kurd-partuk

الليالي من--(551 ← 600)

﴿اللیلة 551﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري بعد أن غرقت المركب، وطلع على لوح خشب هو وجماعة من التجار، قال: اجتمعنا على بعضنا، ولم نزل راكبين على ذلك اللوح، ونرفص بأرجلنا في البحر والأمواج والريح تساعدنا، فمكثنا على هذه الحالة يومًا وليلة، فلما كان ثاني يوم ضحوة نهار، ثار علينا ريح وهاج البحر، وقوي الموج والريح، فرمانا الماء على جزيرة، ونحن مثل الموتى من شدة السهر والتعب والبرد، والجوع والخوف والعطش، وقد مشينا في جوانب تلك الجزيرة، فوجدنا فيها نباتًا كثيرًا، فأكلنا منه شيئًا يسدُّ رمقنا ويقيتنا، وبتنا تلك الليلة على جانب الجزيرة.

فلما أصبح الصباح، وأضاء بنوره ولاح، قمنا ومشينا في الجزيرة يمينًا وشمالًا، فَلَاحَ لنا عمارة على بُعْدٍ، فسرنا في تلك الجزيرة قاصدين تلك العمارة التي رأيناها من بُعْدٍ، ولم نزل سائرين إلى أن وقفنا على بابها، فبينما نحن واقفون هناك إذ خرج علينا من ذلك الباب جماعة عراة ولم يكلمونا، وقد قبضوا علينا، وأخذونا عند ملكهم، فأمرنا بالجلوس فجلسنا، وقد أحضروا لنا طعامًا لم نعرفه ولا في عمرنا رأينا مثله، فلم تقبله نفسي ولم آكل منه شيئًا دون رفقتي، وكان قلة أكلي منه لطفًا من الله تعالى حتى عشت إلى الآن. فلما أكل أصحابي من ذلك الطعام، ذهلت عقولهم وصاروا يأكلون مثل المجانين وتغيَّرَتْ أحوالهم، وبعد ذلك أحضروا لهم دهن النارجيل فسقوهم منه، ودهنوهم منه، فلما شرب أصحابي من ذلك الدهن زاغت أعينهم في وجوههم، وصاروا يأكلون من ذلك الطعام بخلاف أكلهم المعتاد، فعند ذلك احترتُ في أمرهم، وصرتُ أتأسف عليهم، وقد صار عندي همٌّ عظيمٌ من شدة الخوف على نفسي من هؤلاء العرايا. وقد تأملتهم فإذا هم قوم مجوس، وملك مدينتهم غول، وكلُّ مَن وصل إلى بلادهم أو رأوه أو صادفوه في الوادي والطرقات يجيئون به إلى ملكهم، ويُطعِمونه من ذلك الطعام، ويدهنونه بذلك الدهن؛ فيتسع جوفه لأجل أن يأكل كثيرًا، ويذهل عقله، وتنطمس فكرته، ويصير مثل الأبله، فيزيدون له الأكل والشرب من ذلك الطعام والدهن حتى يسمن ويغلظ، فيذبحونه ويشوونه، ويطعمونه لملكهم. وأما أصحاب الملك، فيأكلون من لحم الإنسان بلا شيٍّ ولا طبخ.

فلما نظرت منهم ذلك الأمر، صرت في غاية الكرب على نفسي وعلى أصحابي، وقد صار أصحابي من فرط ما دهشت عقولهم لا يعلمون ما يُفعَل بهم، وقد سلموهم إلى شخص فصار يأخذهم كل يوم، ويخرج يرعاهم في تلك الجزيرة مثل البهائم، وأما أنا فقد صرت من شدة الخوف والجوع ضعيفًا سقيم الجسم، وصار لحمي يابسًا على عظمي، فلما رأوني على هذه الحالة تركوني ونسوني، ولم يتذكرني منهم أحد، ولا خطرتُ لهم على بال، إلى أن تحيَّلْتُ يومًا من الأيام، وخرجت من ذلك المكان، ومشيت في تلك الجزيرة، وبعدت عن ذلك المكان، فرأيتُ رجلًا راعيًا جالسًا على شيء مرتفع في وسط البحر، فتحقَّقْته فإذا هو الرجل الذي سلَّموا إليه أصحابي ليرعاهم، ومعه شيء كثير من مثلهم؛ فلما نظر ذلك الرجل إليَّ، علم أني مالك عقلي ولم يصبني شيء مما أصاب أصحابي؛ فأشار إليَّ من بعيد وقال لي: ارجع إلى خلفك وامشِ في الطريق الذي على يمينك تسلك إلى الطريق السلطانية. فرجعت إلى خلفي كما أشار لي هذا الرجل، فنظرت إلى طريقٍ على يميني فسرتُ فيها، ولم أزل سائرًا ساعة أجري من الخوف، وساعة أمشي على مهلي حتى أخذت راحتي، ولم أزل على هذه الحالة حتى خفيت عن عيون الرجل الذي دلَّني على الطريق وصرت لا أنظره ولا ينظرني، وغابت الشمس عني وأقبَلَ الظلام؛ فجلست لأستريح وأردتُ النوم، فلم يأتني في تلك الليلة نومٌ من شدة الخوف والجوع والتعب.

فلما أنصف الليل، قمت ومشيت في الجزيرة، ولم أزل سائرًا حتى طلع النهار، وأصبح الصباح، وأضاء بنوره ولاح، وطلعت الشمس على رءوس الروابي والبطاح، وقد تعبتُ وجعتُ وعطشت، فصرت آكل من الحشيش والنبات الذي في الجزيرة، ولم أزل آكل من ذلك النبات حتى شبعت، وانسدَّ رمقي، وبعد ذلك قمتُ ومشيتُ في الجزيرة ولم أزل على هذه الحالة طول النهار والليل، وكلما أجوع آكل من النبات، ولم أزل على هذه الحالة مدة سبعة أيام بلياليها، فلما كانت صبيحة اليوم الثامن لاحت مني نظرة، فرأيت شبحًا من بعيد، فسرتُ إليه، ولم أزل سائرًا إلى أن حصلته بعد غروب الشمس، فحقَّقْتُ النظر فيه وأنا بعيد عنه، وقلبي خائف من الذي قاسيته أولًا وثانيًا، وإذا هم جماعة يجمعون حَبَّ الفلفل، فلما قربت منهم ونظروني تسارعوا إليَّ، وجاءوا عندي، وقد أحاطوا بي من كل جانب، وقالوا لي: مَن أنت؟ ومن أين أقبلتَ؟ فقلت لهم: اعلموا يا جماعة أني رجل غريب مسكين. وأخبرتهم بجميع ما كان من أمري، وما جرى لي من الأهوال والشدائد، وما قاسيته. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 552﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السندباد البحري لما رأى الجماعة الذين يجمعون الفلفل في الجزيرة وسألوه عن حاله، حكى لهم جميع ما جرى له، وما قاساه من الشدائد، فقالوا: والله هذا أمر عجيب، ولكن كيف خلاصك من السودان؟ وكيف مرورك عليهم في هذه الجزيرة وهم خلق كثيرون، ويأكلون الناس، ولا يسلم منهم أحد، ولا يقدر أن يجوز عليهم أحد؟ فأخبرتهم بما جرى لي معهم، وكيف أخذوا أصحابي، وأطعموهم الطعام ولم آكل منه؛ فهنوني بالسلامة، وصاروا يتعجبون مما جرى لي، ثم أجلسوني عندهم حتى فرغوا من شغلهم، وأتوني بشيء من الطعام المليح، فأكلت منه وكنت جائعًا، وارتحت عندهم ساعة من الزمان، وبعد ذلك أخذوني، ونزلوا بي في مركب، وجاءوا إلى جزيرتهم ومساكنهم، وقد عرضوني على ملكهم، فسلَّمت عليهم ورحَّب بي وأكرمني، وسألني عن حالي، فأخبرته بما كان من أمري، وما جرى لي، وما اتفق لي من يوم خروجي من مدينة بغداد إلى حين وصلتُ إليه، فتعجَّبَ ملكهم من قصتي وما اتفق لي غاية العجب، هو ومَن كان حاضرًا في مجلسه، ثم إنه أمرني بالجلوس عنده فجلست، وأمر بإحضار الطعام فأحضروه، فأكلت منه على قدر كفايتي، وغسلت يدي، وشكرت فضل الله تعالى وحمدته، وأثنيت عليه.

ثم إني قمت من عند ملكهم، وتفرجت في مدينته؛ فإذا هي مدينة عامرة كثيرة الأهل والمال، كثيرة الطعام والأسواق والبضائع والبائعين والمشترين؛ ففرحت بوصولي إلى تلك المدينة، وارتاح خاطري، واستأنست بأهلها، وصرت عندهم وعند ملكهم معزَّزًا مكرمًا، زيادة على أهل مملكته من عظماء مدينته، ورأيت جميع أكابرها وأصاغرها يركبون الخيول الجياد المِلَاح من غير سروج، فتعجَّبْتُ من ذلك، ثم إني قلت للملك: لأي شيء يا مولاي لم تركب على سرج؟ فإن فيه راحةً للراكب، وزيادة قوة. فقال لي: كيف يكون السرج؟ هذا شيء عمرنا ما رأيناه، ولا ركبنا عليه. فقلتُ له: هل لك أن تأذن لي أن أصنع لك سرجًا تركب عليه، وتنظر حظه؟ فقال لي: افعل. فقلت له: أحضر لي شيئًا من الخشب. فأمر لي بإحضار جميع ما طلبته؛ فعند ذلك طلبت نجارًا شاطرًا، وجلست عنده، وعلَّمْتُه صنعة السرج، وكيف يعمله، ثم إني أخذت صوفًا ونفشته، وصنعت منه لبدًا، وأحضرت جلدًا وألبسته للسرج وصقلته، ثم إني ركبت سيوره، وشددت شريحته، وبعد ذلك أحضرت الحداد، ووصفت له كيفية الركاب، فدقَّ ركابًا عظيمًا، وبردته، وبيَّضته بالقزدير، ثم إني شددت له أهدابًا من الحرير، وبعد ذلك قمت وجئت بحصان من خيار خيول الملك، وشددت عليه ذلك السرج، وعلَّقت فيه الركاب، وألجمته بلجام، وقدمته إلى الملك؛ فأعجبه ولاق بخاطره وشكرني، وركب عليه، وقد حصل له فرح شديد بذلك السرج، وأعطاني شيئًا كثيرًا في نظير عملي له. فلما نظرني وزيره عملت ذلك السرج، طلب مني واحدًا مثله، فعملت له سرجًا مثله، وقد صار أكابر الدولة وأصحاب المناصب يطلبون مني السروج، فأفعل لهم، وعلمت النجار صنعة السرج، والحداد صنعة الركاب، وصرنا نعمل السروج والركابات، ونبيعها للأكابر والمخاديم، وقد جمعت من ذلك مالًا كثيرًا، وصار لي عندهم مقام كبير، وحبوني محبةً زائدة، وبقيت صاحب منزلة عالية عند الملك وجماعته، وعند أكابر البلد وأرباب الدولة، إلى أن جلستُ يومًا من الأيام عند الملك وأنا في غاية السرور والعز.

