kurd-partuk

الليالي من--(651 ← 700)

﴿اللیلة 651﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الماردين لما خطفا غريبًا وسهيمًا جاءَا بهما إلى مرعش ملك الجن، ولما وضعاهما قدام مرعش وجداه جالسًا على كرسي مملكته، وهو كالجبل العظيم وعلى جثته أربع رءوس: رأس سبع، ورأس فيل، ورأس نمر، ورأس فهد. فقدَّمَا غريبًا وسهيمًا قدام مرعش وقالَا: يا ملك، هذان اللذان وجدناهما في وادي العيون. فنظر إليها بعين الغضب وقد شخر ونخر وطار من أنفه الشرر، وقد خاف منه كلُّ مَن حضر. وقال: يا كلاب الإنس، قتلتما ولدي وأوقدتما النار في كبدي. فقال غريب: ومَن هو ولدك الذي قتلناه؟ ومَن هو الذي نظر ولدك؟ فقال: أَمَا كنتما أنتما في وادي العيون، ونظرتما ولدي في صفة طير ورميتماه بعود نشاب فمات؟ فقال غريب: أنا لا أدري مَن قتله وحقِّ الرب العظيم الواحد القديم، الذي هو بكل شيء عليم، وحقِّ الخليل إبراهيم ما رأينا طيرًا، ولا قتلنا وحشًا ولا طيرًا. فلما سمع مرعش كلام غريب حين حلف بالله وعظمته ونبيه الخليل إبراهيم، علم أنه مسلم، وكان مرعش يعبد النار دون الملك الجبَّار، فصاح على قومه وقال: ائتوني بربتي. فأتوه بتنور من ذهب، فوضعوه بين يديه وأشعلوه بالنار ورموا عليه العقاقير، فطلع له لهيب أخضر ولهيب أزرق ولهيب أصفر، فسجد له الملك والحاضرون. كلُّ هذا وغريب وسهيم يوحِّدان الله تعالى ويكبِّرانه، ويشهدان أن الله على كل شيء قدير. فرفع الملك رأسه، فرأى غريبًا وسهيمًا واقفين لا يسجدان، فقال: يا كلبان، ما لكما لا تسجدان؟ فقال غريب: ويلكم يا ملاعين، إن السجود لا يكون إلا للملك المعبود، مبرز الموجود من العدم إلى الوجود، ومنبع الماء من الحجر الجلمود، الذي حنَّنَ الولد على المولود، ولا يُوصَف بقيام ولا قعود، ربِّ نوح وصالح وإبراهيم الخليل، وهو الذي خلق الجنة والنار، وخلق الأشجار والأثمار؛ فهو الله الواحد القهار.

فلما سمع مرعش هذا الكلام انقلبت عيناه في أم رأسه، وصاح على قومه وقال: كتِّفوا هذين الكلبين وقرِّبوهما لربتي. فكتَّفوا سهيمًا وغريبًا وأرادوا أن يرموهما في النار، وإذا بشرافة من شراريف القصر وقعت على التنور فانكسر وانطفأت النار، وصارت رمادًا طائرًا في الهواء، فقال غريب: الله أكبر، فتح ونصر وخذل مَن كفر، الله أكبر على مَن يعبد النار دون الملك الجبَّار. فعندها قال الملك: إنك ساحر وسحرت ربتي حتى جرى لها هذا الحال. فقال غريب: يا مجنون، لو كان للنار سر وبرهان، كانت منعت عن نفسها ما ضرَّها. فلما سمع مرعش هذا الكلام هدر وزمجر وسب النار، وقال: وحقِّ ديني ما أقتلكم إلا فيها. وأمر بحبسهما ودعا بمائة مارد وأمرهم أن يحملوا الحطب كثيرًا وأن يطلقوا فيه النار، ففعلوا والتهبت نار عظيمة، ولم تزل مشتعلة إلى الصباح. ثم ركب مرعش على فيل في تخت من ذهب مرصَّع بالجواهر، وصارت حوله قبائل الجن وهم أصناف مختلفة، ثم أحضروا غريبًا وسهيمًا، فلما رأيَا لهيب النار استغاثَا بالواحد القهَّار، خالق الليل والنهار، العظيم الشأن الذي لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير، ولم يزالا يتوسلان وإذا بسحابة طلعت من الغرب إلى الشرق، وأمطرت مثل البحر الزاخر فأطفأت النار؛ فخاف الملك والجند ودخلوا في قصرها، ثم التفت الملك إلى الوزير وأرباب الدولة وقال لهم: ما تقولون في هذين الرجلين؟ فقالوا: يا ملك، لولا أنهما على الحق ما جرى للنار هذه الفعال، ونحن نقول إنهما على الحق صادقان. قال الملك: قد بان لي الحق والطريقة الواضحة، فعبادة النار باطلة، فلو كانت ربةً لمنعَتْ عن نفسها المطر الذي أطفأها، والحجر الذي كسر تنورها وقد صارت رمادًا، فأنا آمنتُ بالذي خلق النار والنور والظل والحرور، وأنتم ما تقولون؟ فقالوا: يا ملك، ونحن كذلك تابعون سامعون طائعون. ثم دعا بغريب فأحضره بين يديه، فقام له واعتنقه وقبَّلَه بين عينَيْه وقبَّلَ سهيمًا مثل ذلك، ثم إن الأجناد تزاحموا على غريب وسهيم يقبِّلون أيديهما ورأسهما. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 652﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن مرعشًا ملك الجن لما اهتدى هو وقومه للإسلام، أحضر غريبًا وأخاه وقبَّلهما بين أعينهما، وكذلك أرباب دولته ازدحموا على تقبيل أيديهما ورأسهما. ثم إن الملك مرعشًا جلس على كرسي مملكته، وأجلس غريبًا عن يمينه وسهيمًا عن يساره وقال: يا إنسي، ما نقول حتى نصير مسلمين؟ فقال غريب: قولوا لا إله إلا الله، إبراهيم خليل الله. فأسلم الملك وقومه قلبًا ولسانًا، وقعد غريب يعلِّمهم الصلاة. ثم إن غريبًا تذكَّرَ قومه فتنهَّدَ، فقال له ملك الجن: قد ذهب الغم وراح، وجاء البسط والانشراح. فقال له غريب: يا ملك، إن لي أعداء كثيرة، وأنا خائف على قومي منهم. وحكى له ما جرى له مع أخيه عجيب من أوله إلى آخره. فقال له ملك الجن: يا ملك الإنس، أنا أبعث لك مَن يكشف خبر قومك، وما أخليك تروح حتى أتملَّى بوجهك. ثم دعا بماردين شديدين، أحدهما اسمه الكيلجان، والآخر اسمه القورجان، فلما حضر الماردان قبَّلَا الأرض، فقال لهما: سيرَا إلى اليمن واكشفا خبر جنودهما وعساكرهما. فقالَا: سمعًا وطاعةً. ثم سار الماردان وطارَا نحو اليمن.

هذا ما جرى لغريب وسهيم، وأما عسكر المسلمين فإنهم أصبحوا راكبين هم والمقدمون، وقصدوا قصر الملك غريب لأجل الخدمة، فقال لهم الخدم: إن الملك وأخاه ركبا سَحَرًا وخرجَا. فركب المقدمون وقصدوا الأودية والجبال، ولم يزالوا يقصون الأثر حتى وصلوا إلى وادي العيون، فوجدوا عدة غريب وسهيم مرمية، والجوادين يرعيان، فقال المقدمون: إن الملك فُقِد من هذا المكان، يا لجاه الخليل إبراهيم. ثم إنهم تفرقوا في الوادي والجبال ثلاثة أيام، فما ظهر لهم خبر، فأقاموا العزاء وطلبوا السعاة، وقالوا لهم: تفرقوا في الميدان والحصون والقلاع، واكشفوا خبر ملكنا. فقالوا: سمعًا وطاعةً. وقد تفرقوا وطلب كل واحد إقليمًا، ووصل لعجيب مع الجواسيس خبر أخيه أنه فُقِد ولم يقعوا له على خبر، ففرح عجيب بفَقْد أخيه غريب واستبشر، ودخل على الملك يعرب بن قحطان، وكان استجار به فأجاره وأعطاه مائتَيْ ألف عملاق، وسار عجيب بعسكره حتى نزل على مدينة عمان، فخرج لهم الجمرقان وسعدان وقاتلاهم وقُتِل من المسلمين خلقٌ كثير، ودخلوا المدينة وغلَّقوا الأبواب وحصَّنوا الأسوار، ثم أقبل الماردان الكيلجان والقورجان وقد نظرَا المسلمين محصورين، فصبرَا حتى أقبل الليل وأعملَا في الكفار سيفين باترين من سيوف الجن، كل سيف طوله اثنا عشر ذراعًا، لو ضرب به إنسانٌ حجرًا لقصمه، فحملَا عليهم وهما يقولان: الله أكبر، فتح ونصر وخذل مَن كفر بدين الخليل إبراهيم. ثم إنهما بطشا بالكفار وأكثرَا فهيم القتل، وخرجت النار من أفواههما ومناخيرهما، فبرز الكفار من سرادقهم فنظروا إلى أشياء عجيبة تقشعر منها الأبدان، واختبلوا وطارت عقولهم. ثم إنهم خطفوا أسلحتهم وبطشوا ببعضهم، والماردان يحصدان في رقاب الكفار ويصيحان: الله أكبر، نحن غلمان الملك غريب صاحب الملك مرعش ملك الجان. ولم يزل السيف دائرًا فيهم حتى انتصف الليل، وقد تخيل للكفار أن الجبال كلها عفاريت، فحملوا الخيام والثقل والمال على الجمال وقصدوا الذهاب، وكان أولهم هروبًا عجيب. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح، فقالت لها أختها: يا أختي، ما أحسن هذا الكلام وأعذبه وأحلاه وأطيبه! فقالت لها: وأين هذا مما أحدِّثكم به الليلة القابلة إنْ عشتُ وأبقاني الملك؟ فقال الملك في نفسه: والله لا أقتلها حتى أسمع بقية حديثها.

﴿اللیلة 653﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الكفار قصدوا الذهاب وكان أولهم هروبًا عجيب، ثم قد اجتمع المسلمون وتعجبوا من هذا الأمر الذي جرى للكفار وخافوا من قبائل الجان، ولم يزل الماردان في أقفية الكفار حتى شتَّتوهم في البراري والقفار، وما سلم من الماردان سوى خمسين ألف عملاق من أصل مائتَيْ ألف، وقد قصدوا بلادهم وهم منهزمون مجروحون وقالوا: يا عسكر، إن الملك غريبًا سيدكم وأخاه يسلِّمان عليكم، وهما مستضافان عند الملك مرعش ملك الجان، وعن قريب يكونان عندكم. فلما سمع العساكر بخبر غريب وأنه طيب، فرحوا فرحًا شديدًا، وقالوا لهما: بشَّرَكما الله بالخير يا أرواحًا كرامًا. ثم إن الماردين رجعَا ودخلَا على الملك غريب والملك مرعش فوجداهما جالسين، فأخبراهما بما جرى وما فعلا فجازياهما خيرًا، وقد اطمأنَّ قلب غريب، فعند ذلك قال الملك مرعش: يا أخي، مرادي أن أفرجك على أرضنا، وأُرِيك مدينة يافث بن نوح عليه السلام. قال: يا ملك، افعل ما بَدَا لك. فدَعَا بجوادين لهما وركب هو وغريب وسهيم، وركب معه ألف مارد وساروا كأنهم قطعة جبل مشقوقة بالطول، فساروا يتفرجون على أودية وجبال حتى أتوا مدينة يافث بن نوح عليه السلام، فخرج أهل المدينة كبارًا وصغارًا ولاقوا مرعشًا، فدخل في موكب عظيم، ثم إنه طلع إلى قصر يافث بن نوح وجلس على كرسي ملكه، وهو من المرمر مشبك بقضبان الذهب، علوه عشر درج وهو مفروش بأنواع الحرير الملون، ولما وقف أهل المدينة قال لهم: يا ذرية يافث بن نوح، ما كان يعبد آباؤكم وأجدادكم؟ قالوا: إنا وجدنا آباءنا يعبدون النار فتبعناهم وأنت أخبر بذلك. قال: يا قوم، أنا رأيت النار مخلوقة من مخاليق الله تعالى الذي خلق كل شيء، فلما علمتُ ذلك أسلمتُ لله الواحد القهار، خالق الليل والنهار والفلك الدوار، الذي لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، فأسلِموا تَسْلَموا من غضب الجبَّار، وفي الآخرة من عذاب النار. فأسلموا قلبًا ولسانًا، وأخذ مرعش بيد غريب وفرَّجَه على قصر يافث وبنائه وما فيه من العجائب، ثم دخل دار السلاح وفرَّجَه على سلاح يافث، فنظر غريب إلى سيف معلَّق في وتد من ذهب، فقال غريب: يا ملك، هذا لمَن؟ قال: هذا سيف يافث بن نوح الذي كان يقاتل به الإنس والجن، صاغه الحكيم جردوم، وكتب على ظهره أسماء عظيمة، فلو ضرب به الجبل لهدمه، واسمه الماحق، ما نزل على شيء إلا محقه، ولا جني إلا دمَّره.

فلما سمع غريب كلامه وما ذكره في فضائل هذا السيف قال: مرادي أن أنظر هذا السيف؟ فقال مرعش: دونك وما تريد. فمَدَّ غريب يده وأخذ السيف وسحبه من جفيره، فسطع ودبَّ الموت على حده وشعشع، وكان طوله اثني عشر شبرًا، وعرضه ثلاثة أشبار، فأراد غريب أن يأخذه، فقال الملك مرعش: إن كنت تقدر أن تضرب به فخذه. فقال غريب: نعم. ثم أخذه في يده فصار في يده كالعصا، فتعجَّبَ الحاضرون من الإنس وقالوا: أحسنتَ يا سيد الفرسان. فقال له مرعش: ضع يدك على هذه الذخيرة التي بحسرتها ملوك الأرض، واركب حتى أفرِّجك. فركب وركب مرعش ومشت الإنس والجن في خدمته. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح، فقالت لها أختها: ما أحسن هذا الكلام وأطيبه وأحلاه وأعذبه! فقالت: وأين هذا مما أحدِّثكم به الليلة القابلة إن عشتُ وأبقاني الملك؟ فقال الملك في نفسه: والله لا أقتلها حتى أسمع بقية حديثها.

﴿اللیلة 654﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك غريبًا والملك مرعشًا لما ركبا من مدينة يافث، والإنس والجن سائرون في خدمتهما، مشيَا بين قصورٍ ودُورٍ خاليات، وشوارع وأبواب مذهبات، ثم خرجَا من أبواب المدينة وتفرَّجَا في بساتين ذات أشجار مثمرات، وأنهار جاريات، وأطيار ناطقات، تسبِّح مَن له القدرة والبقاء، ولم يزالَا يتفرَّجان حتى أقبل المساء، فرجعَا وباتَا في قصر يافث بن نوح، فلما وصلَا قُدِّمت لهما مائدة فأكلَا، والتفت غريب لملك الجان وقال: يا ملك، إن قصدي الذهاب إلى قومي وجندي، فلم أعلم حالهم بعدي. فلما سمع مرعش كلام غريب قال له: يا أخي، والله ما مرادي فراقك، ولا أخليك تروح ولا بعد شهر كامل حتى أتملى برؤيتك. فما قدر أن يخالفه، فقعد شهرًا كاملًا في مدينة يافث، ثم أكل وشرب وأعطاه الملك مرعش هدايا من التحف والمعادن والجواهر والزمرد والبلخش وحجر الماس، وقطعًا من ذهب وفضة، وكذلك مسك وعنبر، ومقاطع حرير منسوجة بالذهب، وعمل لغريب وسهيم خلعتين من الوشي منسوجتين بالذهب، وعمل لغريب تاجًا مكلَّلًا بالدر والجوهر لا يعادل بأثمان، ثم عبَّى له ذلك كله في أعدال، ودعا بخمسمائة ماردٍ وقال لهم: جهِّزوا حالكم إلى السفر في غدٍ، حتى نؤدي الملك غريبًا وسهيمًا إلى بلادهما. قالوا: سمعًا وطاعةً. وباتوا على نية السفر حتى أتى وقت السفر، وإذا هم بخيول وطبول ونفير تصيح حتى ملأت الأرض، وهم سبعون ألف مارد طيَّارة غواصة، وملكهم اسمه برقان، وكان لمجيء هذا الجيش سبب عظيم عجيب، وأمر مطرب غريب، سنذكره على التراتيب.

وكان برقان هذا صاحب مدينة العقيق وقصر الذهب، وكان يحكم على خمس قلل، كل قلة فيها خمسمائة ألف مارد، وهو وقومه يعبدون النار دون الملك الجبَّار، وكان هذا الملك ابن عم مرعش، وكان في قوم مرعش مارد كافر أسلم نفاقًا، وغطس من بين قومه وسار حتى وصل إلى وادي العقيق، ودخل قصر الملك برقان وقبَّلَ الأرض بين يديه ودعا له بدوام العز والأنعام، ثم أخبره بإسلام مرعش، فقال له برقان: كيف مرق من دينه؟ فحكى له جميع ما جرى، فلما سمع برقان كلامه شخر ونخر، وسب الشمس والقمر، والنار ذات الشرور، وقال: وحقِّ ديني لأقتلنَّ ابن عمي وقومه، وهذا الإنسي، ولا أترك منهم أحدًا. ثم صاح على أرهاط الجن، واختار منهم سبعين ألف مارد، وسار بهم حتى وصل إلى مدينة جابرصا، وداروا حول المدينة كما ذكرنا، ونزل الملك برقان مقابل باب المدينة ونصب خيامه، فدعا مرعش بمارد وقال له: امضِ إلى هذا العسكر وانظر ما يريدون وائتني عاجلًا. فمرق المارد حتى دخل خيام برقان، فتسارع إليه المَرَدة وقالوا له: مَن أنت؟ قال: رسول مرعش. فأخذوه وأوقفوه بين يدي برقان، فسجد له وقال: يا مولاي، إن سيدي أرسلني إليكم لأنظر خبركم. فقال له: ارجع إلى سيدك وقل له: هذا ابن عمك برقان أتى يسلِّم عليك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح، فقالت لها أختها: ما أحسن حديثك وأطيبه وأحلاه وأعذبه! فقالت: وأين هذا ممَّا أحدِّثكم به الليلة القابلة إنْ عشتُ وأبقاني الملك؟ فقال الملك في نفسه: والله لا أقتلها حتى أسمع بقية حديثها.

﴿اللیلة 655﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن المارد رسول مرعش لما دخل على برقان وقال له: إن سيدي أرسلني إليك لأنظر خبركم. قال له: ارجع إلى سيدك وقل له: إن ابن عمك برقان أتى يسلِّم عليك. فرجع المارد إلى مولاه وأخبره بذلك، فقال لغريب: اقعد على سريرك حتى أسلِّم على ابن عمي وأعود إليك. ثم ركب وسار قاصدًا الخيام، وكان برقان عملها حيلةً حتى يخرج مرعش ويقبض عليه، ثم أوقف حوله مَرَدة وقال لهم: إذا رأيتموني حضنته فأمسكوه وكتِّفوه. فقالوا: سمعًا وطاعةً. ثم بعد ذلك وصل الملك مرعش ودخل سرادق ابن عمه، فقام إليه واعتنقه، فهجم عليه الجان وكتَّفوه وقيَّدوه، فنظر مرعش إلى برقان وقال له: ما هذا الحال؟ فقال له: يا كلب الجان، أتترك دينك ودين آبائك وأجدادك وتدخل في دينٍ لا تعرفه؟ فقال له مرعش: يا ولد عمي، قد وجدتُ دينَ إبراهيم الخليل هو الحق وغيره باطل. فقال: ومَن أخبركم؟ قال: غريب ملك العراق، وهو عندي في أعز مكان. فقال له برقان: وحق النار والنور، والظل والحرور، لَأقتلَنَّكم جميعًا. ثم سجنه، فلما نظر غلام مرعش ما حلَّ بمولاه، ولَّى هاربًا إلى المدينة وأعلم أرهاط الملك مرعش بما حصل لمولاه، فصاحوا وركبوا خيولهم، فقال غريب: ما الخبر؟ فأعلموه بما جرى، فصاح على سهيم وقال له: شدَّ لي جوادًا من الجوادين اللذين أعطانيهما الملك مرعش. فقال له: يا أخي، أتقاتل الجان؟ قال: نعم أقاتلهم بسيف يافث بن نوح، وأستعين برب الخليل إبراهيم عليه السلام، فهو رب كل شيء وخالِقه. فشَدَّ له جوادًا أشقر من خيل الجن كأنه حصن من الحصون، ثم أخذ آلة الحرب وخرج وركب وخرجت الأرهاط وهم لابسون الدروع، وركب برقان وقومه وتقاتَلَ الفريقان، واصطفَّ العسكران، وكان أولَ مَن فتح باب الحرب الملك غريبٌ، فساق جواده في حومة الميدان، وجرَّدَ سيف يافث بن نوح عليه السلام، فخرج منه نور ساطع انبهرت منه عيون الجن أجمعين، ووقع في قلوبهم الرعب، فلعب غريب بالسيف حتى أذهل عقول الجان، ثم نادى: الله أكبر، أنا الملك غريب ملك العراق، لا دين إلا دين إبراهيم الخليل.

فلما سمع برقان كلام غريب قال: هذا الذي غيَّرَ دين ابن عمي وأخرجه من دينه، فوَحَقِّ ديني لا أقعد على سريري حتى أقطع رأس غريب وأخمد أنفاسه، وأردَّ ابن عمي وقومه إلى دينهم، ومَن خالفني أهلكتُه. ثم ركب على فيل أبيض قرطاسي، كأنه برج مشيد، وصاح عليه وضربه بسنان من بولاد، فغرق في لحمه، فصرخ الفيل وقصد الميدان ومقام الحرب والطعان، حتى قرب من غريب، فقال له: يا كلب الإنس، ما أدخلك أرضنا حتى أفسدت ابن عمي وقومه وأخرجتهم من دين إلى دين؟ اعلم أن اليوم آخر أيامك من الدنيا. فلما سمع غريب هذا الكلام قال له: اخسأْ يا أقلَّ الجان. فسحب برقان حربة وهزَّها وضرب بها غريبًا فأخطأه، فضربه بحربة ثانية فخطفها غريب من الهواء وهزَّها وأرسلها نحو الفيل، فدخلت في جنبه وخرجت من الجانب الآخَر، فوقع الفيل على الأرض قتيلًا، وارتمى برقان كأنه نخلة سحوق، فما خلَّاه غريب يتحرك من مكانه حتى ضربه بسيف يافث بن نوح على جذع رقبته صفحًا فغُشِي عليه، فاندفعت عليه المَرَدة وأداروا أكتافه، فلما نظر قومه إلى ملكهم هجموا وأرادوا خلاصه، فحمل عليهم غريب، وحملت معه الجن المؤمنون، فلله درُّ غريب لقد أرضى الرب المجيب، وأشفى الغليل بالسيف المطلسم، وكلُّ مَن ضربه به قصمه، فما تطلع روحه حتى يصير في النار رمادًا، وهجم المؤمنون على الجن الكافرين وتراموا بشهب النار، وعمَّ الدخان، وغريب قد جال فيهم يمينًا وشمالًا فتفرَّقوا بين يديه، وقد وصل الملك غريب إلى سرادق الملك برقان، وكان إلى جانبه الكيلجان والقورجان، فصاح غريب عليهما وقال: حلَّا مولاكما. فحلَّاه وكسرَا قيده. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح. قالت لها أختها: ما أحلى حديثك وأعذبه وألذه وأطيبه! فقالت: وأين هذا ممَّا أحدِّثكم به الليلة القابلة إنْ عشتُ وأبقاني الملك؟ فقال الملك في نفسه: والله ما أقتلها حتى أسمع بقية حديثها.

﴿اللیلة 656﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك غريبًا لما صاح على الكيلجان والقورجان وقال لهما: حلَّا مولاكما. فحلَّاه وكسرَا قيده، فقال لهما الملك مرعش: ائتياني بعُدَّتي وجوادي الطيَّار. وكان عند الملك جوادان يطيران في الهواء، فأعطى غريبًا واحدًا وبقي عنده واحد، فأتوه به بعد أن لبس آلة الحرب وحمل مع غريب وطار بهما الجوادان وقومهما خلفهما وهما يصيحان: الله أكبر، الله أكبر. فأجابتهما الأرض والجبال والأودية والتلال، ورجعوا من خلفهم بعد أن قتلوا منهم خلقًا كثيرًا تزيد عن ثلاثين ألف مارد وشيطان، ودخلوا مدينة يافث وجلس الملكان على مراتب العز، وطلبا برقان فما وجداه؛ لأنهما حين أسراه اشتغلَا عنه بالقتال، وقد سبقه عفريت من غلمانه فحلَّه ومرَّ به على قومه، فوجد البعض مقتولًا والبعض هاربًا، فطار به نحو السماء وحطَّ على مدينة العقيق وقصر الذهب، وجلس الملك برقان على تخت مملكته، ووصل قومه إليه الذين فضلوا من القتل، فدخلوا عليه وهنَّئُوه بالسلامة، فقال: يا قوم، وأين السلامة وقد قُتِل عسكري، وأسروني وخرقوا حرمتي بين قبائل الجان؟ فقالوا: يا ملك، ما دامت الملوك تصيب وتصاب. قال لهم: لا بد من أن آخذ ثأري وأكشف عاري، وإلا أكون معيرة بين قبائل الجان. ثم إنه كتب الكتب وأرسل إلى قبائل الحصون فأتوه مذعنين مطيعين، فتفقَّدَهم فوجدهم ثلاثمائة ألف وعشرين ألفًا من المَرَدة الجبَّارين والشياطين. فقالوا: أي حاجة لك؟ فقال: خذوا أهبتكم للسفر بعد ثلاثة أيام. فقالوا: سمعًا وطاعة.

هذا ما كان من أمر الملك برقان، وأما ما كان من أمر الملك مرعش فإنه لما رجع وطلب برقان ولم يجده صعب عليه، وقال: لو كنَّا حفظناه بمائة مارد ما كان يهرب، ولكن أين يروح منَّا؟ ثم قال مرعش لغريب: اعلم يا أخي أن برقان غدَّار ما يقعد عن أخذ الثأر، ولا بد أن يجمع أرهاطه ويأتوا إلينا، وأنا قصدي أن ألحقه وهو ضعيف على إثر هزيمته. فقال غريب: هذا هو الرأي الصواب والأمر الذي لا يعاب. ثم قال مرعش لغريب: يا أخي، خلِّ المَرَدة يوصلونكم إلى بلادكم واتركوني أجاهد الكفار حتى تخف عنِّي الأوزار. فقال غريب: لا وحقِّ الحليم الكريم الستار، ما أروح هذه الديار حتى أفني جميع الجان الكفَّار، ويعجِّل الله بأرواحهم إلى النار وبئس القرار، ولا ينجو إلا مَن يعبد الله الواحد القهَّار، ولكن أرسل سهيمًا إلى مدينة عمان لعله يشفى من المرض. وكان سهيم ضعيفًا، فصاح مرعش على المَرَدة وقال لهم: احملوا سهيمًا وهذه الأموال والهدايا إلى مدينة عمان. فقالوا: سمعًا وطاعةً. فحملوا سهيمًا والهدايا وقصدوا بلاد الإنس، ثم كتب مرعش الكتب إلى حصونه وجميع عمَّاله، فحضروا فكانت عُدَّتهم مائة ألف وستين ألفًا، فتجهَّزوا وساروا قاصدين بلاد العقيق وقصر الذهب، فقطعوا في يوم واحد مسيرة سنة، ودخلوا واديًا فنزلوا فيه للراحة وباتوا حتى أصبح الصباح، وأرادوا أن يرحلوا وإذا بطلائع الجان قد طلعت، والجن قد صاحت، والتقى العسكران في ذلك الوادي، فحملوا على بعضهم وقد وقع القتل بينهم، واشتدَّ النزال، وعظم الزلزال، وساءت الأحوال، وجاء الجد وذهب المحال، وبطل القيل والقال، وقصرت الأعمار الطوال، وصارت الكَفَرة في الذل والخبال، وحمل غريب وهو يوحِّد الواحد المعبود المستعان، فقطع الرقاب وقد ترك الرءوس مدحرجة على التراب، فما أمسى المساء حتى قتل من الكفار نحو سبعين ألفًا؛ فعند ذلك دقوا كئوس الانفصال وافترقوا من بعضهم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح، فقالت لها أختها: ما أطيب حديثك وأحسنه وأحلاه وأعذبه! فقالت: وأين هذا ممَّا أحدِّثكم به الليلة القابلة إنْ عشتُ وأبقاني الملك؟ فقال الملك في نفسه: والله لا أقتلها حتى أسمع بقية حديثها.

﴿اللیلة 657﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن العسكرين لما انفصلا من بعضهما وافترقا، نزل مرعش وغريب في خيامهما بعد أن مسحا سلاحهما، ثم حُضِّر العشاء فأكلَا وهنَّيَا بعضهما بالسلامة، وقد قتل منهم أكثر من عشرة آلاف مارد. وأما برقان فإنه نزل في خيامه وهو ندمان على مَن قُتِل من الأعوان وقال: يا قوم، إن قعدنا نقاتل هذا القوم ثلاثة أيام أفنونا عن آخِرنا. فقالوا: وما نفعل يا ملك؟ قال: نهجم عليهم في الليل وهم نيام، فما يبقى منهم مَن يرد الأخبار، فخذوا أهبتكم واهجموا على أعدائكم واحملوا حملة رجل واحد. فقالوا: سمعًا وطاعةً. ثم إنهم تجهَّزوا للهجوم، وكان فيهم مارد اسمه جندل، وكان قلبه لَانَ للإسلام، فلما نظر الكفار وما عزموا عليه، مرق من بينهم ودخل على مرعش والملك غريب وأخبرهما بما دبَّر الكفار، فالتفت مرعش لغريب وقال له: يا أخي، ما يكون العمل؟ فقال: الليلة نهجم على الكفار ونشتتهم في البراري والقفار بقدرة الملك الجبَّار. ثم دعا بالمقدمين من الجان وقال لهم: احملوا آلة حربكم أنتم وقومكم، فإذا أسبل الظلام فانسلُّوا على أقدامكم مائة بعد مائة، وخلُّوا الخيام خالية واكمنوا بين الجبال، فإذا رأيتم الأعداء صاروا بين الخيام، فاحملوا عليهم من سائر الجهات، وقوُّوا عزمكم واعتمدوا على ربكم، فإنكم تُنصَرون، وها أنا معكم.

فلما جاء الليل هجموا على الخيام وقد استغاثوا بالنار والنور، فلما وصلوا بين الخيام هجم المؤمنون على الكفار وهم يستغيثون برب العالمين ويقولون: يا أرحم الراحمين، يا خالق الخلق أجمعين. حتى تركوهم حصيدًا خامدين، فما أصبح الصباح إلا والكفار أشباح بلا أرواح، والذين فضلوا طلبوا البراري والبطاح، ورجع مرعش وغريب وهم منصورون مؤيدون ونهبوا أموال الكفار، وباتوا حتى أصبح الصباح وساروا طالبين مدينة العقيق وقصر الذهب. وأما برقان فإنه لما دار الحرب عليه وقتل أكثر قومه في ظلام الليل، ولَّى هاربًا مع مَن بقي من قومه حتى وصل إلى مدينته ودخل قصره وجمع أرهاطه، وقال: يا بَنِيَّ، مَن كان عنده شيء فليأخذه ويلحقني في جبل قاف عند الملك الأزرق صاحب القصر الأبلق، فهو الذي يأخذ ثأرنا. فأخذوا حريمهم وأولادهم وأموالهم وقصدوا جبل قاف، ثم وصل مرعش وغريب إلى مدينة العقيق وقصر الذهب، فوجدوا الأبواب مفتوحة وليس فيها مَن يخبر بخبر، فأخذ مرعش غريبًا يفرِّجه على مدينة العقيق وقصر الذهب، وكان أساسات صورها من الزمرد، وبابها من العقيق الأحمر، بمسامير من الفضة، وسقوف بيوتها وقصورها العود والصندل، فمشوا وتفرَّقوا في شوارعها وأزِقَّتها حتى وصلوا إلى قصر الذهب، ولو يزالوا يدخلون من دهليز إلى دهليز، وإذا هم ببناء من البلخش الملوكي ورخامه زمرد وياقوت، ودخل مرعش وغريب في القصر فاندهشا من حُسْنه، ولم يزالا يدخلان من موضع إلى موضع حتى قطعَا سبعة دهاليز، فلما وصلَا إلى داخل القصر إذا هما بأربعة لواوين، كل ليوان لا يشبه الآخر، وفي وسط القصر فسقية من الذهب الأحمر وعليها صور سباع من الذهب، والماء يجري من أفواهها، فنظرَا شيئًا يحيِّر الأفكار، والليوان الذي في الصدر مفروش بالبسط المنسوجة بالحرير الملوَّن، وفيه كرسيان من الذهب الأحمر مرصَّعان بالدر والجوهر، فعند ذلك قعد مرعش وغريب على كرسي برقان، وعملَا في قصر الذهب موكبًا عظيمًا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح، فقالت لها أختها: يا أختي، ما أحسن حديثك وألذه وأعذبه! فقالت: وأين هذا ممَّا أحدِّثكم به الليلة القابلة إنْ عشتُ وأبقاني الملك؟ فقال الملك في نفسه: والله لا أقتلها حتى أسمع بقية حديثها.

