَا        وَهَلْ أَنْتَ لِلْبَدْرِ الْمُنِيرِ بِلَاحِقِ

سَأُصْلِيكَ نَارًا لَيْسَ يَخْبُو لَهِيبُهَا        وَتُضْحِي قَتِيلًا بِالسُّيُوفِ الْمَوَاحِقِ

فَمَنْ دُونَهُ يَا صَاحَ أَبْعَدَ شِقَّةً        وَأَمْرٌ خَفِيٌّ فِيهِ شَيْبُ الْمَفَارِقِ

خُذِ النُّصْحَ مِنِّي ثُمَّ كُفَّ عَنِ الْهَوَى        وَعَنْ أَمْرِكَ ارْجِعْ إِنَّهُ غَيْرُ لَائِقِ

ثم طوت الكتاب وأعطت العجوز إياه وهي في حال عجيب من أجل هذا الكلام، فأخذته العجوز وسارت حتى وصلت به إلى الغلام فناولته إياه، فأخذه منها وقرأه وأطرق برأسه إلى الأرض يخط بإصبعه ولم يتكلم، فقالت له العجوز: يا ولدي، ما لي أراك لا تبدي خطابًا ولا ترد جوابا؟ قال لها: يا أمي، أي شيء أقول وهي تهدِّدني وما تزداد إلا قسوةً ونفورًا؟ قالت: اكتب لها كتابًا بما تريد وأنا أدافع عنك ولا يكون قلبك إلا طيبًا، فلا بد أن أجمع بينكما. فشكر فضلها وقبَّلَ يديها وكتب إليها هذه الأبيات:

فَلِلَّهِ قَلْبٌ لَا يَلِينُ لِعَاشِقٍ        وَصَبٌّ إِلَى وَصْلِ الْأَحِبَّةِ شَائِقُ

وَأَجْفَانُ عَيْنٍ لَا تَزَالُ قَرِيحَةً        إِذَا جَنَّهَا مِنْ حَالِكِ اللَّيْلِ غَاسِقُ

فَمِنُّوا وَجِدُّوا وَارْحَمُوا وَتَصَدَّقُوا        عَلَى مَنْ ضَنَاهُ الْعِشْقُ وَهْوَ مُفَارِقُ

يُقَاسِي طَوَالَ اللَّيْلِ وَهْوَ مُسَهَّدٌ        حَرِيقًا وَفِي بَحْرِ الْمَدَامِعِ غَارِقُ

فَلَا تَقْطَعِي أَطْمَاعَ قَلْبِي لِأَنَّهُ        كَئِيبٌ مُعَنَّى وَهْوَ فِي الْحُبِّ خَافِقُ

ثم طوى الكتاب وأعطى العجوز إياه وأعطاها ثلاثمائة وقال لها: هذه غسيل يدك. فشكرته وقبَّلت يديه وسارت حتى دخلت على بنت الملك وأعطتها الكتاب، فأخذته وقرأته إلى آخِره ورمته من يدها ونهضت قائمة على رجليها، وتمشَّتْ على قبقاب من الذهب مرصَّع بالدر والجوهر حتى وصلت إلى قصر أبيها وعرق الغضب قائم بين عينيها، وما جسر أحد أن يسأل عن حالها، فلما وصلت إلى القصر سألت عن الملك والدها، فقال لها الجواري والمحاظي: يا سيدتي، إنه قد خرج إلى الصيد والقنص. فرجعت وهي مثل الأسد الضاري ولم تكلم أحدًا إلا بعد ثلاث ساعات، وقد راق وجهها وسكن غيظها، فلما رأت العجوز أنها زال عنها ما عندها من الكدر والغيظ، تقدمت إليها وقبَّلَتِ الأرض بين يديها وقالت لها: يا سيدتي، أين كانت هذه الخطوات الشريفة؟ قالت لها الملكة: إلى قصر أبي. قالت: يا سيدتي، أَمَا كان أحد يقضي حاجتك؟ قالت: أنا ما رحت إلا لأجل أن أعلمه بما جرى لي من كلب التجار، وأسلط عليه أبي فيمسكه ويمسك جميع مَن كان في سوقه ويصلبهم على دكاكينهم، ولا يدع أحدًا من التجار الغرباء يقيم في مدينتنا. فقالت لها العجوز: وهل ما ذهبت إلى أبيك يا سيدتي إلا لهذا السبب؟ قالت لها: نعم، إلا أني ما وجدته حاضرًا، بل رأيته غائبًا في الصيد والقنص، وأنا منتظرة رجوعه. قالت العجوز: أعوذ بالله السميع العليم يا سيدتي، الحمد لله أنت أعقل الناس، وكيف تعلمين الملك بهذا الكلام الهذيان الذي لا ينبغي لأحد إفشاؤه؟ قالت: ولِمَ ذلك؟ قالت العجوز: افرضي أنك لقيت الملك في قصره وعرَّفتِه بهذا الحديث، وأرسل خلف التجار وأمر بشنقهم على دكاكينهم ورآهم الناس، أَلَا يسألون عن ذلك ويقولون: ما سبب شنقهم؟ فيقال لهم في الجواب: إنهم أرسلوا ليفسدوا بنت الملك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 724﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن العجوز قالت لبنت الملك: افرضي أنك أعلمت الملك بذلك وأمر بشنق التجار، أليس يراهم الناس ويسألون: ما سبب شنقهم؟ فيقال لهم في الجواب: إنهم أرادوا أن يفسدوا بنت الملك، فيختلفون في نقل الحكايات عنك! فبعضهم يقول: قعدت عندهم عشرة أيام وهي غائبة عن قصرها حتى شبعوا منها. وبعضهم يقول غير ذلك، والعرض يا سيدتي مثل اللبن، أدنى غبار يدنسه، وكالزجاج إذا انصدع لا يلتئم، فإياك أن تخبري أباك أو غيره بهذا الأمر؛ لئلا ينهتك عرضك يا سيدتي، ولا يفيدك إخبار الناس شيئًا أبدًا، وميِّزِي هذا الكلام بعقلك الراجح، فإن لم تجديه صحيحًا فافعلي ما تريدين. فلما سمعت بنت الملك من العجوز هذا الكلام تأمَّلَتْه، فوجدته في غاية الصواب، فقالت لها: ما قلته يا دايتي صحيح، ولكن كان الغيظ طمس على قلبي. قالت العجوز: إن نيتك طيبة عند الله تعالى، حيث لم تخبري أحدًا، ولكن بقي شيء آخر، وهو أننا لا نسكت عن قلة حياء هذا الكلب أخس التجار، فاكتبي له كتابًا وقولي له: يا أخس التجار، لولا أني وجدت الملك غائبًا لَكنت في هذه الساعة أمرت بصلبك أنت وجميع جيرانك، ولكن ما يفوتك من هذا الأمر شيء، وأنا أقسم بالله تعالى متى رجعت إلى مثل هذا الكلام قطعت أثرك من على وجه الأرض. وأغلِظِي عليه بالكلام حتى ترديه عن هذا الأمر، ونبِّهيه من غفلته. قالت لها بنت الملك: وهل يرجع عمَّا هو فيه بهذا الكلام؟ قالت: وكيف لا يرجع وأنا أكلمه وأعرفه بما وقع. فدعت بدواة وقرطاس وكتبت إليه هذه الأبيات:

تَعَلَّقَتِ الْآمَالُ مِنْكَ بِوَصْلِنَا        وَتَقْصِدُ مِنَّا أَنْ تَنَالَ الْمَآرِبَا

وَمَا يَقْتُلُ الْإِنْسَانَ إِلَّا غُرُورُهُ        وَيُولِيهِ مَا يَبْغِيهِ مِنَّا الْمَصَائِبَا

فَمَا أَنْتَ ذُو بَأْسٍ وَلَا لَكَ عُصْبَةٌ        وَلَا كُنْتَ سُلْطَانًا وَلَا كُنْتَ نَائِبَا

وَلَوْ كَانَ هَذَا فِعْلَ مَنْ هُوَ مِثْلُنَا        لَعَادَ مِنَ الْأَهْوَالِ وَالْحَرْبِ شَائِبَا

وَلَكِنْ سَأَعْفُو الآنَ عَمَّا جَنَيْتَهُ        لَعَلَّكَ مِنْ ذَا الْحِينِ تَرْجِعُ تَائِبَا

ثم قدَّمت الكتاب للعجوز وقالت لها: يا دايتي، انهي هذا الكلب لئلا أقطع رأسه وندخل في خطيئته. قالت لها العجوز: والله يا سيدتي ما أخلي له جنبًا ينقلب عليه. وأخذت الكتاب وسارت به حتى وصلت إلى الغلام وسلمت عليه، فردَّ عليها السلام وناولته الكتاب، فأخذه وقرأه وهز رأسه وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون. وقال: يا أمي، ما يكون عملي وقد قل صبري وضعف جَلَدي؟ فقالت له العجوز: يا ولدي، صبر نفسك لعل الله يُحدِث بعد ذلك أمرًا، واكتب ما في نفسك وأنا أجيء إليك بالجواب، وطب نفسًا وقر عينًا، فلا بد أن أجمع بينك وبينها إن شاء الله تعالى. فدعا لها وكتب كتابًا وضمَّنَه هذه الأبيات:

إِذَا لَمْ يَكُنْ لِيَ فِي الْهَوَى مَنْ يُجِيرُنِي        وَجَوْرُ غَرَامِي قَاتِلِي وَمُمِيتُ

أُقَاسِي لَهِيبَ النَّارِ مِنْ دَاخِلِ الْحَشَى        نَهَارًا وَلَيْلِي لَيْسَ فِيهِ مَبِيتُ

فَمَا لِي لَا أَرْجُوكَ يَا غَايَةَ الْمُنَى        وَأَرْضَى عَلَى مَا بِالْغَرَامِ لَقِيتُ

سَأَلْتُ إِلَهَ الْعَرْشِ يَرْزُقُنِي الرِّضَا        لِأَنِّي بِحُبِّ الْغَانِيَاتِ فَنِيتُ

وَيَقْضِي بِوَصْلٍ عَاجِلٍ لِي فَأَرْتَضِي        لِكَوْنِي بِأَهْوَالِ الْغَرَامِ رُمِيتُ

ثم طوى الكتاب وأعطى العجوز إياه، وأخرج لها صرة فيها أربعمائة دينار، فأخذت الجميع وانصرفت إلى أن وصلت لبنت الملك وأعطتها الكتاب، فلم تأخذه منها وقالت لها: ما هذه الورقة؟ فقالت لها: يا سيدتي، هذه جواب الكتاب الذي أرسلته إلى هذا الكلب التاجر. قالت لها: هل نهيته كما عرفتك؟ قالت: نعم، وهذا جوابه. فأخذت الكتاب منها وقرأته إلى آخِره ثم التفتت نحو العجوز وقالت: أين نتيجة كلامك؟ قالت: يا سيدتي، ما ذكره في جوابه من أنه رجع وتاب واعتذر عمَّا مضى. قالت: لا والله بل زاد. قالت: يا سيدتي، اكتبي له كتابًا وسوف يَبلغك ما أفعل به. فقالت: ما لي حاجة بكتاب ولا جواب. قالت العجوز: لا بد من جواب حتى أزجره وأقطع أمله. قالت لها بنت الملك: اقطعي أمله من غير استصحاب كتاب. فقالت العجوز: لا بد في زجره وقطع أمله من استصحاب كتاب. فدعت بدواة وقرطاس وكتبت إليه هذه الأبيات:

طَالَ الْعِتَابُ وَلَمْ تَمْنَعْكَ مَعْتَبَةٌ        وَكَمْ بِخَطِّ يَدِي بِالشِّعْرِ أَنْهَاكَا

اكْتُمْ هَوَاكَ وَلَا تَجْهَرْ بِهِ أَبَدًا        وَإِنْ تُخَالِفْ فَإِنِّي لَسْتُ أَرْعَاكَا

وَإِنْ رَجَعْتَ إِلَى مَا أَنْتَ قَائِلُهُ        فَإِنَّمَا جَاءَ نَاعِي الْمَوْتِ يَنْعَاكَا

فَعَنْ قَلِيلٍ تَرَى الْأَرْيَاحَ عَاصِفَةً        عَلَيْكَ وَالطَّيْرُ فِي الْبَيْدَاءِ تَغْشَاكَا

ارْجَعْ إِلَى خَيْرِ أَعْمَالٍ تَفُزْ زَمَنًا        فَإِنْ قَصَدْتَ خَنًى أَوْ فُحْشَ أَرْدَاكَ

فلما فرغت من كتابتها رمت الورقة من يدها بغيظ، فأخذتها العجوز وسارت حتى وصلت إلى الغلام فأخذها منها، فلما قرأها إلى آخرها علم أنها لم تَرُقْ له ولم تزدد إلا غيظًا عليه، وأنه ما يصل إليها، فخطر بقلبه أنه يكتب جوابها ويدعو عليها، فكتب إليها هذه الأبيات:

يَا رَبِّ بِالْخَمْسَةٍ الْأَشْيَاخِ تُنْقِذُنِي        مِنَ الَّتِي فِي هَوَاهَا صِرْتُ فِي مِحَنِ

وَأَنْتَ تَعْلَمُ مَا بِي مِنْ لَهِيبِ جَوًى        وَفَرْطِ شَوْقٍ إِلَى مَنْ لَيْسَ يَرْحَمُنِي

فَلَمْ تَرِقَّ إِلَى مَا قَدْ بُلِيتُ بِهِ        كَمْ قَدْ تَجُورُ عَلَى ضَعْفِي وَتَظْلِمُنِي

أَهِيمُ فِي غَمَرَاتِ الانْقِطَاعِ لَهَا        وَلَمْ أَجِدْ مُسْعِفًا يَا قَوْمُ يُسْعِفُنِي

وَكَمْ أَبِيتُ وَجُنْحُ اللَّيْلِ مُنْسَبِلٌ        أُرَدِّدُ النَّوْحَ فِي سِرِّي وَفِي عَلَنِي

وَلَمْ أَجِدْ لِي سُلُوًّا عَنْ مَحَبَّتِكُمْ        وَكَيْفَ أَسْلُو وَصَبْرِي فِي الْغَرَامِ فُنِي

يَا طَائِرَ الْبَيْنِ أَخْبِرْنِي فَهَلْ أَمِنَتْ        مِنْ نَائِبَاتِ صُرُوفِ الدَّهْرِ وَالْمِحَنِ؟

ثم طوى الكتاب وأعطى العجوز إياه وأعطاها صرة فيها خمسمائة دينار، فأخذت الورقة وسارت حتى دخلت على بنت الملك وأعطتها الورقة، فلما قرأتها وفهمتها رمتها من يدها وقالت لها: عرفيني يا عجوز السوء، سبب جميع ما جرى لي منك ومن مكرك واستحسانك منه حتى كتبت لك ورقة بعد ورقة، ولم تزالي في حمل الرسائل بيننا حتى جعلتِ له مَعَنا مكاتبات وحكايات، وفي كل وقت تقولين: أنا أكفيك شره وأقطع عنك كلامه. وما تقولين هذا الكلام إلا لأجل أن أكتب له كتابًا وتصيرين بيننا رائحة غادية حتى هتكت عرضي، ويلكم يا خدام امسكوها. وأمرت الخدام بضربها، فضربوها إلى أن جرت دماؤها من جميع بدنها وغُشِي عليها، وأمرت الجواري أن يجروها فَجَرُّوها من رجليها إلى آخر القصر، وأمرت أن تقف جارية عند رأسها، فإذا أفاقت من غشيتها تقول لها: إن الملكة حلفت يمينًا أنك لا تعودين إلى هذا القصر ولا تدخلينه، فإن عدت إليه أمرت بقتلك جزمًا. فلما أفاقت من غشيتها بلَّغَتْها الجارية ما قالته الملكة فقالت: سمعًا وطاعة.

ثم إن الجواري أحضرْنَ لها قفصًا وأمرْنَ حمَّالًا أن يحملها إلى بيتها، فحملها الحمَّال وأوصلها إلى بيتها، وأرسلْنَ وراءها طبيبًا وأمرْنَه أن يداويها بملاطفة حتى تبرأ، فامتثل الطبيب الأمر. فلما أفاقت ركبت وتوجهت عند الغلام، وكان قد حزن حزنًا شديدًا لانقطاعها عنه وصار متشوقًا إلى أخبارها، فلما رآها قام إليها ناهضًا وتلقَّاها وسلَّمَ عليها فوجدها متضعفة، فسألها عن حالها، فأخبرته بجميع ما جرى لها من الملكة، فصعب عليه ذلك الأمر ودقَّ يدًا على يد وقال: والله عسر عليَّ ما جرى لك، لكن يا أمي ما سبب كون الملكة تبغض الرجال؟ فقالت: يا ولدي، اعلم أن لها بستانًا مليحًا، ما على وجه الأرض أحسن منه، فاتفق أنها كانت نائمة فيه ذات ليلة من الليالي، فبينما هي في لذيذ النوم إذ رأت في المنام أنها نزلت في البستان فرأت صيادًا قد نصب شَرَكًا، ونثر حوله قمحًا وقعد على بُعْدٍ منه ينظر ما يقع فيه من الصيد، فلم يكن إلا مقدار ساعة وقد اجتمعت الطيور لتلتقط القمح، فوقع طير ذكر في الشَّرَك وصار يتخبَّط فيه، فنفرت الطيور عنه وأنثاه من جملتها، فلم تغب عنه غير ساعة لطيفة ثم عادت إليه وتقدَّمت إلى الشَّرَك، وحاولت العين التي في رِجْل طيرها، ولم تزل تعالج فيها بمنقارها حتى قرضتها وخلَّصت طيرها، كل هذا والصياد قاعد ينعس، فلما أفاق نظر إلى الشَّرَك فرآه قد انفسد، فأصلحه وجدَّدَ نثر القمح وقعد على بُعْد من الشَّرَك، فبعد ساعة وإذا بالطيور قد اجتمعت عليه ومن جملتها الأنثى والذكر، فتقدَّمَتِ الطيور لتلتقط الحب وإذا بالأنثى قد وقعت في الشَّرَك وصارت تختبط فيه، فطار الحمام جمعيه عنها وطيرها الذي خلَّصَتْه من جملة الطيور ولم يَعُدْ إليها، وكان الصياد غلب عليه النوم ولم يفق إلا بعد مدة مديدة، فلما أفاق من نومه وجد الطيرة وهي في الشَّرَك، فقام وتقدَّمَ إليها وخلص رجلَيْها من الشَّرَك وذبحها؛ فانتبهت بنت الملك وهي مرعوبة وقالت: هكذا يفعل الرجال مع النساء، فالمرأة تشفق على الرجال وترمي روحها عليه وهو في المشقة، وبعد ذلك إذا قضى عليها المولى ووقعت في مشقةٍ، فإنه يفوتها ولا يخلصها، ويضيع ما فعلته معه من المعروف، فلعن الله من يثق بالرجال؛ فإنهم ينكرون المعروف الذي يفعله معهم النساء. ثم إنها بغضت الرجال من ذلك اليوم.

فقال ابن الملك للعجوز: يا أمي، هل هي ما تخرج إلى الطريق أبدًا؟ قالت: لا يا ولدي، إلا أن لها بستانًا وهو نزهة من أحسن منتزهات الزمان، وفي كل عام عند انتهاء الأثمار فيه تنزل إليه وتتفرج فيه يومًا واحدًا، ولا تبيت إلا في قصرها، وما تنزل إلى البستان إلا من باب السر، وهو واصل إلى البستان، وأنا أريد أن أعلمك شيئًا وإن شاء الله يكون فيه صلاح لك، فاعلم أنه بقي إلى أوان الثمر شهر واحد وتنزل تتفرج فيه، فمن يومنا هذا أوصيك أن تروح إلى خولي ذلك البستان وتعمل بينك وبينه صحبة مودة، فإنه ما يدع أحدًا من خلق الله تعالى يدخل هذا البستان؛ لكونه متصلًا بقصر بنت الملك، فإذا نزلتْ بنت الملك، أكون قد أعلمتك قبل نزولها بيومين، فتروح أنت على جاري عادتك وتدخل البستان وتتحيَّل على بياتك فيه، فإذا نزلتْ بنت الملك تكون أنت مختفيًا في بعض الأماكن. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 725﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن العجوز أوصت ابن الملك وقالت له: إن بنت الملك تنزل في البستان، وقبل نزولها بيومين أُعْلِمك، فإذا نزلتْ تكون أنت فيه مختفيًا في بعض الأماكن، فإذا رأيتَها فاخرج لها، فإنها إذا رأَتْكَ تحبك، فإن المحبة تستر كل شيء. واعلم يا ولدي أنها لو نظرتك لافتتنتْ بحبك؛ لأنك جميل الصورة، فقرَّ عينًا وطِبْ نفسًا يا ولدي، فلا بد أن أجمع بينك وبينها. فقبَّلَ يدها وشكرها، ودفع إليها ثلاث شقات من الحرير الإسكندراني، وثلاث شقات من الأطلس ألوانهن مختلفة، ومع كل شقة تفصيلة من أجل القمصان، وخرقة من أجل السراويل، ومنديل من أجل العصابة، وثوب بعلبكي من أجل البطانة، حتى كمل لها ثلاث بدلات، كل بدلة أحسن من أختها، ودفع لها صرة فيها ستمائة دينار وقال لها: هذه من أجل الخياطة. فأخذت الجميع وقالت له: يا ولدي، أتحب أن تعرف طريق بيتي، وأنا أيضًا أعرف مكانك؟ قال: نعم. فأرسل معها مملوكًا ليعرف مكانها ويعرِّفها بيته، فلما توجَّهت العجوز، قام ابن الملك وأمر غلمانه أن يغلقوا الدكان وتوجَّه إلى الوزير وأعلمه بما جرى مع العجوز من أوله إلى آخره.