فبينما أنا جالس قال لي الملك: اعلم يا هذا أنك صرت معزَّزًا مكرمًا عندنا، وواحدًا منَّا، ولا نقدر على مفارقتك، ولا نستطيع خروجك من مدينتنا، ومقصودي منك شيء تطيعني فيه، ولا ترد قولي. فقلت له: وما الذي تريد مني أيها الملك؟ فإني لا أرد قولك؛ لأنه صار لك فضل وجميل وإحسان عليَّ، والحمد لله أنا صرت من بعض خدَّامك. فقال: أريد أن أزوِّجك عندنا بزوجة حسنة، مليحة ظريفة، صاحبة مال وجمال، وتصير مستوطنًا عندنا، وأسكنك عندي وفي قصري، فلا تخالفني، ولا ترد كلمتي. فلما سمعتُ كلام الملك استحييتُ منه وسكتُّ، ولم أرد عليه جوابًا من كثرة الحياء منه، فقال لي: لِمَ لا ترد عليَّ يا ولدي؟ فقلت له: يا سيدي، الأمر أمرك يا ملك الزمان. فأرسل من وقته وساعته، وأحضر القاضي والشهود، وزوَّجني في ذلك الوقت بامرأة شريفة القدر، عالية النسب، كثيرة المال والنوال، عظيمة الأصل، بديعة الجمال والحسن، صاحبة أماكن وأملاك وعقارات. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 553﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السندباد البحري بعد أن زوَّجَه الملك وعقد له على امرأة عظيمة، قال: ثم إنه أعطاني بيتًا عظيمًا مليحًا بمفرده، وأعطاني خَدَمًا وحشمًا، ورتَّبَ له جرايات وجوامك، وصرت في غاية الراحة والبسط والانشراح، ونسيت جميع ما حصل لي من التعب والمشقة والشدة، وقلت في نفسي: إذا سافرتُ إلى بلادي آخذها معي، وكلُّ مقدر على الإنسان لا بد منه، ولم يعلم أحد بما يجري له، وقد أحببتها وأحبتني محبة عظيمة، ووقع الوفاق بيني وبينها، وقد أقمنا في ألذ عيش وأرغد مورد. ولم نزل على هذه الحالة مدةً من الزمان، فأفقد الله تعالى زوجة جاري، وكان صاحبًا لي، فدخلت إليه لأعزِّيه في زوجته، فرأيته في أسوأ حال، وهو مهموم تعبان السر والخاطر، فعند ذلك عزيته وسليته، وقلت له: لا تحزن على زوجتك، الله يعوضك خيرًا بأحسن منها، ويكون عمرك طويلًا إن شاء الله تعالى. فبكى بكاءً شديدًا، وقال لي: يا صاحبي، كيف أتزوَّج بغيرها؟ أو كيف يعوِّضني الله خيرًا منها، وأنا بقي من عمري يوم واحد؟ فقلت له: يا أخي، ارجع لعقلك، ولا تبشِّر على روحك بالموت؛ فإنك طيب بخير وعافية. فقال لي صاحبي: وحياتك في غدٍ تعدمني، وما بقيت عمرك تنظرني. فقلت له: وكيف ذلك؟ فقال لي: في هذا النهار يدفنون زوجتي، ويدفنوني معها في القبر، فإنها عادتنا في بلادنا، إذا ماتَتِ المرأة يدفنون معها زوجها بالحياة، وإن مات الرجل يدفنون معه زوجته بالحياة، حتى لا يتلذذ أحد منهم بالحياة بعد رفيقه. فقلت له: بالله إن هذه العادة رديئة جدًّا، وما يقدر عليها أحد.

فبينما نحن في ذلك الحديث، وإذا بغالب أهل المدينة قد حضروا وصاروا يعزون صاحبي في زوجته، وفي نفسه، وقد شرعوا في تجهيزها على جري عادتهم، فأحضروا تابوتًا، وحملوا فيه المرأة، وذلك الرجل معهم، وخرجوا بهما إلى خارج المدينة، وأتوا إلى مكان في جانب الجبل على البحر، وتقدَّموا على مكان، ورفعوا عنه حجرًا كبيرًا، فبان من تحت ذلك الحجر خرزة من حجر مثل خرزة البئر، فرموا تلك المرأة فيها، وإذا هو جب كبير تحت الجبل، ثم إنهم جاءوا بذلك الرجل، وربطوه تحت صدره في سلبة، وأنزلوه في ذلك الجب، وأنزلوا عنده كوزَ ماءٍ عذبٍ كبيرًا، وسبعة أرغفة من الزاد، ولما نزلوه، فكَّ نفسه من السلبة، فسحبوا السلبة، وغطوا فم البئر بذلك الحجر مثلما كان، وانصرفوا إلى حال سبيلهم، وتركوا صاحبي عند زوجته في الجب، فقلت في نفسي: والله إن هذا الموت أصعب من الموت الأول. ثم إني جئتُ عند ملكهم وقلت له: يا سيدي، كيف تدفنون الحي مع الميت في بلادكم؟ فقال لي: اعلم أن هذه عادتنا في بلادنا، إذا مات الرجل ندفن معه زوجته، وإذا ماتت المرأة ندفن معها زوجها بالحياة حتى لا نفرِّق بينهما في الحياة، ولا في الممات، وهذه العادة عن أجدادنا. فقلت: يا ملك الزمان، وكذلك الرجل الغريب مثلي إذا ماتَتْ زوجته عندكم تفعلون به مثل ما فعلتم بهذا؟ فقال لي: نعم، ندفنه معها، ونفعل به كما رأيتَ. فلما سمعت ذلك الكلام منه انشقَّتْ مرارتي من شدة الغم والحزن على نفسي، وذهل عقلي، وصرت خائفًا أن تموت زوجتي قبلي فيدفنوني معها وأنا بالحياة. ثم إني سليت نفسي وقلت: لعلي أموت أنا قبلها، ولا يعلم أحدٌ السابقَ من اللاحق. وصرت أتلهَّى في بعض الأمور، فما مضت مدة يسيرة بعد ذلك حتى مرضت زوجتي، وقد مكثت أيامًا قلائل وماتت، فاجتمع غالب الناس يعزونني، ويعزون أهلها فيها، وقد جاءني الملك يعزيني فيها على جري عادتهم.

ثم إنهم جاءوا لها بغاسلة فغسلوها، وألبسوها أفخر ما عندها من الثياب والمصاغ والقلائد والجواهر من المعادن، فلما ألبسوا زوجتي وحطوها في التابوت، وحملوها وراحوا بها إلى ذلك الجبل، ورفعوا الحجر عن فم الجب وألقوها فيه، تقدَّمَ جميع أصحابي وأهل زوجتي يودِّعونني في روحي، وأنا أصيح بينهم: أنا رجل غريب، وليس لي صبر على عادتكم. وهم لا يسمعون قولي، ولا يلتفتون إلى كلامي؛ ثم إنهم أمسكوني وربطوني بالغصب، وربطوا معي سبعة أقراص من الخبز، وماء عذب على جري عادتهم، وأنزلوني في ذلك البئر، فإذا هو مغارة كبيرة تحت ذلك الجبل، وقالوا لي: فكَّ نفسك من الحبال. فلم أرضَ أن أفكَّ نفسي، فرموا عليَّ الحبال، ثم غطوا فم ذلك البئر بذلك الحجر الكبير الذي كان عليه، وراحوا إلى حال سبيلهم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 554﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري لما حطوه في المغارة مع زوجته التي ماتت، وردوا باب المغارة، وراحوا إلى حال سبيلهم، قال: وأمَّا أنا فإني رأيتُ في تلك المغارة أمواتًا كثيرة، ورائحتها منتنة كريهة، فلمتُ نفسي على ما فعلته، وقلت: والله إني أستحق جميع ما يجري لي، وما يقع لي. ثم إني صرت أعرف الليل من النهار، وصرت أتقوت باليسير، ولا آكل حتى يكاد أن يقطعني الجوع، ولا أشرب حتى يشتد بي العطش، وأنا خائف أن يفرغ ما عندي من الزاد والماء، وقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أي شيء بلاني بالزواج في هذه المدينة؟ وكلما أقول خرجت من مصيبة أقع في مصيبة أقوى منها، والله إن موتي هذا موت مشئوم، يا ليتني غرقت في البحر، أو مت في الجبال، كان أحسن لي من هذا الموت الرديء. ولم أزل على هذه الحالة ألوم نفسي، ونمت على عظام الأموات، واستعنت بالله، وصرت أتمنى الموت فلم أجده من شدة ما أنا فيه، ولم أزل على هذه الحالة حتى أحرق قلبي الجوعُ، وألهبني العطشُ، فقعدت وحسست على الخبز، وأكلت منه شيئًا قليلًا، وتجرَّعت عليه شيئًا قليلًا من الماء، ثم إني قمت وقفت على حيلي وصرت أمشي في جوانب تلك المغارة، فرأيتها متسعة الجوانب، خالية البطون، ولكن في أرضها أموات كثيرة، وعظام رميمة من قديم الزمان، فعند ذلك عملت لي مكانًا في جانب المغارة بعيدًا عن الموتى الطريين، وصرت أنام فيه، وقد قلَّ زادي، ولم يَبْقَ معي إلا شيء يسير، وقد كنت آكل في كل يوم أو أكثر أكلةً وأشرب شربة؛ خوفًا من فراغ الماء والزاد من عندي قبل موتي.

ولم أزل على هذه الحالة إلى أن جلست يومًا من الأيام. فبينما أنا جالس متفكر في نفسي كيف أفعل إذا فرغ زادي والماء من عندي، وإذا بالصخرة قد تزحزحت من مكانها، ونزل منه النور عندي، فقلت: يا ترى ما الخبر؟ وإذا بالقوم واقفون على رأس البئر وقد نزلوا رجلًا ميتًا، وامرأة معه بالحياة، وهي تبكي وتصيح على نفسها، وقد نزلوا عندها شيئًا كثيرًا من الزاد والماء، فصرت أنظر المرأة وهي لم تنظرني، وقد غطوا فم البئر بالحجر، وانصرفوا إلى حال سبيلهم، فقمتُ أنا وأخذت في يدي قصبة رجل ميت، وجئت إلى المرأة وضربتها في وسط رأسها، فوقعت على الأرض مغشيًّا عليها، فضربتها ثانيًا وثالثًا فماتت، فأخذتُ خبزها وما معها، ورأيتُ عليها شيئًا كثيرًا من الحلي والحلل والقلائد والجواهر والمعادن، ثم إني أخذت الماء والزاد الذي مع المرأة، وقعدت في الموضع الذي كنت عملته في جانب المغارة لأنام فيه، وصرت آكل من ذلك الزاد شيئًا قليلًا على قدر ما يقوتني حتى لا يفرغ بسرعة فأموت من الجوع والعطش، وأقمت في تلك المغارة مدة من الزمان، وأنا كل مَن دفنوه أقتل مَن دُفِن معه بالحياة، وآخذ أكله وشربه أتقوت به، إلى أن كنت نائمًا يومًا من الأيام فاستيقظتُ من منامي، وسمعت شيئًا يكركب في جانب المغارة، فقلت: ما يكون هذا؟ ثم إني قمت ومشيت نحوه ومعي قصبة رجل ميت، فلما أحسَّ بي فرَّ وهرب مني، فإذا هو وحش، فتبعته إلى صدر المغارة، فبان لي نور من مكان صغير مثل النجمة، تارة يبان لي، وتارة يخفى عني، فلما نظرته قصدت نحوه، وبقيت كلما أتقرب منه يظهر لي نور منه ويتسع؛ فعند ذلك تحقَّقت أنه خرقٌ في تلك المغارة ينفذ للخلاء، فقلت في نفسي: لا بد أن يكون لهذا المكان حركة، إما أن يكون فمًا ثانيًا مثل الذي نزلوني منه، وإما أن يكون تخريق من هذا المكان.