﴿اللیلة 658﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن مرعشًا وغريبًا جلَسَا على كرسي برقان وأوكَبَا موكبًا عظيمًا، وبعد ذلك قال غريب لمرعش: أي شيء دبَّرْتَ من الرأي؟ قال: يا ملك الإنس، قد أرسلت مائة فارس يكشفون لي خبر برقان في أي مكان هو حتى نسير خلفه. ثم قعدا في قصر الذهب ثلاثة أيام حتى وصل المَرَدة ورجعوا خبَّروا أن برقان سار إلى جبل قاف، واستجار بالملك الأزرق فأجاره، فقال مرعش لغريب: ما تقول يا أخي؟ قال: إن لم نهجم عليهم يهجموا علينا. ثم أمر مرعش وغريب العسكر أن يأخذوا الأهبة للسفر بعد ثلاثة أيام؛ فأصلحوا أحوالهم وأرادوا أن يرحلوا، وإذا هم بالمَرَدة الذين وصلوا سهيمًا والهدايا قد أقبلوا على غريب وقبَّلوا الأرض، فسألهم عن قومه فقالوا له: إن أخاك عجيبًا لما هرب من الوقعة ذهب إلى يعرب بن قحطان، وقصد بلاد الهند ودخل على ملكها، وحكى له ما جرى له من أخيه واستجار به، فأجاره وأرسل كتبه إلى جميع عمَّاله، فاجتمع عسكره مثل البحر الزاخر ما له أول من آخِر، وهو عازم على خراب العراق. فلما سمع غريب كلامه قال: تعس الكفَّار، فإن الله تعالى ينصر الإسلام، وسوف أريهم ضربًا وطعانًا. ثم قال مرعش: يا ملك الإنس، وحق الاسم الأعظم لا بد أن أسير معك إلى ملكك وأهلك أعداءك وأبلغك هناك. فشكره غريب وباتوا على نية الرحيل، إلى أن أصبح الصباح، فرحلوا وصاروا قاصدين جبل قاف ومشوا يومهم، وبعد ذلك ساروا قاصدين القصر الأبلق ومدينة المرمر، وكانت هذه المدينة مبنية بالحجارة والمرمر، بناها بارق بن فاقع أبو الجن، وبنى القصر الأبلق، وسُمِّي بذلك لأنه مبني بطوبة من فضة وطوبة من ذهب، ما بُنِي مثله في سائر الأقطار.

فلما قربوا من مدينة المرمر، وبقي بينهم وبينها نصف يوم؛ نزلوا للراحة، فأرسل مرعش مَن يكشف له الأخبار، فغاب الساعي ثم عاد وقال له: يا ملك، إن في مدينة المرمر من أرهاط الجن عدد أوراق الشجر وقطر المطر. فقال الملك مرعش: أي شيء يكون العمل يا ملك الإنس؟ فقال غريب: يا ملك، قَسِّم قومك أربعة أقسام حول العسكر، ثم يقولون: الله أكبر. وبعد أن يصيحوا بالتكبير يتأخَّرون عنهم، ويكون ذلك الأمر في نصف الليل، وانظر ما يجري بين قبائل الجان. فأحضر مرعش قومه وفرَّقهم مثل ما قال غريب، فحملوا سلاحهم وصبروا حتى انتصف الليل، فساروا حتى داروا حول العسكر وصاحوا: الله أكبر، يا لدين الخليل إبراهيم عليه السلام. فانتبه الكفار مرعوبين من هذه الكلمة، وخطفوا سلاحهم ووقعوا في بعضهم، حتى لاح الفجر وقد فني أكثرهم وبقي أقلهم، فصاح غريب على الجن المؤمنين وقال: احملوا على مَن بقي من الكافرين، وها أنا معكم والله ناصركم. فحمل مرعش وصحبته غريب وجرَّدَ غريب سيفه الماحق الذي من سيوف الجن، فجدع الأنوف وهزم الصفوف، وقد ظفر ببرقان وضربه فأعدمه الحياة، ونزل مختضبًا بدمائه، ثم فعل بالملك الأزرق كذلك.

فلما أضحى النهار لم يَبْقَ من الكفار ديَّار ولا مَن يرد الأخبار، ودخل مرعش وغريب القصر الأبلق فرأيا حيطانه طوبة من ذهب وطوبة من فضة، وأعتابه من البلور، وهو معقود بالزمرد الأخضر، وفيه فسقية وشاذروان مفروش بالحرير المزركش بشرائط الذهب المرصَّع بالجوهر، ووجَدَا أموالًا لا تُحصَى ولا تُوصَف،

ثم دخلا قاعة الحريم فوجَدَا فيها حريمًا ظريفًا، فنظر غريب إلى حريم الملك الأزرق فرأى في بناته بنتًا ما رأى أحسن منها، وعليها بدلة تساوي ألف دينار، وحولها مائة جارية ترفع أذيالها بكلاليب من الذهب، وهي مثل القمر بين النجوم؛ فلما رأى غريب هذه البنت، طاش عقله وحار، فقال لبعض تلك الجواري: مَن تكون هذه الجارية؟ فقالوا له: هذه كوكب الصباح بنت الملك الأزرق. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح، فقالت لها أختها: ما أطيب حديثك وأحسنه وأحلاه وأعذبه! فقالت لها: وأين هذا ممَّا أحدِّثكم به الليلة القابلة إنْ عشتُ وأبقاني الملك؟ فقال الملك في نفسه: والله لا أقتلها حتى أسمع بقية حديثها.

﴿اللیلة 659﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن غريبًا لما سأل بعض الجواري وقال: مَن هذه الجارية؟ فقالوا له: هذه كوكب الصباح بنت الملك الأزرق. فالتفت غريب للملك مرعش وقال: يا ملك الجان، مرادي أن أتزوَّج بهذه البنت؟ فقال له الملك مرعش: القصر وما فيه من الأموال والأولاد كسب يدك، ولولا أنت عملتَ الحيلة حتى أهلكت برقان والملك الأزرق وقومهما، لَكانوا أهلكونا عن آخِرنا، فالمال مالك وأهله عبيدك. فشكره غريب على حسن كلامه وتقدَّم إلى البنت ونظر إليها وحقَّق النظر فيها، فأحَبَّها حبًّا شديدًا، ونسي فخرتاج بنت الملك سابور ملك العجم والترك والديلم، ونسي مهدية. وكانت والدةُ هذه البنتِ بنتَ ملك الصين، خطفها الملك الأزرق من قصرها وافتَضَّها، فعلقت منه وجاءت بهذه البنت، فمن حُسْنها وجمالها سمَّاها كوكب الصباح، وهي سيدة الملاح، فماتت أمها وهي بنت أربعين يومًا، فربَّتْها القوابل والخدام حتى صار لها من العمر سبع عشرة سنة، فجرى هذا الأمر وقُتِل أبوها وحبَّها غريب حبًّا شديدًا، وصافَحَها ودخل عليها من ليلته، فوجدها بكرًا، وكانت تبغض أباها وقد فرحت بقتله، وقد أمر غريب أن يُهدَم القصر الأبلق، فهدموه وفرَّقه غريب على الجان، فناب غريبًا إحدى وعشرون ألف طوبة من الذهب والفضة، ونابه من المال والمعادن ما لا يُحصَى ولا يُعَدُّ.

ثم إن الملك مرعشًا أخذ غريبًا وفرَّجَه على جبل قاف وعجائبه، وساروا قاصدين حصن برقان، فلما وصلوا إليه أخربوه وقسموا أمواله، وساروا إلى حصن مرعش فأقاموا فيه خمسة أيام، وطلب غريبٌ الرواحَ إلى بلاده، فقال مرعش: يا ملك الإنس، أنا أسير في ركابك حتى أوصلك إلى بلادك؟ فقال غريب: لا وحقِّ الخليل إبراهيم ما أخليك تتعب سرك، ولن آخذ من قومك سوى الكيلجان والقورجان. فقال مرعش: يا ملك، خذ عشرة آلاف فارس من الجن يكونون معك في خدمتك. فقال غريب: ما آخذ إلا ما أخبرتك به. فأمر مرعش ألف مارد أن يحملوا ما ناب غريبًا من الغنيمة ويصحبوه إلى ملكه، وأمر الماردين الكيلجان والقورجان أن يكونا مع غريب ويطيعاه، فقَالَا: سمعًا وطاعةً. ثم قال غريب للمَرَدة: احملوا أنتم المال وكوكب الصباح. وأراد غريب أن يرحل بركب جواده الطيَّار، فقال مرعش: هذا الجواد يا أخي لا يعيش إلا في أرضنا، وإن وصل إلى أرض الإنس مات، ولكن عندي جواد يجري وما يوجد له مثيل في أرض العراق وجميع الآفاق. ثم أمر بإحضار الجواد فأحضروه، فلما نظره غريب حال بينه وبين عقله، ثم كبلوا الجواد وحمله الكيلجان وحمل القورجان ما أطاقه.

ثم إن مرعشًا اعتنق غريبًا وبكى على فراقه وقال له: يا أخي، إذا حصل لك ما لا طاقة لك به، فأرسل إليَّ وأنا آتيك بعسكر يخربون الأرض وما عليها. فشكره غريب على معروفه وحسن إسلامه، وسار الماردان بغريب والجواد يومين وليلة، وقد قطَعَا مسيرة خمسين سنة حتى قربوا من مدينة عمان، فنزلوا قريبًا منها ليأخذوا الراحة، فالتفت غريب إلى الكيلجان وقال له: سِرْ واكشف لي خبر قومي. فسار المارد ثم عاد وقال: يا ملك، إن على مدينتك عسكر الكفَّار مثل البحر الزخار، وقومك تقاتلهم وقد دقوا طبول الحرب، والجمرقان برز لهم إلى الميدان. فلما سمع غريب هذا الكلام صاح: الله أكبر. وقال: يا كيلجان شد لي الحصان وقدم عُدَّتي والسنان، اليومَ يظهر الفارس من الجبان في مقام الحرب والطعان. فقام الكيلجان وقد أحضر له ما طلب، فأخذ عُدَّة الحرب وتقلَّدَ بسيف يافث بن نوح، وركب الجواد البحري وقصد العساكر والجنود، فقال الكيلجان والقورجان: أَرِحْ قلبك ودَعْنا نسير إلى الكفَّار فنشتِّتهم في البراري والقفار، حتى لا يبقى منهم ديَّار ولا نافخ نار، بعون الله العليِّ الجبَّار. فقال لهم غريب: وحقِّ الخليل إبراهيم ما أخليكم تقاتلون إلا وأنا على ظهر جوادي. وقد كان لمجيء هذه العساكر سبب عجيب. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 660﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن غريبًا لما قال للكيلجان: سِرْ واكشفْ لي خبر قومي. فرجع وقال: إن على مدينتك عسكرًا كثيرًا. وكان السبب في مجيئهم أن عجيبًا لما أتى بعسكر يعرب بن قحطان، وحاصَرَ المسلمين، وخرج الجمرقان وسعدان وجاءهم الكيلجان والقورجان، وكسروا عساكر الكفار وهرب عجيب، قال: يا قوم، إن رجعتم إلى يعرب بن قحطان وقد قُتِل قومه يقول: يا قوم، لولا أنتم ما قُتِل قومي، فيقتلنا عن آخِرنا، والرأي عندي أن تسيروا إلى بلاد الهند وندخل على الملك طركنان فيأخذ بثأرنا. فقال له قومه: سِرْ بنا باركَتِ النار فيك. فساروا أيامًا وليالي حتى وصلوا إلى مدينة الهند، واستأذنوا في الدخول على الملك طركنان، فأذن لعجيب في الدخول، فدخل وقبَّلَ الأرض ودعا له بدعاء الملوك وقال: يا ملك، أَجِرْني أجارَتْك النار ذات الشرر، وحماك الدجى بالظلام المعتكر. فلما نظر ملك الهند إلى عجيب قال له: مَن أنت؟ وما تريد؟ قال له: أنا عجيب ملك العراق، وقد جار عليَّ أخي، وقد تبع دين الإسلام وأطاعته العباد وقد مَلَك البلاد، ولم يزل يطردني من أرضٍ إلى أرضٍ، وها أنا أتيتُ إليك أستجير بك وبهمتك. فلما سمع ملك الهند كلامَ عجيب قام وقعد وقال: وحقِّ النار لآخذن بثأرك ولا أدع أحدًا يعبد غير النار. ثم إنه صاح على ولده وقال له: يا ولدي، هيِّئ حالك واذهب إلى العراق، وأهلك كلَّ مَن فيها، واربط الذين لا يعبدون النار وعذِّبهم ومثِّلْ بهم ولا تقتلهم وائتني بهم عندي حتى أصنع في عذابهم أنواعًا، وأذيقهم الهوان وأتركهم عِبرةً لمَن اعتبر في هذا الزمان. ثم اختار معه ثمانين ألف مقاتل على الخيل، وثمانين ألف مقاتل على الزرافات، وبعث معهم عشرة آلاف فيل، كلُّ فيل عليه تخت من الصندل مشبك بقضبان الذهب وصفائحه، ومساميره من الذهب والفضة، وفي كل تخت سرير من الذهب والزمرد، وأرسل معهم تخوت السلاح، في كل تخت ثماني رجال يقاتلون بسائر السلاح.

وكان ابن الملك شجاع الزمان ما له في شجاعته نظير، وكان اسمه رعد شاه، وجهَّزَ نفسه في عشرة أيام، وساروا مثل قطع الغمام مدة شهرين من الزمان حتى وصلوا مدينة عمان وداروا حولها، وعجيب فرحان ويظن أنه ينتصر، وقد خرج الجمرقان وسعدان وجميع الأبطال في حومة الميدان، ودقَّتِ الطبول وصهلت الخيول، وأشرف على ذلك الكيلجان، ورجع أخبر الملك غريب وركب كما ذكرنا، وساق جواده ودخل بين الكفار ينتظر مَن يبرز له ويفتح باب الحرب، فبرز سعدان الغول وطلب البراز، فبرز له بطل من أبطال الهند فما أمهله سعدان في الثبات قدامه حتى ضربه بالعامود، فهشَّمَ عظمه وصار على الأرض ممدودًا، فبرز له ثانٍ فقتله، وثالث فجندله، ولم يزل سعدان يقتل حتى قتل ثلاثين بطلًا، فعند ذلك برز له بطل من الهند اسمه بطاش الأقران، وكان فارس الزمان، يُعَدُّ بخمسة آلاف فارس في الميدان للحرب والطعان، وهو عم الملك طركنان، فلما برز بطاش لسعدان قال له: يا شلح العرب، هل بلغ من قدرك أن تقتل ملوك الهند وأبطالها وتأسر فرسانها؟ اليوم آخِر أيامك من الدنيا. فلما سمع سعدان هذا الكلام احمرَّتْ عيناه وهجم على بطاش فضربه بالعمود، فخابت الضربة ولفَّ سعدان مع العمود فوقع على الأرض، فما أفاق إلا وهو مكتَّف مقيَّد، فسحبوه إلى خيامهم، فلما نظر الجمرقان إلى صاحبه أسيرًا قال: يا لدين الخليل إبراهيم، ولكز جواده وحمل على بطاش الأقران فتجاوَلَا ساعة، ثم هجم بطاش على الجمرقان فجذبه من جلبات ذراعه واقتلعه من سرجه ورماه على الأرض، فكتَّفوه وسحبوه إلى خيامهم، ولم يزل بطاش يبرز له مقدم حتى أسَرَ من المسلمين أربعة وعشرين مقدمًا، فلما نظر المسلمون إلى ذلك، اغتمُّوا غمًّا شديدًا، فلما نظر غريب ما حلَّ بأبطاله، سحب من تحت ركبته عمودًا من الذهب وزنه مائة وعشرون رطلًا، وهو عمود برقان ملك الجان. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح، فقالت لها أختها: ما أحلى حديثك وأطيبه وأحلاه وأعذبه! فقالت لها: وأين هذا ممَّا أحدِّثكم به الليلة القابلة إنْ عشتُ وأبقاني الملك؟ فقال الملك في نفسه: والله لا أقتلها حتى أسمع بقية حديثها.

﴿اللیلة 661﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك غريبًا لما نظر ما حلَّ بأبطاله، سحب عمودًا من الذهب كان لبرقان ملك الجان، ثم ساق جواده البحري فجرى تحته مثل هبوب الريح، واندفع حتى صار في وسط الميدان وصاح: الله أكبر، فتح ونصر وخذل مَن كفر بدين إبراهيم الخليل. ثم حمل على بطاش وضربه بالعمود فوقع على الأرض، فالتفت نحو المسلمين ونظر إلى أخيه سهيم الليل وقال له: كتِّفْ هذا الكلب. فلما سمع سهيم كلام غريب اندفع على بطاش فشدَّ وثاقه وأخذه وصار أبطال المسلمين يتعجبون من ذلك الفارس، وصار الكفار يقولون لبعضهم: مَن هذا الفارس الذي خرج من بينهم وأسَرَ صاحبنا؟ كل هذا وغريب يطلب البراز، فبرز له مقدم من الهنود، فضربه غريب بالعمود فوقع على الأرض ممدودًا، فكتَّفه الكيلجان والقورجان وسلَّماه إلى سهيم، ولم يزل غريب يأسر بطلًا بعد بطل حتى أسر اثنين وخمسين بطلًا مقدمين أعيانًا وقد فرغ النهار، فدقوا طبول الانفصال وطلع غريب من الميدان وقصد عسكر المسلمين، وكان أول مَن لاقاه سهيم، فقبَّلَ رجله في الركاب وقال له: لا شُلَّتْ يداك يا فارس الزمان، فأخبرنا مَن أنت مِن الشجعان؟ فعند ذلك رفع البرقع الزرد عن وجهه، فعرفه وقال سهيم: يا قوم، هذا ملككم وسيدكم غريب، وقد أتى من أرض الجان. فلما سمع المسلمون بذِكْر ملكهم، رموا أرواحهم عن ظهور الخيل وقَدِموا إليه وقبَّلوا رجلَيْه في الركاب، وسلموا عليه وفرحوا بسلامته ودخلوا به إلى مدينة عمان، ونزل على كرسي مملكته، ودار قومه حوله في غاية الفرح، ثم قدَّموا الطعام فأكلوا، وبعد ذلك حكى لهم جميع ما جرى له في جبل قاف من قبائل الجان، فتعجبوا غاية العجب وحمدوا الله على سلامته.

وكان الكيلجان والقورجان لا يفارقان غريبًا، ثم أمر غريب قومه بالانصراف إلى مراقدهم فتفرَّقوا إلى بيوتهم، ولم يَبْقَ عنده إلى الماردان، فقال لهما: هل تقدران أن تحملاني إلى الكوفة لأتملَّى بحريمي وترجعَا بي في آخِر الليل؟ فقالا: يا مولانا هذا أهون ما طلبت. وكان بين الكوفة وعمان ستون يومًا للفارس المجد، فقال الكيلجان للقورجان: أنا أحمله في الذهاب وأنت تحمله في المجيء. فحمله الكيلجان وحاذاه القورجان، فما كان إلا ساعة حتى وصلوا الكوفة وعدلوا به إلى باب القصر، فدخل على عمه الدامغ، فلما رآه قام له وسلَّمَ عليه ثم قال له: كيف حال زوجتي فخرتاج وزوجتي مهدية؟ قال: إنهما طيِّبتان بخير وعافية.

ثم دخل الخادم فأخبر الحريم بمجيء غريب، ففرحوا وزلغطوا ووهبوا للخادم بشارته، ثم دخل الملك غريب فقاموا له وسلموا عليه، ثم بعد ذلك تحدَّثوا وحضر الدامغ فحكى له ما جرى له مع الجن، فتعجب الدامغ والحريم ونام بقية الليل مع فخرتاج إلى أن قرب الفجر، فخرج إلى الماردين وودَّعَ أهله وحريمه وعمه الدامغ، ثم ركب ظهر القورجان وحاذاه الكيلجان، فما انكشف الظلام إلا وهو في مدينة عمان، ولبس آلة حربه وكذلك قومه، وأمر بفتح الأبواب، وإذا بفارس قد وصل من عسكر الكفَّار ومعه الجمرقان وسعدان الغول والمقدمون المأسورون، وقد خلصهم ثم سلَّمهم لغريب ملك المسلمين، ففرح المسلمون بسلامتهم، ثم تدرعوا وركبوا وقد دقوا كئوس الحرب واعتدوا للطعن والضرب، وركب الكفار واصطفوا صفوفًا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح، فقالت لها أختها: ما أحسن هذا الحديث وأطيبه وأحلاه وأعذبه! فقالت: وأين هذا ممَّا أحدِّثكم به الليلة القابلة إنْ عشتُ وأبقاني الملك؟ فقال الملك في نفسه: والله لا أقتلها حتى أسمع بقية حديثها.

﴿اللیلة 662﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن عسكر المسلمين لما ركبوا في الميدان للحرب والطعان، فأول مَن فتح باب الحرب الملك غريب، وسحب سيفه الماحق وهو سيف يافث بن نوح عليه السلام، وساق جواده بين الصفين ونادى: مَن عرفني فقد اكتفى شرِّي، ومَن لم يعرفني فأنا أعرِّفه بنفسي، أنا الملك غريب ملك العراق واليمن، أنا غريب أخو عجيب. فلما سمع رعد شاه ابن ملك الهند كلامَ غريب، صاح على المقدمين وقال: ائتوني بعجيب. فأتوا به، فقال له: أنت تعلم بأن هذه الفتنة فتنتك وأنت كنت السبب فيها، وهذا أخوك في حومة الميدان ومقام الحرب والطعان، فاخرج له وائتني به أسيرًا حتى أركبه على جمل بالمقلوب، وأمثِّل به حتى أصل إلى بلاد الهند. فقال له عجيب: يا ملك، أرسِلْ له غيري، فإني أصبحت ضعيفًا. فلما سمع رعد شاه كلامه شخر ونخر وقال: وحقِّ النار ذات الشرور، والنور والظل والحرور، إن لم تخرج إلى أخيك وتأتني به سريعًا، قطعت رأسك وأخمدت أنفاسك. فخرج عجيب وساق جواده وقد شجَّع قلبه وقارب أخاه في حومة الميدان وقال له: يا كلب العرب، وأخس من دق طنب، أتضاهي الملوك؟ فخذ ما جاءك وأبشر بموتك. فلما سمع الملك غريب هذا الكلام قال له: مَن أنت من الملوك؟ قال له: أنا أخوك، فاليوم آخِر أيامك من الدنيا. فلما تحقَّقَ غريب أنه أخوه عجيب صاح وقال: يا لثأر أبي وأمي! ثم أعطى الكيلجان سيفه، وحمل عليه وضربه بالدبوس ضربة جبَّار عنيد كادت أن تُخرِج أضلاعه، وقبضه من أطواقه وجذبه فاقتلعه من سرجه وضرب به الأرض، فاندفع عليه الماردان وشدَّا وثاقه ثم قادَاه ذليلًا حقيرًا؛ كل هذا وغريب قد فرح بأسر عدوه، وأنشد قول الشاعر:

بَلَغْتُ الْمُرَادَ وَزَالَ الْعَنَا        لَكَ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ يَا رَبَّنَا

نَشَأْتُ ذَلِيلًا فَقِيرًا حَقِيرًا        فَأَعْطَانِي اللهُ كُلَّ الْمُنَى

مَلَكْتُ الْبِلَادَ قَهَرْتُ الْعِبَادَ        فَلَوْلَاكَ مَا كُنْتُ يَا رَبَّنَا

فلما نظر رعد شاه ما حلَّ بعجيب من أخيه غريب، دعا بجواده ولبس آلة حربه وجلبابه، وخرج إلى الميدان وساق جواده إلى أن قارَبَ الملك غريبًا في مقام الحرب والطعان، وصاح عليه وقال: يا أخس العرب وحمَّال الحطب، بلغ من قدرك أن تأسر الملوك والأبطال؟ فانزل عن جوادك وكتِّفْ نفسك وقبِّلْ رجلي وأطلق أبطالي، وسِرْ معي إلى ملكي وأنت مقيَّد مسلسَل، حتى أعفو عنك وأجعلك شيخ بلادنا، تأكل فيها لقمة الخبز. فلما سمع غريب منه هذا الكلام ضحك حتى استلقى على قفاه وقال له: يا كلب أكلب، وذئب أجرب، سوف تنظر من تدور عليه الدوائر. ثم صاح على سهيم وقال له: ائتني بالأسارى. فأتاه بهم فضرب رقابهم، فعند ذلك حمل رعد شاه على غريب حملة صنديد، وصدمه صدمة جبَّار عنيد، ولم يزالا في كرٍّ وفرٍّ وصدام، حتى هجم الظلام، فدقوا طبول الانفصال.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح، فقالت لها أختها: ما أحسن هذا الحديث وأطيبه وأحلاه وأعذبه! فقالت: وأين هذا ممَّا أحدِّثكم به الليلة القابلة إنْ عشتُ وأبقاني الملك؟ فقال الملك في نفسه: والله لا أقتلها حتى أسمع بقية حديثها.

﴿اللیلة 663﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أنهم لما دقوا طبول الانفصال، وافترقا من بعضهما، ذهب كل ملك إلى موضعه فهنوهما بالسلامة، فقال المسلمون للملك غريب: ما هي عادتك يا ملك أن تطاول في القتال! فقال: يا قوم، قاتلتُ الأبطال والأفيال، فما رأيت أحسن ضربًا من هذا البطل، وكنت أردتُ أن أسحب سيف يافث وأضربه فأهشِّم عظامه وأفني أيامه، ولكن طاولته ظنًّا مني أني آخذه أسيرًا، ويكون له حظ في الإسلام.

هذا ما كان من أمر غريب، وأما ما كان من أمر رعد شاه، فإنه دخل السرادق وجلس على سريره، ودخل عليه كبراء قومه فسألوه عن خصمه فقال لهم: وحقِّ النار ذات الشر، ما رأيت عمري مثل هذا البطل، وفي غدٍ آخذه أسيرًا وأقوده ذليلًا حقيرًا. وباتوا إلى الصباح، فدقوا طبول الحرب واعتدوا للطعن والضرب، وتقلَّدُوا الصفاح، وأقاموا الصياح، وركَبَا الجرد القوارح، وخرجوا من الخيام فملئوا الأرض والآكام والبطاح والأماكن الفساح، وكان أول مَن فتح باب الحرب والطعان الفارس المقدام والأسد الضرغام الملك غريب، فجال وصال وقال: هل من مبارز؟ هل من مناجز؟ لا يخرج لي اليومَ كسلان ولا عاجز. فما استتم كلامه حتى برز له رعد شاه وهو راكب على فيل كأنه قبة عظيمة، وعلى ظهر الفيل تخت مخرم بشرائط حرير، والفيَّال راكب بين آذان الفيل، وفي يده كلَّاب يضرب به الفيل، ويهتز يمينًا وشمالًا، فلما قرب الفيل من جواد غريب وقد نظر الجواد شيئًا ما رآه قطُّ فجفل منه، فنزل غريب عنه وسلَّمَه للكيلجان وسحب سيفه الماحق وتقدَّمَ نحو رعد شاه ماشيًا على أقدامه حتى صار قدام الفيل، وكان رعد شاه إذا رأى نفسه مغلوبًا مع بطل من الأبطال يركب في تخت الفيل، ويأخذ معه شيئًا اسمه الوهق، وهو في هيئة الشبكة واسع من أسفل وضيق من فوق، وفي ذيله حلق وفيه قنب حرير، فيقصد الفارس والفرس ويضعه عليهما ويسحب القنب، فينزل عن الجواد راكِبُه، فيأخذه أسيرًا وقد قهر الفرسان بهذا الشأن. فلما قارب غريب رفع يده بالوهق وفرشه على غريب، فانتشر عليه وسحبه فصار عنده على ظهر الفيل، وصاح على الفيل أن يرد إلى عسكره، وكان الكيلجان والقورجان ما يفارقان غريبًا، فلما رأيَا ما حلَّ بصاحبهما أمسكا الفيل، كل هذا وغريب قد تمطع في الوهق فمزَّقَه، وهجم الكيلجان والقورجان على رعد شاه وكتَّفَاه وقاداه في حبل ليف، وقد حمل الناس على بعضهم كأنهم بحران يلتطمان أو جبلان يصطدمان، والغبار قد طلع إلى عنان السماء، وعاين العسكران العمى وقوي الحرب وسالت الدماء، ولم يزالوا في حرب شديد وطعن أكيد، وضرب ما عليه من مزيد، حتى ولَّى النهار وأقبل الليل بالاعتكار، فدقوا طبول الانفصال، وافترقوا من بعضهم.

وكان المسلمون حاضرين في ذلك اليوم، وقد قُتِل منهم جماعة كثيرة وجُرِح أكثرهم، وذلك من ركاب الفِيَلة والزرافات، فصعبوا على غريب، فأمر أن يُدَاوَى الجرحى، والتفت إلى كبار جماعته وقال: ما عندكم من الرأي؟ قالوا: يا ملك، ما ضرنا إلا الفِيَلة والزرافات، فلو سلمنا منهم كنَّا غلبناهم. فقال الكيلجان والقورجان: نحن الاثنان نسحب سيوفنا ونهجم عليهم فنقتل أكثرهم. فتقدَّمَ رجل من أهل عمان، وكان صاحب رأي عند الجلند وقال: يا ملك، ضمان هذا العسكر عليَّ إذا طاوعتَني وسمعتَ مني. فالتفت غريب إلى المقدمين وقال: مهما قاله لكم هذا المعلم فأطيعوه. فقالوا: سمعًا وطاعةً. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 664﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك غريبًا لما قال للمقدمين: كل ما قاله لكم هذا المعلم فأطيعوه. قالوا: سمعًا وطاعةً. فاختار ذلك الرجل عشرة مقدمين وقال: ما تحت أيديكم من الأبطال؟ فقالوا: عشرة آلاف بطل. فأخذهم ودخل دار السلاح فأعطى خمسة آلاف منهم بندقيات وعلَّمَهم كيفية الرمي بها، فلما لاح الفجر جهَّزَ الكفار أرواحهم وقدَّموا الفِيَلة والزرافات، ورجالهم حاملون السلاح الكامل، وقدموا الوحوش وأبطالهم قدام العسكر، وركب غريب وأبطاله واصطفوا صفوفًا، ودقت الكاسات وقدمت السادات، وتقدَّمَ الوحوش والفِيَلة، فصاح الرجل على الرماة، فاشتغلوا بالسهام والبندقيات، فخرج النبل والرصاص فدخلت في أضلاع الوحوش، فصاحت الوحوش وانقلبت على الأبطال والرجال وداستهم بأرجلها، ثم هجم المسلمون على الكفار وأحاطوا بهم من الشمال إلى اليمين، وداستهم الفِيَلة وشتَّتَهم في البراري والقفار، وسار المسلمون في أقفيتهم بالسيوف المهندة، فما سلم من الفِيَلة والزرافات إلا القليل، ورجع الملك غريب وقومه فَرِحين بالنصر، فلما أصبحوا فرَّقوا الغنائم وقعدوا خمسة أيام.