فلما سمع الوزير كلام ابن الملك قال له: يا ولدي، فإذا خرجت حياة النفوس، ولم يحصل لك منها إقبال، فما تفعل؟ قال: ما يصير في يدي حيلة غير أني أخرج من القول إلى الفعل، وأخاطر بنفسي معها وأخطفها من بين خدمها وأردفها الحصان، وأطلب بها عرض البر الأقفر، فإن سلمت حصل المراد، وإن عطبت فإني أستريح من هذه الحياة الذميمة. قال له الوزير: يا ولدي، أبهذا العقل تعيش؟ كيف يكون سفرنا وبيننا وبين بلدنا مسافة بعيدة؟ وكيف تفعل هذه الفعال مع ملك من ملوك الزمان تحت يده مائة ألف عنان؟ وربما لا نأمن من أن يأمر بعض عساكره فتقطع علينا الطرق، وهذا ما هو مصلحة ولا يفعله عاقل. قال ابن الملك: فكيف يكون العمل أيها الوزير الحسن التدبير، فإني ميت لا محالة. قال له الوزير: اصبر إلى غد حتى نرى هذا البستان، ونعلم حاله وما يجري لنا مع الخولي الذي فيه.

فلما أصبح الصباح، نهض الوزير هو وابن الملك وأخذ في جيبه ألف دينار وتمشيا حتى وصلا إلى البستان، فرأياه عالي الحيطان، قوي الأركان، كثير الأشجار، غزير الأنهار، مليح الأثمار، قد فاحت أزهاره وترنمت أطياره كأنه روضة من رياض الجنان، ومن داخل الباب رجل شيخ كبير جالس على مصطبة. فلما رآهما وعاين هيبتهما، قام على قدميه بعد أن سلما عليه. فرد عليهما السلام وقال لهما: يا أسيادي، لعل لكما حاجة أتشرف بقضائها. قال له الوزير: اعلم يا شيخ، أننا قوم غرباء وقد حمي علينا الحر، ومنزلنا بعيد في آخِر المدينة، وقصدنا من إحسانك أن تأخذ منَّا هذين الدينارين وتشتري لنا شيئًا نأكله، وتفتح لنا باب هذا البستان وتقعدنا في مكانٍ مظل، فيه ماء بارد لنتبرَّد به حتى تحضر لنا بالأكل فنأكل نحن وأنت، ونكون قد استرحنا ونروح إلى حال سبيلنا، ثم إن الوزير حط يده في جيبه فأخرج دينارين وحطهما في يد الخولي، وكان هذا الخولي عمره سبعون سنة وما نظر في يده شيئًا من ذلك، فلما نظر الخولي الدينارين في يده، طار عقله وقام من وقته وفتح الباب وأدخلهما وأجلسهما تحت شجرة مثمرة كثيرة الظل وقال لهما: اجلسا في هذا المكان ولا تدخلا البستان أبدًا؛ لأن فيه باب السر الموصل إلى قصر الملكة حياة النفوس. قالا له: ما ننتقل عن مكاننا أبدًا.

ثم توجه الشيخ البستاني ليشتري لهما ما أمراه به، فغاب ساعة وأتى إليهما ومعه حمَّال على رأسه خروف مشوي وخبز، فأكلوا وشربوا جميعًا وتحدثوا ساعة، ثم تطلع الوزير والتفت يمينًا وشمالًا إلى جوانب البستان، فنظر في داخله قصرًا عالي البنيان إلا أنه عتيق، قد تقشرت حيطانه من البياض وتهدمت أركانه. فقال الوزير: يا شيخ، هل هذا البستان ملكك أم أنت مستأجره؟ قال: يا مولاي، هو ليس ملكي ولا أنا مستأجره، وإنما أنا حارس فيه. قال له الوزير: فكم أجرتك؟ قال: يا سيدي، في كل شهر دينار، قال الوزير: إنهم ظلموك وخصوصًا إن كنت صاحب عيال. قال الشيخ: والله يا سيدي، إن لي من العيال ثمانية أولاد وأنا. قال الوزير: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والله لقد حملتني همك يا مسكين، لكن ما تقول فيمَن يفعل معك خيرًا لأجل هذه العيال التي معك؟ قال الشيخ: يا مولاي، مهما فعلته من الخير يكون لك ذخيرة عند الله تعالى. قال الوزير: اعلم يا شيخ أن هذا البستان مكان مليح وفيه هذا القصر، ولكنه عتيق خرب وأنا أريد أن أُصلِحه وأبيِّضه وأدهنه دهانًا مليحًا، حتى يصير هذا المكان أحسن ما يكون في هذا البستان، فإذا حضر صاحب البستان ووجده قد تعمر وصار مليحًا، فإنه لا بد أن يسألك عن عمارته، فإن سألك فقل له: أنا يا مولاي عمَّرته لما رأيته خرابًا لا ينتفع به أحد، ولا يقدر أن يقعد فيه؛ لأنه خرب داثر، فعمرته وصرفت عليه، فإذا قال لك: من أين لك المال الذي صرفته عليه؟ فقل له: من مالي لأجل بياض وجهي عندك ورجاء إنعامك. فلا بد أنه ينعم عليك في نظير ما صرفته في المكان، وفي غدٍ أحضر البنَّائين والمبيضين والدهانين لأجل أن يصلحوا شأن هذا المكان وأعطيك ما وعدتك به. ثم أخرج من جيبه كيسًا فيه خمسمائة دينار وقال له: خذ هذه الدنانير وأنفقها على عيالك ودعهم يدعون إليَّ وإلى ولدي هذا. فقال له ابن الملك: ما سبب ذلك؟ قال له الوزير: ستظهر لك نتيجته. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 726﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الوزير لما أعطى الشيخ البستاني الذي في البستان الخمسمائة دينار وقال له: خذ هذه الدنانير وأنفقها على عيالك ودعهم يدعون لي ولولدي هذا. فنظر الشيخ إلى ذلك الذهب، فخرج عقله وانطرح على قدمي الوزير يقبِّلهما، وصار يدعو له ولولده، ولما انصرفا من عنده قال لهما: إني لكما غدًا في الانتظار، والله تعالى لا يفرق بيني وبينكما لا ليلًا ولا نهارًا. فلما كان في اليوم الثاني جاء الوزير إلى ذلك المكان وطلب عريف البنائين، فلما حضر بين يديه أخذه الوزير وتوجه به إلى البستان، فلما رآه الخولي فرح به، ثم إن الوزير أعطاه ثمن المئونة وما يحتاج إليه العملة في عمارة ذلك القصر، فبنوه وبيضوه ودهنوه، فقال الوزير للدهانين: يا أيها المعلمون، أصغوا إلى كلامي وافهموا قصدي ومرامي، واعلموا أن لي بستانًا مثل هذا المكان كنت نائمًا فيه ليلةً من الليالي، فرأيت في المنام أن صيادًا نصب شَرَكًا ونثر حوله قمحًا، فاجتمعت عليه الطيور لتلتقط القمح، فوقع طيرٌ ذَكَر في الشَّرَك ونفرت عنه جميع الطيور ومن جملتها أنثى ذلك الذكر، ثم أن تلك الأنثى غابت ساعة وعادت إليه وحدها وقرضت العين التي في رِجْل ذَكَرها حتى خلَّصته، وكان الصياد في ذلك الوقت نائمًا، فلما أفاق من نومه وجد الشَّرَك مختلًّا فأصلحه وجدَّدَ نثْرَ القمح مرةً ثانية، وقعد بعيدًا عنه ينتظر وقوع صيد في ذلك الشَّرَك، فتقدمت الطيور لتلتقط القمح، فتقدم الطير والطيرة من جملة الطير، فانشبكت الطيرة في الشَّرَك ونفر الطير جميعه عنها وطيرها الذَّكَر من جملة الطير ولم يَعُدْ إليها، فقام الصياد وأخذ الطيرة وذبحها. وأما الذكر فإنه لما نفر مع الطيور قد اختطفه جارح من الجوارح وذبحه وشرب دمه وأكل لحمه، وأنا أشتهي منكم أن تصوِّروا لي هذا المنام جميعه على صفات ما ذكرتُ لكم بالدهان الجيد، وتجعلوا ذلك منالًا في تزاويق البستان وحيطانه وأشجاره وأطياره، وتصوروا مثال الصياد وشَرَكه وصفة ما جرى للطير الذكر مع الجارح حين اختطفه، فإذا فعلتم ما شرحت لكم ونظرته وأعجبني، فإني أُنْعِم عليكم بما يسرُّ خاطركم زيادة عن أجرتكم.

فلما سمع كلامه الدهانون اجتهدوا في الدهان وأتقنوه غاية الإتقان، فلما انتهى وخلص أطلعوا الوزير عليه، فأعجبه ونظر إلى تصوير المنام الذي وصفه للدهانين كأنه هو، فشكرهم وأنعم عليهم بجزيل الإنعام. ثم أتى ابن الملك على العادة ودخل ذلك القصر ولم يعلم بما فعله الوزير، فلما نظر إليه رأى صفة البستان والصياد والشَّرَك والطيور والطير الذَّكَر وهو بين مخالب الجارح وقد ذبحه وشرب دمه وأكل لحمه، فتحيَّرَ عقله، ثم رجع إلى الوزير وقال: أيها الوزير الحَسَن التدبير، إني رأيت اليوم عجبًا لو كُتِب بالإبر على مآقي البصر، لَكان عِبْرةً لمَن اعتبر. قال: وما هو يا سيدي؟ قال: أَمَا أخبرتك بالمنام الذي رأته بنت الملك، وأنه هو السبب في بغضها الرجال؟ قال: نعم. ثم قال: والله يا وزير لقد رأيته مصورًا في جملة النقش بالدهان حتى كأني عاينته عيانًا، ووجدتُ شيئًا آخَر خفي أمره على ابنة الملك فما رأته، وهو الذي عليه الاعتماد في نيل المراد. قال: وما هو يا ولدي؟ قال: وجدت الطير الذكر لما غاب عن طيرته حين وقعت في الشَّرَك ولم يرجع إليها، قد قبض عليه جارح وذبحه وشرب دمه وأكل لحمه، فيا ليت بنت الملك كانت رأت المنام كله وقصته لآخِره وعاينَتِ الطير الذكر لمَّا اختطفه الجارح، وهذا سبب عدم عوده إليها وتخليصها من الشَّرَك. قال له الوزير: أيها الملك السعيد، والله إن هذا أمر عجيب وهو من الغرائب. وصار ابن الملك يتعجب من هذا الدهان، ويتأسف حيث لم تره ابنة الملك إلى آخره ويقول في نفسه: يا ليتها رأت هذا المنام إلى آخِره، أو تراه جميعه مرةً ثانية ولو في أضغاث الأحلام. قال الوزير: إنك كنت قلت لي: ما سبب عمارتك في هذا المكان؟ فقلت لك: سوف يظهر لك نتيجة ذلك، والآن قد ظهر لك نتيجته، وأنا الذي قد فعلت ذلك الأمر وأمرت الدهانين بتصوير المنام، وأن يجعلوا الطير الذكر في مخالب الجارح وقد ذبحه وشرب دمه وأكل لحمه، حتى إذا نزلت بنت الملك ونظرت إلى هذا الدهان ترى صورة هذا المنام وتنظر إلى الطير وقد ذبحه الجارح، فتعذره وترجع عن بغضها الرجال.

فلما سمع ابن الملك هذا الكلام، قبَّلَ أيادي الوزير وشكره على فعله وقال له: مثلك يكون وزير الملك الأعظم، والله لئن بلغت قصدي ورجعت مسرورًا إلى الملك، لَأعلمنه بذلك حتى يزيدك في الإكرام ويعظم شأنك ويسمع كلامك. فقبَّلَ الوزير يده، ثم إنهما ذهبا إلى الشيخ البستاني وقالا له: انظر إلى هذا المكان وما أحسنه. قال الشيخ: كل هذا بسعادتكم. ثم قالا له: يا شيخ، إذا سألك أصحاب هذا المكان عن عمارة هذا القصر، فقل لهم: أنا عمَّرته من مالي. لأجل أن يحصل لك الخير والإنعام. فقال: سمعًا وطاعة. وصار ابن الملك لا ينقطع عن ذلك الشيخ.

هذا ما جرى من الوزير وابن الملك، وأما ما كان من أمر حياة النفوس، فإنها لما انقطعت عنها الكتب والمراسلة وغابت عنها العجوز، فرحت فرحًا شديدًا واعتقدت أن الغلام سافر إلى بلاده، فلما كان في بعض الأيام حضر إليها طبقٌ مغطًّى من عند أبيها، فكشفته فوجدتْ فيه فاكهة مليحة، فسألت وقالت: هل جاء أوان هذه الفاكهة؟ قالوا: نعم. قالت: يا ليتني تجهَّزْتُ للفرجة في البستان. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 727﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن بنت الملك لما أرسل إليها أبوها الفاكهة سألت وقالت: هل جاء أوان هذه الفاكهة؟ فقالوا لها: نعم. قالت: يا ليتنا نتجهَّز للفرجة في البستان. فقال لها جواريها: نِعْمَ الرأي يا سيدتي، والله لقد اشتقنا إلى ذلك البستان. قالت: كيف العمل؟ وفي كل سنة ما يفرجنا في البستان ويبين لنا اختلاف هذه الأغصان إلا الداية، وأنا قد ضربتها ومنعتها عني، وقد ندمت على ما كان مني في حقها؛ لأنها على كل حال دايتي ولها عليَّ حق التربية، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فلما سمعت الجواري ذلك الكلام من بنت الملك، نهضن جميعًا وقبَّلن الأرض بين يديها وقلن لها: بالله عليك يا سيدتي أن تصفحي عنها وتأمري بإحضارها. قالت: والله إني عزمت على ذلك الأمر، فمَن فيكم يروح لها؟ فإني قد جهزت لها خلعة سنية. فتقدم إليها جاريتان، إحداهما تسمى بلبل والأخرى تسمى سواد العين، وهما أكبر جواري بنت الملك وخواصها عندها، وهما ذاتا حسن وجمال، فقالتا: نحن نروح إليها أيتها الملكة. قالت: افعلا ما بدا لكما. فذهبتا إلى بيت الداية وطرقا عليها الباب ودخلا عليها، فلما عرفتهما تلقتهما بأحضانها ورحبت بهما، فلما استقر بهما الجلوس قالتا لها: يا داية، إن الملكة قد حصل منها العفو والرضى عنك. قالت الداية: لا كان ذلك أبدًا ولو سقيت كئوس الردى، فهل نسيت تعزيري قدام مَن يحبني ومَن يبغضني حين صُبِغت أثوابي بالدم وكدت أن أموت من شدة الضرب، وبعد ذلك سحبوني من رجلي مثل الكلب الميت حتى رموني خارج الباب؟ فوالله لا أرجع إليها أبدًا ولا أملأ عيني من رؤيتها. فقال لها الجاريتان: لا تردي سعينا إليك خائبًا، فأين إكرامك إيانا؟ فابصري مَن حضر عندك ودخل عليك، فهل تريدين أحدًا أكبر منا منزلةً عند بنت الملك؟ قالت: أعوذ بالله، أنا أعرف أن مقداري أقل منكما، لولا أن ابنة الملك عظمت قدري عند جواريها وخدمها، فكنت إذا غضبت على أكبر مَن فيهن تموت في جلدها. فقالت الجاريتان: إن الحال باقٍ على عهده لم يتغير أبدًا بل هو أكثر مما تعهدين، فإن بنت الملك وضعت نفسها لك وطلبت الصلح من غير واسطة. فقالت: والله لولا حضوركما عندي ما كنت أرجع إليها ولو أمرَتْ بقتلي، فشكرتاها على ذلك.

ثم قامت من وقتها ولبست ثيابها وطلعت معهما وسرن جميعًا حتى دخلت على بنت الملك، فلما دخلت عليها قامت على قدميها، فقالت لها الداية: الله يا بنت الملك، هل الخطأ مني أو منك؟ فقالت بنت الملك: الخطأ مني والعفو والرضى منك، والله يا دايتي إن قدرك عالٍ عندي ولكِ عليَّ حق التربية، ولكن أنت تعلمين أن الله سبحانه وتعالى قسم للخلق أربعة أشياء: الخلق والعمر والرزق والأجل، وليس في قدرة الإنسان أن يرد القضاء، وإني ما ملكت نفسي ولا قدرت على رجوعها، وأنا يا دايتي ندمت على ما فعلت. فعند ذلك زال ما عند العجوز من الغيظ فنهضت وقبلت الأرض بين يديها، فدعت الملكة بخلعة سنية وأفرغتها عليها، ففرحت بتلك الخلعة فرحًا شديدًا والخدم والجواري واقفات بين يديها، فلما انتهى ذلك المجلس قالت لها: يا دايتي، كيف حال الفواكه وثمر غيطاننا؟ قالت: ولله يا سيدتي، نظرت غالب الفواكه في البلد، ولكن في هذا اليوم أفتش على هذه القضية وأرد لك الجواب. ثم نزلت من عندها وهي مكرمة في غاية الإكرام وسارت حتى أتت ابن الملك، فتلقاها بفرح وعانقها واستبشر بقدومها وانشرح خاطره؛ لأنه كان كثير الانتظار لرؤيتها، ثم إن العجوز حكت له على ما وقع لها مع بنت الملك، وأن بنت الملك مرادها أن تنزل إلى البستان في اليوم الفلاني. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 728﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن العجوز لما أتت عند ابن الملك وأخبرته بما جرى لها مع الملكة حياة النفوس، وأنها تنزل البستان اليوم الفلاني، قالت له: هل فعلت ما أمرتك به من قضية بواب البستان؟ وهل وصل إليه شيء من إحسانك؟ قال لها: نعم، إنه صار صديقي وطريقه طريقي وفي خاطره لو يكون لي إليه حاجة. ثم أخبرها بما جرى له من أمر الوزير وتصويره المنام الذي رأته بنت الملك، وخبر الصياد والشَّرَك والجارح، فلما سمعت العجوز هذا الكلام فرحت فرحًا شديدًا ثم قالت: بالله عليك أن تجعل وزيرك في وسط قلبك، فإن فعله يدل على رجاحة عقله؛ ولأنه أعانك على بلوغ مرادك، فانهض يا ولدي من ساعتك وادخل الحمام والبس أفخر الثياب، فما بقي لنا حيلة أكبر من هذه، واذهب إلى البواب واعمل عليه حيلة حتى يمكنك من بياتك في البستان، فلو أُعطِي ملْءَ الأرض ذهبًا ما يمكِّن أحدًا من الدخول في البستان، فإذا دخلت فاختفِ حتى لا تراك العيون، ولا تزل مختفيًا حتى تسمعني أقول: يا خفي الألطاف أمِّنَّا ممَّا نخاف. فاخرج من خبائك وأظهِرْ حُسْنك وجمالك، وتوارَ في الأشجار فإن حسنك يخجل الأقمار حتى تنظرك الملكة حياة النفوس وتملأ قلبها وجوارحها بهواك، فتبلغ قصدك ومناك ويذهب همك. قال الغلام: سمعًا وطاعة. وأخرج صرة فيها ألف دينار فأخذتها منه ومضت، وخرج ابن الملك من وقته وساعته ودخل الحمام وتنعم ولبس أفخر الثياب من لباس الملوك الأكاسرة، وتوشح بوشاحٍ قد جمع فيه من أصناف الجواهر المثمنة، وتعمم بعمامة منسوجة بشرائط الذهب الأحمر مكللة بالدر والجوهر، وقد توردت وجنتاه واحمرت شفتاه، وغازلت أجفانه الغزلان وهو يتمايل كما النشوان، وعمه الحسن والجمال وفضح الأغصان قوامه الميال، ثم إنه حطَّ في جيبه كيسًا فيه ألف دينار وسار إلى أن أقبل على البستان ودق بابه، فأجابه البواب وفتح له الباب، فلما نظره فرح فرحًا شديدًا وسلَّم عليه أفخر السلام، ثم إنه وجد ابن الملك عابس الوجه فسأله عن حاله، فقال له: اعلم أيها الشيخ، أني عند والدي مكرم ولا وضع يده عليَّ إلا في هذا اليوم، فوقع بيني وبينه كلام فشتمني ولطمني على وجهي وبالعِصِيِّ ضربني وطردني، فصرت لا أعرف صديقًا، فخفت من غدر الزمان وأنت تعرف أن غضب الوالدين ما هو قليل، وقد حضرت إليك يا عم، فإن والدي بك خبير وأريد من إحسانك أن أقيم في البستان إلى آخر النهار، وأبيت فيه إلى أن يصلح الله الشأن بيني وبين والدي.

فلما سمع كلامه توجع لما جرى له من والده، فقال له: يا سيدي، اتأذن لي أن أروح إلى والدك وأدخل عليه وأكون سببًا في الصلح بينك وبينه؟ قال له الغلام: يا عم، إن والدي له أخلاق لا تطاق ومتى عارضته في الصلح وهو في حرارة خلقه لا يرجع إليك. قال الشيخ: سمعًا وطاعة، ولكن يا سيدي امشِ معي إلى بيني فأبيتك بين أولادي وعيالي ولا ينكر أحد علينا. فقال له الغلام: يا عم، ما أقيم إلا وحدي في حالة الغيظ. فقال الشيخ: يعز عليَّ أن تنام وحدك في البستان وأنا لي بيت. قال: يا عم، لي في ذلك غرض حتى يزول العارض عني، وأنا أعلم أن في هذا الأمر رضاه، فيعطف عليَّ خاطره. قال له الشيخ: فإن كان ولا بد فإني أحضر لك فراشًا تنام عليه وغطاء تتغطَّى به. قال له: يا عم، لا بأس بذلك. فنهض الشيخ وفتح له باب البستان وأحضر له الفرش والغطاء، والشيخ لا يعلم أن بنت الملك تريد الخروج إلى البستان.