ثم إني تفكرت في نفسي ساعة من الزمان، ومشيت إلى ناحية النور، وإذا به نقب في ظهر الجبل من الوحوش نقبوه، وصاروا يدخلون منه إلى هذا المكان، ويأكلون الموتى حتى يشبعوا ويطلعوا من ذلك النقب، فلما رأيته هدأت واطمأنت نفسي، وارتاح قلبي، وأيقنت بالحياة بعد الممات، وصرت كأني في المنام، ثم إني عالجت حتى طلعت من ذلك النقب، فرأيت نفسي على جانب البحر المالح فوق جبل عظيم، وهو قاطع بين البحرين، وبين الجزيرة والمدينة، ولا يستطيع أحد الوصول إليه، فحمدت الله تعالى وشكرته، وفرحت فرحًا عظيمًا، وقوي قلبي. ثم إني بعد ذلك رجعت من النقب إلى تلك المغارة، ونقلت جميع ما فيها من الزاد والماء الذي كنت وفَّرْتُه، ثم إني أخذت من ثياب الأموات، ولبست شيئًا منها غير الذي كان عليَّ، وأخذت مما عليهم شيئًا كثيرًا من أنواع العقود والجواهر، وقلائد اللؤلؤ، والمصاغ من الفضة والذهب المُرصَّع بأنواع المعادن والتحف، وربطت في ثيابي ثياب الموتى، وطلعتها من النقب إلى ظهر الجبل، ووقفت على جانب البحر، وبقيت في كل يوم أنزل المغارة وأطلع عليها، وكل مَن دفنوه آخذ زاده وماءه وأقتله سواء كان ذكرًا أو أنثى، وأطلع من ذلك النقب فأجلس على جانب البحر لأنتظر الفرج من الله تعالى بمركب تجوز عليَّ، وصرت أنقل من تلك المغارة كل شيء رأيته من المصاغ، وأربطه في ثياب الموتى، ولم أزل على هذه الحالة مدةً من الزمان. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 555﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري صار ينقل من تلك المغارة ما يلقاه فيها من المصاغ وغيره، ويجلس على جانب البحر مدةً من الزمان، قال: فبينما أنا جالس يومًا من الأيام على جانب البحر وأنا متفكرٌ في أمري، وإذا بمركب جائز في وسط البحر العجاج المتلاطم بالأمواج، فأخذت في يدي ثوبًا أبيض من ثياب الموتى، وربطته في عكاز، وجريت به على شاطئ البحر، وصرت أشير إليهم بذلك الثوب حتى لاحت منهم التفاتة، فرأوني وأنا في رأس الجبل، فجاءوا إليَّ وسمعوا صوتي، وأرسلوا إليَّ زورقًا من عندهم وفيه جماعة من المركب، فلما قربوا مني قالوا: مَن أنت؟ وما سبب جلوسك في هذا المكان؟ وكيف وصلت إلى هذا الجبل؟ وما في عمرنا رأينا أحدًا جاء إليه. فقلت لهم: إني رجل تاجر، غرقت المركب التي كنت فيها، فطلعت على لوح ومعي حوائجي، وقد سهَّلَ الله عليَّ بالطلوع إلى هذا المكان وحوائجي معي باجتهادي وشطارتي بعد تعب شديد. فأخذوني معهم في الزورق وحملوا جميع ما كنتُ أخذته من المغارة مربوطًا في الثياب والأكفان، وساروا بي إلى أن طلعوني المركب عند الريس ومعي حوائجي؛ فقال لي الريس: يا رجل، كيف وصولك إلى هذا المكان وهو جبل عظيم ووراءه مدينة عظيمة، وأنا عمري أسافر في هذا البحر وأجوز على هذا الجبل، فلم أرَ أحدًا فيه غير الوحوش والطيور؟ فقلت له: إني رجل تاجر، كنت في مركب كبيرة وقد انكسرت وغرق جميع أسبابي من هذا القماش والثياب كما تراها، فوضعتها على لوح كبير من ألواح المركب، فساعدتني القدرة والنصيب حتى طلعت على الجبل، وقد صرت أنتظر أحدًا يجوز فيأخذني معه. ولم أخبرهم بما جرى لي في المدينة ولا في المغارة؛ خوفًا أن يكون معهم أحد في المركب من تلك المدينة.

ثم إني طلعت لصاحب المركب شيئًا كثيرًا من مالي وقلت له: يا سيدي، أنت سبب نجاتي من هذا الجبل، فخذ هذا مني نظير جميلك الذي فعلته معي. فلم يقبله مني وقال لي: نحن لا نأخذ من أحد شيئًا، وإذا رأينا غريقًا على جانب البحر أو في الجزيرة نحمله معنا ونُطعِمه ونسقيه، وإنْ كان عريانًا نكسوه، ولما نصل إلى بندر السلامة نعطيه شيئًا من عندنا هديةً، ونعمل معه المعروف والجميل لوجه الله تعالى. فعند ذلك دعوت له بطول العمر. ولم نزل مسافرين من جزيرة إلى جزيرة، ومن بحر إلى بحر، وأنا أرجو النجاة، وصرت فرحانًا بسلامتي، وكلما أتفكر قعودي في المغارة مع زوجتي يغيب عقلي، وقد وصلنا بقدرة الله مع السلامة إلى مدينة البصرة، فطلعت إليها وأقمت فيها أيامًا قلائل، وبعدها جئتُ إلى مدينة بغداد، فجئت إلى حارتي ودخلت داري، وقابلت أهلي وأصحابي، وسألت عنهم؛ ففرحوا بسلامتي وهنوني، وقد خزنت جميع ما كان معي من الأمتعة في حواصلي، وتصدَّقْتُ ووهبتُ وكسوتُ الأيتام والأرامل، وصرت في غاية البسط والسرور، وقد عدت لما كنت عليه من المعاشرة والمرافقة، ومصاحبة الإخوان، واللهو والطرب، وهذا أعجب ما صار لي في السفرة الرابعة، ولكن يا أخي تعشى عندي، وخذ عادتك، وفي غدٍ تجيء عندي فأخبرك بما كان لي وما جرى لي في السفرة الخامسة؛ فإنها أعجب وأغرب مما سبق.

ثم أمر له بمائة مثقالٍ ذهبًا، ومدَّ السماط، وتعشى الجماعة، وانصرفوا إلى حال سبيلهم، وهم متعجبون غاية العجب، وكل حكاية أعظم من التي قبلها، وقد راح السندباد الحمال إلى منزله، وبات في غاية البسط والانشراح وهو متعجب، ولما أصبح الصباح، وأضاء بنوره ولاح، قام السندباد البري وصلى الصبح، وتمشَّى إلى أن دخل دار السندباد البحري وصبَّح عليه، فرحَّب به وأمره بالجلوس عنده حتى جاء بقية أصحابه، فأكلوا وشربوا، وتلذذوا وطربوا، ودارت بينهم المحادثة، فابتدأ السندباد البحري بالكلام. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 556﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري ابتدأ بالكلام فيما جرى له وما وقع له في الحكاية الخامسة، فقال: اعلموا يا إخواني أني لما رجعت من السفرة الرابعة، وقد غرقت في اللهو والطرب والانشراح، وقد نسيت جميع ما كنت لقيته، وما جرى لي وما قاسيته، من شدة فرحي بالمكسب والربح والفوائد، فحدَّثَتْني نفسي بالسفر، والتفرُّج في بلاد الناس وفي الجزائر، فقمت وهممت في ذلك الوقت، واشتريت بضاعةً نفيسة تناسب البحر، وحزمت الحمول، وسرت من مدينة بغداد، وتوجَّهْتُ إلى مدينة البصرة، ومشيت على جانب الساحل، فرأيت مركبًا كبيرة عالية مليحة، فأعجبتني فاشتريتها، وكانت عدتها جديدة، واكتريت لها ريسًا وبحرية، ونظرت عليها عبيدي وغلماني، وأنزلت فيها حمولي، وجاءني جماعة من التجار فنزلوا حمولهم فيها، ودفعوا إليَّ الأجرة، وسرنا ونحن في غاية الفرح والسرور، وقد استبشرنا بالسلامة والكسب، ولم نزل مسافرين من جزيرة إلى جزيرة، ومن بحر إلى بحر، ونحن نتفرج في الجزائر والبلدان، ونطلع إليها نبيع فيها ونشتري.

ولم نزل على هذه الحالة إلى أن وصلنا يومًا من الأيام إلى جزيرة خالية من السكان، وليس فيها أحد، وهي خراب قفرًا، وفيها قبة عظيمة بيضاء كبيرة الحجم، فطلعنا نتفرج عليها، وإذا هي بيضة رخ كبيرة، فلما طلع التجار إليها وتفرجوا عليها، ولم يعلموا أنها بيضة رخ، ضربوها بالحجارة فكُسِرت، ونزل منها ماء كثير، وقد بان منها فرخ الرخ، فسحبوه منها وطلعوه من تلك البيضة وذبحوه، وأخذوا منه لحمًا كثيرًا، وأنا في المركب ولم أعلم، ولم يُطلِعوني على ما فعلوه، فعند ذلك قال لي واحد من الركاب: يا سيدي، قم تفرَّج على هذه البيضة التي نحسبها قبة. فقمت لأتفرج عليها، فوجدت التجار يضربون البيضة، فصحت عليهم: لا تفعلوا هذا الفعل، فيطلع طير الرخ ويكسر مركبنا ويُهلِكنا. فلم يسمعوا كلامي، فبينما هم على هذه الحالة، وإذا بالشمس قد غابت عنا، والنهار أظلم، وصار فوقنا غمامة أظلم الجو منها، فرفعنا رءوسنا لننظر ما الذي حال بيننا وبين الشمس؟ فرأينا أجنحة الرخ هي التي حجبَتْ عنَّا ضوء الشمس حتى أظلم الجو؛ وذلك لما جاء الرخ ورأى بيضته انكسرت، صاح علينا، فجاءت رفيقته وصارا حائمين على المركب يصرخان علينا بصوتٍ أشد من الرعد، فصحت أنا على الريس والبحرية، وقلت لهم: ادفعوا المركب، واطلبوا السلامة قبل ما نهلك. فأسرع الريس، وطلع التجار، وحلَّ المركب، وسرنا في تلك الجزيرة.

