kurd-partuk

الليالي من--(601 ← 650)

﴿اللیلة 601﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية لما دخلت الدار ووصلت إلى قاعة الجلوس، وثب الولد إليها وعانقها وقبَّلَ يديها ورجليها، فاندهشت الجارية من حُسْن الولد، وتخيلت أن ذلك المكان، وجميع ما فيه من مشموم ومأكول ومشروب منام، فلما نظرت العجوز اندهاشها قالت لها: اسم الله عليك يا بنتي، فلا تخافي، وأنا قاعدة ولا أفارقك ساعة واحدة، وأنت تصلحين له وهو يصلح لك. فقعدت الجارية وهي في شدة الخجل، فلم يزل الولد يلاعبها ويضاحكها ويؤانسها بالأشعار والحكايات حتى انشرح صدرها وانبسطت، فأكلت وشربت، ولما طاب لها الشراب أخذت العود وغنَّتْ، ولحُسْن الولد مالت وحنَّتْ، فلما رأى الولد منها ذلك سكر من غير مدام، وهانت عليه روحه، وخرجت العجوز من عندهما، ثم أتتهما في الصباح وصبحت عليهما، ثم قالت للجارية: كيف كانت ليلتك يا سيدتي؟ فقالت لها: كانت طيبة بطول أياديكِ وحُسْن تعرُّضك. ثم قالت لها: قومي نروح إلى أمك. فلما سمع الولد كلام العجوز أخرج لها مائة دينار وقال لها: خليها عندي هذه الليلة. فخرجت العجوز من عندهما، ثم ذهبت إلى والدة الجارية وقالت لها: بنتك تسلِّم عليك، وأم العروسة قد حلفت عليها أنها تبيت عندها هذه الليلة. فقالت لها أمها: يا أختي، سلِّمي عليهما، وإذا كانت الجارية منشرحة لذلك فلا بأسَ ببياتها حتى تنبسط وتجيء على مهلها، فإني ما أخاف عليها إلا من القهر من جهة زوجها.

وما زالت العجوز تعمل لأم الجارية حيلة بعد حيلة إلى أن مكثت سبعة أيام، وكل يوم تأخذ من الولد مائة دينار، فلما مضت هذه الأيام قالت أم الجارية للعجوز: هات لي بنتي في هذه الساعة، فإن قلبي مشغول عليها، وقد طالت مدة غيبتها وتوهمت من ذلك. فخرجت العجوز من عندها غضبانة من كلامها، ثم جاءت إلى الجارية ووضعت يدها في يدها، ثم خرجتا من عند الولد وهو نائم على فراشه من سكر المدام إلى أن وصلتا إلى أم الجارية، فالتفتت أمها إليها ببسط وانشراح، وفرحت بها غاية الفرح، وقالت لها: يا بنتي، إن قلبي مشغول بكِ، ووقعت في حق أختي بكلام أوجعتها به. فقالت لها: قومي وقبلي يديها ورجليها، فإنها كانت لي كالخادم في قضاء حاجتي، وإن لم تفعلي ما أمرتك به فما أنا بنتك ولا أنت أمي. فقامت من وقتها وصالحتها. ثم إن الولد قام من سكره فلم يجد الجارية؛ لكنه استبشر بما ناله لما بلغ مقصوده.

ثم إن العجوز ذهبت إلى الولد وسلمت عليه، وقالت له: ماذا رأيتَ من فعالي؟ فقال لها: نِعْمَ ما فعلتِه من الرأي والتدبير. ثم قالت له: تعالَ لنصلح ما أفسدنا، ونرد هذه الجارية إلى زوجها، فإننا كنا سبب الفراق بينهما. فقال لها: وكيف أفعل؟ قالت: تذهب إلى دكان التاجر وتقعد عنده وتسلم عليه، وأنا أفوت على الدكان، فلما تنظرني قم إليَّ من الدكان بسرعة واقبض عليَّ واجذبني من ثيابي واشتمني، وخوِّفني وطالبني بالقناع، وقل للتاجر: أنت يا مولاي ما تعرف القناع الذي اشتريته منك بخمسين دينارًا؟ فقد حصل يا سيدي أن جاريتي لبسته فاحترق منها موضع من طرفه، فأعطته جاريتي لهذه العجوز تعطيه لأحد يرفوه لها، فأخذته ومضت ولم أرها من ذلك اليوم. فقال لها الولد: حبًّا وكرامة. ثم إن الولد تمشى من وقته وساعته إلى دكان التاجر وجلس عنده ساعة، وإذا بالعجوز جائزة على الدكان، وبيدها سبحة تسبح بها، فلما رآها قام على رجليه من الدكان وجذبها من ثيابها وصار يشتمها ويسبها، وهي تكلمه بلطافة وتقول له: يا ولدي، أنت معذور. فاجتمع أهل السوق عليها وقالوا: ما الخبر؟ فقال: يا قوم، إنني اشتريت من هذا التاجر قناعًا بخمسين دينارًا، ولبسته الجارية ساعة واحدة، فقعدت تبخره فطارت شرارة فأحرقت طرفه، فدفعناه إلى هذه العجوز على أنها تعطيه لمَن يرفوه وترده لنا، فمن ذلك الوقت ما رأيناها أبدًا. فقالت العجوز: صدق هذا الولد، نعم إني أخذته ودخلت به بيتًا من البيوت التي أدخلها على عادتي، فنسيته في موضع من تلك الأماكن، ولم أدرِ في أي موضع هو، وأنا امرأة فقيرة وخفت من صاحبه، فلم أواجهه. كل هذا والتاجر زوج المرأة يسمع كلامها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 602﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الولد لما قبض على العجوز وكلمها من قبل القناع كما علَّمته، كان التاجر زوج المرأة يسمع الكلام من أوله إلى آخره، فلما اطلع التاجر على الخبر الذي دبَّرته هذه العجوز الماكرة مع الولد، قام التاجر على قدميه، ثم قال: الله أكبر، إني أستغفر الله العظيم من ذنوبي، وما توهمه خاطري. وحمد الله الذي كشف له عن الحقيقة، ثم أقبل التاجر وقال لها: هل تدخلين عندنا؟ فقالت له: يا ولدي، أنا أدخل عندك وعند غيرك لأجل الحسنة، ومن ذلك اليوم لم يعطني أحد خبر ذلك القناع. فقال لها التاجر: هل سألتِ أحدًا عنه في بيتنا؟ فقالت له: يا سيدي، إنني رحت البيت وسألت فقالوا لي إن أهل البيت قد طلَّقَها التاجر، فرجعت ولم أسأل أحدًا بعد ذلك إلى هذا اليوم. فالتفت التاجر إلى الولد وقال له: أطلِقْ سبيلَ هذه العجوز، فإن القناع عندي. وأخرجه من الدكان، وأعطاه للرفاه قدام الحاضرين، ثم بعد ذلك ذهب إلى زوجته، وأعطاها شيئًا من المال، وراجعها إلى نفسه بعد أن بالغ في الاعتذار إليها، واستغفر الله وهو لا يدري بما فعلت العجوز. فهذا من جملة كيد النساء أيها الملك.

 

ثم قال الوزير: وقد بلغني أيضًا أيها الملك أن بعض أولاد الملوك خرج منفردًا بنفسه ليتفرج، فمَرَّ بروضة خضراء ذات أشجار وأثمار وأطيار وأنهار تجري خلال تلك الروضة، فاستحسن الولد ذلك الموضع وجلس فيه، وأخرج شيئًا من النقل الذي كان معه، وجعل يأكل فيه، فبينما هو كذلك إذ رأى دخانًا عظيمًا طالعًا إلى السماء من ذلك المكان، فخاف ابن الملك وقام فصعد على شجرة من الأشجار واختفى فيها، فلما طلع فوقها رأى عفريتًا طلع من وسط ذلك النهر، وعلى رأسه صندوق من الرخام، وعليه قفل، فوضعه في تلك الروضة، وفتح ذلك الصندوق فخرجت منه جارية كأنها الشمس الضاحية في السماء الصاحية، وهي من الإنس، فأجلسها بين يديه يتفرج عليها، ثم حط رأسه على حجرها فنام، فأخذت رأسه وحطتها على الصندوق وقامت تتمشى، فلاح منها نظرة إلى تلك الشجرة، فرأت ابن الملك، فأومت إليه بالنزول، فامتنع من النزول، فأقسمت عليه وقالت له: إن لم تنزل وتفعل بي الذي أقوله لك نبَّهْتُ العفريت من النوم وأعلمته، فيهلكك من ساعتك. فخاف الولد منها فنزل، فلما نزل قبَّلَتْ يديه ورجليه، وراودته على قضاء حاجتها، فأجابها إلى سؤالها، فلما فرغ من قضاء حاجتها، قالت له: أعطني هذا الخاتم الذي بيدك. فأعطاها الخاتم فصرَّتْه في منديل حرير كان معها، وفيه عدة من الخواتم تفوق عن ثمانين، وجعلت ذلك الخاتم من جملتها، فقال لها ابن الملك: وما تصنعين بهذه الخواتم التي معكِ؟ فقالت له: إن هذا العفريت اختطفني من قصر أبي، وجعلني في هذا الصندوق، وقفل عليَّ بقفل معه، ووضعني فيه على رأسه حيثما توجَّهَ، ولا يكاد يصبر عني ساعة واحدة من شدة غيرته عليَّ، ويمنعني مما أشتهيه، فلما رأيتُ ذلك منه حلفت أني لا أمنع أحدًا من وصالي، وهذه الخواتم التي معي على قدر عدد الرجال الذين واصلوني؛ لأن كلَّ مَن واصلني آخذ خاتمَه فأجعله في هذا المنديل. ثم قالت له: توجَّهْ إلى حال سبيلك لأنتظر أحدًا غيرك، فإنه لا يقم في هذه الساعة. فما صدق الولد ابن الملك بذلك إلا وانصرف إلى حال سبيله حتى وصل إلى منزل أبيه، والملك لم يعلم بكيد الجارية لابنه، ولم تخف من ذلك، ولم تحسب له حسابًا.

فلما سمع الملك أن خاتم ولده ضاع، أمر أن يقتل ذلك الولد، ثم قام من موضعه فدخل قصره، وإذا بالوزراء رجعوه عن قتل ولده، فلما كان ذات ليلة أرسل الملك إلى الوزراء يدعوهم فحضروا جميعًا، فقام إليهم الملك وتلقاهم وشكرهم على ما كان منهم من مراجعته عن قتل ولده، وكذلك شكرهم الولد، وقال لهم: نِعْمَ ما دبَّرْتم إلى والدي في بقاء نفسي، وسوف أجازيكم بخير إن شاء الله تعالى. ثم إن الولد بعد ذلك أخبرهم بسبب ضياع خاتمه، فدعوا له بطول البقاء وعلو الارتقاء، ثم انصرفوا من المجلس. فانظر أيها الملك كيد النساء وما تفعله في الرجال. فرجع الملك عن قتل ولده.

فلما أصبح الصباح، جلس والده في اليوم الثامن فدخل عليه ولده ويده في يد مؤدبه السندباد، وقبَّلَ الأرض بين يديه، ثم تكلَّمَ بأفصح لسان، ومدح والده ووزراءه وأرباب دولته، وشكرهم وأثنى عليهم، وكان حاضرًا بالمجلس العلماء والأمراء والجند وأشراف الناس، فتعجَّبَ الحاضرون من فصاحة ابن الملك وبلاغته وبراعته في نطقه. فلما سمع والده ذلك فرح به فرحًا شديدًا زائدًا، ثم ناداه وقبَّلَه بين عينيه، ونادى مؤدبه السندباد وسأله عن سبب صمت ولده مدة السبعة أيام، فقال له المؤدب: يا مولانا، الإصلاح في أنه لا يتكلم، فإني خشيت عليه من القتل في تلك المدة، وكنت يا سيدي أعرف هذا الأمر يوم ولادته، فإني لما رأيت طالعه دلَّني على جميع ذلك، وقد زال عنه السوء بسعادة الملك. ففرح الملك بذلك، وقال لوزرائه: لو كنت قتلت ولدي هل يكون الذنب عليَّ أو على الجارية أو على المؤدب السندباد؟ فسكت الحاضرون عن رد الجواب، فقال مؤدب الولد السندباد لولد الملك: ردَّ الجواب يا ولدي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 603﴾

 

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد لما قال لابن الملك: ردَّ الجواب يا ولدي. قال ابن الملك: إني سمعت أن رجلًا من التجار حلَّ به ضيف في منزله، فأرسل جاريته لتشتري له من السوق لبنًا في جرة، فأخذت اللبن في جرتها، وطلبت الرجوع إلى منزل سيدها، فبينما هي في الطريق إذ مرت عليها حدأة طائرة وفي مخلبها حية تعصرها به، فقطرت نقطة من الحية في الجرة، وليس عند الجارية خبر بذلك، فلما وصلت إلى المنزل أخذ السيد منها اللبن وشرب منه هو وضيوفه، فما استقر اللبن في جوفهم حتى ماتوا جميعًا؛ فانظر أيها الملك لمَن كان الذنب في هذه القضية؟ فقال أحد الحاضرين: الذنب للجماعة الذين شربوا. وقال آخَر: الذنب للجارية التي تركت الجرة مكشوفة من غير غطاء. فقال السندباد مؤدب الغلام: ما تقول أنت في ذلك يا ولدي؟ فقال ابن الملك: أقول إن القوم أخطئوا، ليس الذنب للجارية ولا للجماعة، وإنما آجال القوم فرغت مع أرزاقهم، وقدرت ميتتهم بسبب ذلك الأمر. فلما سمع الحاضرون تعجَّبوا منه غاية العجب، ورفعوا أصواتهم بالدعاء لابن الملك، وقالوا له: يا مولانا، قد تكلمت بجواب ليس له نظير، وأنت عالم أهل زمانك الآن. فلما سمعهم ابن الملك قال لهم: إني لست بعالم، وإن الشيخ الأعمى وابن الثلاث سنين، وابن الخمس سنين أعلم مني. فقال له الجماعة الحاضرون: حدِّثنا بحديث هؤلاء الثلاثة الذين هم أعلم منك يا غلام.

 

فقال لهم ابن الملك: بلغني أنه كان تاجر من التجار كثير الأموال والأسفار إلى جميع البلدان، فأراد المسير على بعض البلدان، فسأل مَن جاء منها وقال لهم: أي بضاعة فيها كثيرة المكسب؟ فقالوا له: حطب الصندل، فإنه فيها يباع غاليًا. فاشترى التاجر بجميع ما عنده من المال حطب صندل، وسافر إلى تلك المدينة، فلما وصل إليها كان قدومه إليها آخر النهار، وإذا بعجوز تسوق غنمًا لها، فلما رأت التاجر قالت له: مَن أنت أيها الرجل؟ فقال لها: أنا رجل تاجر غريب. فقالت له: احذر من أهل البلد، فإنهم قوم مكَّارون لصوص، وإنهم يخدعون الغريب ليظفروا به ويأكلوا ما كان معه، وقد نصحتك. ثم فارقته، فلما أصبح الصباح تلقاه رجل من أهل المدينة، فسلَّمَ عليه وقال له: يا سيدي، من أين قدمت؟ فقال له: قدمت من البلد الفلانية. قال له: ما حملت معك من التجارة؟ قال له: خشب صندل، فإني سمعت أن له قيمة عندكم. فقال له الرجل: لقد أخطأ مَن أشار عليك بذلك؛ فإننا لم نوقد تحت القدر إلا بذلك الحطب الصندل، فقيمته عندنا هو والحطب سواء.

فلما سمع التاجر كلام الرجل تأسَّفَ وندم وصار بين مصدِّق ومكذِّب، ثم نزل ذلك التاجر في بعض حانات المدينة يقيد بالصندل تحت القدر، فلما رآه ذلك الرجل قال له: أتبيع هذا الصندل؟ كل صاع بما تريده نفسك. فقال له: بعتك. فَحَوَّلَ الرجل ما عنده من الصندل في منزله، وقصد البائع أن يأخذ ذهبًا بقدر ما يأخذ المشتري، فلما أصبح الصباح تمشى التاجر في المدينة، فلقيه رجل أزرق العينين من أهل تلك المدينة وهو أعور، فتعلَّقَ بالتاجر وقال له: أنت الذي أتلفتَ عيني فلا أطلقك أبدًا. فأنكر التاجر ذلك وقال له: إن هذا الأمر لا يتم. فاجتمع الناس عليهما، وسألوا الأعور المهلة إلى غدٍ ويعطيه ثمن عينه، فأقام الرجل التاجر له ضامنًا حتى أطلقوه، ثم مضى التاجر وقد انقطع نعله من مجاذبة الرجل الأعور، فوقف على دكان الإسكافي ودفعه له، وقال له: أصلحه ولك عندي ما يرضيك. ثم انصرف عنه، وإذا بقومٍ قاعدين يلعبون فجلس عندهم من الهم والغم، فسألوه اللعب فلعب معهم، فأوقعوا عليه الغلب وغلبوه، وخيروه إما أن يشرب البحر، وإما أن يخرج من ماله جميعًا، فقام التاجر وقال: أمهلوني إلى غدٍ. ثم مضى التاجر وهو مغموم على ما فعل، ولا يدري كيف يكون حاله، فقعد في موضع متفكِّرًا مغمومًا مهمومًا، وإذا بالعجوز جائزة عليه، فنظرت نحو التاجر فقالت له: لعل أهل المدينة ظفروا بك، فإني أراك مهمومًا من الذي أصابك. فحكى لها جميع ما جرى من أوله إلى آخره، قالت له: مَن الذي عمل عليك في الصندل؟ فإن الصندل عندنا قيمته كل رطل بعشرة دنانير، ولكن أنا أدبِّر لك رأيًا أرجو به أن يكون لك فيه خلاص نفسك، وهو أن تسير نحو الباب الفلاني، فإن في ذلك الموضع شيخًا أعمى مقعدًا، وهو عالم عارف كبير خبير، وكل الناس تحضر عنده يسألونه عمَّا يريدونه، فيشير إليهم بما يكون لهم فيه الصلاح؛ لأنه عارف بالمكر والسحر والنصب، وهو شاطر، فتجتمع الشطار عنده بالليل، فاذهب عنده واخفِ نفسك من غرمائك بحيث تسمع كلامهم ولا يرونك؛ فإنه يخبرهم بالغالبية والمغلوبة؛ لعلك تسمع منه حجَّة تخلِّصك من غرمائك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 604﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن العجوز قالت للتاجر: اذهب الليلة إلى العالم الذي يجتمع عليه أهل البلد واخفِ نفسك، لعلك تسمع منه حجَّة تخلِّصك من غرمائك. فانصرف التاجر من عندها إلى الموضع الذي أخبرته به وأخفى نفسه، ثم نظر إلى الشيخ وجلس قريبًا منه، فما كان إلا ساعة وقد حضر جماعته الذين يتحاكمون عنده، فلما صاروا بين يدي الشيخ سلَّموا عليه وسلَّم بعضهم على بعض وقعدوا حوله، فلما رآهم التاجر وجد غرماءه الأربعة من جملة الذين حضروا، فقدم لهم الشيخ شيئًا من الأكل فأكلوا، ثم أقبل كل واحد منهم يخبره بما جرى له في يومه، فتقدَّمَ صاحب الصندل وأخبر الشيخ بما جرى له في يومه، من أنه اشترى صندلًا من رجل بغير قيمته، واستقر البيع بينهما على ملء صاع مما يحب، فقال له الشيخ: قد غلبك خصمك. فقال له: كيف يغلبني؟ قال الشيخ: فإذا قال لك أنا آخذ ملئه ذهبًا أو فضة، فهل أنت تعطيه؟ قال: نعم أعطيه وأنا أكون الرابح. فقال له الشيخ: فإذا قال لك: أنا آخذ ملء صاع براغيث، النصف ذكور والنصف إناث، فماذا تصنع؟ فعلم أنه مغلوب.

ثم تقدَّمَ الأعور وقال: يا شيخ، إني رأيت اليوم رجلًا أزرق العينين وهو غريب البلاد، فتقاويت عليه وتعلقت به وقلت له: أنت قد أتلفتَ عيني. وما تركته حتى ضمنه لي جماعة أنه يعود إليَّ ويرضيني في عيني. فقال له الشيخ: لو أراد غلبك لغلبك. قال: وكيف يغلبني؟ قال: يقول لك اقلع عينك وأنا أقلع عيني، ونزن كل منهما، فإن تساوت عيني بعينك فأنت صادق فيما ادَّعَيْتَه، ثم تغرم دية عينه وتكون أنت أعمى، ويكون هو بصيرًا بعينه الثانية. فعلم أنه يغلبه بهذه الحجة.

ثم تقدَّمَ الإسكافي وقال له: يا شيخ، إني رأيت رجلًا أعطاني نعله، وقال لي: أَصْلِحْه. فقلت له: ألن تعطيني الأجرة؟ فقال لي: أَصْلِحْه ولك عندي ما يرضيك. وأنا لا يرضيني إلا جميع ماله. فقال له الشيخ: إذا أراد أخذ نعله منك ولا يعطيك شيئًا أخذه. فقال له: وكيف ذلك؟ قال: يقول لك إن السلطان هُزِمت أعداؤه، وضعفت أضداده، وكثرت أولاده وأنصاره، أرضيتَ أم لا؟ فإن قلت: رضيتُ. أخذ نعله منك وانصرف، وإن قلت: لا. أخذ نعله وضرب به وجهك وقفاك. فعلم أنه مغلوب.

ثم تقدَّمَ الرجل الذي لعب معه بالمراهنة وقال له: يا شيخ، إني لقيت رجلًا فراهنته وغلبته، فقلت له: إن شربت هذا البحر فأنا أخرج عن جميع مالي لك، وإن لم تشربه فاخرج عن جميع مالك لي. فقال له الشيخ: لو أراد غلبك لغلبك. فقال له: وكيف ذلك؟ قال: يقول لك أمسك لي فم البحر بيدك، وناوله لي وأنا أشربه. فلا تستطيع ويغلبك بهذه الحجة.

فلما سمع التاجر ذلك عرف ما يحتجُّ به على غرمائه، ثم قاموا من عند الشيخ وانصرف التاجر إلى محله، فلما أصبح الصباح أتاه الذي راهنه على شرب البحر، فقال له التاجر: ناولني فم البحر وأنا أشربه. فلم يقدر فغلبه التاجر، وفدى الراهن نفسه بمائة دينار وانصرف. ثم جاءه الإسكافي وطلب منه ما يرضيه، فقال له التاجر: إن السلطان غلب أعداءه، وأهلك أضداده، وكثرت أولاده، أرضيت أم لا؟ قال له: نعم رضيتُ. فأخذ مركوبه بلا أجرة وانصرف. ثم جاءه الأعور وطلب منه دية عينه. فقال له التاجر: اقلع عينك وأنا أقلع عيني ونزنهما، فإن استوتا فأنت صادق فخذ دية عينك. فقال له الأعور: أمهلني. ثم صالح التاجر على مائة دينار وانصرف. ثم جاءه الذي اشترى الصندل فقال له: خذ ثمن صندلك. فقال له: أي شيء تعطيني؟ فقال له: قد اتفقنا على أن صاعًا صندلًا بصاعٍ من غيره، فإن أردتَ خذ ملؤه ذهبًا أو فضة. فقال له التاجر: أنا لا آخذ إلا ملؤه براغيث، النصف ذكور والنصف إناث. فقال له: أنا لا أقدر على شيء من ذلك. فغلبه التاجر وفدى المشتري نفسه منه بمائة دينار بعد أن رجَّعَ له صندله، وباع التاجر الصندل كيف أراد، وقبض ثمنه وسافر من تلك المدينة إلى بلده. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 605﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الرجل التاجر لما باع صندله وقبض ثمنه سافر من تلك المدينة إلى مدينته، ثم قال ابن الملك: وأما ابن الثلاث سنين، فإنه كان رجلًا فاسقًا مغرمًا بالنساء، قد سمع بامرأة ذات حُسْن وجمال، وهي ساكنة في مدينة غير مدينته، فسافَرَ إلى المدينة التي هي فيها، وأخذ معه هدية، وكتب لها رقعة يصف لها شدة ما يقاسيه من الشوق والغرام، وقد حمله حبه إياها على المهاجرة إليها والقدوم عليها، فأذنت له في الذهاب إليها، فلما وصل إلى منزلها ودخل عليها قامت له على قدميها وقد تلقَّتْه بالإكرام والاحترام، وقبَّلَتْ يديه وضيَّفته ضيافة لا مزيد عليها من المأكول والمشروب. وقد كان لها ولد صغير له من العمر ثلاث سنين، فتركته واشتغلت بطهي الطبائخ، فقال لها الرجل: قومي بنا ننام. فقالت له: إن ولدي قاعد ينظرنا. فقال لها: هذا ولد صغير لا يفهم ولا يعرف أن يتكلَّم. فقالت له: لو علمت معرفته ما تكلمتَ. فلما علم الولد أن الأرز استوى بكى بكاءً شديدًا، فقالت له أمه: ما يبكيك يا ولدي؟ فقال لها: اغرفي لي من الأرز، واجعلي لي فيه سمنًا. فغرفت له وجعلت عليه السمن، فأكل الولد. ثم بكى ثانيًا، فقالت له أمه: ما يبكيك يا ولدي؟ فقال لها: يا أماه اجعلي لي عليه سكرًا. فقال له الرجل وقد اغتاظ منه: ما أنت إلا ولد مشئوم. فقال له الولد: والله ما مشئوم إلا أنت؛ حيث تعبت وسافرت من بلد إلى بلد في طلب الزنا، وأما أنا فبكائي من أجل شيء كان في عيني فأخرجته بالدموع، وأكلتُ بعد ذلك أرزًا وسمنًا وسكرًا، وقد اكتفيتُ؛ فمَن المشئوم منَّا؟ فلما سمعه الرجل خجل من كلام ذلك الولد الصغير، ثم أدركته الموعظة فتأدَّبَ من وقته وساعته ولم يتعرَّض لها بشيء وانصرف إلى بلده، ولم يزل تائبًا إلى أن مات.

ثم قال ابن الملك: وأما ابن الخمس سنين، فإنه بلغني أيها الملك أن أربعة من التجار اشتركوا في ألف دينار، وقد خلطوها بينهم وجعلوها في كيس واحد، فذهبوا بها ليشتروا بضاعةً، فلقوا في طريقهم بستانًا حسنًا فدخلوه وتركوا الكيس عند حارسة ذلك البستان، فلما دخلوا تفرجوا في ناحية البستان، فأكلوا وشربوا وانشرحوا، فقال واحد منهم: أنا معي طيب، تعالوا نغسل رءوسنا من هذا الماء الجاري ونتطيَّب. قال آخَر: نحتاج إلى مشط. قال آخَر: نسأل الحارسة لعل أن يكون عندها مشط. فقام واحد منهم إلى الحارسة وقال لها: ادفعي لي الكيس. فقالت له: حتى تحضروا كلكم أو يأمرني رفقاؤك أن أعطيك إياه. وكان رفقاؤه في مكان بحيث تراهم الحارسة وتسمع كلامهم، فقال الرجل لرفقائه: ما هي راضية أن تعطيني شيئًا. فقالوا لها: أَعْطيه. فلما سمعت كلامهم أعطته الكيس، فأخذه الرجل وخرج هاربًا منهم، فلما أبطأ عليهم جاءوا إلى الحارسة، وقالوا لها: ما لكِ لم تُعْطِه المشط؟ قالت لهم: ما طلب مني إلا الكيس، ولم أعطه إياه إلا بإذنكم، وخرج من هنا إلى حال سبيله. فلما سمعوا كلام الحارسة لطموا على وجوههم، وقبضوا عليها بأيديهم وقالوا لها: نحن ما أذنَّاكِ إلا بإعطاء المشط. فقالت لهم: ما ذكر لي مشطًا. فقبضوا عليها، ورفعوها إلى القاضي، فلما حضروا بين يديه قصُّوا عليه القصة، فألزم الحارسة بالكيس، وألزم بها جماعة من غرمائها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 606﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن القاضي لما ألزم الحارسة بالكيس وألزم بها جماعة من غرمائها، خرجت وهي حيرانة لم تعرف طريقًا، فلقيها غلامٌ له من العمر خمسُ سنين، فلما رآها الغلام وهي حيرانة قال لها: ما لكِ يا أماه؟ فلم تردَّ عليه جوابًا، واستحقرته لصِغَر سنه، فكرَّرَ عليها الكلام أولًا وثانيًا وثالثًا، فقالت له: إن جماعةً دخلوا عليَّ البستان ووضعوا عندي كيسًا فيه ألف دينار، وشرطوا عليَّ ألَّا أعطي أحدًا الكيس إلا بحضرتهم كلهم، ثم دخلوا البستان يتفرجون ويتنزهون فيه، فخرج واحد منهم وقال لي: أعطني الكيس. فقلت له: حتى يحضر رفقاؤك. فقال لي: قد أخذتُ الإذن منهم. فلم أرضَ أن أعطيه الكيس، فصاح على رفقائه وقال لهم: ما هي راضية أن تعطيني شيئًا؟ فقالوا لي: أعطيه. وكانوا بالقرب مني، فأعطيته الكيس، فأخذه وخرج إلى حال سبيله، فاستبطأه رفقاؤه فخرجوا إليَّ وقالوا: لأي شيء لم تعطه المشط؟ فقلت لهم: ما ذكر لي مشطًا، وما ذكر لي إلا الكيس. فقبضوا عليَّ ورفعوني إلى القاضي، وألزمني بالكيس. فقال لها الغلام: أعطيني درهمًا آخذ به حلاوة، وأنا أقول لك شيئًا يكون لكِ فيه الخلاص. فأعطته الحارسة درهمًا وقالت له: ما عندك من القول؟ فقال لها الغلام: ارجعي إلى القاضي وقولي له: كان بيني وبينهم أني لا أعطيهم الكيس إلا بحضرتهم الأربعة. قال: فرجعَتِ الحارسة إلى القاضي وقالت له ما قاله لها الغلام، فقال لهم القاضي: أكان بينكم وبينها هكذا؟ قالوا: نعم. فقال لهم القاضي: أحضروا لي رفيقكم وخذوا الكيس. فخرجت الحارسة سالمةً ولم يحصل لها ضرر، وانصرفت إلى حال سبيلها.

فلما سمع الملك كلام ولده والوزراء، ومَن حضر ذلك المجلس، قالوا للملك: يا مولانا الملك، إن ابنك هذا أبرع أهل زمانه. فدعوا له وللملك، فضمَّ الملك ولده إلى صدره وقبَّلَه بين عينيه، وسأله عن قضيته مع الجارية، فحلف ابن الملك بالله العظيم وبنبيه الكريم أنها هي التي راودته عن نفسه، فصدَّقه الملك في قوله، وقال له: قد حكَّمْتُك فيها إنْ شئتَ فاقتلها أو فافعل بها ما تشاء. فقال الولد لأبيه: انْفِها من المدينة. وقعد ابن الملك مع والده في أرغد عيش وأهناه، إلى أن أتاهم هادم اللذات ومفرق الجماعات. وهذا آخِر ما انتهى إلينا من قصة الملك وولده والجارية والوزراء السبعة.

 

وبلغني أيضًا أن رجلًا تاجرًا اسمه عمر، قد خلف من الذرية ثلاثة أولاد: أحدهم يُسمَّى سالمًا، والأصغر يُسمَّى جودرًا، والأوسط يُسمَّى سليمًا، وربَّاهم إلى أن صاروا رجالًا، ولكنه كان يحب جودرًا أكثر من أخويه، فلما تبيَّنَ لهما أنه يحب جودرًا، أخذتهما الغيرة وكرهَا جودرًا، فبان لأبيهما أنهما يكرهان أخيهما، وكان والدهم كبير السن، وخاف أنه إذا مات يحصل لجودر مشقة من أخويه، فأحضر جماعة من أهله وأحضر جماعة قسامين من طرف القاضي وجماعة من أهل العلم، وقال: هاتوا لي مالي وقماشي. فأحضروا له جميع المال والقماش فقال: يا ناس، اقسموا هذا المال والقماش أربعة أقسام بالموضع الشرعي. فقسَّموه، فأعطى كل ولد قسمًا، وأخذ هو قسمًا وقال: هذا مالي وقسمته بينهم، ولم يَبْقَ لهم عندي ولا عند بعضهم شيء، فإذا متُّ لا يقع بينهم اختلاف؛ لأني قسمت بينهم الميراث في حال حياتي، وهذا المال الذي أخذته أنا فإنه يكون لزوجتي أم هذه الأولاد، فتستعين به على معيشتها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 607﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن التاجر لما قسم ماله وقماشه أربعة أقسام، أعطى كل ولد من الأولاد الثلاثة قسمًا وأخذ هو القسم الرابع، وقال: هذا القسم يكون لزوجتي أم هذه الأولاد تستعين به على معيشتهم. ثم بعد مدة قليلة مات والدهم، فما أحد رضي بما فعل والدهم عمر، بل طلبوا الزيادة من جودر، وقالوا له: إن مال أبينا عندك. فترافع معهم إلى الحكام، وجاء المسلمون الذين كانوا حاضرين وقت القسيمة، وشهدوا بما علموا ومنعهم الحاكم عن بعضهم؛ فخسر جودر جانبًا من المال، وخسر إخوته كذلك بسبب النزاع، فتركوه مدةً ثم مكروا به ثانيًا، فترافع معهم إلى الحكام فخسروا جملة من المال أيضًا من أجل الحكام، وما زالوا يطلبون أذيته من ظالم إلى ظالم وهم يخسرون ويخسر حتى أطعموا جميع ما لهم للظالمين، وصار الثلاثة فقراء. ثم جاء أخواه إلى أمهم وضحكا عليها، وأخذَا مالها وضرباها وطرداها، فجاءت إلى ابنها جودر وقالت له: قد فعل أخواك معي كذا وكذا، وأخذا مالي. وصارت تدعو عليهما، فقال لهما جودر: يا أمي لا تدعي عليهما؛ فالله يجازي كلًّا منهما بعمله، ولكن يا أمي أنا بقيت فقيرًا وأخواي فقيران، والمخاصمة تحتاج لخسارة المال، واختصمتُ أنا وإياهما كثيرًا بين يدي الحكام، ولم يفدنا ذلك شيئًا، بل خسرنا جميع ما خلفه لنا والدنا، وهتكنا الناس بسبب الشهادة؛ وهل بسببك أختصم وإياهم، ونترافع إلى الحكام؟ فهذا شيء لا يكون، إنما تقعدين عندي والرغيف الذي آكله أخليه لك، وادعي لي والله يرزقني برزقك، واتركيهما يلقيان من الله جزاءَ فعلهما، وتسلي بقول مَن قال:

إِنْ يَبْغِ ذُو جَهْلٍ عَلَيْكَ فَخَلِّهِ        وَارْقُبْ زَمَانًا لِانْتِقَامِ الْبَاغِي

وَتَجَنَّبِ الظُّلْمَ الْوَخِيمَ فَلَوْ بَغَى        جَبْلٌ عَلَى جَبَلٍ لَدُكَّ الْبَاغِي

وصار يطيِّب خاطر أمه حتى رضيت ومكثت عنده، فأخذ له شبكة وصار يذهب إلى البحر والبرك، وإلى كل مكان فيه ماء، وصار يذهب كل يوم إلى جهة، فصار يعمل يومًا بعشرة ويومًا بعشرين ويومًا بثلاثين، ويصرفها على أمه، ويأكل طيبًا، ويشرب طيبًا، ولا صنعة ولا بيع ولا شراء لأخويه، ودخل عليهما الساحق والماحق والبلاء اللاحق، وقد ضيَّعَا الذي أخذاه من أمهما، وصارا من الصعاليك المعاكيس عريانين، فتارةً يأتيان إلى أمهما ويتواضعان لها زيادة، ويشكوان إليها الجوع، وقلب الوالدة رءوف، فتُطعِمهما عيشًا معفنًا، وإن كان هناك طبيخ بائت تقول لهما: كُلَاه سريعًا وروحا قبل أن يأتي أخوكما، فإنه ما يهون عليه ويقسو قلبه عليَّ وتفضحاني معه. فيأكلان باستعجال ويروحان، فدخلا على أمهما يومًا من الأيام، فحطت لهما طبيخًا وعيشًا، فصار يأكلان وإذا بأخيهما جودر داخل، فاستحت أمه وخجلت منه، وخافت أن يغضب عليها، وأطرقت برأسها في الأرض حياءً من ولدها، فتبسَّمَ في وجوههم وقال: مرحبًا يا أخويَّ، نهار مبارك، ماذا جرى حتى زرتماني في هذا النهار المبارك؟ واعتنقهما ووَادَّهما، وصار يقول: ما كان رجائي أن توحشاني ولا تجيئا عندي، ولا تطلا عليَّ ولا على أمكما! فقالا: والله يا أخانا إننا اشتقنا إليك، ولا منعنا إلا الحياء مما جرى بيننا وبينك، ولكن ندمنا كثيرًا، وهذا فعل الشيطان لعنه الله تعالى، ولا لنا بركة إلا أنت وأمنا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 608﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن جودرًا لما دخل منزله ورأى إخوته رحَّبَ بهما وقال لهما: ما لي بركة إلا أنتما. فقالت له أمه: يا ولدي بيَّضَ الله وجهك وكثَّرَ الله خيرك، وأنت الأكثر يا ولدي. فقال: مرحبًا بكما، أقيما عندي والله كريم والخير عندي كثير. واصطلح معهما وباتا عنده وتعشيَّا معه. وثاني يوم فطرَا وجودر حمل الشبكة وراح على باب الفتح وراح أخواه، فغابا إلى الظهر وأتيا، فقدَّمت لهما أمهم الغداء، وفي المساء أتى أخوهم وجاء باللحم والخضار وصاروا على هذه الحالة مدة شهر، وجودر يصطاد سمكًا ويبيعه ويصرف ثمنه على أمه وأخويه، وهما يأكلان ويبرجسان. فاتفق يومًا من الأيام أن جودر أخذ الشبكة إلى البحر فرماها وجذبها فطلعت فارغة، فطرحها ثانيًا فطلعت فارغة، فقال في نفسه: هذا المكان ما فيه سمك. ثم انتقل إلى غيره ورمى فيه الشبكة فطلعت فارغة، ثم انتقل إلى غيره، ولم يزل ينتقل من الصباح إلى المساء ولم يصطد ولا صيرة واحدة، فقال: عجائب! هل السمك فرغ من البحر أو ما السبب؟ ثم حمل الشبكة على ظهره ورجع مغمومًا مقهورًا حاملًا همَّ أخويه وأمه، ولم يدرِ بأي شيء يعشِّيهم؛ فأقبل على طابونة فرأى الخلق على العيش مزدحمين، وبأيديهم الدراهم ولا يلتفت إليهم الخباز؛ فوقف وتحسَّرَ، فقال له الخباز: مرحبًا بك يا جودر، هل تحتاج عيشًا؟ فسكت، فقال له: إن لم يكن معك درهم فخذ كفايتك وعليك مهل. فقال له: أعطني بعشرة أنصاف عيشًا. فقال له: خذ هذه عشرة أنصاف أُخَر، وفي غدٍ هات لي بالعشرين سمكًا. فقال: على الرأس والعين. فأخذ العيش والعشرة أنصاف أخذ بها لحمة وخضارًا وقال: في غد يفرجها المولى. وراح إلى منزله وطبخت أمه الطعام وتعشَّى ونام، وثاني يوم أخذ الشبكة، فقالت له أمه: اقعد افطر. قال: افطري أنتِ وأخواي. ثم ذهب إلى البحر ورمى الشبكة فيه أولًا وثانيًا وثالثًا وتنقل، وما زال كذلك إلى العصر ولم يقع له شيء، فحمل الشبكة ومشى مقهورًا، وطريقه لا يكون إلا على الخباز، فلما وصل جودر رآه الخباز فعدَّ له العيش والفضة، وقال له: تعالَ خذ ورح إنْ ما كان في اليوم يكون في غد، فأراد أن يعتذر له فقال له: رح ما يحتاج لعذر، لو كنت اصطدت شيئًا كان معك، فلما رأيتك فارغًا علمت أنه ما حصل لك شيء، وإن كان في غد لم يحصل لك شيء، فتعالَ خذ عيشًا ولا تستحِ وعليك مهل.