ثم بعد ذلك جلس الملك غريب على كرسي المملكة، وطلب أخاه عجيبًا وقال له: يا كلب، ما لك تحشد علينا الملوك، والقادر على كل شيء ينصرني عليك؟ فاسلم تسلم وأترك لك ثأر أبي وأمي من أجل ذلك، وأجعلك ملكًا كما كنتَ وأكون أنا من تحت يدك. فلما سمع عجيب كلام غريب قال له: ما أفارق ديني. فجعله في قيد حديد ووكَّلَ به مائة عبد شديد، والتفت إلى رعد شاه وقال له: ما تقول في دين الإسلام؟ فقال: يا مولاي، أنا أدخل في دينكم، ولولا أنه دين صحيح مليح ما غلبتونا، امدد يدك وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن الخليل إبراهيم رسول الله. ففرح غريب بإسلامه وقال له: هل ثبتت في قلبك حلاوة الإيمان؟ قال: نعم يا مولاي. ثم قال له غريب: يا رعد شاه، هل تمضي إلى بلادك وملكك؟ فقال: يا ملك، يقتلني أبي لأني خرجت من دينه. فقال غريب: أنا أسير معك وأملكك الأرض حتى تطيعك البلاد والعباد بعون الله الكريم الجواد. فقبَّلَ يده ورجله، ثم أنعم على صاحب الرأي الذي هو سبب انهزام العدو وأعطاه أموالًا كثيرة، والتفت إلى الكيلجان والقورجان وقال لهما: يا أرهاط الجن. قالا: لبيك. قال: مرادي أن تحملاني إلى بلاد الهند. فقَالَا: سمعًا وطاعةً. فأخذ معه الجمرقان وسعدان وحملهما القورجان، وحمل الكيلجان غريبًا ورعد شاه، وقصَدَا أرض الهند. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح، فقالت لها أختها: ما أحسن حديثك وأطيبه وأحلاه وأعذبه! فقالت: وأين هذا ممَّا أحدِّثكم به الليلة القابلة إنْ عشتُ وأبقاني الملك؟ فقال الملك في نفسه: والله لا أقتلها حتى أسمع بقية حديثها.

﴿اللیلة 665﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك غريبًا والجمرقان وسعدان الغول ورعد شاه لما حملهم الماردان، وقصَدَا بهم أرض الهند، وكان المسير وقت الغروب، فما جاء آخِر الليل إلا وهم في كشمير، فأنزلاهم في قصر وانحدروا من سلالم القصر، وكان طركنان بلغه الخبر من المنهزمين بما جرى لابنه وعسكره، وأنهم في همٍّ عظيم، وأن ابنه لا ينام ولا يلتذُّ بشيء، فصار متفكِّرًا في أمره وما جرى له، وإذا بالجماعة دخلوا عليه، فلما نظر الملك ابنه ومَن معه بُهِت، وأخذه الفزع من المَرَدة، والتفت إليه ابنه رعد شاه فقال له: إلى أين يا غدار، يا عابد النار، يا ويلك، فاترك عبادة النار واعبد الملك الجبَّار، خالق الليل والنهار، الذي لا تدركه الأبصار. فلما سمع أبوه هذا الكلام، كان معه دبوس حديد فرماه به، فخلا عنه ووقع في ركن القصر، فهدم ثلاثة أحجار وقال له: يا كلب، أهلكت العساكر وضيَّعْتَ دينك وجئتَ تُخرِجني من ديني؟ فتلقَّاه غريب ولكمه في عنقه فرماه، فشد الكيلجان والقورجان وثاقه وهرب الحريم جميعًا. ثم إنه جلس على كرسي مملكته وقال لرعد شاه: اعدل أباك. فالتفت إليه وقال له: يا شيخ الضلال، أسلم تسلم من النار ومن غضب الجبَّار. فقال طركنان: ما أموت إلا على ديني. فعند ذلك سحب غريب سيفه الماحق وضربه به، فوقع على الأرض شطرين، وعجَّلَ الله بروحه إلى النار وبئس القرار، ثم أمر بتعليقه على باب القصر، فعلَّقوه وجعلوا شطرًا يمينًا وشطرًا شمالًا، وباتوا حتى فرغ النهار، فأمر غريب رعد شاه أن يلبس بدلة الملك، فلبس وجلس على تخت أبيه، وقعد غريب عن يمينه، ووقف الكيلجان والقورجان والجمرقان وسعدان الغول يمينًا وشمالًا، وقال لهم الملك غريب: كلُّ مَن دخل من الملوك اربطوه ولا تخلوا مقدمًا ينفلت من أيديكم. فقالوا: سمعًا وطاعةً.

ثم بعد ذلك طلع المقدمون وقصدوا الملك لأجل الخدمة، فأول مَن طلع المقدم الكبير، فنظر الملك طركنان معلَّقًا شطرين، فاندهش وحار ولحقه الانبهار، فهمَّ عليه الكيلجان وجذبه من أطواقه فرماه وكتَّفه، ثم جذبه إلى داخل القصر، ثم ربطه وسحبه، فما طلعت الشمس حتى ربط ثلاثمائة وخمسين مقدمًا، وأوقفهم بين يدي غريب فقال لهم: يا قوم، هل نظرتم ملككم وهو معلَّق على باب القصر؟ فقالوا: مَن فعل به هذه الفعال؟ فقال غريب: أنا فعلتُ به ذلك بعون الله تعالى، ومَن خالفني فعلتُ به مثله. فقالوا: ما تريد منَّا؟ فقال: أنا غريب ملك العراق، أنا الذي أهلكتُ أبطالكم، وإن رعد شاه دخل في دين الإسلام، وصار ملكًا عظيمًا وحاكمًا عليكم، فأسلموا تسلموا، ولا تخالفوا تندموا. فنطقوا بالشهادة وكُتِبوا من أهل السعادة، فقال غريب: هل صحَّتْ في قلوبكم حلاوة الإيمان؟ قالوا: نعم. فأمر بحلهم فحلوهم، فخلع عليهم وقال لهم: امضوا إلى قومكم واعرضوا عليهم الإسلام، فمَن أسلم فأبقوه ومَن أبَى فاقتلوه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح، فقالت لها أختها: ما أحلى هذا الحديث وأطيبه وأعذبه! فقالت: وأين هذا ممَّا أحدِّثكم به الليلة القابلة إنْ عشتُ وأبقاني الملك؟ فقال الملك في نفسه: والله لا أقتلها حتى أسمع بقية حديثها.

﴿اللیلة 666﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك غريبًا لما قال لعسكر رعد شاه: امضوا إلى قومكم واعرضوا عليهم دين الإسلام، فمَن أسلم فأبقوه ومَن أَبَى فاقتلوه، فمضوا وجمعوا رجالهم الذين تحت أيديهم ويحكمون عليهم وأعلموهم بما كان، ثم عرضوا عليهم الإسلام فأسلموا إلا قليلًا فقتلوهم وأخبروا غريبًا بذلك، فحمد الله تعالى وأثنى عليه وقال: الحمد لله الذي هوَّنَ علينا من غير قتال. وأقام غريب في كشمير الهند أربعين يومًا حتى مهَّدَ البلاد، وأخرب بيوت النار وأماكنها، وبنى في مواضعها مساجدَ وجوامعَ، وقد حزم رعد شاه من الهدايا والتحف شيئًا كثيرًا لا يُوصَف وأرسله في المراكب، ثم ركب غريب على ظهر الكيلجان، وركب سعدان الجمرقان على ظهر القورجان بعد أن ودَّعوا بعضهم، وساروا إلى آخِر الليل، فما لاح الفجر إلا وهم في مدينة عمان، فتلقَّاهم قومهم وسلَّموا عليهم وفرحوا بهم، فلما وصل غريب إلى باب الكوفة أمر بإحضار أخيه عجيب، فأحضروه وأمر بصلبه، فأحضر له سهيم كلاليب من حديد، وجعلها في عراقيبه وعلَّقوه على باب الكوفة، ثم أمر برميه بالنبال، فرموه بها حتى صار كالقنفذ، ثم دخل الكوفة ودخل قصره وجلس على تخت ملكه، فحكم ذلك اليوم حتى فرغ النهار، ثم دخل على حريمه فقامت له كوكب الصباح واعتنقته وكذلك الجواري يهنِّئْنَه بالسلامة، ثم أقام عند كوكب الصباح ذلك اليوم وتلك الليلة. فلما أصبح الصباح قام واغتسل وصلَّى صلاة الصبح، وجلس على سرير ملكه وشرع في عرس مهدية، فذبح ثلاثة آلاف رأس من الغنم، وألفين من البقر، وألفًا من المعز، وخمسمائة من الجمال، وأربعة آلاف من الدجاج، ومن الأرز كثيرًا، ومن الخيل خمسمائة، وكان هذا العُرْس لم يُعمَل مثله في الإسلام في ذلك الزمان. ثم دخل غريب على مهدية وأزال بكارتها، وقعد في الكوفة عشرة أيام، ثم وصَّى عمه بالعدل في الرعية، وسار بحريمه وأبطاله حتى وصل إلى مراكب الهدايا والتحف، فغرِّقها بجميع ما فيها، واستغنت الأبطال بالأموال، ولم يزالوا في سيرهم حتى وصلوا إلى مدينة بابل، فخلع على أخيه سهيم الليل وجعله فيها سلطانًا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 667﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك غريبًا لما خلع على أخيه سهيم خلعة وجعله سلطانًا فيها، أقام عنده عشرة أيام ثم رحل، ولم يزالوا سائرين حتى وصلوا إلى حصن سعدان الغول، فاستراحوا خمسة أيام، ثم إن غريبًا قال للكيلجان والقورجان: امضيَا إلى إسبانير المدائن وادخلا قصر كسرى، واكشفا لي خبر فخرتاج، وهاتيا لي رجلًا من أقارب الملك يخبرني بما جرى. فقالا: سمعًا وطاعةً. ثم إنهما سارَا الاثنان إلى إسبانير المدائن، فبينما هما سائران بين السماء والأرض، وإذا هما بعسكر جرار مثل البحر الزاخر، فقال الكيلجان لقورجان: انزل بنا لنكشف خبر هذا العسكر، فنزلا ومشيا بين العساكر، فوجداهم أعجامًا، فسألا بعض الرجال: مَن هذا العسكر؟ وإلى أين سائرون؟ فقالوا لهما: إلى غريب نقتله ونقتل كلَّ مَن معه. فلما سمعا هذا الكلام توجَّهَا إلى سرادق الملك المقدم عليهم وكان اسمه رستم، وصبرا حتى نام الأعجام في مراقدهم، ونام رستم على تخته، فحملوه بتخته وتجاوزا الحصن، فما جاء نصف الليل إلا وهم في خيام الملك غريب، فعند ذلك تقدَّمَا إلى باب السرادق وقالا: دستور. فلما سمع غريب ذلك الكلام جلس وقال: ادخلوا. فدخلا بذلك التخت ورستم راقد عليه، فقال لهم غريب: مَن يكون هذا؟ فقالا: هذا ملك من ملوك العجم، ومعه عسكر عظيم، وقد أتى يريد قتلك أنت وقومك، وقد جئناك به ليخبرك عمَّا تريد. فقال غريب: ائتوني بمائة بطل. فأتوا بهم، فقال: اسحبوا سيوفكم وقفوا على رأس هذا العجمي. ففعلوا ما أمرهم به ونبَّهوه، ففتح عينيه فوجد على رأسه قبة من سيوف، فغمض عينيه وقال: أي شيء هذا المنام القبيح؟ فوكزه الكيلجان بذباب السيف فقعد، فقال له رستم: أين أنا؟ فقال: أنت في حضرة الملك غريب صهر ملك العجم، فما اسمك؟ وإلى أين تذهب؟ فلما سمع اسم غريب تفكَّرَ وقال في نفسه: هل أنا نائم أم يقظان؟ فضربه سهيم وقال له: لِمَ لا ترد الكلام. فرفع رأسه وقال: مَن أتى بي من خيمتي وأنا بين رجالي؟ فقال غريب: جاء بك هذان الماردان. فلما نظر إلى الكيلجان والقورجان تغوَّطَ في لباسه، فهمَّ عليه الماردان وقد كشَّرَا عن أنيابهما وسحبا سيوفهما وقالا له: أَمَا تتقدَّم تقبِّل الأرض قدام الملك غريب؟ فارتعب من الماردين وتحقَّقَ أنه غير نائم، فوقف على أقدامه وقبَّلَ الأرض وقال: باركت النار فيك، وطال عمرك يا ملك. فقال غريب: يا كلب العجم، النار ليست معبودًا؛ لأنها تضر ولا تنفع إلا للطعام. فقال: فمَن هو المعبود؟ فقال غريب: المعبود الذي خلَّقك وصوَّرك وخلق السموات والأرض. فقال الأعجمي: فما أقول حتى أصير من حزب ذلك الرب وأدخل في دينكم؟ فقال غريب: تقول لا إله إلا الله إبراهيم خليل الله. فنطق بالشهادة، فكُتِب من أهل السعادة وقال: اعلم يا مولاي أن صهرك الملك سابور طلب قتلك، وقد بعثني في مائة ألف، وأمرني ألَّا أُبقِي منكم أحدًا.

فلما سمع غريب كلامه قال: أهذا جزائي حيث خلَّصْتُ ابنته من الضيق ومن الردى؟ ولكن يجازيه الله بما أضمره، ولكن فما اسمك؟ قال: رستم مقدم سابور. فقال له غريب: وكذلك مقدم عسكري. ثم قال له: يا رستم، كيف حال الملكة فخرتاج؟ فقال له: تعيش رأسك يا ملك الزمان. فقال: ما سبب موتها؟ قال: يا مولاي، لما سرتَ إلى أخيك، أتَتْ جاريةٌ للملك سابور صهرك وقالت له: يا سيدي، أأنت أمرتَ غريبًا أن ينام عند سيدتي فخرتاج؟ قال: لا وحقِّ النار. ثم إنه سحب سيفه ودخل عليها وقال لها: يا خبيثة، كيف خلَّيْت هذا البدوي ينام عندك، ولا أعطاك مهرًا ولا عمل عُرْسًا؟ قالت له: يا أبتِ، أنت أذنت له أن ينام عندي. فقال لها: هل قرب منكِ؟ فسكتَتْ وأطرقَتْ رأسها إلى الأرض. فصاح على القوابل والجواري وقال لهن: كتِّفْنَ هذه العاهرة وابصرن فَرْجها. فكتَّفْنَها وأبصرْنَ فَرْجها وقلن: يا ملك، قد ذهبَتْ بكارتها. فحمل عليها وأراد قتلها، فقامت أمها ومنعت عنها وقالت: يا ملك، لا تقتلها فتبقى معيَّرة، ولكن احبسها في مخدع حتى تموت. فحبسها حتى هجم الليل، فأرسلها مع اثنين من خواصه وقال لهما: ابعدا بها وألقياها في بحر جيحون ولا تخبرَا أحدًا. ففعَلَا ما أمرهما وقد خفي ذِكْرها ومضى زمانها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 668﴾

قالت: بلغني أيها الملك، أن غريبًا لما سأل عن فخرتاج أخبره رستم بخبرها، وأن أباها غرَّقها في البحر، فلما سمع غريب كلامه اسودَّتِ الدنيا في عينَيْه، وساءت أخلاقه وقال: وحقِّ الخليل لأسيرن إلى هذا الكلب وأهلكه وأخرب دياره. ثم أرسل الكتب للجمرقان ولصاحب ميافارقين ولصاحب الموصل، ثم التفت إلى رستم وقال له: كم معك من العسكر؟ فقال له: معي ألف من فرسان العجم. فقال له: خذ معك عشرة آلاف وسِرْ إلى قومك وشاغلهم بالحرب، وأنا على إثرك. فركب رستم في عشرة آلاف فارس من عسكره، ثم سافر إلى قومه وقال في نفسه: إني أعمل عملًا يبيِّض وجهي عند الملك غريب. فسار رستم سبعة أيام وقد قرب من عسكر العجم، وبقي بينه وبينهم نصف يوم، ففرَّقَ أربع فِرَق وقال لهم: دوروا حول العسكر وأوقعوا فيهم السيف. فقالوا: سمعًا وطاعةً. فركبوا من العشاء إلى نصف الليل حتى داروا حول العسكر، وكانوا آمنين بعد فَقْدِ رستم من بينهم، فهجم عليهم المسلمون وصاحوا: الله أكبر. فقام الأعجام من النوم، ودار فيهم الحسام، وزلَّتْ منهم الأقدام، وغضب عليهم الملك العلَّام، وعمل فيهم رستم مثل عمل النار في الحطب اليابس، فما فرغ الليل إلا وعسكر العجم ما بين قتيل وهارب ومجروح، وغنم المسلمون الثقل والخيام وخزائن الأموال والخيل والجمال، ثم نزلوا في خيام الأعجام واستراحوا حتى أقبل الملك غريب، ونظر ما فعل رستم وكيف دبَّرَ الحيلة وقتل الأعجام وكسر عسكرهم، فخلع عليه وقال له: يا رستم، أنت الذي كسرتَ العجم فجميع الغنيمة لك. فقبَّلَ يدَ الملك وشكره واستراحوا يومهم، ثم ساروا طالبين ملك العجم، ووصل المهزومون ودخلوا على الملك سابور، وشكوا له الويل والثبور وعظائم الأمور، فقال لهم سابور: ما الذي دهاكم؟ ومَن بِشَرِّه رماكم؟ فحكوا له ما جرى، وكيف هُجِم عليهم في ظلام الليل، فقال سابور: ومَن الذي هجم عليكم؟ فقالوا: ما هجم إلا مقدم عسكرك؛ لأنه أسلم، وأما غريب فلم يَأْتِنا.

فلما سمع الملك بذلك رمى تاجه على الأرض وقال: ما بقي لنا قيمة. ثم التفت إلى ولده وردشاه وقال: يا ولدي، ما لهذا الأمر إلا أنت. فقال وردشاه: وحياتك يا والدي لا بد من أن أجيء بغريب وكبراء قومه في الحبال، وأُهلِك كلَّ مَن كان معه. وأَحْصَى عسكره فوجدهم مائتَيْ وعشرين ألفًا، وباتوا على نية الرحيل، وقد أصبح الصباح وأرادوا أن يرحلوا وإذا هم بغبار قد ثار حتى سدَّ الأقطار، وقد حجب أَعْيُن النظَّار، وكان الملك سابور راكبًا لوداع ولده، فلما نظر إلى هذا العجاج العظيم صاح على ساعٍ وقال: اكشف لي خبر هذا الغبار. فراح وعاد ثم قال: يا مولاي، قد أتى غريب وأبطاله. فعند ذلك حطوا الأحمال واصطفَّ الرجال للحرب والقتال، فلما أقبل غريب على إسبانير المدائن ونظر الأعجام وقد عزموا على الحرب والكفاح، ندب قومه وقال: احملوا باركت النار فيكم. فعندها هزوا العلم، وانطبقت العرب والعجم، والأمم على الأمم، وجرى الدم وانسجم، وعاينت النفوس العدم، وتقدَّم الشجاع وهجم، وولَّى الجبان وانهزم، ولم يزالوا في حرب وقتال، حتى ولَّى النهار، فدقوا طبول الانفصال، وافترقوا من بعضهم، وأمر الملك سابور أن ينصبوا الخيام على باب المدينة، وكذلك الملك غريب نصب خيامه قبال خيام الأعجام، ونزل كل واحد في خيامه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 669﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن عسكر الملك غريب وعسكر الملك سابور لما انفصلوا من بعضهم ذهب كل واحد إلى خيامه حتى أصبح الصباح، ثم ركبوا الجرد القراح وأقاموا الصياح، وقد حملوا الرماح، ولبسوا عدة الكفاح، وتقدَّم كل بطل جحجاح، وليث وقاح، فأول مَن فتح باب الحرب رستم، فقدَّمَ جواده إلى وسط الميدان وصاح: الله أكبر، أنا رستم مقدم أبطال العرب والعجم، هل من مبارز؟ هل من مناجز؟ لا يبرز لي اليومَ كسلان ولا عاجز. فبرز له طومان من العجم، وحمل على رستم، ورستم حمل عليه، ووقع بينهما حملات منكرات، فوثب رستم على غريمه وضربه بعمودٍ كان معه وزنه سبعون رطلًا، فخسف رأسه في صدره، فوقع على الأرض قتيلًا، وفي دمه غريقًا، فما هان ذلك على الملك سابور، فأمر قومه بالحملة، فحملوا على المسلمين واستغاثوا بالشمس ذات الأنوار، واستغاث المسلمون بالملك الجبَّار، وتكاثَرَ العجم على العرب وسقوهم كأس العطب، فعند ذلك صاح غريب وتقدَّمَ بهمته، وسحب سيفه الماحق سيف يافث، وحمل على الأعجام، وكان الكيلجان والقورجان بركاب الملك غريب، ولم يزل مُكِرًّا بسيفه حتى وصل إلى رافع العلم، فضربه على رأسه صفحًا، فوقع في الأرض مغشيًّا عليه، فأخذه الماردان إلى خيامهم، فلما نظرت الأعجام العلم قد وقع ولَّوْا هاربين، وإلى أبواب المدينة طالبين، فتبعهم المسلمون بالسيوف حتى وصلوا إلى الأبواب وازدحموا فيها، فمات منهم خلق كثير، ولم يقدروا على غلق الأبواب، فهجم رستم والجمرقان وسعدان وسهيم والدامغ والكيلجان والقورجان وجميع أبطال المسلمين وفرسان الموحدين، على الأعجام والمارقين في الأبواب، وجرى الدم من الكفار وفي الأزقة مثل التيار، فعند ذلك نادوا الأمان، فرفعوا السيف عنهم فرموا سلاحهم وعُدَدهم وساقوهم سوق الغنم إلى خيامهم.

وكان غريب قد رجع إلى سرادقه وقلع سلاحه ولبس ثياب العز، بعدما اغتسل من دم الكفار، وقعد على تخت مُلْكه وطلب ملك العجم، فجاءوا به وأوقفوه بين يدَيْه، فقال له: يا كلب العجم، ما حملك على ما فعلتَ بابنتك؟ كيف تراني لا أصلح لها بعلًا؟ فقال: يا ملك، لا تؤاخذني بما فعلتُ، فإني ندمتُ وما واجهتك بالقتال إلا خوفًا منك. فلما سمع غريب هذا الكلام أمر أن يَسْطَحوه ويضربوه، ففعلوا ما أمرهم به حتى قطع الأنين، ثم أدخلوه عند المحبوسين، ثم دعا بالأعجام وعرض عليهم الإسلام، فأسلم منهم مائة وعشرون ألفًا، والباقي راحوا على السيف، وأسلم كلُّ مَن في المدينة من الأعجام، وركب غريب في موكب عظيم، ودخل إسبانير المدائن وجلس على كرسي سابور ملك العجم، وخلع ووهب وفرَّقَ الغنيمة والذهب وفرَّقَ على الأعاجم، فأحبوه ودعوا له بالنصر والعز والبقاء. ثم إن أم فخرتاج تذكَّرَتْ بنتها وأقامت العزاء وامتلأ القصر بالصراخ والصياح، فسمعهم غريب فدخل عليهم وقال: ما خبركم؟ فتقدَّمَتْ أم فخرتاج وقالت له: يا سيدي، إنك لما حضرتَ تذكَّرْتُ ابنتي وقلت: لو كانت طيبة كانت فرحَتْ بقدومك. فبكى غريب عليها وجلس على تخته وقال: ائتوني بسابور. فأتوا به وهو يحجل في القيود فقال له: يا كلب العجم، ما فعلتَ بابنتك؟ قال: أعطيتها لهذا وهذا وقلت لهما: غرِّقاها في بحر جيحون. فدعا غريب بالرجلين وقال لهما: هل ما ذكره هذا حق؟ قالا: نعم، ولكن يا ملك ما غرَّقناها، بل شفقنا عليها وتركناها على شاطئ جيحون، وقلنا لها: اطلبي النجاة لنفسك ولا ترجعي إلى المدينة فيقتلك ويقتلنا معك، وهذا ما عندنا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 670﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الرجلين لما حكيَا للملك غريب على قصة فخرتاج وقالا له: تركناها على شاطئ بحر جيحون. فلما سمع غريب منهم هذا، دعا بالمنجمين فحضروا، فقال لهم: اضربوا لي تخت رمل وانظروا حال فخرتاج، هل هي في قيد الحياة أو ماتت؟ فضربوا تخت رمل وقالوا: يا ملك الزمان، ظهر لنا أن الملكة في قيد الحياة، وقد جاءت بولدٍ ذَكَر، وهما عند طائفة من الجان، ولكن تغيب عنك عشرين سنة، فاحسب كم لك في سفرتك؟ فحسب مدة الغيبة فكانت ثماني سنين، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وبعث رسلًا إلى القلاع والحصون التي في حكم سابور، فأتوا طائعين. فبينما هو جالس في قصره إذ نظر غبارًا ثار حتى سدَّ الأقطار وأظلم الآفاق، فصاح على الكيلجان والقورجان وقال: ائتياني بخبر هذا الغبار. فسار الماردان ودخلا تحت الغبار وخطفا فارسًا من الفرسان، وأتيا به إلى غريب وأوقفاه بين يديه وقالا له: اسأل هذا فإنه من العسكر. فقال له غريب: لمَن هذا العسكر؟ فقال: يا ملك، إن هذا الملك وردشاه صاحب شيراز أتى يقاتلك.

وكان السبب في ذلك أن سابور ملك العجم لما وقعت الوقعة بينه وبين غريب، وجرى ما جرى، قد هرب ابن الملك سابور في شرذمة من عسكر أبيه، فسار حتى وصل إلى مدينة شيراز، ودخل على الملك وردشاه وقبَّلَ الأرض ودموعه نازلة على خدوده. فقال له: ارفع رأسك يا غلام وقل لي ما يُبكِيك؟ فقال: يا ملك، ظهر لنا ملك من العرب اسمه غريب، أخذ مُلْكَ أبي، وقتل الأعجام وسقاهم كأس الحمام. وحكى له ما جرى من غريب من أوله إلى آخره. فلما سمع وردشاه كلام ابن سابور قال: هل امرأتي طيبة؟ فقال له: أخذها غريب. فعند ذلك قال: وحياة رأسي ما بقيت أُبقِي على وجه الأرض بدويًّا ولا مسلمًا. ثم كتب الكتب وأرسلها إلى نوَّابه فأقبلوا، فعدَّهم فوجدهم خمسة وثمانين ألفًا، ثم فتح الخزائن وفرَّق على الرجال الدروعَ وآلاتِ السلاح، وسار بهم حتى وصلوا إلى إسبانير المدائن ونزلوا جميعهم قبال باب المدينة، فتقدَّمَ الكيلجان والقورجان وقبَّلَا ركبة غريب وقالا: يا مولانا، اجبر قلوبنا واجعل هذا العسكر من قسمنا. فقال لهما: دونكما وإياهم. فعند ذلك طار الماردان حتى نزلا على سرادق وردشاه، فوجداه على كرسي عزِّه، وابن سابور جالس على يمينه، والمقدمون حوله صفَّان، وهم يتشاورون على قتل المسلمين؛ فتقدَّمَ الكيلجان وخطف ابن سابور، والقورجان خطف وردشاه وسارا بهما إلى غريب، فأمر بضربهما حتى غابا عن الوجود، ثم عاد الماردان وسحبا سيفين، كل سيف لا يقدر أحد أن يحمله، وحطَّا في الكفار وعجَّلَ الله بأرواحهم إلى النار وبئس القرار، فلم تنظر الكفار سوى سيفين يلمعان ويحصدان الرجال حصد الزرع ولا يرون أحدًا، ففاتوا خيامهم وساروا على مجرد الخيل، فتبعاهم يومين وقد أفنيَا منهم خلقًا كثيرًا، ورجع الماردان فقبَّلَا يد غريب، فشكرهما على ما فعلَا وقال لهما: غنيمة الكفار لكما وحدكما لا يشارككما فيها أحد. فدعوَا له وانصرفا ولمَّا أموالهما واطمأنَّا في أوطانهما. هذا ما كان من أمر غريب وقومه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 671﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن غريبًا بعدما هزم عسكر وردشاه أمر الكيلجان والقورجان أن يأخذا أموالهم غنيمة، ولم يشاركهما فيها أحد، فجمعا أموالهما وقعدا في أوطانهما، وأما الكفار فإنهم لم يزالوا في هزيمتهم حتى وصلوا إلى شيراز، وأقاموا العزاء على مَن قُتِل منهم، وكان للملك وردشاه أخ اسمه سيران الساحر، ليس في زمانه أسحر منه، وكان منعزلًا عن أخيه في حصنٍ من الحصون كثيرِ الأشجار والأنهار والأطيار والأزهار، وكان بينه وبين مدينة شيراز نصف يوم، فسار القوم المنهزمون إلى الحصن ودخلوا على سيران الساحر وهم باكون صارخون، فقال لهم: ما أبكاكم يا قوم؟ فأعلموه بالخبر وكيف خطف الماردان أخاه وردشاه وابن سابور، فلما سمع سيران هذا الكلام صار الضياء في وجهه ظلامًا وقال: وحقِّ ديني لأقتلنَّ غريبًا ورجاله، ولا أترك منهم ديَّارًا ولا مَن يرد الأخبار. ثم إنه تلا كلمات وطلب الملك الأحمر، فحضر فقال له: امضِ إلى إسبانير المدائن واهجم على غريب وهو جالس على سريره. فقال له: سمعًا وطاعةً.

ثم إنه سار حتى وصل إلى الملك غريب، فلما رآه غريب سحب سيفه الماحق وحمل عليه، وكذلك الكيلجان والقورجان وقصدا عسكر الملك الأحمر، فقتلوا منهم خمسمائة وثلاثين، وجرحوا الملك الأحمر جرحًا بالغًا، فولَّى هاربًا وولَّى قومه مجروحين، ولم يزالوا سائرين حتى وصلوا حصن الفواكه، ودخلوا على سيران الساحر وهم يدعون بالويل والثبور، فقالوا له: يا حكيم، إن غريبًا معه سيف يافث بن نوح المطلسم، فكلُّ مَن ضربه به قصمه، ومعه ماردان من جبل قاف قد أعطاه إياهما الملك مرعش، وهو الذي قتل برقان حين دخل جبل قاف، وقتل الملك الأزرق وأفنى من الجن شيئًا كثيرًا. فلما سمع الساحر كلام الملك الأحمر قال له: امضِ. فمضى إلى حال سبيله، ثم إن الساحر عزم وأحضر ماردًا اسمه زعازع، وأعطاه قدرَ درهم بنج طيَّار وقال: امضِ إلى إسبانير المدائن واقصد قصر غريبٍ، وتصوَّرْ في صورة عصفور، وارصده حتى ينام ولا يبقى عنده أحد، فخذ البنج وحطَّه في أنفه وائتني به. فقال: سمعًا وطاعة. وسار حتى وصل إلى إسبانير المدائن وقصد قصر غريب وهو في صورة عصفور، وقعد في طاقة من طيقان القصر، وصبر حتى دخل الليل وذهب الملوك إلى مراقدهم، ونام غريب على تخته، وصبر المارد حتى نام غريب، فنزل وأخرج البنج المطحون وذرَّه في أنفه فخمدت أنفاسه، فلفَّه في ملاءة الفرش وحمله ومرق به مثل الريح العاصف، فما جاء نصف الليل إلا وهو في حصن الفواكه، ودخل به على سيران الساحر، فشكره على فعله وأراد أن يقتله وهو في حالة تبنيجه فنهاه رجل من قومه عن قتله وقال له: يا حكيم، إنك إن قتلته أخرب ديارَنا الجان؛ لأن الملك مرعش صاحبه يحمل علينا بكل عفريت عنده. قال له: وما نصنع به؟ فقال: ارمه في جيحون وهو مبنَّج، فلا يدري مَن رماه، ويغرق ولا يعلم به أحد. فأمر المارد أن يحمل غريبًا ويرميه في جيحون. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 672﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن المارد حمل غريبًا وأتى به إلى جيحون، فأراد أن يرميه في جيحون فلم يهن عليه، فعمل رومس خشب وربطه بالحبال، ودفع الرومس بغريب في التيار، فأخذه التيار وراح. هذا ما كان من أمر غريب، وأما قومه فإنهم أصبحوا يقصدون خدمته فلم يجدوه، ووجدوا سبحته على تخته، وانتظروه أن يخرج فما خرج، فطلبوا الحاجب وقالو له: ادخل إلى الحريم وانظر الملك، فإنه ما له عادة أن يغيب إلى هذا الوقت. فدخل الحاجب وسأل مَن في الحريم فقالوا له: من البارحة ما رأيناه. فرجع إليهم الحاجب وأخبرهم بذلك، فتحيَّروا وقال بعضهم لبعض: ننظر أن يكون راح ليتنزه نحو البساتين. ثم إنهم سألوا البساتينية: هل الملك مرَّ عليكم؟ فقالوا: ما رأيناه. فاغتمُّوا وفتَّشوا جميع البساتين ورجعوا آخِر النهار باكين، وطاف الكيلجان والقورجان يفتِّشان عليه في المدينة، فلم يعرِفَا له خبرًا وعادَا بعد ثلاثة أيام، فلبس القوم السواد، وشكوا لرب العباد، الذي يفعل ما أراد.