فلما رآنا الرخ سرنا في البحر، غاب عنا ساعةً من الزمان، وقد سرنا وأسرعنا في السير بالمركب نريد الخلاص منهما، والخروج من أرضهما، وإذا بهما قد تبعانا، وأقبلَا علينا، وفي رجلَيْ كلِّ واحد منهما صخرةٌ عظيمة من الجبل، فألقى الصخرة التي كانت معه علينا، فجذب الريس المركب، وقد أخطأها نزول الصخرة بشيء قليل، فنزلت في البحر تحت المركب، فقامت بنا المركب وقعدت من عِظَم وقوعها في البحر، وقد رأينا قرار البحر من شدة عزمها. ثم إن رفيقة الرخ ألقَتْ علينا الصخرة التي معها وهي أصغر من الأولى، فنزلت بالأمر المقدر على مؤخر المركب فكسرته، وطيرت الدفة عشرين قطعة، وقد غرق جميع ما كان في المركب في البحر، فصرت أحاول النجاة لحلاوة الروح، فقدر الله تعالى لي لوحًا من ألواح المركب، فشبطت فيه وركبته، وصرت أقدف عليه برجلي، والريح والموج يساعداني على السير، وكانت المركب غرقت بالقرب من جزيرة في وسط البحر، فرمتني المقادير بإذن الله تعالى إلى تلك الجزيرة، فطلعت عليها وأنا على آخر نفس، وفي حالة الموتى من شدة ما قاسيتُه من التعب والمشقة، والجوع والعطش، ثم إني انطرحت على شاطئ البحر ساعة من الزمان حتى ارتاحت نفسي، واطمأن قلبي، ثم مشيت في تلك الجزيرة فرأيتها كأنها روضة من رياض الجنة، أشجارها يانعة، وأنهارها دافقة، وطيورها مغردة، تسبح مَن له العزة والبقاء، وفي تلك الجزيرة شيء كثير من الأشجار والفواكه وأنواع الأزهار، فعند ذلك أكلتُ من الفواكه حتى شبعت، وشربت من تلك الأنهار حتى رويت، وحمدت الله تعالى على ذلك، وأثنيت عليه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 557﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري لما طلع من الغرق إلى الجزيرة، وأكل من فواكهها وشرب من أنهارها وحمد الله وأثنى عليه، قال: ولم أزل على هذه الحالة قاعدًا في الجزيرة إلى أن أمسى المساء، وأقبل الليل، وأنا مثل القتيل مما حصل لي من التعب والخوف، ولم أسمع في تلك الجزيرة صوتًا، ولم أرَ فيها أحدًا، ولم أزل راقدًا فيها إلى الصباح، ثم قمت على حيلي ومشيت بين تلك الأشجار، فرأيتُ ساقية على عين ماء جارية، وعند تلك الساقية شيخ جالس مليح، وذلك الشيخ مؤزَّر بإزارٍ من ورق الأشجار، فقلت في نفسي: لعل هذا الشيخ طلع إلى هذه الجزيرة، وهو من الغرقاء الذين كُسِرت بهم المركب. ثم دنوتُ منه وسلَّمْتُ عليه، فرد عليَّ السلام بالإشارة ولم يتكلم، فقلت له: يا شيخ، ما سبب جلوسك في هذا المكان؟ فحرَّكَ رأسه وتأسَّفَ، وأشار لي بيده؛ يعني احملني على رقبتك، وانقلني من هذا المكان إلى جانب الساقية الثانية، فقلت في نفسي: أعمل مع هذا معروفًا، وأنقله إلى هذا المكان الذي يريده، لعل ثوابه يحصل لي. فتقدَّمْتُ إليه وحملته على أكتافي، وجئتُ إلى المكان الذي أشار لي إليه، وقلت له: انزل على مهلك. فلم ينزل عن أكتافي، وقد لفَّ رجليه على رقبتي، فنظرت إلى رجلَيْه، فرأيتهما مثل جلد الجاموس في السواد والخشونة، ففزعت منه وأردت أن أرميه من فوق أكتافي، فقرط على رقبتي برجلَيْه وخنقني بهما حتى اسودَّتِ الدنيا في وجهي، وغبت عن وجودي، ووقعت في الأرض مغشيًّا عليَّ مثل الميت، فرفع ساقيه وضربني على ظهري وعلى أكتافي، فحصل لي ألم شديد، فنهضتُ قائمًا به وهو راكب على أكتافي، وقد تعبت منه، فأشار لي بيده أن أدخل بين الأشجار إلى أطيب الفواكه، وإذا خالفتُه يضربني برجلَيْه ضربًا أشد من ضرب الأسواط. ولم يزل يشير لي بيده إلى كل مكان أراده وأنا أمشي به إليه، وإنْ توانيتُ أو تمهَّلْتُ يضربني، وأنا معه شبه الأسير، وقد دخلنا في وسط الجزيرة بين الأشجار، وصار يبول ويخري على أكتافي، ولا ينزل ليلًا ولا نهارًا، وإذا أراد النوم يلف رجليه على رقبتي وينام قليلًا، ثم يقوم ويضربني فأقوم مُسرِعًا به، ولا أستطيع مخالفته من شدة ما أقاسي منه، وقد لمت نفسي على ما كان مني من حمله والشفقة عليه. ولم أزل معه على هذه الحالة وأنا في أشد ما يكون من التعب، وقلت في نفسي: أنا فعلت مع هذا خيرًا، فانقلب عليَّ شرًّا، والله ما بقيتُ أفعل مع أحدٍ خيرًا طول عمري. وقد صرت أتمنى الموت من الله تعالى في كل وقت وكل ساعة من كثرة ما أنا فيه من التعب والمشقة.

ولم أزل على هذه الحالة مدة من الزمان إلى أن جئتُ به يومًا من الأيام إلى مكان في الجزيرة، فوجدتُ فيه يقطينًا كثيرًا، ومنه شيء يابس، فأخذت منه واحدة كبيرة يابسة، وفتحت رأسها وصفيتها ومشيت بها إلى شجرة العنب، فملأتها منها، وسددت رأسها، ووضعتها في الشمس، وتركتها مدة أيام حتى صارت خمرًا صرفًا، وصرت كل يوم أشرب منه لأستعين به على تعبي مع ذلك الشيطان المريد، وكلما سكرت منها تقوى همتي، فنظرني يومًا من الأيام وأنا أشرب، فأشار لي بيده: ما هذا؟ فقلت له: هذا شيء مليح يقوي القلب ويشرح الخاطر. ثم إني جريت به ورقصت بين الأشجار، وحصل لي نشوة من السكر، فصفَّقْتُ وغنَّيْتُ وانشرحت، فلما رآني على هذه الحالة، أشار لي أن أناوله اليقطينة ليشرب منها، فخفتُ منه وأعطيتها له، فشرب ما كان باقيًا فيها، ورماها على الأرض، وقد حصل له طرب، فصار يهتز على أكتافي، ثم إنه سكر وغرق في السكر، وقد ارتخت جميع أعضائه وفرائصه، وصار يتمايل من فوق أكتافي، فلما علمت بسكره وأنه غاب عن الوجود، مددت يدي إلى رجلَيْه، وفككتهما من رقبتي، ثم ملت به إلى الأرض، وألقيته عليها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 558﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري لما ألقى الشيطان عن أكتافه على الأرض قال: فما صدَّقْتُ أني خلصت نفسي ونجوت من ذلك الأمر الذي كنت فيه، ثم إني خفت منه أن يقوم من سكره ويؤذيني، وأخذت صخرة عظيمة من بين الأشجار وجئت إليه، فضربته على رأسه وهو نائم، فاختلط لحمه بدمه، وقد قُتِل، فلا رحمةَ الله عليه. وبعد ذلك مشيت في الجزيرة وقد ارتاح خاطري، وجئت إلى المكان الذي كنت فيه على ساحل البحر، ولم أزل في تلك الجزيرة آكل من أثمارها، وأشرب من أنهارها مدةً من الزمان، وأنا أترقَّب مركبًا تمر عليَّ، إلى أن كنت جالسًا يومًا من الأيام متفكِّرًا فيما جرى لي، وما كان من أمري، وأقول في نفسي: يا ترى، هل يبقيني الله سالمًا، ثم أعود إلى بلادي، وأجتمع بأهلي وأصحابي؟ وإذا بمركب قد أقبلت من وسط البحر العجاج المتلاطم بالأمواج، ولم تزل سائرة حتى رست على تلك الجزيرة، وطلع منها الركاب إلى الجزيرة، فمشيت إليهم، فلما نظروني أقبلوا عليَّ كلهم مُسرِعين، واجتمعوا حولي وقد سألوني عن حالي، وما سبب وصولي إلى تلك الجزيرة، فأخبرتهم بأمري، وما جرى لي، فتعجبوا من ذلك غاية العجب، وقالوا لي: إن هذا الرجل الذي ركب على أكتافك يُسمَّى شيخ البحر، وما أحد دخل تحت أعضائه وخلص منه إلا أنت، والحمد لله على سلامتك.

ثم إنهم جاءوا إليَّ بشيء من الطعام، فأكلت حتى اكتفيت، وأعطوني شيئًا من الملبوس لبسته، وسترت به عورتي، ثم أخذوني معهم في المركب وقد سرنا أيامًا وليالي، فرمتنا المقادير على مدينة عالية البناء، جميع بيوتها مطلة على البحر، وتلك المدينة يُقال لها مدينة القرود، ولما يدخل الليل يأتي الناس الذين هم ساكنون في تلك المدينة، ويخرجون من هذه الأبواب التي على البحر، ثم ينزلون في زوارق ومراكب، ويبيتون في البحر خوفًا من القرود أن تنزل عليهم في الليل من الجبال. فطلعت أتفرج في تلك المدينة، فسافرت المركب ولم أعلم، فندمتُ على طلوعي إلى تلك المدينة، وتذكَّرْتُ رفقتي وما جرى لي مع القرود أولًا وثانيًا، فقعدت أبكي وأنا حزين، فتقدَّمَ إليَّ رجل من أصحاب هذه البلد وقال لي: يا سيدي، كأنك غريب في هذه الديار؟ فقلت له: نعم، أنا غريب ومسكين، وكنت في مركب قد رست على تلك المدينة، فطلعت منه لأتفرج في المدينة، وعدت إليها فلم أرها. فقال: قُمْ وسِرْ معنا وانزل الزورق، فإنك إنْ قعدت في المدينة ليلًا أهلكَتْكَ القرود. فقلت له: سمعًا وطاعة. وقمت من وقتي وساعتي ونزلت معهم في الزورق، ودفعوه من البر حتى أبعدوه عن ساحل البحر مقدار ميل، وباتوا تلك الليلة وأنا معهم.