هذا ما كان من أمر ابن الملك، وأما ما كان من أمر الداية، فإنها لما ذهبت إلى بنت الملك وأخبرتها بأن الأثمار طابت على أشجارها، قالت لها: يا دايتي، انزلي معي إلى البستان لتتفرجي في غدٍ إن شاء الله تعالى، ولكن أرسلي إلى الحارس وعرفيه أننا في غد نكون عنده في البستان، فأرسلت له الداية أن الملكة تكون عنده غدًا في البستان، وأنه لا يترك في البستان سواقين ولا مرابعين، ولا يدع أحدًا من خلق الله أجمعين يدخل البستان. فلما جاءه الخبر من عند بنت الملك، أصلح المجاري واجتمع بالغلام وقال له: إن بنت الملك صاحبة هذا البستان، ويا سيدي لك المعذرة والمكان مكانك وأنا ما أعيش إلا في إحسانك، غير أن لساني تحت قدمي، فأعرفك أن الملكة حياة النفوس تريد الخروج إلى البستان غدًا في أول النهار، وقد أمرت أني لا أخلي أحدًا في البستان يراها، وأريد من فضلك أن تخرج من البستان في هذا النهار، فإن الملكة لم تقم فيه سوى هذا اليوم إلى العصر، ويصير لك مدة الشهور والدهور والأعوام. قال له: يا شيخ، لعلك حصل لك من جهتنا ضرر؟ قال: لا والله يا مولاي، ما حصل لي من جهتك إلا الشرف. فقال له الغلام: إن كان الأمر كذلك فما يحل لك من جهتنا إلا كل خير، فإني أختفي في هذا البستان ولا يراني أحد حتى تروح بنت الملك إلى قصرها. قال الخولي: يا سيدي، متى نظرت خيال بشر من خلق الله تعالى ضربت عنقي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 729﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشيخ لما قال للغلام: إن بنت الملك متى رأت خيال بشر ضربت عنقي. قال له الغلام: أنا ما أخلي أحدًا يراني جملة كافية، ولا شك أنك اليوم مقصِّر في النفقة على العيال. ومدَّ يده إلى الكيس وأخرج منه خمسمائة دينار وقال له: خذ هذا الذهب وأنفقه على عيالك، فيطيب قلبك من جهتهم. فلما نظر الشيخ إلى الذهب هانت عليه نفسه، وأكَّدَ على ابن الملك في عدم الظهور في البستان، ثم تركه جالسًا.

هذا ما كان من أمر الخولي وابن الملك، وأما ما كان من أمر بنت الملك، فإنه لما كان بكرة النهار دخل عليها خدامها، فأمرت بفتح باب السر الموصل إلى البستان الذي فيه القصر، ولبسَتْ حلة كسروية مرصَّعة باللؤلؤ والدر والجوهر، ولبسَتْ حلةً ومن تحتها قميص لطيف مرصع بالياقوت، ومن تحت الجميع ما يعجز عن وصفه اللسان ويتحيَّر فيه الجنان، وفي هواه يشجع الجبان، ومن فوق رأسها تاج من الذهب الأحمر مرصَّع بالدر والجوهر، وهي تخطر في قبقاب من اللؤلؤ الرطب مصوغ من الذهب الأحمر مرصَّع بالفصوص والمعادن، وجعلت يدها على كتف العجوز، وأمرت بالخروج من باب السر. وإذا بالعجوز قد نظرت البستان فوجدته قد امتلأ من الخدم والجواري، وهن يأكلن الثمار ويعكرن الأنهار، ويردن التمتُّع باللعب والفرجة في هذا النهار، فقالت للملكة: إنك صاحبة العقل الوافر والفطنة الكاملة، وأنت تعلمين أنك غير محتاجة لهذه الخدم في البستان، ولو كنت خارجة من قصر أبيك لكان سيرهم معك احترامًا لك، ولكنك يا سيدتي طالعة من باب السر إلى البستان بحيث لا يراك أحدٌ من خلق الله تعالى. قالت لها: لقد صدقتِ يا دايتي، فكيف يكون العمل؟ ثم قالت لها العجوز: اؤمري الخدام أن ترجع، وما أخبرك بهذا إلا احترامًا للملك. فأمرت الخدام بالرجوع. قالت الداية: بقي بقية من الخدام الذين يبغون في الأرض الفساد، فاصرفيهم ولا تدعي معك غير جاريتين من الجواري لننشرح معهما. فلما نظرتها الداية قد صفى قلبها وراق لها الوقت قالت: الآن قد تفرجنا فرجة مليحة، فقومي بنا الآن إلى البستان. فقامت بنت الملك وجعلت يدها على كتف الداية وخرجت من باب السر، وجاريتاها يمشيان قدامها وهي تضحك عليهما وتتمايل في غلائلها، والداية تمشي قدامها وتريها الأشجار وتطعمها من الأثمار، وهي تروح من مكان إلى مكان.

ولم تزل سائرة بها إلى أن وصلت إلى ذلك القصر، فلما نظرته الملكة رأته جديدًا، فقالت: يا دايتي، أَمَا تنظرين هذا القصر قد عمرت أركانه وابيضت حيطانه؟ قالت الداية: والله يا سيدتي إني سمعت كلامًا، وهو أن جماعة من التجار أخذ منهم الخولي قماشًا وباعه، وأخذ بثمنه طوبًا وجيرًا وجبسًا وحجرًا وغير ذلك، فسألته ما فعل بذلك، فقال لي: عمرت به القصر الذي كان داثرًا. ثم قال الشيخ: إن التجار طالبوني بحقهم الذي لهم عليَّ فقلت: حتى تنزل بنت الملك إلى البستان وتنظر العمارة وتعجبها، فإذا طلعت أخذت منها ما تتفضَّل به عليَّ وأعطيهم حقهم الذي لهم. فقلت له: ما حملك على ذلك؟ قال: رأيته قد وقع وتهدمت أركانه وتقشر بياضه، وما رأيت لأحد مروءة أن يعمره، فاقترضت في ذمتي وعمرته، وأرجو من ابنة الملك أن تعمل ما هي أهله. فقلت له: إن ابنة الملك كلها خير وعوض. وما فعل هذا كله إلا طمعًا في إحسانك. قالت بنت الملك: والله لقد بناه عن مروءة وفَعَل فِعْل الأجواد، ولكن نادي لي الخازندارة. فنادت الداية الخازندارة فحضرت في الحال عند ابنة الملك، فأمرتها أن تعطي الخولي ألفَيْ دينار، فأرسلت العجوز رسولًا إلى الخولي، فلما وصل إليه الرسول قال له: واجب عليك امتثال أمر الملكة.

فلما سمع الخولي من الرسول هذا الكلام، ارتعدت مفاصله وضعفت قوته وقال في نفسه: لا شك أن ابنة الملك نظرت الغلام ولا يكون هذا اليوم عليَّ إلا أشأم الأيام. فخرج حتى وصل إلى داره وأعلم زوجته وأولاده بذلك، وأوصى وودَّعهم فتباكوا عليه، ثم إنه تمشى إلى أن وقف بين يدي ابنة الملك ووجهه مثل الكركم وهو يكاد أن يسقط من طوله، فعلمت العجوز منه ذلك، فأدركته بكلامها وقالت: يا شيخ، قبِّلِ الأرض شكرًا لله تعالى وابتهِلْ بالدعاء للملكة، فقد أعلمتها بما فعلتَ من عمارة القصر الداثر، ففرحت بذلك وقد أنعمت عليك في نظير ذلك بألفَيْ دينار، فاقبضهما من الخازندارة وادعُ لها وقَبِّلِ الأرض بين يديها وارجع إلى حالك. فلما سمع الخولي ذلك الكلام من الداية، قبض الألفَيْ دينار وقبَّل الأرض بين يدي ابنة الملك ودعا لها، ثم عاد إلى منزله وفرحت عياله به ودعوا لمَن كان سببًا في هذا الأمر كله. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 730﴾

قالت: بلغني إيها الملك السعيد، أن الشيخ الحارس لما أخذ الألفَيْ دينار من الملكة وعاد إلى منزله، فرحت عياله ودعوا لمَن كان سببًا في ذلك كله. هذا ما كان من أمر هؤلاء، وأما ما كان من أمر العجوز، فإنها قالت: يا سيدتي، لقد صار هذا المكان مليحًا، وما رأيتُ قطُّ أنصع من بياضه ولا أحسن من دهانه، يا ترى هل الأصلح ظاهره أو باطنه؟ وإلا عمل ظاهره بياضًا وباطنه سوادًا؟ فادخلي بنا حتى نتفرج على باطنه. فدخلت الداية وبنت الملك خلفها، فوجداه مدهونًا ومزوقًا من داخلٍ بأحسن التزويق، فنظرت بنت الملك يمينًا وشمالًا إلى أن وصلت إلى صدر الإيوان، فشخصت إليه وأطالت النظر فيه، فعلمت الداية أن عينها لحظت تصوير ذلك المنام، فأخذت الجاريتين عندها حتى لا يشغلاها. فلما انتهت بنت الملك إلى رؤية تصوير المنام، التفتت إلى العجوز وهي متعجبة تدق يدًا على يد وقالت: يا دايتي، تعالي انظري شيئًا عجيبًا لو كُتِب بالإبر على آماق البصر لكان عبرة لمَن اعتبر. قالت العجوز: وما هو يا سيدتي؟ قالت لها الملكة: ادخلي صدر الإيوان وانظري، وأي شيء تنظريه فعرِّفيني به. فدخلت العجوز وتأمَّلت تصوير المنام وخرجت وهي متعجبة وقالت: والله يا سيدتي، إن هذا هو صورة البستان والصياد والشَّرَك وجميع ما رأيته في المنام، وما منع الذَّكَر لما طار من أن يعود إلى أنثاه ويخلصها من شَرَك الصياد إلا مانع عظيم، فإني نظرته تحت مخالب الجارح، وقد ذبحه وشرب دمه ومزَّق لحمه وأكله، وهذا يا سيدتي سبب تأخيره عن العود إليها وتخليصها من الشَّرَك، ولكن يا سيدتي إنما العجب من تصوير هذا المنام بالزواق، ولو كنتِ أنتِ أردتِ أن تفعلي ذلك لَعجزتِ عن تصويره، والله إن هذا الشيء عجيب يُؤرَّخ في السِّيَر، ولكن يا سيدتي لعل الملائكة المُوكَّلين ببني آدم علموا أن الطير الذكر مظلوم، حيث ظلمناه ولمناه على عدم عوده، فأقاموا حجة الذكر وبيَّنوا عذره، وها أنا قد رأيته في هذه الساعة بين مخالب الجارح وهو مذبوح.

قالت بنت الملك: يا دايتي، هذا الطير الذي جرى عليه القضاء والقدر، ونحن قد ظلمناه. قالت العجوز: يا سيدتي، بين يدي الله تعالى تلتقي الخصوم، ولكن يا سيدتي قد تبين لنا الحق ووضح لنا عذر الطير الذكر، ولولا أنه تعلقت به مخالب الجارح وذبحه وشرب دمه وأكل لحمه، ما تأخر عن الرجوع إلى الطيرة، بل كان يرجع إليها ويخلصها من الشَّرَك، ولكن الموت ما فيه حيلة وخصوصًا ابن آدم، فإنه يجوِّع نفسه ويُطعِم زوجته، ويعرِّي نفسه ويكسوها، ويُغضِب أهله ويرضيها، ويعصي والدَيْه ويطيعها، وهي تطَّلِع على سره وخبيئته، ولا تصبر عنه ساعة واحدة، فلو غاب عنها ليلة واحدة لم تنم عينها ولم يكن عندها أعز منه، فتعزه أكثر من والديها، وإذا ناما يتعانقان ويجعل يده تحت عنقها وهي تجعل يدها تحت عنقه، كما قال الشاعر:

تَوَسَّدْتُهَا زَنْدِي وَبِتُّ ضَجِيعَهَا        وَقُلْتُ لِلَيْلِي طُلْ فَقَدْ أَشْرَقَ الْبَدْرُ

فَيَا لَيْلَةً لَمْ يَخْلُقِ اللهُ مِثْلَهَا        فَأَوَّلُهَا حُلْوٌ وَآخِرُهَا مُرُّ

وبعد ذلك فهو يقبِّلها وتقبِّله، ومن جملة ما جرى لبعض الملوك مع زوجته أنها ضعفت وماتت، فدفن نفسه معها بالحياة ورضي لنفسه بالموت من محبته إياها، ومن فرط الألفة التي كانت بينهما. وكذلك جرى لبعض الملوك حين ضعف ومات، فلما قصدوا أن يدفنوه قالت زوجته لأهلها: دعوني أدفن نفسي معه بالحياة وإلا أقتل نفسي وأبقى في ذمتكم، فلما علموا أنها لا ترجع عن ذلك تركوها، فرمت نفسها في القبر معه من كثرة محبتها إياه وشفقتها عليه. وما زالت العجوز تحدِّثها بحديث أخبار الرجال والنساء حتى زال ما كان في قلبها من بغض الرجال، فلما عرفت العجوز المودة التي تجدَّدت عندها للرجال قالت: إنه آن أوان تفرجنا في البستان. فخرجتا من القصر يتمشيان بين الأشجار، فلاحت من ابن الملك التفاتة فوقعت عينه عليها ونظر إلى شكلها، واعتدال قدِّها، وتورُّد خدها، وسواد طرفها، وبارع ظرفها، وباهر جمالها، ووافر كمالها؛ فاندهش عقله، وشخص إليها بصره، وعدم في الغرام رشده، وتجاوَزَ به العشق حدَّه، واشتعلت بخدمتها جوارحه، والتهبت بنار العشق جوانحه، فغشي عليه ووقع على الأرض مُغمًى عليه. فلما أفاق وجدها غابت عن عينه، وتوارت منه في الأشجار. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 731﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن ابن الملك أردشير لما كان مختفيًا في البستان ونزلت بنت الملك هي والعجوز مشيا بين الأشجار، رآها ابن الملك فغُشِي عليه من شدة ما حصل له من العشق، فلما أفاق وجدها غابت عن عينه وتوارت منه في الأشجار، فتنهَّدَ من قلبه وأنشد هذه الأبيات:

وَلَمَّا رَأَتْ عَيْنِي بَدِيعَ جَمَالِهَا        تَمَزَّقَ قَلْبِي بِالصَّبَابَةِ وَالْوَجْدِ

فَأَصْبَحْتُ مَرْمِيًّا طَرِيحًا عَلَى الثَّرَى        وَمَا عَلِمَتْ بِنْتُ الْمَلِيكِ بِمَا عِنْدِي

تَثَنَّتْ فَأَحْمَتْ قَلْبَ صَبٍّ مُتَيَّمٍ        فَبِاللهِ رِقِّي وَارْحَمِي صَادِقَ الْوَجْدِ

فَيَا رَبِّ قَرِّبْ لِي الْوِصَالَ وَأَحْظِنِي        بِمُهْجَةِ قَلْبِي، خَشْيَتِي ظُلْمَةُ اللَّحْدِ

أُقَبِّلُهَا عَشْرًا وَعَشْرًا وَعَشْرَةً        تَكُونُ مِنَ الْمُضْنَى الْكَئِيبِ عَلَى الْخَدِّ

ولم تزل العجوز تفرج بنت الملك في البستان إلى أن وصلت إلى المكان الذي فيه ابن الملك، وإذا بالعجوز قالت: يا خفي الألطاف أمِّنَّا ممَّا نخاف. فلما سمع ابن الملك الإشارة خرج من خبائه وتعجَّب في نفسه وتاه، وتمشى بين الأشجار بقدٍّ يُخجِل الأغصان، وتكلَّلَ جبينه بالعرق وصارت وجنتاه كالشفق، فسبحان الله العظيم فيما خلق. فلاحت التفاتة من بنت الملك فنظرته، فلما رأته صارت شاخصة له ساعة طويلة، ورأت حُسْنه وجماله، وقدَّه واعتداله، وعيونه التي تغازل الغزلان، وقامته التي تفضح غصون البان، فأذهل عقلها وسلب لبها ورشقها بسهام عينيه في قلبها، فقالت للعجوز: يا دايتي، من أين لنا هذا الغلام المليح القوام؟ قالت: أين هو يا سيدتي؟ قالت: ها هو قريب بين الأشجار. فصارت العجوز تتلفَّت يمينًا وشمالًا كأنه لم يكن عندها خبر به وقالت: ومَن عرَّف هذا الشاب طريقَ هذا البستان؟ قالت لها حياة النفوس: ومَن يعرفنا بخبر هذا الشاب؟ فسبحان مَن خلق الرجال! ولكن يا دايتي، هل أنت تعرفينه؟ قالت لها: يا سيدتي، هو الشاب الذي كان يراسلك معي. قالت لها بنت الملك وهي غريقة في بحر هواها ونار شوقها وجواها: يا دايتي، ما أحسن هذا الشاب! فإنه مليح الطلعة، وأظن أنه ما على وجه الأرض أحسن منه.

فلما علمت العجوز أن هواه ملكها قالت لها: أَمَا قلتُ لك يا سيدتي إنه شاب مليح بوجه صبيح. قالت لها بنت الملك: يا دايتي، إن بنات الملوك لا يعرفن أحوال الدنيا، ولا يعرفن صفات مَن فيها، ولا عاشرْنَ ولا أخذْنَ ولا أعطيْنَ. يا دايتي، كيف الوصول إليه؟ وبأي حيلةٍ أُقْبِل بوجهي عليه؟ وماذا أقول له ويقول لي؟ قالت العجوز: أي شيء في يدي الآن من الحيلة؟ قد صرنا متحيرين في هذا الأمر من أجلك. قالت بنت الملك: يا دايتي، اعلمي أنه ما مات أحد بالغرام إلا أنا، فها أنا أيقنت بالممات من وقتي، وكل هذا من نار وجدي. فلما سمعت العجوز كلامها، ورأت في هواه غرامها قالت لها: يا سيدتي، أما حضوره عندك فلا سبيل إليه، وأنت معذورة في عدم رواحك إليه لأنك صغيرة، لكن قومي معي وأنا قدامك إلى أن تصلي إليه وأنا أكون مخاطبة له، فما يحصل لك خجل وهي لحظة عين، حتى يحصل الأنس بينكما. قالت الملكة: قومي قدامي فقضاء الله لا يُرَدُّ. ثم قامت الداية وبنت الملك حتى أقبلا على ابن الملك وهو جالس كأنه البدر في تمامه، فلما وصلتا إليه قالت له العجوز: انظر يا فتى مَن حضر بين يديك، وهي بنت ملك الزمان حياة النفوس، فاعرف قيمتها ومقدار مشيها إليك وقدومها عليك، قم تعظيمًا لها وتمثَّل قائمًا على قدمَيْك. فنهض الغلام من وقته وساعته قائمًا على قدميه، ووقعت عينه في عينها، فصار كلُّ واحد منهما كالسكران بغير مدام، وقد زاد بها شوقه وغرامه، ففتحت بنت الملك يديها وكذلك الغلام، واعتنقا وهما في غاية الاشتياق، فغلب عليهما الهوى والغرام، فغُشِي عليهما الاثنان، ووقعا على الأرض واستمرا ساعة طويلة، فخشيت العجوز من الهتيكة فأدخلتهما القصر وقعدت على بابه وقالت للجواري: اغتنموا الفرجة فإن الملكة نائمة. فرجع الجواري إلى الفرجة. ثم إنهما قاما من غشيتهما فوجدا أنفسهما داخل القصر، ثم قال الغلام: بالله عليك يا سيدة الملاح، هل هذا منام أم أضغاث أحلام؟ ثم اعتنقا الاثنان وسكرا من غير مدام، وتشاكيا لوعة الغرام، فأنشد الغلام هذه الأبيات:

الشَّمْسُ مِنْ وَجْهِهَا الْوَضَّاحِ طَالِعَةٌ        كَذَاكَ مِنْ وَجْنَتَيْهَا حُمْرَةُ الشَّفَقِ

فَإِنَّهُ حَيْثُمَا لِلنَّاظِرِينَ بَدَا        يَغِيبُ مِنْهُ حَيَاءً كَوْكَبُ الْأُفُقِ

وَإِنْ بَدَا بَارِقٌ مِنْ ثَغْرِ مَبْسِمِهَا        لَاحَ الصَّبَاحُ فَأَجْلَى غَيْهَبَ الْغَسَقِ

وَإِنْ تُثَنِّي قَوَامًا مِنْ مَعَاطِفِهَا        تَغَارُ مِنْهُ غُصُونُ الْبَانِ فِي الْوَرَقِ

عِنْدِي عَنِ الْكُلِّ مَا يُغْنِي بِرُؤْيَتِهَا        أُعِيذُهَا بِإِلَهِ النَّاسِ وَالْفَلَقِ

أَعَارَتِ الْبَدْرَ جُزْءًا مِنْ مَحَاسِنِهَا        وَرَامَتِ الشَّمْسُ تَحْكِيهَا فَلَمْ تُطِقِ

مِنْ أَيْنَ لِلشَّمْسِ أَعْطَافٌ تَمِيسُ بِهَا        مِنْ أَيْنَ لِلْبَدْرِ حُسْنُ الْخَلْقِ وَالْخُلُقِ

فَمَنْ يَلُمْنِي وَكُلِّي فِي مَحَبَّتِهَا        مَا بَيْنَ مُفْتَرِقٍ فِيهَا وَمُتَّفِقِ

هِيَ الَّتِي مَلَكَتْ قَلْبِي بِلَفْتَتِهَا        فَمَا الَّذِي لِقُلُوبِ الْعَاشِقِينَ بَقِي

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 732﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن ابن الملك لما فرغ من شعره ضمته بنت الملك إلى صدرها وقبَّلت فاه وما بين عينيه، فعادت إليه روحه وصار يشكو إليها ما قاساه من شدة العشق وجور الغرام، وكثرة الشوق والهيام، وما جرى له من قسوة قلبها؛ فلما سمعت كلامه قبَّلَتْ يدَيْه وقدمَيْه، وكشفت رأسها فأظلم الديجور وأشرقت فيه البدور، وقالت: يا حبيبي وغاية مرادي، لا كان يوم الصدود ولا جعله الله بيننا يعود. فعندها تعانقا وتباكيا وأنشدت بنت الملك هذه الأبيات:

يَا مُخْجِلَ الْبَدْرِ وَشَمْسَ النَّهَارِ        حَكَمْتَ فِي قَتْلِ مُحِبٍّ فَحَارْ

بِسَيْفِ لَحْظٍ قَاطِعٍ فِي الْحَشَا        وَأَيْنَ مِنْ سَيْفِ اللِّحَاظِ الْفِرَارْ

وَشِبْهُ قَوْسٍ حَاجِبَاكَ ارْتَمَى        مِنْهَا بِقَلْبِي سَهْمُ وَجْدٍ وَنَارْ

وَمِنْ جَنَى خَدَّيْكَ لِي جَنَّةٌ        فَهَلْ لِقَلْبِي عَنْ جَنَاهَا اصْطِبَارْ

وَقَدُّكَ الْمَايِسُ غُصْنٌ زَهَا        مِنْ حَمْلِ هَذَا الْغُصْنِ تُجْنَى الثِّمَارْ

جَذَبْتَنِي قَهْرًا وَأَسْهَرْتَنِي        وَقَدْ خَلَعْتُ فِي هَوَاكَ الْعِذَارْ

أَعَانَكَ اللهُ بِنُورِ الضِّيَا        وَقَرَّبَ الْبُعْدَ وَأَدْنَى الْمَزَارْ

فَارْحَمْ فُؤَادًا فِي هَوَاكَ انْكَوَى        وَقَلْبَ مُضْنًى بِعُلَاكَ اسْتَجَارْ

فلما فرغت من شعرها، فاض عليها الغرام، وهامت وبكت بدموع غزار سجام، فأحرقت قلب الغلام فتغنَّى في هواها وهام، وتقدم إليها وقبَّل يديها وبكى بكاءً شديدًا، ولم يزالا في عتاب ومنادمات وأشعار إلى أن أذَّن العصر، ولم يكن بينهما غير ذلك، فهَمَّا بالانصراف، فقالت له بنت الملك: يا نور عيني وحشاشة كبدي، هذا وقت الفراق فمتى يكون التلاق؟ قال الغلام وقد أصابه من كلامها سهام: والله لا أحبُّ ذِكْرَ الفراق. ثم إنها خرجت من القصر، فالتفت إليها فوجدها تئنُّ أنينًا يذيب الحجر، وتبكي بدموع كالمطر، فغرق من العشق في بحر الهلكات، وأنشد هذه الأبيات:

أَيَا مُنْيَةَ الْقَلْبِ زَادَ اشْتِغَالِي        لِفَرْطِ هَوَاكِ فَكَيْفَ احْتِيَالِي

فَوَجْهُكِ كَالصُّبْحِ مَهْمَا بَدَا        وَشَعْرُكِ فِي اللَّوْنِ يَحْكِي اللَّيَالِي

وَقَدُّكِ غُصْنٌ إِذَا مَا انْثَنَى        وَقَدْ حَرَّكَتْهُ رِيَاحُ الشَّمَالِ

وَأَلْحَاظُ عَيْنَيْكِ تَحْكِي الظِّبَا        إِذَا رَمَقَتْهَا كِرَامُ الرِّجَالِ

وَخَصْرُكِ مُضْنًى بِرِدْفٍ ثَقِيلٍ        فَهَذَا ثَقِيلٌ وَهَذَاكَ بَالِ

وَمِنْ خَمْرِ رِيقِكِ أَحْلَى شَرَابٍ        وَمِسْكٍ زَكِيٍّ وَبَرْدِ الزُّلَالِ

فَيَا ظَبْيَةَ الْحَيِّ كُفِّي الْأَسَى        وَجُودِي عَلَيَّ بِطَيْفِ الْخَيَالِ

فلما سمعت ذلك بنت الملك في وصفها، رجعت إليه واعتنقته بقلب حريق أضرم ناره الفراق، ولا يُطْفِئه غير التقبيل والعناق، وقالت: إن صاحب المثل السائر يقول: الصبر على الحبيب ولا فقده. ولا بد أن أدبِّر حيلةً في الاجتماع. ثم ودَّعَتْه وراحت وهي لا تدري أين تضع قدمها من شدة عشقها. ولم تزل سائرة حتى ألقت نفسها في مقصورتها، وأما الغلام فإنه قد زاد به الشوق والهيام، وحُرِم لذيذ المنام. ثم إن الملكة لم تذق طعامًا، وفرغ صبرها وضعف جلدها، فلما أصبح الصباح طلبت الداية، فلما حضرت بين يديها وجدت حالها تغيَّر، فقالت لها: لا تسألي عمَّا أنا فيه؛ لأن جميع ما أنا فيه من يدك. ثم قالت لها: أين محبوب قلبي؟ قالت لها العجوز: يا سيدتي، ومتى فارقك؟ هل بعد عنك غير هذه الليلة؟ قالت لها: وهل يمكنني أن أصبر عنه ساعة واحدة؟ قومي تحيَّلِي واجمعي بيني وبينه بسرعةٍ، فإن روحي كادت أن تخرج. قالت لها الداية: طوِّلي روحك يا سيدتي حتى أدبِّر لكما أمرًا لطيفًا لا يشعر به أحد. فقالت لها: والله العظيم إذا لم تأتِ به في هذا اليوم لَأقولن للملك وأخبره أنكِ أفسدتِ حالي، فيبر عنقك. قالت العجوز: سألتك بالله أن تصبري عليَّ، فإن هذا الأمر خطر. ولم تزل تخضع لها حتى صبَّرتها ثلاثة أيام، وبعد ذلك قالت لها: يا دايتي، إن الثلاثة أيام مقوَّمة عليَّ بثلاث سنين، فإن فات اليوم الرابع ولم تحضريه عندي سعيتُ في قتلك. فخرجت الداية من عندها وتوجهت إلى منزلها.

فلما كان صبح اليوم الرابع دعت بمواشط البلد، وطلبت منهم نقشًا مليحًا من أجل تزويق بنتٍ بِكْرٍ وتنقيشها وتكتيبها، فأحضرن إليها مطلوبها من أحسن ما يكون، ثم دعت بالغلام فحضر، وفتحت صندوقها وأخرجت منه بقجة فيها حلة من ثياب النساء تساوي خمسة آلاف دينار بعصابة مطرزة بأنواع الجواهر، وقالت: يا ولدي، أتحب أن تجتمع بحياة النفوس؟ قال لها: نعم. فأخرجت محفة وحفَّفَتْه بها وكحَّلته، ثم أعرته وركبت النقش على يديه من ظفره إلى كتفه، ومن مشط رجليه إلى فخذيه، وكتبت سائر جسده، فصار كأنه ورد أحمر على صفايح المرمر، ثم بعد مدة لطيفة غسلته ونظفته وأخرجت له قميصًا ولباسًا، ثم ألبسته تلك الحلة الكسروية وعصبته وقنَّعته وعلَّمته كيف يمشي، وقالت له: قدِّمِ الشمال وأخِّرِ اليمين. ففعل ما أمرته به ومشى قدامها، فصار كأنه حورية خرجت من الجنة، ثم قالت له: قوِّ قلبك فإنك قادم على قصر ملك، ولا بد أن يكون على باب القصر جنود وخدم، ومتى فزعت منهم أو حصل عندك وهم، تفرَّسوا فيك وعرفوك، فيحصل لنا الأذى وتروح أرواحنا، فإن لم يكن عندك مقدرة على ذلك فأَعْلِمْني. قال: إن هذا الأمر لا يروِّعني، فطيبي نفسًا وقرِّي عينًا. فخرجت تمشي أمامه إلى أن وصلا إلى باب القصر وهو ملآن بالخدام، والتفتت العجوز إليه لتنظر هل حصل عنده وهم أم لا؟ فوجدته على حاله ولم يتغيَّر، فلما وصلت العجوز نظر إليها رئيس الخدام فعرفها، ووجد خلفها جارية تتحيَّر العقول في وصفها، فقال في نفسه: أما العجوز فهي الداية، وأما التي خلفها فما في أرضنا مَن يشبه شكلها ولا يقارب حُسْنها ولا ظرفها، إلا إن كانت الملكة حياة النفوس، ولكنها محجوبة لا تخرج أبدًا، فيا ليت شعري كيف خرجت في الطريق؟ ويا ترى هل خرجت بإذن الملك أم بغير إذنه؟ فنهض قائمًا على قدميه حتى يكشف خبرها فتبعه نحو ثلاثين خادمًا، فلما نظرتهم العجوز طار عقلها وقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، قد راحت أرواحنا في هذه الساعة بلا شكٍّ. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 733﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن العجوز لما رأت رئيس الخدام مُقبِلًا هو وغلمانه حصل لها غاية الخوف وقالت: لا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون، قد راحت أرواحنا في هذه الساعة بلا شك. فلما سمع رئيس الخدام من العجوز هذا الكلام، أدركه الوهم لما يعلمه من سطوة بنت الملك، وأن أباها تحت حكمها. ثم قال في نفسه: لعل الملك أمر الداية أن تأخذ ابنته لقضاء حاجةٍ ولا تريد أن يعلم أحد بحالها، ومتى تعرَّضتُ لها يصير في نفسها شيء عظيم مني وتقول: إن هذا الطواشي واجهني ليكشف عن حالي. فتسعى في قتلي، فليس لي بهذا الأمر حاجة. فولَّى راجعًا ورجع الثلاثون خادمًا معه نحو باب القصر، وطردوا الخلق من عند باب القصر، فدخلت الداية وسلَّمت برأسها، فوقف الثلاثون خادمًا إجلالًا لها وردُّوا عليها السلام. ثم دخلت ودخل ابن الملك خلفها، ولم يزالا داخلين من الأبواب حتى عدوا جميع الدركات، وستر عليهما الستار إلى أن وصلا إلى الباب السابع، وهو باب القصر الأكبر الذي فيه سرير الملك، ومنه يتوصل إلى مقاصير السراري وقاعات الحريم وقصر بنت الملك، فوقفت العجوز هناك وقالت: يا ولدي، ها نحن قد وصلنا إلى ها هنا، فسبحان مَن أوصلنا إلى هذا المكان، ويا ولدي، ما يتأتى لنا الاجتماع إلا في الليل، فإنه ستر على الخائف. قال لها: صدقتِ، فكيف الحيلة؟ قالت له: اختفِ في هذا المكان المظلم. فقعد في الجب وراحت العجوز إلى محل آخَر وخلَّتْه فيه حتى ولَّى النهار، فحضرت إليه وأخرجته ودخلا من باب القصر، ولم يزالا داخلين حتى وصلا إلى مقصورة حياة النفوس، فطرقت الدايةُ البابَ فخرجت جارية صغيرة وقالت: مَن بالباب؟ فقالت الداية: أنا. فرجعت الجارية واستأذنت سيدتها في دخول الداية، فقالت لها: افتحي لها ودعيها تدخل هي ومَن معها. فدخلا.

فلما أقبلا التفتت الداية إلى حياة النفوس، فوجدتها قد جهَّزت المجلس وصفَّتِ القناديل وفرشت المراتب واللواوين بالبسط، وحطت المساند وأوقدت الشموع على الشمعدانات الذهب والفضة، وحطَّتِ السماط والفواكه والحلويات، وأطلقت المسك والعود والعنبر، وقعدت بين القناديل والشموع، فصار ضوء وجهها يغلب ضوء الجميع. فلما نظرت الداية قالت لها: يا دايتي، أين محبوب قلبي؟ قالت لها: يا سيدتي، ما لقيته ولا وقعت عيني عليه، ولكن جئتُ لكِ بأخته شقيقته بين يديك. قالت لها: هل أنت مجنونة؟ ليس لي حاجة بأخته، فهل إذا وجع الإنسان رأسه ربط يده؟ قالت: لا والله يا سيدتي، ولكن انظري إليها فإن أعجبتك خليها عندك. وكشفت عن وجهها، فلما عرفته قامت على أقدامها وضمَّتْه إلى صدرها وضمَّها إلى صدره، ثم وقعا على الأرض مغشيًّا عليهما ساعة طويلة، فرشت عليهما الداية ماءَ الورد فأفاقا، ثم إنها قبَّلته في فمه ما ينوف عن ألف قُبْلة، وأنشدت هذه الأبيات:

زَارَنِي مَحْبُوبُ قَلْبِي فِي الْغَلَسْ        قُمْتُ إِجْلَالًا لَهُ حَتَّى جَلَسْ

قُلْتُ: يَا سُؤْلِي وَيَا كُلَّ الْمُنَى        زُرْتَنِي فِي اللَّيْلِ مَا خِفْتَ الْعَسَسْ

قَالَ لِي: خِفْتُ وَلَكِنَّ الْهَوَى        آخِذٌ لِلرُّوحِ مِنِّي وَالنَّفَسْ

فَاعْتَنَقْنَا وَالْتَزَمْنَا سَاعَةً        هَا هُنَا امْنُنْ فَلَا تَخْشَ حَرَسْ

ثُمَّ قُمْنَا مَا بِنَا مِنْ رِيبَةٍ        نَنْفُضُ الْأَذْيَالَ مَا فِيهَا دَنَسْ

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 734﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن حياة النفوس لما أتاها محبوبها في القصر، تعانقا وأنشدت أشعارًا فيما يناسب ذلك، فلما فرغت من إنشادها قالت: هل هذا صحيح من كوني نظرتك في منزلي وأنت نديمي ومؤنسي؟ ثم قوي بها الهوى وأضرمها الجوى، حتى كاد أن يطير عقلها من الفرح به، فأنشدت هذه الأبيات:

بِنَفْسِي الَّذِي قَدْ زَارَ فِي غَسَقِ الدُّجَى        وَكُنْتُ إِلَى مِيعَادِهِ مُتَرَقِّبَا

فَمَا رَاعَنِي إِلَّا رَخِيمُ بُكَائِهِ        فَقُلْتُ لَهُ: أَهْلًا وَسَهْلًا وَمَرْحَبَا

وَقَبَّلْتُهُ فِي خَدِّهِ أَلْفَ قُبْلَةٍ        وَعَانَقْتُهُ أَلْفًا وَكَانَ مُحَجَّبَا

وَقُلْتُ: لَقَدْ نُلْتُ الَّذِي كُنْتُ أَرْتَجِي        فَلِلَّهِ حَمْدٌ قَدْ أَحَقَّ وَأَوْجَبَا

وَبِتْنَا كَمَا شِئْنَا بِأَحْسَنِ لَيْلَةٍ        إِلَى أَنْ جَلَا مِنْ لَيْلِنَا الصُّبْحُ غَيْهَبَا

فلما أصبح الصباح أدخلته في محل عندها لم يطَّلِع عليه أحدٌ إلى أن أتى الليل، فأطلعته وجلسا يتنادمان، فقال لها: قصدي أن أعود إلى دياري وأُعْلِم أبي بأخبارك لأجل أن يجهِّز وزيره إلى أبيك فيخطبك منه. قالت: يا حبيبي، أخشى أن تروح إلى أرضك وحكمك فتلتهي عني وتَسْلَى محبتي، أو أن أباك لا يوافقك على هذا الكلام فأموت أنا والسلام، والرأي السديد أن تكون أنت معي وفي قبضتي فتنظر إلى طلعتي وأنظر إلى طلعتك، حتى أدبر لك حيلة وأخرج أنا وأنت في ليلة فننزح إلى بلادك، فإني قطعت رجائي ويئست من أهلي. فقال لها: سمعًا وطاعةً. واستمرَّا على ما هما فيه من شرب الخمر. ثم إنه طاب لهما الشراب في ليلة من الليالي، فلم يهجعا ولم يناما إلى أن لاح الفجر، وإذا بأحد الملوك أرسل إلى أبيها هدية ومن جملتها قلادة من الجوهر اليتيم، وهي تسعة وعشرون حبة لا تفي خزائن ملك بثمنها. ثم إن الملك قال: ما تصلح هذه القلادة إلا لبنتي حياة النفوس. والتفت إلى خادم كانت قلعت أضراسه لمقتضى ذلك، فناداه الملك وقال: خذ هذه القلادة وأوصلها إلى حياة النفوس وقل لها: إن أحد الملوك أرسلها هدية لأبيك ولا يوجد مالٌ يَفِي لها بقيمة، فضعيها في عنقك. فأخذها الغلام وهو يقول: الله تعالى يجعلها آخِر لبسها من الدنيا، لقد أعدمتني نفع أضراسي.

ثم إنه سار حتى وصل إلى باب المقصورة فوجد الباب مغلوقًا والعجوز نائمة على الباب، فأيقظها فانتبهت مرعوبةً وقالت له: ما حاجتك؟ قال لها: إن الملك أرسلني في حاجة إلى ابنته. قالت: إن المفتاح ما هو حاضر، رح إلى أن أحضر المفتاح. قال لها: ما أقدر أن أروح للملك. فراحت العجوز لأجل أن تحضر المفتاح فأدركها الخوف، فطلبت النجاة لنفسها. فلما أبطأت على الخادم خاف من إبطائه على الملك، فحرَّكَ الباب وهزَّه فانكسر القفيز وانفتح الباب فدخل، ولم يزل داخلًا إلى أن وصل إلى الباب السابع، فلما دخل المقصورة وجدها مفروشة بفرش عظيم وهناك شموع وقناني، فتعجَّبَ الخادم من ذلك الأمر وتمشى إلى أن وصل إلى التخت وعليه ستر من الإبريسم، وعليه شبكة من الجوهر، فكشف الستر عنه فوجد بنت الملك وهي راقدة وفي حضنها شاب أحسن منها، فعظَّمَ الله تعالى الذي خلقه من ماء مهين، ثم قال: ما أحسن هذه الفعال ممَّن تبغض الرجال؟ ومن أين وصلت إلى هذا؟ وأظنها ما قلعت أضراسي إلا من أجله. ثم إنه رد الستر إلى مكانه وخرج طالبًا الباب، فانتبهت مرعوبة ونظرت للخادم كافور ونادته فلم يُجِبْها، فنزلت ولحقته وأخذت ذيله ووضعته على رأسها وقبَّلت رجليه، وقالت له: استر ما ستر الله. فقال: الله لا يستر عليك ولا على مَن يستر عليك، أنت قلعتِ أضراسي وتقولين لي: لا يذكر لي أحد شيئًا من صفات الرجال. وانفلت منها وخرج وهو يجري وقفل عليهما الباب، وحط عليه خادمًا يحرسه ودخل على الملك، فقال له الملك: هل أعطيت القلادة لحياة النفوس؟ فقال الخادم: والله إنك تستحق أكثر من هذا كله. فقال الملك: وما حصل؟ قل لي وأسرع في الكلام. قال: لا أقول لك إلا في خلوة بيني وبينك. فقال له: قل بلا خلوة. فقال الخادم: أعطني الأمان. فرمى له منديل الأمان، فقال الخادم: أيها الملك، دخلت على الملكة حياة النفوس فوجدتها في مجلس مفروش، وهي نائمة وفي حضنها شاب، فقفلتُ عليهما الباب وحضرت بين يديك. فلما سمع الملك كلامه، نهض قائمًا وأخذ سيفًا في يده وصاح على رئيس الخدام وقال له: خذ معك صبيانك وادخل على حياة النفوس وهاتها هي ومَن معها، وهما على التخت نائمان وغطوهما بغطائهما. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 735﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك لما أمر الخادم أن يأخذ صبيانه ويتوجهوا إلى حياة النفوس ويأتوا بها هي ومَن معها بين يديه، خرج الخادم ومَن معه ودخلوا فوجدوا حياة النفوس واقفة على أقدامها والبكاء والعويل قد أذابها، وكذلك ابن الملك، فقال رئيس الخدام للغلام: اضطجع على السرير كما كنتَ وكذلك ابنة الملك. فخشيت بنت الملك عليه وقالت له: ما هذا وقت المخالفة. فاضطجع الاثنان وحملوهما إلى أن أوصلوهما بين يدي الملك، فلما كشف الملك عنهما نهضت ابنة الملك على أقدامها، فنظر لها الملك وأراد أن يضرب عنقها، فسبق الغلام ورمى نفسه في صدر الملك وقال: أيها الملك، ليس لها ذنب، الذنب مني أنا، فاقتلني قبلها. فقصده ليقتله فرمت حياة النفوس نفسها على أبيها وقالت: اقتلني أنا ولا تقتله، فإنه ابن الملك الأعظم صاحب جميع الأرض في طولها والعرض.

فلما سمع الملك الكلام كلام ابنته، التفت إلى وزيره وكان محضر سوء وقال له: ما تقول يا وزير في هذا الأمر؟ قال الوزير: الذي أقوله: كل مَن وقع في هذا الأمر يحتاج للكذب، وما لهما إلا ضرب أعناقهما بعد أن تعذِّبهما بأنواع العذاب. فعندها دعا الملك بسيَّاف نقمته فجاء ومعه صبيانه، فقال الملك: خذوا هذا العلق واضربوا عنقه، وبعده هذه الفاجرة، واحرقوهما ولا تشاوروني في أمرهما مرةً ثانية. فعند ذلك حط السياف يده في ظهرها ليأخذها، فصاح الملك عليه ورجمه بشيء كان في يده كاد أن يقتله وقال له: يا كلب، كيف تكون حليمًا عند غضبي؟ حطَّ يدك في شعرها وجرها منه حتى تقع على وجهها. ففعل كما أمره الملك وسحبها على وجهها، وكذلك الغلام، إلى أن وصل بهما إلى محل الدم، وقطع من ذيل ثوبه وعصب عينيه، وجرَّدَ سيفه وكان ماضيًا، وأخَّرَ بنت الملك ترجيًا أن تقع فيها شفاعة، وقد اشتغل بالغلام ولعب السيف ثلاث مرات وجميع العسكر يتباكون ويدعون الله أن يحصل لهما شفاعة، فرفع السياف يده وإذا بغبار قد ثار حتى ملأ الأقطار. وكان السبب في ذلك أن الملك أبا الغلام لما أبطأ عليه خبر ولده، تجهَّزَ في عسكر عظيم وتوجَّهَ بنفسه للبحث عن ولده.