ثم إنه ثالث يوم تبع البرك إلى العصر فلم يَرَ فيها شيئًا، فراح إلى الخبَّاز وأخذ منه العيش والفضة. وما زال على هذه الحالة مدة سبعة أيام، ثم إنه تضايق فقال في نفسه: رح اليوم إلى بركة قارون. ثم إنه أراد أن يرمي الشبكة فلم يشعر إلا وقد أقبل عليه مغربي راكب على بغلة وهو لابس حلة عظيمة، وعلى ظهر البغلة خرج مزركش، وكل ما على البغلة مزركش، فنزل من فوق ظهر البغلة وقال: السلام عليك يا جودر يا ابن عمر. فقال له: وعليك السلام يا سيدي الحاج. فقال له المغربي: يا جودر، إن لي عندك حاجة، فإن طاوعتني تنال خيرًا كثيرًا، وتكون بسبب ذلك صاحبي، وتقضي لي حوائجي. فقال له: يا سيدي الحاج، قل لي أي شيء في خاطرك، وأنا أطاوعك وما عندي خلاف. فقال له: اقرأ الفاتحة. فقرأها معه، وبعد ذلك أخرج له قيطانًا من حرير، وقال له: كتِّفني وشدَّ كتافي شدًّا قويًّا، وارمني في البركة، واصبر عليَّ قليلًا، فإن رأيتني أخرجتُ يدي من الماء مرتفعةً قبل أن أبان فاطرح أنت الشبكة عليَّ واجذبني سريعًا، وإن رأيتني أخرجتُ رجلي فاعلم أني ميت فاتركني، وخذ البغلة والخرج وامضِ إلى سوق التجار، تجد يهوديًّا اسمه شميعة، فأَعْطِه البغلة وهو يعطيك مائة دينار، فخذها واكتم السرَّ ورُحْ إلى حال سبيلك. فكتفه كتافًا شديدًا فصار يقول له: شدَّ الكتاف. ثم إنه قال له: ادفعني إلى أن ترميني في البركة. فدفعه ورماه فغطس، ووقف ينتظره ساعة من الزمان، وإذا بالمغربي خرجت رجلاه، فعلم أنه مات، فأخذ البغلة وتركه وراح إلى سوق التجار، فرأى اليهودي جالسًا على كرسي في باب الحاصل، فلما رأى البغلة قال اليهودي: إن الرجل هلك. ثم قال: ما هلكه إلا الطمع. وأخذ منه البغلة وأعطاه مائة دينار، وأوصاه بكتم السر، فأخذ جودر الدنانير وراح، فأخذ ما يحتاج إليه من العيش من الخباز، وقال له: خذ هذا الدينار. فأخذه وحسب الذي له، وقال له: عندي بعد ذلك عيش يومين. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 609﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الخباز لما حاسب جودر على ثمن العيش وقال له: بقي لك عندي من الدينار عيش يومين. انتقل من عنده إلى الجزار وأعطاه دينارًا آخَر وأخذ اللحمة وقال له: خل عندك بقية الدينار تحت الحساب. وأخذ الخضار وراح، فرأى أخويه يطلبان من أمهم شيئًا يأكلانه وهي تقول لهما: اصبرَا حتى يأتي أخوكما، فما عندي شيء. فدخل عليهم وقال لهم: خذوا كلوا. فوقعوا على العيش مثل الغيلان، ثم إن جودر أعطى أمه بقية الذهب وقال: خذي يا أمي، وإذا جاء أخواي فأعطيهما ليشتريا ويأكلا في غيابي. وبات تلك الليلة، ولما أصبح أخذ الشبكة وراح إلى بركة قارون ووقف وأراد أن يطرح الشبكة، وإذا بمغربي آخَر أقبل وهو راكب بغلة ومهيَّأ أكثر من الذي مات، ومعه خرج وحقان في الخرج في كل عين منه حقٌّ، وقال: السلام عليك يا جودر. فقال: عليك السلام يا سيدي الحاج. فقال: هل جاءك بالأمس مغربي راكب بغلة مثل هذه البغلة؟ فخاف وأنكر وقال: ما رأيت أحدًا. خوفًا أن يقول: راح إلى أين؟ فإن قال له غرق في البركة، ربما يقول أنت غرَّقته، فما وسعه إلا الإنكار، فقال له: يا مسكين هذا أخي وسبقني. قال: ما معي خبر. قال: أَمَا كتَّفْتَه أنت ورميتَه في البركة، وقال لك: إن خرجَتْ يداي ارمِ عليَّ الشبكة واسحبني بالعجل، وإن خرجَتْ رجلاي أكون ميتًا، وخذ أنت البغلة وأدِّها إلى اليهودي شميعة، وهو يعطيك مائة دينار؟ وقد خرجت رجلاه وأنت أخذت البغلة، وأديتها إلى اليهودي، وأعطاك مائة دينار؟ فقال: حيث إنك تعرف ذلك، فلأي شيء تسألني؟ قال: مرادي أن تفعل بي كما فعلتَ بأخي. وأخرج له قيطانًا من حرير وقال: كتِّفني وارمني، وإن جرى لي مثل ما جرى لأخي، فخذ البغلة وأدِّها إلى اليهودي وخذ منه مائة دينار. فقال له: تقدَّمْ. فتقدَّمَ فكتَّفَه ودفعه، فوقع في البركة وغطس، فانتظره ساعة فطلعت رجلاه فقال: مات في داهية إن شاء الله. كل يوم يجيئني المغاربة وأنا أكتفهم ويموتون، ويكفيني من كل ميت مائة دينار. ثم إنه أخذ البغلة، فلما رآه اليهودي قال له: مات الآخَر. قال له: تعيش رأسك. قال له: هذا جزاء الطمَّاعين. وأخذ البغلة منه وأعطاه مائة دينار، فأخذها وتوجَّهَ إلى أمه، فأعطاها إياها، فقالت له: يا ولدي، من أين لك هذا؟ فأخبرها، فقالت له: ما بقيت تروح بركة قارون، فإني أخاف من المغاربة. فقال لها: يا أمي، أنا لا أرميهم إلا برضاهم، وكيف يكون العمل؟ هذه صنعة يأتينا منها كل يوم مائة دينار، وأرجع سريعًا، فوالله لا أرجع عن ذهابي إلى بركة قارون حتى ينقطع أثر المغاربة ولا يبقى منهم أحد.

ثم إنه في اليوم الثالث راح ووقف، وإذا بمغربي راكب بغلة ومعه خرج، ولكنه مهيَّأ أكثر من الأولين، وقال: السلام عليك يا جودر يا ابن عمر. فقال في نفسه: من أين كلهم يعرفونني؟ ثم ردَّ عليه السلام، فقال: هل جاز على هذا المكان مغاربة؟ قال له: اثنان. قال له: أين راحا؟ قال: كتَّفْتُهما ورميتُهما في هذه البركة فغرقا، والعاقبة لك أنت الآخر. فضحك، ثم قال: يا مسكين، كل حي ووعده. ونزل عن البغلة وقال له: يا جودر، اعمل معي كما عملتَ معهما. وأخرج القيطان الحرير، فقال له جودر: أَدِرْ يدَيْك حتى أكتِّفك، فإني مستعجل وراح عليَّ الوقت. فأدار له يديه فكتَّفَه ودفعه، فوقع في البركة ووقف ينتظره، وإذا بالمغربي أخرج له يديه، وقال له: ارم الشبكة يا مسكين. فرمى عليه الشبكة وجذبه، وإذا هو قابض في يديه سمكتين لونهما أحمر مثل المرجان، في كل يد سمكة، وقال له: افتح الحقين. ففتح له الحقين فوضع في كل حقٍّ سمكةً، وسد عليهما فم الحقين. ثم إنه حضن جودرًا وقبَّلَه ذات اليمين وذات الشمال في خديه، وقال له: الله ينجِّيك من كل شدة، والله لولا أنك رميتَ عليَّ الشبكة وأخرجتَني، لكنتُ ما زلت قابضًا على هاتين السمكتين وأنا غاطس في الماء حتى أموت، ولا أقدر أن أخرج من الماء. فقال له: يا سيدي الحاج، بالله عليك أن تخبرني بشأن اللذين غرقَا أولًا، وبحقيقة هاتين السمكتين، وبشأن اليهودي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 610﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن جودرًا لما سأل المغربي، وقال له: أخبرني عن اللذين غرقَا أولًا. قال له: يا جودر، اعلم أن اللذين غرقَا أولًا أخواي؛ أحدهما اسمه عبد السلام، والثاني اسمه عبد الأحد، وأنا اسمي عبد الصمد، واليهودي أخونا اسمه عبد الرحيم، وما هو يهودي إنما هو مسلم مالكي المذهب، وكان والدنا علَّمَنا حلَّ الرموز، وفتْحَ الكنوز والسحرَ، وصرنا نعالج حتى خدمتنا مَرَدة الجن والعفاريت، ونحن أربعة إخوة، ووالدنا اسمه عبد الودود، ومات أبونا وخلف لنا شيئًا كثيرًا، فقسمنا الذخائر والأموال والأرصاد حتى وصلنا إلى الكتب فقسمناها، فوقع بيننا اختلاف في كتاب اسمه أساطير الأولين، ليس له مثيل ولا يقدر له أحد على ثمن، ولا يُعادل بجواهر؛ لأنه مذكور فيه سائر الكنوز، وحل الرموز، وكان أبونا يعمل به ونحن نحفظ منه شيئًا قليلًا، وكلٌّ منَّا غرضه أن يملكه حتى يطَّلِع على ما فيه، فلما وقع الخلاف بيننا، حضر مجلسنا شيخ أبينا الذي كان ربَّاه وعلَّمه السحرَ والكهانةَ، وكان اسمه الكهين الأبطن، فقال لنا: هاتوا الكتاب. فأعطيناه الكتاب فقال: أنتم أولاد ولدي، ولا يمكن أن أظلم منكم أحدًا، فليذهب مَن أراد أن يأخذ هذا الكتاب إلى معالجة فتح كنز الشمردل، ويأتيني بدائرة الفلك والمكحلة والخاتم والسيف؛ فإن الخاتم له مارد يخدمه اسمه الرعد القاصف، ومَن ملك هذا الخاتم لا يقدر عليه ملك ولا سلطان، وإن أراد أن يملك به الأرض بالطول والعرض يقدر على ذلك؛ وأما السيف فإنه لو جُرِّد على جيش وهَزَّه حاملُه لَهزَمَ الجيش، وإن قال له وقتَ هزِّه: اقتل هذا الجيش. فإنه يخرج من ذلك السيف برق من نار، فيقتل جميع الجيش؛ وأما دائرة الفلك، فإن الذي يملكها إن شاء أن ينظر جميع البلاد من المشرق إلى المغرب، فإنه ينظرها ويتفرَّج عليها وهو جالس، فأي جهة أرادها يوجهه الدائرة إليها، وينظر في الدائرة، فإنه يرى تلك الجهة وأهلها كأنَّ الجميع بين يديه، وإذا غضب على مدينة ووجَّهَ الدائرة إلى قرص الشمس، وأراد احتراق تلك المدينة فإنها تحترق؛ وأما المكحلة فإن كل مَن اكتحل منها يرى كنوزَ الأرض. ولكن لي عليكم شرط، وهو أن كل مَن عجز عن فتح هذا الكنز، ليس له في الكتاب استحقاق، ومَن فتح هذا الكنز وأتاني بهذه الذخائر الأربعة، فإنه يستحق أن يأخذ هذا الكتاب.

فرضينا بالشرط، فقال لنا: يا أولادي، اعلموا أن كنز الشمردل تحت حكم أولاد الملك الأحمر، وأبوكم أخبرني أنه كان عالَجَ فتح ذلك الكنز، فلم يقدر ولكن هرب منه أولاد الملك الأحمر إلى بركة في أرض مصر تُسمَّى بركة قارون، وعصوا في البركة، فلحقهم إلى مصر ولم يقدر عليهم بسبب انسيابهم في تلك البركة؛ لأنها مرصودة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 611﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الكهين الأبطن لما أخبر الأولاد بذلك الخبر قال لهم: ثم إنه رجع غلبان، ولم يقدر على فتح كنز الشمردل من أولاد الملك الأحمر، فلما عجز أبوكم عنهم جاءني، وشكا إليَّ، فضربتُ له تقويمًا، فرأيت أن هذا الكنز لا يُفتَح إلا على وجه غلام من أبناء مصر اسمه جودر بن عمر، فإنه يكون سببًا في قبض أولاد الملك الأحمر، وذلك الغلام يكون صيَّادًا، والاجتماع به يكون على بركة قارون، ولا ينفك ذلك الرصد إلا إذا كان جودر يكتف صاحب النصيب ويرميه في البركة، فيتحارب مع أولاد الملك الأحمر، وكلُّ مَن كان له نصيب فإنه يقبض أولاد الملك الأحمر، والذي ليس له نصيب يهلك، وتظهر رجلاه من الماء، والذي يسلم تظهر يداه، فيحتاج أن جودرًا يرمي عليه الشبكة ويخرجه من البركة. فقال إخوتي: نحن نروح ولو هلكنا، وأنا قلت أروح أيضًا، وأما أخونا الذي في هيئة يهودي فإنه قال: أنا ليس لي غرض. فاتفقنا معه على أنه يتوجه إلى مصر في صفة يهودي تاجر، حتى إذا مات منَّا أحد في البركة يأخذ البغلة والخرج منه ويعطيه مائة دينار، فلما أتاك الأول قتله أولاد الملك الأحمر، وقتلوا أخي الثاني، وأنا لم يقدروا عليَّ فقبضتهم. فقال: أين الذين قبضتهم؟ فقال: أَمَا رأيتهم قد حبستهم في الحقين؟ قال: هذا سمك. قال له المغربي: ليس هذا سمكًا، إنما هم عفاريت بهيئة السمك، ولكن يا جودر اعلم أن فتح الكنز لا يكون إلا على وجهك، فهل تطاوعني وتروح معي إلى مدينة فاس ومكناس، ونفتح الكنز، وأعطيك ما تطلب؟ وأنت بقيت أخي في عهد الله، وترجع إلى عيالك مجبور القلب. فقال له: يا سيدي الحاج، أنا في رقبتي أمي وأخواي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 612﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن جودرًا قال للمغربي: أنا في رقبتي أمي وأخواي، وأنا الذي أجري عليهم، وإن رحتُ معك فمَن يطعمهم العيش؟ فقال له: هذه حجة بطالة، فإن كان من شأن المصروف، فنحن نعطيك ألف دينار، تعطي أمك إياها لتصرفها حتى ترجع إلى بلادك، وأنت إن غبت ترجع قبل أربعة أشهر. فلما سمع جودر بالألف دينار قال: هات يا حاج الألف دينار أتركها عند أمي وأروح معك. فأخرج له الألف دينار، فأخذها وراح إلى أمه، وأخبرها بما جرى بينه وبين المغربي، وقال لها: خذي هذا الألف دينار واصرفي منه عليك وعلى أخويَّ، وأنا مسافر مع المغربي إلى الغرب فأغيب أربعة أشهر، ويحصل لي خير كثير، فادعي لي يا والدتي. فقالت له: يا ولدي، توحشني وأخاف عليك. فقال: يا أمي، ما على مَن يحفظه الله بأسٌ، والمغربي رجل طيب. وصار يشكر لها حاله، فقالت: الله يعطف قلبه عليك، رح معه يا ولدي لعله يعطيك شيئًا. فودَّعَ أمه وراح، ولما وصل عند المغربي عبد الصمد قال له: هل شاورتَ أمك؟ قال: نعم ودعَتْ لي. فقال له: اركب ورائي. فركب على ظهر البغلة وسافرَا من الظهر إلى العصر، فجاع جودر ولم يَرَ مع المغربي شيئًا يُؤكَل، فقال: يا سيدي الحاج، لعلك نسيت أن تجيء لنا بشيء نأكله في الطريق؟ فقال: هل أنت جائع؟ قال: نعم. فنزل من فوق ظهر البغلة هو وجودر، ثم قال: نزِّل الخرج. فنزَّلَه، ثم قال له: أي شيء تشتهي يا أخي؟ فقال له: أي شيء كان. قال له: بالله عليك أن تقول لي أي شيء تشتهي؟ قال: عيشًا وجبنًا. قال: يا مسكين، العيش والجبن ما هو مقامك، فاطلب شيئًا طيبًا. قال جودر: أنا عندي في هذه الساعة كل شيء طيب. فقال له: أتحب الفراخ المحمرة؟ قال: نعم. قال: أتحب الأرز بالعسل؟ قال: نعم. قال: أتحب اللون الفلاني واللون الفلاني … حتى سمَّى له من الطعام أربعة وعشرين لونًا، ثم قال في باله: هل هو مجنون؟ من أين يجيء لي بالأطعمة التي سمَّاها، وما عنده مطبخ ولا طبَّاخ؟ لكن قل له: يكفي. فقال له: يكفي، هل أنت تشهِّيني الألوان ولا أنظر شيئًا؟ فقال المغربي: مرحبًا بك يا جودر. وحطَّ يده في الخرج، فأخرج صحنًا من الذهب فيه فرختان محمرتان سخنتان، ثم حط يده ثاني مرة فأخرج صحنًا من الذهب فيه كباب، ولا زال يُخرِج من الخرج حتى أخرَجَ الأربعة والعشرين لونًا التي ذكرها بالتمام والكمال، فبُهِت جودر، فقال له: كُلْ يا مسكين. فقال: يا سيدي، أنت جاعل في هذا الخرج مطبخًا وناسًا تطبخ؟ فضحك المغربي وقال: هذا مرصود له خادم، لو نطلب في كل ساعة ألف لون يجيء بها الخادم، ويحضرها في الوقت. فقال: نِعْمَ هذا الخرج.

ثم إنهما أكلا حتى اكتفيا، والذي فضل كباه وردَّ الصحون فارغةً في الخرج، وحطَّ يده فأخرج إبريقًا فشربا وتوضآ وصلَّيَا العصر، ورد الإبريق في الخرج، ثم إنه حطَّ فيه الحقين، وحمله على تلك البغلة وركب، وقال: اركب حتى نسافر. ثم إنه قال: يا جودر، هل تعلم ما قطعنا من مصر إلى هنا؟ قال له: والله لا أدري. فقال له: قطعنا مسيرة شهر كامل. قال: وكيف ذلك؟ قال له: يا جودر، اعلم أن البغلة التي تحتنا ماردة من مَرَدة الجن، تسافر في اليوم مسافة سنة، ولكن من شأن خاطرك مشت على مهلها. ثم ركبا وسافرا إلى المغرب، فلما أمسيا أخرج من الخرج العشاء، وفي الصباح أخرج الفطور، وما زالا على هذه الحالة مدة أربعة أيام، وهما يسافران إلى نصف الليل، وينزلان فينامان ويسافران في الصباح، وجميع ما يشتهي جودر يطلبه من المغربي يُخرِجه له من الخرج، وفي اليوم الخامس وصلا إلى فاس ومكناس، ودخلا المدينة، فلما دخلا صار كلُّ مَن قابل المغربي يسلِّم عليه ويقبِّل يده، وما زال كذلك حتى وصل إلى بابٍ فطرقه، وإذا بالباب قد فُتِح وبان منه بنت كأنها القمر، فقال لها: يا رحمة يا بنتي، افتحي لنا القصر. قالت: على الرأس والعين يا أبتي. ودخلت تهزُّ أعطافها، فطار عقل جودر وقال: ما هذه إلا بنت ملك. ثم إن البنت فتحت القصر، فأخذ الخرج من فوق البغلة، وقال لها: انصرف باركَ الله فيكَ. وإذا بالأرض انشقت ونزلت البغلة، ورجعت الأرض كما كانت، فقال جودر: يا ستار، الحمد لله الذي نجَّانا فوق ظهرها. ثم إن المغربي قال: لا تعجب يا جودر، فإني قلت لك إن البغلة عفريت، لكن اطلع بنا القصر. فلما دخلا ذلك القصر اندهش جودر من كثرة الفرش الفاخر، ومما رأى فيه من التحف وتعاليق الجواهر والمعادن، فلما جلسا أمر البنت وقال: يا رحمة، هات البقجة الفلانية. فقامت وأقبلت ببقجة ووضعتها بين يدي أبيها، ففتحها وأخرج منها حلة تساوي ألف دينار، وقال له: البس يا جودر مرحبًا بك. فلبس الحلة وصار كناية عن ملك من ملوك الغرب، ووضع الخرج بين يديه، ثم مدَّ يده فيه، وأخرج منه أصحنًا فيها ألوان مختلفة، حتى صارت سفرة فيها أربعون لونًا، فقال: يا مولاي، تقدَّمْ وكُلْ ولا تؤاخذنا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 613﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن المغربي لما أدخل جودر القصر مدَّ له سفرة فيها أربعون لونًا، وقال له: تقدَّمْ كُلْ ولا تؤاخذنا نحن لا نعرف أي شيء تشتهي من الأطعمة، فقل لنا على ما تشتهي ونحن نحضره إليك من غير تأخير. فقال له: والله يا سيدي الحاج إني أحب سائر الأطعمة، ولا أكره شيئًا، فلا تسألني عن شيء، فهات جميع ما يخطر ببالك. وناما على الأكل، ثم إنه أقام عنده عشرين يومًا، كل يوم يلبسه حلة والأكل من الخرج، والمغربي لا يشتري شيئًا من اللحم ولا عيشًا ولا يطبخ، ويُخرِج كلَّ ما يحتاجه من الخرج حتى أصناف الفاكهة. ثم إن المغربي في اليوم الحادي والعشرين، قال: يا جودر، قم بنا فإن هذا هو اليوم الموعود لفتح كنز الشمردل. فقام معه ومشيا إلى المدينة، ثم خرجا منها، فركب جودر بغلة وركب المغربي بغلة، ولم يزالا مسافرين إلى وقت الظهر، فوصلا إلى نهر ماء جارٍ، فنزل عبد الصمد وقال: انزل يا جودر. فنزل، ثم إن عبد الصمد قال: هيا. وأشار للعبدين بيده، فأخذ البغلتين وراح كل عبد من طريق، ثم غابا قليلًا، وقد أقبل أحدهما بخيمة فنصبها، وأقبل الثاني بفراش وفرشه في الخيمة ووضع في دائرها وسائد ومساند، ثم ذهب واحد منهم وجاء بالحقين اللذين فيهما السمكتان، والثاني جاء بالخرج، فقام المغربي وقال: تعال يا جودر. فأتى وجلس بجانبه، وأخرج المغربي من الخرج أصحن الطعام وتغدَّيَا، وبعد ذلك أخذ الحقين، ثم إنه عزم عليهما فصارا من داخل يقولان: لبيك يا كهين الدنيا ارحمنا. وهما يستغيثان وهو يعزم عليهما حتى تمزَّقَ الحقان فصارا قطعًا، وتطايرت قطعهما، فظهر منهما اثنان مكتَّفان يقولان: الأمان يا كهين الدنيا، مرادك أن تعمل فينا أي شيء؟ فقال: مرادي أن أحرقكما، أو أنكما تعاهداني على فتح كنز الشمردل. فقالا: نعاهدك ونفتح لك الكنز، لكن بشرط أن تحضر جودر الصياد؛ فإن الكنز لا يُفتَح إلا على وجهه، ولا يقدر أحد أن يدخل فيه إلا جودر بن عمر. فقال لهما: الذي تذكرانه قد جئتُ به، وهو ها هنا يسمعكما وينظركما. فعاهداه على فتح الكنز وأطلقهما.

ثم إنه أخرج قصبة وألواحًا من العقيق الأحمر، وجعلها على القصبة، وأخذ مجمرة ووضع فيها فحمًا، ونفخها نفخة واحدة فأوقد فيها النار، وأحضر البخور وقال: يا جودر، أنا أتلو العزيمة وألقي البخور، فإذا ابتدأتُ في العزيمة لا أقدر أن أتكلم فتبطل العزيمة، ومرادي أن أعلِّمك كيف تصنع حتى تبلغ مرادك؟ فقال له: علِّمني. فقال له: اعلم أني متى عزمت وألقيت البخور نشف الماء من النهر، وبان لك باب من الذهب قدر باب المدينة بحلقتين من المعدن، فانزل إلى الباب واطرقه طرقة خفيفة واصبر مدة، واطرق الثانية طرقة أثقل من الأولى واصبر مدة، واطرقه ثلاث طرقات متتابعات وراء بعضها؛ فتسمع قائلًا يقول: مَن يطرق باب الكنوز، وهو لم يعرف أن يحل الرموز؟ فقل: أنا جودر الصياد بن عمر. فيفتح لك الباب، ويخرج لك شخص بيده سيف، ويقول لك: إن كنتَ ذلك الرجل فمدَّ عنقك حتى أرمي رأسك. فمدَّ له عنقك ولا تخف، فإنه متى رفع يده بالسيف وضربك وقع بين يديك، وبعد مدة تراه شخصًا من غير روح، وأنت لا تتألم بالضربة، ولا يجري عليك شيء، وأما إذا خالفْتَه فإنه يقتلك؛ ثم إنك إذا أبطلتَ رصده بالامتثال، فادخل حتى ترى بابًا آخَر فاطرقْه، يخرج لك فارس راكب على فرس، وعلى كتفه رمح، فيقول: أي شيء أوصلك إلى هذا المكان الذي لا يدخله أحد من الإنس ولا من الجن؟ ويهزُّ عليك الرمح، فافتح له صدرك فيضربك ويقع في الحال، فتراه جسمًا من غير روح، وإن خالفتَ قتلك؛ ثم ادخل الباب الثالث يخرج لك آدمي، وفي يده قوس ونشاب، ويرميك بالقوس، فافتح له صدرك ليضربك ويقع قدامك جسمًا من غير روح، وإن خالفتَ قتلك؛ ثم ادخل الباب الرابع … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 614﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن المغربي قال لجودر: ادخل الباب الرابع واطرقه يفتح لك ويخرج لك سَبْعٌ عظيمُ الخلقة، ويهجم عليك ويفتح فمه يريك أنه يقصد أكلك، فلا تَخَفْ ولا تهرب منه، فإذا وصل إليك فأعْطِه يدك، فمتى عضَّ على يدك فإنه يقع في الحال ولا يصيبك شيء؛ ثم ادخل الباب الخامس يخرج لك عبد أسود ويقول لك: مَن أنت؟ فقل له: أنا جودر. فيقول لك: إن كنتَ ذلك الرجل فافتح الباب السادس. فتقدَّمْ إلى الباب وقل: يا عيسى قُلْ لموسى يفتح الباب. فيُفتَح الباب، فادخل تجد ثعبانين؛ أحدهما على الشمال، والآخَر على اليمين، كلُّ واحد منهما يفتح فاه ويهجمان عليك في الحال، فمدَّ إليهما يديك فيعضُّ كلُّ واحد منهما في يدٍ، وإن خالفتَ قتلاك. ثم ادخل إلى الباب السابع واطرقه تخرج لك أمك، وتقول لك: مرحبًا يا بني، تقدَّمْ حتى أسلِّم عليك. فقل لها: خليكِ بعيدًا عني واخلعي ثيابك. فتقول لك: يا بني، أنا أمك، ولي عليك حق الرضاعة والتربية كيف تعرِّيني؟ فقل لها: إن لم تخلعي ثيابك قتلتُكِ. وانظر جهة يمينك تجد سيفًا معلَّقًا في الحائط فخذه، واسحبه عليها وقل لها: اخلعي. فتصير تخادعك، وتتواضع إليك، فلا تشفق عليها، فكلما تخلع لك شيئًا قل لها: اخلعي الباقي. ولم تزل تهدِّدها بالقتل حتى تخلع لك جميع ما عليها وتسقط، وحينئذٍ قد حللت الرموز، وأبطلت الأرصاد، وقد أمنتَ على نفسك، فادخل تجد الذهب كيمانًا داخل الكنز، فلا تعتنِ بشيء منه، وإنما ترى مقصورة في صدر الكنز وعليها ستارة، فاكشف الستارة فإنك ترى الكهين الشمردل راقدًا على سرير من الذهب، وعلى رأسه شيء مدور يلمع مثل القمر، فهو دائرة الفلك، وهو مقلد بالسيف، وفي إصبعه خاتم، وفي رقبته سلسلة فيها مكحلة، فهاتِ الأربع ذخائر، وإياك أن تنسى شيئًا مما أخبرتُكَ به، ولا تخالِف فتندم ويُخشَى عليك.

ثم كرَّرَ عليه الوصية ثانيًا وثالثًا ورابعًا حتى قال: حفظتُ، لكنْ مَن يستطيع أن يواجه هذه الأرصاد التي ذكرتها ويصبر على هذه الأهوال العظيمة؟ فقال له: يا جودر، لا تَخَفْ، إنهم أشباح من غير أرواح. وصار يطمئنه، فقال جودر: توكلتُ على الله. ثم إن المغربي عبد الصمد ألقى البخور، وصار يعزم مدة وإذا بالماء قد ذهب، وبانت أرض النهر، وظهر باب الكنز، فنزل إلى الباب وطرقه، فسمع قائلًا يقول: مَن يطرق أبواب الكنوز، ولم يعرف أن يحل الرموز؟ فقال: أنا جودر بن عمر. فانفتح الباب وخرج له الشخص وجرَّدَ السيف، وقال له: مدَّ عنقك. فمدَّ عنقه وضربه، ثم وقع، وكذلك الثاني إلى أن أبطل أرصاد السبعة أبواب، وخرجت أمه وقالت له: سلامات يا ولدي. فقال لها: أنت أي شيء؟ قالت: أنا أمك ولي عليك حق الرضاعة والتربية، وحملتك تسعة أشهر يا ولدي. فقال لها: اخلعي ثيابك. فقالت: أنت ولدي وكيف تعرِّيني؟ قال لها: اخلعي ثيابك وإلا أرمي رأسك بهذا السيف. ومدَّ يده فأخذ السيف وشهره عليها، وقال لها: إن لم تخلعي قتلتك. وطال بينها وبينه العلاج، ثم إنه لما أكثر عليها التهديد خلعت شيئًا، فقال: اخلعي الباقي. وعالجها كثيرًا حتى خلعت شيئًا آخَر، وما زال على هذه الحالة وهي تقول له: يا ولدي خابت فيك التربية. حتى لم يبقَ عليها شيء غير اللباس، فقالت: يا ولدي هل قلبك حجر فتفضحني بكشف العورة؟ يا ولدي، أَمَا هذا حرام؟ فقال: صدقتِ فلا تخلعي اللباس. فلما نطق بهذه الكلمة صاحت وقالت: قد غلط فاضربوه. فنزل عليه ضرب مثل قطر المطر، واجتمعت عليه خدام الكنز، فضربوه علقة لم ينسها في عمره، ودفعوه فرموه خارج باب الكنز، وانغلقت أبواب الكنز كما كانت، فلما رموه خارج الباب أخذه المغربي في الحال، وجرت المياه كما كانت. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 615﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن جودرًا لما ضربه خدَّام الكنز ورموه خارج الباب وانغلقت الأبواب، وجرى النهر كما كان أولًا، قام عبد الصمد المغربي، وقرأ على جودر حتى أفاق وصحا من سكرته، فقال له: أي شيء عملت يا مسكين؟ فقال له: أبطلت الموانع كلها، ووصلت إلى أمي ووقع بيني وبينها معالجة طويلة، وصارت يا أخي تخلع ثيابها حتى لم يبقَ عليها إلا اللباس. فقالت لي: لا تفضحني، فإن كشْفَ العورة حرام. فتركتُ لها اللباس شفقةً عليها، وإذا بها صاحت وقالت: قد غلط فاضربوه. فخرج لي ناس لا أدري أين كانوا، ثم إنهم ضربوني علقة حتى أشرفت على الموت، ودفعوني ولم أدرِ بعد ذلك ما جرى لي. فقال له: أَمَا قلتُ لك لا تخالف؟ قد أسأتني وأسأت نفسك، فلو خلعَتْ لباسَها كنَّا بلغنا المراد، ولكن حينئذٍ تقيم عندي إلى العام القابل لمثل هذا اليوم. ونادى العبدين في الحال، فحلَّا الخيمة وحملاها، ثم غابا قليلًا ورجعا بالبغلتين، فركب كلُّ واحدٍ بغلةً ورجعا إلى مدينة فاس، فأقام عنده في أكل طيِّب، وشرب طيب، وكل يوم يُلبِسه حلة فاخرة، إلى أن فرغَتِ السنة وجاء ذلك اليوم، فقال له المغربي: هذا هو اليوم الموعود فامضِ بنا. قال له: نعم. فأخذه إلى خارج المدينة، فرأيَا العبدين بالبغلتين، ثم ركبَا إلى أن وصلَا عند النهر، فنصب العبدان الخيمة وفرشاها، وأخرج السفرة فتغديا، وبعد ذلك أخرج القصبة والألواح مثل الأول، وأوقد النار وأحضر له البخور وقال له: يا جودر، مرادي أن أوصيك. فقال له: يا سيدي الحاج، إن كنتُ نسيت العلقةَ أكون نسيتُ الوصية. فقال له: هل أنت حافظ الوصية؟ قال: نعم. قال: احفظ روحك، ولا تظن أن المرأة أمك، وإنما هي رصد في صورة أمك، ومرادها أن تغلطك، وإن كنتَ أول مرة طلعت حيًّا فإنك في هذه المرة أن غلطت يرمونك مقتولًا. قال: إن غلطت أستحق أن يحرقوني.