فهذا ما كان من أمرهم، وأما ما كان من أمر غريب، فإنه صار مُلقًى على الرومس وهو يجري به في التيار خمسة أيام، ثم قذفه التيار في البحر المالح، فلعبت به الأمواج واختضَّ باطنه فخرج منه البنج، ففتح عينَيْه فوجد نفسه في وسط البحر والأمواج تلعب به، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، يا تُرَى مَن فعل بي هذا الفعل؟ فبينما هو متحيِّرٌ في أمره، وإذا بمركب سائرة، فلوَّحَ للركاب بكمِّه فأتوه وأخذوه، ثم قالوا له: مَن تكون؟ ومن أي البلاد أنت؟ فقال لهم: أَطْعِموني واسقوني حتى تُرَدَّ لي روحي وأقول لكم مَن أنا. فأتوه بالماء والزاد، فأكل وشرب وردَّ الله عليه عقله، فقال: يا قوم، ما جنسكم؟ وما دينكم؟ فقالوا: نحن من الكرج، ونعبد صنمًا اسمه منقاش. فقال لهم: تبًّا لكم ولمعبودكم يا كلاب، ما يُعبَد إلا الله الذي خلق كلَّ شيء ويقول للشيء كن فيكون. فعندها قاموا عليه بقوة وجنون، وأرادوا القبض عليه وهو بلا سلاح، فصار كلُّ مَن لكمه رماه وأعدمه الحياة، فبطح أربعين رجلًا، فتكاثروا عليه وشدوا وثاقه وقالوا: ما نقتله إلا في أرضنا حتى نعرضه على الملك. ثم ساروا حتى وصلوا إلى مدينة الكرج. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 673﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن أهل المركب لما قبضوا على غريب وكتَّفوه قالوا: ما نقتله إلا في أرضنا. ثم ساروا إلى مدينة الكرج، وكان الذي بناها عملاقًا جبَّارًا، وقد جعل على كل باب من أبوابها شخصًا من نحاس بالحكمة، فإذا دخل المدينة أحد غريب يصيح ذلك الشخص بالبوق، فيسمعه كلُّ مَن في المدينة، فيمسكونه ويقتلونه إن لم يدخل في دينهم، فلما دخل غريب صاح ذلك الشخص صيحة عظيمة، وصرخ حتى أفزع قلب الملك، فقام ودخل على صنمه فوجد النار والدخان يخرجان من فيه وأنفه وعينيه، وكان الشيطان دخل في الصنم ونطق على لسانه وقال: يا ملك، قد وقع لك واحدٌ اسمه غريب، وهو ملك العراق، وهو يأمر الناس أن يتركوا دينهم ويعبدوا ربَّه، فإذا دخلوا عليك به فلا تُبْقِه. فخرج الملك وجلس على تخته، وإذا بهم قد دخلوا بغريب، ثم أوقفوه بين يدي الملك وقالوا: يا ملك، قد وجدنا هذا الغلام كافرًا بآلهتنا، ووجدناه غريقًا. وحكوا له حكايات غريب، فقال: اذهبوا به إلى بيت الصنم الكبير وانحروه أمامه، لعله يرضى عنَّا.

فقال الوزير: يا ملك، نحره ما هو مليح، فإنه يموت في ساعة. فقال: نحبسه ونجمع الحطب ونطلق فيه النار. فجمعوا الحطب وأطلقوا فيه النار إلى الصباح، وخرج الملك وخرج أهل المدينة وأمروا بإحضار غريب، فذهبوا إليه ليُحضِروه فلم يجدوه، فعادوا وأعلموا الملك بهروبه، فقال: وكيف هرب؟ قالوا: وجدنا السلاسل والقيود مرمية والأبواب مغلقة. فتعجَّبَ الملك وقال: هل هذا في السماء طار، أو في الأرض غار؟ فقالوا: لا نعلم. ثم قال: أنا أمضي إلى إلهي وأساله عنه، فإنه يخبرني أين مضى. ثم إنه قام وقصد الصنم ليسجد له فلم يجده، فصار يمعك عينَيْه ويقول: هل أنت نائم أم يقظان؟ والتفت إلى وزيره وقال: يا وزير، أين إلهي وأين الأسير؟ وحقِّ ديني يا كلب الوزراء لولا أنك أشرتَ عليَّ بحرقه لكنتُ نحرته، فهو الذي سرق إلهي وهرب، ولا بد أن آخذ ثأره. ثم سحب سيفه وضرب الوزير فقطع رقبته.

وكان لرواح غريب والصنم سبب عجيب، وذلك أنه لما حبس غريبًا في المخدع، قعد بجانب القبة التي فيها الصنم، فقام غريب لذِكْر الله تعالى وطلب من الله عز وجل، فسمعه المارد الموكَّل بالصنم الناطق على لسانه، فخشع قلبه وقال: يا خجلتاه من الذي يراني ولا أراه! ثم إنه تقدَّمَ إلى غريب وانكبَّ على قدميه وقال: يا سيدي، ما الذي أقول حتى أصير من حزبك وأدخل في ملتك؟ قال: تقول لا إله إلا الله، إبراهيم خليل الله. فنطق المارد بالشهادة فكُتِب من أهل السعادة، وكان اسم المارد زلزال بن المزلزل، وأبوه من كبار ملوك الجان، ثم إنه حلَّ غريبًا من القيود وحمله الصنم وقصد الجو الأعلى. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 674﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن المارد لما حمل غريبًا وحمل الصنم، قصد الجو الأعلى. هذا ما كان من أمره، وأما ما كان من أمر الملك، فإنه لما دخل يسأل الصنم عن غريب لم يجده، وجرى ما جرى من أمر الوزير وقتله، فلما رأى جند الملك ما جرى، أنكروا عبادة الصنم وسحبوا سيوفهم وقتلوا الملك وحملوا على بعضهم، ودار السيف بينهم ثلاثة أيام حتى أفنوا بعضهم، ولم يَبْقَ سوى رجلين، فتقوَّى أحدهما على الآخَر فقتله، ووثب الصبيان على ذلك الرجل فقتلوه، ودقوا في بعضهم حتى هلكوا عن آخِرهم، وهجمت النساء والبنات وقصدوا القرى والحصون، وصارت المدينة خالية لا يسكنها إلا البوم.

هذا ما جرى لهم، وأما ما كان من أمر غريب، فإنه لما حمله زلزال بن المزلزل وقصد به بلاده، وهي جزائر الكافور وقصر البلور والعجل المسحور، وكان الملك المزلزل عنده عجل أبلق قد ألبسه الحلي والحلل المنسوجة بالذهب الأحمر واتخذه إلهًا، فدخل المزلزل يومًا هو وقومه على عجله فوجده منزعجًا، فقال له: يا إلهي، ما الذي أزعجك؟ فصاح الشيطان في جوف العجل وقال: يا مزلزل، إن ابنك صبأ إلى دين الخليل إبراهيم، على يد غريب صاحب العراق. ثم حدَّثَه بما جرى من أوله إلى آخِره، فلما سمع كلام العجل خرج متحيِّرًا، وجلس على كرسي مملكته وطلب أرباب دولته فحضروا، فحكى لهم ما سمعه من الصنم، فتعجبوا من ذلك وقالوا: ما نفعل يا ملك؟ قال: إذا حضر ولدي ورأيتموني أعتنقه فاقبضوه عليه. فقالوا: سمعًا وطاعةً. ثم بعد يومين دخل زلزال على أبيه ومعه غريب وصنم ملك الكرج، فلما دخل من باب القصر هجموا عليه وعلى غريب، وقبضوا عليهما وأوقفوهما قدام الملك المزلزل، فنظر لابنه بعين الغضب وقال له: يا كلب الجان، هل فارقت دينك ودين آبائك وأجدادك؟ قال له: دخلت في دين الحق، وأنت يا ويلك، فأسلِمْ تسلم من غضب الملك الجبَّار، خالق الليل والنهار. فغضب الملك على ولده وقال له: يا ولد الزنا، أتواجهني بهذا الكلام؟ ثم إنه أمر بحبسه فحبسوه، ثم التفت إلى غريب وقال له: يا قطاعة الإنس، كيف لعبت بعقل ولدي وأخرجتَه من دينه؟ فقال غريب: أخرجتُه من الضلال إلى الهدى، ومن النار إلى الجنة، ومن الكفر إلى الإيمان. فصاح الملك على مارد اسمه سيَّار وقال له: خذ هذا الكلب وضعه في وادي النار حتى يهلك. وذلك الوادي من فرط حرِّه والتهاب جمره، كلُّ مَن نزل فيه هلك ولا يعيش ساعة، ومحيط بذلك الوادي جبل عالٍ أملس ليس فيه منفذ، فتقدَّمَ الملعون سيَّار وحمل غريبًا وطار به وقصد الربع الخراب من الدنيا حتى صار بينه وبين الوادي ساعة واحدة، وقد تعب العفريت بغريب فنزَّلَه في وادي ذي أشجار وأنهار وأثمار، فلما نزل المارد وهو تعبان، نزل غريب من على ظهره وهو مكبَّل، وحين نام المارد من التعب وشخر، عالَجَ غريب في قيده حتى حلَّه، وأخذ حجرًا ثقيلًا وألقاه فوق رأسه، فهشَّم عظامه فهلك لوقته، ومضى غريب في ذلك الوادي.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 675﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن غريبًا لما قتل المارد مضى في ذلك الوادي فوجده في جزيرة في وسط البحر، وتلك الجزيرة واسعة وفيها جميع الفواكه مما تشتهيه الشفة واللسان، فصار غريب يأكل من أثمارها ويشرب من أنهارها، ومضت عليه فيها السنون والأعوام، وصار يأخذ من السمك ويأكل، ولم يزل على هذه الحالة منفردًا وحده سبع سنين، فبينما هو ذات يوم جالس إذ نزل عليه من الجو ماردان، مع كل مارد رجل، وقد نظروا إلى غريب فقالوا له: ما تكون يا هذا؟ ومن أي القبائل أنت؟ وكان غريب قد طال شعره فحسبوه من الجن، فسألوه عن حاله فقال لهم: ما أنا من الجن. ثم أخبرهم بما جرى له من أوله إلى آخره. فحزنوا عليه، فقال عفريت منهما: استمر مكانك حتى نؤدي هذين الخروفين إلى ملكنا يتغدى بواحد ويتعشَّى بواحد، ونعود إليك ونؤديك إلى بلادك. فشكرهما غريب وقال لهما: أين الخروفان اللذان معكما؟ فقال: هذان الآدميان. فقال غريب: استجرتُ بإله إبراهيم الخليل، ربِّ كل شيء وهو على كل شيء قدير.

ثم إنهما طارَا وقعد غريب ينتظر المارد، فبعد يومين أتاه ذلك المارد بكسوة فستره وحمله وطار به إلى الجو الأعلى حتى غاب عن الدنيا، فسمع غريب تسبيح الملائك في الهواء، فأصاب الماردَ منهم سهمٌ من نار، فهرب وقصد الأرض حتى بقي بينه وبين الأرض رمية رمح وقد قرب السهم منه وأدركه، فنهض غريب ونزل عن كاهله ولحقه السهم فصار رمادًا، ولم يكن نزول غريب إلا في البحر، فغطس مقدار قامتين وطلع، فعام ذلك اليوم وليلته وثاني يوم حتى ضعفت نفسه وأيقن بالموت، فما جاء اليوم الثالث إلا وقد يئس من الحياة، فبان له جبل شامخ فقصده وطلعه ومشى فيه، وتقوَّتَ من نبات الأرض واستراح يومًا وليلة، ثم طلع من أعلى الجبل ونزل من خلفه وسار يومين، فوصل إلى مدينة ذات أشجار وأنهار وأسوار وأبراج، فلما وصل إلى أبواب المدينة قام إليه البوابون وقبضوا عليه وأتوا به إلى ملكتهم، وكان اسمها جانشاه، وكان لها من العمر خمسمائة سنة، وكل مَن دخل مدينتها يعرضونه عليها، فتأخذه وتراقده فلما يفرغ عمله تقتله، وقد قتلت ناسًا كثيرًا، فلما أتوا بغريب إليها أعجبها، فقالت له: ما اسمك؟ وما دينك؟ ومن أي البلاد أنت؟ فقال: اسمي غريب ملك العراق وديني الإسلام. فقالت له: اخرج من دينك في ديني وأنا أتزوَّج بك وأجعلك ملكًا. فنظر غريب إليها بعين الغضب وقال لها: تبًّا لك ولدينك. صاحت عليه وقالت له: أتسبُّ صنمي وهو من العقيق الأحمر، مرصَّع بالدر والجواهر؟ ثم إنها قالت: يا رجال، احبسوه في قبة الصنم لعله يلين قلبه. فحبسوه في قبة الصنم وقفلوا عليه الأبواب. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 676﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أنهم لما أخذوا غريبًا وحبسوه في قبة الصنم، وأغلقوا عليه الأبواب ومضوا إلى حال سبيلهم، نظر غريب إلى الصنم وهو من العقيق الأحمر، وفي عنقه قلائد الدر والجوهر، فتقدَّمَ غريب إلى الصنم وحمله وضرب به الأرض فصار هشيمًا؛ ونام حتى طلع النهار. فلما أصبح الصباح جلست الملكة على سريرها وقالت: يا رجال، ائتوني بالأسير. فساروا إلى غريب وفتحوا القبة ودخلوا فوجدوا الصنم مكسورًا، فلطموا على وجوههم حتى نزل الدم من آماق عيونهم، ثم تقدَّموا إلى غريب ليمسكوه، فلَكَمَ منهم واحدًا فمات، وآخَر فقتله حتى قتل خمسة وعشرين وهرب الباقي، فدخلوا على الملكة جانشاه وهم صارخون، فقالت لهم: ما الخبر؟ قالوا لها: إن الأسير كسر صنمكِ وقتل رجالكِ. وأخبروها بما كان، فرمت تاجها على الأرض وقالت: ما بقي للأصنام قيمة. ثم إنها ركبت في ألف بطل وقصدت بيت الصنم، فوجدت غريبًا قد خرج من القبة وقد أخذ سيفًا وصار يقتل الأبطال ويجندل الرجال، فنظرت جانشاه إلى غريب وشجاعته وغرقت في محبته وقالت: ليس لي حاجة بالصنم، وما مرادي إلا هذا الغريب يرقد في حضني بقيمة عمري.

ثم إنها قالت لرجالها: ابعدوا عنه وانعزلوا. ثم إنها تقدمت وهمهمت، فوقف ذراع غريب وارتخت سواعده وسقط السيف من يده، فمسكوه وكتَّفوه ذليلًا حقيرًا متحيرًا، ثم رجعت جانشاه وجلست على سرير مُلْكها، وأمرت قومها بالانصراف، واختلت به في المكان فقالت له: يا كلب العرب، أتكسر صنمي وتقتل رجالي؟ فقال لها: يا ملعونة، لو كان إلهًا لمنع عن نفسه؟ فقالت له: ضاجعني وأنا أترك لك ما صنعت؟ فقال لها: ما أفعل شيئًا من ذلك. فقالت: وحق ديني لأعذِّبَنَّك عذابًا شديدًا. ثم إنها أخذت ماءً وعزمت عليه ورشَّتْه عليه فصار قردًا، وصارت تُطعِمه وتسقيه، ثم حبسته في مخدع ووكَّلَتْ به مَن يقوم به سنتين، ثم دعته يومًا من الأيام فأحضرته إليها وقالت: أتسمع مني؟ فقال لها برأسه: نعم. ففرحت وخلصته من السحر وقدَّمَتْ له الأكل، فأكل معها ولاعبها وقبَّلَها فاطمأنت له، وأقبل الليل فرقدت وقالت له: قم اعمل شغلك. فقال لها: نعم. ثم ركب على صدرها وقبض على رقبتها فكسرها، ولم يقم عنها حتى خرجت روحها، ثم نظر إلى خزانة مفتوحة فدخلها، فوجد فيها سيفًا مجوهرًا ودرقة من الحديد الصيني، فلبس كامل العدة وصبر إلى الصباح، ثم خرج ووقف على باب القصر، فأقبل الأمراء وأرادوا أن يدخلوا إلى الخدمة، فوجدوا غريبًا وهو لابس آلة الحرب، فقال لهم: يا قوم، اتركوا عبادة الأصنام واعبدوا الملك العلَّام، خالق الليل والنهار، رب الآنام ومحيي العظام، وخالق كل شيء وهو على كل شيء قدير. فلما سمع الكفار ذلك الكلام هجموا عليه، فحمل عليهم كأنه أسدٍ كاسرٍ، فجال فيهم وقتل خلقًا كثيرًا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 677﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن غريبًا لما حمل على الكفار قتل منهم خلقًا كثيرًا، وهجم الليل وهم يتكاثرون عليه وكلهم سعوا له وأرادوا أن يأخذوه، وإذا هو بألف مارد قد هجموا على الكفار بألف سيف ورئيسهم زلزال بن المزلزل، وهو في أولهم، فأعملوا فيهم السيف البتَّار، وأسقوهم كأس البوار، وعجَّلَ الله تعالى بأرواحهم إلى النار، ولم يبقوا من قوم جانشاه مَن يرد الأخبار، فصاح الأعوان: الأمان الأمان. وآمنوا بالملك الديَّان، الذي لا يشغله شأن عن شأن، مبيد الأكاسرة ومفني الجبابرة، ورب الدنيا والآخرة. ثم سلَّمَ زلزال على غريب وهنَّأه بالسلامة، فقال له غريب: مَن أعلمك بحالي؟ فقال: يا مولاي، لما حبسني أبي وأرسلك إلى وادي النار، أقمتُ في الحبس سنتين ثم أطلقني، فأقمت بعد ذلك ثم عدت إلى ما كنت عليه، فقتلتُ أبي وأطاعتني الجنود، ولي سنة وأنا أحكم عليهم، فنمت وأنت في خاطري فرأيتُك في المنام وأنت تقاتل قوم جانشاه، فأخذت هؤلاء الألف مارد وأتيت إليك.

فتعجب غريب من هذا الاتفاق، ثم أخذ أموال جانشاه وأموال قومه ونُصِّب على المدينة حاكمًا، وحملت المَرَدة الأموال وغريبًا وما باتوا ليلتهم إلا في مدينة زلزال، واستُضِيف غريب عند زلزال ستة أشهر، ثم أراد الرواح، فأحضر زلزال الهدايا وبعث ثلاثة آلاف مارد، فجاءوا بالمال من مدينة الكرج ووضعوه على أموال جانشاه، ثم أمرهم أن يحملوا الهدايا والأموال، وحمل زلزال غريبًا وقصدوا مدينة إسبانير المدائن، فما جاء نصف الليل إلا وهم فيها، فنظر غريب فرأى المدينة محصورةً محيطًا بها عسكر جرار مثل البحر الزاخر، فقال غريب لزلزال: يا أخي، ما سبب هذه المحاصرة؟ ومن أين هذا العسكر؟ ثم نزل غريب على سطح القصر ونادى: يا كوكب الصباح، يا مهدية. فقامتا من نومهما مدهوشتين وقالتا: مَن ينادينا في هذا الوقت؟ قال: أنا مولاكما غريب صاحب الفعل العجيب. فلما سمع السيدتان كلام مولاهما فرحتا، وكذلك الجواري والخدم، ونزل غريب فترامَيْنَ عليه وزلغطن، فدوى لهن القصر، فأتى المقدمون من مراقدهم وقالوا: ما الخبر؟ وطلعوا القصر وقالوا للطواشية: هل ولدت واحدة من الجواري؟ قالوا: لا، ولكن أبشروا فقد وصل إليكم الملك غريب. ففرح الأمراء وسلَّمَ غريب على الحريم وخرج إلى أصحابه، فتراموا عليه وقبَّلوا يديه ورجليه، وحمدوا الله تعالى وأثنَوْا عليه، وقعد غريب على سريره ونادى أصحابه، فحضروا وجلسوا حوله، فسألهم عن العسكر النازلين عليهم، فقالوا: يا ملك، إن لهم ثلاثة أيام من حين نزلوا علينا ومعهم جن وإنس، وما ندري ما يريدون، وما وقع بيننا وبينهم قتال ولا كلام. فقال غريب: غدًا نبعث إليهم كتابًا وننظر ما يريدون. ثم قالوا: وملكهم اسمه مرادشاه، وتحت يده مائة ألف فارس، وثلاثة آلاف راجل، ومائتان من أرهاط الجان. وكان لمجيء هذا العسكر سبب عظيم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 678﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أنه كان لمجيء هذا العسكر ونزوله على مدينة إسبانير سبب عظيم، وذلك أنه لما بعث الملك سابور ابنته مع اثنين من قومه وقال لهم: غرِّقاها في جيحون. فخرجا بها وقالا لها: امضِ إلى حال سبيلك ولا تظهري لأبيك فيقتلنا ويقتلك. فهَجَّتْ فخرتاج وهي حيرانة لا تعرف أين تتوجه وقالت: أين عينك يا غريب تنظر حالي والذي أنا فيه؟ ولم تزل سائرة من أرض إلى أرض، ومن وادٍ إلى وادٍ، حتى مرت بوادٍ كثير الأشجار والأنهار، وفي وسطه حصن مبني، عالي البنيان، مشيد الأركان كأنه روضة من الجنان، فتنحت فخرتاج إلى الحصن ودخلته فوجدته مفروشًا بالبسط الحرير، وفيه من أواني الذهب والفضة شيء كثير، ووجدت فيه مائة جارية من الجواري الحسان، فلما نظرت الجواري فخرتاج، قُمْنَ إليها وسلَّمْنَ عليها وهن يحسبن أنها من جواري الجن، فسألنها عن حالها فقالت لهن: أنا بنت ملك العجم. وحكت لهم ما جرى لها، فلما سمعت الجواري هذا الكلام حَزنَّ عليها، ثم إنهن طيبْنَ قلبها وقلن لها: طيبي نفسًا، وقري عينًا، ولك ما تأكلين وما تشربين وما تلبسين، وكلنا في خدمتك. فدعت لهن، ثم إنهن قدَّمْنَ إليها الطعام فأكلت حتى اكتفت، وقالت فخرتاج للجواري: ومَن صاحب هذا القصر والحاكم عليكم؟ قالوا: سيدنا الملك صلصال بن دال، وهو يأتي في كل شهرٍ ليلةً، ويصبح متوجِّهًا ليحكم في قبائل الجان.

فأقامت عندهن فخرتاج خمسة أيام، فوضعت ولدًا ذكرًا مثل القمر، فقطعن سرته، وكحَّلْنَ مقلته، وسمَّيْنَه مرادشاه، فتربَّى في حجر أمه، وعن قليل أقبل الملك صلصال وهو راكب على فيل أبيض قرطاسي قدر البرج المشيد، وحوله طوائف الجان، ثم دخل القصر وتلقته المائة جارية وقبَّلْنَ الأرض ومعهن فخرتاج، فنظر الملك فقال لجواريه: مَن تكون هذه الجارية؟ فقالوا له: بنت سابور ملك العجم والترك والديلم. فقال: مَن أتى بها إلى هذا المكان؟ فحكين له ما جرى لها، فحزن عليها وقال: لا تحزني واصبري حتى تربي ولدك ويكبر، ثم إني أسير إلى بلاد العجم وأقطع رأس أبيك من بين أكتافه، وأُجلِس لك ولدَك على تخت العجم والترك والديلم. فقامت فخرتاج وقبَّلَتْ يديه ودعت له، وقعدت تربي ولدها مع أولاد الملك، وصاروا يركبون الخيل ويسيرون إلى الصيد والقنص، فتعلَّمَ صيد الوحش وصيد السباع الضارية وظل يأكل من لحومها حتى صار قلبه من الحجر، فلما صار له من العمر خمسة عشر عامًا، كبرت عنده نفسه، فقال لأمه: يا أماه، ومَن هو أبي؟ فقالت: يا ولدي، أبوك غريب ملك العراق، وأنا بنت ملك العجم. ثم إنها حكت له ما جرى، فلما سمع كلامها قال: وهل أمَرَ جدي بقتلك وقتل أبي؟ قالت: نعم. فقال لها: وحقِّ ما لك عليَّ من التربية لَأسيرنَّ إلى مدينة أبيك، وأقطع رأسه وأقدِّمها إلى حضرتك. ففرحت بقوله. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 679﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن مرادشاه ابن فخرتاج، صار يركب مع المائتَيْ مارد حتى إنه تربَّى معهم، وصاروا يشنون الغارات ويقطعون الطرقات، ولم يزالوا في سيرهم حتى أشرفوا على بلاد شيراز، فهجموا عليها، وهجم مرادشاه على قصر الملك، فرمى رأسه وهو على تخته، وقتل من جنده خلقًا كثيرًا، وصاح الباقي باللسان: الأمان الأمان. ثم إنهم قبَّلوا ركبة مرادشاه، فعدهم فوجدهم عشرة آلاف فارس، فركبوا في خدمته ثم ساروا إلى بلح، فقتلوا ملكها وأهلكوا جندها، وتملَّكوا أهلها وساروا إلى نورين، وقد سار مرادشاه في ثلاثين ألف فارس، وقد خرج إليهم صاحب نورين طائعًا، وقدَّمَ إليهم الأموال والتحف، وركب في ثلاثين ألف فارس وساروا قاصدين مدينة سمرقند العجم، فأخذوها وساروا إلى أخلاط فأخذوها، ثم ساروا ولم يصلوا إلى مدينة إلا أخذوها، وقد صار مرادشاه في جيش عظيم، والذي يأخذه من الأموال والتحف من المدائن يفرِّقه على الرجال، فحبوه لأجل شجاعته وكرمه. وقد وصل إلى إسبانير المدائن فقال: اصبروا حتى أحضر باقي عسكري وأقبض على جدي، وأحضره قدام أمي وأشفي قلبها بضرب عنقه. ثم إنه أرسل مَن يجيء بها، فلأجل هذا لم يحصل القتال ثلاثة أيام، وقد وصل غريب ومعه زلزال في أربعين ألف مارد، حاملين الأموال والهدايا، وسأل عن العسكر النازلين فقالوا: لا نعلم من أين هم، ولهم ثلاثة أيام لم يقاتلونا ولم نقاتلهم. ووصلت فخرتاج فاعتنقها ولدها مرادشاه وقال لها: اقعدي في خيمتك حتى أجيء لك بأبيك. فدعت له بالنصر من رب العالمين، رب السموات ورب الأرضين.

فلما أصبح الصباح ركب مرادشاه، والمائتا مارد على يمينه، وملوك الإنس على شماله، ودقوا طبول الحرب، فسمع غريب فركب وخرج ودعا قومه للحرب، ووقفت الجن على يمينه، والإنس على يساره، فبرز مرادشاه وهو غارق في عدة الحرب، فساق جواده يمينًا وشمالًا ثم نادى: يا قوم، لا يبرز لي إلا ملككم، فإن قهرني كان هو صاحب العسكرين، وإن قهرته قتلته مثل غيره. فلما سمع غريب كلام مرادشاه قال: اخسأ يا كلب العرب. ثم حملَا على بعضهما، وتطاعنا بالرماح حتى تكسَّرَتْ، وتضاربَا بالسيوف حتى تثلمت، ولم يزالا في كر وفر وقُرْب وبُعْد حتى انتصف النهار، وقد وقعت الخيل من تحتهما، فنزلا على الأرض وقد قبضا بعضهما، فعند ذلك هجم مرادشاه على غريب وخطفه وعلَّقه، وأراد أن يضرب به الأرض، فقبض غريب على أذنَيْه وجدبهما بشدة، فحسَّ مرادشاه أن السماء انطبقت على الأرض، فصاح بملء فمه وقال: أنا في جيرتك يا فارس الزمان. فكتَّفَه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 680﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن غريبًا لما قبض على أذني مرادشاه وجذبهما فقال له: أنا في جيرتك يا فارس الزمان. فكتَّفَه، فأراد المَرَدة أصحاب مرادشاه أن يهجموا ويخلِّصوه، فحمل غريب بألف مارد وأرادوا أن يبطشوا بمَرَدة مرادشاه، فصاحوا: الأمان الأمان. ورموا سلاحهم، فجلس غريب في سرادقه، وكان من الحرير الأخضر، مطرَّزًا بالذهب الأحمر، مكللًا بالدر والجوهر، ثم دعا بمرادشاه فأحضروه بين يديه وهو يحجل في القيود والأغلال، فلما نظر مرادشاه إلى غريب أطرق برأسه إلى الأرض من الحياء، فقال له غريب: يا كلب العرب، أي شيء وصفك حتى تركب وتضاهي الملوك؟ فقال: يا مولاي، لا تؤاخذني فإني معذور. قال له غريب: ما وجه عذرك؟

قال مرادشاه: يا مولاي، اعلم أني قد خرجتُ آخذ ثأر أبي وأمي من سابور ملك العجم، فإنه أراد قتلهما، فسلمت أمي وما أدري هل قُتِل أبي أم لا؟ فلما سمع غريب كلامه قال: والله إنك معذور، فمَن هو أبوك؟ ومَن هي أمك؟ وما اسم أبيك؟ وما اسم أمك؟ فقال: اسم أبي غريب ملك العراق، واسم أمي فخرتاج بنت سابور ملك العجم. فلما سمع غريب كلامه صرخ صرخة عظيمة ووقع مغشيًّا عليه، فرشُّوا عليه ماء الورد، فلما أفاق قال له: هل أنت ابن غريب من فخرتاج؟ قال: نعم. قال غريب: أنت فارس ابن فارس، حلوا القيود عن ولدي. فتقدَّمَ سهيم والكيلجان وحلَّا مرادشاه، واحتضن ولده وأجلسه في جانبه وقال له: أين أمك؟ قال: هي عندي في خيمتي. قال: ائتني بها. فركب مرادشاه إلى خيامه، فتلقَّاه أصحابه وفرحوا بسلامته، وسألوه عن حاله فقال: ما هذا وقت سؤال. ثم إنه دخل على أمه وحدَّثَها بما جرى، ففرحت فرحًا شديدًا وأتى بها إلى أبيه، فتعانَقَا وفرِحَا ببعضهما، وأسلمت فخرتاج وأسلم مرادشاه، وعرضا على عسكرهما الإسلام فأسلموا جميعًا قلبًا ولسانًا، وفرح غريب بإسلامهم، ثم أحضر الملك سابور ووبَّخَه على فعاله هو وولده، وعرض عليهما الإسلام فأبَيَا، فصلبهما على باب المدينة.

وزيَّنوا المدينة وفرح أهل المدينة وزيَّنوها، وألبسوا مرادشاه التاج الكسروي، وجعلوه ملك العجم والترك والديلم، وبعث الملك غريب عمه الملك الدامغ ملكًا على العراق، وقد أطاعته كل البلاد والعباد، وقعد غريب في مملكته يعدل في الرعية، وقد أحبه الخلق أجمعون. ولم يزالوا في أرغد عيش إلى أن أتاهم هادم اللذات ومفرق الجماعات، فسبحان مَن يدوم عزه وبقاؤه، وعلى خلقه جلت آلاؤه. وهذا ما بلغنا من حكاية غريب وعجيب.