فلما أصبح الصباح رجعوا بالزورق إلى المدينة، وطلعوا وراح كل واحد منهم إلى شغله، ولم تزل هذه عادتهم في كل ليلة، وكل مَن تخلف منهم في المدينة بالليل، جاء إليه القرود وأهلكوه، وفي النهار تطلع القرود إلى خارج المدينة فيأكلون من أثمار البساتين، ويرقدون في الجبال إلى وقت المساء، ثم يعودون إلى المدينة. وهذه المدينة في أقصى بلاد السودان، ومن أعجب ما وقع لي من أهل هذه المدينة، أن شخصًا من الجماعة التي بتُّ معهم في الزورق قال لي: يا سيدي، أنت غريب في هذه الديار، فهل لك صنعة تشتغل فيها؟ فقلت: لا والله يا أخي، ليس لي صنعة، ولست أعرف عمل شيء، وإنما أنا رجل تاجر صاحب مال ونوال، وكان لي مركب ملكي مشحونة بأموال كثيرة وبضائع فكُسِرت في البحر، وغرق جميع ما كان فيها، وما نجوت من الغرق إلا بإذن الله، فرزقني الله بقطعة لوح ركبتها فكانت السبب في نجاتي من الغرق. فعند ذلك قام الرجل وأحضر لي مخلاة من قطن وقال لي: خذ هذه المخلاة واملأها حجارة زلط من هذه المدينة، واخرج مع جماعةٍ من أهل المدينة وأنا أرفقك بهم وأوصيهم عليك، وافعل كما يفعلون؛ فلعلك أن تعمل بشيء تستعين به على سفرك وعودك على بلادك. ثم إن ذلك الرجل أخذني وأخرجني إلى خارج المدينة، فنقيت حجارة صغارًا من الزلط، وملأت تلك المخلاة، وإذا بجماعة خارجين من المدينة فأرفقني بهم وأوصاهم عليَّ، وقال لهم: هذا رجل غريب، فخذوه معكم وعلِّموه اللقط؛ فلعله يعمل بشيء يتقوت به، ويبقى لكم الأجر والثواب. فقالوا: سمعًا وطاعة. ورحَّبوا بي وأخذوني معهم وساروا، وكل واحد منهم معه مخلاة مثل المخلاة التي معي مملوءة زلطًا.

ولم نزل سائرين إلى أن وصلنا إلى وادٍ واسع فيه أشجار كثيرة عالية لا يقدر أحد أن يطلع عليها، وفي ذلك الوادي قرود كثيرة، فلما رأتنا هذه القرود نفرت منا وطلعت تلك الأشجار، فصاروا يرجمون القرود بالحجارة التي معهم في المخالي، والقرود تقطع من ثمار تلك الأشجار، وترمي بها هؤلاء الرجال، فنظرت تلك الثمار التي ترميها القرود، وإذا هي جوز هندي، فلما رأيت ذلك العمل من القوم اخترتُ شجرةً عظيمة عليها قرود كثيرة، وجئت إليها، وصرت أرجم هذه القرود، فتقطع من ذلك الجوز وترميني به، فأجمعه كما يفعل القوم، فما فرغت الحجارة من مخلاتي حتى جمعت شيئًا كثيرًا.

فلما فرغ القوم من هذا العمل لمُّوا جميع ما كان معهم، وحمل كل واحد منهم ما أطاقه، ثم عدنا إلى المدينة في باقي يومنا، فجئتُ إلى الرجل صاحبي الذي أرفقني بالجماعة وأعطيته جميع ما جمعت، وشكرت فضله، فقال لي: خذ هذا بِعْه وانتفع بثمنه. ثم أعطاني مفتاحَ مكانٍ في داره، وقال لي: ضَعْ في هذا المكان هذا الذي بقي معك من الجوز، واطلع في كل يوم مع الجماعة مثل ما طلعت هذا اليوم، والذي تجيء به ميِّزْ منه الرديء وبِعْه، وانتفِعْ بثمنه، واحفظه عندك في هذا المكان؛ فلعلك تجمع منه شيئًا يُعِينك على سفرك. فقلت له: أجرك على الله تعالى. وفعلت مثل ما قال لي، ولَمْ أزل في كل يوم أملأ المخلاة من الحجارة، وأطلع مع القوم، وأعمل مثل ما يعملون، وقد صاروا يتواصون بي، ويدلونني على الشجرة التي فيها الثمر الكثير.

ولم أزل على هذه الحالة مدة من الزمان، وقد اجتمع عندي شيء كثير من الجوز الهندي الطيب، وبعت شيئًا كثيرًا، وكثر عندي ثمنه، وصرت أشتري كلَّ شيء رأيته ولاق بخاطري، وقد صفا وقتي، وزاد في كل المدينة حظي، ولم أزل على هذه الحالة مدة؛ فبينما أنا واقف على جانب البحر، وإذا بمركب قد وردت إلى تلك المدينة، ورست على الساحل وفيها تجار معهم بضائع، فصاروا يبيعون ويشترون، ويقايضون على شيء من الجوز الهندي وغيره، فجئتُ عند صاحبي وأعلمته بالمركب التي جاءت، وأخبرته بأني أريد السفر إلى بلادي، فقال: الرأي لك. فودَّعْتُه وشكرته على إحسانه إليَّ، ثم إني جئت عند المركب وقابلت الريس، واكتريت معه، ونزلت ما كان معي من الجوز وغيره في تلك المركب، وقد ساروا بالمركب. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 559﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري لما نزل من مدينة القرود في المركب، وأخذ ما كان معه من الجوز الهندي وغيره، واكترى مع الريس قال: وقد ساروا بالمركب في ذلك اليوم، ولم نزل سائرين من جزيرة إلى جزيرة، ومن بحر إلى بحر، وكل جزيرة رسينا عليها أبيع فيها من ذلك الجوز وأقايض، وقد عوَّضَ الله عليَّ بأزيد مما كان معي وضاع مني. وقد مررنا على جزيرة فيها شيء من القرفة والفلفل، وقد ذكر لنا جماعة أنهم نظروا على كل عنقود من عناقيد الفلفل ورقة كبيرة تظله، وتلقي عنه المطر إذا أمطرت، وإذا ارتفع عنه المطر انقلبت الورقة عن العنقود ونزلت بجانبه. فأخذتُ معي من تلك الجزيرة شيئًا كثيرًا من الفلفل والقرفة مقايضةً بالجوز. وقد مررنا على جزيرة العسرات، وهي التي فيها العود القماري، ومن بعدها على جزيرة أخرى مسيرتها خمسة أيام، وفيها العود الصيني وهو أغلى من القماري، وأهل تلك الجزيرة أقبح حالةً ودينًا من أهل جزيرة العود القماري، فإنهم يحبون الفساد وشرب الخمور، ولا يعلمون الآذان ولا أمر الصلاة. وجئنا بعد ذلك إلى معاطن اللؤلؤ، فأعطيتُ الغوَّاصين شيئًا من جوز الهند وقلت لهم: غوصوا على بختي ونصيبي. فغاصوا في تلك البركة، وقد طلعوا شيئًا كثيرًا من اللؤلؤ الكبير الغالي وقالوا لي: يا سيدي، والله إن بختك سعيد. فأخذت جميع ما طلعوه لي في المركب، وقد سرنا على بركة الله تعالى، ولم نزل سائرين إلى أن وصلنا البصرة، فطلعت فيها، وأقمت بها مدة يسيرة، ثم توجَّهْتُ منها إلى مدينة بغداد، ودخلت حارتي، وجئتُ إلى بيتي، وسلَّمْتُ على أهلي وأصحابي، وهنوني بالسلامة، وخزَّنْتُ جميع ما كان معي من البضائع والأمتعة، وكسوت الأيتام والأرامل، وتصدَّقْتُ ووهبت، وهاديت أهلي وأصحابي وأحبابي، وقد عوَّضَ الله عليَّ بأكثر مما راح مني أربع مرات، وقد نسيت ما جرى لي، وما قاسيته من التعب بكثرة الربح والفوائد، وعدت لما كنت عليه في الزمن الأول من المعاشرة والصحبة، وهذا أعجب ما كان من أمري في السفرة الخامسة، ولكن تعشوا وفي غدٍ تعالوا أخبركم بما كان في السفرة السادسة؛ فإنها أعجب من هذه.

فعند ذلك مدوا السماط وتعشوا، فلما فرغوا من العشاء أمر السندباد للحمَّال بمائة مثقال من الذهب، فأخذها وانصرف وهو متعجِّب من ذلك الأمر، وبات السندباد الحمَّال في بيته، ولما أصبح الصباح قام على حيله وصلَّى الصبح، ومشى إلى أن وصل إلى دار السندباد البحري، فدخل عليه، فأمره بالجلوس فجلس عنده، ولم يزل يتحدَّث معه حتى جاء بقية أصحابه، فتحدثوا ومدوا السماط، وأكلوا وشربوا وتلذذوا وطربوا، وابتدأ السندباد البحري يحدِّثهم بحكاية السفرة السادسة، فقال لهم: اعلموا يا إخواني وأحبائي وأصحابي أني لما جئت من تلك السفرة الخامسة، ونسيت ما كنت قاسيته بسبب اللهو والطرب والبسط والانشراح، وأنا في غاية الفرح والسرور، ولم أزل على هذه الحالة إلى أن جلست يومًا من الأيام في حظ وسرور، وانشراح زائد، فبينما أنا جالس إذا بجماعة من التجار وردوا عليَّ، وعليهم آثار السفر، فعند ذلك تذكرت أيام قدومي من السفر، وفرحي بلقاء أهلي وأصحابي وأحبابي، وفرحي بدخولي بلادي، فاشتاقَتْ نفسي إلى السفر والتجارة، فعزمتُ على السفر، واشتريتُ لي بضائع نفيسة فاخرة تصلح للبحر، وحملت حمولي، وسافرت من مدينة بغداد إلى مدينة البصرة، فرأيتُ مركبًا عظيمة فيها تجارٌ وأكابر ومعهم بضائع نفيسة، فنزلت حمولي معهم في هذه المركب، وسرنا بالسلامة من مدينة البصرة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 560﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري لما جهَّزَ حموله، ونزلها في المركب من مدينة البصرة وسافَرَ قال: ولم نزل مسافرين من مكان إلى مكان، ومن مدينة إلى مدينة ونحن نبيع ونشتري، ونتفرج على بلاد الناس، وقد طاب لنا السعد والسفر، واغتنمنا المعاش إلى أن كنَّا سائرين يومًا من الأيام، وإذا بريس المركب صرخ وصاح ورمى عمامته، ولطم على وجهه، ونتف لحيته، ووقع في بطن المركب من شدة الغم والقهر، فاجتمع عليه جميع التجار والركاب، وقالوا له: يا ريس، ما الخبر؟ فقال لهم الريس: اعلموا يا جماعة أننا قد تهنا بمركبنا، وخرجنا من البحر الذي كنا فيه، ودخلنا بحرًا لم نعرف طرقه، وإذا لم يقيِّض الله لنا شيئًا يخلِّصنا من هذا البحر، هلكنا بأجمعنا، فادعوا الله تعالى أن ينجينا من هذا الأمر.

ثم إن الريس قام على حيله وصعد على الصاري، وأراد أن يحل القلوع، فقوي الريح على المركب، فردَّها على مؤخرها فانكسرت دفتها قُرْبَ جبلٍ عالٍ، فنزل الريس من الصاري وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لا يقدر أحد أن يمنع المقدور، والله إننا قد وقعنا في مهلكة عظيمة، ولم يَبْقَ لنا منها مخلص ولا نجاة. فبكى جميع الركاب على أنفسهم، وودَّعَ بعضهم بعضًا لفراغ أعمارهم، وانقطع رجاؤهم، ومالت المركب على ذلك الجبل فانكسرت، وتفرَّقَتْ ألواحها، فغرق جميع ما كان فيها، ووقع التجار في البحر، فمنهم مَن غرق، ومنهم مَن تمسَّكَ بذلك الجبل وطلع عليه، وكنت أنا من جملة مضن طلع على ذلك الجبل، وإذا فيه جزيرة كبيرة عندها كثير من المراكب المكسرة، وفيها أرزاق كثيرة على شاطئ البحر من الذي يطرحه من المراكب التي كُسِرت وغرق ركَّابها، وفيها شيء كثير يحيِّر العقل والفكر من المتاع والأموال التي يلقيها البحر على جوانبها؛ فعند ذلك طلعتُ على تلك الجزيرة ومشيت فيها، فرأيت في وسطها عينَ ماءٍ عذب جارٍ خارج من تحت أول ذلك الجبل، وداخل في آخِره من الجانب الثاني؛ فعند ذلك طلع الركاب على ذلك الجبل إلى آخِر الجزيرة، وانتشروا فيها، وقد ذهلت عقولهم من ذلك، وصاروا مثل المجانين من كثرة ما رأوا في الجزيرة من الأمتعة والأموال التي على ساحل البحر.