ثم إن المغربي وضع البخور وعزم فنشف النهر، فتقدَّمَ جودر إلى الباب وطرقه فانفتح، وأبطل الأرصاد السبعة إلى أن وصل إلى أمه، فقالت له: مرحبًا يا ولدي. فقال لها: من أين أنا ولدك يا ملعونة؟ اخلعي. فجعلت تخادعه، وتخلع شيئًا بعد شيء حتى لم يبقَ غير اللباس. فقال: اخلعي يا ملعونة. فخلعت اللباس، وصارت شبحًا بلا روح، فدخل ورأى الذهب كيمانًا، فلم يعتنِ بشيء، ثم أتى المقصورة ورأى الكهين الشمردل راقدًا متقلدًا بالسيف، والخاتم في أصبعه، والمكحلة على صدره، ورأى دائرة الفلك فوق رأسه، فتقدَّمَ وفكَّ السيف وأخذ الخاتم ودائرة الفلك والمكحلة وخرج. وإذا بنوبة دقَّتْ له وصار الخدام ينادون: هنيت بما أُعطيت يا جودر. ولم تزل النوبة تدق إلى أن خرج من الكنز، ووصل إلى المغربي، فأبطل العزيمة والبخور، وقام وحضنه وسلَّمَ عليه، وأعطاه جودر الأربع ذخائر، فأخذها وصاح على العبدين، فأخذا الخيمة وردَّاها ورجعا بالبغلتين فركباهما، ودخل مدينة فاس، فأحضر الخرج وجعل يطلع منه الصحون، وفيها الألوان وكملت قدامه سفرة، وقال: يا أخي يا جودر، كُلْ. فأكل حتى اكتفى وفرغ بقية الأطعمة في صحون غيرها، ورد الفوارغ في الخرج.

ثم إن المغربي عبد الصمد قال: يا جودر، أنت فارقتَ أرضك وبلادك من أجلنا، وقضيتَ حاجتنا، وصار لك علينا أمنية، فتمنَّ ما تطلب، فإن الله تعالى أعطاك، ونحن السبب، فاطلب مرادك ولا تستحِ فإنك تستحق. فقال: يا سيدي، تمنيتُ على الله، ثم عليك، أن تعطيني هذا الخرج. قال: هات الخرج. فجاء به، قال: خذه فإنه حقك، ولو كنتَ تمنيتَ غيره لأعطيناك إياه، ولكن يا مسكين هذا ما يفيدك غير الأكل، وأنت تعبت معنا ونحن وعدناك أن نُرجِعك إلى بلادك مجبور الخاطر، والخرج هذا تأكل منه، ونعطيك خرجًا آخَر ملآنًا من الذهب والجواهر، ونوصلك إلى بلادك فتصير تاجرًا، واكْسُ نفسَك وعيالك، ولا تحتاج إلى مصروف، وكُلْ أنت وعيالك من هذا الخرج؛ وكيفية العمل به أنك تمد يدك فيه وتقول: بحقِّ ما عليك من الأسماء العظام يا خادم هذا الخرج، أن تأتيني باللون الفلاني. فإنه يأتيك بما تطلبه، ولو طلبتَ كلَّ يوم ألف لون. ثم إنه أحضر عبدًا ومعه بغلة، وملأ به خرجًا عينًا بالذهب، وعينًا بالجواهر والمعادن، وقال له: اركب هذه البغلة والعبد يمشي قدامك، فإنه يعرِّفك الطريق إلى أن يوصلك إلى باب دارك، فإذا وصلتَ فخذ الخرجين وأَعْطِه البغلة فإنه يأتي بها، ولا تُظهِر أحدًا على سرك، واستودعناك الله. فقال له: كثر الله خيرك. وحطَّ الخرجين على ظهر البغلة وركب، والعبد مشى قدامه، وصارت البغلة تتبع العبد ذلك النهار وطول الليل، وثاني يوم في الصباح دخل من باب النصر، فرأى أمه قاعدة تقول: شيئًا لله. فطار عقله، ونزل من فوق ظهر البغلة، ورمى روحه عليها، فلما رأته بكت، ثم إنه ركَّبَها ظهر البغلة، ومشى في ركابها إلى أن وصل إلى البيت، فنزَّلَ أمه وأخذ الخرجين، وترك البغلة للعبد، فأخذها وراح لسيده لأن العبد شيطان والبغلة شيطان.

وأما ما كان من جودر، فإنه صعب عليه كون أمه تسأل، فلما دخل البيت قال لها: يا أمي، هل أخواي طيبان؟ قالت: طيبان. قال: لأي شيء تسألين في الطريق؟ قالت: يا ابني من جوعي. قال: أنا أعطيتُكِ قبل ما أسافر مائةَ دينار في أول يوم، ومائة دينار ثاني يوم، وأعطيتُكِ ألفَ دينار يوم أن سافرتُ! فقالت له: يا ولدي، قد مكرَا بي وأخذاها مني. وقالَا: مرادنا أن نشتري بها سببًا. فأخذاها وطرداني، فصرت أسأل في الطريق من شدة الجوع. فقال: يا أمي، ما عليك بأس حيث جئتُ، فلا تحملي همًّا أبدًا؛ هذا خرج ملآن ذهبًا وجواهر والخير كثير. فقالت له: يا ولدي، أنت مسعد، الله يرضى عليك ويزيدك من فضله، قم يا بني هات لنا عيشًا، فإني بائتة بشدة الجوع من غير عشاء. فضحك وقال لها: مرحبًا بك يا أمي، فاطلبي أي شيء تأكلينه وأنا أحضره لك في هذه الساعة، ولا أحتاج لشرائه من السوق ولا لمَن يطبخ. فقالت: يا ولدي، ما أنا ناظرة معك شيئًا؟ فقال: معي في الخرج من جميع الألوان. فقالت: يا ولدي كل شيء حضر يسد. قال: صدقتِ، فعند عدم الموجود يقنع الإنسان بأقل الشيء، وأما إذا كان الموجود حاضرًا؛ فإن الإنسان يشتهي أن يأكل من الشيء الطيب، وأنا عندي الموجود، فاطلبي ما تشتهين. قالت له: يا ولدي عيشًا سخنًا وقطعة جبن. فقال: يا أمي، ما هذا من مقامك؟ فقالت له: أنت تعرف مقامي، فالذي من مقامي أَطْعِمْني منه. فقال: يا أمي، أنتِ من مقامك اللحم المحمَّر، والفراخ المحمرة، والأرز المفلفل، ومن مقامك المنبار المحشي، والقرع المحشي، والخروف المحشي، والضلع المحشي، والكنافة بالمكسرات والعسل النحل والسكر والقطايف والبقلاوة.

فظنت أمه أنه يضحك عليها ويسخر منها، فقالت له: يوه يوه، أي شيء جرى لك؟ هل أنت تحلم وإلا جننت؟ فقال لها: من أين علمتِ أني جننت؟ قالت له: لأنك تذكر لي جميع الألوان الفاخرة، فمَن يقدر على ثمنها؟ ومَن يعرف أن يطبخها؟ فقال لها: وحياتي لا بد أن أطعمك من جميع الذي ذكرتُه لك في هذه الساعة. فقالت له: ما أنا ناظرة شيئًا. فقال لها: هاتي الخرج. فجاءت له بالخرج وجسته فرأته فارغًا، وقدَّمته إليه، فصار يمد يديه، ويخرج صحونًا ملآنة، حتى إنه أخرج لها جميع ما ذكره، فقالت له أمه: يا ولدي، إن الخرج صغير وكان فارغًا وليس فيه شيء، وقد أخرجتَ منه هذا كله! فهذه الصحون أين كانت؟ فقال لها: يا أمي، اعلمي أن هذا الخرج أعطانيه المغربي وهو مرصود، وله خادم إذا أراد الإنسان شيئًا وتلا عليه الأسماء وقال: يا خادم هذا الخرج هات لي اللون الفلاني؛ فإنه يحضره. فقالت له أمه: هل أمد يدي وأطلب منه؟ قال: مدي يدك. فمدت يدها وقالت: بحق ما عليك من الأسماء يا خادم هذا الخرج أن تجيء لي بضلع محشي. فرأت الصحن صار في الخرج، فمدت يدها فأخذته، فوجدت فيه ضلعًا محشيًّا نفيسًا، ثم طلبت العيش، وطلبت كل شيء أرادته من أنواع الطعام، فقال لها: يا أمي، بعد أن تفرغي من الأكل أفرغي بقية الأطعمة في صحون غير هذه الصحون، وأرجعي الفوارغ في الخرج؛ فإن الرصد على هذه الحالة، واحفظي الخرج. فنقلت الخرج وحفظته وقال لها: يا أمي، اكتمي السر وأبقيه عندك، وكلما احتجتي لشيء أخرجيه من الخرج وتصدَّقِي، وأطعمي أخويَّ، سواء كان في حضوري أو في غيابي.

وجعل يأكل هو وإياها، وإذا بأخويه يدخلان عليه، وكان بلغهم الخبر من رجل من أولاد حارته وقال لهم: أخوكم أتى وهو راكب على بغلة وقدامه عبد، وعليه حلة ليس لها نظير. فقالا لبعضهما: يا ليتنا ما كنا شوَّشنا على أمنا، لا بد أنها تخبره بما عملنا فيها، يا فضيحتنا منه. فقال واحد منهما: أمنا شفيقة، فإن أخبرته، فإن أخانا أشفق منها علينا، وإذا اعتذرنا إليه يقبل عذرنا. ثم دخلَا عليه فقام لهما على الأقدام، وسلَّمَ عليهما غاية السلام، وقال لهما: اقعدا وكُلَا. فقعدا وأكلا وكانا ضعيفين من الجوع، فما زالا يأكلان حتى شبعا، فقال لهما جودر: يا أخويَّ، خذَا بقية الطعام، وفرِّقاه على الفقراء والمساكين. فقالا له: يا أخانا، خلِّه لنتعشى به. فقال لهما: وقت العشاء يأتيكما أكثر منه. فأخرجا بقية الأطعمة، وصار كل فقير جاز عليهما يقولان له: خذ وكُلْ. حتى لم يبقَ شيء، ثم ردَّا الصحون، فقالا لأمه: حطِّيها في الخرج. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 616﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن جودرًا لما خلص أخواه من الغداء، قال لأمه: حطي الصحون في الخرج. وعند المساء دخل القاعة، وأخرج من الخرج سماطًا أربعين لونًا وطلع، فلما جلس بين أخويه قال لأمه: هاتي العشاء. فلما دخلت رأت الصحون ممتلئة، فحطت السفرة، ونقلت الصحون شيئًا بعد شيء حتى كملت الأربعين صحنًا، فتعشوا، وبعد العشاء قال: خذوا وأطعموا الفقراء والمساكين. فأخذوا بقية الأطعمة وفرَّقوها، وبعد العشاء أخرج لهم حلويات فأكلوا منها، والذي فضل منهم قال: أطعموه للجيران. وفي ثاني يوم الفطور كذلك، وما زالوا على هذه الحالة مدة عشرة أيام، ثم قال سالم لسليم: ما سبب هذا الأمر، إن أخانا يُخرِج لنا ضيافة في الصبح، وضيافة في الظهر، وضيافة في المغرب، وفي آخِر الليل يُخرِج حلويات، وكل شيء فضل يفرِّقه على الفقراء، وهذا فعل السلاطين، ومن أين أتته هذه السعادة؟ أَلَا تسأل عن هذه الأطعمة المختلفة وعن هذه الحلويات؟ وكل شيء فضل يفرقه على الفقراء والمساكين، ولا نراه يشتري شيئًا أبدًا، ولا يوقد نارًا، وليس له مطبخ ولا طباخ! فقال أخوه: والله لا أدري، ولكن هل تعرف مَن يخبرنا بحقيقة هذا الأمر؟ قال له: لا يخبرنا إلا أمنا. فدبَّرَا لهما حيلة ودخلا على أمهما في غياب أخيهما، وقالا: يا أمنا نحن جائعان. فقالت لهما: أَبْشِرَا. ودخلت القاعة فطلبت من خادم الخرج، وأخرجت لهما أطعمة سخنة، فقالا: يا أمنا، هذا الطعام سخن، وأنت لم تطبخي ولم تنفخي! فقالت لهما: إنها من الخرج. فقالا لها: أي شيء هذا الخرج؟ فقالت لهما: إن الخرج مرصود، والطلب من الرصد. وأخبرتهما بالخبر، وقالت لهما: اكتما السر. فقالا لها: السر مكتوم يا أمنا، ولكن علِّمينا كيفية ذلك. فعلَّمَتْهما وصارَا يمدان أياديهما ويخرجان الشيء الذي يطلبانه، وأخوهما ما عنده خبر بذلك. فلما علمَا بصفة الخرج، قال سالم لسليم: يا أخي، إلى متى ونحن عند جودر في صفة الخدامين، ونأكل صدقته؟ أَلَا نعمل عليه حيلة ونأخذ هذا الخرج ونفوز به؟ فقال: كيف تكون الحيلة؟ قال: نبيع أخانا لرئيس بحر السويس. فقال له: وكيف نصنع حتى نبيعه؟ فقال: أروح أنا وأنت لذلك الرئيس ونعزمه مع اثنين من جماعته، والذي أقوله لجودر تصدقني عليه، وآخِر الليل أُرِيك ما أصنع.

ثم اتفقا على بيع أخيهما، وراحا بيت رئيس بحر السويس ودخل سالم وسليم على الرئيس، وقالا له: يا رئيس، جئناك في حاجة تسرك. فقال: خيرًا؟ قالا له: نحن أخوان، ولنا أخ ثالث معكوس لا خير فيه، ومات أبونا، وخلف لنا جانبًا من المال، ثم إننا قسمنا المال وأخذ هو ما نابه من الميراث، فصرفه في الفسق والفساد، ولما افتقر تسلَّطَ علينا وصار يشكونا إلى الظَّلَمَة، ويقول: أنتما أخذتما مالي، ومال أبي. وبقينا نترافع إلى الحكام وخسرنا المال، وصبر علينا مدة، واشتكانا ثانيًا حتى أفقرنا، ولم يرجع عنا وقد قلقنا منه، والمراد أنك تشتريه منا. فقال لهما: هل تقدران أن تحتالَا عليه وتأتياني به إلى هنا، وأنا أرسله سريعًا إلى البحر؟ فقالا: ما نقدر أن نجيء به، ولكن أنت تكون ضيفنا، وهات معك اثنين من غير زيادة، فلما ينام نتعاون عليه نحن الخمسة فنقبضه ونجعل في فمه العقلة، وتأخذه تحت الليل، ونخرج به من البيت، وافعل فيه ما شئتَ. فقال لهما: سمعًا وطاعة، أتبيعانه بأربعين دينارًا؟ فقالا له: نعم، وبعد العشاء تأتي الحارة الفلانية، فتجد واحدًا منَّا ينتظركم. فقال لهما: روحَا.

فقصدَا جودرًا وصبرا ساعة، ثم تقدَّمَ إليه سالم وقبَّلَ يده، فقال له: ما لك يا أخي؟ فقال له: اعلم أن لي صاحبًا، وعزمني مرات عديدة في بيته في غيابك، وله عليَّ ألف جميلة، ودائمًا يكرمني بعلم أخي، فسلَّمْتُ عليه اليوم فعزمني، فقلت له: أنا ما أقدر أن أفارق أخي. فقال: هاته معك. فقلت: لا يرضى بذلك، ولكن إن كنتَ تضيفنا أنت وإخوتك. وكان أخواه جالسين عنده فعزمتهم، وقد ظننت أني أعزمهم ويمتنعون، فلما عزمته هو وأخويه، رضي وقال: انتظرني على باب الزاوية، وأنا أجيء بإخوتي. فأنا خائف أن يجيء ومستحٍ منك، فهل تجبر خاطري وتضيفهم في هذه الليلة؟ وأنت خيرك كثير يا أخي، وإن كنتَ لم ترضَ، فَأْذَنْ لي أن أدخلهم بيت الجيران. فقال له: لأي شيء تدخلهم بيت الجيران؟ فهل بيتنا ضيقًا وما عندنا شيء نعشيهم به؟ عيب عليك أن تشاورني، ما لك إلا أطعمة طيبة وحلويات إلى أن يفضل عنهم، وإن جئت بناس وكنتُ أنا غائبًا، فاطلب من أمك تُخرِج لك أطعمةً بزيادة. رُحْ هاتهم حلَّتْ علينا البركات. فقبَّلَ يده وراح، فقعد على باب الزاوية لبعد العشاء، وإذا بهم قد أقبلوا عليه، فأخذهم ودخل بهم البيت، فلما رآهم جودر قال لهم: مرحبًا بكم. وأجلسهم، وعمل معهم صحبة، وهو لا يعلم ما في الغيب منهم. ثم إنه طلب العشاء من أمه، فجعلت تُخرِج من الخرج وهو يقول: هات اللون الفلاني. حتى صار قدامهم أربعون لونًا، فأكلوا حتى اكتفوا، ورفعت السفرة، والبحرية يظنون أن هذا الإكرام من عند سالم، فلما مضى ثلث الليل أخرج لهم الحلويات، وسالم هو الذي يخدمهم، وجودر وسليم قاعدان إلى أن طلبوا المنام، فقام جودر ونام وناموا حتى غفل، فقاموا وتعاونوا عليه، فلم يَفِقْ إلا والعقلة في فمه، وكتَّفوه وحملوه، وخرجوا به من القصر تحت الليل. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 617﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن جودرًا لما أخذوه وحملوه وخرجوا به من القصر تحت الليل، أرسلوه إلى السويس، وحطوا في رجليه القيد، وأقام يخدم وهو ساكت، ولم يزل يخدم خدمة الأسارى والعبيد سنة كاملة.

هذا ما كان من أمر جودر، وأما ما كان من أمر أخويه، فإنهما لما أصبحا دخلا على أمهما وقالا لها: يا أمنا، إن أخانا جودر لم يستيقظ. فقالت لهما: أَيْقِظاه. قالا لها: أين هو راقد؟ قالت لهما: عند الضيوف. قالا: لعله راح مع الضيوف ونحن نائمان يا أمي، كأن أخانا ذاق الغربة، ورغب في دخول الكنوز، وقد سمعناه يتكلم مع المغاربة، فيقولون له: نأخذك معنا ونفتح لك الكنز. فقالت: هل اجتمع مع المغاربة؟ قالا لها: أَمَا كانوا ضيوفًا عندنا؟ قالت: لعله راح معهم، ولكن الله يرشد طريقه، هذا مسعد لا بد أن يأتي بخير كثير. وبكت وعزَّ عليها فراقه، فقالا لها: يا ملعونة، أتحبين جودرًا كل هذه المحبة، ونحن إن غبنا أو حضرنا فلا تفرحي بنا، ولا تحزني علينا، أَمَا نحن ولداك كما أن جودرًا ابنك؟ فقالت: أنتما ولداي، ولكن أنتما شقيان، ولا لكما عليَّ فضل، ومن يوم مات أبوكما ما رأيت منكما خيرًا، وأما جودر فرأيتُ منه خيرًا كثيرًا وجبر خاطري وأكرمني، فيحق لي أن أبكي عليه؛ لأن خيره عليَّ وعليكما.

فلما سمعا هذا الكلام شتماها وضرباها، ودخلا وصارا يفتشان على الخرج حتى عثرَا به، وأخذا الجواهر من العين الأولى، والذهب من العين الثانية، والخرج المرصودة، فقالا لها: هذا مال أبينا. فقالت: لا والله إنما هو مال أخيكما جودر، جاء به من بلاد المغاربة. فقالا لها: كذبتِ، بل هذا مال أبينا نتصرف فيه. فقسماه بينهما، ووقع الاختلاف بينهما في الخرج المرصود، فقال سالم: أنا آخذه. وقال سليم: أنا آخذه. ووقعت بينهما المعاندة، فقالت أمهما: يا ولديَّ، الخرج الذي فيه الجواهر والذهب قسمتماه، وهذا لا ينقسم ولا يعادل بمال، وإن انقطع قطعتين بطل رصده، ولكن اتركاه عندي، وأنا أُخرِج لكما ما تأكلانه في كل وقت، وأرضى بينكما باللقمة، وإن كسوتماني شيئًا من فضلكما، وكل منكما يجعل له معاملة مع الناس، وأنتما ولداي وأنا أمكما، وخلونا على حالنا، ربما يأتي أخوكما خوف الفضيحة. فما قبلا كلامها وباتا يختصمان تلك الليلة، فسمعهما رجل قواص من أعوان الملك كان معزومًا في بيت بجنب بيت جودر طاقته مفتوحة، فطلَّ القواص من الطاقة، وسمع جميع الخصام وما قالوه من الكلام والقسمة، فلما أصبح الصباح دخل ذلك الرجل القواص على الملك - وكان اسمه شمس الدولة، وكان ملك مصر في ذلك العصر - فلما دخل عليه القواص أخبره بما قد سمعه، فأرسل الملك إلى أخوي جودر وجاء بهما ورماهما تحت العذاب، فأقرَّا وأخذ الخرجين منهما، ووضعهما في السجن. ثم إنه عيَّن إلى أم جودر من الجرايات في كل يوم ما يكفيها.

هذا ما كان من أمرهم، وأما ما كان من أمر جودر، فإنه أقام سنة كاملة يخدم في السويس، وبعد السنة كانوا في المركب، فخرج عليهم ريح رمى المركب التي هم فيها على جبلٍ فانكسرت، وغرق جميع ما فيها، ولم يحصل البر إلا جودر، والبقية ماتوا، فلما حصل البر سافر حتى وصل إلى نجع عرب، فسألوه عن حاله، فأخبرهم أنه كان بحريًّا في مركب، وحكى لهم قصته، وكان في النجع رجل تاجر من أهل جدة فحنَّ عليه، وقال له: تخدم عندنا يا مصري، وأنا أكسوك وآخذك معي إلى جدة؟ فخدم عنده وسافَرَ معه إلى أن وصلا إلى جدة، فأكرمه كثيرًا. ثم إن سيده التاجر طلب الحج، فأخذه معه إلى مكة، فلما دخلاها راح جودر ليطوف في الحرم، فبينما هو يطوف وإذا هو بصاحبه المغربي عبد الصمد يطوف. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 618﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن جودرًا لما كان ماشيًا بالطواف، وإذا هو بصاحبه المغربي عبد الصمد يطوف، فلما رآه سلَّمَ عليه وسأله عن حاله فبكى، ثم أخبره بما جرى له، فأخذه معه إلى أن دخل منزله وأكرمه وألبسه حلة ليس لها نظير، وقال له: زال عنك الشر يا جودر. وضرب له تختَ رمل، فبان له الذي جرى لأخويه، فقال له: اعلم يا جودر أن أخويك جرى لهما كذا وكذا، وهما محبوسان في سجن ملك مصر، ولكن مرحبًا بك حتى تقضي مناسكك، ولا يكون إلا خيرًا. فقال له: ائذن لي يا سيدي حتى أروح آخذ خاطر التاجر الذي أنا عنده وأجيء إليك. فقال: هل عليك مال؟ قال: لا. فقال: رح خذ بخاطره وتعالَ في الحال، فإن العيش له حق عند أولاد الحلال. فراح وأخذ بخاطر التاجر وقال له: إني اجتمعتُ على أخي. فقال له: رح هاته ونعمل له ضيافة. فقال له: ما يحتاج، فإنه من أصحاب النِّعَم، وعنده خدم كثير. فأعطاه عشرين دينارًا وقال له: أبرئ ذمتي. فودَّعْه وخرج من عنده، فرأى رجلًا فقيرًا فأعطاه العشرين دينارًا. ثم إنه ذهب إلى عبد الصمد المغربي فأقام عنده حتى قضيا مناسك الحج، وأعطاه الخاتم الذي أخرجه من كنز الشمردل، وقال له: خذ هذا الخاتم، فإنه يبلغك مرادك؛ لأن له خادمًا اسمه الرعد القاصف، فجميع ما تحتاج إليه من حوائج الدنيا فادعك الخاتم يظهر لك الخادم، وجميع ما تأمره به يفعله لك. ودعكه قدامه فظهر له الخادم، ونادى: لبيك يا سيدي، أي شيء تطلب فتُعطَى، فهل تعمِّر مدينة خربة أو تخرِّب مدينة عامرة، أو تقتل ملكًا، أو تكسر عسكرًا؟ فقال المغربي: يا رعد، هذا صار سيدك فاستوصِ به. ثم صرفه وقال: ادعك الخاتم يحضر بين يديك خادمه، فمُرْه بما في مرادك، فإنه لا يخالفك، وامضِ إلى بلادك واحتفظ عليه، فإنك تكيد به أعداءك، ولا تجهل مقدار هذا الخاتم. فقال له: يا سيدي، عن إذنك أسير على بلادي. قال له: ادعك الخاتم يظهر لك الخادم، فاركب على ظهره، وإن قلتَ له أوصلني في هذا اليوم إلى بلادي فلا يخالف أمرك.

ثم ودَّعَ جودر عبد الصمد ودعك الخاتم، فحضر له الرعد القاصف، وقال له: لبيك اطلب تُعْطَ. فقال له: أوصلني إلى مصر في هذا اليوم. فقال له: لك ذلك. وحمله وطار به من وقت الظهر إلى نصف الليل، ثم نزل به في وسع بيت أمه وانصرف، فدخل على أمه، فلما رأته قامت وبكت وسلَّمَتْ عليه، وأخبرته بما جرى لأخويه من الملك، وكيف ضربهما وأخذ الخرج المرصود، والخرج الذهب والجواهر؛ فلما سمع جودر ذلك لم يهن عليه أخواه، فقال لأمه: لا تحزني على ما فاتكِ، ففي هذه الساعة أُرِيك ما أصنع، وأجيء بأخويَّ. ثم إنه دعك الخاتم فحضر له الخادم وقال: لبيك، اطلب تُعْطَ. فقال له: أمرتك أن تجيء لي بأخويَّ من سجن الملك. فنزل إلى الأرض ولم يخرج إلا من وسط السجن، وكان سالم وسليم في أشد ضيق وكرب عظيم من ألم السجن، وصارا يتمنيَّان الموت، وأحدهما يقول للآخَر: والله يا أخي قد طالت علينا المشقة، وإلى متى ونحن في هذا السجن؟ فالموت فيه راحة لنا. فبينما هما كذلك وإذا بالأرض قد انشقت وخرج لهما الرعد القاصف، وحمل الاثنين ونزل بهما في الأرض، فغُشِي عليهما من شدة الخوف، فلما أفاقا وجدَا أنفسهما في بيتهما، ورأيا أخاهما جودر جالسًا وأمه في جانبه، فقال لهما: سلامات يا أخويَّ، آنستماني. فطأطآ وجهيهما في الأرض، وصارا يبكيان، فقال لهما: لا تبكيا، فالشيطان والطمع ألجآكما إلى ذلك، وكيف تبيعاني؟ ولكني أتسلى بيوسف، فإنه فعل به إخوته أبلغ من فعلكم معي حيث رموه في الجب. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 619﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن جودرًا قال لأخويه: كيف فعلتما معي هذا الأمر؟ ولكن توبا إلى الله واستغفراه فيغفر لكما وهو الغفور الرحيم، وقد عفوت عنكما ومرحبًا بكما، ولا بأس عليكما. وجعل يأخذ بخواطرهما حتى طيَّبَ قلوبهما، وصار يحكي لهما جميع ما قاساه في السويس، إلى أن اجتمع بالشيخ عبد الصمد وأخبرهما بالخاتم، فقالا: يا أخانا لا تؤاخذنا في هذه المرة، إن عدنا لما كنا فيه فافعل بنا مرادك. فقال: لا بأس عليكما، ولكن أخبراني بما فعل بكما الملك. فقال: ضربنا وهدَّدنا وأخذ الخرجين منا. فقال: أَمَا يبالي؟ ودعك الخاتم فحضر له الخادم، فلما رآه أخواه خافا منه، وظنَّا أنه يأمر الخادم بقتلهما، فذهبا إلى أمهما وصارا يقولان: يا أمنا، نحن في عرضك يا أمنا اشفعي فينا. فقالت لهما: يا ولديَّ لا تخافَا. ثم إنه قال للخادم: أمرتك أن تأتيني بجميع ما في خزانة الملك من الجواهر وغيرها، ولا تُبْقِ فيها شيئًا، وتأتي بالخرج المرصود، وخرج الجواهر اللذين أخذهما الملك من أخويَّ. فقال: السمع والطاعة. وذهب في الحال وجمع ما في الخزانة وجاء بالخرجين بأمانتهما، ووضع جميع ما كان في الخزانة قدام جودر، وقال: يا سيدي، ما أبقيتُ في الخزانة شيئًا. فأمر أمه أن تحفظ خرج الجواهر وحط الخرج المرصود قدامه، وقال للخادم: أمرتك أن تبني لي في هذه الليلة قصرًا عاليًا، وتزوقه بماء الذهب، وتفرشه فرشًا فاخرًا، ولا يطلع النهار إلا وأنت خالص من جميعه. فقال له: لك ذلك. ونزل في الأرض، وبعد ذلك أخرج جودر الأطعمة وأكلوا وانبسطوا وناموا.

وأما ما كان من أمر الخادم، فإنه جمع أعوانه وأمر ببناء القصر، فصار البعض منهم يقطع الأحجار والبعض يبني والبعض يُبَيِّض، والبعض ينقش والبعض يفرش، فما طلع النهار حتى تم انتظام القصر، ثم طلع الخادم إلى جودر، وقال: يا سيدي، إن القصر كمل وتم نظامه، فإن كنتَ تطلع تتفرج عليه فاطلع. فطلع هو وأمه وأخواه فرأوا هذا القصر ليس له نظير، يحيِّر العقول من حسن نظامه، ففرح به جودر وكان على قارعة الطريق، ومع ذلك لم يتكلف عليه شيء، فقال لأمه: هل تسكنين في هذا القصر؟ فقالت: يا ولدي، أسكن. ودعت له، فدعك الخاتم وإذا بالخادم يقول: لبيك. فقال له: أمرتك أن تأتيني بأربعين جارية بيض ملاح، وأربعين جارية سود، وأربعين مملوكًا، وأربعين عبدًا. فقال: لك ذلك. وذهب مع أربعين من أعوانه إلى بلاد الهند والسند والعجم، وصاروا كلما رأوا بنتًا جميلة يخطفونها أو غلامًا يخطفونه، وأنفذ أربعين؛ فجاءوا بجوار سود ظراف وأربعين جاءوا بعبيد، وأتى الجميع دار جودر فملئوها، ثم عرضهم على جودر فأعجبوه، فقال: هات لكل شخص حلة من أفخر الملبوس. قال: حاضر. وقال: هات حلة تلبسها أمي، وحلة ألبسها أنا. فأتى بالجميع، وألبس الجواري، وقال لهم: هذه سيدتكم فقبِّلوا يدها ولا تخالفوها، واخدموها بيضًا وسودًا. ولبس المماليك وقبَّلوا يد جودر، ولبس أخواه، وصار جودر كناية عن ملك وأخواه مثل الوزراء، وكان بيته واسعًا فأسكن سالمًا وجواريه في جهة، وسليمًا وجواريه في جهة، وسكن هو وأمه في القصر الجديد، وصار كل منهم في محله مثل السلطان.

هذا ما كان من أمرهم، وأما ما كان من أمر خازندار الملك، فإنه أراد أن يأخذ بعض مصالح من الخزانة، فدخل فلم يَرَ فيها شيئًا، بل وجدها كقول مَن قال:

كَانَتْ خَلِيَّاتُ نَحْلٍ وَهْيَ عَامِرَةٌ        لَمَّا خَلَا نَحْلُهَا صَارَتْ خَلِيَّاتِ

فصاح صيحة عظيمة ووقع مغشيًّا عليه، فلما أفاق خرج من الخزانة وترك بابها مفتوحًا، ودخل على الملك شمس الدولة وقال: يا أمير المؤمنين، الذي نعلمك به أن الخزانة فرغت في هذه الليلة. فقال الملك: ما صنعت بأموالي التي في خزانتي؟ فقال: والله ما صنعتُ فيها شيئًا، ولا أدري ما سبب فراغها، بالأمس دخلتها فرأيتُها ممتلئةً، واليوم دخلتها فرأيتها فارغة ليس فيها شيء، والأبواب مغلقة ولا نُقبت، ولا كُسرت ضبتها، ولم يدخلها سارق. فقال له: هل راح منها الخرجان؟ فقال: نعم. فطار عقله من رأسه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 620﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن خازندار الملك لما دخل عليه وأعلمه أن ما في الخزانة ضاع، وكذلك الخرجان، طار عقله من رأسه، وقام على قدميه، ثم إنه قال للخازندار: امض قدامي. فمضى وتبعه الملك حتى أتيا الخزانة، فلم يجد فيها شيئًا، فانقهر الملك وقال: مَن سطا على خزانتي ولم يخَفْ من سطوتي؟ وغضب غضبًا شديدًا، ثم خرج ونصف الديوان، فجاءت أكابر العساكر وصار كلٌّ منهم يظن أن الملك غضبان عليه فقال: يا عساكر، اعلموا أن خزانتي انتهبت في هذه الليلة، ولم أعلم مَن فعل هذه الفعال وسطا عليَّ، ولم يخَفْ مني؟ فقالوا: وكيف ذلك؟ فقال: اسألوا الخازندار. فسألوه، قال الخازندار: بالأمس كانت ممتلئة، واليوم دخلتها فرأيتها فارغةً، ولم تنقب ولم يكسر بابها. فتعجَّبَ جميع العسكر من هذا الكلام، فلم يحصل رد الجواب من العسكر إلا والقواص الذي نمَّ سابقًا على سليم وسالم داخل على الملك، وقال: يا ملك الزمان، طول الليل، وأنا أتفرج على بنَّائين يبنون، فلما طلع النهار رأيت قصرًا مبنيًّا ليس له نظير، فسألتُ فقيل لي: إن جودرًا أتى وبنى هذا القصر وعنده مماليك وعبيد، وجاء بأموالٍ كثيرة، وخلص أخويه من السجن وهو في داره كأنه سلطان. فقال الملك: انظروا السجن. فنظروه فلم يروا سالمًا وسليمًا، فرجعوا وأعلموه بما جرى، فقال الملك: بان غريمي، فالذي خلَّصَ سالمًا وسليمًا من السجن هو الذي أخذ مالي. فقال الوزير: يا سيدي، مَن هو؟ قال: أخوهم جودر، وأخذ الخرجين، ولكن يا وزير، أرسل لهم أميرًا بخمسين رجلًا يقبضون عليه وعلى أخويه، ويضعون الختم على جميع ماله، ويأتوني به حتى أشنقهم. وقد غضب غضبًا شديدًا وقال: هيا بالعَجل ابعث لهم أميرًا يأتيني بهم لأقتلهم. فقال له الوزير: احلم، فإن الله حليم لا يعجل على عبده إذا عصاه، فإن الذي يكون بنى قصرًا في ليلة واحدة، كما قالوا لم يقس عليه أحد في الدنيا، وإني أخاف على الأمير أن يجري له مشقة من جودر، فاصبر حتى أدبِّر لك تدبيرًا وتنظر حقيقة الأمر، والذي في مرادك أنت لاحقه يا ملك الزمان. فقال الملك: دبِّرْ لي تدبيرًا يا وزير. قال له: أرسِلْ له الأمير واعزمه، ثم إني أتقيَّد لك به، وأُظهِر له الود وأسأله عن حاله، وبعد ذلك ننظر إن كان عزمه شديدًا نحتال عليه، وإن كان عزمه ضعيفًا فاقبض عليه وافعل به مرادك. فقال الملك: أرسل اعزمه. فأمر أميرًا اسمه الأمير عثمان أن يروح إلى جودر ويعزمه ويقول له: الملك يدعوك للضيافة. وقال له الملك: لا تَجِئْ إلا به.