 

وحُكِي أيضًا أن عبد الله بن معمر القيسي قال: حججتُ سنةً إلى بيت الله الحرام، فلما قضيتُ حجي عدتُ إلى زيارة قبر النبي ﷺ، فبينما أنا ذات ليلة جالس في الروضة بين القبر والمنبر، إذ سمعتُ أنينًا رقيقًا بصوت رخيم، فأنصتُّ إليه وإذا هو يقول:

أَشْجَاكَ نَوْحُ حَمَائِمِ السِّدْرِ        فَأَهَاجَ مِنْكَ بَلَابِلَ الصَّدْرِ

أَمْ سَاءَ حَالَكَ ذِكْرُ غَانِيَةٍ        أَهْدَتْ إِلَيْكَ وَسَاوِسَ الْفِكْرِ

يَا لَيْلَةً طَالَتْ عَلَى دَنِفٍ        يَشْكُو الْغَرَامَ وَقِلَّةَ الصَّبْرِ

أَسْهَرْتَ مَنْ يُصْلَى بِحَرِّ جَوًى        مُتَوَقِّدٌ كَتَوَقُّدِ الْجَمْرِ

فَالْبَدْرُ يَشْهَدُ أَنَّنِي كَلِفٌ        صَبٌّ بِحُبِّ شَبِيهَةِ الْبَدْرِ

مَا كُنْتُ أَحْسَبُ أَنَّنِي كَلِفٌ        حَتَّى بُلِيتُ وَكُنْتُ لَا أَدْرِي

ثم انقطع صوته ولم أدرِ من أين جاءني، فبقيت حائرًا، وإذا به أعاد الأنين وأنشد يقول:

أَشْجَاكَ مِنْ رَيَّا خَيَالٌ زَائِرُ        وَاللَّيْلُ مُسْوَدُّ الذَّوَائِبِ عَاكِرُ

وَاعْتَادَ مُقْلَتَكَ الْهَوَى بِسُهَادِهِ        وَاهْتَاجَ مُهْجَتَكَ الْخَيَالَ الزَّائِرُ

نَادَيْتُ لَيْلِي وَالظَّلَامُ كَأَنَّهُ        بَحْرٌ تَلَاطَمَ فِيهِ مَوْجٌ زَاخِرُ

يَا لَيْلُ طُلْتَ عَلَى مُحِبٍّ مَا لَهُ        إِلَّا الصَّبَاحُ مُسَاعِدٌ وَمُؤَازِرُ

فَأَجَابَنِي لَا تَشْكُوَنَّ إِطَالَتِي        إِنَّ الْهَوَى لَهْوَ الْهَوَانُ الْحَاضِرُ

قال: فنهضت إليه عند ابتداء الأبيات أقصد جهة الصوت، فما انتهى إلى آخِر الأبيات إلا وأنا عنده، فرأيتُ غلامًا في غاية الجمال لم ينبت عِذَاره، وقد خرق الدمع من وجنتَيْه خرقين. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 681﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن عبد الله بن معمر القيسي قال: فنهضتُ عند ابتداء الأبيات أقصد جهة الصوت، فما انتهى إلى آخِر الأبيات إلا وأنا عنده، فرأيت غلامًا لم ينبت عِذَاره، وقد خرق الدمع من وجنتَيْه خرقين، فقلت له: نَعِمْتَ غلامًا. فقال: وأنت، فمَن الرجل؟ قلت: عبد الله بن معمر القيسي. قال: أفلك حاجة؟ قلت له: كنتُ جالسًا في الروضة، فما راعني هذه الليلة إلا صوتك، فبنفسي أفديك ما الذي تجده؟ قال: اجلس. فجلست، قال: أنا عُتْبة بن الجبان بن المنذر بن الجموح الأنصاري، عدوت إلى مسجد الأحزاب فبقيتُ راكعًا وساجدًا، ثم اعتزلتُ أتعبَّد، وإذا بنسوة يتهادين كالأقمار، وفي وسطهن جاريةٌ بديعةُ الجمال كاملة الملاحة، فوقفتْ عليَّ وقالت: يا عُتْبة، ما تقول في وصلِ مَن يطلب وصلك؟ ثم تركتني وذهبَتْ، فلم أسمع لها خبرًا ولا وقعتُ لها على أثر، وها أنا حيران أنتقل من مكان إلى مكان. ثم صرخ وانكبَّ على الأرض مغشيًّا عليه. ثم أفاق كأنما صُبِغت ديباجةُ خدَّيْه بورس، وأنشأ يقول هذه الأبيات:

أَرَاكُمُ بِقَلْبِي مِنْ بِلَادٍ بَعِيدَةٍ        تُرَاكُمْ تَرَوْنِي بِالْقُلُوبِ عَلَى بُعْدِ

فُؤَادِي وَطَرْفِي يَأْسَفَانِ عَلَيْكُمُ        وَعِنْدَكُمُ رُوحِي وَذِكْرُكُمُ عِنْدِي

وَلَسْتُ أُلَذُّ الْعَيْشُ حَتَّى أَرَاكُمُ        وَلَوْ كُنْتُ فِي الْفِرْدَوْسِ أَوْ جَنَّةِ الْخُلْدِ

فقلت له: يا عتبة يا ابن أخي، تُبْ إلى ربك واستغفر من ذنبك، فإن بين يديك هول الموقف. فقال: هيهات ما أنا سائل حتى يئوب القارظان. ولم أزل معه حتى طلع الفجر، فقلت له: قُمْ بنا إلى المسجد. فجلسنا فيه حتى صلَّيْنا الظهر، وإذا بالنسوة قد أقبلْنَ، وأما الجارية فليست فيهن، فقلن: يا عتبة، ما ظنك بطالبة وصلك؟ قال: وما بالها؟ قلن: أخذها أبوها وارتحل إلى السماوة. فسألتهن عن اسم الجارية فقلنَ: ريَّا بنت الغطريف السليمي. فرفع رأسه وأنشد هذين البيتين:

خَلِيلَيَّ رَيَّا قَدْ أَجَدَّ بُكُورُهَا        وَسَارَتْ إِلَى أَرْضِ السَّمَاوَةِ عِيرُهَا

خَلِيلَيَّ إِنِّي قَدْ غُشِيتُ مِنَ الْبُكَا        فَهَلْ عِنْدَ غَيْرِي عَبْرَةٌ أَسْتَعِيرُهَا

فقلت له: يا عتبة، إني وردت بمال جزيل أريد به ستر أهل المروة، والله لَأبذلنه أمامك حتى تبلغ رضاك وفوق الرضى، فقم بنا إلى مجلس الأنصار. فقمنا حتى أشرفنا على مَلَئِهم، فسلَّمْتُ عليهم فأحسنوا الردَّ، ثم قلت: أيها الملأ، ما تقولون في عُتْبة وأبيه؟ فقالوا: من سادات العرب. قلت: اعلموا أنه رُمِي بداهية الهوى، فأريد منكم المساعدة إلى السماوة. قالوا: سمعًا وطاعة. فركبنا وركب القوم معنا حتى أشرفنا على مكان بني سليم، فعلم الغطريف بمكاننا، فخرج مبادِرًا واستقبلنا وقال: حييتم يا كرام. فقلنا له: وأنت حييتَ، إنَّا لك أضياف. فقال: نزلتم بأكرم منزل رحب. فنزل ثم نادى: يا معشر العبيد، انزلوا. فنزلت العبيد، وفرشت الأنطاع والنمارق، وذبحت النعم والغنم. فقلنا: نحن لا نذوق طعامك حتى تقضي حاجتنا. قال: وما حاجتكم؟ قلنا: نخطب ابنتك الكريمة لعُتْبة بن الجبان بن المنذر، العالي الفخر، الطيب العنصر. فقال: يا إخواني، إن التي تخطبونها أمرها لنفسها، وأنا أدخل وأخبرها. ثم نهض مغضبًا ودخل إلى ريَّا، فقالت: يا أبت، ما لي أرى الغضب بائنًا عليك؟ فقال: ورد عليَّ قوم من الأنصار يخطبونك مني؟ فقالت: سادات كرام، استغفَرَ لهم النبي عليه أفضل الصلاة والسلام، فلمَن الخطبة فيهم؟ فقال لها: لفتًى يُعرَف بعُتْبة بن الجبان. قالت: سمعتُ عُتْبة هذا، إنه يَفِي بما وعد ويدرك ما طلب. فقال: أقسمتُ لا أزوِّجنك به أبدًا، فقد نَمَا إليَّ بعضُ حديثك معه. قالت: ما كان ذلك، ولكن أقسمت أن الأنصار لا يردُّون مردًّا قبيحًا، فأحسِنْ لهم الردَّ. قال: بأي شيء؟ قالت: أغلِظْ عليهم المهر، فإنهم يرجعون. قال: ما أحسن ما قلت! ثم خرج مبادرًا فقال: إن فتاة الحي قد أجابَتْ، ولكن تريد لها مهرَ مثلِها، فمَن القائم به؟ قال عبد الله: فقلت: أنا. قال: أريد لها ألف أسورة من الذهب الأحمر، وخمسة آلاف درهم من ضرب هجر، ومائة ثوب من الأبراد والحبر، وخمسة أكرشة من العنبر. قال: قلتُ لك ذلك، فهل أجبتَ؟ قال: أجبتُ.

فأنفذ عبد الله نفرًا من الأنصار إلى المدينة المنورة، فأتوا بجميع ما ضمنه، وذُبِحت النعم والغنم، واجتمع الناس لأكل الطعام. قال: فأقمنا على هذا الحال أربعين يومًا، ثم قال: خذوا فتاتكم. فحملناها على هودج وجهَّزَها بثلاثين راحلة من التحف، ثم ودَّعَنا وانصرف، وسرنا حتى بقي بيننا وبين المدينة المنورة مرحلة. ثم خرجت علينا خيل تريد الغارة، وأحسب أنها من بني سليم، فحمل عليها عُتْبة بن الجبان، فقتل عدة رجال وانحرف وبه طعنة ثم سقط إلى الأرض، وأتتنا النصرة من سكان تلك الأرض، فطردوا عنَّا الخيل وقد قضى عُتْبة نحبه. وقلنا: وا عتبتاه! فسمعت الجارية ذلك، فألقت نفسها من فوق البعير، وانكبَّتْ عليه وجعلت تصيح بحرقة وتقول هذه الأبيات:

تَصَبَّرْتُ لَا كَوْنِي صَبَرْتُ وَإِنَّمَا        أُعَلِّلُ نَفْسِي أَنَّهَا بِكَ لَاحِقَهْ

وَلَوْ أَنْصَفَتْ رُوحِي لَكَانَتْ إِلَى الرَّدَى        أَمَامَكَ مِنْ دُونِ الْبَرِيَّةِ سَابِقَهْ

فَمَا أَحَدٌ بَعْدِي وَبَعْدَكَ مُنْصِفٌ        خَلِيلًا وَلَا نَفْسٌ لِنَفْسٍ مَوَافِقَهْ

ثم شهقت شهقة واحدة وانقضى نحبها، فحفرنا لهما قبرًا واحدًا، وواريناهما في التراب، ورجعتُ إلى ديار قومي وأقمتُ سبع سنين، ثم عدت إلى الحجاز ودخلت المدينة المنورة للزيارة، فقلتُ: والله لَأعودن إلى قبر عُتْبة. فأتيتُ إليه فإذا هو عليه شجرة عالية، عليها عصائب حمر وصفر وخضر. فقلتُ لأرباب المنزل: ما يقال لهذه الشجرة؟ فقالوا: شجرة العروسين. فأقمتُ عند القبر يومًا وليلةً وانصرفْتُ، وكان آخِر العهد به رحمه الله تعالى.

 

وحُكِي أيضًا أن هند بنت النعمان كانت أحسن نساء زمانها، فوصف للحجاج حُسْنها وجمالها، فخطبها وبذل لها مالًا كثيرًا وتزوَّجَ بها، وشرط لها عليه بعد الصداق مائتَيْ ألف درهم، فلما دخل بها مكث معها مدة طويلة، ثم دخل عليها في بعض الأيام وهي تنظر وجهها في المرآة وتقول:

وَمَا هِنْدُ إِلَّا مُهْرَةٌ عَرَبِيَّةٌ        سُلَالَةُ أَفْرَاسٍ تَحَلَّلَهَا بَغْلُ

فَإِنْ وَلَدَتْ أُنْثَى فَلِلَّهِ دَرُّهَا        وَإِنْ وَلَدَتْ بَغْلًا فَجَاءَ بِهِ الْبَغْلُ

فلما سمع الحجاج ذلك انصرف راجعًا ولم يدخل عليها، ولم تكن علمت به، فأراد الحجاج طلاقها، فبعث إليها عبد الله بن طاهر يطلِّقها، فدخل عبد الله بن طاهر عليها، فقال لها: يقول لك الحجاج أبو محمد، كان تأخَّرَ لك عليه من الصداق مائتَا ألف درهم، وهي هذه حضرت معي، ووكَّلَني في الطلاق. فقالت: اعلم يا ابن طاهر أننا كنَّا معًا، والله ما فرحتُ به يومًا قطُّ، وإن تفرَّقْنا والله لا أندم عليه أبدًا، وهذه المائتا ألف درهم لك بشارة بخلاصي من كلب ثقيف. ثم بعد ذلك بلغ أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان خبرها، ووُصِف له حُسْنها وجمالها، وقَدُّها واعتدالها، وعذوبة ألفاظها، وتغزل ألحاظها، فأرسل إليها يخطبها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 682﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان لما بلغه حُسْن الجارية وجمالها، أرسل إليها يخطبها، فأرسلت إليه كتابًا تقول فيه: بعد الثناء على الله، والصلاة على نبيه محمد ﷺ، أما بعدُ؛ فاعلم يا أمير المؤمنين أن الكلب ولغ في الإناء. فلما قرأ كتابها أمير المؤمنين ضحك من قولها، وكتب لها قوله ﷺ: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم، فليغسله سبعًا إحداهن بالتراب». وقال: اغسلي القذى عن محل الاستعمال. فلما رأت كتاب أمير المؤمنين لم يمكنها المخالفة، وكتبت إليه تقول: بعد الثناء على الله تعالى، اعلم يا أمير المؤمنين، إني لا أجري العقد إلا بشرط، فإن قلتَ: ما الشرط؟ أقول: أن يقود الحجاج محملي إلى بلدك التي أنت فيها، ويكون حافيًا بملبوسه الذي هو لابسه. فلما قرأ عبد الملك الكتاب ضحك ضحكًا عاليًا شديدًا، وأرسل إلى الحجاج يأمره بذلك، فلما قرأ الحجاج رسالة أمير المؤمنين أجاب، ولم يخالف وامتثل الأمر، ثم أرسل الحجاج إلى هند يأمرها بالتجهيز، فتجهَّزَتْ في محمل، وجاء الحجاج في موكبه حتى وصل إلى باب هند، فلما ركبت المحمل وركب حولها جواريها وخدمها، ترجَّلَ الحجاج وهو حافٍ، وأخذ بزمام البعير يقوده وسار بها، فصارت تسخر منه وتهزأ به وتضحك عليه مع بلانتها وجواريها، ثم إنها قالت لبلانتها: اكشفي لي ستارة المحمل. فكشفتها حتى قابَلَ وجهها وجهه؛ فضحكت عليه، فأنشد هذا البيت:

فَإِنْ تَضْحَكِي يَا هِنْدُ رُبَّةَ لَيْلَةٍ        تَرَكْتُكِ فِيهَا تَسْهَرِينَ نُوَاحَا

فأجابته بهذين البيتين:

وَمَا نُبَالِي إِذَا أَرْوَاحُنَا سَلِمَتْ        بِمَا فَقَدْنَاهُ مِنْ مَالٍ وَمِنْ نَشَبِ

فَالْمَالُ مُكْتَسَبٌ وَالْعِزُّ مُرْتَجَعٌ        إِذَا اشْتَفَى الْمَرْءُ مِنْ دَاءٍ وَمِنْ عَطَبِ

ولم تزل تضحك وتلعب إلى أن قربت من بلد الخليفة، فلما وصلت إلى البلد رمت من يدها دينارًا على الأرض، وقالت له: يا جمَّال، إنه قد سقط منَّا درهم فانظره، وناولنا إياه. فنظر الحجاج إلى الأرض، فلم يَرَ إلا دينارًا، فقال لها: هذا دينار. فقالت له: بل هو درهم. فقال لها: بل دينار. فقالت: الحمد لله الذي عوَّضَنا بالدرهم الساقط دينارًا، فناوِلْنا إياه. فخجل الحجاج من ذلك، ثم إنه أوصلها إلى قصر أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، ودخلت عليه وكانت محظية عنده. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 683﴾

 

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أنه كان في أيام أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك رجل يقال له: خزيمة بن بشر من بني أسد، كان له مروءة ظاهرة ونعمة وافرة وفضل وبر بالإخوان، فلم يزل على ذلك الحال حتى أقعده الدهر فاحتاج إلى إخوانه الذين كان يتفضَّل عليهم ويواسيهم، فواسوه حينًا ثم مَلُّوا به؛ فلما لاح له تغيُّرهم عليه ذهب إلى امرأته، وكانت ابنة عمه، فقال لها: يا ابنة عمي، قد رأيت من إخواني تغيُّرًا وقد عزمت على أن ألزم بيتي إلى أن يأتيني الموت. فأغلَقَ بابه عليه وأقام يتقوَّت بما عنده حتى نفد وصار حائرًا، وكان يعرفه عكرمة الفياض الربعي متولي الجزيرة، فبينما هو في مجلسه إذ ذكر خزيمة بن بشر فقال عكرمة الفياض: ما حاله؟ فقالوا له: قد صار إلى أمر لا يُوصَف، وإنه أغلق بابه ولزم بيته. فقال عكرمة الفياض: إنما حصل له ذلك لشدة كرمه، وكيف لم يجد خزيمة بن بشر مواسيًا ولا موافيًا؟ فقالوا: إنه لم يجد شيئًا من ذلك. فلما جاء الليل عمد إلى أربعة آلاف دينار فجعلها في كيس واحد، ثم أمر بإسراج دابته وخرج سرًّا من أهله وركب ومعه غلام من غلمانه يحمل المال، ثم سار حتى وقف بباب خزيمة، فأخذ الكيس من غلامه ثم أبعده عنه وتقدَّم إلى الباب فدفعه بنفسه، فخرج إليه خزيمة، فناوله الكيس وقال له: أصلح بهذا شأنك. فأخذه فرآه ثقيلًا، فوضعه عن يده ومسك بلجام الدابة وقال له: مَن أنت؟ جعلت نفسي فداك. فقال له عكرمة: يا هذا، ما جئتُك في مثل هذا الوقت وأريد أن تعرفني؟ قال: فما أقيلك حتى تعرفني مَن أنت؟ فقال: أنا جابر عثرات الكرام. قال: فزدني. قال: لا. ثم مضى ودخل خزيمة بالكيس إلى ابنة عمه فقال لها: أبشري فقد أتى الله بالفرج القريب والخير، فإن كان هذا دراهم فإنها كثيرة، قومي فاسرجي. قالت: لا سبيل إلى السراج. فبات يلمسها بيده فيجد خشونة الدنانير فلا يصدِّق أنها دنانير.

وأما عكرمة فإنه رجع إلى منزله، فوجد امرأته قد تفقدته وسألت عنه فأُخبِرت بركوبه، فأنكرت ذلك عليه وارتابت منه وقالت له: إن والي الجزيرة لا يخرج بعد مدة من الليل منفردًا عن غلمانه في سرٍّ من أهله إلا إلى زوجة أو سرية. فقال لها: علم الله أني ما خرجت في واحدة منهما. فقالت: أخبرني فيمَ خرجت؟ قال لها: ما خرجت من هذا الوقت إلا لأجل ألَّا يعلم به أحد. قالت: لا بد من إخباري. قال: هل تكتمينه إذا قلتُ لك؟ قالت: نعم. فأخبرها بالقصة على وجهها وما كان من أمره، ثم قال لها: أتحبين أن أحلف لك أيضًا. قالت: لا، لا، فإن قلبي قد سكن وركن إلى ما ذكرت.

وأما خزيمة فإنه لما أصبح صالَحَ الغرماء وأصلح حاله، ثم تجهَّزَ يريد سليمان بن عبد الملك، وكان نازلًا يومئذٍ بفلسطين؛ فلما وقف ببابه واستأذن حجَّابه، دخل الحاجب فأخبره بمكانه، وكان مشهورًا بالمروءة، وكان سليمان به عارفًا فأذن له في الدخول، فلما دخل سلَّمَ عليه سلام الخلافة، فقال له سليمان بن عبد الملك: يا خزيمة، ما أبطأك عنَّا؟ قال: سوء الحال. قال: فما منعك من النهضة إلينا؟ قال: ضعفي يا أمير المؤمنين. قال: فيمَ نهضتَ الآن؟ قال له: اعلم يا أمير المؤمنين أني كنت في بيتي بعد مدة من الليل، وإذا برجل طرق الباب، وكان من أمره كذا وكذا، وأخبره بقصته من أولها إلى آخرها. فقال سليمان: هل تعرف الرجل؟ فقال خزيمة: لا أعرفه يا أمير المؤمنين، وذلك أنه كان متكبِّرًا وما سمعت من لفظه إلا قوله: أنا جابر عثرات الكرام. فتلهَّب وتلهَّف سليمان بن عبد الملك على معرفته وقال: لو عرفناه لَكافأناه على مروءته. ثم عقد لخزيمة بن بشر لواءً، وجعله عاملًا على الجزيرة عوضًا عن عكرمة الفيَّاض. فخرج خزيمة قاصدًا الجزيرة، فلما قرب منها خرج عكرمة ولاقاه وخرج أهل الجزيرة في ملاقاته، فسلَّمَا على بعضهما ثم ساروا جميعًا إلى أن دخل البلد، فنزل خزيمة دار الإمارة وأمر أن يُؤخَذ من عكرمة كفيلًا وأن يُحاسَب، فحُوسِب فوجد عليه أموالًا كثيرة فطالَبَه بأدائها. قال: ما لي إلى شيء من سبيل؟ قال: لا بد منها. قال: ليست عندي فاصنع ما أنت صانع. فأمر به إلى الحبس. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 684﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن خزيمة أمر بحبس عكرمة الفياض. أرسل إليه يطالبه بما عليه، فأرسل يقول له: إني لستُ ممَّن يصون ماله بعرضه، فاصنع ما شئتَ. فأمر أن يُكبَّل بالحديد ويُسجَن، فأقام شهرًا أو أكثر حتى أضناه ذلك وأضرَّ به حبسه، ثم بلغ ابنة عمه خبره واغتمت لذلك غاية الغم، ودعت مولاة لها كانت ذات عقل وافر ومعرفة وقالت لها: امضي في هذه الساعة إلى باب الأمير خزيمة بن بشر وقولي: إن عندي نصيحة. فإذا طلبها منك أحد فقولي: لا أقولها إلا للأمير. فإذا دخلتِ عليه فاسأليه الخلوة، فإذا اختليتِ به فقولي له: ما هذا الفعل الذي فعلتَه، ما كان جزاء جابر عثرات الكرام منك إلا أن كافأته بالحبس الشديد والضيق في الحديد. ففعلت الجارية ما أُمِرت به، فلما سمع خزيمة كلامها نادى بأعلى صوته: وا سوأتاه! وإنه لهو؟ قالت: نعم. فأمر من وقته بدابته فأُسرِجت ودعا بوجوه البلد، فجمعهم إليه وأتى بهم إلى باب الحبس وفتحه، ودخل خزيمة ومَن معه، فرأوه قاعدًا متغيِّر الحال وقد أضناه الضرب والألم. فلما نظر إليه عكرمة، أخجله ذلك فنكس رأسه، فأقبل خزيمة وانكبَّ على رأسه فقبَّلَها. فرفع عكرمة إليه رأسه وقال: ما أعقب هذا منك؟ قال: كريم أفعالك وسوء مكافأتي. قال: يغفر الله لنا ولك. ثم أمر خزيمة السجَّان أن يفك القيود عنه، وأمر أن تُوضَع القيود في رجلَيْه. فقال عكرمة: ماذا تريد؟ قال: أريد أن ينالني مثل ما نالك. فقال عكرمة: أقسم عليك بالله ألَّا تفعل. ثم خرجا جميعًا حتى وصلا إلى دار خزيمة، فودَّعَه عكرمة وأراد الانصراف، فمنعه خزيمة من ذلك. فقال عكرمة: ما تريد؟ قال: أريد أن أغيِّر حالك، فإن حيائي من ابنة عمك أشد من حيائي منك.

ثم أمر بإخلاء الحمام، فأُخلِي ودخلا جميعًا، فقام خزيمة وتولَّى خدمته بنفسه، ثم خرجا فخلع عليه خلعة نفيسة وأركبه وحمَّلَ معه مالًا كثيرًا، ثم سار معه إلى داره واستأذنه في الاعتذار إلى ابنة عمه، فاعتذر إليها، ثم سأل بعد ذلك أن يسير معه إلى سليمان بن عبد الملك، وكان يومئذٍ مُقِيمًا بالرمل، فأجابه إلى ذلك وسارَا جميعًا حتى قدِمَا على سليمان بن عبد الملك، فدخل الحاجب وأعلمه بقدوم خزيمة بن بشر، فراعه ذلك وقال: هل والي الجزيرة يقدم بغير أمرنا؟ ما هذا إلا لحادث عظيم. فأذن له في الدخول، فلما دخل قال له قبل أن يسلِّم عليه: ما وراءك يا خزيمة؟ قال له: الخير يا أمير المؤمنين. قال له: فما الذي أقدمك؟ قال: ظفرت بجابر عثرات الكرام، فأحببتُ أن أسرك به لما رأيتُ من تلهُّفِك على معرفته وشوقك إلى رؤيته. قال: ومَن هو؟ قال: عكرمة الفياض. فأذِنَ له بالتقرُّب، فتقرَّب وسلَّم عليه بالخلافة، فرحَّب به وأدناه من مجلسه وقال له: يا عكرمة، ما كان خيرك له إلا وبالًا عليك. ثم قال سليمان: اكتب حوائجك كلها جميعًا وما تحتاج إليه في رقعة. ففعل ذلك، فأمر بقضائها من ساعته، وأمر له بعشرة آلاف دينار خلاف الحوائج التي كتبها، وعشرين تختًا من الثياب زيادة على ما كتبه، ثم دعاه بقناة وعقد له لواءً على الجزيرة وأرمانية وأزربيجان، وقال له: أمر خزيمة إليك أن شئتَ أبقيتَه، وإن شئتَ عزلتَه. قال: بل أرده إلى محله يا أمير المؤمنين. ثم انصرفا من عنده جميعًا، ولم يزالا عاملَيْن لسليمان بن عبد الملك مدةَ خلافته.

 

وحُكِي أيضًا أنه كان في مدة خلافة هشام بن عبد الملك رجلٌ يُسمَّى يونس الكاتب وكان مشهورًا، فخرج مسافرًا إلى الشام ومعه جارية في غاية الحُسْن والجمال، وكان عليها جميع ما تحتاج إليه، وكان قدر ثمنها مائة ألف درهم، فلما قرب من الشام نزلت القافلة على غدير ماء، ونزل هو بناحية من نواحيه، وأصاب من طعامٍ كان معه، وأخرج ركوة كان فيها نبيذ. فبينما هو كذلك إذا بفتًى حسن الوجه والهيبة على فرس أشقر، ومعه خادمان، فسلَّم عليه وقال له: أتقبل ضيفًا؟ قال: نعم. فنزل عنده وقال له: اسقنا من شرابك فأسقاه. فقال: إن شئتَ أن تغني لنا صوتًا. فغنَّى مُنشِدًا هذا البيت:

حَوَتْ مِنَ الْحُسْنِ مَا لَمْ تَحْوِهِ بَشَرُ        فَلَذَّ لِي فِي هَوَاهَا الدَّمْعُ وَالسَّهَرُ

فطرب طربًا شديدًا، وأسقاه مرارًا حتى مال به السكر، ثم قال: قل لجاريتك أن تغنِّي. فغنَّتْ مُنشِدةً هذا البيت:

حُورِيَّةٌ حَارَ قَلْبِي فِي مَحَاسِنِهَا        فَلَا قَضِيبٌ وَلَا شَمْسٌ وَلَا قَمَرُ

فطرب طربًا شديدًا وأسقاه مرارًا. ولم يزل مقيمًا عنده إلى أن صلَّيَا العشاء ثم قال له: ما أقدمك على هذا البلد؟ قال: ما أقضي به ديني وأُصلِح به حالي. فقال له: أتبيعني هذه الجارية بثلاثين ألف درهم؟ قلت: ما أحوجني إلى فضل الله والمزيد منه. قال: أيقنعك فيها أربعون ألفًا؟ قال: فيها قضاء ديني وأبقى صفر اليدين. قال: قد أخذناها بخمسين ألفًا من الدراهم، ولك بعد ذلك كسوة ونفقة طريقك، وأشركك في حالي ما بقيتُ. فقال: قد بعتُكها. قال: أفتثق بي أن أوصل إليك ثمنها في غدٍ وأحملها معي، أو تكون عندك إلى أن أحمل ذلك إليك غدًا؟ فحمله السكر والحياء مع الخشية منه على أن قال له: نعم، قد وثقتُ بك، فخذها قد بارَكَ الله لك فيها. فقال لأحد غلاميه: احملها على دابتك وارتدِفْ وراءها وامضِ بها. ثم ركب فرسه وودَّعَه وانصرف. فما هو إلا أن غاب عن البائع ساعةً، فتفكَّر البائع في نفسه وعرف أنه أخطأ في بيعها وقال في نفسه: ماذا صنعتُ حتى أسلِّم جاريتي إلى رجلٍ لا أعرفه ولا أدري مَن هو، وهَبْ أني عرفته فمن أين الوصول إليه؟ ثم جلس متفكرًا إلى أن صلَّى الصبح ودخل أصحابه دمشق وجلس هو حائرًا لا يدري ما يفعل، واستمرَّ جالسًا حتى أحرقته الشمس وكره المقام، فهمَّ بالدخول في دمشق ثم قال في نفسه: إنْ دخلتُ لم آمن أن الرسول يأتي فلا يجدني فأكون قد جنيتُ على نفسي جناية ثانية، فجلس في ظل جدار كان هناك.