هذا ما كان من أمره، وأما ما كان من أمر الملك عبد القادر، فإنه لما ظهر ذلك الغبار قال: يا قوم ما الخبر؟ وما هذا الغبار الذي غشي الأبصار؟ فنهض الوزير الأكبر ونزل من بين يديه متوجهًا إلى ذلك الغبار ليعرف حقيقة أمره، فوجد خلقًا كالجراد لا يُحصَى لهم عدد ولا ينفذ لهم مدد، قد ملئوا الجبال والأودية والتلال، فعاد الوزير إلى الملك وأخبره بالقضية، فقال الملك للوزير: انزل واعرف لنا خبر هذا العسكر، وما السبب في مجيئهم إلى بلادنا؟ واسأل عن قائد هذا الجيش وبلغه مني السلام واسأله: ما سبب حضوره؟ فإن كان يقصد قضاء حاجة ساعدناه، وإن كان له ثأر عند أحد الملوك ركبنا معه، وإن كان يريد هدية هاديناه، فإن هذا عدد عظيم وجيش جسيم، ونخشى على أرضنا من سطوته. فنزل الوزير ومشى بين الخيام والجنود والأعوان، ولم يزل ماشيًا من أول النهار إلى قرب المغرب حتى وصل إلى أصحاب السيوف المذهبة والخيام المكوكبة، ثم وصل من بعدهم إلى الأمراء والوزراء والحجاب والنواب. ولم يزل يتمشى إلى أن وصل إلى السلطان، فرآه ملكًا عظيمًا، فلما رآه أرباب الدولة صاحوا عليه: قبِّلِ الأرض. فقبَّل الأرض وقام، فصاحوا عليه ثانيًا وثالثًا إلى أن رفع رأسه وقصد أن يقوم من طوله من شدة الهيبة، فلما تمثَّلَ بين يدي الملك قال: أدام الله أيامك، وأعز سلطانك، ورفع قدرك أيها الملك السعيد وبعدُ، فإن الملك عبد القادر يسلم عليك ويقبِّل الأرض بين يديك، ويسألك في أي المهمات أتيت؟ فإن كنت قاصدًا أخذ ثأر من الملوك ركب في خدمتك، وإن كنت قاصدًا غرضًا يمكنه قضاؤه قام بخدمتك في شأنه. قال له الملك: أيها الرسول، اذهب إلى صاحبك وقل له: إن الملك الأعظم له ولد غاب عنه مدة، وقد أبطأت عليه أخباره، وانقطعت عنه آثاره، فإن كان في هذه المدينة أخذه وارتحل عنكم، وإن كان جرى عليه أمر من الأمور وارتمى عندكم بمحظور، فإن والده يخرب دياركم وينهب أموالكم ويقتل رجالكم ويسبي نساؤكم، فارجع إلى صاحبك سرعة وعرِّفه بذلك من قبل أن يحل به البلاء. قال: سمعًا وطاعة. ثم قصد الانصراف فصاح عليه الحجاب: قبِّلِ الأرض، قبِّلِ الأرض. فقبَّلها عشرين مرة، فما قام إلا وروحه في أنفه. ثم خرج من مجلس الملك، ولم يزل سائرًا وهو متفكر في أمر هذا الملك وكثرة جيوشه إلى أن وصل إلى الملك عبد القادر وهو مقطوف اللون في غاية الوجل مرتعد الفرائص، ثم عرَّفه بما اتفق له. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 736﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الوزير لما رجع من عند الملك الأعظم، وأخبر الملك عبد القادر بما وقع له وهو مقطوف اللون ترتعد فرائصه من شدة الوجل، قال له الملك عبد القادر وقد داخله الوسواس والمخافة على نفسه وعلى الناس: يا وزير، مَن يكون ولد هذا الملك؟ قال: إن ولده هو الذي أمرتَ بقتله، والحمد لله الذي لم يعجِّل قتله، فإن أباه كان يخرب ديارنا وينهب أموالنا. فقال له الملك: انظر رأيك الفاسد حيث أشرتَ علينا بقتله، فأين الغلام ولد هذا الملك الهمام؟ قال له: أيها الملك الهمام، إنك قد أمرت بقتله. فلما سمع هذا الكلام اندهش عقله، وصاح من صميم قلبه ورأسه: ويلكم، أدركوا السياف لئلا يوقع عليه القتل. ففي الوقت أحضروا السياف، فلما حضر قال له: يا ملك الزمان، قد ضربت عنقه كما أمرتَني. فقال له: يا كلب، إنْ صحَّ ذلك لا بد أن ألحقك به. قال: أيها الملك، إنك أمرتني بقتله من غير أن أشاورك فيه مرةً ثانية. قال الملك: كنت في غيظي، فتكلَّمِ الحقَّ قبل تلف روحك. قال له: أيها الملك، هو في قيد الحياة. ففرح الملك واطمأنَّ قلبه وأمر بإحضاره. فلما حضر بين يديه نهض له قائمًا على قدميه، وقبَّل فاه وقال له: يا ولدي، أستغفرُ الله العظيم مما وقع مني في حقك، فلا تتكلم بما يحط قدري عند والدك الملك الأعظم. قال الغلام: يا ملك الزمان، وأين الملك الأعظم؟ قال له: لقد جاء بسببك. قال الغلام: وحق حرمتك ما أبرح من بين يديك حتى أبرِّئ عرضي وعرض بنتك ممَّا نُسِبنا إليه، وهي بكر عذراء، فاطلب الدايات القوابل لتكشف عليها بين يديك، فإن وجدتَ بكارتها زالت فقد أبحتك دمي، وإن كانت عذراء فأَظْهِر براءة عرضي وعرضها. فدعا القوابل، فلما كشفْنَ عليها وجدْنَها عذراء، فأخبرن الملك بذلك وطلبن منه الإنعام، فأنعم عليهم وخلع ما كان عليه، وكذلك أنعم على جميع مَن في الحريم، وأخرجوا طاسات الطيب فطيبوا أرباب الدولة وفرحوا غاية الفرح.

ثم إن الملك اعتنق الغلام وعامله بالتعظيم والإكرام، وأمر بإدخاله الحمام مع خاصته من الخدام، فلما خرج أفرغ عليه خلعة سنية وتوجه بتاج من الجوهر ووشحه بوشاح من الإبريسم مزركش بالذهب الأحمر، مرصَّع بالدر والجوهر، وأركبه فرسًا من أحسن الخيل بسرج من الذهب مرصَّع بالدر والجوهر، وأمر أرباب ورؤساء مملكته بالركوب في خدمته إلى أن يصل إلى أبيه. ثم أوصى الغلام أن يقول لأبيه الملك الأعظم: إن الملك عبد القادر تحت أمرك، سامع مطيع لك في جميع ما تأمره وتنهاه. فقال الغلام: لا بد من ذلك. ثم ودَّعه وسار متوجِّهًا إلى أبيه، فلما نظر إليه أبوه طار عقله من الفرح، ثم نهض له قائمًا على قدميه ومشى له خطوات وعانقه، وشاع الفرح والسرور في عسكر الملك الأعظم، ثم حضر جميع الوزراء والحجاب، وجميع الجند والقواد، وقبَّلوا الأرض بين يديه وفرحوا بقدومه، وكان لهم في الفرح يوم عظيم، وأباح ابن الملك لمَن معه وغيرهم من مدينة الملك عبد القادر أن يتفرجوا على ما عليه عساكر الملك الأعظم، ولا يعارضهم أحد حتى يروا كثرة جنوده وقوة سلطانه، فصار كلُّ مَن دخل سوق البزازين ونظر الغلام قبل ذلك وهو جالس في المكان، يتعجَّب منه كيف رضي لنفسه ذلك مع شرف نفسه وعظيم منزلته! ولكن أحوجه إلى ذلك حبه وميله لبنت الملك. وشاعت الأخبار بكثرة عساكره، فبلغ ذلك حياة النفوس فأشرفت من أعلى القصر ونظرت إلى الجبال، فرأتها امتلأت بعساكر وجيوش، وكانت في قصر أبيها مسجونة تحت الأمر حتى يعلموا ما يأمر به الملك في شأنها، إما بالرضى والإطلاق، وإما بالقتل والإحراق.

فلما رأت حياة النفوس هذه العساكر وعلمت أنها عساكر أبيه، خافت أن ابن الملك ينساها ويلتهي عنها بأبيه، ثم يرحل عنها فيقتلها أبوها، فأرسلت إليه الجارية التي كانت عندها في المقصورة برسم الخدمة، وقالت لها: امضي إلى أردشير ابن الملك ولا تخافي، فإذا وصلتِ إليه فقبِّلي الأرض بين يديه وعرفيه بنفسك وقولي له: إن سيدتي تسلِّم عليك وإنها الآن محبوسة في قصر أبيها تحت الأمر، فإما أن يقصد العفو عنها، وإما أن يقصد قتلها، وتسألك أنك لا تنساها ولا تتركها، فإنك اليومَ ذو مقدرة، ومهما أشرت إليه لا يقدر أحد أن يخالف أمرك، فإن حسن عندك أن تخلِّصها من أبيها وتأخذها عندك كان من فضلك، فإنها قد تحملت هذه المكاره من أجلك، وإن لم يحسن عندك ذلك حيث فرغ غرضك منها، فقل لوالدك الملك الأعظم لعله يشفع لها عند أبيها، ولا يرحل حتى يطلقها من أبيها، ويأخذ عليه العهد والميثاق ألَّا يفعل بها سوءًا ولا يتعمَّد قتلها، وهذا آخر الكلام ولا أوحش الله منك والسلام. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 737﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية حين أرسلتها حياة النفوس إلى أردشير ابن الملك الأعظم، وصلت إليه وأخبرته بكلام سيدتها، فلما سمع منها هذا الكلام بكى بكاءً شديدًا وقال لها: اعلمي أن حياة النفوس سيدتي وأنا عبد هواها وأسيرها، ولا نسيت ما كان بيننا ولا مرارة يوم الفراق، فقولي لها بعد أن تقبِّلي قدمَيْها: إني أحدِّث أبي في أمرها، ويرسل وزيره الذي خطبك منه أولًا يخطبك، فإنه لم يقدر أن يخالف، فإن أرسل إليك أبوك ليشاورك في ذلك، فلا تخالفي، فإني لا أروح بلادي إلا بك. فرجعت الجارية إلى سيدتها وقبَّلت يديها وبلَّغَتْها رسالته، فلما سمعت ذلك الكلام بكت من شدة الفرح وحمدت الله تعالى.

هذا ما كان من أمرها، وأما ما كان من أمر الغلام فإنه اختلى بأبيه في الليل وسأله عن حاله وما جرى له، فحدثه بجميع ما جرى من أوله إلى آخره، فقال له: ما تريد أن أفعل لك يا ولدي؟ فإن أردت إتلافه أخربت دياره ونهبت أمواله وهتكت حريمه. فقال له: لا أريد ذلك يا أبي، فإنه لم يفعل معي شيئًا يوجب ذلك، بل أريد اتصالي بها وأريد من إحسانك أن تجهز هدية وتقدمها لأبيها، ولكن تكون هدية نفيسة وترسلها مع وزيرك صاحب الرأي السديد. فقال له أبوه: سمعًا وطاعة. ثم إن أباه قصد ما ادَّخره من قديم الزمان، وأخرج منه كل شيء نفيس ثم عرضه على ولده فأعجبه، ثم دعا بالوزير وأرسل ذلك صحبته وأمره أن يسير بذلك إلى الملك عبد القادر، ويخطب منه بنته لابنه ويقول له: اقبل هذه الهدية وردَّ له الجواب. فسار الوزير متوجهًا إلى الملك عبد القادر، وكان الملك عبد القادر حزينًا من وقت فارق الغلام، ولم يزل مشغولَ الخاطر متوقعًا خراب ملكه وأخذ ضياعه، وإذا بالوزير قد أقبل عليه وسلَّمَ وقبَّلَ الأرض بين يديه، فقام له الملك على الأقدام وقابله بالإكرام، فأسرع الوزير ووقع على قدميه وقبَّلهما وقال له: العفو يا ملك الزمان، إن مثلك لا يقوم لمثلي، وأن أقل عبيد الخدام، واعلم أيها الملك أن ابن الملك تكلم مع أبيه وعرَّفه ببعض فضلك عليه وإحسانك له، فشكرك الملك على ذلك، وقد جهز لك صحبة خادمك الذي بين يديك هديةً، وهو يُقْرِئك السلام ويخصُّك بالتحية والإكرام. فلما سمع الملك منه ذلك لم يصدقه من شدة خوفه حتى تقدَّمت إليه الهدية، فلما عُرِضت عليه وجدها هدية لا يفي بقدرها مالٌ، ولا يقدر ملك من ملوك الأرض على مثلها، فصغرت نفسه عنده؛ فعند ذلك نهض الملك قائمًا على قدميه، وحمد الله تعالى وأثنى عليه، وقد شكر الملك ذلك الغلام.

ثم قال له الوزير: أيها الملك الكريم، أصغِ لكلامي، واعلم أن الملك الأعظم قد ورد عليك واختار القرب منك، وقد جئتك قاصدًا راغبًا في بنتك السيدة المصونة والجوهرة المكنونة حياة النفوس وزواجها بولده أردشير، فإن أجبتَ لهذا الأمر وكنتَ به راضيًا فاتفق معي على صداقها. فلما سمع منه ذلك الكلام قال: سمعًا وطاعة، أما من جهتي أنا فليس عندي مخالفة، وهو أحب ما يكون عندي، وأما من جهة البنت فإنها بالغة رشيدة وأمرها بيد نفسها، واعلم أن ذلك الأمر راجع إلى البنت، فإنها بالاختيار إلى نفسها. ثم إنه التفت إلى رئيس الخدام وقال له: امضِ إلى بنتي وعرِّفها بهذه الأحوال. فقال رئيس الخدام: سمعًا وطاعة. ثم إنه مشى حتى طلع قصر الحريم ودخل على بنت الملك وقبَّل يديها وأخبرها بما ذكره الملك، ثم قال لها: ما تقولين أنت في جواب هذا الكلام؟ فقالت: سمعًا وطاعة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 738﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن رئيس خدام الحريم لما أخبر بنت الملك بخطبتها لابن الملك الأعظم قالت: سمعًا وطاعةً. فلما سمع رئيس خدام الحريم هذا الكلام رجع إلى الملك وأعلمه الجواب، ففرح بذلك فرحًا شديدًا، ثم إنه دعا بخلعة سنية وأفرغها على الوزير، وأمر له بعشرة آلاف دينار وقال له: أوصل الجواب إلى الملك، واستأذنه لي في أن أنزل إليه. فقال الوزير: سمعًا وطاعة. ثم إن الوزير خرج من عند الملك عبد القادر ومشى حتى وصل إلى الملك الأعظم، وأوصل إليه الجواب وبلغه ما معه من الكلام، ففرح الملك بذلك، وأما ابن الملك فإنه قد طار عقله من الفرح، واتسع صدره وانشرح. ثم أذن الملك الأعظم بأن الملك عبد القادر ينزل إليه ويقابله، فلما كان في اليوم الثاني، ركب الملك عبد القادر وحضر عند الملك الأعظم فتلقاه ورفع مكانه وحيَّاه، وجلس هو وإياه، ووقف ابن الملك بين أيديهما. ثم قام خطيب من خاصة الملك عبد القادر وخطب خطبة بليغة، وهنَّأ ابن الملك بما قد حصل له من بلوغ مراده بتزويجه بالملكة سيدة بنات الملوك. ثم إن الملك الأعظم بعد جلوس الخطيب أمر بإحضار صندوق مملوء بالدر والجوهر وخمسين ألف دينار، وقال للملك عبد القادر: إني وكيل عن ولدي في جميع ما استقر عليه الأمر. فاعترف الملك عبد القادر بقبض الصداق، ومن جملته خمسون ألف دينار من أجل فرح بنته سيدة بنات الملوك حياة النفوس، وبعد هذا الكلام أحضروا القضاة والشهود، وكتبوا كتاب بنت الملك عبد القادر على ابن الملك الأعظم أردشير، وكان يومًا مشهودًا، وفرح فيه سائر المحبين واغتاظ به سائر المبغضين والحاسدين. ثم إنهم عملوا الولائم والدعوات، وبعد ذلك دخل عليها ابن الملك فوجدها درةً ما ثُقِبت، ومهرًا لغيره ما رُكِبت، فريدة مصونة وجوهرة مكنونة، وظهر ذلك لأبيها.

ثم إن الملك الأعظم سأل ولده: هل بقي في نفسه حاجة قبل الرحيل؟ قال: نعم أيها الملك، اعلم أني أريد الانتقام من الوزير الذي أساءنا، والطواشي الذي افترى الكذب علينا. فبعث الملك الأعظم إلى الملك عبد القادر في الحال، يطلب منه ذلك الوزير والطواشي فأرسلهما إليه، فلما حضرا بين يديه أمر بشنقهما على باب المدينة، ثم أقاموا بعد ذلك مدة يسيرة وطلبوا من الملك عبد القادر إذنًا لابنته أن تتجهَّز للسفر، فجهَّزَها أبوها وأركبوا ابنه الملك في تخت من الذهب الأحمر، مرصَّع بالدر والجوهر، تجره الخيل الجياد، وأخذت معها جميع جواريها وخدمها، وعادت الداية إلى مكانها بعد هروبها وصارت على عادتها، وركب الملك الأعظم وولده وركب الملك عبد القادر وجميع أهل مملكته لوداع صهره وابنته، وكان يومًا يُعَدُّ من أحسن الأيام. فلما بعدوا عن الديار حلف الملك الأعظم على صهره أن يرجع إلى بلاده، فودَّعه ورجع إلى دياره بعد أن ضمه إلى صدره وقبَّله بين عينيه، وشكره على فضله وإحسانه، وأوصاه على ابنته. وبعد وداع الملك الأعظم وولده رجع إلى ابنته وعانقها، ثم قبَّلَتْ يدَيْه وبكيا في موقف الوداع، ثم رجع إلى مملكته وسار ابن الملك الأعظم هو وزوجته ووالده إلى أن وصلوا إلى أرضهم وجدَّدوا فرحهم، ثم أقاموا في ألذ عيش وأهناه، وأرغده وأحلاه، إلى أن أتاهم هادم اللذات ومفرق الجماعات، ومخرِّب القصور ومعمِّر القبور، وهذا آخِر القصة.

 

ومما يُحكَى أيها الملك السعيد، أنه كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان، في أرض العجم، ملكٌ يقال له شهرمان، وكان مستقره خراسان، وكان عنده مائة سرية، ولم يُرزَق منهن في طول عمره بذكر ولا أنثى، فتذكَّر ذلك يومًا من الأيام وصار يتأسف حيث مضى غالب عمره ولم يُرزَق بولد ذكر يَرِث الملك من بعده كما ورثه هو عن آبائه وأجداده، فحصل له بسبب ذلك غاية الغم والقهر الشديد. فبينما هو جالس يومًا من الأيام إذ دخل عليه بعض مماليكه وقال له: يا سيدي، إن على الباب جارية مع تاجر لم يُرَ أحسن منها. فقال لهم: عليَّ بالتاجر والجارية. فأتاه بالتاجر والجارية، فلما رآها وجدها تشبه الرمح الرديني، وهي ملفوفة في إزار من حرير مزركش بالذهب؛ فكشف التاجر عن وجهها فأضاء المكان من حُسْنها، وارتخى لها سبع ذوائب حتى وصلت إلى خلاخلها كأذيال الخيل، وهي بطرف كحيل، وردف ثقيل، وخصر نحيل، تشفي سقام العليل، وتطفئ نار الغليل، كما قال الشاعر في المعنى هذه الأبيات:

كَلِفْتُ بِهَا وَقَدْ تَمَّتْ بِحُسْنٍ        وَكَمَّلَهَا السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ

فَلَا طَالَتْ وَلَا قَصُرَتْ وَلَكِنْ        رَوَادِفُهَا يَضِيقُ بِهَا الْإِزَارُ

قَوَامٌ بَيْنَ إِيجَازٍ وَبَسْطٍ        فَلَا طُولٌ يُعَابُ وَلَا اقْتِصَارُ

وَشَعْرٌ يَسْبِقُ الْخَلْخَالَ مِنْهَا        وَلَكِنْ وَجْهُهَا أَبَدًا نَهَارُ

فتعجب الملك من رؤيتها وحُسْنها، وجمالها وقدِّها واعتدالها، وقال للتاجر: يا شيخ، بكم هذه الجارية؟ قال التاجر: يا سيدي اشتريتها بألفَيْ دينار من التاجر الذي كان ملكها قبلي، ولي ثلاث سنين مسافرًا بها، فتكلفت إلى أن وصلت إلى هذا المكان ثلاثة آلاف دينار، وهي هدية مني إليك. فخلع عليه الملك خلعة سنية، وأمر له بعشرة آلاف دينار، فأخذها وقبَّلَ يدي الملك، وشكر فضله وإحسانه وانصرف. ثم إن الملك سلم الجارية إلى المواشط، وقال لهن: أصلحن أحوال هذه الجارية وزيِّنَّها، وافرشن لها مقصورة وأدخلنها فيها، وأمر حجَّابه أن ينقلوا إليها جميع ما تحتاج إليه، وكانت المملكة التي هو مقيم فيها على جانب البحر، وكانت مدينته تُسمَّى المدينة البيضاء، فأدخلوا الجارية في مقصورة، وكانت تلك المقصورة لها شبابيك تطلُّ على البحر. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 739﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك لما أخذ الجارية وسلمها للمواشط، وقال لهن: أصلحن شأنها وأدخلنها في مقصورة، وأمر حجَّابه أن يغلقوا عليها جميع الأبواب بعد أن ينقلوا لها جميع ما تحتاج إليه، فأدخلوها في مقصورة، وكانت تلك المقصورة لها شبابيك تطل على البحر. ثم إن الملك دخل على الجارية فلم تقم له ولم تفكر فيه، فقال الملك: كأنها كانت عند قوم لم يعلِّموها الأدب. ثم إنه التفت إلى تلك الجارية، فرآها بارعةً في الحُسْن والجمال، والقدِّ والاعتدال، ووجهها كأنه دائرة القمر عند تمامه، أو الشمس الضاحية في السماء الصاحية، فتعجَّبَ من حُسْنها وجمالها، وقدِّها واعتدالها، فسبَّحَ الله الخالق جلَّتْ قدرته. ثم إن الملك تقدم إلى الجارية وجلس بجانبها، وضمها إلى صدره وأجلسها على فخذه، ومص رضاب ثَغْرها، فوجده أحلى من الشهد. ثم إنه أمر بإحضار الموائد من أفخر الطعام، وفيها من سائر الألوان، فأكل الملك وصار يلقمها حتى شبعت وهي لم تتكلم بكلمة واحدة، فصار الملك يحدِّثها ويسألها عن اسمها وهي ساكتة لم تنطق بكلمة، ولم ترد عليه جوابًا، ولم تزل مطرقة برأسها إلى الأرض، وكان الحافظ لها من غضب الملك عليها فَرْط حُسْنها وجمالها، والدلال الذي كان لها، فقال الملك في نفسه: سبحان الله خالِق هذه الجارية! ما أظرفها إلا أنها لا تتكلم! ولكن الكمال لله تعالى. ثم إن الملك سأل الجواري هل تكلمت؟ فقلن له: من حين قدومها إلى هذا الوقت لم تتكلم بكلمة واحدة، ولم نسمع لها خطابًا. فأحضر الملك بعض الجواري والسراري، وأمرهن أن يغنين لها وينشرحن معها لعلها أن تتكلم، فلعبت الجواري والسراري قدامها بسائر الملاهي واللعب وغير ذلك، وغنَّيْنَ حتى طرب كلُّ مَن في المجلس، والجارية تنظر إليهن وهي ساكتة، ولم تضحك ولم تتكلم، فضاق صدر الملك، ثم إنه صرف الجواري، واختلى بتلك الجارية.