وكان ذلك الأمير أحمقًا متكبرًا في نفسه، فلما نزل رأى قدام باب القصر طواشيًا جالسًا على كرسي في باب القصر، فلما وصل الأمير عثمان إلى القصر لم يقم له، وكأنه لم يكن مُقبِلًا عليه أحد، ومع ذلك كان مع الأمير عثمان خمسون رجلًا، فوصل الأمير عثمان وقال له: يا عبد، أين سيدك؟ قال: في القصر. وصار يكلِّمه وهو متَّكِئ، فغضب الأمير عثمان وقال له: يا عبد النحس، أَمَا تستحي مني وأنا أكلمك وأنت مضطجع مثل العلوق؟ فقال له: امشِ لا تكن كثير الكلام. فما سمع منه هذا الكلام حتى امتزج بالغضب وسحب الدبوس وأراد أن يضرب الطواشي ولم يعلم أنه شيطان، فلما رآه سحب الدبوس قام واندفع عليه، وأخذ منه الدبوس وضربه به أربع ضربات، فلما رآه الخمسون رجلًا صعب عليهم ضرب سيدهم، فسحبوا السيوف وأرادوا أن يقتلوا العبد، فقال لهم: أتسحبون السيوف يا كلاب؟ وقام عليهم وصار كلُّ مَن لطشه دبوسًا يهشمه، ويُغرِقه في الدم، فانهزموا قدامه، وما زالوا هاربين وهو يضربهم إلى أن بعدوا عن باب القصر، ورجع وجلس على كرسيه ولم يبالِ بأحد. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 621﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الطواشي لما شتَّتَ الأمير عثمان تابع الملك وجماعته إلى أن أبعدهم عن باب دار جودر، رجع وجلس على الكرسي عند باب القصر ولم يبالِ بأحد. وأما ما كان من أمر الأمير عثمان وجماعته، فإنهم رجعوا منهزمين مضروبين إلى أن وقفوا قدام الملك شمس الدولة، وأخبروه بما جرى لهم، وقال الأمير عثمان للملك: يا ملك الزمان، لما وصلت إلى باب القصر رأيت طواشيًّا جالسًا في الباب على كرسي من الذهب، وهو متكبر، فلما رآني مقبلًا عليه اضطجع بعد أن كان جالسًا واحتقرني ولم يقم لي، فصرتُ أكلمه فيجيبني وهو مضطجع، فأخذتني الحدة وسحبت عليه الدبوس وأردت ضربه، فأخذ الدبوس مني وضربني به وضرب جماعتي وبطحهم، فهربنا من قدامه ولم نقدر عليه. فحصل للملك غيظ وقال: ينزل إليه مائة رجل. فنزلوا إليه وأقبلوا عليه، فقام لهم بالدبوس، وما زال يضرب فيهم حتى هربوا من قدامه، ورجع وجلس على الكرسي، فرجع المائة رجل، ولما وصلوا إلى الملك أخبروه وقالوا له: يا ملك الزمان، هربنا من قدامه خوفًا منه. فقال الملك: تنزل مائتان. فنزلوا فكسرهم، ثم رجعوا، فقال الملك للوزير: ألزمتُك أيها الوزير أن تنزل بخمسمائة رجل وتأتيني بهذا الطواشي سريعًا، وتأتي بسيده جودر وأخويه. فقال له: يا ملك الزمان، لا أحتاج لعسكر بل أروح إليه وحدي من غير السلاح. فقال له: رح وافعل الذي تراه مناسبًا. فرمى الوزير السلاح ولبس حلة بيضاء، وأخذ في يده سبحة، ومشى وحده من غير ثانٍ حتى وصل إلى قصر جودر، فرأى العبد جالسًا، فلما رآه أقبل عليه من غير سلاح وجلس جنبه بأدب، ثم قال: السلام عليكم. فقال: وعليكم السلام يا أنسي، ما تريده؟ فلما سمعه يقول: يا أنسي. علم أنه من الجن، فارتعش من خوفه فقال له: يا سيدي، هل سيدك جودر هنا؟ قال: نعم في القصر. فقال له: يا سيدي، اذهب إليه وقل له: إن الملك شمس الدولة يدعوك، وعامل لك ضيافة ويُقرِئك السلام ويقول لك: شرف منزله وكل ضيافته. فقال له: قف أنت هنا حتى أشاوره.

فوقف الوزير مؤدبًا وطلع المارد القصر وقال لجودر: اعلم يا سيدي أن الملك أرسل إليك أميرًا فضربته، وكان معه خمسون رجلًا فهزمتهم، ثم إنه أرسل مائة رجل فضربتهم، ثم أرسل مئتا رجل فهزمتهم، ثم أرسل إليك الوزير من غير سلاح يدعوك إليه لتأكل من ضيافته، فماذا تقول؟ فقال له: رح هات الوزير إلى هنا. فنزل من القصر وقال له: يا وزير، كلِّمْ سيدي. فقال: على الرأس. ثم إنه طلع ودخل على جودر، فرآه أعظم من الملك، جالسًا على فراش لا يقدر الملك أن يفرش مثله، وتحير فكره من حسن القصر، ومن نقشه وفرشه، حتى كأن الوزير بالنسبة إليه فقير، فقبَّلَ الأرض ودعا له، فقال له: ما شأنك أيها الوزير؟ فقال له: يا سيدي، إن الملك شمس الدولة حبيبك يُقرِئك السلام، ومشتاق إلى النظر لوجهك، وقد عمل لك ضيافة فهل تجبر خاطره؟ فقال جودر: حيث كان حبيبي فسلِّمْ عليه، وقل له يجيء هو عندي. فقال له: على الرأس. ثم أخرج الخاتم ودعكه، فحضر الخادم فقال له: هات لي حلة من خيار الملبوس. فأحضر له حلة فقال: البس هذه يا وزير. فلبسها، ثم قال له: رح أَعْلِم الملك بما قلته. فنزل لابسًا تلك الحلة التي لم يلبس مثلها، ثم دخل على الملك، وأخبره بحال جودر وشكر القصر وما فيه، وقال: إن جودرًا عزمك. فقال: قوموا يا عسكر. فقاموا كلهم على الأقدام، وقال: اركبوا خيلكم وهاتوا لي جوادي حتى نروح إلى جودر. ثم إن الملك ركب وأخذ العساكر وتوجهوا إلى بيت جودر، وأما جودر فإنه قال للمارد: مرادي أن تجيء لنا من أعوانك بعفاريت في صفة الإنس يكونون عسكرًا، ويقفون في ساحة البيت حتى يراهم الملك فيُرعِبونه ويُفزِعونه، فيرتجف قلبه، ويعلم أن سطوتي أعظم من سطوته. فأحضر مائتين في صفة عسكر متقلِّدين بالسلاح الفاخر وهم شداد غلاظ، فلما وصل الملك رأى القوم الشداد الغلاظ فخاف قلبه منهم، ثم إنه طلع القصر ودخل على جودر، فرآه جالسًا جلسة لم يجلسها ملك ولا سلطان، فسلَّمَ عليه وتمنَّى بين يديه وجودر لم يقم له، ولم يعمل له مقامًا، ولم يقل له اجلس، بل تركه واقفًا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 622﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن جودرًا لما دخل عليه الملك لم يقم له ولم يعتبره ولم يقل له اجلس، بل تركه واقفًا حتى داخله الخوف، فصار لا يقدر أن يجلس ولا أن يخرج، وصار يقول في نفسه: لو كان خائفًا مني ما كان تركني عن باله، وربما يؤذيني بسبب ما فعلتُ مع أخوَيْه. ثم إن جودرًا قال: يا ملك الزمان، ليس شأن مثلكم أن يظلم الناس ويأخذ أموالهم. فقال له: يا سيدي، لا تؤاخذني؛ فإن الطمع أحوجني إلى ذلك ونفذ القضاء، ولولا الذنب ما كانت المغفرة. وصار يعتذر إليه على ما سلف منه، ويطلب منه العفو والسماح، حتى من جملة الاعتذار أنشده هذا الشعر:

يَا أَصِيلَ الْجُدُودِ سَمْحَ السَّجَايَا        لَا تَلُمْنِي فِيمَا تَحَصَّلَ مِنِّي

إِنْ تَكُنْ ظَالِمًا فَعَنْكَ عَفَوْنَا        أَوْ أَكُنْ ظَالِمًا فَعَفْوُكَ عَنِّي

وما زال يتواضع بين يديه حتى قال له: عفا الله عنك. وأمره بالجلوس فجلس وخلع عليه ثياب الأمان، وأمر أخويه بمد السماط، وبعد أن أكلوا كسا جماعة الملك وأكرمهم، وبعد ذلك أمر الملك بالمسير فخرج من بيت جودر، وصار كل يوم يأتي إلى بيت جودر، ولا ينصب الديوان إلا في بيت جودر، وزادت بينهما العشرة والمحبة. ثم إنهم قاموا على هذه الحالة مدة، وبعد ذلك خلا بوزيره وقال له: يا وزير، أنا خائف أن يقتلني جودر ويأخذ الملك مني. فقال له: يا ملك الزمان، أما من قضية أخذ المُلْك فلا تَخَفْ، فإن حالة جودر التي هو فيها أعظم من حالة الملك، وأخذ المُلْك حطة في قدره، فإن كنتَ خائفًا أن يقتلك فإن لك بنتًا فزوِّجْها له وتصير أنت وإياه حالة واحدة. فقال له: يا وزير، أنت تكون واسطة بيني وبينه. فقال له: اعزمه عندك، ثم إننا نسهر في قاعة، وَمُرْ بنتك أن تتزيَّن بأفخر زينة، وتمر عليه من باب القاعة، فإنه متى رآها عشقها، فإذا فهمنا منه ذلك فأنا أميل عليه وأخبره أنها ابنتك، وأدخل وأخرج معه في الكلام بحيث إنه لم يكن عندك خبر بشيء من ذلك، حتى يخطبها منك، ومتى زوَّجْتَه البنت صرتَ أنت وإياه شيئًا واحدًا، وتأمن منه، وإن مات تَرِث منه الكثير. فقال له: صدقتَ يا وزيري. وعمل الضيافة وعزمه، فجاء إلى سراية السلطان، وقعدوا في القاعة في أنس زائد إلى آخِر النهار، وكان الملك أرسل إلى زوجته أن تزيِّن البنت بأفخر زينة، وتمر بها على باب القاعة، فعملت كما قال ومَرَّتْ بالبنت، فنظرها جودر، وكانت ذات حُسْن وجمال وليس لها نظير، فلما حقَّق جودر النظر فيها قال: آه. وتفككت أعضاؤه واشتدَّ به العشق والغرام، وأخذه الوَجْد والهيام، واصفرَّ لونه، فقال له الوزير: لا بأس عليك يا سيدي، ما لي أراكَ متغيِّرًا متوجِّعًا؟ فقال: يا وزير، هذه البنت بنت مَن؟ فإنها سلبتني وأخذت عقلي. فقال: هذه بنت حبيبك الملك، فإن كانت أعجبَتْك أنا أتكلم مع الملك يزوِّجك إياها. فقال: يا وزير، كلِّمْه وأنا وحياتي أعطيك ما تطلب، وأعطي الملك ما يطلبه في مهرها، ونصير أحبابًا وأصهارًا. فقال له الوزير: لا بد من حصول غرضك. ثم إن الوزير حدَّثَ الملك سرًّا، وقال له: يا ملك الزمان، إن جودرًا حبيبك يريد القرب منك، وقد توسَّلَ بي إليك أن تزوِّجه ابنتك السيدة آسية، فلا تخيبني واقبل سياقي، ومهما تطلبه في مهرها يدفعه. فقال الملك: المهر قد وصلني، والبنت جارية في خدمته، وأنا أزوِّجه إياها، وله الفضل في القبول. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 623﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك شمس الدولة لما قال له وزيره: إن جودرًا يريد القرب منك بتزويجه ابنتك. قال له: المهر قد وصلني، والبنت جارية في خدمته، وله الفضل في القبول. وباتوا تلك الليلة، ثم أصبح الملك فنصب ديوانًا، وأحضر فيه الخاص والعام، وحضر شيخ الإسلام، وجودر خطب البنت، وقال الملك: المهر قد وصل. وكتبوا الكتاب فأرسل جودر بإحضار الخرج الذي فيه الجواهر، وأعطاها للملك في مهر البنت، ودُقَّتِ الطبول وغنت الزمور وانتظمت عقود الفرح ودخل على البنت، وصار هو والملك شيئًا واحدًا، وأقاما مع بعضهما مدة من الأيام، ثم مات الملك فصارت العساكر تطلب جودرًا للسلطنة، ولم يزالوا يرغبونه وهو يمتنع منهم حتى رضي فجعلوه سلطانًا، فأمر ببناء جامع على قبر الملك شمس الدولة، ورتب له الأوقاف وهو في خط البندقانيين. وكان بيت جودر في حارة اليمانية، فلما تسلطن بنى أبنية وجامعًا، وقد سُمِّيت الحارة به وصار اسمها الجودرية، وأقام ملكًا مدة وجعل أخويه وزيرين، سالمًا وزير ميمنته، وسليمًا وزير ميسرته، فأقاموا عامًا واحدًا من غير زيادة، ثم إن سالمًا قال لسليم: يا أخي إلى متى هذا الحال؟ فهل نقضي عمرنا كله ونحن خادمان لجودر؟ ولا نفرح بسيادة ولا سعادة ما دام جودر حيًّا. قال: وكيف نصنع حتى نقتله ونأخذ منه الخاتم والخرج؟ فقال سليم لسالم: أنت أعرف مني، فدبِّرْ لنا حيلة لعلنا نقتله بها. فقال: إذا دبَّرْتُ لك حيلةً على قتله، هل ترضى أن أكون أنا سلطانًا وأنت وزير ميمنة، ويكون الخاتم لي والخرج لك؟ قال: رضيت. فاتفقا على قتل جودر من شأن حب الدنيا والرئاسة.

ثم إن سليمًا وسالمًا دبَّرَا حيلة لجودر وقالا له: يا أخانا، إن مرادنا أن نفتخر بك، فتدخل بيوتنا وتأكل ضيافتنا وتجبر خاطرنا. وصار يخادعانه ويقولان له: اجبر خاطرنا وكُلْ ضيافتنا. فقال: لا بأس، فالضيافة في بيتِ مَن فيكم؟ قال سالم: في بيتي، وبعدما تأكل ضيافتي تأكل ضيافة أخي. قال: لا بأس. وذهب مع سليم إلى بيته، فوضع له الضيافة وحط فيها السم، فلما أكل تفتَّتَ لحمه مع عظمه، فقام سالم ليأخذ الخاتم من إصبعه، فعصى منه فقطع إصبعه بالسكين، ثم إنه دعك الخاتم فحضر له المارد وقال: لبيك فاطلب ما تريد. فقال له: امسك أخي واقتله، واحمل الاثنين المسموم والمقتول وارمهما قدام العسكر، فأخذ سليمًا وقتله، وحمل الاثنين وخرج بهما ورماهما قدام أكابر العسكر، وكانوا جالسين على السفرة في مقعد البيت يأكلون، فلما نظروا جودرًا وسليمًا مقتولين، رفعوا أيديهم من الطعام وأزعجهم الخوف، وقالوا للمارد: مَن فعل بالملك والوزير هذه الفِعَال؟ فقال لهم: أخوهم سالم. وإذا بسالم أقبل عليهم وقال: يا عسكر، كُلُوا وانبسطوا، فإني ملكت الخاتم من أخي جودر، وهذا المارد خادم الخاتم قدامكم وأمرته بقتل أخي سليم حتى لا ينازعني في الملك؛ لأنه خائن وأنا أخاف أن يخونني، وهذا جودر صار مقتولًا، وأنا بقيت سلطانًا عليكم، هل ترضون بي؟ وإلا أدعك الخاتم فيقتلكم خادمه كبارًا وصغارًا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 624﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن سالمًا لما قال للعسكر: هل ترضون بي عليكم سلطانًا؟ وألا أدعك الخاتم فيقتلكم كبارًا وصغارًا. قالوا له: رضينا بك ملكًا وسلطانًا. ثم أمر بدفن أخويه ونصب الديوان وذهب ناس في تلك الجنازة وناس مشوا قدامه بالموكب، ولما وصلوا إلى الديوان، جلس على الكرسي، وبايعوه على الملك وبعد ذلك قال: أريد أن أكتب كتابي على زوجة أخي. فقالوا له: حتى تنقضي العدة. فقال لهم: أنا لا أعرف عدة ولا غيرها، وحياة رأسي لا بد أن أدخل عليها في هذه الليلة. فكتبوا له الكتاب وأرسلوا أعلموا زوجة جودر بنت الملك شمس الدولة، فقالت: دعوه ليدخل. فلما دخل عليها أظهرت له الفرح، وأخذته بالترحيب، وحطت له السم في الماء فأهلكته، ثم إنها أخذت الخاتم وكسرته حتى لا يملكه أحد وشقَّتِ الخرج، ثم أرسلت أخبرت شيخ الإسلام وأرسلت تقول لهم: اختاروا لكم ملكًا يكون عليكم سلطانًا. وهذا ما انتهى إلينا من حكاية جودر بالتمام والكمال.

 

وبلغني أيضًا أنه كان في قديم الزمان ملك من الملوك العظام يقال له الملك كندمر، وكان ملكًا شجاعًا وقرمًا مناعًا، ولكنه شيخ هَرِم كبير، وقد رزقه الله تعالى في حال هرمه ولدًا ذكرًا، فسماه عجيبًا لحُسْنه وجماله، وسلَّمَه إلى القوابل والمرضعات والجواري والسراري حتى نشأ وكبر، حتى بلغ من العمر سبع سنين من الأعوام على التمام، فرتَّبَ له أبوه كاهنًا من أهل ملته ودينه، فعلَّمَه شريعتهم وكفرهم وما يحتاج إليه في مدة ثلاث سنين كوامل، إلى أن مهر وقويت عزيمته وصحت فكرته، وصار عارفًا فصيحًا فيلسوفًا موصوفًا، يناظر العلماء ويجالس الحكماء، فلما رأى أبوه ذلك منه أعجبه، ثم علَّمَه ركوب الخيل والطعن بالرمح والضرب بالسيف إلى أن صار فارسًا شجاعًا، فما تمَّ عمره عشر سنين حتى فاق أهل زمانه في جميع الأشياء، وعرف أبواب الحرب، فصار جبَّارًا عنيدًا وشيطانًا مريدًا، وكان إذا ركب للصيد والقنص يركب في ألف فارس، ويشنُّ الغارات على الفوارس، ويقطع الطرق ويسبي بنات الملوك والسادات، وكثرت فيه لأبيه الشكايات، فصاح الملك على خمسة من العبيد، فحضروا فقال لهم: امسكوا هذا الكلب. فهجم الغلمان على عجيب، وكتَّفوه وأمرهم بضربه فضربوه حتى غاب عن الوجود، وسجنه في قاعة لا يعرف فيها السماء من الأرض ولا الطول من العرض، فمكث ليلة محبوسًا، فتقدَّمَ الأمراء إلى الملك وقبَّلوا الأرض بين يديه، وشفعوا في عجيب فأطلقه، فصبر عجيب على أبيه عشرة أيام ودخل عليه في الليل وهو نائم وضربه فرمى عنقه، فلما طلع النهار ركب عجيب على كرسي مملكة أبيه، وأمر رجاله أن يقفوا بين يديه، ويلبسوا البولاد، ويسحبوا سيوفهم، وأوقفهم ميمنة وميسرة، فلما دخل الأمراء والمقدمون وجدوا ملكهم مقتولًا وابنه جالسًا على كرسي مملكته، فتحيَّرَتْ عقولهم، فقال لهم عجيب: يا قوم، لقد رأيتم ما حصل لملككم، فمَن أطاعني أكرمته، ومَن خالَفَني فعلتُ به مثله.

فلما سمعوا كلامه خافوا منه أن يبطش بهم، فقالوا له: أنت ملكنا وابن ملكنا. وقبَّلوا الأرض بين يديه، فشكرهم وفرح بهم وأمر بإخراج المال والقماش، ثم إنه خلع عليهم الخلع السنية وغمرهم بالمال، فحبوه كلهم وأطاعوه، وخلع على النواب ومشايخ العربان، العاصي والطائع، فدانت له البلاد وأطاعته العباد، وحكم وأمر ونهى مدة خمسة أشهر، ثم رأى في منامه رؤيا، فانتبه فزعًا مرعوبًا ولم يأخذه منام حتى أصبح الصباح، فجلس على الكرسي ووقفت الجنود بين يديه ميمنة وميسرة، ثم دعا بالمعبِّرين والمنجِّمين، فقال لهم: فسِّروا لي هذا المنام. فقالوا له: وما المنام الذي رأيته أيها الملك؟ فقال: رأيت كأن والدي قدامي وانكشف إحليله، وخرج منه شيء قدر النحلة، فكبر حتى صار كالسبع العظيم بمخالب مثل الخناجر وقد خفت منه، فبينما أنا باهت فيه إذ همَّ عليَّ وضربني بمخالبه، فشقَّ بطني، فانتبهتُ فَزِعًا مرعوبًا. فنظر المعبِّرون إلى بعضهم وتفكروا في رد الجواب ثم قالوا: أيها الملك العظيم، هذا المنام يدل على مولود لك من أبيك، وتقع العداوة بينك وبينه ويظهر عليك، فخُذْ حذرك منه بسبب هذا المنام.

فلما سمع عجيب كلام المعبرين قال: ليس لي أخ أخاف منه، فقولكم هذا كذب. فقالوا له: ما أخبرنا إلا بما علمنا. فنفر فيهم وضربهم وقام ودخل قصر أبيه واختبر سراري أبيه، فوجد فيهن جارية لها سبعة أشهر، فأمر عبدين من عبيده وقال لهما: خذا هذه الجارية وامضيا بها إلى البحر وغرِّقاها. فأخذاها من يدها وذهبا بها إلى البحر، وأرادا أن يغرِّقاها، فنظرا إليها فوجداها بديعة الحُسْن والجمال، فقالا: لأي شيء نغرق هذه الجارية؟ وإنما نأخذها إلى الغابة ونعيش بها في تعريص عجيب. فأخذاها وسارا أيامًا وليالي حتى بعدَا عن الديار، فتوجَّهَا بها إلى غابة كثيرة الأشجار والأثمار والأنهار، واتفق رأيهما على أن يقضوا غرضهما منها، وصار كل واحد منهما يقول: أنا أفعل قبلك. واختلفا مع بعضهما، فطلع عليهما ناس من السودان، فسلوا سيوفهم وحملوا على بعضهم، واشتدَّ بينهم القتال والحرب والطعان، ولم يزالوا يحاربون العبدين حتى قتلوهما في أسرع من طرفة العين، وصارت الجارية تدور وحدها في الغابة وتأكل من أثمارها وتشرب من أنهارها، ولم تزل على هذه الحالة حتى وضعت غلامًا أسمر نظيفًا ظريفًا، وسمته الغريب لغُرْبته، وقطعت سُرَّته ولفَّتْه في بعض ثيابها، وصارت تُرضِعه وهي حزينة القلب والفؤاد على ما كانت فيه من العز والدلال. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 625﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية صارت مُقِيمة في الغابة وهي حزينة القلب والفؤاد، وصارت تُرضِع ولدها مع ما حصل لها من غاية الحزن والخوف من وحدتها، فبينما هي في بعض الأيام على تلك الحالة، وإذا هي بفرسان ورجال مشاة ومعهم بزاة وكلاب صيد، وقد حمَّلوا خيولهم من كركي وبلشون ووز عراقي وغطاس وطير ماء، ووحوش وأرانب وغزلان وبقر وحش، وفراخ النعام وتفه وذئاب وسباع، ثم دخل هؤلاء العربان في تلك الغابة، فوجدوا الجارية وابنها في حجرها تُرضِعه، فتقربوا منها وقالوا لها: هل أنت إنسية أو جنية؟ قالت: إنسية يا سادات العرب. فأعْلَموا أميرهم وكان اسمه مرداسًا سيد بني قحطان، وقد خرج إلى الصيد في خمسمائة أمير من قومه وبني عمه، فلم يزالوا يصطادون حتى وصلوا إلى الجارية ونظروها، وأعلمتهم بما جرى من أوله إلى آخِره، فتعجَّبَ الملك من أمرها وصاح على قومه وبني عمه، فلم يزالوا يصطادون حتى وصلوا إلى بني قحطان، فأخذها وأفردها بمحل ووكَّلَ بها خمس جوارٍ من أجل الخدمة، وقد أحَبَّها حبًّا شديدًا، وقد دخل عليها وواقعها فحملت على الدم، ولما انقضت شهورها وضعت غلامًا ذكرًا فسَمَّتْه سهيم الليل، فتربَّى بين القوابل مع أخيه حتى نشأ ومهر في حجر الأمير مرداس، فسلَّمَهما إلى فقيه فعلَّمَهما أمر دينهما، وبعد ذلك سلَّمَهما إلى شجعان العرب فعلَّموهما طعن الرمح وضرب السيف ورمي النشاب، فما كمَّلَا خمس عشرة سنة حتى تعلَّمَا ما يحتاجان إليه، وفاقا على كل شجيع في الحي، فكان غريب يحمل على ألف فارس وكذا أخوه سهيم الليل.

وكان لمرداس أعداء كثيرة، وكانت عربه أشجع العرب، فكلهم أبطال فرسان لا يُصطلَى لهم بنار، وكان بجواره أمير من أمراء العرب يقال له حسان بن ثابت، وهو صديقه، وقد خطب كريمة من كرام قومه، فدعا جميع أصحابه ومن جملتهم مرداس سيد بني قحطان، فأجاب وأخذ معه من قومه ثلاثمائة فارس، وترك أربعمائة فارس لحفظ الحريم، وسار حتى وصل إلى حسان، فتلقَّاه وأجلسه في أحسن مكان، وجاءت كل الفرسان لأجل العُرْس، وعمل لهم الولائم وفرح بعرسه، وانصرف العربان إلى منزلهم، فلما وصل مرداس إلى حَيِّه رأى قتيلَيْن مطروحين، والطير حائم عليهما يمينًا وشمالًا، فارتجف قلبه ودخل الحي فتلقاه غريب وهو متدرِّع بالزرد وهنَّأَه بالسلامة، فقال مرداس: ما هذا الحال يا غريب؟ قال: هجم علينا الحمل بن ماجد وقومه في خمسمائة فارس. وكان السبب في هذه الوقعة أن الأمير مرداس كان له بنت تُسمَّى مهدية، ما رأى الرائي أحسن منها، فسمع بها الحمل سيد بني نبهان، فركب في خمسمائة فارس وتوجه إلى مرداس وخطب مهدية، فلم يقبله ورَدَّه خائبًا، فصار الحمل يرصد مرداسًا حتى غاب وعزمه حسان، فركب في أبطاله وهجم على بني قحطان، فقتل جماعة من الفرسان، وهرب بقية الأبطال في الجبال، وكان غريب وأخوه قد ركبا في مائة خيَّال وخرجا للصيد والقنص، فما رجعا حتى انتصف النهار، فوجدَا الحمل وقومه ملكوا الحي وما فيه، وأخذوا بنات الحي وأخذ مهدية بنت مرداس وساقها مع السبي، فلما نظر غريب إلى هذا الحال، غاب عن الصواب وصاح على أخيه سهيم الليل وقال: يابن الملعونة، نهبوا حيَّنا، وأخذوا حريمنا، فدونك والأعداء وخلاص السبي والحريم. فحمل سهيم وغريب بالمائة فارس على الأعداء، ولم يزدد غريب إلا غيظًا، وصار يحصد الرءوس ويسقي الأبطال من المنون كئوسًا، حتى وصل الحمل ونظر إلى مهدية وهي مسبية، فحمل على الحمل وطعنه، وعن جواده قلبه، فما جاء وقت العصر حتى قتل أكثر الأعداء، وانهزم الباقون، وخلَّص غريبٌ السبيَ، ورجع إلى البيوت ورأس الحمل على رمحه، وهو ينشد هذه الأبيات:

أَنَا الْمَعْرُوفُ فِي يَوْمِ الْمَجَالِ        وَجِنُّ الْأَرْضِ تَفْزَعُ مِنْ خَيَالِي

وَلِي سَيْفٌ إِذَا هَزَّتْ يَمِينِي        تَبَادَرَتِ الْمَنِيَّةُ مِنْ شِمَالِي

وَلِي رُمْحٌ إِذَا نَظَرُوا إِلَيْهِ        يَرَوْا فِيهِ سِنَانًا كَالْهِلَالِ

وَأُدْعَى بِالْغَرِيبِ شَجِيعُ قَوْمِي        وَلَا أَخْشَى إِذَا قَلَّتْ رِجَالِي

فما فرغ غريب من شعره حتى وصل مرداس، ونظر القتلى مطروحين والطير حائم عليهم يمينًا وشمالًا، فطار عقله وارتجف قلبه، فسلاه غريب وهنَّأه بالسلامة، وأخبره بجميع ما جرى للحي بعد غيابه، فشكره مرداس على ما فعل وقال: ما خابت التربية فيك يا غريب. ونزل مرداس في سرادقه، ووقفت الرجال حوله وصار أهل الحي يثنون على غريب ويقولون: يا أميرنا، لولا غريب ما سلم أحد من الحي. فشكره مرداس على ما فعل. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 626﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن مرداسًا لما رجع إلى حيِّه وأقبل عليه رجاله، أثنوا على غريب، فشكره مرداس على فعله، ولما نظر غريب الحمل سبى مهدية خلَّصها منه وقتله، فرمت غريبًا بسهام لحظها، فوقع في شَرَك هواها، وصار قلبه لا ينساها، وغرق في العشق والغرام، وفارقه لذيذ المنام، ولم يلتذ بشراب ولا طعام، وصار يركض جواده ويصعد الجبال وينشد الأشعار، ويرجع آخر النهار وقد لاح عليه آثار العشق والهيام، فأفشى سره لبعض أصحابه، فشاع في الحي جميعه حتى وصل إلى مرداس، فبرق ورعد، وقام وقعد، وشخر ونخر، وسبَّ الشمس والقمر، وقال: هذا جزاء مَن يربي أولاد الزنا، ولكن إن لم أقتل غريبًا ركبني العار. ثم إنه استشار رجلًا من عقلاء قومه في قتل غريب وأظهر سرَّه عليه، فقال له: يا أمير، إنه بالأمس خلَّصَ بنتك من السبي، فإنْ كان لا بد من قتله فاجعله على يد غيرك، حتى لا يشك أحد فيك. فقال مرداس: دبِّرْ لي حيلة في قتله، فما أعرف قتله إلا منك. فقال: يا أمير، ارصده حتى يخرج إلى الصيد والقنص، وخذ معك مائة خيَّال، واكمن له في المغارة وغافله حتى ينتهي، فاحملوا عليه وقطِّعوه، وحينئذٍ تبرأ من عاره. فقال مرداس: هذا هو الصواب.

واختار مرداس من قومه مائة وخمسين فارسًا عمالقة شداد، وأوصاهم وحرَّضَهم على قتل غريب، ولم يزل يرقبه حتى خرج غريب ليصطاد وقد بعد في الأودية والجبال، فذهب بفرسانه الأنجاس، وكمنوا لغريب في طريقه حتى يرجع من الصيد فيخرجون عليه ليقتلوه. فبينما مرداس وقومه كامنون بين الأشجار، وإذا بخمسمائة من العمالقة هجموا عليهم فقتلوا منهم ستين وأسروا التسعين وكتفوا مرداسًا، وكان السبب في ذلك أنه لما قُتِل الحمل وقومه انهزم الباقون، ولم يزالوا في هزيمتهم حتى وصلوا إلى أخيه وأعلموه بما جرى، فقامت قيامته وجمع العمالقة واختار منهم خمسمائة فارس، طول كل واحد منهم خمسون ذراعًا، وتوجه لطلب ثأر أخيه، فوقع بمرداس هو وأبطاله، وجرى بينهم ما جرى. فلما أسروا مرداس وقومه، نزل أخو الحمل وقومه وأمرهم بالراحة وقال: يا قوم، إن الأصنام هوَّنَتْ علينا أخذ الثأر، فاحتفظوا على مرداس وقومه حتى أمضي بهم وأقتلهم أشنع قتلة. فنظر مرداس روحه مربوطًا، وندم على ما فعل وقال: هذا جزاء البغي. ونام القوم فرحانين بالنصر، ومرداس وأصحابه مربوطون، وقد يئسوا من الحياة وأيقنوا بالوفاة.