فلما ولى النهار وإذا بأحد الخادمين اللذين كانا مع الغلام قد أقبل عليه، فلما رآه حصل له سرور عظيم، وقال في نفسه: ما أعرف أني سررتُ بشيء أعظم من سروري هذا الوقت بالنظر إلى الخادم. فلما جاءه الخادم قال له: يا سيدي، قد أبطأنا عليك. فلم يذكر له شيئًا من الوله الذي كان به. ثم قال له الخادم: هل تعرف الرجل الذي أخذ الجارية؟ فقال له: لا. قال: هو الوليد بن سهل ولي العهد. فسكت عند ذلك ثم قال: قم فاركب. وكان معه دابة، فأركبه إياها وسارا إلى أن وصلا إلى دار فدخلاها، فلما رأته الجارية وثبَتْ إليه وسلَّمَتْ عليه، فقال لها: ما كان من أمرك مع مَن اشتراكِ؟ قالت: أنزَلَني في هذه الحجرة، وأمر لي بما أحتاج إليه. فجلس عندها ساعةً، وإذا بخادمِ صاحبِ الدار قد جاء إليه ثم قال له: قم. فقام معه ودخل به على سيده، فوجده ضيفه بالأمس، ورآه جالسًا على سريره. فقال لي: مَن أنت؟ فقال له: يونس الكاتب. قال: مرحبًا بك، قد كنتُ والله أتشوَّق إلى رؤيتك، فإني كنت أسمع بخبرك، فكيف كان مبيتك في ليلتك؟ فقال له: بخير أعَزَّك الله تعالى. ثم قال: لعلك ندمتَ على ما كان منك البارحة، وقلتَ في نفسك: إني دفعت جاريتي إلى رجل لا أعرفه ولا أعرف اسمه ولا من أي البلاد هو؟ فقال له: معاذ الله أيها الأمير أن أندم عليها، ولو أهديتُها إلى الأمير لَكانت أقل ما يُهدَى إليه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 685﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن يونس الكاتب لما قال للوليد بن سهل: معاذ الله أن أندم، ولو أهديتها للأمير لَكانت أقل ما يُهدَى إليه، وما هذه الجارية بالنسبة إلى مقامه؟ فقال له الوليد: والله إني ندمت على أخذها منك، وقلت: هذا رجل غريب لا يعرفني، وقد دهمته وسفهت عليه في استعجالي بأخذ الجارية، أفتذكر ما كان بيننا؟ قلتُ: نعم. قال: أتبيعني هذه الجارية بخمسين ألف درهم؟ قال: نعم. قال: هات يا غلام المال. فوضعه بين يديه فقال: يا غلام هات ألفًا وخمسمائة دينار. فأتى بها ثم قال: هذا ثمن جاريتك فضَمَّه إليك، وهذا الألف دينار لحُسْن ظنك بنا، وهذه الخمسمائة دينار لنفقة طريقك وما تبتاعه لأهلك، أرضيتَ؟ قال: رضيت. وقبَّلْتُ يدَيْه وقلت: والله قد ملأتَ عيني ويدي وقلبي. ثم قال الوليد: والله إني لم أخلُ بها ولا شبعتُ من غنائها، عليَّ بها. فجاءت فأمرها بالجلوس فجلست، فقال لها: غنِّي. فأنشدت هذا الشعر:

أَيَا مَنْ حَازَ كُلَّ الْحُسْنِ طُرًّا        وَيَا حُلْوَ الشَّمَائِلِ وَالدَّلَالِ

جَمِيعُ الْحُسْنِ فِي تُرْكٍ وَعُرْبٍ        وَمَا فِي الْكُلِّ مِثْلُكَ يَا غَزَالِي

تَعَطَّفْ يَا مَلِيحُ عَلَى مُحِبٍّ        بِوَعْدِكَ لَوْ بِطَيْفٍ مِنْ خَيَالِ

حَلَالِي فِيكَ ذُلِّي وَافْتِضَاحِي        وَطَابَ لِمُقْلَتِي سَهَرُ اللَّيَالِي

وَمَا أَنَا فِيكَ أَوَّلُ مُسْتَهَامٍ        فَكَمْ قَبْلِي قَتَلْتَ مِنَ الرِّجَالِ

رَضِيتُكَ لِي مِنَ الدُّنْيَا نَصِيبًا        وَأَنْتَ أَعَزُّ مِنْ رُوحِي وَمَالِي

فطرب طربًا شديدًا، وشكر حُسْن تأديبي لها وتعليمي إياها، ثم قال: يا غلام، قدِّم له دابة بسرجها وآلاتها لركوبه، وبغلًا لحمل حوائجه. ثم قال: يا يونس، إذا بلغك أن هذا الأمر قد أفضى إليَّ فالحق بي، فوالله لَأملأَنَّ بالخير يديك، ولَأُعْلِيَنَّ قدرك ولَأغْنِيَنَّك ما بقيت. فأخذت المال وانصرفت، فلما أفضت إليه الخلافة سرتُ إليه، فوفَّى لي والله بوعده وزاده في إكرامي، وكنتُ معه على أسر حال وأسنى منزلة، وقد اتَّسَعَتْ أحوالي وكثرت أموالي، وصار لي من الضياع والأموال ما يكفيني إلى مماتي، ويكفي وَرَثَتِي من بعدي. ولم أزل معه حتى قُتِل رحمه الله تعالى.

 

وحُكِي أيضًا أن أمير المؤمنين هارون الرشيد مرَّ في بعض الأيام، وصحبته جعفر البرمكي، وإذا هو بعدة بنات يسقين الماء، فعرَّج عليهن يريد الشرب، وإذا إحداهن التفتَتْ إليه، وأنشدت هذه الأبيات:

قُولِي لِطَيْفِكِ يَنْثَنِي        عَنْ مَضْجَعِي وَقْتَ الْمَنَامْ

كَيْ أَسْتَرِيحَ وَتَنْطَفِي        نَارٌ تَأَجَّجُ فِي الْعِظَامْ

دَنِفٌ تُقَلِّبُهُ الْأَكُــفُّ        عَلَى بِسَاطٍ مِنْ سَقَامْ

أَمَّا أَنَا فَكَمَا عَلِمْــتِ        فَهَلْ لِوَصْلِكِ مِنْ دَوَامْ

فأعجب أميرَ المؤمنين ملاحتُها وفصاحتُها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 686﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن أمير المؤمنين لما سمع هذه الأبيات من البنت أعجبته ملاحتها وفصاحتها، فقال لها: يا بنت الكرام، أهذا من مقولك أم من منقولك؟ قالت: من مقولي. قال: إذا كان كلامك صحيحًا، فأمسكي المعنى وغيِّرِي القافية. فأنشدت تقول:

قُولِي لِطَيْفِكِ يَنْثَنِي        عَنْ مَضْجَعِي وَقْتَ الْوَسَنْ

كَيْ أَسْتَرِيحَ وَتَنْطَفِي        نَارٌ تَأَجَّجُ فِي الْبَدَنْ

دَنِفٌ تُقَلِّبُهُ الْأَكُــفُّ        عَلَى بِسَاطٍ مِنْ شَجَنْ

أَمَّا أَنَا فَكَمَا عَلِمْــتِ        فَهَلْ لِوَصْلِكِ مِنْ ثَمَنْ

فقال لها: والآخَر مسروق؟ قالت: بل كلامي. فقال: إن كان كلامك أيضًا، فأمسكي المعنى وغيِّري القافية. فجعلت تقول:

قُولِي لِطَيْفِكِ يَنْثَنِي        عَنْ مَضْجَعِي وَقْتَ الرُّقَادْ

كَيْ أَسْتَرِيحَ وَتَنْطَفِي        نَارٌ تَأَجَّجُ فِي الْفُؤَادْ

دَنِفٌ تُقَلِّبُهُ الْأَكُــفُّ        عَلَى بِسَاطٍ مِنْ سُهَادْ

أَمَّا أَنَا فَكَمَا عَلِمْــتِ        فَهَلْ لِوَصْلِكِ مِنْ سَدَادْ

فقال لها: والآخر مسروق؟ فقالت: بل كلامي. فقال لها: إن كان كلامك فأمسكي المعنى وغيِّري القافية. فقالت:

قُولِي لِطَيْفِكِ يَنْثَنِي        عَنْ مَضْجَعِي وَقْتَ الْهُجُوعْ

كَيْ أَسْتَرِيحَ وَتَنْطَفِي        نَارٌ تَأجَّجُ فِي الضُّلُوعْ

دَنِفٌ تُقَلِّبُهُ الْأَكُــفُّ        عَلَى بِسَاطٍ مِنْ دُمُوعْ

أَمَّا أَنَا فَكَمَا عَلِمْــتِ        فَهَلْ لِوَصْلِكِ مِنْ رُجُوعْ

فقال لها أمير المؤمنين: من أي هذا الحي؟ قالت: من أوسطه بيتًا وأعلاه عمودًا. فعلم أمير المؤمنين أنها بنت كبير الحي، ثم قالت له: وأنت من أي رعاة الخيل؟ فقال: من أعلاها شجرة وأينعها ثمرةً. فقبَّلَتِ الأرض وقالت: أيَّدَك الله يا أمير المؤمنين. ودعت له، ثم انصرفت مع بنات العرب، فقال الخليفة لجعفر: لا بد من زواجها. فتوجَّهَ جعفر إلى أبيها وقال له: إن أمير المؤمنين يريد ابنتك. فقال: حبًّا وكرامةً تُهدَى جارية إلى حضرة مولانا أمير المؤمنين. ثم جهَّزَها وحملها إليه وتزوَّجها، ودخل بها، فكانت عنده من أعز نسائه، وأعطى والدها ما يستره بين العرب من الأنعام، ثم بعد ذلك انتقل والدها إلى رحمة الله تعالى، فورد على الخليفة خبر وفاة أبيها، فدخل عليها وهو كئيب، فلما شاهدته وعليه الكآبة نهضت، ودخلت إلى حجرتها، وخلعت كل ما كان عليها من الثياب الفاخرة، ولبست الحداد وأقامت النعي عليه، فقيل لها: ما سبب هذا؟ فقالت: مات والدي. فمضوا إلى الخليفة، فأخبروه فقام وأتى إليها وسألها مَن أخبرك بهذا الخبر؟ قالت: وجهك يا أمير المؤمنين. قال: وكيف ذلك؟ قالت: لأني منذ استقررْتُ عندك ما رأيتُك هكذا إلا في هذه المرة، ولم يكن لي مَن أخاف عليه إلا والدي لكِبَره، وتعيش رأسك يا أمير المؤمنين. فتغرغرتْ عيناه بالدموع، وعزَّاها فيه، وأقامت مدة حزينة على والدها، ثم لحقت به رحمة الله عليهم أجمعين.

 

وحُكِي أيضًا أن أمير المؤمنين هارون الرشيد أرق أرقًا شديدًا في ليلة من الليالي، فقام من فراشه وتمشَّى من مقصورة إلى مقصورة، ولم يزل قَلِقًا في نفسه قَلَقًا زائدًا، فلما أصبح قال: عليَّ بالأصمعي. فخرج الطواشي إلى البوابين وقال: يقول لكم أمير المؤمنين أرسلوا لي الأصمعي. فلما حضر أُعلِم به أمير المؤمنين، فأمر بإدخاله وأجلسه ورحَّبَ به وقال له: يا أصمعي، أريد منك أن تحدِّثني بأجود ما سمعتَ من أخبار النساء وأشعارهن. فقال: سمعًا وطاعة. لقد سمعتُ كثيرًا، ولم يعجبني سوى ثلاثة أبيات أنشدهن ثلاث بنات. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 687﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الأصمعي قال لأمير المؤمنين: لقد سمعتُ كثيرًا ولم يعجبني سوى ثلاثة أبيات أنشدهن ثلاث بنات. فقال: حدِّثني بحديثهن. فقال: اعلم يا أمير المؤمنين أني أقمتُ سنة في البصرة، فاشتدَّ عليَّ الحر، فطلبت مقيلًا أقيل فيه فلم أجد، فبينما أنا ألتفت يمينًا وشمالًا، وإذا بساباط مكنوس مرشوش وفيه دكة من خشب، وعليها شباك مفتوح يفوح منه رائحة المسك، فدخلت الساباط وجلست على الدكة وأردت الاضطجاع، فسمعت كلامًا عذبًا من جارية وهي تقول: يا أخواتي، إننا جلسنا يومنا هذا على وجه المؤانسة، فتعالَيْن نطرح ثلاثمائة دينار، وكل واحدة منَّا تقول بيتًا من الشعر، فكلُّ مَن قالت البيت الأعذب الأملح كانت الثلاثمائة دينار لها. فقلن: حبًّا وكرامة. فقالت الكبرى بيتًا وهو هذا:

عَجِبْتُ لَهُ أَنْ زَارَ فِي النَّوْمِ مَضْجَعِي        وَلَوْ زَارَنِي مُسْتَيْقِظًا كَانَ أَعْجَبَا

فقالت الوسطى بيتًا وهو هذا:

وَمَا زَارَنِي فِي النَّوْمِ إِلَّا خَيَالُهُ        فَقَلْتُ لَهُ أَهْلًا وَسَهْلًا وَمَرْحَبَا

فقالت الصغرى بيتًا وهو هذا:

بِنَفْسِي وَأَهْلِي مَنْ أَرَى كُلَّ لَيْلَةٍ        ضَجِيعِي وَرَيَّاهُ مِنَ الْمِسْكِ أَطْيَبَا

فقلت: إن كان لهذا المثال جمال فقد تمَّ الأمر على كل حال. فنزلتُ من على الدكة وأردتُ الانصراف، وإذا بالباب قد فُتِح وخرجت منه جارية وهي تقول: اجلس يا شيخ. فطلعت على الدكة ثانيًا، وجلست، فدفعت لي ورقة، فنظرت فيها خطًّا في نهاية الحُسْن، مستقيم الأَلِفات، مجوَّف الهاءات، مدوَّر الواوات، مضمونها: نُعلِم الشيخ — أطال الله بقاءه — أننا ثلاث بنات أخوات، جلسن على وجه المؤانسة، وطرحنا ثلاثمائة دينار، وشرطنا أن كلَّ مَن قالت البيت الأعذب الأملح كان لها الثلاثمائة دينار، وقد جعلناك الحَكَمَ في ذلك، فاحكم بما ترى والسلام. فقلتُ للجارية: عليَّ بدواة وقرطاس، فغابت قليلًا وخرجت إليَّ بدواة مفضَّضة وأقلام مذهبة، فكتبتُ هذه الأبيات:

أُحَدِّثُ عَنْ خُودٍ تَحَدَّثْنَ مَرَّةً        حَدِيثَ امْرِئٍ قَاسَ الْأُمُورَ وَجَرَّبَا

ثَلَاثٌ كَبُكْرَاتِ الصَّبَاحِ صَبَاحَةً        تَمَلَّكْنَ قَلْبًا بِالْغَرَامِ مُعَذَّبَا

خَلَوْنَ وَقَدْ نَامَتْ عُيُونٌ كَثِيرَةٌ        مِنَ النَّاسِ قَدْ أَعْرَضْنَ عَمَّنْ تَجَنَّبَا

فَبُحْنَ بِمَا يَخْفِينَ مِنْ دَاخِلِ الْحَشَى        نَعَمْ وَاتَّخَذْنَ الشِّعْرَ لَهْوًا وَمَلْعَبَا

فَقَالَتْ عَرُوبٌ ذَاتُ تِيهٍ عَزِيزَةٌ        وَتَبْسَمُ عَنْ عَذْبِ الْمَقَالَةِ أَشْنَبَا

عَجِبْتُ لَهُ أَنْ زَارَ فِي النَّوْمِ مَضْجَعِي        وَلَوْ زَارَنِي مُسْتَيْقِظًا كَانَ أَعْجَبَا

فَلَمَّا انْقَضَى مَا زَخْرَفَتْ بِتَضَاحُكٍ        تَنَفَّسَتِ الْوُسْطَى وَقَالَتْ تَطَرُّبَا

وَمَا زَارَنِي فِي النَّوْمِ إِلَّا خَيَالُهُ        فَقُلْتُ لَهُ أَهْلًا وَسَهْلًا وَمَرْحَبَا

وَأَحْسَنَتِ الصُّغْرَى وَقَالَتْ مُجِيبَةً        بِلَفْظٍ لَهَا قَدْ كَانَ أَشْهَى وَأَعْذَبَا

بِنَفْسِي وَأَهْلِي مَنْ أَرَى كُلَّ لَيْلَةٍ        ضَجِيعِي وَرَيَّاهُ مِنَ الْمِسْكِ أَطْيَبَا

فَلَمَّا تَدَبَّرْتُ الَّذِي قُلْنَ وَانْبَرَى        لِيَ الْحُكْمُ لَمْ أَتْرُكْ لِذِي اللُّبِّ مَلْعَبَا

حَكَمْتُ لِصُغْرَاهُنَّ فِي الشِّعْرِ أَنَّنِي        رَأَيْتُ الَّذِي قَالَتْ إِلَى الْحَقِّ أَقْرَبَا

قال الأصمعي: ثم دفعت الورقة إلى الجارية، فلما صعدت عادت إلى القصر، وإذا برقص وصفق وقيامة قائمة، فقلتُ: ما بقي لي إقامة. فنزلت من فوق الدكة وأردت الانصراف، وإذا بالجارية تنادي وتقول: اجلس يا أصمعي. فقلت: ومَنْ أعلمكِ أني الأصمعي؟ فقالت: يا شيخ، إنْ خفي علينا اسمك، فما خفي علينا نظمك. فجلست وإذا بالباب قد فُتِح، وخرجت منه الجارية الأولى وفي يدها طبق من فاكهة وطبق من حلوى، فتفكَّهْتُ وتحلَّيْتُ، وشكرت صنيعها وأردت الانصراف، وإذا بالجارية تنادي وتقول: اجلس يا أصمعي. فرفعت بصري إليها، فنظرت كفًّا أحمر في كم أصفر، فخلته البدر يشرق من تحت الغمام، ورمت صرة فيها ثلاثمائة دينار، وقالت: هذا لي، وهو مني إليك هدية في نظير حكومتك. فقال له أمير المؤمنين: لِمَ حكمتَ للصغرى؟ فقال: يا أمير المؤمنين، أطال الله بقاءك، إن الكبرى قالت: عجبتُ له أن زار في النوم مضجعي، وهو محجوب معلَّق على شرط قد يقع، وقد لا يقع؛ وأما الوسطى فقد مرَّ بها طيف خيال في النوم، فسلَّمَتْ عليه؛ وأما بيت الصغرى، فإنها ذكرت فيه أنها ضاجعته مضاجعةً حقيقية، وشمَّتْ منه أنفاسًا أطيب من المسك، وفدته بنفسها وأهلها، ولا يُفدَى بالنفس إلا مَن هو أعزُّ منها. فقال الخليفة: أحسنتَ يا أصمعي. ودفع إليه ثلاثمائة دينار مثلها في نظير حكايته.

 

وحُكِي أيضًا أن أبا إسحاق إبراهيم الموصلي قال: استأذنتُ الرشيد في أن يهب لي يومًا من الأيام للانفراد بأهل بيتي وإخواني، فأَذِن لي في يوم السبت، فأتيتُ منزلي وأخذتُ في إصلاح طعامي وشرابي وما أحتاج إليه، وأمرت البوابين أن يغلقوا الأبواب، وألَّا يأذنوا لأحد في الدخول عليَّ، فبينما أنا في مجلسي والحريم قد حففن بي، وإذا بشيخ ذي هيبة وجمال، وعليه ثياب بيض وقميص ناعم، وعلى رأسه طليسان وفي يده عكاز قبضته من فضة، وروائح الطيب تفوح منه حتى ملأَتِ الدار والرواق، فدخلني غيظ عظيم بدخوله عليَّ وهممتُ بطرد البوابين، فسلَّمَ عليَّ بأحسن سلام، فرددتُ عليه وأمرتُه بالجلوس، فجلس وأخذ يحدِّثني بحديث العرب وأشعارها حتى ذهب ما بي من الغضب، وظننتُ أن غلماني تحروا مسرتي بإدخال مثله عليَّ لأدبه وظرافته، فقلت له: هل لك في الطعام؟ فقال: لا حاجة لي فيه. فقلت له: وفي الشراب. قال: ذلك إليك. فشربتُ رطلًا وسقيته مثله، ثم قال: يا أبا إسحاق، هل لك أن تغنينا شيئًا، فنسمع من صنعتك ما قد فقتَ به العام والخاص؟ فغاظني قوله، ثم سهلت الأمر على نفسي، فأخذت العود وضربت وغنيت. فقال: أحسنتَ يا أبا إسحاق. ثم قال إبراهيم: فازددتُ غيظًا وقلت: ما قنع بما فعله من دخوله بغير إذن واقتراحه عليَّ حتى سمَّاني باسمي مع جهل مخاطبتي. ثم قال: هل لك أن تزيد ونكافِئك؟ فتحمَّلْتُ المشقة وأخذت العود فغنيتُ وتحفَّظْتُ فيما غنَّيت، وقمت به قيامًا ما لقوله: ونكافِئك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 688﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشيخ لما قال لأبي إسحاق: هل لك أن تزيدني ونكافِئك؟ قال أبو إسحاق: فتحمَّلْتُ المشقة وأخذت العود، فغنيت وتحفظت فيما غنيت وقمت به قيامًا تامًّا لقوله: ونكافِئك. فطرب وقال: أحسنتَ يا سيدي. ثم قال: أتأذن لي في الغناء؟ قال: شأنك. واستضعفت عقله في أن يغني بحضرتي بعد الذي سمعه مني، فأخذ العود وجسه، فوالله لقد خلت العود أن ينطق بلسان عربي فصيح بصوتٍ أغَنٍّ مليح، واندفع يغني هذه الأبيات:

وَلِي كَبِدٌ مَقْرُوحَةٌ مَنْ يَبِيعُنِي        بِهَا كَبِدًا لَيْسَتْ بِذَاتِ قُرُوحِ

أَبَاهَا عَلَيَّ النَّاسُ لَا يَشْتَرُونَهَا        وَمَنْ يَشْتَرِي ذَا عِلَّةٍ بِصَحِيحِ

أَئِنُّ مِنَ الشَّوْقِ الَّذِي بِجَوَانِحِي        أَنِينَ غُصَيْصٍ بِالشَّرَابِ قَرِيحِ

قال أبو إسحاق: فوالله لقد ظننتُ أن الأبواب والحيطان وكلَّ ما في البيت تجيبه وتغني معه من حُسْن صوته، حتى خلتُ والله أني أسمع أعضائي وثيابي تجيبه، وبقيت مبهوتًا لا أستطيع الكلام ولا الحركة لِمَا خالَطَ قلبي، ثم غنَّى بهذه الأبيات:

أَلَا يَا حَمَامَاتِ اللِّوَى عُدْنَ عَوْدَةً        فَإِنِّي مِنْ أَصْوَاتِكُنَّ حَزِينُ

فَعُدْنَ إِلَى أَيْكٍ فَكِدْنَ يُمِتْنَنِي        وَكِدْتُ بِأَسْرَارِي لَهُنَّ أَبِينُ

دَعَوْنَ فَرِيقًا بِالْهَدِيرِ كَأَنَّمَا        شَرِبْنَ الْحُمَيَّا أَوْ بِهِنَّ جُنُونُ

فَلَمْ تَرَ عَيْنِي مِثْلَهُنَّ حَمَائِمَ        بَكَيْنَ وَلَمْ تَدْمَعْ لَهُنَّ عُيُونُ

ثم غنَّى أيضًا بهذه الأبيات:

أَلَا يَا صَبَا نَجْدٍ مَتَى هِجْتِ مِنْ نَجْدِ        فَقَدْ زَادَنِي مَسْرَاكِ وَجْدًا عَلَى وَجْدِي

لَقَدْ هَتَفَتْ وَرْقَاءُ فِي رَوْنَقِ الضُّحَى        عَلَى فَنَنِ الْأَغْصَانِ بِالْبَانِ وَالرَّنْدِ

بَكَتْ مِثْلَ مَا يَبْكِي الْوَلِيدُ صَبَابَةً        وَأَبْدَتْ مِنَ الْأَشْوَاقِ مَا لَمْ أَكُنْ أُبْدِي

وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ الْمُحِبَّ إِذَا دَنَا        يَمَلُّ وَأَنَّ الْبُعْدَ يَشْفِي مِنَ الْوَجْدِ

بِكُلٍّ تَدَاوَيْنَا فَلَمْ يُشْفَ مَا بِنَا        عَلَى أَنَّ قُرْبَ الدَّارِ خَيْرٌ مِنَ الْبُعْدِ

عَلَى أَنَّ قُرْبَ الدَّارِ لَيْسَ بِنَافِعٍ        إِذَا كَانَ مَنْ تَهْوَاهُ لَيْسَ بِذِي وُدِّ

ثم قال: يا إبراهيم، غنِّ هذا الغناء الذي سمعتَه وانحِ نحوه في غنائك وعلِّمه جواريك. فقلت: أَعِدْه عليَّ. فقال: لستَ تحتاج إلى إعادة، قد أخذته وفرغت منه. ثم غاب من بين يدي. فتعجَّبْتُ منه وقمتُ إلى السيف وجذَبْتُه، ثم غدوت نحو باب الحريم فوجدتُه مغلقًا، فقلت للجواري: أي شيء سمعتن؟ فقلن: سمعنا أطيب غناء وأحسنه. فخرجتُ متحيِّرًا إلى باب الدار فوجدتُه مغلقًا، فسألتُ البوابين عن الشيخ فقالوا لي: شيخ! فوالله ما دخل إليك اليومَ أحدٌ. فرجعت أتأمَّل أمره، فإذا هو قد هتف من جانب الدار فقال: لا بأس عليك يا أبا إسحاق، إنما أنا أبو مرة، قد كنتُ نديمك اليومَ فلا تفزع. فركبت إلى الرشيد فأخبرته الخبر، فقال: أَعِدِ الأصواتَ التي أخذتَها منه. فأخذت العود وضربتُ، فإذا هي راسخة في صدري؛ فطرب بها الرشيد وجعل يشرب عليها، ولم يكن له انهماك على الشراب، وقال: ليته متَّعَنا بنفسه يومًا واحدًا كما متَّعَك. ثم أمر لي بصلة، فأخذتُها وانصرفت.

عاشقان من بني عذرة

وحُكِي أيضًا أن مسرور الخادم قال: أرق أمير المؤمنين هارون الرشيد ليلةً أرقًا شديدًا، فقال لي: يا مسرور، مَن بالباب من الشعراء؟ فخرجت إلى الدهليز فوجدتُ جميل بن معمر العذري، فقلت له: أجِبْ أمير المؤمنين. فقال: سمعًا وطاعة. فدخلتُ ودخل معي إلى أن صار بين يدي هارون الرشيد، فسلَّمَ بسلام الخلافة، فردَّ عليه السلام وأمره بالجلوس، ثم قال له الرشيد: يا جميل، أعندك شيء من الأحاديث العجيبة؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أيما أَحَبُّ إليك؛ ما عاينتُه ورأيتُه، أو ما سمعتُه ووعيتُه؟ فقال: حدِّثني بما عاينتَه ورأيتَه. قال: نعم يا أمير المؤمنين، أقبِلْ عليَّ بكُلِّك، وأصغِ إليَّ بإذنَيْك. فعمد الرشيد إلى مخدة من الديباج الأحمر المزركش بالذهب، محشوَّة بريش النعام، فجعلها تحت فخذيه، ثم مكَّنَ منها مرفقيه، وقال: هلمَّ بحديثك يا جميل. فقال: اعلم يا أمير المؤمنين أني كنت مفتونًا بفتاةٍ مُحِبًّا لها، وكنت أتردَّد إليها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 689﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن أمير المؤمنين هارون الرشيد لما اتكأ على مخدة من الديباج قال: هلمَّ بحديثك يا جميل. فقال: اعلم يا أمير المؤمنين أني كنتُ مفتونًا بفتاة محبًّا لها، وكنتُ أتردَّد إليها إذ هي سؤلي وبغيتي من الدنيا، ثم إن أهلها رحلوا لقلة المرعى، فأقمتُ مدةً لم أَرَها، ثم إن الشوق أقلقني وجذبني إليها، فحدَّثتني نفسي بالمسير إليها، فلما كان ذات ليلة من الليالي هزَّني الشوق إليها، فقمت وشددت رحلي على ناقتي وتعمَّمْتُ بعمامتي، ولبست أطماري، وتقلَّدْتُ بسيفي، واعتقلتُ رمحي، وركبت ناقتي، وخرجت طالبًا لها، وكنت أُسرِع في المسير، فسرتُ ذات ليلة وكانت ليلةً مظلمةً مدلهمة، وأنا مع ذلك أكابد هبوط الأودية وصعود الجبال، فأسمع زئيرَ الآساد وعيَّ الذئاب وأصواتَ الوحوش من كل جانب، وقد ذهل عقلي وطاش لبي، ولساني لا يفتر عن ذِكْر الله تعالى. فبينما أنا أسير على هذا الحال إذ غلبني النوم، فأخذت بي الناقة على غير الطريق التي كنتُ فيها، وغلب عليَّ النوم، وإذا أنا بشيء لطمني في رأسي، فانتبهت فَزِعًا مرعوبًا، وإذا بأشجار وأنهار، وأطيار على تلك الأغصان تغرِّد بلغاتها وألحانها، وأشجار تلك المرج مشتبك بعضها ببعض؛ فنزلت عن ناقتي وأخذت بزمامها في يدي، ولم أزل أتلطف في الخلاص إلى أن خرجت بها من تلك الأشجار إلى أرض فلاة، فأصلحتُ كورها واستويت راكبًا على ظهرها، ولا أدري إلى أين أذهب، ولا إلى أي مكان تسوقني الأقدار، فمددتُ نظري في تلك البرية، فلاحت لي نار في صدرها، فوكزتُ ناقتي وصرت متوجِّهًا إليها حتى وصلتُ إلى تلك النار، فقرَّبْتُ منها وتأملت وإذا بخباء مضروب، ورمح مركوز، ودابة قائمة، وخيل واقفة، وإبل سائمة؛ فقلتُ في نفسي: يوشك أن يكون لهذا الخباء شأن عظيم، فإني لا أرى في تلك البرية سواه.

ثم تقدَّمتُ إلى جهة الخباء، وقلت: السلام عليكم يا أهل الخباء ورحمة الله وبركاته. فخرج إليَّ من الخباء غلامٌ من أبناء التسع عشرة سنة، فكأنه البدر إذا أشرق والشجاعة بين عينيه، فقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته يا أخا العرب، إني أظنك ضالًّا عن الطريق؟ فقلت: الأمر كذلك، أرشدني يرحمك الله. فقال: يا أخا العرب، إن بلدنا هذه مسبعة، وهذه الليلة مظلمة موحشة شديدة الظلمة والبرد، ولا آمن عليك من الوحش أن يفترسك، فانزل عندي على الرحب والسعة، فإذا كان الغد أرشدتُك إلى الطريق. فنزلتُ عن ناقتي وعقلتها بفضل زمامها، ونزعتُ ما كان عليَّ من الثياب، وتخفَّفْتُ وجلستُ ساعةً، وإذا بالشاب قد عمد إلى شاة فذبحها، وإلى نارٍ فأضرمها وأجَّجَها، ثم دخل الخباء وأخرج إبزارًا ناعمة وملحًا طيبًا، وأقبل يقطع من ذلك اللحم قطعًا، ويشويها على النار ويعطيني، ويتنهَّد ساعةً ويبكي أخرى، ثم شهق شهقة عظيمة وبكى بكاءً شديدًا، وأنشد يقول هذه الأبيات:

لَمْ يَبْقَ إِلَّا نَفَسٌ هَافِتُ        وَمُقْلَةٌ إِنْسَانُهَا بَاهِتُ

لَمْ يَبْقَ فِي أَعْضَائِهِ مَفْصِلٌ        إِلَّا وَفِيهِ سَقَمٌ ثَابِتُ

وَدَمْعُهُ جَارٍ وَأَحْشَاؤُهُ        تَوَقَّدُ لَكِنَّهُ سَاكِتُ

تَبْكِي لَهُ أَعْدَاؤُهُ رَحْمَةً        يَا وَيْحَ مَنْ يَرْحَمُهُ الشَّامِتُ

قال جميل: فعلمت عند ذلك يا أمير المؤمنين أن الغلام عاشق ولهان، ولا يعرف الهوى إلا مَن ذاق طعم الهوى. فقلت في نفسي: هل أسأله؟ ثم راجعت نفسي وقلت: كيف أتهجم عليه في السؤال وأنا في منزله؟ فردعت نفسي وأكلت من ذلك اللحم كفايتي. فلما فرغنا من الأكل قام الشاب ودخل الخباء، وأخرج طشتًا وإبريقًا حسنًا، ومنديلًا من الحرير وأطرافه مزركشة بالذهب الأحمر، وقمقمًا ممتلئًا من ماء الورد المُمسَّك، فتعجبتُ من ظرفه ورِقَّة حاشيته، وقلت في نفسي: لم أعرف الظرف في البادية. ثم غسلنا أيدينا وتحدَّثنا ساعة، ثم قام ودخل الخباء، وفصل بيني وبينه بفاصل من الديباج الأحمر وقال: ادخل يا وجه العرب وخذ مضجعك، فقد لحقك في هذه الليلة تعب، وفي سفرتك هذه نصب مفرط. فدخلت وإذا أنا بفراش من الديباج الأخضر، فعند ذلك نزعت ما عليَّ من الثياب، وبتُّ ليلة لم أبت في عمري مثلها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 690﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن جميلًا قال: فبتُّ ليلةً لم أبت عمري مثلها؛ فكل ذلك وأنا متفكر في أمر هذا الشاب إلى أن جنَّ الليل ونامت العيون، فلم أشعر إلا بصوت خفي لم أسمع ألطف منه، ولا أرق حاشية، فرفعت الفاصل المضروب بيننا، وإذا أنا بصبية لم أَرَ أحسن منها وجهًا وهي في جانبه، وهما يبكيان ويتشاكيان ألمَ الهوى والصبابة والجوى وشدة اشتياقهما إلى التلاقي، فقلت: يا لله العجب من هذا الشخص الثاني! وحين دخلتُ هذا البيت لم أَرَ فيه غير هذا الفتى وما عنده أحد، ثم قلتُ في نفسي: لا شك أن هذه من بنات الجن تهوى هذا الغلام، وقد تفرَّدَ بها في هذا المكان وتفردت به. ثم أمعنت النظر فيها فإذا هي أنسية عربية، إذا أسفرت عن وجهها تخجل الشمس المضيئة، وقد أضاء الخباء من نور وجهها، فلما تحققتُ أنها محبوبته تذكَّرْتُ غيرةَ المحب، فأرخيت الستر وغطيتُ وجهي ونمت. فلما أصبحت لبست ثيابي وتوضأت لصلاتي، وصليت ما كان عليَّ من الفرض، ثم قلت له: يا أخا العرب، هل لك أن ترشدني إلى الطريق، وقد تفضَّلْتَ عليَّ؟ فنظر إليَّ وقال: على رسلك يا وجه العرب، إن الضيافة ثلاثة أيام، وما كنت بالذي يدعك إلا بعد ثلاثة أيام.