ثم إنه خلع ثيابه وخلع ثيابها، ونظر إلى بدنها فرآه كأنه سبيكة فضة فأحَبَّها محبة عظيمة، ثم قام الملك وأزال بكارتها فوجدها بنتًا بِكْرًا، ففرح فرحًا شديدًا، وقال في نفسه: يالله العجب، كيف تكون جارية مليحة القوام والمنظر، وأبقاها التجار بِكْرًا على حالها؟ ثم إنه مال إليها بالكلية ولم يلتفت إلى غيرها، وهجر جميع سراريه والمحاظي، وأقام معها سنة كاملة كأنها يوم واحد وهي لم تتكلم. فقال لها يومًا من الأيام وقد زاد عشقه بها والغرام: يا منية النفوس، إن محبتك عندي عظيمة، وقد هجرت من أجلك جميع الجواري والسراري والنساء والمحاظي، وجعلتك نصيبي من الدنيا، وقد طولت روحي عليك سنة كاملة، وأسأل الله تعالى من فضله أن يلين قلبك لي فتكلِّميني، وإن كنت خرساء فأعلميني بالإشارة حتى أقطع العشم من كلامك، وأرجو الله سبحانه أن يرزقني منك بولدٍ ذَكَر يَرِث ملكي من بعدي، فإني وحيد فريد ليس لي مَن يَرِثني، وقد كبر سني، فبالله عليك إن كنت تحبِّينني أن تردِّي عليَّ الجواب. فأطرقت الجارية رأسها إلى الأرض وهي تتفكَّر، ثم إنها رفعت رأسها، وتبسمت في وجه الملك، فتخيَّلَ للملك البرق قد ملأ المقصورة وقالت: أيها الملك الهمام والأسد الضرغام، قد استجاب الله دعاءك، وإني حامل منك، وقد آنَ أوان الوضع، ولكن لا أعلم هل الجنين ذكر أم أنثى؟ ولولا أني حملت منك ما كلَّمْتُك كلمةً واحدة.

فلما سمع الملك كلامها تهلَّلَ وجهه بالفرح والانشراح، وقبَّلَ رأسها ويديها من شدة الفرح، وقال: الحمد لله الذي مَنَّ عليَّ بأمرين كنت أتمناهما؛ الأول: كلامك. والثاني: إخبارك بالحمل مني. ثم إن الملك قام من عندها وخرج وجلس على كرسي مملكته وهو في الانشراح الزائد، وأمر الوزير أن يُخرِج للفقراء والمساكين والأرامل وغيرهم مائة ألف دينار شكرًا لله تعالى وصدقةً عنه، ففعل الوزير ما أمره به الملك. ثم إن الملك دخل بعد ذلك إلى الجارية، وجلس عندها وحضنها، وضمَّها إلى صدره، وقال لها: يا سيدتي ومالكة رقِّي، لماذا السكوت، ولكِ عندي سنة كاملة ليلًا ونهارًا، قائمة نائمة، ولم تكلميني في هذه السنة إلا في هذا النهار، فما سبب سكوتك؟ فقالت الجارية: اسمع يا ملك الزمان، واعلم أني مسكينة غريبة مكسورة الخاطر فارقت أمي وأهلي. فلما سمع الملك كلامها عرف مرادها، فقال لها: أما قولك مسكينة فليس لهذا الكلام محل، فإن جميع ملكي ومتاعي وما أنا فيه في خدمتك، وأنا أيضًا صرتُ مملوكك، وأما قولك فارقت أمي وأهلي وأخي، فأعلميني في أي مكان هم، وأنا أرسل إليهم وأحضرهم عندك. فقالت له: اعلم أيها الملك السعيد أن اسمي جلناز البحرية، وكان أبي من ملوك البحر ومات، وخلَّفَ لنا الملك، فبينما نحن فيه إذ تحرَّكَ علينا ملك من الملوك، وأخذ الملك من أيدينا، ولي أخٌ يُسمَّى صالح، وأمي من نساء البحر، فتنازعت أنا وأخي فحلفت أن أرمي نفسي عند رجل من أهل البر، فخرجت من البحر وجلست على طرف جزيرة في القمر، فجاز بي رجل فأخذني وذهب بي إلى منزله وراودني عن نفسي، فضربته على رأسه فكاد أن يموت، فخرج بي وباعني لهذا الرجل الذي أخذتَني منه، وهو رجل جيد صالح صاحب دين وأمانة ومروءة، ولولا أن قلبك حبني فقدَّمْتَني على جميع سراريك، ما كنت قعدت عندك ساعة واحدة، وكنت رميت نفسي إلى البحر من هذا الشباك، وأروح إلى أمي وجماعتي، وقد استحيت أن أسير إليهم وأنا حامل منك، فيظنون بي سوءًا، ولا يصدِّقونني - ولو حلفت لهم - إذا أخبرتهم أنه اشتراني ملك بدراهمه، وجعلني نصيبه من الدنيا، واختصَّ بي عن زوجاته وسائر ما ملكت يمينه، وهذه قصتي والسلام. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 740﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن جلناز البحرية لما سألها الملك شهرمان حكت له قصتها من أولها إلى آخرها، فلما سمع كلامها شكرها وقبَّلها بين عينيها، وقال لها: والله يا سيدتي ونور عيني إني لا أقدر على فراقك ساعة واحدة، وإنْ فارقتِني متُّ من ساعتي، فكيف يكون الحال؟ فقالت: يا سيدي، قد قرب أوان ولادتي، ولا بد من حضور أهلي لأجل أن يباشروني؛ لأن نساء البر لا يعرفن طريقة ولادة بنات البحر، وبنات البحر لا يعرفن طريقة ولادة بنات البر، فإذا حضر أهلي أنقلب معهم وينقلبون معي. فقال لها الملك: وكيف يمشون في البحر ولا يبتلون؟ فقالت: إنا نمشي في البحر كما تمشون أنتم في البر، ببركة الأسماء المكتوبة على خاتم سليمان بن داود عليهما السلام، ولكن أيها الملك إذا جاء أهلي وإخواتي، فإني أُعلِمهم أنك اشتريتني بمالك، وفعلتَ معي الجميل والإحسان، فينبغي أن تصدق كلامي عندهم ويشاهدون حالك بعيونهم، ويعلمون أنك ملك ابن ملك. فعند ذلك قال الملك: يا سيدتي، افعلي ما بدا لك مما تحبين؛ فإني مطيع لك في جميع ما تفعلينه. فقالت الجارية: اعلم يا ملك الزمان إنا نسير في البحر وعيوننا مفتوحة، وننظر ما فيه وننظر الشمس والقمر والنجوم والسماء كأنها على وجه الأرض، ولا يضرنا ذلك، واعلم أيضًا أن في البحر طوائف كثيرة وأشكالًا مختلفة من سائر الأجناس التي في البر، واعلم أيضًا أن جميع ما في البر بالنسبة لما في البحر شيء قليل جدًّا. فتعجب الملك من كلامها.

ثم إن الجارية أخرجت من كتفها قطعتين من العود القماري، وأخذت منهما جزءًا وأوقدت مجمرة النار، وألقت ذلك الجزء فيها وصفرت صفرة عظيمة، وصارت تتكلم بكلام لا يفهمه أحد، فطلع دخان عظيم والملك ينظر، ثم قالت للملك: يا مولاي، قم واختفِ في مخدع حتى أُرِيك أخي وأمي وأهلي من حيث لا يرونك؛ فإني أريد أن أحضرهم وتنظر في هذا المكان في هذا الوقت العجب، وتتعجَّب ممَّا خلق الله تعالى من الأشكال المختلفة والصور الغريبة.

فقام الملك من وقته وساعته ودخل مخدعًا، وصار ينظر ما تفعل، فصارت تبخر وتعزم إلى أن أزبد البحر واضطرب، وخرج منه شاب مليح الصورة بهي المنظر، كأنه البدر في تمامه، بجبين أزهر وخد أحمر، وشعر كأنه الدر والجوهر، وهو أشبه الخلق بأخته، ولسان الحال في حقه ينشد هذين البيتين:

الْبَدْرُ يَكْمُلُ كُلَّ شَهْرٍ مَرَّةً        وَجَمَالُ وَجْهِكِ كُلَّ يَوْمٍ يَكْمُلُ

وَحُلُولُهُ فِي قَلْبِ بُرْجٍ وَاحِدٍ        وَلَكِ الْقُلُوبُ جَمِيعُهُنَّ الْمَنْزِلُ

ثم خرج من البحر عجوز شمطاء، ومعها خمس جوارٍ كأنهن الأقمار، وعليهن شبه من الجارية التي اسمها جلناز. ثم إن الملك رأى الشاب والعجوز والجواري يمشين على وجه الماء حتى قدموا على الجارية، فلما قربوا من الشباك ونظرتهم جلناز قامت لهم، وقابلتهم بالفرح والسرور، فلما رأوها عرفوها ودخلوا عندها وعانقوها وبكوا بكاءً شديدًا، ثم قالوا لها: يا جلناز، كيف تتركينا أربع سنين ولم نعلم المكان الذي أنتِ فيه؟ والله إنها ضاقت علينا الدنيا من شدة فراقك، ولا نلتذُّ بطعامٍ ولا شرابٍ يومًا من الأيام، ونحن نبكي بالليل والنهار من فرط شوقنا إليك. ثم إن الجارية صارت تقبِّل يد الشاب أخيها ويد أمها، وكذلك بنات عمها، وجلسوا عندها ساعة وهم يسألونها عن حالها وما جرى لها، وعمَّا هي فيه، فقالت لهم: اعلموا أني لمَّا فارقتكم وخرجت من البحر، جلست على طرف جزيرة، فأخذني رجل وباعني لرجل تاجر، فأتى بي التاجر إلى هذه المدينة وباعني لملكها بعشرة آلاف دينار، ثم إنه احتفل بي وترك جميع سراريه ونسائه ومحاظيه من أجلي، واشتغل بي عن جميع ما عنده وما في مدينته.

فلما سمع أخوها كلامها قال: الحمد لله الذي جمع شملنا بك، لكن قصدي يا أختي أن تقومي وتروحي معنا إلى بلادنا وأهلنا. فلما سمع الملك كلام أخيها، طار عقله خوفًا على الجارية أن تقبل كلام أخيها، ولا يقدر هو أن يمنعها مع أنه مولع بحبها، فصار متحيرًا شديد الخوف من فراقها. وأما الجارية جلناز فإنها لما سمعت كلام أخيها قالت: والله يا أخي إن الرجل الذي اشتراني ملك هذه المدينة وهو ملك عظيم، ورجل عاقل كريم، جيد في غاية الجود وقد أكرمني، وهو صاحب مروءة ومال كثير، وليس له ولد ذكر ولا أنثى، وقد أحسن إليَّ وصنع معي كل خير، ومن يوم ما جئته إلى هذا الوقت ما سمعت منه كلمة رديئة تسوء خاطري، ولم يزل يلاطفني ولا يفعل شيئًا إلا بمشاورتي، وأنا عنده في أحسن الأحوال وأتم النِّعَم، وأيضًا متى فارقته يهلك فإنه لا يقدر على فراقي أبدًا ولا ساعة واحدة، وإن فارقته أنا الأخرى متُّ من شدة محبتي إياه، بسبب فرط إحسانه لي مدة مقامي عنده، فإنه لو كان أبي حيًّا لَمَا كان لي مقام عنده مثل مقامي عند هذا الملك العظيم الجليل المقدار، وقد رأيتموني حاملة منه، والحمد لله الذي جعلني بنت ملك البحر، وزوجي أعظم ملوك البر، ولم يقطع الله تعالى بي وعوَّضني خيرًا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 741﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن جلناز البحرية لما حكت لأخيها جميع حكايتها، وقالت: إن الله تعالى لم يقطع بي وعوضني خيرًا، وإن الملك ليس له ولد ذكر ولا أنثى، وأطلب من الله تعالى أن يرزقني بولدٍ ذكر يكون وارثًا عن هذا الملك العظيم ما خوَّله الله تعالى من هذه العمارات والقصور والأملاك. فلما سمع أخوها وبنات عمها كلامها، قرت أعينهم بذلك الكلام وقالوا لها: يا جلناز، أنتِ تعلمين بمنزلتك عندنا وتعرفين محبتنا إياكِ، وتتحقَّقين أنك أعز الناس جميعًا عندنا، وتعتقدين أن قصدنا لك الراحة من غير مشقة ولا تعب، فإن كنت في غير راحة فقومي معنا إلى بلادنا وأهلنا، وإن كنتِ مرتاحة هنا في معزة وسرور، فهذا هو المراد والمنى؛ فإننا لا نريد إلا راحتك على كل حال. فقالت جلناز: والله إني في غاية الراحة والهناء والعز والمنى. فلما سمع الملك منها ذلك الكلام فرح واطمأنَّ قلبه، وشكرها على ذلك، وازداد فيها حبًّا ودخل حبها في صميم قلبه، وعلم منها أنها تحبه كما يحبها، وأنها تريد القعود عنده حتى ترى ولده منها.

ثم إن الجارية التي هي جلناز البحرية أمرت جواريها أن يقدمن الموائد والطعام من سائر الألوان، وكانت جلناز هي التي باشرت الطعام في المطبخ، فقدمت لهم الجواري بالطعام والحلويات والفواكه. ثم إنها أكلت هي وأهلها، وبعد ذلك قالوا لها: يا جلناز، إن سيدك رجل غريب منا، وقد دخلنا بيته من غير إذنه، ولم يعلم بنا وأنت تشكرين لنا فضله، وأيضًا أحضرتي لنا طعامه فأكلنا، ولم نجتمع به ولم نره ولم يرنا، ولا حضر عندنا ولا أكل معنا حتى يكون بيننا وبينه خبز وملح. وامتنعوا كلهم من الأكل واغتاظوا عليها، وصارت النار تخرج من أفواههم كالمشاعل؛ فلما رأى الملك ذلك طار عقله من شدة الخوف منهم، ثم إن جلناز قامت إليهم وطيَّبت خاطرهم، ثم بعد ذلك تمشت إلى أن دخلت المخدع الذي فيه الملك سيدها وقالت له: يا سيدي، هل رأيت وسمعت شكري لك وثنائي عليك عند أهلي، وسمعت ما قالوا لي من أنهم يريدون أن يأخذوني معهم إلى أهلنا وبلادنا. فقال لها الملك: سمعت ورأيت، جزاكِ الله عنَّا خيرًا، والله ما علمتُ قدرَ محبتي عندك إلا في هذه الساعة المباركة، ولم أشك في محبتك إياي. فقالت له: يا سيدي، هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ وأنت قد أحسنتَ إليَّ، وتكرَّمت عليَّ بجلائل النعم، وأراك تحبني غاية المحبة، وعملت معي كل جميل، واخترتني على جميع مَن تحب وتريد، فكيف يطيب قلبي على فراقك والرواح من عندك؟ وكيف يكون ذلك وأنت تحسن وتتفضَّل عليَّ؟ فأريد من فضلك أن تأتي وتسلِّم على أهلي، وتراهم ويَرَوك، ويحصل الصفاء والود بينكم، ولكن اعلم يا ملك الزمان أن أخي وأمي وبنات عمي قد أحبوك محبة عظيمة لما شكرتك لهم، وقالوا: ما نروح إلى بلادنا من عندك حتى نجتمع بالملك ونسلِّم عليه. فيريدون أن ينظروك ويأتنسوا بك. فقال لها الملك: سمعًا وطاعة، فإن هذا هو مرادي.

ثم إنه قام من مقامه وسار إليهم وسلَّمَ عليهم بأحسن سلام؛ فبادروا إليه بالقيام وقابلوه أحسن مقابلة، وجلس معهم في القصر، وأكل معهم على المائدة، وأقام معهم مدة ثلاثين يومًا. ثم بعد ذلك أرادوا التوجه إلى بلادهم ومحلهم، فأخذوا بخاطر الملك والملكة جلناز البحرية، ثم ساروا من عندهما بعد أن أكرمهم الملك غاية الإكرام. وبعد ذلك استوفت جلناز أيام حملها وجاء أوان الوضع، فوضعت غلامًا كأنه البدر في تمامه، فحصل للملك بذلك غاية السرور؛ لأنه ما رُزِق بولد ولا بنت في عمره، فأقاموا الأفراح والزينة مدة سبعة أيام، وهم في غاية السرور والهناء، وفي اليوم السابع حضرت أم الملكة جلناز، وأخوها وبنات عمها الجميع لما علموا أن جلناز قد وضعت. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 742﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن جلناز لما وضعت وجاء إليها أهلها، قابلهم الملك وفرح بقدومهم، وقال لهم: أنا قلت ما أسمِّي ولدي حتى تحضروا وتسموه أنتم بمعرفتكم. فسمَّوْه بدر باسم، واتفقوا جميعًا على هذا الاسم، ثم إنهم عرضوا الغلام على خاله صالح، فحمله على يديه، وقام به من بينهم، وتمشى في القصر يمينًا وشمالًا، ثم خرج به من القصر ونزل به البحر المالح، ومشى حتى خفي عن عين الملك، فلما رآه الملك أخذ ولده وغاب عنه في قاع البحر، يئس منه وصار يبكي وينتحب، فلما رأته جلناز على هذه الحالة، قالت له: يا ملك الزمان، لا تخف ولا تحزن على ولدك؛ فأنا أحبُّ ولدي أكثر منك، وإن ولدي مع أخي فلا تبالِ من البحر ولا تخشَ عليه من الغرق، ولو علم أخي أنه يحصل للصغير ضرر ما فعل الذي فعله، وفي هذه الساعة يأتيك بولدك سالمًا إن شاء الله تعالى. فلم يكن غير ساعة إلا والبحر قد اختبط واضطرب، وطلع منه خال الصغير، ومعه ابن الملك سالمًا، وطار من البحر إلى أن وصل إليهم والصغير على يديه وهو ساكت ووجهه كالقمر في ليلة تمامه.