هذا ما كان من أمر مرداس، وأما سهيم الليل فإنه دخل على أخته مهدية وهو مجروح، فقامت له وقبَّلَتْ يديه وقالت له: لا شُلَّتْ يداك ولا شمتت عداك، فلولا أنت وغريب ما خلصنا من السبي والأعداء، واعلم يا أخي أن أباك ركب في مائة وخمسين فارسًا وهو يريد قتل غريب، وقد علمت أن غريبًا خسارة في القتل؛ لأنه صان عرضكم وخلَّصَ أموالكم. فلما سمع سهيم هذا الكلام صار الضياء في وجهه ظلامًا، ولبس آلة حربه وركب جواده، وطلب المكان الذي يصطاد فيه أخوه، فوجده اصطاد شيئًا كثيرًا، فتقدَّمَ إليه وسلَّمَ عليه وقال: يا أخي، هل تسرح ولا تُعلِمني؟ فقال غريب: والله ما منعني من ذلك إلا أني رأيتُك مجروحًا، فقصدت راحتك. فقال سهيم: يا أخي، خذ حذرك من أبي. ثم حكى له ما جرى وأنه خرج في مائة وخمسين فارسًا يريدون قتله، قال له غريب: الله يرمي كيده في نحره. ورجع غريب وسهيم طالبين الديار، فأمسى عليهما المساء وسارا على ظهور الخيل حتى وصلا الوادي الذي فيه القوم، وسمعا صهيل الخيل في ظلام الليل، فقال سهيم: يا أخي، هذا أبي وقومه كامنون في هذا الوادي، فتنحَّ بنا عن هذا الوادي. وكان غريب قد نزل عن جواده وألقى لجامه لأخيه وقال له: قف مكانك حتى أعود إليك. وسار غريب حتى رأى القوم، فلم يجدهم من حيِّهم، وسمعهم يذكرون مرداسًا ويقولون: ما نقتله إلا في أرضنا. فعرف أن مرداسًا عمه مربوطًا معهم فقال: وحياة مهدية ما أروح حتى أخلص أباها ولا أشوش عليها. ولم يزل يفتش على مرداس حتى وقع به وهو مربوط في الحبال، فقعد بجانبه وقال له: سلامتك يا عمي من هذا الذل والاعتقال. فلما نظر مرداس غريبًا خرج عقله وقال: يا ولدي، أنا في جيرتك، فخلِّصْني بحق التربية. فقال له غريب: إذا خلَّصْتُك تعطيني مهدية؟ فقال له: يا ولدي، وحق ما أعتقد هي لك على طول الزمان. فحَلَّه وقال له: امضِ نحو الخيل، فإن ولدك سهيم هناك. فعند ذلك انسلَّ مرداس حتى وصل إلى ولده سهيم، ففرح به وهنَّأه بالسلامة، ولم يزل غريب يحل واحدًا بعد واحد حتى حل التسعين فارسًا، وصار الكل بعيدًا عن الأعداء، وأرسل غريب إليهم العدد والخيول وقال لهم: اركبوا وتفرجوا حول الأعداء وصيحوا، ويكون صياحكم: يا آل قحطان. وإذا صحا القوم فابعدوا عنهم وتفرَّقوا حولهم. وصبر غريب إلى الثلث الأخير من الليل وصاح: يا آل قحطان. وصاح قومه كذلك: يا آل قحطان. صيحة واحدة، فجاوبتهم الجبال حتى تخيل للأعداء أن القوم قد هجموا عليهم، فخطفوا سلاحهم جميعًا ووقعوا في بعضهم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 627﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن القوم لما انتبهوا من منامهم وسمعوا غريبًا وقومه يصيحون ويقولون: يا آل قحطان. تخيل لهم أن آل قحطان هجموا عليهم، فحملوا سلاحهم ووقعوا في بعضهم قتلًا، فتأخَّرَ غريب وقومه، ولم تزل الأعداء يقتلون بعضهم إلى أن طلع النهار، فحمل غريب ومرداس والتسعون بطلًا على بقية الأعداء، فقتلوا منهم جملة وانهزم الباقون، وأخذ بنو قحطان الخيل الشاردة والعدد المهيَّأة وتوجهوا إلى حيِّهم، وما صدق مرداس أنه تخلَّصَ من الأعداء. ولم يزالوا سائرين حتى وصلوا إلى حيهم، فلاقاهم المقيمون وفرحوا بسلامتهم، ونزلوا في خيامهم ونزل غريب في خيمته، واجتمعت عليه شباب الحي وحيَّاه الكبار والصغار، فلما نظر مرداس إلى غريب والشباب حوله، بغضه أكثر من الأول، والتفت إلى عشيرته وقال: قد زاد بُغْضُ غريب في قلبي، وما غَمَّني إلا اجتماع هؤلاء حوله، وفي غدٍ يطلب مني مهدية. فقال له المشير: يا أمير، اطلب منه ما لا يقدر عليه. ففرح مرداس وبات إلى الصباح، فجلس في مرتبته ودارت العرب حوله، وجاء غريب برجاله والشباب حوله، فأقبل على مرداس وقبَّلَ الأرض بين يديه، ففرح به وقام إليه وأجلسه بجنبه، فقال غريب: يا عم، قد وعدتَني وعدًا فأنجِزْه. فقال مرداس: يا ولدي، هي لك على طول المدى، ولكن أنت قليل المال. فقال غريب: يا عم، اطلب ما شئتَ حتى أُغِير على أمراء العرب في مواطنهم، وعلى الملوك في مدائنهم، وأجيء لك بمالٍ يسدُّ الخافقين. فقال مرداس: يا ولدي، إني حلفت بجميع الأصنام أني لا أعطي مهدية إلا لمَن يأخذ لي ثأري، ويكشف عني عاري. فقال غريب: قل لي يا عم ثأرك عند مَنْ مِنَ الملوك، حتى أسير إليه وأكسر تخته على رأسه؟ فقال مرداس: يا ولدي، قد كان لي ولد بطل من الأبطال، فخرج في مائة بطل لطلب الصيد والقنص، فسار من وادٍ إلى وادٍ، وقد بعد بين الجبال حتى وصل وادي الأزهار، وقصر حام بن شيث بن شداد بن خلد، وذلك المكان يا ولدي ساكن فيه رجل أسود طويل، طوله سبعون ذراعًا يقاتل بالأشجار، فيقتلع الشجرة من الأرض ويقاتل بها، فلما وصل ولدي إلى ذلك الوادي، خرج عليه هذا الجبَّار فأهلكه هو والمائة فارس، فما سلم منهم إلا ثلاثة أبطال أتوا أخبرونا بما جرى، فجمعتُ الأبطال وسرتُ لقتاله فما قدرنا عليه، وأنا مقهور على ثأر ولدي، وقد حلفتُ أني لا أزوِّج ابنتي إلا لمَن يأخذ ثأر ولدي.

فلما سمع غريب كلام مرداس قال: يا عم، أنا أسير إلى هذا العملاق وآخذ ثأر ولدك بعون الله تعالى. قال مرداس: يا غريب، إن ظفرتَ به تغنم منه ذخائر وأموالًا لا تأكلها نيران. فقال غريب: اشهد لي بالزواج حتى يقوى قلبي وأسير في طلب رزقي. فاعترف وأشهَدَ كبارَ الحي، وانصرف غريب وهو فرحان ببلوغ الآمال، ودخل على أمه وأخبرها بما تمَّ له، فقالت له: يا ولدي، اعلم أن مرداسًا يبغضك، وما بعثك لذلك الجبل إلا ليعدمني حسَّك، فخذني معك وارحل من ديار هذا الظالم. قال غريب: يا أمي، لا أرحل حتى أبلغ أملي وأقهر عدوي. وبات غريب حتى أصبح الصباح وأضاء بنوره ولاح، فما ركب جواده حتى أقبل أصحابه الشباب، وكانوا مائتا فارس شداد وهم غارقون في السلاح، وصاحوا على غريب وقالوا له: سِرْ بنا نعاونك ونؤانسك في طريقك. ففرح غريب بهم وقال لهم: جزاكم الله عنَّا خيرًا. وقال لهم: سيروا يا أصحابي. فسار غريب بأصحابه أول يوم وثاني يوم، ثم نزلوا عند المساء تحت جبل شامخ، وعلقوا على خيولهم، فغاب غريب يتمشى في ذلك الجبل حتى وصل إلى مغار، فطلع منه نور، فسار غريب إلى صدر المغار فوجد شيخًا له من العمر ثلاثمائة وأربعون سنة، حاجباه غطَّيَا عينيه، وشاربه غطَّى فمه، فلما نظر غريب إلى ذلك الشيخ هابه واستعظم خلقته، فقال له الشيخ: كأنك من الكفار يا ولدي، الذين يعبدون الأحجار دون الملك الجبَّار، خالق الليل والنهار والفلك الدوار؟

فلما سمع غريب كلام الشيخ ارتعدت فرائصه وقال: يا شيخ، أين يكون هذا الرب حتى أعبده وأتملى برؤيته؟ قال الشيخ: يا ولدي، هذا الرب العظيم لا ينظره أحد في الدنيا، وهو يَرَى ولا يُرَى، وهو بالمنظر الأعلى، وهو حاضر في كل مكان بآثار صنْعِه، ومكوِّن الأكوان ومدبِّر الزمان، خلق الإنس والجان، وبعث الأنبياء لهداية الخلق إلى طريق الصواب، فمَن أطاعه أدخله الجنة، ومَن عصاه أدخله النار. فقال غريب: يا عم، فما يقول مَن يعبد هذا الرب العظيم الذي هو على كل شيء قدير؟ قال الشيخ: يا ابني، إني من قوم عاد الذين طغوا في البلاد فكفروا، فأرسل الله إليهم نبيًّا اسمه هود فكذَّبوه، فأهلكهم بالريح العقيم، وكنتُ أنا آمنتُ مع جماعة من قومي، فسلمنا من العذاب، وحضرتُ قومَ ثمود وما جرى لهم مع نبيهم صالح، وأرسل الله تعالى بعد صالح نبيًّا اسمه إبراهيم الخليل إلى نمرود بن كنعان، وجرى له معه ما جرى، ومات قومي الذين آمنوا، فصرت أعبد الله في هذا المغار، والله تعالى يرزقني من حيث لا أحتسب. فقال غريب: يا عم، ماذا أقول حتى أصير من حزب هذا الرب العظيم؟ قال له الشيخ: قل: لا إله إلا الله، إبراهيم خليل الله. فأسلَمَ غريب قلبًا ولسانًا، فقال له الشيخ: ثبتت في قلبك حلاوة الإسلام والإيمان. ثم علَّمَه شيئًا من الفرائض وشيئًا من الصحف، وقال له: ما اسمك؟ قال: اسمي غريب. قال له الشيخ: وأين تقصد يا غريب؟ فحكى له ما جرى من أوله إلى آخره حتى وصل إلى حديث غول الجبل الذي جاء في طلبه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 628﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن غريبًا لما أسلم وحكى للشيخ جميع ما جرى له من أوله إلى آخِره، حتى وصل إلى حديث غول الجبل الذي جاء في طلبه، قال له: يا غريب، هل أنت مجنون تسير إلى غول الجبل وحدك؟ فقال له: يا مولاي، معي مائتا فارس. فقال له الشيخ: يا غريب، ولو كان معك عشرة آلاف فارس ما تقدر عليه، فإن اسمه الغول، يأكل الناس، نسأل الله السلامة، وهو من أولاد حام، وأبوه هندي الذي عمر الهند وسُمِّي به، وقد خلَّفه وسمَّاه سعدان الغول، فكان يا ولدي جبَّارًا وشيطانًا مريدًا، ما له مأكول إلا ابن آدم، فنهاه أبوه قبل موته عن ذلك، فما انتهى وزاد في الطغيان، فطرده أبوه بعد ذلك ونفاه من بلاد الهند بعد حروب وتعب عظيم، فجاء إلى هذه الأرض وتحصَّنَ بها وسكن فيها، وصار يقطع الطرق على الرائح والجائي، ويرجع إلى مسكنه بهذا الوادي، ورُزِق بخمسة أولاد غِلَاظ شداد، يحمل أحدهم على ألف بطل، وقد جمع أموالًا وغنائم وخيلًا وجمالًا وبقرًا وغنمًا قد سَدَّتِ الوادي، وأنا خائف عليك منه، فاسأل الله تعالى أن ينصرك عليه بكلمة التوحيد، فإذا حملتَ على الكفار فقل: الله أكبر. فإنها تخذل مَن كفر.

ثم إن الشيخ أعطى غريبًا عامودًا من بولاد، وزنه مائة رطل، وفيه عشر حلقات، إذا هَزَّه حامله طنَّتْ حلقاته مثل الرعد، وأعطاه سيفًا مجوهرًا من صاعقة، طوله ثلاثة أذرع، وعرضه ثلاثة أشبار، إذا ضرب به صخرة قَدَّها نصفين، وأعطاه درعًا وترسًا ومصحفًا وقال له: سِرْ إلى قومك واعرض عليهم الإسلام. فخرج غريب وهو فرحان بالإسلام، وسار حتى وصل إلى قومه، فتلقَّوْه بالسلام وقالوا له: ما أبطأك عنَّا؟ فحكى لهم جميع ما جرى له من أوله إلى آخره، وعرض عليهم الإسلام، فأسلموا جميعًا وباتو إلى الصباح. فركب غريب وأتى الشيخ يودِّعه، فودَّعه وخرج وسار حتى وصل إلى قومه، وإذا بفارس وهو في الحديد غاطس لم يظهر منه غير آماق البصر، فحمل على غريب وقال له: اخلع ما عليك يا قطاعة العرب، وإلا رميتك بالعطب. فحمل غريب عليه وجرى بينهم حرب يشيب المولود، ويذيب من هوله الحجر الجلمود، فكشف البدوي البرقع فإذا هو سهيم الليل أخو غريب من أمه ابن مرداس، وسبب خروجه وإتيانه إلى ذلك المحل، أن غريبًا لما سار إلى غول الجبل كان سهيم غائبًا، فلما رجع لم ينظر غريبًا فدخل على أمه فوجدها تبكي، فسألها عن سبب بكائها، فأخبرته بما جرى من سفر أخيه، فما تمهَّلَ على نفسه ليستريح، فلبس آلة حربه وركب جواده وسار حتى وصل إلى أخيه، وجرى بينهما ما جرى. فلما كشف سهيم وجهه عرفه غريب وسلَّمَ عليه وقال: ما حملك على هذا؟ قال له: حتى عرفت طبقتي معك في الميدان، وقدري في الضرب والطعان. وسارا فعرض غريب على سهيم الإسلام فأسلم، ولم يزالوا سائرين حتى أشرفوا على الوادي، فلما نظر غول الجبل غبار القوم قال: يا أولادي، اركبوا وائتوني بهذه الغنيمة. فركبت الخمسة وساروا نحوهم، فلما رأى غريب الخمسة العمالقة قد هجموا عليهم، لكز جواده وقال: مَن أنتم؟ وما جنسكم؟ وما تريدون؟ فتقدَّمَ فلحون بن سعدان غول الجبل، وهو أكبر أولاده، وقال: انزلوا عن خيولكم، وكتِّفوا بعضكم حتى نسوقكم إلى أبينا يشوي بعضكم ويطبخ بعضكم، فإن له زمانًا طويلًا ما أكل آدميًّا.

فلما سمع غريب هذا الكلام حمل على فلحون، وهزَّ العمود حتى طنت حلقاته مثل الرعد القاصف، فاندهش فلحون فضربه غريب بالعمود، وكانت ضربته خفيفة وقد وقعت بين أكتافه، فسقط مثل النخلة السحوق، فنزل سهيم وبعض القوم على فلحون وكتَّفوه. ثم إنهم وضعوا في رقبته حبلًا وسحبوه مثل البقرة، فلما رأى إخوته أخاهم أسيرًا حملوا على غريب، فأسر منهم أربعة والخامس فرَّ هاربًا حتى دخل على أبيه، فقال له أبوه: ما وراءك؟ وأين إخوتك؟ فقال له: أسرهم صبي ما خط عذاره، طوله أربعون ذراعًا. فلما سمع غول الجبل كلام ابنه قال: لا طرحت الشمس فيكم من بركة. ثم إنه نزل من الحصن واقتلع شجرة عظيمة، وطلب غريب وقومه وهو راجل على قدميه؛ لأن الخيل لم تحمله لعظم جثته، وتبعه ابنه وسارَا حتى أشرفا على غريب، وحمل على القوم من غير كلام، وضرب بالشجرة فهشَّمَ خمسة رجال، وحمل على سهيم وضربه بشجرة فزاغ عنها وراحت خالية، فغضب الغول ورمى الشجرة من يده، وانقضَّ على سهيم فخطفه مثل ما يخطف الباشق العصفور، فلما نظر غريب إلى أخيه وهو في يد الغول، صاح وقال: الله أكبر يا جاه إبراهيم الخليل ومحمد ﷺ. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 629﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن غريبًا لما نظر أخاه وهو أسير في يد الغول صاح وقال: الله أكبر يا جاه إبراهيم الخليل ومحمد ﷺ. ووجَّهَ جواده إلى غول الجبل، وهزَّ العمود فطنت حلقاته وصاح: الله أكبر. وضرب غريب الغول بالعامود على صف أضلاعه، فوقع في الأرض مغشيًّا عليه، وانفلت سهيم من يديه، فما أفاق الغول إلا وهو مكتَّف مقيَّد، فلما نظره ابنه وهو أسير ولَّى هاربًا، فساق غريب جواده خلفه ثم ضربه بالعامود بين أكتافه فوقع عن جواده، فكتَّفَه عند إخوته وأبيه وأوثقوهم بالحبال وسحبوهم مثل الجمال، وساروا حتى وصلوا إلى الحصن، فوجدوه ملآنًا بالخيرات والأموال والتحف، ووجد ألفًا ومائتَيْ أعجمي مربوطين مقيَّدين، فقعد غريب على كرسي غول الجبل، وكان أصله لصاص بن شيث بن شداد بن عاد، وأوقف سهيمًا أخاه على يمينه، ووقف أصحابه ميمنة وميسرة، وبعد ذلك أمر بإحضار غول الجبل وقال له: كيف رأيت روحك يا ملعون؟ فقال له: يا سيدي، في أقبح حال من الذل والخبال، أنا وأولادي مربوطون في الحبال مثل الجمال. فقال غريب: أريد أن تدخلوا في ديني وهو دين الإسلام، وتوحِّدوا الملك العلَّام، خالق الضياء والظلام، وخالق كل شيء، لا إله إلا هو الملك الديان، وتقرُّوا بنبوة الخليل إبراهيم عليه السلام. فأسلم غول الجبل وأولاده وحسن إسلامهم، فأمر بحلهم فحلوهم من الرباط، فبكى سعدان الغول وأقبل على أقدام غريب يقبِّلها، وكذلك أولاده، فمنعهم من ذلك فوقفوا مع الواقفين، فقال غريب: يا سعدان. فقال: لبيك يا مولاي. فقال: ما شأن هؤلاء الأعجام؟ فقال: يا مولانا هذا صيدي من بلاد العجم، وليسوا وحدهم. قال غريب: ومَن معهم؟ قال: يا سيدي، معهم بنت الملك سابور ملك العجم، واسمها فخرتاج، ومعها مائة جارية كأنهن الأقمار.

فلما سمع غريب كلام سعدان تعجَّبَ وقال: كيف وصلتَ إلى هؤلاء؟ فقال: يا أمير، سرحت أنا وأولادي وخمسة عبيد من عبيدي، فما وجدنا في طريقنا صيدًا، فتفرَّقنا في البراري والقفار فما وجدنا روحنا إلا في بلاد العجم، ونحن ندور على غنيمة نأخذها ولا نرجع خائبين، فلاحت لنا غبرة فأرسلنا عبدًا من عبيدنا ليعرف الحقيقة، فغاب ساعة ثم عاد وقال: يا مولاي، هذه الملكة فخرتاج بنت الملك سابور ملك العجم والترك والديلم، ومعها ألفا فارس وهم سائرون. فقلت للعبد: بُشِّرْتَ بالخير، فليس غنيمة أعظم من هذه الغنيمة. ثم حملت أنا وأولادي على الأعجام، فقتلنا منهم ثلاثمائة فارس، وأسرنا ألفَين ومائتين، وغنمنا بنت سابور وما معها من التحف والأموال، وجئنا بهم إلى هذا الحصن. فلما سمع غريب كلام سعدان قال: هل فعلت بالملكة فخرتاج معصية؟ قال: لا وحياة رأسك وحق هذا الدين الذي دخلتُ فيه. فقال غريب: قد فعلت حسنًا يا سعدان؛ لأن أباها ملك الدنيا، ولا بد أن يجرِّد العساكر خلفها، ويخرب ديار الذين أخذوها، ومَن لا يدري العواقب، ما الدهر له بصاحب. وأين هذه الجارية يا سعدان؟ فقال: قد أفردتُ لها قصرًا هي وجواريها. فقال: أرني مكانها. فقال: سمعًا وطاعة.

فقام غريب وسعدان الغول يمشيان حتى وصلا إلى قصر الملكة فخرتاج، فوجداها حزينة ذليلة تبكي بعد العزِّ والدلال، فلما نظرها غريب ظنَّ أن القمر منه قريب، فعظَّمَ الله السميع العليم، ونظرت فخرتاج إلى غريب فوجدته فارسًا صنديدًا، والشجاعة تلوح بين عينيه تشهد له لا عليه، فقامت له وقبَّلَتْ يديه، وبعد يديه انكبَّتْ على رجليه، وقالت له: يا بطل الزمان، أنا في جيرتك، فأَجِرْني من هذا الغول، فأنا خائفة أن يزيل بكارتي، وبعد ذلك يأكلني، فخذني أخدم جواريك. فقال غريب: لك الأمان حتى تصلي إلى أبيك ومحل عزك. فدعت له بالبقاء وعز الارتقاء، فأمر غريب بحل الأعجام فحلوهم، والتفت إلى فخرتاج وقال لها: ما الذي أخرجك من قصرك إلى هذه البراري والقفار حتى أخذك قطَّاع الطريق؟ فقالت له: يا مولاي، إن أبي وأهل مملكته وبلاد الترك والديلم والمجوس يعبدون النار دون الملك الجبَّار، وعندنا في مملكتنا دير اسمه دير النار، وفي كل عيد تجتمع فيه بنات المجوس وعبَّاد النار، ويقيمون فيه شهرًا مدة عيدهم، ثم يعودون إلى بلادهم، فخرجت أنا وجواريَّ على العادة، وأرسل معي أبي ألفَيْ فارس يحفظونني، فخرج علينا هذا الغول فقتل بعضنا وأسر الباقي وحبسنا في هذا الحصن، وهذا ما جرى يا بطل الشجعان، كفاك الله نوائب الزمان. فقال غريب: لا تخافي، فأنا أوصلك إلى قصرك ومحل عزك. فدعت له وقبَّلَتْ يديه ورجليه، ثم خرج من عندها وأمر بإكرامها، وبات تلك الليلة حتى أصبح الصباح، فقام وتوضَّأ وصلى ركعتين على ملة أبينا الخليل إبراهيم عليه السلام، وكذا الغول وأولاده وجماعة غريب كلهم صلُّوا خلفه، ثم التفت غريب إلى سعدان وقال له: يا سعدان، أَمَا تفرِّجني على وادي الأزهار؟ قال: نعم يا مولاي. فقام سعدان وأولاده وغريب والملكة فخرتاج وجواريها وخرج الجميع، فأمر سعدان عبيده وجواريه أن يذبحوا ويطبخوا الغداء ويقدِّموه بين الأشجار، وكان عنده مائة وخمسون جارية وألف عبد يرعون الجِمال والبقر والغنم، وسار غريب والقوم معه إلى وادي الأزهار، فلما رآه وجد شيئًا صنوانًا وغير صنوان، وأطيارًا تغرِّد بالألحان على الأغصان، والهزار يرجع بأنغام الألحان، والقمري قد ملأ بصوته الأمكنة خلقة الرحمن. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 630﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن غريبًا توجه هو وقومه والغول وقومه إلى وادي الأزهار، رأى فيه الطيور ومن جملتها القمري ملأ بصوته الأمكنة خلقة الرحمن، والبلبل يغرِّد بحسن صوته كالإنسان، والشجر يكلُّ عن وصفه اللسان، والفاخت أضحى بصوته يهيم الإنسان، والمطوق تجاوبه الدرة بأفصح لسان، والأشجار المثمرة من كل فاكهة زوجان، والرمان حامض وحلو على الأفنان، والمشمش لوزي وكافوري ولوز خراسان، والبرقوق يختلط بأشجار أغصان البان، والنارنج كأنه مشاعل النيران، والكباد مالت به الأغصان، والليمون دواء لكل قرفان، والحامض يشفي من علة اليرقان، والبلح على أمه أحمر وأصفر صُنْع الله العظيم الشان، وفي مثل هذا المكان يقول الشاعر الولهان:

وَإِذَا تَرَنَّمَ طَيْرُهُ بِغَدِيرِهِ        يَشْتَاقُهُ الْوَلْهَانُ فِي الْأَسْحَارِ

فَكَأَنَّهُ الْفِرْدَوْسُ فِي نَفَحَاتِهِ        ظِلٌّ وَفَاكِهَةٌ وَمَاءٌ جَارِ

فأعجب غريبًا هذا الوادي، فأمر أن ينصبوا فيه سرادق فخرتاج الكسروية، فنصبوه بين الأشجار وفرشوه بالفرش الفاخر، وقعد غريب وجاءهم الطعام، فأكلوا حتى اكتفوا، ثم قال غريب: يا سعدان. قال: لبيك يا مولاي. قال: هل عندك شيء من الخمر؟ قال: نعم، عندي صهريج ملآن بالعتيق. فقال: ائتنا بشيء منه. فأرسَلَ عشرة من العبيد فجاءوا من الخمر بشيء كثير، فأكلوا وشربوا واستلذوا وطربوا، وطرب غريب وتذكَّرَ مهدية، فأنشد هذه الأبيات:

تَذَكَّرْتُ أَيَّامَ الْوِصَالِ بِقُرْبِكُمْ        فَهَيَّجَ قَلْبِي بِالْغَرَامِ لَهِيبُ

فَوَاللهِ مَا فَارَقْتُكُمْ بِإرَادَتِي        وَلَكِنَّ تَصْرِيفَ الزَّمَانِ غَرِيبُ

سَلَامٌ وَتَسْلِيمٌ وَأَلْفُ تَحِيَّةٍ        عَلَيْكُمْ وَإِنِّي مُدْنَفٌ وَكَئِيبُ

ولم يزالوا يأكلون ويشربون ويتفرجون ثلاثة أيام، ثم رجعوا إلى الحصن، ودعا غريب بسهيم أخيه فحضر، فقال له: خذ معك مائة فارس وسر إلى أبيك وأمك وقومك بني قحطان، فأتِ بهم إلى هذا المكان ليعيشوا فيه بقية الزمان، وأنا أسير إلى بلاد العجم بالملكة فخرتاج إلى أبيها، وأنت يا سعدان أَقِمْ أنت وأولادك في هذا الحصن حتى نعود إليك. قال له: ولِمَ لَمْ تأخذني معك إلى بلاد العجم؟ قال له: لأنك أسرتَ بنت سابور ملك العجم، وإن وقعَتْ عينه عليك أكل من لحمك وشرب من دمك. فلما سمع غول الجبل ذلك ضحك ضحكًا عاليًا مثل الرعد القاصف وقال: يا مولاي وحياة رأسك، لو تجتمع عليَّ العجم والديلم لَأسقيتهم شرابَ العدم. فقال غريب: أنت كما تقول، ولكن اقعد في حصنك حتى أعود إليك. فقال: سمعًا وطاعة. فرحل سهيم، وتوجَّهَ هو إلى بلاد العجم، ومعه قومه من بني قحطان، ومعه الملكة فخرتاج وقومها، وساروا قاصدين مدائن سابور ملك العجم.

هذا ما كان من أمر هؤلاء، وأما ما كان من أمر الملك سابور، فإنه انتظر مجيء ابنته من دير النار فما عادت وفات الميعاد، فالتهبت في قلبه النار، وكان له أربعون وزيرًا، وكان أكبرهم وأعرفهم وأعلمهم وزيرًا اسمه ديدان، فقال له الملك: يا وزير، إن ابنتي أبطأت ولم يجئنا خبر عنها، وقد فات ميعاد مجيئها، فأرسِلْ ساعيًا إلى دير النار ليتحقق الأخبار. فقال: سمعًا وطاعةً. ثم خرج الوزير ونادى مقدم السعادة وقال له: سر من وقتك إلى دير النار. فخرج وسافر حتى وصل إلى دير النار، وسأل الرهبان عن بنت الملك فقالوا: ما رأيناها في هذا العام. فعاد على إثره حتى وصل إلى مدينة إسبانير ودخل على الوزير وأعلمه بما كان؛ فدخل الوزير على الملك سابور وأعلمه، فقامت قيامته ورمى تاجه في الأرض، ونتف لحيته، ووقع على الأرض مغشيًّا عليه، فرشوا عليه الماء فأفاق وهو باكي العين، حزين القلب، فأنشد قول الشاعر:

وَلَمَّا دَعَوْتُ الصَّبْرَ بَعْدَكِ وَالْبُكَا        أَجَابَ الْبُكَا طَوْعًا وَلَمْ يُجِبِ الصَّبْرُ

وَإِنْ كَانَتِ الْأَيَّامُ تَفْرُقُ بَيْنَنَا        لِتَقْتُلَنَا بِالْغَدْرِ يَا حَبَّذَا الْغَدْرُ

ثم دعا الملك بعشرة قواد وأمرهم أن يركبوا بعشرة آلاف فارس، وكل قائد يتوجه إلى إقليم ليفتشوا على الملكة فخرتاج، فركبوا وتوجه كل قائد وجماعته إلى إقليم، وأما أم فخرتاج فإنها لبست هي وجواريها السواد، وفرشوا الرماد، وقعدوا في البكاء والعديد. هذا ما جرى لهؤلاء. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 631﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك سابور أرسل عسكره يفتشون على بنته، ولبست أمها وجواريها السواد. وأما ما كان من أمر غريب وما جرى له في طريقه من الأمر العجيب، فإنه سار عشرة أيام، وفي اليوم الحادي عشر ظهرت له غبرة وارتفعت إلى عنان السماء، فدعا غريب بالأمير الذي يحكم على العجم، فحضر فقال له: تحقَّقْ لنا خبر هذا الغبار الذي ظهر. فقال: سمعًا وطاعةً. ثم ساق جواده حتى دخل تحت الغبار فنظر القوم وسألهم، فقال واحد منهم: نحن من بني هطال، وأميرنا الصمصام بن الجراح، ونحن دائرون على شيء ننهبه، وقومنا خمسة آلاف فارس. فرجع العجمي مسرعًا بجواده حتى وصل إلى غريب وأخبره بالأمر، فصاح غريب على رجال بني قحطان وعلى العجم وقال: احملوا سلاحكم. فحملوه وساروا، فقابلتهم العربان وهم ينادون: الغنيمة! الغنيمة! فصاح غريب وقال: أخزاكم الله يا كلاب العرب. ثم حمل وصدمهم صدمةَ بطلٍ صنديد وهو يقول: الله أكبر، يا لدين إبراهيم الخليل عليه السلام. ووقع بينهم القتال، وعَظُم النزال، ودار السيف وكثر القيل والقال، ولم يزالوا في حرب حتى ولَّى النهار وأقبل الظلام، فانفصلوا من بعضهم وتفقَّدَ غريب القوم، فوجد المقتول من بني قحطان خمسة رجال، ومن العجم ثلاثة وسبعين، ومن قوم الصمصام ما يزيد على خمسمائة فارس. ثم نزل الصمصام، ولم يطب له طعام ولا منام، ثم قال لقومه: عمري ما رأيت مثل قتال هذا الصبي؛ لأنه تارة يقاتل بالسيف وتارة بالعامود، ولكني أبرز له غدًا في حومة الميدان، وأطلبه إلى مقام الضرب والطعان، وأقطع هؤلاء العربان.

أما غريب فإنه لما رجع إلى قومه لاقَتْه الملكة فخرتاج باكيةً مرعوبة من هول ما جرى، وقبَّلَتْ رجله في الركاب وقالت له: لا شُلَّتْ يداك ولا شمتت عداك يا فارس الزمان، والحمد لله الذي سلَّمَك في هذا النهار، واعلم أنني خائفة عليك من هذه العربان. فلما سمع غريب كلامها ضحك في وجهها وطيَّب قلبها وطمَّنها وقال لها: لا تخافي يا ملكة، فلو كانت الأعداء ملء هذه البيداء؛ لَأفنيتهم بقوة العليِّ الأعلى. فشكرته ودعت له بالنصر على الأعداء. ثم إنها انصرفت إلى جواريها، ونزل غريب فغسل يديه وما عليه من دم الكفار، وباتوا يتحارسون إلى الصباح، ثم ركب الفريقان وطلبوا الميدان ومقام الحرب والطعان، فكان السابق للميدان غريب، فساق جواده حتى قرب من الكفار وصاح: هل من مبارز يخرج لي غير كسلان؟ فبرز إليه عملاق من العمالقة الشداد من نسل قوم عاد، ثم حمل على غريب وقال: يا قطاعة العرب، خذ ما جاءك وأبشِرْ بالهلاك. وكان معه دبوس حديد وزنه عشرون رطلًا، فرفع يده وضرب غريبًا، فزاغ عنه فغاص الدبوس في الأرض ذراعًا، وقد انثنى العملاق مع الضربة، فضربه غريب بالعامود الحديد، فشقَّ جبهته فخرَّ صريعًا وعجَّلَ الله بروحه إلى النار.

ثم إن غريبًا صال وجال وطلب البراز، فبرز له ثانٍ فقتله، وثالثٌ وعاشرٌ، وكلُّ مَن برز له قتله، فلما نظر الكفَّار إلى قتال غريب وضَرْبه، زاغوا منه وتأخروا عنه، ونظر أميرهم إليهم وقال: لا بارَكَ الله فيكم، أنا أبرز له. فلبس آلة حربه وساق جواده حتى ساوى غريبًا في حومة الميدان وقال له: ويلك يا كلب العرب، هل بلغ من قدرك أن تبارزني في الميدان وتقتل رجالي؟ فجاوبه غريب وقال: دونك والقتال، وخذ ثأر مَن قُتِل من الفرسان. فحمل الصمصام على غريب، فتلقَّاه بصدر رحيب وقلب عجيب، فتضارب الاثنان بالعمودين حتى حيَّرَا الفريقين ورمقتهم كلُّ عين، وقد جالا في الميدان وضربا بعضهما ضربتين؛ فأما غريب فإنه خيَّب ضربة الصمصام في الحرب والاصطدام، وأما الصمصام فسقطت عليه ضربة غريب فخسفت صدره وأوقعته في الأرض قتيلًا، فحمل قومه على غريب حملة واحدة، وحمل غريب عليهم وصاح: الله أكبر، فتَحَ ونصَرَ وخذَلَ مَن كفر بدين إبراهيم الخليل عليه السلام. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 632﴾

قال: بلغني أيها الملك السعيد، أن غريبًا لما حمل عليه قوم الصمصام حملة واحدة، حمل عليهم وصاح: الله أكبر، فَتَح ونَصَر وخَذَل مَن كَفَر. فلما سمع الكفار ذِكْر الملك الجبَّار الواحد القهَّار الذي لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، نظر بعضهم إلى بعض وقالوا: هذا الكلام الذي أرعد فرائضنا وأضعف هممنا وقصَّر أعمارنا، فما سمعنا في عمرنا أطيبَ من هذا الكلام. ثم إنهم قالوا لبعضهم: ارجعوا عن القتال حتى نسأل عن هذا الكلام. فرجعوا عن القتال ونزلوا عن الخيول، واجتمع كبارهم وتشاوروا وطلبوا المسير إلى غريب وقالوا: يمضي إليه منَّا عشرة. واختاروا عشرة من خيارهم فتوجهوا إلى خيام غريب، وأما غريب وقومه فإنهم نزلوا في خيامهم وتعجبوا من رجوع القوم عن الحرب. فبينما هم كذلك وإذا بالعشرة رجال قد أقبلوا وطلبوا الحضور بين يدي غريب، وقبَّلوا الأرض ودعوا له بالعز والبقاء، فقال لهم: ما لكم رجعتم عن القتال؟ فقالوا: يا مولانا، أرعبتنا بالكلام الذي صحتَ به علينا؟ فقال لهم: ما تعبدون من المصائب؟ فقالوا: نعبد ودًّا وسواعًا ويغوث أرباب قوم نوح. قال غريب: إنَّا لا نعبد إلا الله تعالى، خالِق كل شيء ورازق كل حي، وهو الذي خلق السموات والأرض، وأرسى الجبال، وأنبع الماء من الأحجار، وأنبت الأشجار ورزق الوحوش في القفار، فهو الله الواحد القهار. فلما سمع القوم كلام غريب، انشرحت صدروهم بكلمة التوحيد وقالوا: إن هذا الإله ربٌّ عظيم، راحم رحيم. ثم قالوا: فما نقول حتى نصير مسلمين؟ قال غريب: قولوا لا إله إلا الله، إبراهيم خليل الله. فأسلم العشرة إسلامًا صحيحًا. ثم قال غريب: إن دليل حلاوة الإسلام في قلوبكم أن تمضوا إلى قومكم وتعرضوا عليهم الإسلام، فإن أسلموا أسلموا، وإن أَبَوْا نحرقهم بالنار. فسار العشرة حتى وصلوا إلى قومهم وعرضوا عليهم دين الإسلام وشرحوا لهم طريق الحق والإيمان، فأسلموا قلبًا ولسانًا، وسَعَوْا على الأقدام حتى وصلوا إلى غريب وقبَّلوا الأرض بين يديه، ودَعَوْا له بالعز وعلوِّ الدرجات وقالوا: يا مولانا، نحن صرنا عبيدك، فمُرنا بما تريد، فإنا لك سامعون مطيعون، وما بقينا نفارقك؛ لأن الله هدانا على يديك. فجازاهم خيرًا وقال لهم: امضوا إلى منازلكم وارتحلوا بأموالكم وأولادكم، واسبقونا على وادي الأزهار، وحصن صاصا بن شيث، حتى أشيِّع فخرتاج بنت الملك سابور ملك العجم وأعود إليكم. فقالوا: سمعًا وطاعةً.