وقد رأيتُ في وسط تلك العين شيئًا كثيرًا من أصناف الجواهر والمعادن، واليواقيت واللآلئ الكبار الملوكية، وهي مثل الحصى في مجاري الماء في تلك الغيطان، وجميع أرض تلك العين تبرق من كثرة ما فيها من المعادن وغيرها. ورأينا شيئًا كثيرًا في تلك الجزيرة من أعلى العود الصيني، والعود القماري، وفي تلك الجزيرة عين نابعة من صنف العنبر الخام، وهو يسيل مثل الشمع على جانب تلك العين من شدة حر الشمس، ويمتد على ساحل البحر، فتطلع الهوايش من البحر تبلعه، وتنزل به في البحر فيحمي في بطونها، فتقذفه من أفواهها في البحر، فيجمد على وجه الماء، فعند ذلك يتغيَّر لونه وأحواله، فتقذفه الأمواج إلى جانب البحر، فيأخذه السياحون والتجار الذين يعرفونه فيبيعونه. وأما العنبر الخام الخالص من البلع، فإنه يسيل على جانب تلك العين، ويتجمد بأرضه، وإذا طلعت عليه الشمس يسيح وتبقى منه رائحة ذلك الوادي كله مثل المسك، وإذا زالت عنه الشمس يجمد. وذلك المكان الذي هو فيه هذا العنبر الخام لا يقدر أحدٌ على دخوله ولا يستطيع سلوكَه، فإن الجبل محيط بتلك الجزيرة، ولا يقدر أحد على صعود ذلك الجبل. ولم نزل دائرين في تلك الجزيرة نتفرج على ما خلق الله تعالى فيها من الأرزاق ونحن متحيِّرون في أمرنا وفيما نراه، وعندنا خوف شديد، وقد جمعنا على جانب الجزيرة شيئًا قليلًا من الزاد، فصرنا نوفره ونأكل منه في كل يوم أو يومين أكلة واحدة، ونحن خائفون أن يفرغ الزاد منَّا فنموت كمدًا من شدة الجوع والخوف، وكل مَن مات منَّا نغسِّله ونكفِّنه في ثياب وقماش من الذي يطرحه البحر على جانب الجزيرة، حتى مات منَّا خلقٌ كثير، ولم يَبْقَ منا إلا جماعة قليلة؛ فضعفنا بوجع البطن من البحر، وأقمنا مدةً قليلة، فمات جميع أصحابي ورفقائي واحدًا بعد واحد، وكلُّ مَن مات منهم ندفنه، وبقيت في تلك الجزيرة وحدي، وبقي معي زاد قليل بعد أن كان كثيرًا، فبكيت على نفسي، وقلت: يا ليتني مت قبل رفقائي، وكانوا غسَّلوني ودفنوني، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 561﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري لما دفن رفقاءه جميعًا، وصار في الجزيرة وحده قال: ثم إني قمت مدة يسيرة، ثم قمت حفرت لنفسي حفرة عميقة في جانب تلك الجزيرة، وقلت في نفسي: إذا ضعفت وعلمت أن الموت قد أتاني، أرقد في هذا القبر فأموت فيه، ويبقى الريح يسفي الرمل عليَّ فيغطيني، وأصير مدفونًا فيه، وصرت ألوم نفسي على قلة عقلي وخروجي من بلادي ومدينتي، وسفري إلى البلاد بعد الذي قاسيتُه أولًا وثانيًا وثالثًا ورابعًا وخامسًا، ولا سفرة من الأسفار إلا وأقاسي فيها أهوالًا وشدائدَ أشقَّ وأصعبَ من الأهوال التي قبلها، وما أصدق بالنجاة والسلامة، وأتوب عن السفر في البحر، وعن عودي إليه، ولست محتاجًا لمال وعندي شيء كثير، والذي عندي لا أقدر أن أفنيه، ولا أضيع نصفه في باقي عمري، وعندي ما يكفيني وزيادة. ثم إني تفكَّرْتُ في نفسي وقلتُ: والله لا بد أن هذا النهر له أول وآخِر، ولا بد له من مكان يخرج منه إلى العمار، والرأي السديد عندي أن أعمل لي فلكًا صغيرًا على قدر ما أجلس فيه وأنزل وألقيه في هذا النهر، وأسير به، فإنْ وجدتُ خلاصًا أخلص وأنجو بإذن الله تعالى، وإن لم أجد لي مخلصًا أموت داخل هذا النهر أحسن من هذا المكان. وصرت أتحسَّر على نفسي، ثم إني قمت وسعيت فجمعت أخشابًا من تلك الجزيرة من خشب العود الصيني والقماري، وشددتها على جانب البحر بحبال من حبال المراكب التي كُسِرت، وجئت بألواح متساوية من ألواح المراكب، ووضعتها في ذلك الخشب، وجعلت ذلك الفلك على عرض ذلك النهر أو أقل من عرضه، وشددته شدًّا طيبًا مكينًا، وقد أخذت معي من تلك المعادن والجواهر والأموال واللؤلؤ الكبير الذي مثل الحصى، وغير ذلك من الذي في تلك الجزيرة، وشيئًا من العنبر الخام الخالص الطيب، ووضعته في ذلك الفلك، ووضعت فيه جميع ما جمعته من الجزيرة، وأخذت معي جميع ما كان باقيًا من الزاد. ثم إني ألقيت ذلك الفلك في هذا النهر، وجعلت له خشبتين على جنبيه مثل المجاديف، وعملت بقول بعض الشعراء:

تَرَحَّلْ عَنْ مَكَانٍ فِيهِ ضَيْمٌ        وَخَلِّ الدَّارَ تَنْعِي مَنْ بَنَاهَا

فَإِنَّكَ وَاجِدٌ أَرْضًا بِأَرْضٍ        وَنَفْسُكَ لَمْ تَجِدْ نَفْسًا سِوَاهَا

وَلَا تَجْزَعْ لِحَادِثَةِ اللَّيَالِي        فَكُلُّ مُصِيبَةٍ يَأْتِي انْتِهَاهَا

وَمَنْ كَانَتْ مَنِيَّتُهُ بِأَرْضٍ        فَلَيْسَ يَمُوتُ فِي أَرْضٍ سِوَاهَا

وَلَا تَبْعَثْ رَسُولَكَ فِي مُهِمٍّ        فَمَا لِلنَّفْسِ نَاصِحَةٌ سِوَاهَا

وسرت بذلك الفلك في النهر، وأنا متفكر فيما يصير إليه أمري، ولم أزل سائرًا إلى المكان الذي يدخل فيه النهر تحت ذلك الجبل، وأدخلت الفلك في ذلك المكان وقد صرت في ظلمة شديدة تحت الجبل، ولم يزل الفلك داخلًا بي مع الماء إلى ضيق تحت الجبل، وصارت جوانب الفلك تحك في جوانب النهر، ورأسي تحكُّ في سقف النهر، ولم أقدر على أني أعود منه، وقد لُمْتُ نفسي على ما فعلته بروحي وقلت: إنْ ضاق هذا المكان على الفلك قلَّ أن يخرج منه ولا يمكن عوده، فأهلك في هذا المكان كمدًا بلا محالة. وقد انطرحت على وجهي في الفلك من ضيق النهر، ولم أزل سائرًا ولا أعلم ليلًا من نهار بسبب الظلمة التي أنا فيها تحت ذلك الجبل مع الفزع والخوف على نفسي من الهلاك. ولم أزل على هذه الحالة سائرًا في ذلك النهر وهو يتسع تارةً ويضيق أخرى، ولكن شدة الظلمة قد أتعبتني تعبًا شديدًا، فأخذتني سِنَةٌ من النوم من شدة قهري، فنمتُ على وجهي في الفلك، ولم يزل سائرًا بي وأنا نائم لا أدري بكثير ولا قليل. ثم إني استيقظت فوجدت نفسي في النور، ففتحت عيني فرأيت مكانًا واسعًا، وذلك الفلك مربوط على جزيرة، وحولي جماعة من الهنود والحبشة، فلما رأوني قمتُ نهضوا إليَّ وكلَّمُوني بلسانهم، فلم أعرف ما يقولون، وبقيت أظن أنه حلم، وأن هذا في المنام من شدة ما كنت فيه من الضيق والقهر؛ فلما كلَّموني ولم أعرف حديثهم، ولم أرد عليهم جوابًا، تقدَّمَ إليَّ رجل منهم وقال لي بلسان عربي: السلام عليكم يا أخانا، مَن تكون أنت؟ ومن أين جئت؟ وما سبب مجيئك إلى هذا المكان؟ ونحن أصحاب الزرع والغيطان، وجئنا لنسقي غيطاننا وزرعنا فوجدناك نائمًا في الفلك، فأمسكناه وربطناه عندنا حتى تقوم على مهلك، فأَخْبِرْنا ما سبب وصولك إلى هذا المكان؟ فقلت له: بالله عليك يا سيدي ائتني بشيء من الطعام، فإني جائع، وبعد ذلك اسألني عمَّا تريد. فأسرَعَ وأتاني بالطعام، فأكلت حتى شبعت وارتحت وسكن روعي، وازداد شبعي، ورُدَّتْ لي روحي، فحمدت الله تعالى على كل حال، وفرحت بخروجي من ذلك النهر ووصولي إليهم، وأخبرتهم بجميع ما جرى لي من أوله إلى آخِره، وما لقيته في ذلك النهار وضيقه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 562﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري لما طلع من الفلك على جانب الجزيرة، ورأى فيها جماعة من الهنود والحبشة، وارتاح من تعبه، سألوه عن خبره، فأخبرهم بقصته. ثم إنهم تكلَّموا مع بعضهم وقالوا: لا بد أن نأخذه معنا، ونعرضه على ملكنا ليخبره بما جرى له. قال: فأخذوني معهم، وحملوا معي الفلك بجميع ما فيه من المال والنوال والجواهر والمعادن والمصاغ، وقد أدخلوني على ملكهم، وأخبروه بما جرى، فسلَّمَ عليَّ ورحَّبَ بي، وسألني عن حالي، وما اتفق لي من الأمور، فأخبرته بجميع ما كان من أمري، وما لاقيته من أوله إلى آخِره، فتعجَّبَ الملك من هذه الحكاية غاية العجب، وهنَّأني بالسلامة؛ فعند ذلك قمت وأطلعت من ذلك الفلك شيئًا كثيرًا من المعادن والجواهر والعود والعنبر الخام، وأهديته إلى الملك، فقَبِله مني، وأكرمني إكرامًا زائدًا، وأنزلني في مكان عنده، وقد صاحبتُ أخيارهم وأكابرهم، وأعزوني معزةً عظيمة، وصرت لا أفارق دار الملك، وصار الواردون إلى تلك الجزيرة يسألونني عن أمور بلادي، فأخبرهم بها، وكذلك أسألهم عن أمور بلادهم فيخبرونني بها، إلى أن سألني ملكهم يومًا من الأيام عن أحوال بلادي، وعن أحوال حكم الخليفة في بلاد مدينة بغداد، فأخبرته بعدله في أحكامه، فتعجَّبَ من أموره وقال لي: والله إن الخليفة له أمور عقلية، وأحوال مرضية، وأنت قد حبَّبْتَني فيه، ومرادي أن أجهِّز له هدية، وأرسلها معك إليه. فقلت: سمعًا وطاعةً يا مولانا، أوصلها إليه وأخبره أنك محب صادق.