ثم إن خال الصغير نظر إلى الملك، وقال له: لعلك خفت على ولدك ضررًا لمَّا نزلتُ به في البحر وهو معي؟ فقال: نعم يا سيدي خفت عليه، وما ظننت أنه يسلم منه قطُّ. فقال له: يا ملك البر، إنَّا كحَّلناه بكحلٍ نعرفه، وقرأنا عليه الأسماء المكتوبة على خاتم سليمان بن داود عليهما السلام، فإن المولود إذا وُلِد عندنا صنعنا به ما ذكرتُ لك، فلا تخَفْ عليه من الغرق، ولا الخنق، ولا من سائر البحار إذا نزل فيها، ومثلما تمشون أنتم في البر نمشي نحن في البحر. ثم أخرج من جيبه محفظة مختومة، ففضَّ ختامها ونثرها، فنزل منها جواهر منظومة من سائر أنواع اليواقيت والجواهر، وثلاثمائة قضيب من الزمرد، وثلاثمائة قصبة من الجواهر الكبار التي هي قدر بيض النعام، نورها أضوأ من نور الشمس والقمر، وقال: يا ملك الزمان، هذه الجواهر واليواقيت هدية مني إليك؛ لأننا ما أتيناك بهدية قطُّ؛ لأننا ما كنا نعلم موضع جلناز ولا نعرف لها أثرًا ولا خبرًا، فلما رأيناك اتصلت بها، وقد صرنا كلنا شيئًا واحدًا أتيناك بهذه الهدية، وبعد كل قليل من الأيام نأتيك بمثلها إن شاء الله تعالى؛ لأن هذه الجواهر واليواقيت عندنا أكثر من الحصى في البر، ونعرف جيدها ورديئها وجميع طرقها ومواضعها، وهي سهلة علينا. فلما نظر الملك إلى تلك الجواهر واليواقيت اندهش عقله، وحار لبه، وقال: والله إن جوهرة من هذه الجواهر تعادل ملكي. ثم إن الملك شكر فضل صالح البحري، ونظر إلى الملكة جلناز، وقال لها: أنا استحيت من أخيك؛ لأنه تفضَّل عليَّ وهاداني بهذه الهدية السنية التي يعزُّ عنها أهل الأرض. فشكرت جلناز أخاها على ما فعل، فقال أخوها: يا ملك الزمان، لك علينا حقٌّ قد سبق، وشكرك علينا قد وجب؛ لأنك قد أحسنت إلى أختي، ودخلنا منزلك، وأكلنا زادك، وقد قال الشاعر:

فَلَوْ قَبْلَ مَبْكَاهَا بَكَيْتُ صَبَابَةً        بِسَعْدِي شَفَيْتُ النَّفْسَ قَبْلَ التَّنَدُّمِ

وَلَكِنْ بَكَتْ قَبْلِي فَهَيَّجَ لِي الْبُكَا        بُكَاهَا فَقُلْتُ الْفَضْلُ لِلْمُتَقَدِّمِ

ثم قال صالح: ولو وقفنا في خدمتك يا ملك الزمان ألف سنة على وجوهنا، ما قدرنا أن نكافئك، وكان ذلك في حقك قليلٌ. فشكره الملك شكرًا بليغًا، وأقام صالح عند الملك هو وأمه وبنات عمه أربعين يومًا، ثم إن صالحًا أخا جلناز قام وقبَّلَ الأرض بين يدي الملك زوج أخته، فقال له: ما تريد يا صالح؟ فقال صالح: يا ملك الزمان، قد تفضَّلْتَ علينا والمراد من إحسانك أن تتصدق علينا وتعطينا إذنًا، فإننا قد اشتقنا إلى أهلنا وبلادنا وأقاربنا وأوطاننا، ونحن ما بقينا ننقطع عن خدمتك، ولا عن أختي ولا عن ابن أختي، فوالله يا ملك الزمان ما يطيب لقلبي فراقكم، ولكن كيف نعمل ونحن قد رُبِّينا في البحر، وما يطيب لنا البر؟ فلما سمع الملك كلامه نهض قائمًا على قدميه، وودَّعَ صالحًا البحري وأمه وبنات عمه، وتباكوا للفراق، ثم قالوا له: عن قريب نكون عندكم ولا نقطعكم أبدًا، وبعد كل قليل من الأيام نزوركم. ثم إنهم طاروا وقصدوا البحر حتى صاروا فيه وغابوا عن العين. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 743﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن أقارب جلناز البحرية لما ودَّعوا الملك وجلناز تباكوا من أجل فراقهم، ثم إنهم طاروا ونزلوا في البحر وغابوا عن العين، فأحسن الملك إلى جلناز وأكرمها إكرامًا زائدًا، ونشأ الصغير منشأ حسنًا، وكان خاله وجدته وخالته وبنات عم أمه بعد كل قليل من الأيام يأتون محل الملك، ويقيمون عنده الشهر والشهرين، ثم يرجعون إلى أماكنهم، ولم يزل الولد يزداد بزيادة السن حُسْنًا وجمالًا، إلى أن صار عمره خمسة عشر عامًا، وكان فريدًا في كماله وقدِّه واعتداله، وقد تعلَّمَ الخط والقراءة والأخبار والنحو واللغة والرمي بالنشاب، وتعلَّمَ اللعب بالرمح وتعلَّمَ الفروسية، وسائر ما يحتاج إليه أولاد الملوك، ولم يَبْقَ أحدٌ من أولاد أهل المدينة من الرجال والنساء إلا وله حديث بمحاسن ذلك الصبي؛ لأنه كان بارع الجمال والكمال، مُتَّصِفًا بمضمون قول الشاعر:

كَتَبَ الْعِذَارُ بِعَنْبَرٍ فِي لُؤْلُؤٍ        سَطْرَيْنِ مِنْ سَبَجٍ عَلَى تُفَّاحِ

الْقَتْلُ فِي الْحَدَقِ الْمِرَاضِ إِذَا رَنَتْ        وَالسُّكْرُ فِي الْوَجَنَاتِ لَا فِي الرَّاحِ

فكان الملك يحبه محبة عظيمة، ثم إن الملك أحضر الوزير والأمراء وأرباب الدولة وأكابر المملكة، وحلَّفهم الأيمان الوثيقة أنهم يجعلون بدر باسم ملكًا عليهم بعد أبيه، فحلفوا له الأيمان الوثيقة، وفرحوا بذلك. وكان الملك مُحْسِنًا في حق العالَم، وكان لطيف الكلام محضر خير لا يتكلَّم إلا بما فيه المصلحة للناس. ثم إن الملك ركب في ثاني يوم هو وأرباب الدولة، وسار الأمراء وجميع العساكر، مشوا في المدينة ورجعوا، فلما قاربوا القصر ترجل الملك في خدمة ولده، وصار هو وسائر الأمراء وأرباب الدولة يحملون الغاشية قدامه، فصار كل واحد من الأمراء وأرباب الدولة يحمل الغاشية ساعةً، فلم يزالوا سائرين إلى أن وصلوا إلى دهليز القصر وهو راكب ثم ترجَّلَ، فحضنه أبوه هو والأمراء وأجلسوه على سرير الملك، ووقف أبوه وكذلك الأمراء قدامه. ثم إن بدر باسم حكم بين الناس، وعزل الظالم وولَّى العادل، واستمر في الحكومة إلى قريب الظهر، ثم قام عن سرير الملك، ودخل على أمه جلناز البحرية وعلى رأسه التاج وهو كأنه القمر، فلما رأته أمه والملك بين يديه قامت إليه وقبَّلته وهنَّأته بالسلطنة ودعت له ولوالده بطول البقاء والنصر على الأعداء، فجلس عند والدته واستراح، ولما كان وقت العصر ركب والأمراء بين يديه حتى وصل إلى الميدان ولعب بالسلاح إلى وقت العشاء مع أبيه وأرباب دولته، ثم رجع إلى القصر والناس جميعهم بين يديه، وصار في كل يوم يركب إلى الميدان، وإذا رجع يقعد للحكومة بين الناس وينصف بين الأمير والفقير، ولم يزل كذلك مدة سنة كاملة، وبعد ذلك صار يركب للصيد والقنص ويدور في البلدان والأقاليم التي تحت حكمه، وينادي بالأمان والاطمئنان ويفعل ما تفعل الملوك، وكان أوحد أهل زمانه في العز والشجاعة والعدل بين الناس. فاتفق أن والد الملك بدر باسم مرض يومًا من الأيام، فخفق قلبه وأحسَّ بالانتقال إلى دار البقاء، ثم ازداد به المرض حتى أشرف على الموت، فأحضر ولده، ووصَّاه بالرعية، ووصَّاه بوالدته، وبسائر أرباب دولته، وبجميع الأتباع وحلَّفهم، وعاهَدَهم على طاعة ولده ثاني مرة، واستوثق منهم بالأيمان، ثم مكث بعد ذلك أيامًا قلائل وتُوفِّي إلى رحمة الله تعالى، فحزن عليه ولده بدر باسم وزوجته جلناز والأمراء والوزراء وأرباب الدولة، وعملوا له تربة ودفنوه فيها، ثم إنهم قعدوا في عزائه شهرًا كاملًا، وأتى صالح أخو جلناز وأمها وبنات عمها، وعزوهم في الملك، وقالوا: يا جلناز، إن كان الملك مات فقد خلَّفَ هذا الغلام الماهر، ومَن خلَّفَ مثله ما مات، وهذا هو العديم النظير الأسد الكاسر. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 744﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن أخا جلناز صالحًا وأمها وبنات عمها قالوا لها: إن كان الملك قد مات، فقد خلف هذا الغلام العديم النظير، الأسد الكاسر، والقمر الزاهر. ثم إن أرباب الدولة والأكابر دخلوا على الملك بدر باسم، وقالوا له: يا ملك، لا بأس بالحزن على الملك، ولكن الحزن لا يصلح إلا للنساء، فلا تشغل خواطرك وخاطرنا بالحزن على والدك، فإنه قد مات وخلفك، ومَن خلف مثلك ما مات. ثم إنهم لاطفوه وسلوه، وبعد ذلك أدخلوه الحمام، فلما خرج من الحمام لبس بدلة فاخرة منسوجة من الذهب مرصعة بالجواهر والياقوت، ووضع تاج الملك على رأسه وجلس على سرير ملكه، وقضى أشغال الناس وأنصف الضعيف من القوي، وأخذ للفقير حقه من الأمير، فأحبه الناس حبًّا شديدًا، ولم يزل كذلك مدة سنة كاملة، وبعد كل مدة قليلة تزوره أهله البحرية، فطاب عيشه وقرت عينه. ولم يزل على هذه الحالة مدة مديدة، فاتفق أن خاله دخل ليلة من الليالي على جلناز وسلم عليها، فقامت له واعتنقته وأجلسته إلى جانبها، وقالت له: يا أخي، كيف حالك وحال والدتي وبنات عمي؟ فقال لها: يا أختي، إنهم طيبون بخير وحظ عظيم، وما ينقص عليهم إلا النظر إلى وجهك. ثم إنها قدمت له شيئًا من الأكل فأكل، ودار الحديث بينهما، وذكروا الملك بدر باسم وحُسْنه وجماله، وقَدَّه واعتداله، وفروسيته وعقله وأدبه، وكان الملك بدر باسم متكئًا، فلما سمع أمه وخاله يذكرانه ويتحدثان في شأنه، أظهر أنه نائم وصار يسمع حديثهما، فقال صالح لأخته جلناز: إن عمر ولدك سبعة عشر عامًا، ولم يتزوَّج، ونخاف أن يجري له أمر ولم يكن له ولد، فأريد أن أزوِّجه بملكة من ملكات البحر تكون في حسنه وجماله. فقالت جلناز: اذكرهن لي فإني أعرفهن. فصار يعدهن لها واحدة بعد واحدة، وهي تقول: ما أرضى هذه لولدي ولا أزوجه إلا بمَن تكون مثله في الحُسْن والجمال والعقل والدين والأدب والمروءة والملك والحسب والنسب. فقال لها: ما بقيت أعرف واحدة من بنات الملوك البحرية، وقد عددت لك أكثر من مائة بنت وأنت ما يعجبك واحدة منهن، ولكن انظري يا أختي هل ابنك نائم أم لا؟ فجسته فوجدت عليه آثار النوم، فقالت له: إنه نائم، فما عندك من الحديث؟ وما قصدك بنومه؟ فقال لها: يا أختي، اعلمي أني قد تذكَّرت بنتًا من بنات البحر تصلح لابنك، وأخاف أن أذكرها فيكون ولدك منتبهًا فيتعلَّق قلبه بمحبتها، وربما لا يمكننا الوصول إليها، فيتعب هو ونحن وأرباب دولته، ويصير لنا شغل بذلك، وقد قال الشاعر:

الْعِشْقُ أَوَّلُ مَا يَكُونُ مَجَاجَةً        فَإِذَا تَحَكَّمَ صَارَ بَحْرًا وَاسِعَا

فلما سمعت أخته كلامه، قالت له: قل لي ما شأن هذه البنت؟ وما اسمها؟ فأنا أعرف بنات البحر من ملوك وغيرهم، فإذا رأيتها تصلح له خطبتها من أبيها، ولو أني أصرف جميع ما تملكه يدي عليها، فأخبرني بها، ولا تخشَ شيئًا فإن ولدي نائم. فقال: أخاف أن يكون يقظان، وقد قال الشاعر:

عَشِقْتُهُ عِنْدَمَا أَوْصَافُهُ ذُكِرَتْ        وَالْأُذْنُ تَعْشَقُ قَبْلَ الْعَيْنِ أَحْيَانَا

فقالت له جلناز: قل وأوجز ولا تخف يا أخي. فقال: والله يا أختي ما يصلح لابنك إلا الملكة جوهرة بنت الملك السمندل، وهي مثله في الحُسْن والجمال، والبهاء والكمال، ولا يوجد في البحر ولا في البر ألطف ولا أحلى شمائل منها؛ لأنها ذات حُسْن وجمال، وقَدٍّ واعتدال، وخَدٍّ أحمر وجبين أزهر، وشعر كأنه الجوهر، وطرف أحور، وردف ثقيل، وخصر نحيل، ووجه جميل، إن التفتت تخجل المها والغزلان، وإن خطرت يغار غصن البان، وإذا أسفرت تخجل الشمس والقمر وتسبي كلَّ مَن نظر، عذبة المراشف ليِّنة المعاطف. فلما سمعت كلام أخيها قالت له: صدقت يا أخي، والله إني رأيتها مرارًا عديدة، وكانت صاحبتي ونحن صغار، وليس لنا اليوم معرفة ببعضنا لموجب البُعْد، ولي اليوم ثمانية عشر عامًا ما رأيتها، والله ما يصلح لولدي إلا هي. فلما سمع بدر باسم كلامهما، وفهم ما قالاه من أوله إلى آخِره في وصف البنت التي ذكرها صالح، وهي جوهرة بنت الملك السمندل، عشقها بالسماع، وأظهر لهم أنه نائم، وصار في قلبه من أجلها لهيب النار، وغرق في بحرٍ لا يُدرَك له ساحل ولا قرار. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 745﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك بدر باسم لما سمع كلام خاله صالح وأمه جلناز في وصف بنت الملك السمندل، صار في قلبه من أجلها لهيب النار، وغرق في بحرٍ لا يُدرَك له ساحل ولا قرار. ثم إن صالحًا نظر إلى أخته جلناز وقال: والله يا أختي ما في ملوك البحر أحمق من أبيها، ولا أقوى سطوةً منه، فلا تُعْلِمي ولدك بحديث هذه الجارية حتى نخطبها له من أبيها، فإن أنعم بإجابتها حمدنا الله تعالى، وإنْ ردَّنا ولم يزوجها لابنك نستريح ونخطب غيرها. فلما سمعت جلناز كلام أخيها صالح، قالت: نِعْمَ الرأي الذي رأيته. ثم إنهما سكتا وباتا تلك الليلة والملك بدر باسم في قلبه لهيب النار من عشق الملكة جوهرة، وكتم حديثه، ولم يقل لأمه ولا لخاله شيئًا من خبرها، مع أنه صار من حبها على مقالي الجمر. فلما أصبحوا دخل الملك هو وخاله الحمام واغتسلا، ثم خرجا وشربا الشراب وقدموا بين أيديهم الطعام، فأكل الملك بدر باسم وأمه وخاله حتى اكتفوا، ثم غسلوا أيديهم، وبعد ذلك قام صالح على قدميه، وقال للملك بدر باسم وأمه جلناز: عن إذنكما، قد عزمت على الرواح إلى الوالدة، فإن لي عندكم مدة أيام، وخاطرهم مشغول عليَّ، وهم في انتظاري. فقال الملك بدر باسم لخاله صالح: اقعد عندنا هذا اليوم. فامتثل كلامه، ثم إنه قال: قم بنا يا خالي واخرج بنا إلى البستان، فذهبا إلى البستان وصارا يتفرجان ويتنزهان فجلس الملك بدر باسم تحت شجرة مظلة، وأراد أن يستريح وينام، فتذكر ما قاله خاله صالح من وصف الجارية، وما فيها من الحُسْن والجمال؛ فبكى بدموع غزار، وأنشد هذين البيتين:

لَوْ قِيلَ لِي وَلَهِيبُ النَّارِ مُتَّقِدٌ        وَالنَّارُ فِي الْقَلْبِ وَالْأَحْشَاءُ تَضْطَرِمُ

أَهُمْ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَنْ تُشَاهِدَهُمْ        أَمْ شُرْبَةٌ مِنْ زُلَالِ الْمَاءِ قُلْتُ هُمُ

ثم شكا وأنَّ وبكى، وأنشد هذين البيتين:

مَنْ مُجِيرِي مِنْ عِشْقِ ظَبْيَةِ أُنْسٍ        ذَاتِ وَجْهٍ كَالشَّمْسِ بَلْ هُوَ أَجْمَلْ

كَانَ قَلْبِي مِنْ حُبِّهَا مُسْتَرِيحًا        فَتَلَظَّى بِحُبِّ بِنْتِ السَّمَنْدَلْ

فلما سمع خاله صالح مقاله، دق يدًا على يد وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ثم قال له: هل سمعت يا ولدي ما تكلمت به أنا وأمك من حديث الملكة جوهرة وذِكْرنا لأوصافها؟ فقال بدر باسم: نعم يا خالي، وعشقتها على السماع حين سمعت ما قلتم من الكلام، وقد تعلَّقَ قلبي بها وليس لي صبر عنها. فقال له: يا ملك، دعنا نرجع إلى أمك ونعلمها بالقضية، واستأذنها في أني آخذك معي وأخطب لك الملكة جوهرة، ثم نودِّعها وأرجع أنا وأنت؛ لأني أخاف إن أخذتك وسرت من غير إذنها أن تغضب عليَّ ويكون الحق معها؛ لأني أكون السبب في فراقكما كما أني كنت السبب في افتراقها منَّا، وتبقى المدينة بلا ملك، وليس عندهم مَن يسوسهم وينظر أحوالهم، فيفسد عليك أمر المملكة، ويخرج المُلْك من يدك. فلما سمع بدر باسم كلام خاله صالح قال له: اعلم يا خالي أني متى رجعت إلى أمي وشاورتها في ذلك لم تمكني من ذلك، فلا أرجع إليها ولا أشاورها أبدًا. وبكى قدام خاله وقال له: أروح معك ولا أعلمها ثم أرجع. فلما سمع صالح كلام ابن أخته حار في أمره، وقال: استعنتُ بالله تعالى على كل حال. ثم إن خاله صالحًا لما رأى ابن أخته على هذه الحالة، وعلم أنه لا يحب أن يرجع إلى أمه، بل يروح معه؛ أخرج من إصبعه خاتمًا منقوشًا عليه أسماء من أسماء الله تعالى، وناوَلَ الملك بدر باسم إياه، وقال له: اجعل هذا في إصبعك تأمن من الغرق ومن غيره، ومن شر دواب البحر وحيتانه. فأخذ الملك بدر باسم الخاتمَ من خاله صالح وجعله في إصبعه، ثم إنهما غطسا في البحر. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 746﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك بدر باسم وخاله صالحًا لما غطسا في البحر سارا، ولم يزالا سائرين حتى وصلا إلى قصر صالح فدخلاه، فرأته جدته أم أمه وهي قاعدة، وعندها أقاربها، فلما دخلا عليهم قبَّلَا أيديهم، فلما رأته جدته قامت إليه واعتنقته وقبَّلت ما بين عينيه، وقالت له: قدوم مبارك يا ولدي، كيف خلفت أمك جلناز؟ قال لها: طيبة بخير وعافية، وهي تسلم عليك وعلى بنات عمها. ثم إن صالحًا أخبر أمه بما وقع بينه وبين أخته جلناز، وأن الملك بدر باسم عشق الملكة جوهرة بنت الملك السمندل على السماع، وقص لها القصة من أولها إلى آخرها، وقال: أنه ما أتى إلا ليخطبها من أبيها ويتزوجها. فلما سمعت جدة الملك بدر باسم كلام صالح اغتاظت عليه غيظًا شديدًا، وانزعجت واغتمت، وقالت له: يا ولدي، لقد أخطأت بذِكْر الملكة جوهرة بنت الملك السمندل قدام ابن أختك؛ لأنك تعلم أن الملك السمندل أحمق جبَّار قليل العقل، شديد السطوة، بخيل بابنته جوهرة على خطابها، فإن سائر ملوك البحر خطبوها منه، فأَبَى ولم يَرْضَ بأحد منهم، بل ردهم وقال لهم: ما أنتم أكفاء لها في الحُسْن ولا في الجمال ولا في غيرهما. ونخاف أن نخطبها من أبيها، فيردنا كما ردَّ غيرنا، ونحن أصحاب مروءة فنرجع مكسورين الخاطر. فلما سمع صالح كلام أمه قال لها: يا أمي، كيف يكون العمل؟ فإن الملك بدر باسم قد عشق هذه البنت لما ذكرتها لأختي جلناز، وقال: لا بد أن نخطبها من أبيها ولو أبذل جميع ملكي، وزعم أنه إن لم يتزوج بها يموت فيها عشقًا وغرامًا.