قال جميل: فأقمت عنده ثلاثة أيام، فلما كان في اليوم الرابع جلسنا للحديث، فحادثته وسألته عن اسمه ونسبه فقال: أمَّا نسبي فأنا من بني عذرة، وأما اسمي أنا فلان بن فلان، وعمي فلان. فإذا هو ابن عمي يا أمير المؤمنين، وهو من أشرف بيتٍ من بني عذرة، فقلت: يا ابن العم، ما حملك على ما أراه منك من الانفراد في هذه البرية؟ وكيف تركتَ نعمتك ونعمة آبائك؟ وكيف تركت عبيدك وإماءك، وانفردتَ بنفسك في هذا المكان؟ فلما سمع يا أمير المؤمنين كلامي اغرورقَتْ عيناه بالدموع والبكاء، ثم قال: يا ابن العم، إني كنت محبًّا لابنة عمي مفتونًا بها، هائمًا بحبها، مجنونًا في هواها لا أطيق الفراق عنها، فزاد عشقي لها فخطبتها من عمي، فأَبَى وزوَّجها لرجل من بني عذرة ودخل بها، وأخذها إلى المحلة التي هو فيها من العام الأول، فلما بعدَتْ عني واحتجبت عن النظر إليها، حملتني لوعات الهوى وشدة الشوق والجوى على ترك أهلي ومفارقة عشيرتي وخلَّاني وجميع نعمتي، وانفردت بهذا البيت في هذه البرية، وألفت وحدتي. فقلت: وأين بيوتهم؟ قال: هي قريب في ذروة هذا الجبل، وهي كلَّ ليلة عند نوم العيون وهدوء الليل تنسلُّ من الحي سرًّا، بحيث لا يشعر بها أحد، فأقضي منها بالحديث وطرًا، وتقضي هي كذلك، وها أنا مقيم على ذلك الحال أتسلى بها ساعة من الليل ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا، أو يأتيني الأمر على رغم الحاسدين، أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين. ثم قال جميل: فلما أخبرني الغلام يا أمير المؤمنين، غمَّني أمره، وصرت من ذلك حيرانًا لما أصابني من الغيرة، فقلت له: يا ابن العم، وهل لك أن أدلك على حيلة أشير بها عليك، وفيها إن شاء الله عين الصلاح وسبيل الرشد والنجاح، وبها يزيل الله عنك الذي تخشاه؟ فقال الغلام: قل لي يا ابن العم. فقلت له: إذا كان الليل وجاءت الجارية، فاطرحها على ناقتي، فإنها سريعة الرواح، واركب أنت جوادك وأنا أركب بعض هذه النياق، وأسير بكما الليلة جميعها، فما يصبح الصباح إلا وقد قطعتُ بكما براري وقفارًا، أو تكون قد بلغتَ مرادك وظفرتَ بمحبوبة قلبك، وأرض الله واسعة فضاها، وأنا والله مساعدك ما حييت بروحي ومالي وسيفي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 691﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن جميلًا قال لابن عمه أن يأخذ الجارية ويذهبا بها في الليل، ويكون عونًا له ومساعدًا مدة حياته، فلما سمع ذلك قال: يا ابن العم، حتى أشاورها في ذلك، فإنها عاقلة لبيبة بصيرة بالأمور. قال جميل: فلما جنَّ الليل وحان وقت مجيئها وهو ينتظرها في الوقت المعلوم، فأبطأت عن عادتها، فرأيتُ الفتى خرج من باب الخباء، وفتح وجعل يتنسَّم هبوب الريح الذي يهب من نحوها، وينشق ريَّاها، وينشد هذين البيتين:

رِيحُ الصِّبَا تُهْدِي إِلَيَّ نَسِيمُ        مِنْ بَلْدَةٍ فِيهَا الْحَبِيبُ مُقِيمُ

يَا رِيحُ فِيكِ مِنَ الْحَبِيبِ عَلَامَةٌ        أَفَتَعْلَمِينَ مَتَّى يَكُونُ قُدُومُ؟

ثم دخل الخباء وقعد ساعةً زمانية وهو يبكي، ثم قال: يا ابن العم، إن لابنة عمي في هذه الليلة نبأ، وقد حدث لها حادث أو عاقها عني عائق. ثم قال لي: كن مكانك حتى آتيك بالخبر. ثم أخذ سيفه وترسه، ثم غاب عني ساعة من الليل، ثم أقبل وعلى يديه شيء يحمله، ثم صاح عليَّ فأسرعتُ إليه، فقال: يا ابن العم، أتدري ما الخبر؟ فقلت: لا والله. فقال: لقد فُجِعت في ابنة عمي هذه الليلة؛ لأنها قد توجَّهَتْ إلينا، فتعرَّض لها في طريقها أسد فافترسها، ولم يُبْقِ منها إلا ما ترى. ثم طرح ما كان على يده فإذا هو مشاش الجارية، وما فضل من عظامها، ثم بكى بكاءً شديدًا ورمى القوس من يده، وأخذ كيسًا على يده، ثم قال لي: لا تبرح إلى أن آتيك إن شاء الله تعالى. ثم سار فغاب عني ساعة، ثم عاد وبيده رأس أسدٍ فطرحه من يده، ثم طلب ماء فأتيته به، فغسل فم الأسد، وجعل يقبِّله ويبكي، وزاد حزنه، وجعل ينشد هذه الأبيات:

أَلَا أَيُّهَا اللَّيْثُ الْمُعِزُّ بِنَفْسِهِ        هُلِكْتَ وَقَدْ هَيَّجْتَ لِي بَعْدَهَا حُزْنَا

وَصَيَّرْتَنِي فَرْدًا وَقَدْ كُنْتُ إِلْفَهَا        وَصَيَّرْتَ بَطْنَ الْأَرْضِ قَبْرًا لَهَا هُنَا

أَقُولُ لِدَهْرٍ سَاءَنِي بِفِرَاقِهَا        أَعُوذُ بِرَبِّي أَنْ تُرِينِي لَهَا خِدْنَا

ثم قال: يا ابن العم، سألتك بالله وبحق القرابة والرحم التي بيني وبينك أن تحفظ وصيتي، فستراني الساعة ميتًا بين يديك، فإذا كان ذلك فغسِّلْني وكفِّنْي أنا وهذا الفاضل من عظام ابنة عمي في هذا الثوب، وادفِنَّا جميعًا في قبر واحد، واكتب على قبرنا هذين البيتين:

كُنَّا عَلَى ظَهْرِهَا وَالْعَيْشُ فِي رَغَدٍ        وَالشَّمْلُ مُجْتَمِعٌ وَالدَّارُ وَالْوَطَنُ

فَفَرَّقَ الدَّهْرُ وَالتَّصْرِيفُ إِلْفَتَنَا        وَصَارَ يَجْمَعُنَا فِي بَطْنِهَا الْكَفَنُ

ثم بكى بكاءً شديدًا، ثم دخل الخباء وغاب عني ساعةً وخرج، وصار يتنهد ويصيح، ثم شهق شهقة ففارَقَ الدنيا، فلما رأيت ذلك منه عظم عليَّ وكبر عندي حتى كدتُ ألحق به من شدة حزني عليه، ثم تقدَّمْتُ إليه فأضجعته وفعلتُ به ما أمرني من العمل وكفَّنْتُهما جميعًا، ودفنتهما جميعًا في قبر واحد، وأقمت عند قبرهما ثلاثة أيام، ثم ارتحلتُ وأقمت سنتين أتردَّد إلى زيارتهما. وهذا ما كان من حديثهما يا أمير المؤمنين. فلما سمع الرشيد كلامه استحسنه، وخلع عليه، وأجازه جائزة حسنة.

 

وحُكِي أيضًا أيها الملك السعيد، أن أمير المؤمنين معاوية جلس يومًا في مجلس له بدمشق وكان الموضع مفتوح الطيقان من الجهات الأربع، يدخل فيه النسيم من كل جانب، فبينما هو جالس ينظر إلى بعض الجهات، وكان يومًا شديد الحر لا نسيم فيه، وكان ذلك في وسط النهار وقد اشتدت الهاجرة، إذ نظر إلى رجل يمشي وهو يتلظى من حر التراب، ويحجل في مشيه حافيًا، فتأمَّله وقال لجلسائه: هل خلق الله سبحانه وتعالى أشقى ممَّن يحتاج إلى الحركة في هذا الوقت وفي هذه الساعة مثل هذا؟ قال بعضهم: لعله يقصد أمير المؤمنين. فقال: والله لئن قصدني لَأعطينه، وإن كان مظلومًا لَأنصرنه. يا غلام قف بالباب فإذا طلب الدخول عليَّ هذا الأعرابي لا تمنعه من الدخول عليَّ. فخرج فوافاه الأعرابي، فقال له: ما تريد؟ قال: أريد أمير المؤمنين. قال له: ادخل. فدخل وسلَّمَ عليه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 692﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الخادم لما أذن للأعرابي في الدخول، دخل وسلَّمَ على أمير المؤمنين، فقال له معاوية: ممَّن الرجل؟ فقال: من بني تيم. قال: فما الذي جاء بك في هذا الوقت؟ فقال: جئتك مشتكيًا وبك مستجيرًا. قال: ممَّن؟ قال: من مروان بن الحكم عاملك. ثم إنه أنشد وجعل يقول:

مُعَاوِيَ يَا ذَا الْجُودِ وَالْحِلْمِ وَالْفَضْلِ        وَيَا ذَا النَّدَى وَالْعِلْمِ وَالرُّشْدِ وَالنُّبْلِ

أَتَيْتُكَ لَمَّا ضَاقَ فِي الْأَرْضِ مَذْهَبِي        فَيَا غَوْثَ لَا تَقْطَعْ رَجَائِي مِنَ الْعَدْلِ

وَجُدْ لِي بِإِنْصَافٍ مِنَ الْجَائِرِ الَّذِي        بَلَانِي بِشَيْءٍ كَانَ أَيْسَرَهُ قَتْلِي

سَبَانِي سُعَادَ وَانْبَرَى لِخُصُومَتِي        وَجَارَ وَلَمْ يَعْدِلْ وَأَفْقَدَنِي أَهْلِي

وَهَمَّ بِقَتْلِي غَيْرَ أَنَّ مَنِيَّتِي        تَأَنَّتْ وَلَمْ أَسْتَكْمِلِ الرِّزْقَ مِنْ أَجْلِي

فلما سمع معاوية إنشاده والنار تتوقَّد مِن فيه، قال له: أهلًا وسهلًا يا أخا العرب، اذكر قصتك وانبئ عن أمرك. فقال له: يا أمير المؤمنين، كان لي زوجة وكنتُ لها مُحِبًّا وبها كلفًا، وكنت قريرَ العين طيبَ النفس، وكانت لي جملة من الإبل، وكنت أستعين بها على قيام حالي، فأصابتنا سنة أذهبت الخف والحافر، وبقيتُ لا أملك شيئًا، فلما قلَّ ما بيدي وذهب مالي وفسد حالي، بقيت مهانًا ثقيلًا على الذي كان يرغب في زيارتي، فلما علم أبوها ما بي من سوء الحال وشر المآل، أخذها مني وجحدني وطردني وأغلظ عليَّ، فأتيتُ إلى عاملك مروان بن الحكم راجيًا لنصرته، فلما أحضر أباها وسأله عن حالي قال: ما أعرفه قطُّ. فقلت: أصلح الأمير إن رأى أن يحضر المرأة ويسألها عن قول أبيها تبيَّنَ الحق. فبعث خلفها وأحضرها، فلما وقفت بين يديه وقعت منه موقع الإعجاب، فصار لي خصمًا وعليَّ منكرًا، وأظهر لي الغضب وبعثني إلى السجن، فصرت كأنما نزلت من السماء، واستوى بي الريح في مكان سحيق. ثم قال لأبيها: هل لك أن تزوِّجها مني على ألف دينار وعشرة آلاف درهم، وأنا ضامن خلاصها من هذا الأعرابي؟ فرغب أبوها في البدل وأجابه إلى ذلك، فأحضرني ونظر إليَّ كالأسد الغضبان، وقال: يا أعرابي، طلِّقْ سعاد. قلت: لا أطلِّقها. فسلَّطَ جماعة من غلمانه، فصاروا يعذِّبونني بأنواع العذاب، فلم أجد لي بدًّا إلا طلاقها ففعلت، فأعادني إلى السجن فمكثتُ فيه إلى أن انقضت العدة، فتزوَّجَ بها وأطلَقَني، وقد جئتك راجيًا وبك مستجيرًا وإليك ملتجئًا. وأنشد هذه الأبيات:

فِي الْقَلْبِ مِنِّيَ نَارُ        وَالنَّارُ فِيهَا اسْتِعَارُ

وَالْجِسْمُ مِنِّي سَقِيمٌ        فِيهِ الطَّبِيبُ يَحَارُ

وَفِي فُؤَادِيَ جَمْرٌ                وَالْجَمْرُ فِيهِ شَرَارُ

وَالْعَيْنُ تَهْطِلُ دَمْعًا        وَدَمْعُهَا مِدْرَارُ

وَلَيْسَ إِلَّا بِرَبِّي                وَبِالْأَمِيرِ انْتِصَارُ

ثم اضطرب واصطكت أسنانه ووقع مغشيًّا عليه، وصار يتلوى كالحية المقتولة، فلما سمع معاوية كلامه وإنشاده قال: تعدَّى ابن الحكم في حدود الدين وظلَمَ واجترى على حريم المسلمين. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 693﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن أمير المؤمنين معاوية لما سمع كلام الأعرابي قال: تعدَّى ابن الحكم في حدود الدين وظلَمَ واجترى على حريم المسلمين. ثم قال: يا أعرابي، لقد أتيتَني بحديثٍ لم أسمع بمثله قطُّ. ثم دعا بدواة وقرطاس وكتب إلى مروان بن الحكم: قد بلغني أنك تعدَّيْتَ على رعيتك في حدود الدين، وينبغي لمَن يكون واليًا أن يكفَّ بصره عن شهواته، ويزجر نفسه عن لذاتها. ثم كتب بعد ذلك كلامًا طويلًا اختصرته، من جملته هذه الأبيات:

وَلَيْتَ وَيْحَكَ أَمْرًا لَسْتَ تُدْرِكُهُ        فَاسْتَغْفِرِ اللهَ مِنْ فِعْلِ امْرِئٍ زَانِي

وَقَدْ أَتَانَا الْفَتَى الْمِسْكِينُ مُنْتَحِبًا        يَشْكُو إِلَيْنَا بِبَيْنٍ ثُمَّ أَحْزَانِ

أُعْطِي الْإِلَهَ يَمِينًا لَا أُكَفِّرُهَا        نَعَمْ وَأَبْرَءُ مِنْ دِينِي وَإِيمَانِي

إِنْ أَنْتَ خَالَفْتَ فِيمَا قَدْ كَتَبْتُ بِهِ        لَأَجْعَلَنَّكَ لَحْمًا بَيْنَ عُقْبَانِي

طَلِّقْ سُعَادَ وَعَجِّلْهَا مُجَهَّزَةً        مَعَ الْكُمَيْتِ وَمَعْ نَصْرِ بِنْ ذُبْيَانِ

ثم طوى الكتاب وطبعه بخاتمه، واستدعى الكميت ونصر بن ذبيان، وكان يستنهضهما في المهمات لأمانتهما؛ فأخذا الكتاب وسارا حتى قدِمَا المدينة فدخلا على مروان بن الحكم وسلَّمَا عليه، وسلَّمَا إليه الكتاب، وأعلماه بصورة الحال. فصار مروان يقرؤه ويبكي، ثم قام إلى سعاد وأخبرها، ولم يسعه مخالفة معاوية، فطلَّقَها بمحضر من الكميت ونصر بن ذبيان، وجهَّزَهما وصبحتهما سعاد. ثم كتب مروان كتابًا إلى معاوية يقول فيه:

لَا تُعْجِلَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ        أُوفِي بِنَذْرِكَ فِي رِفْقٍ وَإِحْسَانِ

وَمَا أَتَيْتُ حَرَامًا حِينَ أَعْجَبَنِي        فَكَيْفَ أُدْعَى بِاسْمِ الْخَائِنِ الزَّانِي

وَسَوْفَ تَأْتِيكَ شَمْسٌ لَا نَظِيرَ لَهَا        عِنْدَ الْخَلِيفَةِ مِنْ إِنْسٍ وَمِنْ جَانِ

وختم الكتاب ودفعه إلى الرسولين، فسارا حتى وصلا إلى معاوية وسلَّمَا إليه الكتاب، فقرأه وقال: لقد أحسن في الطاعة وأطنب في ذِكْر الجارية. ثم أمر بإحضارها، فلما رآها رأى صورةً حسنةً لم يَرَ مثلها في الحُسْن والجمال، والقَدِّ والاعتدال، فخاطبها فوجدها فصيحةَ اللسان، حسنة البيان، فقال: عليَّ بالأعرابي. فأتوا به وهو في حالة مزعجة من تغيُّر الزمان عليه، فقال: يا أعرابي، هل لك عنها من سلوة وأعوِّضك عنها جواري نهدًا وأبكارًا، كأنهن أقمار، ومع كل جارية ألف دينار، وأجعل لك في بيت المال في كل سنة ما يكفيك ويغنيك؟ فلما سمع الأعرابي كلام معاوية شهق شهقة، فظنَّ معاوية أنه قد مات، فلما قال له معاوية: ما بالك؟ قال: بشر بال وسوء حال، استجرتُ بعدلك من جور ابن الحكم، فبمَن أستجير من جورك؟ وأنشد هذه الأبيات:

لَا تَجْعَلَنِّي فَدَاكَ اللهُ مِنْ مَلِكٍ        كَالْمُسْتَجِيرِ مِنَ الرَّمْضَاءِ بِالنَّارِ

ارْدُدْ سُعَادَ عَلَى حَيْرَانَ مُكْتَئِبٍ        يُمْسِي وَيُصْبِحُ فِي هَمٍّ وَتَذْكَارِ

أَطْلِقْ وَثَاقِي وَلَا تَبْخَلْ عَلَيَّ بِهَا        فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنِّي غَيْرُ كَفَّارِ

ثم قال: والله يا أمير المؤمنين لو أعطيتَني ما خوَّلته من الخلافة، ما أخذته دون سعاد. وأنشد هذا البيت:

أَبَى الْقَلْبُ فِي الْحُبِّ إِلَّا سُعَادَا        هَوَاهَا غَدَا لِيَ رَيًّا وَزَادَا

فقال معاوية: إنك مُقِرٌّ بأنك طلَّقْتَها، ومروان مُقِرٌّ بأنه طلَّقَها، ونحن نخيِّرها، إنِ اختارتْ سواكَ زوَّجناها إياه، وإنِ اختارتْك حوَّلناها إليك. قال: افعل. فقال معاوية: ما تقولين يا سعاد، مَن أحب إليك؛ أمير المؤمنين في شرفه وعزه وقصوره وسلطانه وأمواله وما أبصرتِه عنده، أم مروان بن الحكم وعسفه وجوده، أم هذا الأعرابي وجوعه وفقره؟ فأنشدت هذين البيتين:

هَذَا وَإِنْ كَانَ فِي جُوعٍ وَأَضْرَارِ        أَعَزُّ عِنْدِيَ مِنْ قَوْمِي وَمِنْ جَارِي

وَصَاحِبِ التَّاجِ أَوْ مَرْوَانَ عَامِلِهِ        وَكُلِّ ذِي دِرْهَمٍ عِنْدِي وَدِينَارِ

ثم قالت: والله يا أمير المؤمنين، ما أنا بخاذلته لحادثة الزمان ولا لغدرات الأيام، وإن له صحبةً قديمة لا تُنسَى، ومحبةً لا تبلى، وأنا أحقُّ مَن صبر معه في الضرَّاء كما تنعَّمْتُ معه في السراء. فتعجَّبَ معاوية من عقلها ومودتها وموافاتها، وأمر لها بعشرة آلاف درهم، ودفعها للأعرابي وأخذ زوجته وانصرف.

 

وحُكِي أيضًا أيها الملك السعيد، أن هارون الرشيد أرق ليلةً، فوجَّهَ إلى الأصمعي، وإلى حسين الخليع، فأحضرهما وقال: حدِّثاني، وابدأ أنت يا حسين. فقال: نعم يا أمير المؤمنين، خرجت في بعض السنين منحدرًا إلى البصرة، ممتدحًا محمد بن سليمان الربيعي بقصيدة، فقبِلَها وأمرني بالمقام، فخرجت ذات يوم إلى المريد، وجعلت المهالية طريقي، فأصابني حر شديد، فدنوت من باب كبير لأستسقي، وإذا أنا بجاريةٍ كأنها قضيب ينثني، وَسْناءِ العينين، زجاءِ الحاجبين، أسيلةِ الخدين، عليها قميص جلناري ورداء صنعاني، قد غلبت شدة بياض يديها حمرة قميصها، يتلألأ من تحت القميص ثديان كرمانتين، وبطن كطي القباطي بعكن كالقراطيس الناصعة المعقودة بالمسك محشوَّة، وهي يا أمير المؤمنين متقلِّدة بخرزٍ من الذهب الأحمر، وهو بين نهديها وعلى صحن جبينها طرة كالسبج، ولها حاجبان مقرونان، وعينان نجلاوان، وخدان أسيلان، وأنف أقنى، تحته ثغر كاللؤلؤ وأسنان كالدر، وقد غلب عليها الطيب، وهي والهة حيرانة ذاهبة في الدهليز تروح وتجيء، تخطر على أكباد مُحِبيها في مشيتها، وقد أخرست سيقانها أصوات خلاخيلها، فهي كما قال فيها الشاعر:

كُلُّ جُزْءٍ فِي مَحَاسِنِهَا        مُرْسِلٌ مِنْ حُسْنِهَا مَثَلَا

فهبتها يا أمير المؤمنين، ثم دنوتُ منها لأسلم عليها، فإذا الدار والدهليز والشارع قد عبق بالمسك، فسلَّمْتُ عليها فردَّتْ عليَّ بلسان خاشع وقلب حزين بلهيب الوَجْد محترق، فقلت لها: يا سيدتي، إني شيخ غريب وأصابني عطش، أفتأمرين لي بشربة ماء تُؤجَرين عليها؟ قالت: إليك عني يا شيخ، فإني مشغولة عن الماء والزاد. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 694﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية قالت: إني مشغولة عن الماء والزاد. فقلتُ: لأي عِلَّة يا سيدتي؟ قالت: إني أعشق مَن لا ينصفني، وأريد مَن لا يريدني، ومع ذلك فإني ممتحَنة بمراقبة الرقباء. قلت: وهل يا سيدتي على بسيطة الأرض مَن تريدينه ولا يريدك؟ قالت: نعم، وذلك لفضل ما رُكِّب فيه من الجمال والكمال والدلال. قلت: وما وقوفك في هذا الدهليز؟ قالت: ها هنا طريقه، وهذا وقت اجتيازه. قلت لها: يا سيدتي، فهل اجتمعتما في وقت من الأوقات، وتحدَّثْتُما حديثًا أوجب هذا الوَجْد؟ فتنفَّسَتِ الصعداء، وأرخت دموعها على خدها كطل سقط على ورد، ثم أنشدت هذين البيتين:

وَكُنَّا كَغُصْنَيْ بَانَةٍ فَوْقَ رَوْضَةٍ        نَشُمُّ جَنَى اللَّذَّاتِ فِي عِيشَةٍ رَغْدِ

فَأَفْرَدَ هَذَا الْغُصْنُ مِنْ ذَاكَ قَاطِعٌ        فَيَا مَنْ رَأَى فَرْدًا يَحِنُّ إِلَى فَرْدِ

قلت: يا هذه، فما بلغ من عشقك لهذا الفتى؟ قالت: أرى الشمس على حيطان أهله، فأحسب أنها هو، وربما أراه بغتةً فأبهت ويهرب الدم والروح من جسدي، وأبقى الأسبوعَ والأسبوعين بغير عقلٍ. فقلت لها: اعذريني، فإني على مثل ما بكِ من الصبابة، مشتغل البال بالهوى وانتحال الجسم وضعف القوى، أرى بك من شحوب اللون ورِقَّة البشرة ما يشهد بتباريح الهوى، وكيف لم يَمْسَسْكِ الهوى وأنتِ مقيمة في أرض البصرة؟ قالت: والله كنتُ قبل محبتي هذا الغلام في غاية الدلال، بهية الجمال والكمال، ولقد فتنتُ جميعَ ملوك البصرة حتى افتتن بي هذا الغلام. قلت: يا هذه، ما الذي فرَّقَ بينكما؟ قالت: نوائب الدهر، ولحديثي وحديثه شأن عجيب؛ وذلك أني قعدتُ في يوم نيروز، ودعوت عدَّة من جواري البصرة، وفي تلك الجواري جارية سيران، وكان ثمنها عليه من عمان ثمانين ألف درهم، وكانت لي مُحِبَّة وبي مولعة، فلما دخلتُ رمت نفسها عليَّ وكادت تقطعني قرصًا وعضًّا، ثم خلونا ننعم بالشراب إلى أن يتهيَّأ طعامنا ويتكامل سرورنا، وكانت تلاعبني وألاعبها، فتارةً أنا فوقها وتارةً هي فوقي، فحملها السكر على أن ضربتْ يدها إلى دكتي، فحَلَّتْها من غير ريبة كانت بيننا، ونزل سروالي بالملاعبة، فبينما نحن كذلك إذ دخل هو على حين غفلة، فرأى ذلك، فاغتاظ لذلك وانصرف عني انصراف المهرة العربية إذا سمعت صلاصل لجامها، فولَّى خارجًا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 695﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية قالت لحسين الخليع: إن محبوبي لما رأى ما ذكرتُ لك من ملاعبتي مع جارية سيران، خرج مغضبًا مني، فأنا يا شيخ منذ ثلاث سنين لم أزل أعتذر إليه وأتلطف به وأستعطفه، فلا ينظر إليَّ بطرف، ولا يكتب إليَّ بحرف، ولا يكلِّم لي رسولًا، ولا يسمع مني قليلًا. قلت لها: يا هذه، أمِنَ العرب هو أم مِنَ العجم؟ قالت: ويحك، هو من جملة ملوك البصرة. فقلت لها: أشيخ هو أم شاب؟ فنظرتْ إليَّ شزرًا وقالت: إنك أحمق، هو مثل القمر ليلة البدر، أجرد أمرد، لا يعيبه شيء غير انحرافه عني. فقلت لها: ما اسمه؟ قالت: ما تصنع به؟ قلت: أجتهد في لقائه لتحصيل الوصال بينكما. قالت: على شرط أن تحمل إليه رقعة. قلت: لا أكره ذلك. فقالت: اسمه ضمرة بن المغيرة، ويكنَّى بأبي السخاء، وقصره بالمريد. ثم صاحت على مَن في الدار: هاتوا الدواة والقرطاس. وشمرت عن ساعدين كأنهما طوقان من فضة، وكتبت بعد التسمية: «سيدي، ترك الدعاء في صدر رقعتي يُنبِئ عن تقصيري، واعلم أن دعائي لو كان مستجابًا ما فارقتَني؛ لأني كثيرًا ما دعوتُ ألَّا تفارقني وقد فارقتَني، ولولا أن الجهد تجاوز بي جد التقصير لَكان ما تكلَّفَتْه خادمتك من كتابة هذه الرقعة معينًا لها مع يأسها منك؛ لعلمها أنك تترك الجواب، وأقصى مرادها سيدي نظرةٌ إليك وقتَ اجتيازك في الشارع إلى الدهليز تُحْيِي بها نفسًا ميتة، وأجلُّ من ذلك عندها أن تخطَّ بخط يدك - بسطها الله بكل فضيلة - رقعةً، وتجعلها عوضًا عن تلك الخلوات التي كانت بيننا في الليالي الخاليات، التي أنت ذاكر لها سيدي، ألستُ لك محبة مدنفة؟ فإنْ أجبتَ إلى المسألة كنتُ لك شاكرةً، ولله حامدة والسلام

فتناولتُ الكتاب وخرجت، وأصبحت غدوت إلى باب محمد بن سليمان، فوجدت مجلسًا محتفلًا بالملوك، ورأيت غلامًا قد زان المجلس، وفاق على مَن فيه جمالًا وبهجةً قد رفعه الأمير فوقه، فسألت عنه فإذا هو ضمرة بن المغيرة، فقلت في نفسي: بالحقيقة حلَّ بالمسكينة ما حلَّ بها. ثم قمت وقصدت المريد، ووقفت على باب داره، فإذا هو قد ورد في موكب، فوثبتُ إليه وبالغت في الدعاء وناولتُه الرقعة، فلما قرأها وفهم معناها قال لي: يا شيخ، قد استبدلنا بها، فهل لك أن تنظر إلى البديل؟ قلت: نعم. فصاح على فتاة، وإذا هي جارية تُخجِل القمرين، ناهدة الثديين، تمشي مشية مستعجل من غير وجل، فناوَلَها الرقعة وقال: أجيبي عنها. فلما قرأتها اصفرَّ لونها حيث عرفَتْ ما فيها وقالت: يا شيخ، استغفر الله ممَّا جئتَ فيه. فخرجت يا أمير المؤمنين، وأنا أجر رجلي حتى أتيتُها واستأذنت عليها ودخلت، فقالت: ما وراءك؟ قلت: البأس واليأس. قالت: ما عليك منه، فأين الله والقدرة. ثم أمرت لي بخمسمائة دينار وخرجتُ، ثم جزتُ على ذلك المكان بعد أيام، فوجدتُ غلمانًا وفرسانًا فدخلتُ، وإذا هم أصحاب ضمرة يسألونها الرجوعَ إليه، وهي تقول: لا والله لا نظرت له في وجه. فسجدتُ شكرًا لله يا أمير المؤمنين شماتةً بضمرة، وتقرَّبْتُ من الجارية فأبرزتْ لي رقعة، فإذا فيها بعد التسمية: «سيدتي، لولا إبقائي عليكِ — أدام الله حياتك — لَوضعتُ شطرًا مما حصل منك، وبسطت عذري في ظلامتك إياي؛ إذ كنتِ الجانيةَ على نفسك ونفسي المظهرة لسوء العهد وقلة الوفاء والمؤثرة علينا غيرنا، فخالفتِ هواي والله المستعان على ما كان من اختيارك والسلام» وأوقفتني على ما حمله إليها من الهدايا والتحف، وإذا هو بمقدار ثلاثين ألف دينار، ثم رأيتها بعد ذلك وقد تزوَّجَ بها ضمرة، فقال الرشيد: لولا أن ضمرة سبقني إليها لَكان لي معها شأن من الشئون.