ثم إنهم رحلوا من وقتهم وقصدوا حيَّهم وهم فَرِحون بالإسلام، وعرضوا الإسلام على عيالهم وأولادهم فأسلموا، ثم هدُّوا بيوتهم وأخذوا أموالهم ومواشيهم ورحلوا إلى وادي الأزهار، فخرج غول الجبل وأولاده واستقبل القوم، فكان غريب أوصاهم وقال لهم: إذا خرج إليكم غول الجبل وأراد أن يبطش بكم، فاذكروا الله تعالى خالق كل شيء، فإنه متى سمع ذِكْر الله تعالى يرجع عن القتال ويلقاكم بالترحيب. فلما خرج غول الجبل بأولاده وأراد أن يبطش بهم، أعلنوا بذِكْر الله تعالى، فتلقَّاهم بأحسن ملتقًى، وسألهم عن حالهم، فأخبروه بما جرى لهم مع غريب، ففرح بهم سعدان وأنزلهم وغمرهم بالإحسان.

هذا ما جرى لهم، وأما غريب فإنه رحل بالملكة فخرتاج وتوجَّهَ إلى مدينة إسبانير، فسار خمسة أيام، وفي اليوم السادس ظهر له غبار، فأرسل رجلًا من الأعجام يتحقَّق له الأخبار، فسار إليه ثم عاد أسرع من الطير إذا طار، وقال: يا مولاي، هذا غبار ألف فارس من أصحابنا الذين أرسلهم الملك يفتِّشون على الملكة فخرتاج. فلما بلغ غريب ذلك، أمر أصحابه بالنزول وأن يضربوا الخيام، فنزلوا وضربوا خيامهم حتى وصل إليهم القادمون، فتلقَّاهم رجال الملكة فخرتاج وأخبروا طومان الحاكم عليهم، وأعلموه بالملكة فخرتاج. فلما سمع طومان بذكر الملك غريب دخل عليه وقبَّلَ الأرض بين يديه، وسأله عن حال الملكة، فأرسله إلى خيمتها، فدخل عليها وقبَّلَ يدَيْها ورجلَيْها وأخبرها بما جرى لأبيها وأمها، فأخبرته بجميع ما جرى لها، وكيف خلَّصَها غريب من غول الجبل. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 633﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملكة فخرتاج لما حكت لطومان جميع ما حصل لها من غول الجبل وأَسْرها، وكيف خلَّصها غريب وإلا كان أكلها، قالت: فواجب على أبي أن يعطيه نصف ملكه. ثم إنه قام طومان وقبَّلَ يدَيْ غريب ورجلَيْه، وشكر إحسانه وقال: عن إذنك يا مولاي، هل أرجع إلى مدينة إسبانير فأبشِّر الملك؟ فقال له: توجَّهْ وخذ منه البشارة. فسار طومان ورحل غريب بعده. فأما طومان فإنه جَدَّ في السير حتى أشرف على إسبانير المدائن، فطلع القصر وقبَّلَ الأرض قدام الملك سابور، فقال الملك: ما الخبر يا بشير الخير؟ فقال له طومان: ما أقول لك حتى تعطيني بشارتي. فقال له الملك: بشِّرني حتى أرضيك. فقال: يا ملك الزمان، أَبْشِر بالملكة فخرتاج. فلما سمع سابور ذِكْرَ ابنته وقع مغشيًّا عليه، فرشوا عليه ماء الورد فأفاق وصاح على طومان وقال له: تقرَّبْ إليَّ وبشِّرني. فتقدَّمَ وشرح له ما جرى للملكة فخرتاج، فلما سمع الملك ذلك الكلام خبط كفَّيْه على بعضمها وقال: مسكينة يا فخرتاج. ثم إنه أمر لطومان بعشرة آلاف دينار، وأنعم عليه بمدينة أصبهان وأعمالها، ثم صاح على أمرائه وقال: اركبوا بأجمعكم حتى نلاقي الملكة فخرتاج. ودخل الخادم الخاص أعلم أمها وكامل الحريم، ففَرِحن بذلك وخلعت أمها على الخادم خلعة وأعطته ألف دينار، وسمع أهل المدينة بذلك فزينوا الأسواق والبيوت، وركب الملك طومان وساروا حتى رأوا غريبًا، فترجَّلَ الملك سابور ومشى خطوات ليستقبل غريبًا، وترجَّلَ غريب ومشى إليه واعتنقَا وسلَّمَا على بعضهما، وانكبَّ سابور على يدي غريب فقبَّلَهما وشكر إحسانه، ونصبوا الخيام قبال الخيام، ودخل سابور على ابنته، فقامت له واعتنقته وصارت تحدِّثه بما جرى لها، وكيف خلَّصَها غريب من قبضة غول الجبل، فقال لها أبوها: وحياتك يا سيدة الملاح إني أعطيه حتى أغمره بالعطاء. فقالت له: صاهِرْه يا أبتي حتى يكون لك عونًا على الأعداء، فإنه شجاع. وما قالت هذا الكلام إلا لأن قلبها تعلَّقَ بغريب، فقال: يا بنتي، أَمَا تعلمين أن الملك خردشاه رمى الديباج، ووهب مائة ألف دينار، وهو ملك شيراز وأعمالها، وهو صاحب ملكٍ وجنودٍ وعساكر. فلما سمعت فخرتاج كلام أبيها قالت: يا أبتي، ما أريد ما ذكرتَ لي، وإنْ أكرهتَني على ما لا أريد قتلتُ روحي. فخرج الملك وتوجَّهَ إلى غريب فقام له، وجلس سابور وصار لا يشبع نظره من غريب، وقال في نفسه: والله إن ابنتي معذورة حيث حبَّتْ هذا البدوي.

ثم حضر الطعام، فأكلوا وباتوا، ثم أصبحوا سائرين إلى أن وصلوا إلى المدينة، ودخل الملك وغريب ركابه في ركابه، وكان لهم يوم عظيم، ودخلت فخرتاج قصرها ومحل عزِّها، وتلقَّتْها أمها وجواريها وقُمْنَ بالفرح والزغاريد، وجلس الملك سابور على كرسي مملكته، وأجلس غريبًا على يمينه، ووقف الملوك والحجَّاب والأمراء والنوَّاب والوزراء ميمنة وميسرة، وقد هنَّئوا الملك بابنته، فقال الملك لأرباب دولته: مَن أحَبَّني يخلع على غريب. فوقع عليه خلع مثل المطر، وأقام غريب في الضيافة عشرة أيام، ثم أراد المسير فخلع عليه الملك وحلف بدينه أنه لا يرحل إلا بعد شهر، فقال غريب: يا ملك، إني خطبت بنتًا من بنات العرب، وأريد أن أدخل عليها. فقال الملك: أيتهما أحسن، أمخطوبتك أم فخرتاج؟ فقال غريب: يا ملك الزمان، أين العبد من المولى؟ فقال الملك: فخرتاج صارت جاريتك؛ لأنك خلَّصْتَها من مخالب الغول، وما لها بعل سواك. فقام غريب وقبَّلَ الأرض وقال: يا ملك الزمان، أنت ملك وأنا رجل فقير، وربما تطلب مهرًا ثقيلًا. فقال له الملك سابور: يا ولدي، اعلم أن الملك خردشاه صاحب شيراز وأعمالها خطبها وجعل لها مائة ألف دينار، وأنا قد اخترتك دون الناس أجمعين، وقد جعلتك سيف مملكتي وترس نقمتي. ثم التفت لكبراء قومه وقال: اشهدوا عليَّ يا أهل مملكتي أني زوَّجْتُ ابنتي فخرتاج لولدي غريب. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 634﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك سابور ملك العجم قال لكبراء قومه: اشهدوا عليَّ أني زوَّجْتُ ابنتي فخرتاج لولدي غريب. فعند ذلك صافحه وصارت زوجته، فقال له غريب: اشرط عليَّ مهرًا أحمله إليك، فإن عندي في حصن صاصا مالًا وذخائرَ لا تُحصَى. فقال سابور: يا ولدي، ما أريد منك مالًا ولا ذخائرَ، ولا آخذ مهرها إلا رأس الجمرقان ملك الدشت ومدينة الأهواز. فقال: يا ملك الزمان، سوف أمضي وأجيء بقومي وأسير لعدوي وأخرب دياره. فجازاه الملك خيرًا، وانفضَّ القوم والأكابر، وظنَّ الملك أن غريبًا إذا توجَّهَ إلى الجمرقان ملك الدشت لا يعود أبدًا. فلما أصبح الصباح ركب الملك وركب غريب وأمر العسكر بالركوب، فركبوا ونزلوا الميدان، فقال لهم الملك: العبوا بالرماح وفرِّحوا قلبي. فلعب أبطال العجم مع بعضهم، ثم قال غريب: يا ملك الزمان، مرادي أن ألعب مع فرسان العجم على شرط. فقال له: وما شرطك؟ قال له: ألبس ثوبًا رفيعًا على بدني، وآخذ رمحًا بلا سنان، وأجعل عليه خرقة مغموسة بالزعفران، ويبرز لي كل شجاع ويظل رمحه بسنان، فإن غلبني فقد وهبته روحي، وإن غلبته علَّمْتُ عليه في صدره، فيخرج من الميدان. فصاح الملك على نقيب الجيش أن يقدِّم أبطال العجم، فانتخب ألفًا ومائتين من ملوك العجم واختارهم أبطالًا شجعانًا، وقال لهم الملك بلسان العجم: كلُّ مَن قتل هذا البدوي يتمنَّى عليَّ حتى أرضيه. فتسابقوا إلى غريب وحملوا عليه، وقد بان الحق من الباطل والجد من المزاح، وقال: توكَّلْتُ على الله إله إبراهيم الخليل، وإله كل شيء قدير، الذي لا يخفى عليه شيء، وهو الواحد القهَّار الذي لا تدركه الأبصار. فبرز له عملاق من أبطال العجم، فما أمهله في الثبات قدامه حتى علَّمَ عليه وملأ صدره بالزعفران، ولما ولَّى لطشه غريب بالرمح على رقبته فوقع في الأرض وحمله غلمانه من الميدان، فبرز له ثانٍ فعلَّمَ عليه، وثالثٌ ورابعٌ وخامسٌ، ولم يزل يبرز له بطل بعد بطل، حتى علَّمَ على الجميع ونصره الله تعالى عليهم، وطلعوا من الميدان وقُدِّمَ لهم الطعام، فأكلوا وأحضروا الشراب وشربوا، فشرب غريب وطاش عقله، فقام يزيل ضرورة وأراد أن يعود فتَاهَ ودخل في قصر فخرتاج، فلما رأته خرج عقلها وصاحت على جواريها وقالت: اخرجن إلى مواضعكن. فتفرَّقْنَ وتوجَّهْنَ إلى مواضعهن، ثم قامت وقبَّلَتْ يد غريب وقالت: مرحبًا بسيدي الذي أعتقني من الغول، فأنا جاريتك على الدوام. وجذبته إلى فراشها واعتنقته، فاشتدت شهوته وافتضَّها وبات عندها إلى الصباح.

هذا ما جرى، والملك يظن أن غريبًا مضى، فلما أصبح الصباح دخل على الملك، فقام له وأجلسه بجانبه، ثم دخل الملوك وقبَّلوا الأرض ووقفوا ميمنة وميسرة، وصاروا يتحدَّثون في شجاعة غريب ويقولون: سبحان مَن أعطاه الشجاعة على صِغَر سنه. فبينما هم في الكلام إذ نظروا من شباك القصر غبار خيل مُقبِلة، فصاح الملك على السعاة وقال: ويلكم، ائتوني بخبر هذا الغبار. فسار فارس منهم حتى كشف الغبار وعاد وقال: أيها الملك، وجدنا تحت الغبار مائة فارس من الفرسان، أميرهم يقال له سهيم الليل. فلما سمع غريب هذا الكلام قال: يا مولاي، هذا أخي، كنت بعثتُه في حاجةٍ وأنا خارج لألاقيه. ثم ركب غريب في قومه المائة فارس من بني قحطان، وركب معه ألف من العجم، وسار في موكب عظيم، ولا عظمة إلا لله، ولم يزل غريب سائرًا حتى وصل إليه، فترجَّلَ الاثنان واعتنقَا ثم ركبا، فقال غريب: يا أخي، هل أوصلتَ قومك إلى حصن صاصا ووادي الأزهار؟ فقال: يا أخي، إن الكلب الغدَّار لما سمع أنك ملكت حصن غول الجبل، زاد به الضجر وقال: إن لم أرحل من هذه الديار يجيء غريب فيأخذ بنتي مهدية بلا صداق. ثم أخذ بنته وأخذ قومه وعياله وماله وقصد أرض العراق، ودخل الكوفة واحتمى بالملك عجيب، وهو طالب أن يعطيه ابنته مهدية. فلما سمع غريب كلام أخيه سهيم الليل كادت روحه أن تزهق من القهر وقال: وحقِّ دين الإسلام، دين الخليل إبراهيم، وحق الرب العظيم، لَأسيرَنَّ إلى أرض العراق، وأقيم الحرب فيها على ساق. ودخل المدينة وطلع غريب وأخوه سهيم الليل إلى قصر الملك وقبَّلوا الأرض، فقام الملك لغريب وسلَّمَ على سهيم، ثم إن غريبًا أخبر الملك بما جرى، فأمر له بعشرة قوَّاد، مع كل قائد عشرة آلاف فارس من شجعان العرب والعجم، فجهَّزوا حالهم في ثلاثة أيام، ثم رحل غريب وسار حتى وصل إلى حصن صاصا، فخرج له غول الجبل وأولاده ولاقوا غريبًا، ثم ترجَّلَ سعدان وأولاده وقبَّلوا أقدام غريب في الركاب، وحكى لغول الجبل ما جرى، فقال: يا مولاي، اقعد في حصنك وأنا أسير بأولادي وأجنادي نحو العراق وأخرب مدينة الرستاق، وأجيء بجميع جنودها مربوطين بين يديك في أشد الوثاق. فشكره غريب وقال: يا سعدان، نسير كلنا. فجهَّزَ حاله وفعل ما أمره، وساروا كلهم وتركوا في الحصن ألف فارس يحفظونه ورحلوا قاصدين العراق.

هذا ما كان من أمر غريب، وأما ما كان من أمر مرداس، فإنه سار بقومه حتى وصل أرض العراق، وأخذ معه هدية حسنة، ومضى بها إلى الكوفة وأحضرها قدام عجيب، ثم قبَّلَ الأرض ودعا له بدعاء الملوك وقال: يا سيدي، إني أتيتُ مستجيرًا بك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 635﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن مرداسًا لما طلع بين يدي عجيب قال له: إني أتيت مستجيرًا بك. فقال: مَن ظلَمَك حتى أجيرك منه؟ ولو كان سابورًا ملك العجم والترك والديلم. فقال مرداس: يا ملك الزمان، ما ظلمني إلا صبي ربَّيْته في حجري، وقد وجدته في حجر أمه في وادٍ، فتزوَّجْتُ بأمه فجاءت مني بولد فسمَّيْته سهيم الليل وولدها اسمه غريب، فنشأ في حجري وطلع صاعقة محرقة وداهية عظيمة، فقتل حسَّان سيد بني نبهان، وأفنى الرجال وقهر الفرسان، وعندي بنت ما تصلح إلا لك، وقد طلبها مني فطلبت منه رأس غول الجبل، فسار له وبارزه وأسره وصار من جملة رجاله، وسمعتُ أنه أسلَمَ وصار يدعو الناس إلى دينه، وخلَّصَ بنت سابور من الغول وملك حصن صاصا بن شيث بن شداد بن عاد، وفيه ذخائر الأولين والآخرين وكنوز السابقين، وقد سار يشيع بنت سابور وما يرجع إلا بأموال العجم. فلما سمع عجيب كلام مرداس اصفرَّ لونه وتغيَّرَ حاله وأيقن بهلاك نفسه، وقال: يا مرداس، وهل أم هذا الصبي عندك أو عنده؟ قال: عندي في خيامي. قال: فما اسمها؟ قال: اسمها نصرة. قال: هي إياها. فأرسل أحضرها فنظر عجيب إليها فعرفها فقال: يا ملعونة، أين العبدان اللذان أرسلتهما معك؟ قالت: قتَلَا بعضهما على شأني. فسلَّ عجيب سيفه وضربها فشقَّها نصفين وسحبوها ورموها، ودخل في قلبه الوسواس فقال: يا مرداس، زوِّجني بنتك. فقال مرداس: هي من بعض جواريك، وقد زوَّجْتُك بها وأنا عبدك. فقال عجيب: مرادي أن أنظر إلى ابن الزانية غريب حتى أهلكه وأذيقه أصناف العذاب. وأمر لمرداس بثلاثين ألف دينار مهر ابنته، ومائة شقة من الحرير منسوجة بطراز الذهب مزركشة، ومائة مقطع بحاشية ومناديل وأطواق ذهب، ثم خرج مرداس بهذا المهر العظيم، فاجتهد في جهاز مهدية.

هذا ما جرى لهؤلاء، وأما ما كان من أمر غريب، فإنه سار حتى وصل إلى جزيرةٍ، وهي أول بلاد العراق، وهي مدينة حصينة منيعة، فأمر غريب بالنزول عليها، فلما نظر أهل المدينة نزول العسكر عليهم، أغلقوا الأبواب وحصَّنوا الأسوار وطلعوا الملك فأعلموه، فنظر من شرفات القصر فوجد عسكرًا جرارًا وكلهم أعجام فقال: يا قوم، ما يريدون هؤلاء الأعجام؟ فقالوا: لا ندري. وكان الملك اسمه الدامغ؛ لأنه كان يدمغ الأبطال في حومة الميدان، وكان من جملة أعوانه رجل شاطر كأنه شعلة نار اسمه سبع القفار، فدعاه الملك وقال له: امضِ إلى هذا العسكر وانظر أخبارهم وما يريدون منَّا وارجع عاجلًا. فخرج سبع القفار كأنه الريح إذا سار حتى وصل إلى خيام غريب، فقام جماعة من العرب فقالوا: مَن أنت وما تريد؟ فقال: أنا قاصد ورسول من عند صاحب المدينة إلى صاحبكم. فأخذوه وشقوا به الخيام والمضارب والأعلام حتى وصلوا به إلى سرادق غريب، فدخلوا على غريب وأعلموه به فقال: ائتوني به. فأتوا به، فلما دخل قبَّلَ الأرض ودعا له بدوام العز والبقاء، قال له غريب: ما حاجتك؟ قال: أنا رسول صاحب مدينة الجزيرة الدامغ أخو الملك كندمر صاحب مدينة الكوفة وأرض العراق. فلما سمع غريب كلام الرسول جرت دموعه مدرارًا، ونظر إلى الرسول وقال: ما اسمك؟ قال: اسمي سبع القفار. فقال له: امضِ إلى مولاك وقل له: إن صاحب هذه الخيام اسمه غريب بن كندمر صاحب الكوفة الذي قتله ابنه، وقد أتى إلى أخذ الثأر من عجيب الكلب الغدَّار. فخرج الرسول حتى وصل إلى الملك الدامغ وهو فرحان، ثم قبَّلَ الأرض، فقال الملك: ما وراءك يا سبع القفار؟ فقال: يا مولاي، إن صاحب هذا العسكر ابن أخيك. ثم حكى له جميع الكلام، فظنَّ أنه في المنام وقال: يا سبع القفار. فقال له: نعم يا ملك. قال له: هل الذي قلتَه حقٌّ؟ قال له: وحياة رأسك إنه حق. فعند ذلك أمر كبار قومه بالركوب، فركبوا وركب الملك وساروا حتى وصلوا إلى الخيام، فلما علم غريب بحضور الملك الدامغ، خرج إليه ولاقاه واعتنق الاثنان وسلَّمَا على بعضهما، ورجع غريب بالملك إلى الخيام، وجلسا على مراتب العز، وفرح الدامغ بغريب ابن أخيه. ثم التفت الملك الدامغ إلى غريب وقال له: إن في قلبي حسرة من ثأر أبيك، وما لي قدرة على الكلب أخيك؛ لأن عسكره كثير وعسكري قليل. فقال غريب: يا عم، ها أنا قد أتيتُ آخذ الثأر وأزيل العار وأخلي منه الديار. فقال الدامغ: يا ابن أخي، إن لك ثأرين؛ ثأر أبيك، وثأر أمك. فقال غريب: ما بال أمي؟ قال: قتلها عجيب أخوك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 636﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن غريبًا لما سمع كلام عمه الدامغ حين قال له: إن أمك قتلها عجيب أخوك. قال غريب: يا عم، وما سبب قتلها؟ فحكى له ما جرى لأمه، وكيف زوَّجَ مرداس بنته بعجيب وهو يريد أن يدخل عليها؛ فلما سمع غريب كلام عمه، طار عقله من رأسه وغشي عليه حتى كاد أن يهلك، فلما صحا من غشيته صاح في عسكره وقال: اركبوا. فقال الدامغ: يا ابن أخي، اصبر حتى أهيئ حالي وأركب في رجالي وأسير معك في ركابك. فقال: يا عم، ما بقي لي صبر، فجهِّزْ حالك والحقني في الكوفة. ثم إن غريبًا سار حتى وصل إلى مدينة بابل وقد ارتعب أهلها، وكان فيها ملك اسمه جمك، وكان تحت يده عشرون ألف فارس، واجتمع عنده من القرى خمسون ألف فارس، وضربوا الخيام قبال بابل، ثم كتب غريب كتابًا وأرسله لصاحب بابل، فسار الرسول فلما وصل إلى المدينة صاح وقال: إني رسول. فسار بوَّاب الباب متوجِّهًا إلى الملك جمك وأخبره بالرسول، فقال: ائتني به. فخرج وأتى بالرسول بين يديه، فقبَّلَ الأرض وأعطى جمكًا الكتاب، ففكَّه وقرأه فإذا فيه: «الحمد لله رب العالمين، رب كل شيء ورازق كل حي وهو على كل شيء قدير، من عند غريب ابن الملك كندمر صاحب العراق وأرض الكوفة إلى جمك، فساعة وصول الكتاب إليك لا يكون جوابك إلا أن تكسر الأصنام، وتوحِّد الملكَ العلَّام، خالق النور والظلام، وخالق كل شيء وهو على كل شيء قدير، وإنْ لم تفعل ما أمرتُكَ به جعلتُ اليومَ عليك أشأمَ الأيام، والسلامُ على مَن اتَّبَعَ الهدى، وخشي عواقب الردى، وأطاع الملك الأعلى، رب الآخرة والأولى، الذي يقول للشيء كن فيكون

فلما قرأ الكتاب، ازرقَّتْ عيناه واصفرَّ وجهه وصاح على الرسول وقال له: امضِ إلى صاحبك وقل له: غدًا عند الصباح يكون الحرب والكفاح ويبان الجحجاح. فمضى الرسول وأعلم غريبًا بما كان، فأمر غريب قومَه بأخذ الأهبة للقتال، ثم أمر جمك بنصب الخيام قبال خيام غريب، وخرج عساكر مثل البحر الزاخر وباتوا على نية القتال، فلما أصبح الصباح ركبت الطائفتان واصطفتا صفوفًا، ودقوا الكاسات ورمحوا على الصافنات، فملئوا الأرضَ والفلوات، وتقدَّمَتِ الأبطال، وكان أول مَن برز إلى ميدان الحرب والنزال غول الجبل، وعلى كتفه شجرة هائلة، فصاح بين الفريقين وقال: أنا سعدان الغول. ونادى: هل من مبارز؟ هل من مناجز؟ لا يأتِني كسلان ولا عاجز؟ ثم صاح على أولاده: يا ويلكم، فائتوني بالحطب والنار لأنني جائع. فصاحوا على عبيدهم، فجمعوا الحطب وأشعلوا النار في وسط الميدان، فبرز له رجل من الكفار عملاق من العمالقة العتاة، وعلى كتفه عمود مثل صاري مركب، فحمل على سعدان وقال: يا ويلك يا سعدان. فلما سمع كلام العملاق، ساءت منه الأخلاق، ولف الشجرة فزمرت في الهواء وضرب بها العملاق، فلاقى الضربة بالعمود، فنزلت الشجرة بثقلها مع عمود العملاق على دماغه فهشَّمَتْه ووقع كالنخلة السحوق، فصاح سعدان على عبيده وقال: اسحبوا هذا العجل السمين واشووه سريعًا. فأسرعوا وسلخوا العملاق وشووه وقدَّموه لسعدان الغول، فأكله ومرمش عظامه، فلما نظر الكفَّار إلى فعل سعدان بصاحبهم، اقشعرَّتْ جلودهم وأبدانهم، وانعكست أحوالهم، وتغيَّرت ألوانهم، وقالوا لبعضهم: كلُّ مَن خرج لهذا الغول أكله ومرمش عظامه وأعدمه نسيم الدنيا. فتوقفوا عن القتال وقد فزعوا من الغول وأولاده، ثم ولَّوْا هاربين وإلى بلدهم قاصدين.

فعند ذلك صاح غريب على قومه وقال: عليكم بالمنهزمين. فحمل العجم والعرب على ملك بابل وقومه، وأوقعوا فيهم ضربَ السيف حتى قتلوا منهم عشرين ألفًا وأزيد، وازدحموا في الباب فقتلوا منهم خلقًا كثيرًا ولم يقدروا على غلق الباب، فهجمت عليهم العرب والعجم، وأخذ سعدان عمودًا من بعض القتلى وهزَّه قدام القوم ونزل به في الميدان، ثم هجم على قصر الملك جمك فواجهه وضربه بالعمود فوقع على الأرض مغشيًّا عليه، وحمل سعدان على مَن في القصر فجعلهم هشيمًا، فعند ذلك صاحوا: الأمان الأمان. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 637﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن سعدان الغول لما هجم على قصر الملك جمك وهشَّمَ مَن فيه صاحوا: الأمان الأمان. فقال لهم سعدان: كتِّفوا ملككم. فكتَّفوه وحملوه وساقهم سعدان قدامه مثل الغنم، بعد فناء أكثر أهل المدينة بسيوف عسكر غريب، وأوقفهم قدام غريب، فلما أفاق جمك ملك بابل من غشيته وجد نفسه مربوطًا، والغول يقول: الليلة أتعشى بهذا الملك جمك. فلما سمعه التفت إلى غريب وقال له: أنا في جيرتك. قال غريب: أسلِمْ تسلم من الغول ومن عذاب الحي الذي لا يزول. فأسلَمَ جمك قلبًا ولسانًا، فأمر غريب بحلِّ كتافه، ثم عرض الإسلام على قومه فأسلموا جميعًا، وقد وقفوا في خدمة غريب، ودخل جمك مدينته وأخرج الطعام والشراب وباتوا على بابل حتى أصبح الصباح، فأمر غريب بالرحيل وساروا حتى وصلوا إلى ميافارقين، فرأوها خالية من أهلها، وكان أصحابها قد سمعوا ما جرى لبابل، فأخلَوْا الديار وساروا حتى وصلوا إلى مدينة الكوفة، فأخبروا عجيبًا بما جرى، فقامت قيامته وجمع أبطاله وأخبرهم بقدوم غريب، وأمرهم أن يأخذوا الأهبة لقتال أخيه، وقد أحصى قومه فكانوا ثلاثين ألف فارس وعشرة آلاف راجل، ثم طلب غيرهم للحضور؛ فحضر له خمسون ألفًا من فارس وراجل، ثم ركب في عسكر جرَّار وسار خمسة أيام، فوجد عسكر أخيه نازلًا بالموصل، فنصب خيامه قبال خيامهم، ثم كتب غريب كتابًا والتفت إلى رجاله وقال: مَن فيكم يوصل هذا الكتاب إلى عجيب؟ فوثب سهيم قائمًا وقال: يا ملك الزمان، أنا أروح بكتابك وأجيء بجوابك. فأعطاه الكتاب وسار به حتى وصل إلى سرادق عجيب، فأخبروا عجيبًا به، فقال: ائتوني به. فلما أحضروه بين يديه قال له: من أين جئتَ؟ قال: جئتُكَ من عند ملك العجم والعرب، صهر كسرى ملك الدنيا، وقد أرسل إليك كتابًا فَرُدَّ جوابه. فقال له عجيب: هات الكتاب. فأعطاه إياه ففكَّه وقرأه فوجد فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، السلام على الخليل إبراهيم، أما بعدُ؛ فساعة وصول الكتاب إليك توحِّد المَلِك الوهَّاب، مسبِّب الأسباب، ومسيِّر السحاب، وتترك عبادة الأصنام، فإن أسلمتَ كنتَ أخي والحاكم علينا، وأترك لك ذنب أبي وأمي، ولا أؤاخذك بما فعلتَ، وإن لم تفعل ما أمرتُكَ به قطعتُ عنقك وأخربتُ ديارك وعجلت عليك، وقد نصحتك والسلام على مَن اتَّبَع الهدى، وأطاع الملك الأعلى

فلما قرأ عجيب كلام غريب وفهم ما فيه من التهديد، صارت عيناه في أم رأسه، وقرش على أضراسه واشتدَّ غضبه، ثم مزَّقَ الكتاب ورماه، فصعب على سهيم فصاح على عجيب وقال له: شلَّ الله يدك بما فعلتَ. فصاح عجيب على قومه وقال: امسكوا هذا الكلب وقطِّعوه بسيوفكم. فهجموا على سهيم، فسحب سهيم سيفه وبطش بهم، فقتل منهم ما يزيد على خمسين بطلًا، ومرق سهيم حتى وصل إلى أخيه وهو غاطس في الدم، فقال له غريب: أي شيء هذا الحال يا سهيم؟ فحكى له ما جرى، فصاح غريب: الله أكبر. وامتزج بالغضب، ودقَّ طبل الحرب، وركب الأبطال، واصطف الرجال، واجتمع الأقران ورقَّصوا الخيل في المجال، ولبس الرجال الحديد والزرد النضيد، وتقلَّدوا بالسيوف، واعتقلوا الرماح الطوال، وركب عجيب بقومه وحملت الأمم على الأمم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 638﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن غريبًا لما ركب هو وقومه وركب عجيب هو وقومه، حملت الأمم على الأمم، وحكم قاضي الحرب وفي حكمه ظلم وختم على فمه ولم يتكلم، وجرى الدم وانسجم، ونقش على الأرض طرازًا محكمًا، وشابت الأمم واشتد الحرب واحتدم، وزلَّتِ القدم، وثبت الشجاع واقتحم، وولَّى الجبان وانهزم، ولم يزالوا في حرب وقتال، حتى ولى النهار وأقبل الليل بالاعتكار، فدقوا كئوس الانفصال وانفرق بعضهم عن بعض، ورجعت كل طائفة إلى خيامها وباتوا. فلما أصبح الصباح، دقوا كئوس الحرب والكفاح، وقد لبسوا آلة الحرب وتقلَّدوا بالسيوف الملاح، واعتقلوا سمر الرماح، وركبوا الجرد القداح، ونادوا: اليوم لا براح. واصطف العساكر مثل البحر الزاخر، فكان أول مَن فتح باب الحرب سهيم، فساق جواده بين الصفين، ولعب بالسيفين والرمحين، وقلب أبوابًا في الحرب حتى حيَّرَ أولي الألباب، ثم نادى: هل من مبارز؟ هل من مناجز؟ لا يأتِني كسلان ولا عاجز؟ فبرز له فارس من الكفار، كأنه شعلة من نار، فما أمهله سهيم في الثبات قدامه حتى طعنه فألقاه؛ فبرز له الثاني فقتله، والثالث فمزَّقه، والرابع فأهلكه، ولم يزل كلُّ مَن برز له قتله إلى نصف النهار، حتى قتل مائتَيْ بطل، فعند ذلك صاح عجيب في قومه وأمرهم بالحملة، فحمل الأبطال على الأبطال، وعظم النزال، وكثر القيل والقال، ورنَّتِ السيوف الصقال، وفتكت الرجال بالرجال، وصاروا في أنحس حال، وجرى الدم وسال، وصارت الجماجم للخيل نعال، ولم يزالوا في ضرب شديد حتى ولَّى النهار، وأقبل الليل بالاعتكار، وانفصلوا من بعضهم، ومضوا إلى خيامهم، وباتوا إلى الصباح. ثم ركب الطائفتان وطلبوا الحرب والكفاح، وانتظر المسلمون غريبًا يركب تحت الأعلام على جري عادته فما ركب، فذهب عبد سهيم إلى سرادق أخيه فلم يجده، فسأل الفراشين فقالوا: ما لنا به علم. فاغتمَّ غمًّا شديدًا، وخرج وأعلم العسكر، فامتنعوا من الحرب وقالوا: إنْ غاب غريب يُهلِكنا عدوُّه.