ولم أزل مقيمًا عند ذلك الملك وأنا في غاية العز والإكرام، وحسن المعيشة مدةً من الزمان إلى أن كنت جالسًا يومًا من الأيام في دار الملك، فسمعت بخبر جماعة من تلك المدينة أنهم جهَّزوا لهم مركبًا يريدون السفر فيها إلى نواحي مدينة البصرة، فقلت في نفسي: ليس لي أوفق من السفر مع هؤلاء الجماعة. فأسرعت من وقتي وساعتي وقبَّلت يد ذلك الملك، وأعلمته بأن مرادي السفر مع الجماعة في المركب التي جهَّزوها؛ لأني اشتقت إلى أهلي وبلادي، فقال لي الملك: الرأي لك، وإن شئتَ الإقامة عندنا فعلى الرأس والعين، وقد حصل لنا أنسك. فقلت: والله يا سيدي لقد غمرتَني بجميلك وإحسانك، ولكني قد اشتقت إلى أهلي وبلادي وعيالي. فلما سمع كلامي أحضر التجار الذين جهَّزوا المركب، وأوصاهم عليَّ، وقد وهب لي شيئًا كثيرًا من عنده، ودفع عني أجرة المركب، وأرسل معي هدية عظيمة إلى الخليفة هارون الرشيد بمدينة بغداد.

ثم إني ودَّعت الملك، وودَّعت جميع أصحابي الذين كنتُ أتردَّد عليهم، ثم نزلت المركب مع التجار وسرنا وقد طاب لنا الريح والسفر، ونحن متوكلون على الله سبحانه وتعالى. ولم نزل مسافرين من بحر إلى بحر، ومن جزيرة إلى جزيرة، إلى أن وصلنا بالسلامة بإذن الله تعالى إلى مدينة البصرة، فطلعت من المركب، ولم أزل مُقِيمًا بأرض البصرة أيامًا وليالي حتى جهَّزت نفسي وحملت حمولي، وتوجهت إلى مدينة بغداد دار السلام، فدخلت على الخليفة هارون الرشيد، وقدَّمْتُ إليه تلك الهدية، وأخبرته بجميع ما جرى لي، ثم خزنت جميع أموالي وأمتعتي، ودخلت حارتي، وجاءني أهلي وأصحابي، وفرَّقت الهدايا على جميع أهلي، وتصدَّقت ووهبت، وبعد مدة من الزمان أرسل إليَّ الخليفة، فسألني عن سبب تلك الهدية، ومن أين هي؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، والله لا أعرف للمدينة التي هي منها اسمًا ولا طريقًا، ولكن لما غرقتِ المركب الذي كنتُ فيه، طلعت على جزيرة، وقد صنعت لي فلكًا ونزلت في نهر كان في وسط تلك الجزيرة. وأخبرته بما جرى لي في السفرة، وكيف كان خلاصي من ذلك النهر إلى تلك المدينة، وبما جرى لي فيها، وبسبب إرسالي الهدية؛ فتعجب الخليفة من ذلك غاية العجب، وأمر المؤرخين أن يكتبوا حكايتي، ويجعلوها في خزانته ليعتبر بها كلُّ مَن رآها، ثم إنه أكرمني إكرامًا زائدًا، وقد أقمت بمدينة بغداد على ما كنت عليه في الزمن الأول، ونسيت جميع ما جرى لي، وما قاسيته من أوله إلى آخِره، ولم أزل في لذة عيش ولهو وطرب. وهذا ما كان من أمري في السفرة السادسة يا إخواني، وإن شاء الله تعالى في غدٍ أحكي لكم حكاية السفرة السابعة، فإنها أعجب وأغرب من هذه السفرات. ثم إنه أمر بمد السماط، وتعشوا عنده، وأمر السندباد البحري للسندباد الحمال بمائة مثقال من الذهب، فأخذها وانصرف إلى حال سبيله، وانصرف الجماعة وهم متعجبون من ذلك غاية العجب. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 563﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري لما حكى حكاية سفرته السادسة، وراح كل واحد إلى حال سبيله، بات السندباد البري في منزله، ثم صلى الصبح وجاء إلى منزل السندباد البحري وأقبل الجماعة، فلما تكاملوا ابتدأ السندباد البحري بالكلام في حكاية السفرة السابعة، وقال: اعلموا يا جماعة أني لما رجعت من السفرة السادسة، وعدت لما كنت عليه في الزمن الأول من البسط والانشراح واللهو والطرب، أقمت على تلك الحالة مدةً من الزمان، وأنا متواصل الهناء والسرور ليلًا ونهارًا، وقد حصل لي مكاسب كثيرة وفوائد عظيمة، فاشتاقَتْ نفسي إلى الفرجة في البلاد، وإلى ركوب البحر وعشرة التجار وسماع الأخبار، فهممتُ في ذلك الأمر، وقد حزمت أحمالًا بحرية من الأمتعة الفاخرة، وحملتها من مدينة بغداد إلى مدينة البصرة، فرأيتُ مركبًا محضرة للسفر وفيها جماعة من التجار العظام، فنزلت معهم واستأنست بهم، وقد سرنا بسلامة وعافية قاصدين السفر، وقد طاب لنا الريح حتى وصلنا إلى مدينةٍ تُسمَّى مدينة الصين، ونحن في غاية الفرح والسرور، نتحدَّث مع بعضنا في أمر السفر والمتجر.

فبينما نحن على هذه الحالة، وإذا بريحٍ عاصف هبَّ من مقدم المركب، ونزل علينا مطر شديد حتى ابتللنا وابتلت حمولنا، فغطَّيْنا الحمول باللباد والخيش؛ خوفًا على البضاعة من التلف بالمطر، وصرنا ندعو الله تعالى ونتضرَّع إليه في كشف ما نزل بنا مما نحن فيه، فعند ذلك قام ريس المركب وشد حزامه، وتشمر وطلع على الصاري، وصار يلتفت يمينًا وشمالًا، وبعد ذلك نظر إلى أهل المركب ولطم على وجهه، ونتف لحيته، فقلنا: يا ريس، ما الخبر؟ فقال لنا: اطلبوا من الله تعالى النجاة مما وقعنا فيه، وابكوا على أنفسكم، وودَّعوا بعضكم، واعلموا أن الريح قد غلب علينا ورمانا في آخِر بحار الدنيا. ثم إن الريس نزل من فوق الصاري وفتح صندوقه، وأخرج منه كيس قطن وفكه، وأخرج منه ترابًا مثل الرماد وبله بالماء، وصبر عليه قليلًا، ثم شمه، ثم إنه أخرج من ذلك الصندوق كتابًا صغيرًا وقرأ فيه، وقال لنا: اعلموا يا ركاب أن في هذا الكتاب أمرًا عجيبًا يدل على أن كلَّ مَن وصل إلى هذه الأرض لم يَنْجُ منها، بل يهلك؛ فإن هذه الأرض تُسمَّى إقليم الملوك، وفيها قبر سيدنا سليمان بن داود عليهما السلام، وفيه حيات عظام الخلقة، هائلة المنظر، فكل مركب وصل إلى هذا الإقليم يطلع له حوت من البحر فيبتلعها بجميع ما فيها.

فلما سمعنا هذا الكلام من الريس تعجَّبْنا غاية العجب من حكايته، فلم يتم الريس كلامه لنا حتى صارت المركب ترتفع بنا عن الماء ثم تنزل، وسمعنا صرخة عظيمة مثل الرعد القاصف؛ فارتعبنا منها وصرنا كالأموات، وأيقنا بالهلاك في ذلك الوقت، وإذا بحوت قد أقبَلَ على المركب كالجبل العالي، ففزعنا منه، وقد بكينا على أنفسنا بكاءً شديدًا، وتجهَّزْنا للموت، وصرنا ننظر إلى ذلك الحوت ونتعجب من خلقته الهائلة، وإذا بحوتٍ قد أقبَلَ علينا فما رأينا أعظم منه ولا أكبر، فعند ذلك ودَّعنا بعضنا ونحن نبكي على أرواحنا، وإذا بحوتٍ ثالث قد أقبل وهو أكبر من الاثنين اللذين جاءانا قبله، فصرنا لا نعي ولا نعقل، وقد اندهشت عقولنا من شدة الخوف والفزع، ثم إن هذه الحيتان الثلاثة صاروا يدورون حول المركب، وقد أهوى الحوت الثالث ليبتلع المركب بكل ما فيها، وإذا بريحٍ عظيم ثار فقامت المركب ونزلت على شعب عظيم فانكسرت، وتفرَّقَتْ جميع الألواح، وغرقت جميع الحمول والتجار والركاب في البحر، فخلعت أنا جميع ما عليَّ من الثياب، ولم يَبْقَ عليَّ غير ثوب واحد، ثم عمتُ قليلًا فلحقت لوحًا من ألواح المركب وتعلَّقت به، ثم إني طلعت عليه وركبته وقد صارت الأمواج والأرياح تلعب بي على وجه الماء وأنا قابض على ذلك اللوح، والموج يرفعني ويحطني، وأنا في أشد ما يكون من المشقة والخوف والجوع والعطش، وصرت ألوم نفسي على ما فعلتُه، وقد تعبَتْ نفسي بعد الراحة، وقلت لروحي: يا سندباد يا بحري، أنت لم تَتُبْ وكل مرة تقاسي فيها الشدائد والتعب، ولم تتب عن سفر البحر، وإنْ تُبْتَ تكذب في التوبة، فقاسِ كلَّ ما تلقاه؛ فإنك تستحق جميع ما يحصل لك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 564﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري لما غرق في البحر ركب لوحًا من الخشب، وقال في نفسه: أستحق جميع ما يجري لي، وكل هذا مقدورٌ عليَّ من الله تعالى حتى أرجع عمَّا أنا فيه من الطمع، وهذا الذي أقاسيه من طمعي؛ فإن عندي مالًا كثيرًا. ثم إنه قال: وقد رجعت لعقلي وقلت: إني في هذه السفرة قد تبتُ إلى الله تعالى توبةً نصوحًا عن السفر، وما بقيت عمري أذكره على لساني، ولا على بالي. ولم أزل أتضرع إلى الله تعالى وأبكي، ثم إني تذكرت في نفسي ما كنت فيه من الراحة والسرور واللهو والطرب والانشراح، ولم أزل على هذه الحال أول يوم وثاني يوم إلى أن طلعت على جزيرة عظيمة، وفيها شيء كثير من الأشجار والأنهار، فصرتُ آكل من ثمر تلك الأشجار، وأشرب من ماء تلك الأنهار حتى انتعشتُ، ورُدَّتْ لي روحي، وقويت همتي، وانشرح صدري، ثم مشيت في الجزيرة فرأيت في جانبها الثاني نهرًا عظيمًا من الماء العذب، ولكن ذلك النهر يجري جريًا قويًّا، فتذكرتُ أمر الفلك الذي كنت فيه سابقًا، وقلت في نفسي: لا بد أني أعمل لي فلكًا مثله؛ فلعلي أنجو من هذا الأمر، فإنْ نجوتُ به حصل المراد، وتبتُ إلى الله تعالى من السفر، وإن هلكتُ ارتاح قلبي من التعب والمشقة.