إسحاق الموصلي وإبليس

وحُكِي أيضًا أيها الملك أن إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: بينما أنا ذات ليلة في منزلي، وكان زمن الشتاء، وقد انتشرت السحب وتراكمت الأمطار تقطر كأفواه القرب، وامتنع الغادي والمقبل من المسير في الطرقات لما فيها من الأمطار والوحل، وأنا ضيِّق الصدر، حيث لم يأتِني أحدٌ من إخواني، ولم أقدر أن أسير إليهم من شدة الوحل والطين. فقلت لغلامي: أحضر لي ما أتشاغل به. فأحضر لي طعامًا وشرابًا، فتنغصت إذ لم يكن معي مَن يؤانسني. ولم أزل أتطلع من الطاقات وأراقب الطرقات حتى أقبل الليل، فتذكرت جارية لبعض أولاد المهدي كنت أهواها، وكانت عارفة بالغناء وتحريك آلات الملاهي، فقلت في نفسي: لو كانت الليلة عندنا لتمَّ سروري وقصرتْ ليلتي مما أنا فيه من الفكر والقلق. وإذ بداقٍّ يدقُّ الباب وهو يقول: أيدخل محبوب على الباب واقف؟ فقلت في نفسي: لعل غرس التمنِّي قد أثمر. فقمتُ إلى الباب فإذا بصاحبتي وعليها مرط أخضر قد اتَّشَحَتْ به، وعلى رأسها وقاية من الديباج تقيها من المطر، وقد غرقت في الطين إلى ركبتَيْها وابتلَّ ما عليها من الميازيب، وهي في قالب عجيب. فقلت لها: يا سيدتي، ما الذي أتى بك في مثل هذه الأوحال؟ فقالت: قاصدك جاءني ووصف ما عندك من الصبابة والشوق، فلم يسعني إلا الإجابة والإسراع نحوك. فتعجَّبْتُ من ذلك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 696﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية لما أتت وطرقت باب إسحاق، خرج لها وقال: يا سيدتي، ما الذي أتى بك في هذه الأوحال؟ قالت له: قاصدك جاءني ووصف ما عندك من الصبابة والشوق، فلم يسعني إلا الإجابة والإسراع نحوك. فتعجَّبْتُ من ذلك وكرهتُ أني أقول لها لم أرسل إليك أحدًا، فقلتُ: الحمد لله على جمع الشمل بعدَ ما قاسيتُ من ألم الصبر، ولو كنتِ أبطأتِ عليَّ ساعةً كنتُ أحقُّ بالسعي إليك؛ لأني أشتاق إليك، كثير الصبابة نحوك. ثم قلت لغلامي: هات الماء. فأقبل بمسخنة فيها ماء حار حتى تصلح حالها، ثم أمرته أن يصب الماء على رجليها وتوليت غسلهما بنفسي، ثم دعوت ببدلة من أفخر الملبوس، فألبستها إياها بعد أن نزعت ما كان عليها وجلسنا، ثم استدعيت بالطعام فأبَتْ، فقلت: هل لك في الشراب؟ قالت: نعم. فتناولتُ أقداحًا ثم قالت: مَن يغنِّ؟ فقلت: أنا يا سيدتي. فقالت: لا أحب. فقلت: بعض جواريَّ. قالت: لا أريد. قلت: غنِّ بنفسك. قالت: ولا أنا. قلت لها: فمَن يغنِّ لك؟ قالت: اخرج التمس مَن يغني لي. فخرجتُ طاعةً لها إلا أني يائس ومتيقِّن ألَّا أجد أحدًا في مثل هذا الوقت، فلم أزل ماشيًا حتى بلغتُ الشارع، وإذا أنا بأعمى يخبط الأرض بعصاه وهو يقول: لا جزى الله مَن كنتُ عندهم خيرًا، إن غنيت لم يسمعوا، وإن سكتُّ استخفُّوا بي. فقلت له: أمغنٍّ أنت؟ قال: نعم. قلت له: فهل لك أن تتم ليلتك عندنا وتؤنسنا؟ قال: إن شئتَ خذ بيدي. فأخذت بيده وسرت إلى الدار وقلت لها: يا سيدتي، قد أتيتُ بمغنٍّ أعمى نلتذُّ به ولا يرانا. فقالت: عليَّ به. فأدخلته وعزمت عليه بالطعام، فأكل أكلًا لطيفًا وغسل يديه، وقدَّمْتُ إليه الشراب فشرب ثلاثة أقداح ثم قال: مَن تكن؟ قلتُ: إسحاق بن إبراهيم الموصلي. قال: لقد كنتُ أسمع بك، والآن فرحتُ بمنادمتك. فقلت: يا سيدي، فرحت بفرحك. ثم قال: غنِّ لي يا إسحاق. فأخذت العود على سبيل المجون وقلت: السمع والطاعة. فلما أن غنَّيْتُ وانقضى الصوت قال: يا إسحاق، قاربتَ أن تكون مغنِّيًا. فصغرت إلى نفسي وألقيت العود من يدي، فقال: أَمَا عندك مَن يُحسِن الغناء؟ قلت: عندي جارية. قال: مُرْها أن تغني. فقلت: هل تغني وأنت واثق بغنائها؟ قال: نعم. فغنَّتْ. قال: لا ما صنعتْ شيئًا. فرمت العود من يدها مغضبة وقالت: الذي عندنا جُدْنا به، فإن كان عندك شيء فتصدَّق به علينا. فقال: عليَّ بعود لم تمسه يد. فأمرت الخادم فجاء بعود جديد، فجس العود وضرب في طريق لا أعرفها، واندفع يغني وينشد هذين البيتين:

سَرَى يَقْطَعُ الظَّلْمَاءَ وَاللَّيْلُ عَاكِفُ        حَبِيبٌ بِأَوْقَاتِ الزِّيَارَةِ عَارِفُ

وَمَا رَاعَنَا إِلَّا سَلَامٌ وَقَوْلُهَا        أَيَدْخُلُ مَحْبُوبٌ عَلَى الْبَابِ وَاقِفُ؟

قال: فنظرتْ إليَّ الجارية شزرًا وقالت: سِرٌّ بيني وبينك ما يسعه صدرك ساعةً وأودعته لهذا الرجل! فحلفتُ لها واعتذرت إليها، ثم أخذت أقبِّل يديها وأزغزغ ثدييها وأعض خديها حتى ضحكت. ثم التفت إلى الأعمى وقلت له: غنِّ يا سيدي. فأخذ العود وغنَّى بهذين البيتين:

أَلَا رُبَّمَا زُرْتُ الْمِلَاحَ وَرُبَّمَا        لَمَسْتُ بِكَفِّيَّ الْبَنَانَ الْمُخَضَّبَا

وَزَغْزَغْتُ رُمَّانَ الصُّدُورِ وَلَمْ أَزَلْ        أُعَضْعِضُ تُفَّاحَ الْخُدُودِ الْمُكَبَّبَا

فقلت لها: يا سيدتي، مَن أعلمه بما نحن فيه؟ قالت: صدقتَ. ثم تجنَّبْناه، فقال: إني حاقن. فقلت: يا غلام، خذ الشمعة وامضِ بين يديه. فخرج وأبطأ، فخرجنا في طلبه فلم نجده، فإذا الأبواب مغلقة والمفاتيح في الخزانة، فلا ندري أفي السماء صعد أم في الأرض هبط؟ فعلمتُ أنه إبليس وأنه قاد لي. ثم انصرفتُ فتذكرتُ قول أبي نواس حيث قال هذين البيتين:

عَجِبْتُ مِنْ إِبْلِيسَ فِي كِبْرِهِ        وَخُبْثِ مَا أَضْمَرَ فِي نِيَّتِهْ

تَاهَ عَلَى آدَمَ فِي سَجْدَةٍ        وَصَارَ قَوَّادًا لِذُرِّيَّتِهْ

 

وحُكِي أيضًا أن إبراهيم بن إسحاق قال: كنتُ منقطعًا إلى البرامكة، فبينما أنا يومًا في منزلي وإذا ببابي يدق، فخرج غلامي وعاد وقال لي: على الباب فتًى جميلٌ يستأذن. فأذنتُ له، فدخل شاب عليه أثر السقم، فقال: إن لي مدة أحاول لقاءك ولي إليك حاجة. فقلت: ما هي؟ فأخرَجَ ثلاثمائة دينار فوضعها بين يدي وقال: أسألك أن تقبلها مني وتصنع لي لحنًا في بيتين قلتهما. فقلت له: أنشدنيهما. فأنشد وجعل يقول … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 697﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن إبراهيم بن إسحاق لما دخل عليه الفتى، ووضع بين يديه الدنانير وقال له: أسألك أن تقبلها وتصنع لي لحنًا في بيتين قلتهما. فقال له: أنشدنيهما. فأنشد يقول:

بِاللهِ يَا طَرْفِيَ الْجَانِي عَلَى كَبِدِي        لِتُطْفِئَنَّ بِدَمْعِي لَوْعَةَ الْحَزَنِ

الدَّهْرُ مِنْ جُمْلَةِ الْعُذَّالِ فِي سَكَنِي        فَلَا أَرَاهُ وَلَوْ أُدْرِجْتُ فِي كَفَنِي

قال: فصنعتُ له لحنًا يشبه النوح، ثم غنَّيْتُه فأُغمِي عليه حتى ظننتُ أنه مات، ثم أفاق وقال: أَعِدْ. فناشدْتُه الله وقلت: أخشى أن تموت. قال: ليت ذلك لو كان. وما زال يخضع ويتضرَّع حتى رحمته وأعدته. فصعق صعقة أشد من الأولى فلم أشك في موته، وما زلت أنضح عليه من ماء الورد حتى أفاق وجلس، فحمدت الله على سلامته ووضعت دنانيره بين يديه وقلت له: خذ مالك وانصرف عني. فقال: لا حاجةَ لي به، ولك مثلها إنْ أعدتَ اللحن. فانشرح صدري إلى المال، فقلت له: أُعِيد ولكن بثلاثة شروط؛ أولها أن تقيم عندي وتأكل طعامي حتى تقوي نفسك، والثاني أن تشرب من الشراب ما يمسك قلبك، والثالث أن تحدِّثني بحديثك. ففعل ذلك ثم قال: إني رجل من أهل المدينة، خرجت متنزهًا وقد سلكت طريق العقيق مع إخوتي، فرأيت جارية مع فتيات كأنهن غصن جلَّلَه الندى، تنظر بعينين ما ارتدَّ طرفهما إلا بنفس ملاحظتهما، فأظللن حتى فرغ النهار ثم انصرفن، وقد وجدتُ بقلبي جراحًا بطيئة الاندمال؛ فعدتُ أتنسَّم أخبارها فلم أجد أحدًا، فصرتُ أتتبعها في الأسواق، فلم أقع لها على خبر، ومرضتُ أسًى وحكيتُ قصتي لذي قرابة لي، فقال: لا بأس عليك، هذه أيام الربيع ما انقضت وستمطر السماء فتخرج حينئذٍ وأخرج أنا معك فأفعل مرادك. فاطمأنت نفسي بذلك إلى أن سال العقيق وخرج، فخرجت مع إخوتي وقرابتي فجلسنا في مجلسنا بعينه، فما لبثنا إلا والنسوة أقبلن كفرسي رهان، فقلت لجارية من أقاربي: قولي لهذه الجارية، يقول لك هذا الرجل: لقد أحسن مَن قال هذا البيت:

رَمَتْنِي بِسَهْمٍ أَفْصَدَ الْقَلْبَ وَانْثَنَتْ        وَقَدْ عَاوَدَتْ جُرْحًا بِهِ وَنُدُوبَا

فمضتْ إليها وقالت لها ذلك، فقالت: قولي له: لقد أحسن مَن أجاب بهذا البيت:

بِنَا مِثْلَ مَا تَشْكُو فَصَبْرًا لَعَلَّنَا        نَرَى فَرَجًا يَشْفِي الْقُلُوبَ قَرِيبَا

وأمسكت عن الكلام خوفَ الفضيحة وقمتُ منصرفًا، فقامت لقيامي وتبعتُها، فرأتني حتى عرفت منزلها، وصارت تسير إليَّ وأسير إليها حتى اجتمعنا، وكثر ذلك حتى شاع وظهر وعلم أبوها؛ فلم أزل مجتهدًا في لقائها وشكوتُ ذلك إلى أبي، فجمع أهلنا ومضى إلى أبيها راغبًا في خطبتها، فقال: لو بَدَا لي ذلك قبل أن يفضحها لفعلتُ، ولكن اشتهر ذلك فما كنتُ لأحقق قول الناس.

قال إبراهيم: فأعدتُ عليه الصوت، فعرفني منزله ثم انصرف، وكان بيننا عشرة. ثم جلس جعفر بن يحيى وحضرت على عادتي، فغنَّيْتُه شعرَ الفتى، فطرب وشرب أقداحًا وقال: ويلك! لمَن هذا الصوت؟ فحدَّثْتُه حديثَ الفتى، فأمرني بالركوب إليه وأن أجعله على ثقةٍ من بلوغ إربه؛ فمضيت إليه فأحضرته، فاستعاده الحديث فحدَّثه، فقال: أنت في ذمتي حتى أزوِّجك إياها. فطابت نفسه وأقام معنا، فلما أصبح الصباح ركب جعفر إلى الرشيد وحدَّثَه بذلك، فاستظرفه وأمر أن نحضر جميعًا، فاستعاد الصوت وشرب عليه، ثم أمر بكتب كتاب إلى عامل الحجاز بإحضار أبي المرأة وأهلها مبجلًا إلى حضرته، والإنفاق عليهم نفقة واسعة؛ فلم يمضِ إلا يسير حتى حضروا، فأشار الرشيد بإحضار الرجل بين يدَيْه فحضر، وأمره بتزويج ابنته من الفتى وأعطاه مائة ألف دينار وانقلب إلى أهله. ولم يزل الشاب من ندماء جعفر حتى حدث ما حدث، فعاد الفتى بأهله إلى المدينة، فرحم الله تعالى أرواحهم أجمعين.

 

وحُكِي أيضًا أيها الملك السعيد، أن الوزير أبا عامر بن مروان كان قد أُهدِي إليه غلامٌ من النصارى، لا تقع العيون على أحسن منه؛ فلمحه الملك الناصر فقال لسيده: من أين هذا؟ قال: هو من عند الله. فقال له: أتخوفنا بالنجوم وتأسرنا بالأقمار؟ فاعتذر إليه ثم احتفل في هدية بعثها إليه مع الغلام وقال له: كُنْ داخلًا في جملة الهدية، ولولا الضرورة ما سمحت بك نفسي. وكتب معه هذين البيتين:

أَمَوْلَايَ هَذَا الْبَدْرُ سَارَ لِأُفْقِكُمْ        أَرَى الْأُفْقَ أَوْلَى بِالْبُدُورِ مِنَ الْأَرْضِ

فَأُرْضِيكُمُ بِالنَّفْسِ وَهْيَ نَفِيسَةٌ        وَلَمْ أَرَ قَبْلِي مَنْ بِمُهْجَتِهِ يُرْضِي

فحَسُن ذلك عند الناصر وأتحفه بمال جزيل وتمكَّن عنده. ثم بعد ذلك أُهدِيت للوزير جارية من أجلاء نساء الدنيا، فخاف أن يَنمي ذلك إلى الناصر فيطلبها فتكون كقصة الغلام؛ فاحتفل في هدية أعظم من الأولى وأرسلها مع الجارية. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 698﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الوزير أبا عامر لما أُهدِيت إليه الجارية، خاف أن يصل خبرها إلى الملك الناصر وتكون قصتها مثل قصة الغلام؛ فاحتفل في هدية أعظم من الأولى وأرسلها وصحبتها الجارية، وكتب معها هذه الأبيات:

أَمَوْلَايَ هَذِي الشَّمْسُ وَالْبَدْرُ أَوَّلًا        تَقَدَّم إِلَيْهَا يَلْتَقِي الْقَمَرَانِ

قِرَانٌ لَعَمْرِي بِالسِّعَادَةِ نَاطِقٌ        فَدُمْ مِنْهُمَا فِي كَوْثَرٍ وَجِنَانِ

فَمَا لَهُمَا وَاللهِ فِي الْحُسْنِ ثَالِثٌ        وَمَا لَكَ فِي مُلْكِ الْبَرِيَّةِ ثَانِ

فتضاعفت مكانته عنده، ثم وشى به بعض أعدائه عند الناصر بأن عنده من الغلام بقية حرارة، وأنه لا يزال يلهج بذِكْره حين تحركه الشمول، فيقرع السن على إهداء الغلام. فقال الناصر: لا تحرك به لسانك وإلا أطرتُ رأسك. وكتب إليه على لسان الغلام ورقةً فيها: يا مولاي، أنت تعلم أنك كنتَ لي على الانفراد، ولم أزل معك في نعيم، وأنا وإنْ كنتُ عند السلطان فإني أحب انفرادي بك، ولكنني أخشى من سطوة الملك؛ فتحيَّلْ في استدعائي منه. ثم بعثها مع غلام صغير وأوصاه أن يقول: هي من عند فلان، وإن الملك لم يكلمه قطُّ. فلما أوقف عليها أبو عامر ودلَّس عليه الخادم أحس بالشربة، فكتب على ظهر الورقة هذه الأبيات:

أَمِنْ بَعْدِ إِحْكَامِ التَّجَارِبِ يَنْبَغِي        لِذِي الْحَزْمِ أَنْ يَسْعَى إِلَى غَابَةِ الْأَسَدْ

وَلَا أَنَا مِمَّنْ يَغْلُبُ الْحُبُّ عَقْلَهُ        وَلَا جَاهِلٌ مَا يَدَّعِيهِ أُولُو الْحَسَدْ

فَإِنْ كُنْتَ رُوحِي قَدْ وَهَبْتُكَ طَائِعًا        وَكَيْفَ تُرَدُّ الرُّوحُ إِنْ فَارَقَتْ جَسَدْ

فلما وقف الناصر على الجواب، تعجَّب من فطنته ولم يَعُدْ إلى استماع واشٍ فيه بعد ذلك. ثم قال له: كيف خلصت من الشَّرَك؟ قال: لأن عقلي بالهوى غير مشترك. والله أعلم.

 

وحُكِي أيضًا أيها الملك السعيد، أنه كان في زمن خلافة هارون الرشيد رجلٌ يُسمَّى أحمد الدنف، وآخر اسمه حسن شومان، وكانا صاحبا مكر وحيل، ولهما أفعال عجيبة، فبسبب ذلك خلع الخليفة على أحمد الدنف خلعة وجعله مقدم الميمنة، وخلع على حسن شومان خلعة وجعله مقدم الميسرة، وجعل لكل واحد منهما جامكية في كل شهر ألف دينار، وكان لكل واحد منهما أربعون رجلًا من تحت يده، وكان مكتوبًا بأعلى: أحمد الدنف درك البر.

فنزل أحمد الدنف ومعه حسن شومان، ومن تحت أيديهما راكبين، والأمير خالد الوالي بصحبتهم، والمنادي ينادي حسبما رسم الخليفة أنه: لا مقدم بغداد في الميمنة إلا المقدم أحمد الدنف، ولا مقدم بغداد في الميسرة إلا حسن شومان، وإنهما مسموعان الكلمة واجبان الحرمة، وكان في البلدة عجوزٌ تُسمَّى دليلة المحتالة، ولها بنت تُسمَّى زينب النصابة، فسمعتَا المناداة بذلك، فقالت زينب لأمها دليلة: انظري يا أمي، هذا أحمد الدنف جاء من مصر مطرودًا، ولعب مناصف في بغداد إلى أن تقرَّب عند الخليفة، وبقي مقدم الميمنة، وهذا الولد الأقرع حسن شومان صار مقدم الميسرة، وله سماط في الغداة وسماط في العشي، ولهما جوامك لكل واحد منهما ألف دينار في كل شهر، ونحن قاعدون معطلون في هذا البيت، لا مقام لنا ولا حرمة، وليس لنا مَن يسأل عنَّا. وكان زوج دليلة مقدم بغداد سابقًا، وكان له عند الخليفة في كل شهر ألف دينار، فمات عن بنتين؛ بنت متزوجة ومعها ولدٌ يُسمَّى أحمد اللقيط، وبنت عازبة تُسمَّى زينب النصابة، وكانت دليلة صاحبة حِيَل وخداع ومناصف، وكانت تتحيل على الثعبان حتى تطلعه من وكره، وكان إبليس يتعلَّم منها المكر، وكان زوجها براج عند الخليفة، وكان له جامكية في كل شهر ألف دينار، وكان يربي حمام البطاقة الذي يسافر بالكتب والرسائل، وكان عند الخليفة كل طير لوقت حاجته أعز من واحد من أولاده، فقالت زينب لأمها: قومي اعملي حيلًا ومناصف؛ لعل بذلك يشتهر لنا صيت في بغداد، وتكون لنا جامكية أبينا.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 699﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن زينب النصابة لما قالت لأمها: قومي اعملي لنا حيلًا ومناصف؛ لعل بذلك يشيع لنا صيت في بغداد، فتكون لنا جامكية أبينا، فقالت لها: وحياتك يا بنتي لألعب في بغداد مناصف أقوى من مناصف أحمد الدنف وحسن شومان. فقامت ضربت على وجهها لثامًا، ولبست لباس الفقراء من الصوفية، ولبست لباسًا نازلًا لكعبها وجبَّة صوف، وتحزَّمت بمنطقة عريضة، وأخذت إبريقًا وملأته ماء لرقبته، وحطت في فمه ثلاثة دنانير، وغطت فم الإبريق بليفة، وتقلَّدت بسبح قدرَ حملة حطب، وأخذت راية في يدها، وفيها شراميط حمر وصفر، وطلعت تقول: الله واللسان ناطق بالتسبيح، والقلب راكض في ميدان القبيح. وصارت تتلمح لمنصف تلعبه في البلد، فسارت من زقاق إلى زقاق حتى وصلت إلى زقاق مكنوس مرشوش، وبالرخام مفروش، فرأت بابًا مقوصرًا بعتبة من مرمر، ورجلًا مغربيَّا بوَّابًا واقفًا بالباب، وكانت تلك الدار لرئيس الشاويشية عند الخليفة، وكان صاحب الدار ذا زرع وبلاد وجامكية واسعة، وكان يُسمَّى حسن شر الطريق، وما سمَّوْه بذلك إلا لكون ضربته تسبق كلمته، وكان متزوجًا بصبية مليحة وكان يحبها، وكانت ليلة دخلته بها حلَّفته أنه لا يتزوَّج عليها ولا يبيت في غير بيته، إلى أن طلع زوجها يومًا من الأيام إلى الديوان، فرأى كل أمير معه ولد أو ولدان، وكان قد دخل الحمام ورأى وجهه في المرآة، فرأى بياض شعر ذقنه غطَّى سوادها، فقال في نفسه: هل الذي أخذ أباك لا يرزقك ولدًا. ثم دخل على زوجته وهو مغتاظ، فقالت له: مساء الخير. فقال لها: روحي من قدامي، من يوم رأيتك ما رأيتُ خيرًا. فقالت له: لأي شيء؟ فقال لها: ليلةَ دخلتُ عليك حلَّفتِني أني ما أتزوج عليك، ففي هذا اليوم رأيتُ الأمراء كلَّ واحد معه ولد، وبعضهم معه ولدان، فتذكرتُ الموتَ وأنا ما رُزِقت بولد ولا بنت، ومَن لا ذكر له لا يُذكَر، وهذا سبب غيظي؛ فإنكِ عاقر لا تحبلين مني. فقالت له: اسم الله عليك، أنا خرقت الأهوان من دق الصوف والعقاقير، وأنا ما لي ذنب والعاقة منك؛ لأنك بغل أفطس، وبيضك رائق لا يحبل ولا يجيء بأولاد. فقال لها: لما أرجع من السفر أتزوَّج عليك. فقالت له: نصيبي على الله.

وطلع من عندها وندما على معايرة بعضهما، فبينما زوجته تطلُّ من طاقتها وهي كأنها عروسة، كنز من المصاغ الذي عليها، وإذا بدليلة واقفة فرأتها، فنظرت عليها صيغة وثيابًا مثمنة، فقالت لنفسها: يا دليلة، لا أصنع من أن تأخذي هذه الصبية من بيت زوجها، وتعرِّيها من المصاغ والثياب، وتأخذي جميع ذلك. فوقفتْ وذكرتْ تحت شباك القصر، وقالت: الله الله. فرأت الصبية هذه العجوز وهي لابسة من الثياب البيض ما يشبه قبة من نورٍ، متهيئة بهيئة الصوفية، وهي تقول: احضروا يا أولياء الله. فطلَّتْ نساء الحارة من الطيقان، وقالت: شيئًا لله من المدد، هذه شيخة طالع من وجهها النور. فبكت خاتون زوجة الأمير حسن وقالت لجاريتها: انزلي قبِّلي يد الشيخ أبي علي البوَّاب، وقولي له: خليه يدخل الشيخة لنتبرَّك بها. فنزلت وقبَّلَتْ يده، وقالت: سيدتي تقول لك خل هذه الشيخة تدخل إلى سيدتي لنتبرَّك بها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 700﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية لما نزلت للبوَّاب وقالت له: سيدتي تقول لك: خل هذه الشيخة تدخل لسيدتي لتتبرك بها؛ لعل بركتها تعمُّ علينا. تقدَّمَ البواب وقبَّل يدها، فمنعته وقالت له: ابعد عني لئلا تنقض وضوئي، أنت الآخر مجذوب وملحوظ من الأولياء، الله يعتقك من هذه الخدمة يا أبا علي. وكان للبواب أجرة ثلاثة أشهر على الأمير، وكان معسرًا ولم يعرف أن يخلصها من ذلك الأمير، فقال لها:

يا أمي، اسقيني من إبريقك لأتبرَّك بك. فأخذت الإبريق من كنفها وبرمت به في الهواء، وهزت يدها حتى طارت الليفة من فم الإبريق، فنزلت الثلاثة دنانير على الأرض، فنظرها البوَّاب والتقطها وقال في نفسه: شيء لله، هذه الشيخة من أصحاب التصرف، فإنها كاشفت عليَّ وعرفت أني محتاج للمصروف، فتصرَّفَتْ لي في حصول ثلاثة دنانير من الهواء. ثم أخذها في يده وقال لها: خذي يا خالتي الثلاثة دنانير التي وقعتْ على الأرض من إبريقك. فقالت له العجوز: أبعدها عني، فإني من ناس لا يشتغلون بدنيا أبدًا، خذها ووسِّعْ بها على نفسك عوضًا عن الذي لك على الأمير. فقال: شيئًا لله من المدد، وهذا من باب الكشف.

وإذا بالجارية قبَّلَتْ يدها، وأطلعتها لسيدتها. فلما دخلت رأت سيدة الجارية كأنها كنز انفكَّتْ عنه الطلاسم، فرحَّبت بها وقبَّلت يدها، فقالت لها: يا بنتي، أنا ما جئتك إلا بمشورة. فقدَّمت لها الأكل، فقالت لها: يا بنتي، أنا ما آكل إلا من مأكل الجنة، وأديم صيامي فلا أفطر إلا خمسة أيام في السنة، ولكن يا بنتي أنا أنظرك مكدرة، ومرادي أن تقولي لي على سبب تكديرك. فقالت: يا أمي، في ليلةٍ ما دخلت حلَّفْتُ زوجي أنه لا يتزوَّج غيري، فرأى الأولاد فتشوَّق إليهم، فقال لي: أنت عاقر. فقلت له: أنت بغل لا تحبِّل. فخرج غضبانَ، وقال لي: لما أرجع من السفر أتزوَّج عليك، وأنا خائفة يا أمي أن يطلِّقني ويأخذ غيري، فإن له بلادًا وزروعًا وجامكية واسعة، فإذا جاء له أولاد من غيري يملكون المال والبلاد مني. فقالت لها: يا بنتي، هل أنت عمياء عن شيخي أبي الحملات؟ فكلُّ مَن كان مديونًا وزاره قضى الله دينه، وإن زارَتْه عقيمٌ فإنها تحبل. فقالت: يا أمي، أنا من يوم دخلتُ ما خرجتُ لا معزِّية ولا مهنِّئة. وقالت لها العجوز: يا بنتي، أنا آخذك معي وأزوِّرك أبا الحملات، وارمي حملتك عليه، وانذري له عسى أنه يجيء زوجك من السفر ويجامعك، فتحبلي منه ببنت أو ولد، وكل شيء ولدتِه إن كان أنثى أو ذكرًا يبقى درويش الشيخ أبي الحملات. فقامت الصبية ولبست مصاغها جميعه، ولبست أفخر ما كان عندها من الثياب، وقالت للجارية: ألقي نظرك على البيت. فقالت: سمعًا وطاعة يا سيدتي.

ثم نزلت فقابَلَها الشيخ أبو علي البوَّاب، فقال لها: إلى أين يا سيدتي؟ فقالت له: أنا رائحة لأزور الشيخ أبا الحملات. فقال البوَّاب: صوم العام يلزمني، إن هذه الشيخة من الأولياء وملآنة بالولاية، وهي يا سيدتي من أصحاب التصريف؛ لأنها أعطتني ثلاثة دنانير من الذهب الأحمر، وكاشفت عليَّ من غير أن أسألها وعلمتْ أني محتاج. فخرجت العجوز والصبية زوجة الأمير حسن شر الطريق معها، والعجوز الدليلة المحتالة تقول للصبية: إن شاء الله يا بنتي لما تزورين الشيخ أبا الحملات يحصل لك جبر الخاطر، وتحبلين بإذن الله تعالى، ويحبك زوجك الأمير حسن ببركة هذا الشيخ، ولا يُسمِعك كلمةً تؤذي خاطرك بعد ذلك. فقالت لها: أزوره يا أمي. ثم قالت العجوز في نفسها: إني أعريها وآخذ ثيابها والناس رائحة وغادية؟ فقالت لها: يا بنتي، إذا مشيتُ فامشي ورائي على قدر ما تنظرينني؛ لأن أمك صاحبة حمل كثيرة، وكلُّ مَن كان عليه حملة يرميها عليَّ، وكلُّ مَن كان معه نذر يعطيه لي ويقبِّل يدي. فمشت الصبية وراءها بعيدًا عنها، والعجوز قدامها إلى أن وصلتا سوق التجار، والخلخال يرن، والعقوص تشن، فمرت على دكان ابن تاجرٍ يُسمَّى سيدي حسن، وكان مليحًا جد الإنبات بعارضيه، فرأى الصبية مُقبِلةً، وصار يلحظها شزرًا، فلما لحظت ذلك العجوز، غمزتِ الصبية وقالت لها: اقعدي على هذا الدكان حتى أجيء إليك. فامتثلت أمرها وقعدت قدام دكان ابن التاجر، فنظرها ابن التاجر نظرةً أعقبَتْه ألف حسرة، ثم أتته العجوز وسلَّمَتْ عليه وقالت له: هل أنت اسمك سيدي حسن ابن التاجر محسن؟ فقال لها: نعم، مَن أعلمك باسمي؟ فقالت: دَلَّني عليك أهل الخير، واعلم أن هذه الصبية بنتي وكان أبوها تاجرًا، فمات وخلَّف لها مالًا كثيرًا وهي بالغة، وقالت العقلاء: اخطب لبنتك ولا تخطب لابنك. وعمرها ما خرجت إلا في هذا اليوم، وقد جاءت الإشارة، ونويت في سري أني أزوِّجك بها، وإنْ كنتَ فقيرًا أعطيتك رأس مال وافتح لك عوض الدكان اثنين. فقال ابن التاجر في نفسه: قد سألت الله عروسةً، فمَنَّ عليَّ بثلاثة أشياء؛ كيس وكس وكساء. ثم قال لها: يا أمي، نِعْمَ ما أشرتِ به عليَّ، فإن أمي طالما قالت لي: أريد أن أزوجك. لم أرضَ بل أقول: أنا لا أتزوج إلا على نظر عيني. فقالت له: قُمْ على قدميك واتبعني، وأنا أريها لك عريانة. فقام معها، وأخذ معه ألف دينار وقال في نفسه: ربما نحتاج شيئًا نشتريه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

 

 

 

السابق                                                                     التــــالي←

 

 

 

Read our comment Policy to know your rights & responsibilities before actually leaving a comment for this article.

Post a Comment (0)