وكان لغياب غريب أمر عجيب نذكره على الترتيب؛ وهو أنه لما رجع عجيب من حرب أخيه غريب، دعا رجلًا من أعوانه يقال له سيَّار، وقال له: يا سيَّار، ما ادَّخَرْتُك إلا لمثل هذا اليوم، وقد أمرتك أن تدخل عسكر غريب، وتصل إلى سرادق الملك، وتجيء بغريب وتريني شطارتك. فقال: سمعًا وطاعةً. ثم إن سيَّارًا سار حتى تمكَّنَ من سرادق غريب، وقد أظلم الليل وانصرف كل إنسان إلى مرقده، هذا كله وسيَّار واقف بسبب الخدمة، فعطش غريب فطلب الماء من سيَّار، فقدَّمَ له كوز ماء وشغله بالبنج، فما فرغ غريب من الشرب حتى سبقت رأسه رجليه، فلَفَّه في ردائه وحمله وسار به حتى دخل خيام عجيب، ثم وقف بين يديه ورماه قدامه، فقال له: ما هذا يا سيَّار؟ قال له: هذا أخوك غريب. ففرح عجيب وقال له: باركت فيك الأصنام حلَّه ونبِّهْه. فنشقه بالخل فأفاق، وفتح عينيه فوجد نفسه مربوطًا، وهو في خيمة غير خيمته، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فصاح عليه أخوه وقال له: أتجرؤ عليَّ يا كلب وتطلب قتلي وتطالبني بثأر أبيك وأمك؟ فأنا اليوم أُلحِقك بهما وأريح الدنيا منك. فقال له غريب: يا كلب الكفَّار، سوف تنظر مَن تدور عليه الدوائر، ويقهره الملك القاهر، العالم بما في السرائر، الذي يتركك في جهنم معذَّبًا جائرًا، فارحم نفسك وقل معي: لا إله إلا الله، إبراهيم خليل الله. فلما سمع عجيب كلام غريب، شخر وسبَّ إلهه الحجر، وأمر بإحضار السيَّاف ونطع الدم، فنهض الوزير وقبَّلَ الأرض، وكان مسلمًا في الباطن كافرًا في الظاهر وقال: يا ملك، أمهل لا تعجل حتى نعرف الغالب من المغلوب، فإنْ كنَّا غالبين فنحن متمكِّنون من قتله، وإنْ كنَّا مغلوبين يكون إبقاؤه في أيدينا قوةً لنا. فقال الأمراء: صدق الوزير. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 639﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن عجيبًا لما أراد قتل غريب نهض الوزير وقال: لا تعجل، فإننا متمكِّنون من قتله. فأمر عجيب لأخيه بقيدين وغلَّيْن وجعله في خيمته وحرَّس عليه ألف بطل شدادًا، وأصبح قوم غريب فاقدين ملكهم فلم يجدوه، فلما أصبح الصباح صاروا غنمًا من غير راعٍ، فصاح سعدان الغول وقال: يا قوم، البسوا آلة حربكم وتوكَّلوا على ربكم، يدفع عنكم. فركب العرب والعجم خيولَهم بعد أن لبسوا الحديد، وتسربلوا بالزرد النضيد، وبرزت السادات، وتقدَّمَ أصحاب الرايات، فعند ذلك برز غول الجبل وعلى كتفه عمود وزنه مائتا رطل، فجال وصال وقال: يا عَبَدة الأصنام، ابرزوا اليومَ فإنه يوم الاصطدام، مَن عرفني فقد اكتفى شري، ومَن لم يعرفني فأنا أعرِّفه بنفسي، أن سعدان غلام الملك غريب، هل من مبارز؟ هل من مناجز؟ لا يأتِني اليومَ جبان ولا عاجز؟ فبرز له بطل من الكفار، كأنه شعلة من نار، فحمل على سعدان فتلقَّاه سعدان وضربه بالعمود، فكسر أضلاعه ووقع على الأرض ليس فيه روح، فصاح على أولاده وعبيده وقال لهم: أشعلوا النار فكلُّ مَن وقع من الكفار اشووه وأصلحوا شأنه ونضِّجوه بالنار، وقدِّموه إليَّ حتى أتغدَّى به. ففعلوا ما أمرهم به وأطلقوا النار في وسط الميدان، وطرحوا ذلك المقتول في النار حتى استوى، فقدَّموه لسعدان، فنهش لحمه ومرمش عظمه، فلما نظر الكفار ما فعل غول الجبل، فزعوا فزعًا شديدًا، فصاح عجيب على قومه وقال: ويلكم، فاحملوا على هذا الغول واضربوه بسيوفكم وقطِّعوه. فحمل عشرون ألفًا على سعدان ودارت حوله الرجال، ورشقوه بالنبال والنشاب، فصار فيه أربعة وعشرون جرحًا، وجرى دمه على الأرض وصار وحده، فعند ذلك حملت أبطال المسلمين على المشركين، واستغاثوا برب العالمين، ولم يزالوا في حرب وقتال حتى فرغ النهار، فافترقوا من بعضهم وقد أُسِر سعدان وهو مثل السكران من نزيف الدم، وشدوا وثاقه وأضافوه إلى غريب. فلما نظر غريب إلى سعدان وهو أسير قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وقال له: يا سعدان، ما هذا الحال؟ فقال: يا مولاي، حكم الله سبحانه وتعالى بالشدة والفرج، ولا بد من هذا وهذا. قال: صدقتَ يا سعدان. وبات عجيب وهو فرحان وقال لقومه: اركبوا غدًا واهجموا على عسكر المسلمين حتى لا يبقى منهم بقية. فقالوا: سمعًا وطاعةً.

وأما ما كان من أمر المسلمين، فإنهم باتوا وهم منهزمون باكون على ملكهم وعلى سعدان، فقال لهم سهيم: يا قوم، لا تهتموا، ففرج الله تعالى قريب. ثم صبر سهيم إلى نصف الليل، وتوجَّهَ إلى عسكر عجيب، ولم يزل يخترق المضارب والخيام حتى وجد عجيبًا جالسًا على سرير عزِّه والملوك حوله، كلُّ هذا وسهيم في صفة فرَّاش، وتقدَّمَ إلى الشمع الموقود وقطف زهرته وأشعله بالبنج الطيار، وخرج منه خارج السرادق، وصبر ساعة حتى طلع دخان البنج على عجيب وملوكه، فوقعوا على الأرض كأنهم موتى، فتركهم سهيم وأتى إلى خيمة السجن، فوجد فيها غريبًا وسعدان، ووجد عليها ألف بطل وقد غلبهم النعاس، فصاح عليهم سهيم وقال: ويلكم لا تناموا واحتفظوا على غريمكم وأوقدوا المشاعل. ثم أخذ سهيم مشعلًا وأشعله بالحطب وملأه بنجًا، ودار حول الخيمة، فطلع دخان البنج ودخل في خياشيمهم، فرقدوا جميعهم وتبنج جميع العسكر من دخان البنج فرقدوا، وكان مع سهيم الليل الخلُّ في إسفنجة، فنشقهما حتى أفاقَا وقد حلهما من السلاسل والأغلال، فنظرا إلى سهيم ودعوا له وفرحَا به، ثم خرجوا وحملوا جميع السلاح من الحراس، وقال لهم: امضوا إلى عسكركم. فساروا ودخل سهيم إلى سرادق عجيب ولفه في برده وحمله وسار قاصدًا خيام المسلمين، وقد ستر عليه الرب الرحيم حتى وصل إلى سرادق غريب وحلَّ البردة، فنظر غريب إلى ما في البردة فوجده أخاه عجيبًا وهو مكتَّف، فصاح: الله أكبر، فتح ونصر. ودعا غريب لسهيم وقال: يا سهيم نبِّهْه. فتقدَّمَ وأعطاه الخلَّ من الكندز، فأفاق من البنج وفتح عينيه، فوجد روحه مكتَّفًا مقيَّدًا، فأطرق رأسه إلى الأرض. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 640﴾

قال: بلغني أيها الملك السعيد، أن عجيبًا لما قبضه سهيم وبنَّجَه، جاء به عند أخيه غريب ونبَّهَه، ففتح عينَيْه فوجد نفسه مكتَّفًا مقيَّدًا، فأطرق رأسه إلى الأرض، فقال له: يا ملعون، ارفع رأسك. فرفع رأسه فوجد نفسه بين عجم وعرب، وأخوه جالس على سرير ملكه ومحل عزِّه، فسكت ولم يتكلم، فصاح غريب وقال: أعروا هذا الكلب. فأعروه ونزلوا عليه بالسياط حتى أضعفوا جسمه وأخمدوا حسه، وحرس عليه مائة فارس، فلما فرغ غريب من عذاب أخيه، سمعوا التهليل والتكبير في خيام الكفار، وكان السبب في ذلك أن الملك الدامغ عم غريب، لما رحل غريب من عنده من الجزيرة أقام بعد رحيله عشرة أيام، ثم ارتحل بعشرين ألف فارس، وسار حتى صار قريبًا من الوقعة، فأرسل ساعي ركابه يكشف له الأخبار، فغاب يومًا ثم عاد وأخبر الملك الدامغ بما جرى لغريب مع أخيه، فصبر حتى أقبل الليل ثم كبَّرَ على الكفار ووضع فيهم الصارم، فسمع غريب وقومه التكبير، فصاح غريب على أخيه سهيم الليل وقال له: اكشف لنا خبر هذا العسكر، وما سبب هذا التكبير؟ فذهب سهيم حتى قرب من الوقعة وسأل الغلمان، فأخبروه أن الملك الدامغ عم غريب وصل في عشرين ألف فارس وقال: وحقِّ الخليل إبراهيم ما أترك ابن أخي، بل أعمل عمل الشجعان، وأردع القوم الكافرين، وأرضي الملك الجبَّار. ثم هجم بقومه في ظلام الليل على القوم الكَفَرة، فرجع سهيم إلى أخيه غريب وأخبره بما عمل عمه، فصاح على قومه وقال لهم: احملوا سلاحكم واركبوا خيولكم وساعدوا عمي. فركب العسكر وهجموا على الكفار ووضعوا فيهم الصارم البتار، فما أصبح الصباح حتى قتلوا من الكفار نحو خمسين ألفًا، وأسروا نحو ثلاثين ألفًا، وانهزم باقيهم في الأرض طولًا وعرضًا، ورجع المسلمون مؤيَّدين منصورين، وركب غريب ولاقى عمه الدامغ وسلَّمَ عليه وشكره على فعله، وقال الدامغ: يا ترى هذا الكلب وقع في هذه الوقعة؟ فقال غريب: يا عم، طبْ نفسًا وقرَّ عينًا، واعلم أنه عندي مربوط. ففرح الدامغ فرحًا شديدًا، ودخلوا الخيام وترجَّل الملكان ودخلَا السرادق فما وجدا عجيبًا، فصاح غريب وقال: يا جاه إبراهيم الخليل عليه السلام. ثم قال: يا له من يوم عظيم ما أشنعه! وصاح على الفراشين وقال: يا ويلكم أين غريمي؟ فقالوا: لما ركبتَ وسرنا حولك لم تأمرنا بسجنه. فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فقال له عمه: لا تعجل ولا تحمل همًّا، فأين يروح ونحن له في الطلب؟

وكان السببَ في هروب عجيبٍ غلامُه سيَّار، فإنه كان في العسكر كامنًا، فما صدق بركوب غريب وما ترك في الخيام مَن يحرس غريمه، فصبر وأخذ عجيبًا وحمله على ظهره، وتوجَّهَ إلى البر وعجيب مدهوش من ألم العذاب، ثم سار به يجدُّ السيرَ من أول الليل إلى ثاني يوم حتى وصل به إلى عين ماء عند شجرة تفاح، فنزَّلَه عن ظهره وغسل وجهه، ففتح عينَيْه فوجد سيَّارًا، فقال له: يا سيَّار، رح بي الكوفة حتى أفيق وأجمع الفرسان والجيوش والعساكر وأقهر بها عدوي، واعلم يا سيَّار أني جوعان. فنهض سيَّار إلى الغابة واصطاد فرخ نعام، وأتى به مولاه وذبحه وقطعه، وجمع الحطب وقدح الزناد وأشعل النار وشواه، وأطعمه وسقاه من العين، فرُدَّتْ روحه، ومضى سيَّار إلى بعض أحياء العرب وسرق منهم جوادًا وأتى به عجيبًا، فأركبه وقصد به الكوفة، فسارَا أيامًا حتى وصلَا قريبًا من المدينة، فخرج النائب لملتقى الملك عجيب وسلَّمَ عليه، فوجده ضعيفًا من العذاب الذي عذَّبَه إياه أخوه، فدخل المدينة ودعا الملك بالحكماء فحضروا، فقال لهم: داووني في أقل من عشرة أيام. فقالوا: سمعًا وطاعةً. وجعل الحكماء يلاطفون عجيبًا حتى شفي وتعافى من المرض الذي كان فيه ومن العذاب، ثم أمر وزيره أن يكتب الكتب إلى جميع النوَّاب، فكتب واحدًا وعشرين كتابًا وأرسلهم إليهم، فجهَّزوا العساكر وقصدوا الكوفة مُجِدِّين السير. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 641﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن عجيبًا أرسل يحضر العسكر فقصدوا الكوفة وحضروا، وأما غريب فإنه صار متأسفًا على هروب عجيب، وأرسل خلفه ألف بطل وفرَّقَهم في جميع الطرق، فساروا يومًا وليلة فلم يجدوا له خبرًا، ثم رجعوا وأخبروا غريبًا، فطلب أخاه سهيمًا فما وجده، فخاف عليه من نوائب الزمان واغتمَّ غمًّا شديدًا. فبينما هو كذلك وإذا بسهيم داخل عليه، وقبَّلَ الأرض بين يديه، فقام غريب لما نظر إليه وقال: أين كنتَ يا سهيم؟ فقال له: يا ملك، قد وصلتُ إلى الكوفة فوجدتُ الكلبَ عجيبًا وصل إلى محل عزِّه، وأمر الحكماء أن يداووه مما به، فداووه فتعافى وكتب الكتب وأرسَلَها لنوَّابه فأتوه بالعساكر. فأمر غريب عسكره بالرحيل، فهدوا الخيام وصاروا قاصدين الكوفة، فلما وصلوا إليها وجدوا لها عساكر مثل البحر الزاخر، ليس لها أول من آخِر، فنزل غريب بعسكره مقابل عسكر الكفار، ونصبوا الخيام وأقاموا الأعلام، ودخل على الطائفتين الظلام، فأوقدوا النيران وتحارس الفريقان حتى طلع النهار، فقام الملك غريب توضَّأَ وصلَّى ركعتين على ملة أبينا الخليل إبراهيم عليه السلام، وأمر بدقِّ طبول الحرب فدقت، والأعلام خفقت، والفرسان لدروعها لبست، ولخيولها ركبت، ولأنفسها أشهرت، ولميدان الحرب طلبت، فأول مَن فتح باب الحرب الملك الدامغ عم الملك غريب، وقد ساق جواده بين الصفين، واشتهر بين الفريقين، ولعب بالرمحين والسيفين، حتى حيَّرَ الفرسان، وتعجَّبَ منه الفريقان، فصاح: هل من مبارز؟ لا يأتِني كسلان ولا عاجز؟ أنا الملك الدامغ أخو الملك كندمر. فبرز له بطل من فوارس الكفار، كأنه شعلة نار، وحمل على الدامغ من غير كلام، فلاقاه الدامغ وطعنه في صدره، فخرج السنان من كتفه، وعجَّلَ الله بروحه إلى النار وبئس القرار.

وبرز له الثاني فقتله، والثالث فقتله، ولم يزل كذلك حتى قتل منهم ستةً وسبعين رجلًا أبطالًا، فعند ذلك توقفت الرجال والأبطال عن المبارزة، فصاح الكافر عجيب على قومه وقال: ويلكم يا قوم، إن برزتم له جميعًا واحدًا بعد واحد، فإنه لا يُبقِي منكم أحدًا قائمًا ولا قاعدًا، فاحملوا عليه حملة واحدة حتى تتركوا الأرض منهم خالية ورءوسهم تحت حوافر الخيل مجندلة. فعند ذلك هزوا العلم المدهش، وانطبقت الأمم على الأمم، وسال الدم على الأرض وانسجم، وحكم قاضي الحرب وفي حكمه ما ظلم، وثبت الشجاع في مقام الحرب راسخ القدم، وولَّى الجبان وانهزم، وما صدق أن ينقضي النهار ويُقبِل الليل بجندس الظلام، ولم يزالوا في حرب وقتال وضرب نصال، حتى ولَّى النهار وأظلم الليل بالاعتكار؛ فعند ذلك دقَّ الكفار طبل الانفصال، فما رضي غريب بل هجم على المشركين وتبعه المؤمنون الموحِّدون، فكم قطعوا رءوسًا ورقابًا، وكم مزَّقوا أيادي وأصلابًا، وكم هشَّموا ركبًا وأعصابًا، وكم أهلكوا كهولًا وشبابًا، فما أصبح الصباح إلا وقد عزم الكفار على الهروب والرواح، وقد انهزموا عند انشقاق الفجر الوضاح، وتبعهم المسلمون إلى وقت الظهر وقد أسروا منهم ما يزيد عن عشرين ألفًا، وقد أتَوْا بهم مكتَّفين، ونزل غريب على باب الكوفة وأمر مناديًا أن ينادي في المدينة المذكورة بالأمان والاطمئنان، لمَن يترك عبادة الأصنام ويوحِّد الملك العلَّام، خالق الآنام والضياء والظلام. فعند ذلك نادوا في شوارع المدينة كما قال بالأمن، وأسلَمَ كلُّ مَن كان فيها كبارًا وصغارًا، وخرجوا كلهم جددوا إسلامهم قدام الملك غريب، وقد فرح بهم غاية الفرح واتسع صدره وانشرح.

ثم سأل عن مرداس وبنته مهدية، فأخبروه أنه كان نازلًا خلف الجبل الأحمر، فعند ذلك أرسل إلى أخيه سهيم فحضر عنده فقال له: اكشف لي عن خبر أبيك. فركب جواده وما تأخَّر، وقد اعتقل رمحه الأسمر وما قصَّر، وسار متوجِّهًا إلى الجبل الأحمر، وفتَّشَ فما رأى له خبرًا ولا لقومه أثرًا، ورأى مكانهم شيخًا من العرب كبير السن، حطيمًا من كثرة السنين، فسأله سهيم عن حال الرجال وأين مضوا؟ فقال له: يا ولدي، إن مرداسًا لما سمع بنزول غريب على الكوفة خاف خوفًا عظيمًا، وأخذ بنته وقومه وجميع جواريه وعبيده، وسار في تلك البراري والقفار، ولا أدري أين توجه. فلما سمع سهيم كلام الشيخ رجع إلى أخيه وأعلَمَه بذلك، فاغتمَّ غمًّا شديدًا، وجلس على سرير ملك أبيه، وفتح خزائنه وفرَّقَ الأموال على جميع الأبطال، وأقام في الكوفة وأرسل الجواسيس تكشف أمر عجيب، وأمَرَ بإحضار أرباب الدولة، فأتوه طائعين، وكذلك أهل المدينة، وخلع عليهم الخلع السنية وأوصاهم بالرعية. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 642﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن غريبًا لما خلع على أهل الكوفة وأوصاهم بالرعية، ركب في بعض الأيام إلى الصيد والقنص، وخرج في مائة فارس وسار إلى أن وصل إلى وادٍ ذي أشجار وأثمار، كثير الأنهار والأطيار، ومرتع للظبي والغزلان، ترتاح إليه النفوس وتنعش روائحه من فترة العكوس، فأقاموا فيه ذلك اليوم، وكان يومًا مزهرًا، وباتوا فيه إلى الصباح، فصلَّى غريب ركعتين بعد الوضوء وحمد الله تعالى وشكره، وإذا بصراخ وهرج لهما طنين في ذلك المرج، فقال غريب لسهيم: اكشف لنا الأخبار. فمرق من وقته وسار حتى رأى أموالًا منهوبة، وخيلًا مجنوبة، وحريمًا مسبيَّة وأولادًا وصياحًا، فسأل بعض الرعاة وقال لهم: أي شيء الخبر؟ قالوا: هذا حريم مرداس سيد بني قحطان وأمواله وأموال الحي الذي معه؛ فإن الجمرقان بالأمس قتل مرداسًا ونهب أمواله وسبى عياله، وأخذ أموال الحي جميعه؛ والجمرقان من دأبه شنُّ الغارات وقطع الطرقات، وهو جبَّار عنيد ما تقدر عليه العربان ولا الملوك؛ لأنه شر مكان.

فلما سمع سهيم بقتل أبيه وسبي الحريم ونهب الأموال، عاد إلى أخيه غريب وأعلمه بذلك، فازداد نارًا على نار وهاجت به الحمية لكشف العار وأخذ الثأر، فركب في قومه طالبين الفرصة، وسار إلى أن وصل إلى القوم فصاح على الرجال: الله أكبر على مَن طغى وبغى وكفر. وقتل منهم في حملة واحدة واحدًا وعشرين بطلًا، ثم وقف في حومة الميدان بقلب غير جبان وقال: أين الجمرقان؟ يبرز لي حتى أذيقه كأس الهوان وأخلي منه الأوطان. فما فرغ غريب من كلامه حتى برز الجمرقان كأنه جلة من الجلل، أو قطعة من جبل بالحديد مسربل، وكان عملاقًا طويلًا جدًّا، فصدم غريبًا صدمة جبَّار عنيد من غير كلام ولا سلام، فحمل عليه غريب ولاقاه كالأسد الضاري، وكان مع الجمرقان عمود من الحديد الصيني ثقيل رزين، لو ضرب به جبلًا لهدمه، فحمله في يده وضرب به غريبًا على رأسه، فزاغ عنه غريب، فنزلت في الأرض فغاصت فيها نصف ذراع، ثم إن غريبًا تناوَلَ الدبوس وضرب الجمرقان على مقبض كفِّه، فهرس أصابعه فوقع العمود من يده، فانحنى غريب من بحر سرجه وخطفه أسرع من البرق الخاطف، وضرب به الجمرقان على صف أضلاعه، فوقع على الأرض كالنخلة السحوق، فأخذه سهيم وأدار كتافه وسحبه بحبل، واندفعت فرسان غريب على فرسان الجمرقان، فقتلوا خمسين وولَّى الباقي هاربين، ولم يزالوا في هزيمتهم حتى وصلوا حيهم وأعلنوا بالصياح، فركب كلُّ مَن في الحصن ولاقوهم وسألوهم عن الخبر، فأعلموهم بما كان، فلما سمعوا بأسر سيدهم تسابقوا إلى خلاصه وساروا قاصدين الوادي.

وكان الملك غريب لما أسر الجمرقان وهربت أبطاله، نزل عن جواده وأمر بإحضار الجمرقان، فلما حضر خضع له وقال: أنا في جيرتك يا فارس الزمان. فقال له غريب: يا كلب العرب، هل تقطع الطريق على عباد الله تعالى ولا تخاف من رب العالمين؟ فقال له الجمرقان: يا سيدي، وما رب العالمين؟ قال غريب: يا كلب، وما تعبد من المصائب؟ قال له: يا سيدي، أعبد إلهًا من عجوة بالسمن والعسل، وفي بعض الأوقات آكله وأعمل غيره. فضحك غريب حتى استلقى على قفاه وقال: يا تعيس، ما يُعبَد إلا الله تعالى الذي خلقك وخلق كل شيء، ورزق كل حي، ولا يخفى عليه شيء، وهو على كل شيء قدير. فقال الجمرقان: وأين هذا الإله العظيم حتى أعبده؟ قال له غريب: يا هذا، اعلم أن ذلك الإله اسمه الله، وهو الذي خلق السموات والأرض، وأنبت الأشجار وأجرى الأنهار، وخلق الوحوش والأطيار، والجنة والنار، واحتجب عن الأبصار، يَرَى ولا يُرَى، وهو بالمنظر الأعلى، وهو الذي خلقنا ورزقنا سبحانه لا إله إلا هو. فلما سمع الجمرقان كلام غريب انفتحت مسامع قلبه واقشعرَّ جلده وقال: يا مولاي، فما أقول حتى أصير منكم ويرضى عليَّ هذا الرب العظيم؟ قال له: قل لا إله إلا الله إبراهيم الخليل رسول الله. فنطق الجمرقان بالشهادة، فكُتِب من أهل السعادة، فقال له: هل ذقتَ حلاوةَ الإسلام؟ قال: نعم. قال غريب: حلُّوا قيوده. فحلوها، فقبَّلَ الأرض قدام غريب وقبَّلَ رجل غريب، فبينما هم كذلك وإذا بغبار قد ثار حتى سد الأقطار. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 643﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجمرقان لما أسلم قبَّلَ الأرض بين يدي غريب، فبينما هم كذلك وإذا بغبار قد ثار حتى سد الأقطار، فقال غريب: يا سهيم، اكشف لنا خبر هذا الغبار. فخرج مثل الطير إذا طار، وغاب ساعة ثم عاد وقال: يا ملك الزمان، هذا غبار بني عامر أصحاب الجمرقان. فقال له: اركب ولاق قومك واعرض عليهم الإسلام، فإن أطاعوك سلموا وإن أَبَوْا أعملنا فيهم الحسام. فركب الجمرقان وساق جواده حتى لاقاهم وصاح عليهم، فعرفوه ونزلوا عن الخيل وأَتَوْا على أقدامهم وقالوا: قد فرحنا بسلامتك يا مولانا. فقال: يا قوم، مَن أطاعني نجا، ومَن خالفني قصمته بهذا الحسام. فقالوا له: مُرنا بما شئتَ، فإننا لا نخالف لك أمرًا. قال: قولوا معي: لا إله إلا الله إبراهيم خليل الله. فقالوا: يا مولانا، من أين لك هذا الكلام؟ فحكى لهم ما جرى له مع غريب وقال لهم: يا قوم، أَمَا تعلمون أني معادل بكم في حومة الميدان ومقام الحرب والطعان؟ وقد أسرني فرد إنسان وأذاقني الذل والهوان. فلما سمع قومه كلامه نطقوا بكلمة التوحيد، ثم توجَّهَ بهم الجمرقان إلى غريب وجددوا إسلامهم بين يديه، ودعوا له بالنصر والعز بعد أن قبَّلوا الأرض، ففرح بهم وقال لهم: امضوا إلى حيِّكم واعرضوا عليهم الإسلام. فقال الجمرقان وقومه: يا مولانا، ما بقينا نفارقك، ولكن نروح نجيء بأولادنا ونأتي إليك. فقال غريب: يا قوم، امضوا والحقوني في مدينة الكوفة. فركب الجمرقان وقومه حتى وصلوا حيَّهم وعرضوا على حريمهم وأولادهم الإسلام فأسلموا عن آخرهم، وهدوا البيوت والخيام، وساقوا الخيل والجمال والغنم وساروا إلى نحو الكوفة، وسار غريب، فلما وصل إلى الكوفة لاقاه الفرسان بموكب، ثم دخل قصر الملك وجلس على تخت أبيه، ووقفت الأبطال ميمنة وميسرة، ودخل عليه الجواسيس وأخبروه أن أخاه وصل إلى الجلند بن كركر صاحب مدينة عمان وأرض اليمن؛ فلما سمع غريب خبر أخيه صاح على قومه وقال: يا قوم، خذوا أهبتكم للسفر بعد ثلاثة أيام. وعرض على الثلاثين ألفًا الذين أسروهم أول الوقعة الإسلام والسير معهم، فأسلم منهم عشرون ألفًا وأبَى عشرة آلاف فقتلهم، ثم قدم الجمرقان وقومه وقبَّلوا الأرض بين يديه وخلع عليهم الخلع السنية، وجعله مقدم الجيش وقال: يا جمرقان، اركب في كبار بني عمك وعشرين ألف فارس وسِرْ في مقدم العسكر، واقصد بلاد الجلند بن كركر صاحب مدينة عمان. فقال: السمع والطاعة. فتركوا حريمهم وأولادهم في الكوفة ورحلوا.

ثم تفقَّدَ حريم مرداس، فوقعت عينه على مهدية وهي بين النساء، فوقع مغشيًّا عليه، فرشوا على وجهه ماء الورد، فلما أفاق اعتنقها ودخل بها قاعة الجلوس، ثم جلس معها ونامَا من غير زنًى حتى أصبح الصباح، فخرج وجلس على سرير ملكه وخلع على عمه الدامغ وجعله نائبًا على العراق جميعه، وأوصاه على مهدية حتى يرجع من غزوة أخيه، فامتثل أمره، ثم رحل في عشرين ألف فارس وعشرة آلاف راجل، وسار متوجِّهًا إلى أرض عمان وبلاد اليمن، وكان عجيب قد وصل مدينة عمان بقومه وهم منهزمون، وقد ظهر لأهل عمان غبارهم، فنظر الجلند بن كركر ذلك الغبار، فأمر السعاة أن يكشفوا له الخبر، فغابوا ساعةً ثم عادوا وأخبروه أن هذا غبار ملكٍ يقال له عجيب صاحب العراق، فتعجَّبَ الجلند من مجيء عجيب إلى أرضه، فلما صحَّ ذلك عنده قال لقومه: اخرجوا ولاقوه. فخرجوا ولاقوا عجيبًا ونصبوا له الخيام على باب المدينة، وطلع عجيب إلى الجلند وهو باكٍ حزين القلب، وكانت بنت عم عجيب زوجةَ الجلند وله أولاد منها، فلما نظر صهره وهو في هذه الحالة قال له: أَعْلِمْني ما خبرك؟ فحكى له جميع ما جرى له من أوله إلى آخره مع أخيه، وقال له: يا ملك، إنه يأمر الناسَ بعبادة رب السماء، وينهاهم عن عبادة الأصنام وغيرها من الآلهة. فلما سمع الجلند هذا الكلام طغى وبغى وقال: وحق الشمس ذات الأنوار، لا أُبْقِي من قوم أخيك ديَّارًا، فأين تركتَ القوم؟ وكم هم؟ قال: تركتهم بالكوفة، وهم خمسون ألف فارس. فصاح على قومه وعلى وزيره جوامرد وقال له: خذ معك سبعين ألف فارس، واذهب إلى المسلمين وائتني بهم بالحياة حتى أعاقبهم بأنواع العذاب. فركب جوامرد بالجيش قاصدًا الكوفة أول يوم وثاني يوم إلى سابع يوم، فبينما هم سائرون إذ نزلوا على وادٍ ذي أشجار وأنهار وأثمار، فأمر جوامرد قومَه بالنزول. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 644﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن جوامرد لما أرسله الجلند بالعسكر إلى الكوفة، مروا على وادٍ ذي أشجار وأنهار، فأمر قومه بالنزول واستراحوا إلى نصف الليل، ثم أمرهم جوامرد أن يرحلوا، وركب جواده وسبقهم وسار إلى وقت السَّحَر، ثم انحدروا إلى وادٍ كبير الأشجار قد فاحت أزهاره، وترنَّمَتْ أطياره، وتمايلت أغصانه، فنفخ الشيطان في معاطفه، فأنشد هذه الأبيات:

أَخُوضُ بِجَيْشِي بَحْرَ كُلِّ عَجَاجَةٍ        أَقُودُ الْأَسَارَى بِاجْتِهَادِي وَقُوَّتِي

وَتَعْلَمُ فُرْسَانُ الْبِلَادِ بِأَنَّنِي        مُهَابٌ لَدَى الْفُرْسَانِ حَامِي عَشِيرَتِي

سَأَسْبِي غَرِيبًا فِي الْقُيُودِ مُكَبَّلًا        وَأَرْجَعُ مَسْرُورًا وَتَكْمُلُ فَرْحَتِي

وَأَلْبَسُ دِرْعِي ثُمَّ آخُذُ عُدَّتِي        وَأَمْضِي إِلَى الْهَيْجَاءِ فِي كُلِّ وُجْهَتِي

فما فرغ جوامرد من شعره حتى خرج عليه من بين الأشجار فارس أشم المعاطس، في الحديد غاطس، فصاح على جوامرد وقال له: قف يا شلح العرب واشلح ثيابك وعدتك، وانزل عن جوادك وانجُ بنفسك. فلما سمع جوامرد هذا الكلام، صار الضياء في وجهه ظلامًا، وسلَّ حسامه وهجم على الجمرقان وقال له: يا شلح العرب، أتقطع الطريقَ عليَّ وأنا مقدم جيش الجلند بن كركر، لأجيء بغريب وقومه مربوطين. فلما سمع الجمرقان هذا الكلام قال: ما أبرده على كبدي! ثم حمل جوامرد وهو ينشد هذه الأبيات:

أَنَا الْفَارِسُ الْمَعْرُوفُ فِي حَوْمَةِ الْوَغَى        تَخَافُ الْعِدَى مِنْ صَارِمِي وَسِنَانِي

أَنَا الْجَمْرَقَانُ الْمُرْتَجَى لِكَرِيهَةٍ        وَتَعْلَمُ فُرْسَانُ الْأَنَامِ طِعَانِي

غَرِيبٌ أَمِيرِي بَلْ إِمَامِي وَسَيِّدِي        هُمَامُ الْوَغَى يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ

إِمَامٌ لَهُ دِينٌ وَزُهْدٌ وَسَطْوَةٌ        يَبِيدُ الْعِدَى فِي حَوْمَةِ الْمَيْدَانِ

وَيَدْعُو إِلَى دِينِ الْخَلِيلِ مُرَتِّلًا        عَلَى رَغْمِ أَوْثَانِ الْجُحُودِ مَثَانِي

ثم إن الجمرقان لما سار بقومه من مدينة الكوفة، استمر على السير عشرة أيام، ثم نزلوا في الحادي عشر وأقاموا إلى نصف الليل، ثم أمرهم الجمرقان بالرحيل فرحلوا، وسار قدامهم وانحدر في ذلك الوادي، فسمع جوامرد وهو ينشد ما تقدَّمَ ذِكْره، فحمل عليه حملةَ أسدٍ كاسرٍ وضربه بالسيف فشقَّه نصفين، وصبر حتى أقبل المقدمون وأعلمهم بما جرى وقال: تفرَّقُوا كل خمسة منكم تأخذ خمسة آلاف وتدور حول الوادي، وأنا ورجال بني عامر، فإذا وصلني أول الأعداء أحمل عليهم وأصيح: الله أكبر. فإذا سمعتم صياحي فاحملوا وكبِّروا واضربوا فيهم بالسيف. فقالوا: سمعًا وطاعةً. ثم داروا على أبطالهم وأعلموهم فتفرَّقوا في جهات الوادي عند انشقاق الفجر، وإذا بالقوم قد أقبلوا مثل قطيع الغنم وقد ملئوا السهل والجبل، فعند ذلك حمل الجمرقان وبنو عامر وصاحوا: الله أكبر. فسمع المؤمنون والكفار، وصاح المسلمون من سائر الجهات: الله أكبر، فتح ونصر، وخذل مَن كفر. فأوَّبت الجبال والتلال، وكل يابس وأخضر يقول: الله أكبر. فاندهش الكفار وضرب بعضهم بعضًا بالصارم البتار، وحمل المسلمون الأبرار كأنهم شعل النار، فما يُرَى إلا رأس طائر، ودم فاتر، وجبان حائر، ولم تظهر الوجوه إلا وقد فني ثلثا الكفار، وعجَّلَ الله بأرواحهم إلى النار وبئس القرار، وانهزم الباقون وتشتَّتوا في القفار، وتبعهم المسلمون يأسرون ويقتلون إلى نصف النهار، ثم رجعوا وقد أسروا سبعة آلاف، ولم يرجع من الكفار غير ستة وعشرين ألفًا وأكثرهم مجروحون، ورجع المسلمون مؤيدين منصورين، وجمعوا الخيل والعُدَد والأثقال والخيام، وأرسلوها مع ألف فارس إلى الكوفة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 645﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجمرقان لما وقع بينه وبين جوامرد القتال، قتله وقتل قومه وأسر منهم خلقًا كثيرًا وأخذ أموالهم وخيلهم وأثقالهم، وأرسلها مع ألف فارس إلى الكوفة. وأما الجمرقان وعساكر الإسلام، فإنهم نزلوا عن الخيل وعرضوا الإسلام على الأسارى فأسلموا قلبًا ولسانًا، فحلوهم من الرباط وعانقوهم وفرحوا بهم، وقد سار الجمرقان في جيش عظيم وأراح قومه يومًا وليلة، ثم رحل بهم عند الصباح قاصدًا بلاد الجلند بن كركر، وسار الألف فارس بالغنيمة حتى وصلوا إلى الكوفة، وأعملوا الملك غريبًا بما جرى، ففرح واستبشر والتفت إلى غول الجبل وقال له: اركب وخذ معك عشرين ألفًا واتبع الجمرقان. فركب سعدان الغول وأولاده في عشرين ألف فارس وقصدوا مدينة عمان، ووصل المنهزمون من الكفار إلى المدينة وهم يبكون ويدعون بالويل والثبور، فاندهش الجلند بن كركر وقال لهم: ما مصيبتكم؟ فأخبروه بما جرى لهم، فقال لهم: ويلكم، وكم كانوا؟ فقالوا: يا ملك، كانوا عشرين علمًا، وكل علم تحته ألف فارس. فلما سمع الجلند هذا الكلام قال: لا طرحت الشمس فيكم بركةً، يا ويلكم! أيغلبكم عشرون ألفًا وأنتم سبعون ألف فارس، وجوامرد مقوم بثلاثة آلاف في حومة الميدان؟ ومن شدة غمه سلَّ سيفه وصاح فيهم وقال لمَن حضر: عليكم بهم. فسلَّ القوم سيوفهم على المنهزمين، فأفنوهم عن آخِرهم ورموهم للكلاب، ثم بعد ذلك صاح الجلند على ابنه وقال له: اركب في مائة ألف فارس وامضِ إلى العراق وخرِّبه على الإطلاق. وقد كان ابن الملك الجلند اسمه القورجان، ولم يكن في عسكر أبيه أفرس منه، وكان يحمل على ثلاثة آلاف فارس، فأخرج القورجان خيامه وابتدرت الأبطال وخرجت الرجال، وأخذوا أهبتهم ولبسوا عدتهم، ورحلوا يتلو بعضهم بعضًا والقورجان قدام العسكر، وقد أعجب بنفسه وأنشد هذه الأبيات:

أَنَا الْقُورَجَانُ وَذِكْرِي اشْتَهَرْ        قَهَرْتُ أَهَالِي الْفَلَا وَالْحَضَرْ

فَكَمْ فَارِسٍ حِينَ أَرْدَيْتُهُ        يَخُورُ عَلَى الْأَرْضِ مِثْلَ الْبَقَرْ

وَكَمْ مِنْ عَسَاكِرَ فَرَّقْتُهُمْ        وَدَحْرَجْتُ هَامَاتِهِمْ كَالْأُكَرْ

فَلَا بُدَّ أَنِّي أَغْزُو الْعِرَاقَ        وَأُبْدِي دِمَاءَ الْعِدَا كَالْمَطَرْ

وَأَسْبِي غَرِيبًا وَأَبْطَالَهُ        فَيَضْحَوْا نِكَالًا لِأَهْلِ النَّظَرْ

ثم سار القوم اثني عشر يومًا، فبينما هم سائرون وإذا هم بغبار قد ثار حتى سد الأفق، فصاح القورجان على السعاة وقال: ائتوني بخبر هذا الغبار. فساروا حتى عبروا تحت الأعلام وعادوا للقورجان وقالوا: يا ملك، إن هذا غبار المسلمين. ففرح وقال لهم: هل أحصيتموهم؟ فقالوا: عددنا من الأعلام عشرين علمًا. فقال: وحق ديني ما أجرد عليهم أحدًا، وإنما أخرج لهم وحدي، وأجعل رءوسهم تحت حوافر الخيل. وكان هذا الغبار غبارَ الجمرقان، وقد نظر إلى عساكر الكفار فرآهم مثل البحر الزاخر، فأمر قومه بالنزول ونصب الخيام، فنزلوا وأقاموا الأعلام وهم يذكرون الملك العلَّام خالق النور والظلام، رب كل شيء الذي يَرَى ولا يُرَى، وهو بالمنظر الأعلى سبحانه وتعالى، لا إله إلا هو. ونزل الكفار ونصبوا خيامهم وقال لهم: خذوا أهبتكم، واحملوا عُدَدكم، ولا تناموا إلا وأنتم بأسلحتكم، فإذا كان الثلث الأخير فاركبوا ودوسوا هذه الشرذمة القليلة. وكان جاسوس الجمرقان واقفًا يسمع ما دبَّرَتْه الكفار، فعاد وأخبر الجمرقان، فالتفت لأبطاله وقال: احملوا سلاحكم وإذا أقبل الليل ائتوني بالبغال والجمال، وائتوني بالجلاجل والقلاقل والأجراس، واجعلوها في أعناق الجمال والبغال. وكانت أكثر من عشرين ألف جمل وبغل، وصبروا على الكفار حتى دخلوا في المنام، ثم أمر الجمرقان قومه بالركوب، وعلى الله توكَّلوا وطلبوا النصر من رب العالمين، ثم قال لهم: سوقوا الجمال والدواب نحو الكفار، وانخسوها بأسِنَّة الرماح. ففعلوا ما أمرهم بسائر البغال والجمال، ثم هجموا على خيام الكفار، وقد قعقعت الجلاجل والقلاقل والأجراس، والمسلمون خلفهم وهم يقولون: الله أكبر. وقد طنت الجبال والتلال بذِكْر الملك المتعال، مَن له العظمة والجلال، وهجمت الخيل لما سمعت هذه الحيلة العظيمة، وداست الخيام والناس نيام. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 646﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجمرقان لما هجم على الكفار بقومه وخيوله وجماله في الليل والناس نيام، قام المشركون مدهوشين، فخطفوا سلاحهم ووقعوا في بعضهم ضربًا حتى قُتِل أكثرهم، وقد نظروا إلى بعضهم فلم يجدوا قتيلًا من المسلمين، بل وجدوهم راكبين متسلِّحين، فعلموا أنها حيلة عُمِلت عليهم، فصاح القورجان على بقية قومه وقال: يا بني الزواني، الذي أردنا أن نفعله بهم فعلوه بنا، وقد غلب مكرهم على مكرنا. فأرادوا أن يحملوا، وإذا بغبار قد ثار حتى سدَّ الأقطار، فضربته الرياح فعَلَا وتسردق، وفى الجو تعلَّق، وبان من تحت الغبار لمعان الخود وبريق الزرد، وما معهم إلا كل بطل أمجد، قد تقلَّدَ بسيف مهند، وقد اعتقل برمح أملد، فلما نظر الكفار الغبار توقفوا عن القتال، وأرسلت كل طائفة ساعيًا، فساروا تحت الغبار، ثم نظروا وعادوا فأخبروا أنهم مسلمون، وكان الجيش القادم الذي أرسله غريب غول الجبل، وكان هو سائرًا قدام جيشه فوصل إلى عسكر المسلمين الأبرار، فعندها حمل الجمرقان وقومه وقد هجموا على الكفار كأنهم شعلة نار، وأعملوا فيهم السيف البتَّار، والرمح الرديني الخطَّار، واسودَّ النهار وعميت الأبصار من كثرة الغبار، وثبت الشجاع الكرار، وهرب الجبان الفرار، وطلب البراري والقفار، وصار الدماء على الأرض كالتيار.