ثم إن صالحًا قال لأمه: اعلمي أن ابن أختي أحسن وأجمل منها، وأن أباه كان ملك العجم بأسرهم وهو الآن ملكهم، ولا تصلح جوهرة إلا له، وقد عزمت على أني آخذ جواهر من يواقيت وغيرها وأحمل هدية تصلح له، وأخطبها منه، فإن احتجَّ علينا بأنه ملك فهو أيضًا ملك ابن ملك، وإن احتجَّ علينا بالجمال فهو أجمل منها، وإن احتجَّ علينا بسعة المملكة فهو أوسع مملكةً منها ومن أبيها، وأكثر أجنادًا وأعوانًا، فإن ملكه أكبر من ملك أبيها، ولا بد أن أسعى في قضاء حاجة ابن أختي، ولو أن روحي تذهب؛ لأني كنت سبب هذه القضية، ومثلما رميته في بحار عشقها، أسعى في زواجه بها، والله تعالى يساعدني على ذلك. فقالت له أمه: افعل ما تريد، وإياك أن تغلظ عليه الكلام إذا كلَّمْتَه، فإنك تعرف حماقته وسطوته، وأخاف أن يبطش بك؛ لأنه لا يعرف قدرَ أحد. فقال لها: السمع والطاعة. ثم إنه نهض وأخذ معه جرابين ملآنين من الجواهر واليواقيت، وقضبان الزمرد، ونفائس المعادن من سائر الأحجار، وحمَّلهما لغلمانه، وسار بهم هو وابن أخته إلى قصر الملك السمندل، واستأذن في الدخول عليه، فأذن له؛ فلما دخل قبَّل الأرض بين يديه وسلم بأحسن سلام، فلما رآه الملك السمندل قام إليه وأكرمه غاية الإكرام، وأمره بالجلوس فجلس، فلما استقر به الجلوس، قال له الملك: قدوم مبارك، أوحشتنا يا صالح، ما حاجتك حتى إنك أتيتَ إلينا؟ فأخبرني بحاجتك حتى أقضيها لك. فقام وقبَّلَ الأرض ثاني مرة، وقال: يا ملك الزمان، حاجتي إلى الله وإلى الملك الهمام، والأسد الضرغام الذي بمحاسن ذكره سارت الركبان، وشاع خبره في الأقاليم والبلدان بالجود والإحسان، والعفو والصفح والامتنان. ثم إنه فتح الجرابين، وأخرج منهما الجواهر وغيرها، ونثرها قدام الملك السمندل، وقال له: يا ملك الزمان، عساك تقبل هديتي، وتتفضَّل عليَّ وتجبر قلبي بقبولها مني. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 747﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن صالحًا لما قدَّم الهدية إلى الملك السمندل، وقال له: القصد من الملك أن يتفضل عليَّ، ويجبر قلبي بقبولها مني. قال له الملك السمندل: لأي سبب أهديتَ لي هذه الهدية؟ قل لي قصتك وأخبرني بحاجتك، فإن كنتُ قادرًا على قضائها قضيتها لك في هذه الساعة ولا أحوجك إلى تعب، وإن كنتُ عاجزًا عن قضائها فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها. فقام وقبَّلَ الأرض ثلاث مرات، وقال: يا ملك الزمان، إن حاجتي أنت قادر على قضائها، وهي تحت حوزك وأنت مالكها، ولم أكلف الملك مشقة، ولم أكن مجنونًا حتى أخاطب الملك في شيء لا يقدر عليه، فبعض الحكماء قال: إذا أردتَ أن تُطاع فسَلْ عمَّا يُستطاع. فأما حاجتي التي جئتُ في طلبها، فإن الملك حفظه الله قادر عليها. فقال له الملك: اسأل حاجتك، واشرح قضيتك واطلب مرادك. فقال له: يا ملك الزمان، اعلم أني قد أتيتُكَ خاطبًا راغبًا في الدرة اليتيمة، والجوهرة المكنونة، الملكة جوهرة بنت مولانا، فلا تخيِّب أيها الملك قاصدك. فلما سمع الملك كلامه، ضحك حتى استلقى على قفاه استهزاءً به، وقال: يا صالح، كنت أحسبك رجلًا عاقلًا وشابًّا فاضلًا لا تسعى إلا بسداد، ولا تنطق إلا برشاد، وما الذي أصاب عقلك ودعاك إلى هذا الأمر العظيم، والخطر الجسيم، حتى إنك تخطب بنات الملوك أصحاب البلدان والأقاليم؟ وهل بلغ من قدرك أنك انتهيت إلى هذه الدرجة العالية؟ وهل نقص عقلك إلى هذه الغاية حتى تواجهني بهذا الكلام؟ فقال صالح: أصلح الله الملك، إني لم أخطبها لنفسي، ولو خطبتها لنفسي كنت كفؤًا لها، بل أكثر؛ لأنك تعلم أن أبي ملك من ملوك البحر، وإن كنتَ اليومَ ملكنا، ولكن أنا ما خطبتها إلا للملك بدر باسم صاحب أقاليم العجم، وأبوه الملك شهرمان، وأنت تعرف سطوته، وإن زعمت أنك ملك عظيم فالملك بدر باسم ملك أعظم، وإن ادَّعَيْتَ أن ابنتك جميلة فالملك بدر باسم أجمل منها، وأحسن صورةً وأفضل حسبًا ونسبًا، فإنه فارس زمانه، فإن أجبتَ إلى ما سألتُكَ تكن يا ملك الزمان قد وضعتَ الشيء في محله، وإن تعاظمْتَ علينا فإنك ما أنصفتنا، ولا سلكت بنا الطريق المستقيم، وأنت تعلم أيها الملك أن هذه الملكة جوهرة بنت مولانا الملك لا بد لها من الزواج، فإن الحكيم يقول: لا بد للبنت من الزواج أو القبر. فإن كنت عزمت على زواجها، فإن ابن أختي أحق بها من سائر الناس.

فلما سمع الملك كلام صالح، اغتاظ غيظًا شديدًا، وكاد عقله أن يذهب، وكادت روحه أن تخرج من جسده، وقال له: يا كلب الرجال، وهل مثلك يخاطبني بهذا الكلام، وتذكر ابنتي في المجالس وتقول: إن ابن أختك جلناز كفء لها، فمَن هو أنت؟ ومَن هي أختك؟ ومَن هو ابنها؟ ومَن هو أبوه؟ حتى تقول لي هذا الكلام وتخاطبني بهذا الخطاب، فهل أنتم بالنسبة إلينا إلا كلاب؟ ثم صاح على غلمانه، وقال: يا غلمان، خذوا رأس هذا العلق. فأخذوا السيوف وجرَّدوها، وطلبوه فولَّى هاربًا، ولِبَابِ القصر طالبًا، فلما وصل إلى باب القصر رأى أولاد عمه وقرابته وعشيرته وغلمانه، وكانوا أكثر من ألف فارس غارقين في الحديد، والزرد النضيد، وبأيديهم الرماح، وبيض الصفاح، فلما رأوا صالحًا على تلك الحالة، قالوا له: ما الخبر؟ فحدَّثهم بحديثه، وكانت أمه قد أرسلتهم إلى نصرته، فلما سمعوا كلامه علموا أن الملك أحمق شديد السطوة، فترجلوا عن خيولهم، وجرَّدوا سيوفهم، ودخلوا على الملك السمندل، فرأوه جالسًا على كرسي مملكته غافلًا عن هؤلاء، وهو شديد الغيظ على صالح، ورأوا خدامه وغلمانه وأعوانه غير مستعدين، فلما رآهم وبأيديهم السيوف مجرَّدة صاح على قومه، وقال: يا ويلكم، خذوا رءوس هؤلاء الكلاب، فلم تكن غير ساعة حتى انهزم قوم الملك السمندل، وركنوا إلى الفرار، وكان صالح وأقاربه قد قبضوا على الملك السمندل وكتَّفوه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 748﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن صالحًا وأقاربه كتفوا الملك السمندل، ثم إن جوهرة لما انتبهت علمت أن أباها قد أُسِر، وأن أعوانه قد قُتِلوا، فخرجت من القصر هاربةً إلى بعض الجزائر، ثم إنها قصدت شجرة عالية واختفت فوقها، ولما اقتتلت هاتان الطائفتان فرَّ بعض غلمان الملك السمندل هاربين، فرآهم بدر باسم فسألهم عن حالهم، فأخبروه بما وقع. فلما سمع أن الملك السمندل قُبِض عليه، ولَّى هاربًا وخاف على نفسه، وقال في قلبه: إن هذه الفتنة كانت من أجلي، وما المطلوب إلا أنا. فولَّى هاربًا، وللنجاة طالبًا، وصار لا يدري أين يتوجه، فساقته المقادير إلى تلك الجزيرة التي فيها جوهرة بنت الملك السمندل، فأتى عند الشجرة وانطرح مثل القتيل، وأراد الراحة بانطراحه ولا يعلم أن كل مطلوب لم يسترح، ولا يعلم أحد ما خفي له في الغيب من التقادير، فلما رفع بصره نحو الشجرة، وقعت عينه في عين جوهرة، فنظر إليها فرآها كأنها القمر إذا أشرق، فقال: سبحان خالق هذه الصورة البديعة، وهو خالق كل شيء وهو على كل شيء قدير، سبحان الله العظيم الخالق البارئ المصور، والله إن صدقني حذري تكون هذه جوهرة بنت الملك السمندل، وأظنها لما سمعت بوقوع الحرب بينهما هربت، وأتت إلى هذه الجزيرة، واختفت فوق هذه الشجرة، وإن لم تكن هذه الملكة جوهرة فهذه أحسن منها. ثم إنه صار متفكرًا في أمرها وقال في نفسه: أقوم أمسكها وأسألها عن حالها، فإن كانت هي فإني أخطبها من نفسها، وهذا هو بغيتي. فانتصب قائمًا على قدميه، وقال لجوهرة: يا غاية المطلوب، مَن أنت؟ ومَن أتى بك إلى هذا المكان؟ فنظرت جوهرة إلى بدر باسم، فرأته كأنه البدر إذا ظهر من تحت الغمام الأسود، وهو رشيق القوام مليح الابتسام، فقالت له: يا مليح الشمائل، أنا الملكة جوهرة بنت الملك السمندل، وقد هربت في هذا المكان؛ لأن صالحًا وجنده تقاتلوا مع أبي وقتلوا جنده وأسروه هو وبعض جنده، فهربت أنا خوفًا على نفسي. ثم إن الملكة جوهرة قالت للملك بدر باسم: وأنا ما أتيت إلى هذا المكان إلا هاربة خوفًا من القتل، ولم أدرِ ما فعل الزمان بأبي.

فلما سمع الملك بدر باسم كلامها، تعجب غاية العجب من هذا الاتفاق الغريب، وقال: لا شك أني نلت غرضي بأسر أبيها. ثم إنه نظر إليها وقال لها: انزلي يا سيدتي، فإني قتيل هواكِ وأسرتني عيناكِ، وعلى شأني وشأنك كانت هذه الفتنة وهذه الحروب، واعلمي أني أنا الملك بدر باسم ملك العجم، وأن صالحًا هو خالي، وهو الذي أتى إلى أبيك وخطبك منه، وأنا قد تركت ملكي لأجلك، واجتماعنا في هذا الوقت من عجائب الاتفاق، فقومي وانزلي عندي حتى أروح أنا وأنت إلى قصر أبيك وأسأل خالي صالحًا في إطلاقه، وأتزوَّج بك في الحلال. فلما سمعت جوهرة كلام بدر باسم، قالت في نفسها: على شأن هذا العلق اللئيم، كانت هذه القضية وأَسْر أبي، وقتل حجَّابه وحشمه، وتشتت أنا عن قصري، وخرجت مسبية إلى تلك الجزيرة؟ فإن لم أعمل معه حيلة أتحصَّن بها منه تمكَّنَ مني ونال غرضه؛ لأنه عاشق والعاشق مهما كان فِعْله لا يُلام عليه فيه. ثم إنها خادعته بالكلام ولين الخطاب، وهو لا يدري ما أضمرته له من المكائد، وقالت له: يا سيدي ونور عيني، هل أنت الملك بدر باسم ابن الملكة جلناز؟ فقال لها: نعم يا سيدتي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 749﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن جوهرة بنت الملك السمندل قالت للملك بدر باسم: هل أنت يا سيدي الملك بدر باسم ابن الملكة جلناز؟ قال لها: نعم يا سيدتي. فقالت: قطع الله أبي وأزال ملكه عنه، ولا جبر له قلبًا، ولا ردَّ له غربة إن كان يريد أحسن منك وأحسن من هذه الشمائل الظريفة، والله إنه قليل العقل والتدبير. ثم قالت له: يا ملك الزمان، لا تؤاخذ أبي بما فعل، وإن كنت أحببتني شبرًا، فأنا أحببتك ذراعًا، وقد وقعتُ في شَرَك هواكَ، وصرتُ من جملة قتلاك، وقد انتقلت المحبة التي كانت عندك وصارت عندي، وما بقي عندك منها إلا معشار ما عندي. ثم إنها نزلت من فوق الشجرة وقربت منه وأتت إليه واعتنقته وضمته إلى صدرها وصارت تُقبِّله، فلما رأى الملك بدر باسم فعلها ازدادت محبته لها، واشتدَّ غرامه بها، وظنَّ أنها عشقته، ووثق بها وصار يضمها ويُقبِّلها، ثم إنه قال لها: يا ملكة، والله لم يصف لي خالي صالح ربع معشار ما أنت عليه من الجمال، ولا ربع قيراط من أربعة وعشرين قيراطًا. ثم إن جوهرة ضمته إلى صدرها وتكلمت بكلام لا يُفهَم، وتفلت في وجهه، وقالت له: اخرج من هذه الصورة البشرية إلى صورة طائر أحسن الطيور، أبيض الريش، أحمر المنقار والرجلين. فما تمَّ كلامها حتى انقلب الملك بدر باسم إلى صورة طائر أحسن ما يكون من الطيور، وانتفض ووقف على رجليه، وصار ينظر إلى جوهرة، وكان عندها جارية من جواريها تُسمَّى مرسينة، فنظرت إليها وقالت: والله لولا أخاف من كون أبي أسيرًا عند خاله لقتلته، فلا جزاه الله خيرًا، فما أشأم قدومه علينا، فهذه الفتنة كلها من تحت رأسه، ولكن يا جارية خذيه واذهبي به إلى الجزيرة المعطشة، واتركيه هناك حتى يموت عطشانًا. فأخذته الجارية وأوصلته إلى الجزيرة وأرادت الرجوع من عنده، ثم قالت في نفسها: والله إن صاحب هذا الحُسْن والجمال لا يستحق أن يموت عطشانًا. ثم إنها أخرجته من الجزيرة المعطشة، وأتت به إلى جزيرة كثيرة الأشجار والأثمار والأنهار، فوضعته فيها ورجعت إلى سيدتها، وقالت لها: قد وضعته في الجزيرة المعطشة.

هذا ما كان من أمر بدر باسم، وأما ما كان من أمر صالح خال الملك بدر باسم، فإنه لما احتوى على الملك السمندل وقتل أعوانه وخدمه وصار تحت أسره، قد طلب جوهرة بنت الملك فلم يجدها، فرجع إلى قصره عند أمه وقال: يا أمي، أين ابن أختي الملك بدر باسم؟ فقالت: يا ولدي، والله ما لي به علم ولا أعرف أين ذهب، فإنه لما بلغه أنك تقاتلت مع الملك السمندل، وجَرَتْ بينكم الحروب والقتال، فزع وهرب. فلما سمع صالح كلام أمه حزن على ابن أخته وقال: يا أمي، والله إننا قد فرطنا في الملك بدر باسم، وأخاف أن يهلك أو يقع به أحد من جنود الملك السمندل، أو تقع به ابنة الملك جوهرة، فيحصل لنا من أمه خجل، ولا يحصل لنا منها خير؛ لأني قد أخذته بغير إذنها. ثم إنه بعث خلفه الأعوان والجواسيس إلى جهة البحر وغيره، فلم يقفوا له على خبر، فرجعوا أعلموا الملك صالحًا بذلك فزاد همه وغمه، وقد ضاق صدره على الملك بدر باسم.

هذا ما كان من أمر الملك بدر باسم وخاله صالح، وأما ما كان من أمر أمه جلناز البحرية، فإنها لما نزل ابنها بدر باسم مع خاله صالح انتظرته فلم يرجع إليها، وأبطأ خبره عنها، فقعدت أيامًا عديدة في انتظاره، ثم إنها قامت ونزلت في البحر وأتت أمها، فلما نظرتها أمها قامت إليها وقبَّلتها واعتنقتها، وكذلك بنات عمها، ثم إنها سألت أمها عن الملك بدر باسم، فقالت لها: يا بنتي، قد أتى هو وخاله، ثم إن خاله قد أخذ يواقيت وجواهر وتوجه بها هو وإياه إلى الملك السمندل وخطب ابنته، فلم يُجِبْه وشدَّدَ على أخيك في الكلام، فأرسلتُ إلى أخيك نحو ألف فارس، ووقعت الحرب بينهم وبين الملك السمندل، فنصر الله أخاك عليه، وقتل أعوانه وجنوده، وأسر الملك السمندل، فبلغ ذلك الخبر ولدك، فكأنه خاف على نفسه فهرب من عندنا بغير اختيارنا، ولم يَعُدْ إلينا بعد ذلك ولم نسمع له خبرًا. ثم أن جلناز سألتها عن أخيها صالح، فأخبرتها أنه جالس على كرسي المملكة في محل الملك السمندل، وقد أرسل إلى جميع الجهات بالتفتيش على ولدك، وعلى المملكة جوهرة. فلما سمعت جلناز كلام أمها، حزنت على ولدها حزنًا شديدًا، واشتدَّ غضبها على أخيها صالح لكونه أخذ ولدها، ونزل به البحر من غير إذنها. ثم إنها قالت: يا أمي، إني خائفة على الملك الذي لنا؛ لأني أتيتكم، وما أعلمتُ أحدًا من أهل المملكة، وأخشى إن أبطأتُ عليهم أن يفسد المُلْك علينا، وتخرج المملكة من أيدينا، والرأي السديد أني أرجع وأسوس المملكة إلى أن يدبر الله لنا أمرَ ولدي، ولا تنسوا ولدي ولا تتهاونوا في أمره، فإنه إن حصل له ضرر هلكتُ لا محالة؛ لأني لا أرى الدنيا إلا به، ولا ألتذُّ إلا بحياته. فقالت: حبًّا وكرامة يا بنتي، لا تسألي على ما عندنا من فراقه وغيبته. ثم إن أمها أرسلت مَن يفتش عليه، ورجعت أمه حزينة القلب باكية العين إلى المملكة، وقد ضاقت بها الدنيا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 750﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملكة جلناز لما رجعت من عند أمها إلى مملكتها، قد ضاق صدرها، واشتد أمرها. هذا ما كان من أمرها، وأما ما كان من أمر الملك بدر باسم، فإنه لما سحرته الملكة جوهرة وأرسلته مع جاريتها إلى الجزيرة المعطشة، وقالت لها: دعيه فيها يموت عطشانًا، لم تضعه الجارية إلا في جزيرة خضراء مثمرة ذات أشجار وأنهار، فصار يأكل من الثمار ويشرب من الأنهار، ولم يزل كذلك مدة أيام وليالٍ، وهو في صورة طائر لا يعرف أين يتوجه، ولا كيف يطير. فبينما هو ذات يوم من الأيام في تلك الجزيرة إذ أتى هناك صياد من الصيادين ليصطاد شيئًا يتقوَّت به، فرأى الملك بدر باسم وهو في صورة طائر أبيض الريش، أحمر المنقار والرجلين، يسبي الناظر ويدهش الخاطر، فنظر إليه الصياد فأعجبه وقال في نفسه: إن هذا الطائر مليح، وما رأيت طيرًا مثله في حُسْنه ولا في شكله. ثم إنه رمى الشبكة عليه واصطاده، ودخل به المدينة وقال في نفسه: إني أبيعه وآخذ ثمنه. فقابله واحد من أهل المدينة وقال له: بكم هذا الطائر يا صياد؟ فقال له الصياد: إذا اشتريته فماذا تعمل به؟ قال: أذبحه وآكله. فقال له الصياد: مَن يطيب قلبه أن يذبح هذا الطائر ويأكله؟ إني أريد أن أهديه إلى الملك فيعطيني أكثر من المقادر الذي تعطينيه أنت في ثمنه، ولا يذبحه بل يتفرج عليه وعلى حُسْنه وجماله؛ لأني في طول عمري وأنا صياد ما رأيت مثل في صيد البحر ولا في صيد البر، وأنت إنْ رغبت فيه فما نهاية ما تعطيني في ثمنه؟ درهمًا! وأنا والله العظيم لا أبيعه.

ثم إن الصياد ذهب به إلى دار الملك، فلما رآه الملك أعجبه حسنه وجماله وحمرة منقاره ورجليه، فأرسل إليه خادمًا ليشتريه منه، فأتى الخادم إلى الصياد، وقال له: أتبيع هذا الطائر؟ قال: لا، بل هو للملك هدية مني إليه. فأخذه الخادم وتوجه به إلى الملك، وأخبره بما قاله؛ فأخذه الملك، وأعطى الصياد عشرة دنانير، فأخذها وقبَّلَ الأرض وانصرف، وأتى الخادم بالطائر إلى قصر الملك، ووضعه في قفص مليح وعلَّقه وحطَّ عنده ما يأكل وما يشرب، فلما نزل الملك قال للخادم: أين الطائر؟ أَحْضِرْه حتى أنظره، والله إنه مليح. فأتى به الخادم ووضعه بين يدي الملك، وقد رأى الأكل عنده لم يأكل منه شيئًا، فقال الملك: والله لا أدري ما يأكل حتى أطعمه. ثم أمر بإحضار الطعام فأحضرت الموائد بين يديه، فأكل الملك من ذلك، فلما نظر الطير إلى اللحم والطعام والحلويات والفواكه أكل من جميع ما في السماط الذي قدام الملك، فبُهِت له الملك، وتعجَّبَ من أكله، وكذلك الحاضرون. ثم قال الملك لمَن حوله من الخدام والمماليك: عمري ما رأيت طيرًا يأكل مثل هذا الطير. ثم أمر الملك أن تحضر زوجته لتتفرج عليه، فمضى الخادم ليحضرها، فلما رآها قال لها: يا سيدتي، إن الملك يطلبك لأجل أن تتفرجي على هذا الطير الذي اشتراه، فإننا لما حضرنا بالطعام طار من القفص، وسقط على المائدة، وأكل من جميع ما فيها، فقومي يا سيدتي تفرجي عليه، فإنه مليح النظر، وهو أعجوبة من أعاجيب الزمان. فلما سمعت كلام الخادم أتت بسرعة، فلما نظرت إلى الطير وتحقَّقَتْه غطَّتْ وجهها، وولَّتْ راجعةً، فقام الملك وراءها وقال لها: لأي شيء غطَّيْتِ وجهك، وما عندك غير الجواري والخدام التي في خدمتك وزوجك؟ فقالت له: أيها الملك، إن هذا الطير ليس بطائر، وإنما هو رجل مثلك. فلما سمع الملك كلام زوجته قال لها: تكذبين، ما أكثر ما تمزحين! كيف يكون غير طائر؟ فقالت له: والله ما مزحت معك، وما قلتُ لك إلا حقًّا، إن هذا الطير هو الملك بدر باسم ابن الملك شهرمان صاحب بلاد العجم، وأمه جلناز البحرية. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

 

 

 

السابق                                                                     التــــالي←

 

 

Read our comment Policy to know your rights & responsibilities before actually leaving a comment for this article.

Post a Comment (0)