ولم يزالوا في حرب وقتال حتى فرغ النهار، وأقبل الليل بالاعتكار، ثم انفصل المسلمون من الكفار، ونزلوا في الخيام وأكلوا الطعام، وباتوا حتى ولَّى الظلام وأقبل النهار بالابتسام، ثم صلَّى المسلمون صلاة الصبح وركبوا للحرب، وكان القورجان قد قال لقومه لما انفصلوا من الحرب، وقد وجدوا أكثرهم مجروحًا، وقد فني منهم الثلثان بالسيف والسنان، فقال: يا قوم، غدًا أبرز أنا لحومة الميدان، ومقام الحرب والطعان، وآخذ الشجعان في المجال. فلما أصبح الصباح، وأضاء بنوره ولاح، ركب الطائفتان وأكثروا الصياح، وشهروا السلاح ومدُّوا سمر الرماح، واصطفوا للحرب والكفاح، وكان أول مَن فتح باب الحرب القورجان بن الجلند بن كركر وقال: لا يأتِني اليومَ كسلان ولا عاجز. كل هذا والجمرقان وسعدان الغول تحت الأعلام، فبرز مقدم بني عامر وبارَزَ القورجان في حومة الميدان، فحمل الاثنان كأنهما كبشان يتناطحان مدةً من الزمان، بعد ذلك هجم القورجان على المقدم ومسكه من جلباب ذراعه وجذبه، فاقتلعه من سرجه، وقد خبطه في الأرض وأشغله بنفسه، فكتَّفَه الكفار وساروا به إلى الخيام. ثم إن القورجان جال وصال وطلب النزال، فبرز له ثاني مقدم حتى أسر سبعة مقدمين قبل الظهر. ثم صاح الجمرقان صيحة دوى لها الميدان، وسمعها العسكران، وهجم على القورجان بقلب وجدان، وأنشد هذه الأبيات:

أَنَا الْجَمْرَقَانُ قَوِيُّ الْجَنَانِ        جَمِيعُ الْفَوَارِسِ تَخْشَى قِتَالِي

هَدَمْتُ الْحُصُونَ وَخَلَّيْتُهَا        تَنُوحُ وَتَبْكِي لِفَقْدِ الرِّجَالِ

فَيَا قُورَجَانُ طَرِيقَ الْهُدَى        عَلِيكَ وَفَارِقْ طَرِيقَ الضَّلَالِ

وَوَحِّدْ إِلَهًا رَفِيعَ السَّمَاءِ        وَمُجْرِي الْبُحُورِ وَمُرْسِي الْجِبَالِ

إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ يَأْوِي غَدًا        جَنَانًا وَيُكْفَى أَلِيمُ النِّكَالِ

فلما سمع القورجان كلام الجمرقان، شخر ونخر وسبَّ الشمس والقمر، وحمل على الجمرقان وهو ينشد هذه الأبيات:

أَنَا الْقُورَجَانُ شَجِيعُ الزَّمَانِ        وَتَفْزَعُ أُسْدُ الشَّرَى مِنْ خَيَالِي

مَلَكْتُ الْقِلَاعَ وَصُدْتُ السِّبَاعَ        وَكُلُّ الْفَوَارِسِ تَخْشَى قِتَالِي

فَيَا جَمْرَقَانُ إِذَا لَمْ تَثِقْ        بِقَوْلِي فَدُونَكَ بَارِزْ نَزَالِي

فلما سمع الجمرقان كلامه، حمل عليه بقلب قوي وتضاربا بالسيوف حتى ضجَّتْ منهم الصفوف، وتطاعنا بالرماح وكثر بينهما الصياح، ولم يزالَا في حرب وقتال حتى فات العصر وقد ولَّى النهار، ثم هجم الجمرقان على القورجان، وضربه بالعمود على صدره فألقاه على الأرض مثل جذع النخلة، فكتَّفَه المسلمون وسحبوه بحبل مثل الجمال، فلما نظرت الكفار إلى سيدهم أسيرًا، أخذتهم حمية الجاهلية، فحملوا على المسلمين يريدون خلاص مولاهم، فقابلتهم أبطال المسلمين وتركتهم على الأرض مطروحين، وولَّى بقيتهم هاربين، وللنجاة طالبين، والسيف في قفاهم له طنين، فلم يزالوا خلفهم حتى شتَّتوهم في الجبال والقفار، ثم رجعوا عنهم إلى الغنيمة وكانت شيئًا كثيرًا، من خيل وخيام وغيرهما، وقد غنموا غنيمة يا لها من غنيمة! ثم توجهوا وعرض الجمرقان الإسلام على القورجان، وهدَّده وخوَّفه فلم يُسلِم، فقطعوا رقبته وحملوا رأسه على رمح، ثم رحلوا قاصدين مدينة عمان.

وأما ما كان من أمر الكفار، فإنهم أخبروا الملك بقتل ولده وهلاك العسكر، فلما سمع الجلند هذا الخبر، ضرب بتاجه الأرض ولطم على وجهه حتى طلع الدم من منخريه، ووقع على الأرض مغشيًّا عليه، فرشوا على وجهه ماءَ الورد، فأفاق وصاح على وزيره وقال له: اكتب الكتب إلى جميع النواب، ومُرْهم ألَّا يتركوا ضارب سيف ولا طاعنًا برمح ولا حاملَ قوس إلا ويأتون بهم جميعًا. فكتب الكتب وأرسلها مع السعاة، فتجهَّزَ النوَّاب، وسار في عسكر جرَّار قدره مائة ألف وثمانون ألفًا، فهيَّئُوا الخيام والجِمال وجياد الخيل، وأرادوا أن يرحلوا، وإذ بالجمرقان وسعدان الغول قد أقبلَا في سبعين ألف فارس كأنهم ليوث عوابس، وكل منهم في الحديد غاطس؛ فلما نظر الجلند إلى المسلمين قد أقبلوا فَرِح وقال: وحقِّ الشمس ذات الأنوار، ما أُبْقِي من الأعداء ديَّارًا ولا مَن يرد الأخبار، وأخرب العراق وآخذ ثأر ولدي الفارس المغوار، ولا تبرد لي نار. ثم التفت إلى عجيب وقال له: يا كلب العراق، هذه جلبتك لنا، فأنا وحق معبودي إن لم أنتصف من عدوي لأقتلنَّكَ أشرَّ قتلة. فلما سمع عجيب هذا الكلام اغتمَّ غمًّا شديدًا وصار يلوم نفسه، ثم صبر حتى نزل المسلمون ونصبوا خيامهم وأظلم الليل، وكان منعزلًا عن الخيام مع مَن بقي من عشيرته، فقال لهم: يا بني عمي، اعلموا أنه لما أقبل المسلمون، فزعت منهم أنا والجلند غاية الفزع، وقد علمتُ أنه لم يقدر أن يحميني من أخي ولا من غيره، والرأي عندي أن ترحلوا بنا إذا نامت العيون، ونقصد الملك يعرب بن قحطان؛ لأنه أكثر جندًا وأقوى سلطانًا. فلما سمع قومه هذا الكلام قالوا: هذا هو الصواب. فأمرهم أن يوقدوا النار على أبواب الخيام، ويرحلوا في حندس الظلام، ففعلوا ما أمرهم به وساروا، فما أصبحوا حتى قطعوا بلادًا بعيدة.

ثم أصبح الجلند ومائتان وستون ألفَ مدرَّع غاطسين في الحديد والزرد النضيد، ودقوا كئوس الحرب واصطفوا للطعن والضرب، وركب الجمرقان وسعدان في أربعين ألف فارس أبطال شداد، تحت كل علم ألف فارس شداد جياد، مقدمون في الطراد، فاصطفَّ العسكران وطلبَا الضرب والطعان، وسحبا السيوف وأسنة المران، لشرب كأس المنون، وكان أول من فتح باب الحرب سعدان، وهو كأنه جبل صوان أو من مَرَدة الجان، فبرز له بطل من الكفار فقتله ورماه في الميدان، وصاح على أولاده وغلمانه وقال: أشعلوا النار واشووا هذا القتيل. ففعلوا ما أمرهم به وقدَّموه له مشويًّا، فأكله ونهش عظمه، والكفار واقفون ينظرون من بعيد، فقالوا: يا للشمس ذات الأنوار! وفزعوا من قتال سعدان، فصاح الجلند في قومه وقال: اقتلوا هذا القرمان. فنزل له مقدم من الكفار فقتله سعدان، ولم يزل يقتل فارسًا بعد فارس حتى قتل ثلاثين فارسًا، فعندها توقَّفَ الكفار اللئام عن قتال سعدان وقالوا: مَن يقاتل الجان والغيلان؟ فصاح الجلند وقال: تحمل عليه مائة فارس وتأتيني به أسيرًا أو قتيلًا. فبرز مائة فارس وحملوا على سعدان وقصدوه بالسيوف والسنان، فتلقَّاهم بقلب أقوى من الصوان، وهو يوحِّد الملك الديَّان، الذي لا يشغله شأن عن شأن، وقال: الله أكبر. وضرب فيهم بالسيف حتى ألقى رءوسهم، فما جال فيهم غير جولة واحدة، فقتل منهم أربعة وسبعين وهرب الباقي، فصاح الجلند على عشرة مقدمين تحت كل مقدم ألف بطل وقال: ارموا جواده بالنبل حتى يقع من تحته فاقبضوه باليد. فحمل على سعدان عشرة آلاف فارس، فتلقَّاهم بقلب قوي، فنظر الجمرقان والمسلمون إلى الكفار وقد حملوا على سعدان، فكبَّروا وحملوا عليهم، فما وصلوا إلى سعدان حتى قتلوا جواده وأخذوه أسيرًا، ولم يزالوا حاملين على الكفار حتى أظلم النهار، وعميت الأبصار، ورنَّ السيف البتَّار، وثبت كل فارس مغوار، ولحق الجبان والانبهار، وبقي المسلمون في الكفار كالشامة البيضاء في الثور الأسود. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 647﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الحرب اشتدَّ بين المسلمين والكفار حتى صار المسلمون في الكفار كالشامة البيضاء في الثور الأسود، ولم يزالوا في ضرب واصطدام حتى أقبل الظلام، وافترقوا من بعضهم وقد قُتِل من الكفار خلقٌ كثيرٌ ما لهم عدد، ورجع الجمرقان وقومه وهم في غاية الحزن على سعدان، ولم يَطِبْ لهم طعام ولا منام، وتفقَّدوا قومهم فوجدوا المقتول منهم دون ألف، فقال الجمرقان: يا قوم، إني أبرز في حومة الميدان، ومقام الحرب والطعان، وأقتل أبطالهم وأسبي عيالهم وآخذهم أسارى، وأفدي بهم سعدان بإذن الملك الديَّان الذي لا يشغله شأن عن شأن. فطابت قلوبهم وفرحوا، ثم تفرَّقوا إلى خيامهم. وأما الجلند فإنه قام ودخل سرادقه، وجلس على سرير ملكه، ودارت قومه من حوله، ودعا بسعدان فأحضروه بين يديه، فقال له: يا كلب ويا أقل العرب ويا حمَّال الحطب، مَن قتل ولدي القورجان شجيع الزمان، قاتل الأقران ومجندل الأبطال؟ قال له سعدان: قتله الجمرقان مقدم عسكر الملك غريب سيد الفرسان، وأنا شويته وأكلته وكنتُ جائعًا. فلما سمع الجلند كلام سعدان، صارت عيناه في أم رأسه، وأمر بضرب رقبته، فأتى السياف بهمته وتقدَّمَ لسعدان، فعند ذلك تمطع سعدان في الكتاف فقطَّعه، وهمَّ على السياف وخطف السيف منه وضربه فرمى رأسه، وقصد الجلند فرمى روحه عن السرير وهرب، فوقع سعدان في الحاضرين فقتل منهم عشرين من خواص الملك، وهرب باقي المقدمين، وارتفع الصياح في عسكر الكفار، وهجم سعدان على الحاضرين من الكفار، وضرب فيهم يمينًا وشمالًا، فعند ذلك تفرَّقوا من بين يديه فأخلوا له الزقاق، ولم يزل سائرًا يضرب في العدى بالسيف حتى خرج من الخيام وقصد خيام المسلمين، وسمع المسلمون ضجيج الكفار فقالوا: لعلهم جاءتهم نجدة. فبينما هم باهتون وإذا بسعدان قد أقبَلَ عليهم، ففرحوا بقدومه فرحًا شديدًا، وكان أكثرهم به فرحًا الجمرقان، فسلَّمَ عليه وسلَّم عليه المسلمون وهنَّئُوه بالسلامة.

هذا ما كان من أمر المسلمين، وأما ما كان من أمر الكفار فإنهم رجعوا وملكهم إلى السرادق بعد رواح سعدان، فقال لهم الملك: يا قوم، وحق الشمس ذات الأنوار، وحق ظلام الليل ونور النهار والكوكب السيَّار، ما كنت أظن أني أسلم من القتل في هذا النهار، ولو وقعت في يده لَأكلني، ولا كنت أساوي عنده قمحًا ولا شعيرًا ولا حبةً من الحبوب. فقالوا: يا ملك، ما رأينا مَن يعمل مثل هذا الغول؟ فقال لهم: يا قوم، إذا كان في غذٍ فاحملوا عُدَدكم واركبوا خيولكم ودوسوهم تحت حوافر الخيل. وأما المسلمون فإنهم اجتمعوا وهم فَرِحون بالنصر وخلاص سعدان الغول، فقال الجمرقان: غدًا في الميدان أريكم فعلي وما يليق بمثلي، وحق الخليل إبراهيم لَأقتلَنَّهم أشنعَ القتلات، ولَأضربَنَّ فيهم بالبتَّار حتى يحير فيهم كل فهيم، ولكن قد نويت أني أحمل على الميمنة والميسرة، فإذا رأيتموني قد هجمت على الملك تحت الأعلام، فاحملوا خلفي بالاهتمام، ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا. وبات الفريقان يتحارسان حتى طلع النهار، وبانت الشمس للنظار، وركب الفريقان أسرع من لمحة العين، وصاح غراب البين، ونظروا بعضهم بالعين، واصطفوا للحرب والقتال، فأول مَن فتح باب الحرب الجمرقان، فجال وصال وطلب النزال، فأراد الجلند أن يحمل بقومه، وإذا بغبار قد ثار حتى سدَّ الأقطار، وأظلم النهار، وضربته الرياح الأربع، فتمزَّقَ وتقطَّع، وبان من تحته كل فارس أدرع وبطل سميدع، وسيوف تقطع ورماح تصدع، ورجال كأنهم السباع لا تخاف ولا تجزع، فلما نظر العسكران الغبار أمسكوا عن القتال وأرسلوا مَن يكشف لهم الأخبار، من أي قوم هؤلاء القادمون المثيرون لهذا الغبار؟ فسار السعاة وعبروا تحت الغبار وغابوا عن الأبصار، ثم عادوا بعد ساعة من النهار، فأما ساعي الكفار فإنه أخبرهم أن هؤلاء القادمين طائفة من المسلمين وملكهم غريب، وأما ساعي المسلمين فإنه رجع وأخبرهم بمجيء الملك غريب وقومه، ففرحوا بقدومه. ثم إنهم ساقوا خيلهم ولاقوا ملكهم، ونزلوا وقبَّلوا الأرض بين يديه وسلَّموا عليه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 648﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن عسكر المسلمين لما حضر لهم الملك غريب، فرحوا فرحًا شديدًا، وقبَّلوا الأرض بين يديه وداروا حوله، فرحَّبَ بهم وفرح بسلامتهم، ووصلوا الخيام ونصبوا له السرادقات والأعلام، وجلس الملك غريب على سرير ملكه وأرباب دولته من حوله، فحكوا له جميع ما جرى لسعدان. وأما الكفار فإنهم اجتمعوا يفتشون على عجيب فلم يجدوه بينهم ولا في خيامهم، فأخبروا الجلند بن كركر بهروبه، فقامت عليه القيامة وعضَّ على أصبعه وقال: وحقِّ الشمس ذات الأنوار، إنه كلب غدَّار، هرب مع قومه الأشرار في البراري والقفار، ولكن ما بقي يدفع هذه الأعداء إلا القتال الشديد، فشدُّوا عزمكم وقوُّوا قلوبكم، واحذروا من المسلمين. وأما الملك غريب فإنه قال لقومه: شدُّوا عزمكم وقوُّوا قلوبكم، واستعينوا بربكم، واسألوه أن ينصركم على عدوكم. فقالوا: يا ملك، سوف تنظر ما نفعل في حومة الميدان، ومقام الحرب والطعان. وباتت الطائفتان حتى أصبح الصباح، وأضاء بنوره ولاح، وأشرقت الشمس على رءوس الربى والبطاح، فصلَّى غريب ركعتين على ملة إبراهيم الخليل عليه السلام، ثم كتب مكتوبًا وأرسله مع أخيه سهيم إلى الكفار، فلما وصل إليهم قالوا له: ما تريد؟ قال لهم: أريد الحاكم عليكم. فقالوا: قف حتى نشاوره عليك. فوقف ثم شاوروا عليه الجلند وأخبروه بحاله، فقال: عليَّ به. فأحضروه بين يديه، فقال له: مَن أرسلك؟ قال: الملك غريب الذي حكَّمَه الله على العرب والعجم، فخذ كتابه وردَّ جوابه.

فأخذ الجلند الكتاب ففكَّه وقرأه فوجد: «بسم الله الرحمن الرحيم، الرب القديم الواحد العظيم، الذي هو بكل شيء عليم، رب نوح وصالح وهود وإبراهيم، ورب كل شيء، والسلام على مَن اتَّبَع الهدى، وخشي عواقب الردى، وأطاع الملك الأعلى، واتَّبَع طريقَ الهدى، واختار الآخرة على الأولى. أما بعد؛ يا جلند، فإنه لا يُعبَد إلا الله الواحد القهَّار، خالق الليل والنهار، والفلك الدوَّار، وأرسل الأنبياء الأبرار وأجرى الأنهار، ورفع السماء وبسط الأرض، وأنبت الأشجار ورزق الطير في الأوكار، ورزق الوحوش في القفار، فهو الله العزير الغفار، الحليم الستار، الذي لا تدركه الأبصار، مكوِّر الليل على النهار، الذي أرسل وأنزل الكتب. واعلم يا جلند أنه لا دين إلا دين إبراهيم الخليل، فاسلم تسلم من السيف البتَّار، وفي الآخرة من عذاب النار، وإنْ أبيتَ الإسلامَ فأبشِرْ بالدمار، وخراب الديار وقَطْع الآثار، وأرسل إليَّ الكلبَ عجيبًا لآخذ ثأر أبي وأمي

فلما قرأ الجلند الكتاب قال لسهيم: قل لمولاك إن عجيبًا هرب هو وقومه، وما ندري أين ذهب، وأما الجلند فلا يرجع عن دينه، وغدًا يكون الحرب بيننا، والشمس تنصرنا. فرجع سهيم لأخيه وأعلمه بما قد جرى، فباتوا حتى أصبح الصباح، ثم أخذ المسلمون آلة السلاح، وركبوا الخيل القراح، وأعلنوا بذِكْر المَلِك الفتَّاح، خالق الأجساد والأرواح، وأعلنوا بالتكبير، ودقوا طبول الحرب حتى ارتجَّتِ الأرض، وتكلم كل فارس جحجاح وبطل وقاح، وقصدوا الحرب حتى ارتجَّتِ الأرض، فأول مَن فتح باب الحرب الجمرقان، وساق جواده في حومة الميدان، ولعب بالسيف والنشاب حتى حيَّرَ أولي الألباب، ثم صاح: هل من مبارز؟ هل من مناجز؟ لا يأتِني اليومَ كسلان ولا عاجز؟ أنا قاتل القورجان بن الجلند، فمَن يبرز لأخذ الثأر؟ فلما سمع الجلند ذِكْرَ ولده، صاح على قومه وقال: يا أولاد الزواني، ائتوني بهذا الفارس الذي قتل ولدي حتى آكل لحمه وأشرب دمه. فحمل عليه مائة بطل، فقتل أكثرهم وهزم أميرهم، فلما نظر الجلند ما فعل الجمرقان، صاح على قومه وقال: احملوا عليه حملة واحدة. فهزوا العلم المدهش وانطبقت الأمم على الأمم، وحمل غريب بقومه والجمرقان، وتصادم الفريقان كأنهم بحران يلتقيان، فأعمل السيف اليماني والرمح حتى مزَّقَ الصدور والأبدان، ورأى الصفَّان مَلَكَ الموت بالعيان، وطلع الغبار إلى العنان، وصُمَّتِ الآذان وخرس اللسان، وأحاط الموت من كل مكان، وثبت الشجاع وولَّى الجبان. ولم يزالوا في حرب وقتال، حتى ولَّى النهار ودقوا طبول الانفصال، وافترقوا من بعضهم ورجعت كل طائفة إلى خيامها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 649﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك غريبًا لما انقضى الحرب وافترقوا من بعضهم، ورجعت كل طائفة إلى خيامها، جلس على سرير مُلْكه ومحل سلطانه واصطفَّ أصحابه حوله، فقال لقومه: أنا جزعت من القهر، وبهروب هذا الكلب عجيب، ولا أعرف أين مضى؟ وإن لم ألحقه وآخذ ثأري أموت من القهر. فتقدَّمَ أخاه سهيم الليل وقبَّلَ الأرض وقال: يا ملك، أنا أمضي إلى عسكر الكفَّار، وأكشف خبر الكلب الغدَّار عجيب. فقال غريب: سِرْ وتحقَّقْ خبرَ هذا الخنزير. فتزيَّا سهيم بزيِّ الكفار، ولبس لبسهم فصار كأنه منهم، ثم قصد خيام الأعداء فوجدهم نيامًا، وهم سكارى من الحرب والقتال، ولم يَبْقَ من القوم بلا نوم سوى الحرَّاس، فعبر سهيم وهجم على السرادق، فوجد الملك نائمًا وما عنده أحد، فتقدَّمَ وشمه البنج الطيَّار، فكان كأنه ميت، وخرج فأحضر بغلًا ولفَّ الملك في ملاءة الفرش وحطَّه فوق البغل، وحط فوقه الحصير وسار حتى وصل إلى سرادق غريب ودخل على الملك؛ فأنكره الحاضرون وقالوا له: مَن أنت؟ فضحك سهيم وكشف وجهه فعرفوه، فقال له غريب: ما حِملُكَ يا سهيم؟ فقال له: يا ملك، هذا الجلند بن كركر. ثم حلَّه فعرفه غريب وقال: يا سهيم، نبِّهْه. فأعطاه الخل والكندز، فرمى البنج من أنفه وفتح عينيه، فوجد نفسه بين المسلمين فقال: أي شيء هذا المنام القبيح؟ ثم إنه أطبق عينَيْه ونام، فلكزه سهيم وقال له: افتح عينيك يا ملعون. ففتح عينيه وقال: أين أنا؟ فقال سهيم: أنت في حضرة الملك غريب بن كندمر ملك العراق. فلما سمع الجلند هذا الكلام قال: يا ملك أنا في جيرتك، واعلم أن ما لي ذنب، والذي أخرجنا نقاتِل هو أخوك، ورمى بيننا وبينك وهرب. فقال غريب: وهل تعلم طريقه؟ فقال: لا، وحقِّ الشمس ذات الأنوار ما أعلم أين سار. فأمر غريب بتقييده والمحافظة عليه، وتوجَّهَ كلُّ مقدم إلى خيمته ورجع الجمرقان وقومه وقال: يا بني عمي، قصدي أن أعمل في هذه الليلة عملة أبيِّض بها وجهي عند الملك غريب؟ فقالوا له: افعل ما تشاء، فنحن لأمرك سامعون مُطِيعون. فقال: احملوا سلاحكم وأنا معكم وخففوا خطوكم ولا تخلُّوا النمل يدري بكم، وتفرَّقوا حول خيام الكفار، فإذا سمعتم تكبيري فكبِّروا وصيحوا قائلين: الله أكبر. وتأخَّروا واقصدوا باب المدينة، ونطلب النصر من الله تعالى.

فاستعدَّ القوم بالسلاح الكامل، وصبروا إلى نصف الليل وتفرَّقوا حول الكفار وصبروا ساعة، وإذا بالجمرقان ضرب بسيفه على ترسه وقال: الله أكبر. فدوى الوادي، وفعل قومه مثله وصاحوا: الله أكبر. حتى دوى لهم الوادي والجبال، والرمال والتلال وسائر الأطلال، فانتبه الكفار وقد اندهشوا ووقعوا في بعضهم، وقد دار السيف بينهم، وتأخَّرَ المسلمون وطلبوا أبواب المدينة، وقتلوا البوَّابين ودخلوا المدينة وملكوها بما فيها من مال وحريم.

هذا ما جرى للجمرقان، وأما الملك غريب فإنه سمع الصياح بالتكبير، فركب وركب العسكر عن آخرهم وتقدَّمَ سهيم حتى قرب من الوقعة، فنظر بني عامر والجمرقان قد شنُّوا الغارة على الكفار وأسقوهم كأس المنون، فرجع وأخبر أخاه بما كان، فدعا للجمرقان، ولم تزل الكفار نازلين في بعضهم بالصارم البتَّار، باذلين جهدهم حتى طلع النهار، وأضاء بنوره على الأقطار، فعند ذلك صاح غريب على قومه وقال: احملوا يا كرام وأرضوا الملك العلَّام. فحملت الأبرار على الفجَّار، ولعب السيف البتَّار، وجال الرمح الخطار في صدر كل منافق كفَّار، وأرادوا أن يدخلوا مدينتهم، فخرج لهم الجمرقان وبنو عمه وصادروهم بين جبلين محيطين، وقتلوا منهم خلقًا ما لهم عدد، وتشتَّتَ الباقي في البراري والقفار. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 650﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن عسكر المسلمين لما حملوا على الكفار مزَّقوهم بالصارم البتَّار، وتشتتوا في البراري والقفار، ولم يزالوا خلف الكفَّار بالسيف حتى انتشروا في السهل والأوعار، ثم رجعوا إلى مدينة عمان، ودخل الملك غريب قصر الجلند، وجلس على كرسي مملكته، ودار أصحابه حوله ميمنة وميسرة، فدعا بالجلند فأسرعوا إليه وأحضروه بين يدي الملك غريب، فعرض عليه الإسلام فأبى، فأمر بصلبه على باب المدينة، ثم رموه بالنبال إلى أن صار مثل القنفذ، ثم إن غريبًا خلع على الجمرقان وقال له: أنت صاحب البلد وحاكمها وصاحب ربطها وحلها، فإنك فتحتها بسيفك ورجالك. فقبَّلَ الجمرقان رِجل الملك غريب وشكره ودعا له بدوام النصر والعز والنعم. ثم إن غريبًا فتح خزائن الجلند ونظر إلى ما فيها من الأموال، وبعد ذلك فرَّقَ على المقدمين والرجال أصحاب الرايات والقتال، وفرَّقَ على البنات والصبيان، وصار يفرِّق من الأموال مدة عشرة أيام، ثم إنه بعد ذلك كان نائمًا في بعض الليالي، فرأى في منامه رؤيا هائلة، فانتبه فَزِعًا مرعوبًا، ثم نبَّهَ أخاه سهيمًا وقال له: إني رأيت في منامي أني في وادٍ، وذلك الوادي في مكان متَّسِع، وقد انقضَّ علينا من الطير جارحتان لم أرَ في عمري أكبر منهما، ولهما سيقان مثل الرماح، وقد هجمَا علينا ففزعنا منهما، فهذا الذي رأيته. فلما سمع سهيم هذا الكلام قال: يا ملك، هذا عدو كبير فاحترس على نفسك منه. فلم يَنَمْ غريب بقية الليلة.

فلما أصبح الصباح طلب جواده وركبه، فقال له سهيم: إلى أين تذهب يا أخي؟ فقال: أصبحت ضيِّق الصدر، فقصدي أن أسير عشرة أيام حتى ينشرح صدري. فقال له سهيم: خذ معك ألف بطل. فقال غريب: لا أسير إلا أنا وأنت لا غير. فعند ذلك ركب غريب وسهيم وقصدَا الأودية والمروج، ولم يزالَا سائرين من وادٍ إلى وادٍ، ومن مرج إلى مرج، حتى عبرَا على وادٍ كثير الأشجار والأثمار والأنهار فائح الأزهار، أطياره تغرِّد بالألحان على الأغصان، والهزار يرجع بطيب الألحان، والقمري قد ملأ بصوته المكان، والبلبل بحسه يوقظ الوسنان، والشحرور كأنه إنسان، والفاخت والمطوق تجاوبهما الدرة بأفصح لسان، والأشجار في أثمارها من كل مأكول وفاكهة زوجين، فأعجبهما ذلك الوادي فأكلَا من أثماره وشربَا من أنهاره، وقعدا تحت ظل أشجاره، فغلب عليهما النعاس فناما وسبحان مَن لا ينام. فبينما هما نائمان، وإذا بماردين شديدين قد انقضَّا عليهما وحطَّ كل واحد منهما أحدهما على كاهله، وارتفعَا إلى أعلى الجو حتى صارَا فوق الغمام، فانتبه سهيم وغريب فوجدَا أنفسهما بين السماء والأرض، ونظرَا إلى مَن حملاهما وإذا هما ماردان، رأس أحدهما رأس كلب، ورأس الآخر رأس قرد، وهو كالنخلة السحوق، ولهما شعر مثل أذناب الخيل، ومخالب مثل مخالب السباع؛ فلما نظر غريب وسهيم إلى ذلك الحال قالَا: لا حول ولا قوة إلا بالله.

وكان السبب في ذلك أن ملكًا من ملوك الجن اسمه مرعش، وكان له ولد اسمه صاعق يحب جارية من الجن اسمها نجمة، وكان صاعق ونجمة مجتمعَيْن في ذلك الوادي وهما في صفة طيرين، وكان غريب وسهيم نظرا إلى صاعق ونجمة فظنَّاهما طائرين، فرمياهما بنشاب فلم يُصَبْ إلا صاعق، فسال دمه، فحزنت نجمة على صاعق وخطفته وطارت خوفًا أن يصيبها ما أصاب صاعقًا، ولم تزل طائرة به حتى رمته على باب قصر أبيه، فحمله البوابون حتى رموه قدام أبيه، فلما نظر مرعش إلى ولده ورأى النبلة في ضلعه قال: وا ولداه! مَن فعل بك هذه الفعال حتى أخرب دياره وأعجل دماره؟ ولو كان أكبر ملوك الجان. فعند ذلك فتح عينَيْه وقال: يا أبتي، ما قتلني إلا رجل من الإنس بوادي العيون. فما فرغ من كلامه حتى طلعت روحه، فلطم أبوه حتى طلع الدم من فيه، وصاح على ماردين وقال لهما: سيرَا إلى وادي العيون وائتياني بكل مَن فيه. فسافر الماردان حتى وصلا إلى وادي العيون، فرأيا غريبًا وسهيمًا نائمين فخطفاهما وسارَا بهما حتى وصلَا بهما إلى مرعش، فلما انتبه سهيم وغريب من نومهما وجدَا أنفسهما بين السماء والأرض، فقالَا: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

 

 

 

السابق                                                                     التــــالي←

 

 

 

Read our comment Policy to know your rights & responsibilities before actually leaving a comment for this article.

Post a Comment (0)