ثم إني قمت فجمعت أخشابًا من تلك الأشجار من خشب الصندل العال الذي لا يوجد مثله، وأنا لا أدري أي شيء هو، ولما جمعتُ تلك الأخشاب تحيَّلْتُ بأغصانٍ ونباتٍ من هذه الجزيرة، وفتلتها مثل الحبال، وشددت بها الفلك، وقلت: إنْ سلمتُ فمن الله. ثم إني نزلت في ذلك الفلك، وسرت به في ذلك النهر حتى خرجت من آخر الجزيرة، ثم بعدت عنها، ولم أزل سائرًا أول يوم وثاني يوم وثالث يوم بعد مفارقة الجزيرة وأنا نائم، ولم آكل في هذه المدة شيئًا، ولكن إذا عطشتُ شربتُ من ذلك النهر، وصرت مثل الفرخ الدايخ من شدة التعب والجوع والخوف، حتى انتهى بي الفلك إلى جبلٍ عال، والنهر داخل من تحته، فلما رأيت ذلك خفت على نفسي من الضيق الذي كنتُ فيه أول مرة في النهر السابق، وأردتُ أني أوقف الفلك وأطلع منه إلى جانب الجبل، فغلبني الماء فجذب الفلك وأنا فيه، ونزل به تحت الجبل، فلما رأيت ذلك أيقنت بالهلاك، وقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ولم يزل الفلك سائرًا مسافة يسيرة، ثم طلع إلى مكان واسع، وإذا هو وادٍ كبير، والماء يهدر فيه، وله دوي مثل دوي الرعد، وجريان مثل جريان الريح، فصرت قابضًا على ذلك الفلك بيدي وأنا خائف أن أقع من فوقه، والأمواج تلعب بي يمينًا وشمالًا في وسط ذلك المكان، ولم يزل الفلك منحدرًا مع الماء الجاري في ذلك الوادي وأنا لا أقدر على منعه، ولا أستطيع الدخول به في جهة البر، إلى أن رسا بي على جانب مدينة عظيمة المنظر، مليحة البناء، فيها خلق كثير، فلما رأوني وأنا في ذلك الفلك منحدرًا في وسط النهر مع التيار، رموا عليَّ الشبكة والحبال في ذلك الفلك، ثم طلعوا الفلك من ذلك النهر إلى البر وقد سقطت بينهم وأنا مثل الميت من شدة الجوع والسهر والخوف، فتلقَّاني من بين هؤلاء الجماعة رجل كبير السن وهو شيخ عظيم، ورحَّبَ بي ورمى عليَّ ثيابًا كثيرة جميلة، فسترت بها عورتي، ثم إنه أخذني وسار بي وأدخلني الحمام، وجاء لي بالأشربة المنعشة والروائح الزكية، ثم بعد خروجنا من الحمام أخذني إلى بيته وأدخلني فيه؛ ففرح بي أهل بيته، ثم أجلسني في مكان ظريف، وهيَّأ لي شيئًا من الطعام الفاخر، فأكلت حتى شبعت، وحمدت الله تعالى على نجاتي، وبعد ذلك قدَّمَ لي غلمانُه ماءً ساخنًا، فغسلت يدي، وجاءتني جواريه بمناشف من الحرير، فنشفت يدي ومسحت فمي، ثم إن الشيخ قام من وقته وأخلى لي مكانًا منفردًا وحده في جانب داره، وألزم غلمانه وجواريه بخدمتي وقضاء حاجتي وجميع مصالحي، فصاروا يتعهَّدونني، ولم أزل على هذه الحالة عنده في دار الضيافة ثلاثة أيام وأنا على أكل طيب، وشرب طيب، ورائحة طيبة، حتى رُدَّتْ لي روحي، وسكن روعي، وهدأ قلبي، وارتاحت نفسي.

فلما كان اليوم الرابع تقدَّمَ إليَّ الشيخ وقال لي: آنستنا يا ولدي، والحمد لله على سلامتك، فهل لك أن تقوم معي إلى ساحل البحر وتنزل السوق، فتبيع البضاعة وتقبض ثمنها؟ لعلك تشتري بها شيئًا تتَّجِر فيه. فسكتُّ قليلًا، وقلت في نفسي: من أين معي بضاعة، وما سبب هذا الكلام؟ ثم قال الشيخ: يا ولدي، لا تهتم ولا تتفكر، فقم بنا إلى السوق، فإن رأينا مَن يعطيك في بضاعتك ثمنًا يرضيك أقبضه لك، وإن لم يجئ فيها شيء يرضيك أحطها لك عندي في حواصلي حتى تجيء أيام البيع والشراء. فتفكَّرْتُ في أمري، وقلت لعقلي: طاوعه حتى تنظر أيَّ شيء تكون هذه البضاعة. ثم إني قلت له: سمعًا وطاعة يا عم الشيخ، والذي تفعله فيه البركة، ولا يمكن مخالفتك في شيء. ثم إني جئت معه إلى السوق، فوجدته قد فكَّ الفلك الذي جئتُ فيه وهو من خشب الصندل، وأطلق المنادي عليه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 565﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري لما ذهب مع الشيخ إلى شاطئ البحر، ورأى الفلك الذي جاء فيه من خشب الصندل مفكوكًا، ورأى الدلَّال يدلِّل عليه، جاء التجار وفتحوا باب سعره، وتزايدوا فيه إلى أن بلغ ثمنه ألف دينار، وبعد ذلك توقَّفَ التجارُ عن الزيادة، فالتفتَ إليَّ الشيخ وقال: اسمع يا ولدي، هذا سعر بضاعتك في مثل هذه الأيام، فهل تبيعها بهذا السعر، أم تصبر وأنا أحطها لك عندي في حواصلي حتى يجيء أوانُ زيادتها في الثمن، فنبيعها لك؟ فقلت له: يا سيدي، الأمر أمرك فافعل ما تريد. فقال: يا ولدي، أتبيعني هذا الحطب بزيادة مائة دينار ذهبًا فوق ما أعطى فيه التجار؟ فقلت له: نعم بعتك وقبضت الثمن. فعند ذلك أمر غلمانه بنقل ذلك الخشب إلى حواصله، ثم إني رجعت معه إلى بيته، فجلسنا وعَدَّ لي جميع ثمن ذلك الحطب، وأحضر لي أكياسًا، وحطَّ المال فيها، وقفل عليها بقفل حديد وأعطاني مفتاحه، وبعد مدة أيام وليالٍ قال الشيخ: يا ولدي، إني أعرض عليك شيئًا، وأشتهي أن تطاوعني فيه. فقلت له: وما ذاك الأمر؟ فقال لي: اعلم أني بقيتُ رجلًا كبير السن، ليس لي ولد ذكر، وعندي بنت صغيرة السن ظريفة الشكل عندها مال كثير وجمال، فأريد أن أزوِّجها لك، وتقعد معها في بلادنا، ثم إني أُملِّكك جميع ما هو عندي وما تملكه يدي، فإني بقيت رجلًا كبيرًا وأنت تقوم مقامي. فسكتُّ ولم أتكلم، فقال لي: أَطِعْني يا ولدي في الذي أقوله لك؛ فإن مرادي لك الخير، فإن أَطَعْتَني زوَّجْتُك ابنتي، وتبقى مثل ولدي وجميع ما في يدي، وما هو ملكي يصير لك، وإن أردتَ التجارة والسفر إلى بلادك لا يمنعك أحد، وهذا مالك تحت يدك فافعل به ما تريده وما تختاره. فقلت له: والله يا عم الشيخ أنت صرتَ مثل والدي، وأنا قاسيت أهوالًا كثيرة، ولم يَبْقَ لي رأي ولا معرفة، فالأمر أمرك في جميع ما تريده.

فعند ذلك أمر الشيخ غلمانه بإحضار القاضي والشهود، فأحضروهم وزوَّجني ابنته، وعمل لنا وليمة عظيمة، وفرحًا كبيرًا، وأدخلني عليها، فرأيتها في غاية الحُسْن والجمال، بقَدٍّ واعتدال، وعليها شيء كثير من أنواع الحلي والحلل، والمعادن والمصاغ والعقود والجواهر الثمينة، وما قيمتها إلا ألوف الألوف من الذهب، ولا يقدر أحد على ثمنها. فلما دخلت عليها أعجبتني ووقعت المحبة بيننا، وأقمت معها مدة من الزمان وأنا في غاية الأنس والانشراح، وقد توفي والدها إلى رحمة الله تعالى، فجهَّزْناه ودفناه، ووضعت يدي على ما كان معه، وصار جميع غلمانه غلماني، وتحت يدي في خدمتي، وولَّاني التجار مرتبتَه؛ فإنه كان كبيرهم، ولم يأخذ أحد منهم شيئًا إلا بمعرفته وإذنه؛ لأنه شيخهم، وصرت أنا في مكانه. فلما خالطتُ أهل تلك المدينة وجدتهم تنقلب حالتهم في كل شهر، فتظهر لهم أجنحة يطيرون بها إلى عنان السماء، ولا يبقى متخلفًا في تلك المدينة غير الأطفال والنساء، فقلت في نفسي: إذا جاء رأس الشهر أسأل أحدًا منهم، فلعلهم يحملوني معهم إلى أين يروحون.

فلما جاء رأس ذلك الشهر تغيَّرَتْ ألوانهم، وانقلبت صورهم، فدخلت على واحد منهم وقلت له: بالله عليك أنك تحملني معك حتى أتفرج وأعود معكم. فقال لي: هذا شيء لا يمكن. فلم أزل أتداخل عليه حتى أنعم عليَّ بذلك، وقد وافقتهم وتعلقت به، فطار بي في الهواء، ولم أُعْلِم أحدًا من أهل بيتي ولا من غلماني ولا من أصحابي، ولم يزل طائرًا بي ذلك الرجل وأنا على أكتافه حتى علا بي في الجو، فسمعت تسبيح الأملاك في قبة الأفلاك، فتعجَّبْتُ من ذلك، وقلت: سبحان الله والحمد لله. فلم أستتم التسبيح حتى خرجَتْ نار من السماء كادت تحرقهم، فنزلوا جميعًا، وقد ألقوني على جبلٍ عالٍ، وقد صاروا في غاية الغيظ مني، ورحلوا وخلوني، فصرت وحدي في ذلك الجبل، فلمتُ نفسي على ما فعلتُ، وقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أنا كلما أخلص من مصيبة أقع في مصيبة أقوى منها! ولم أزل في ذلك الجبل، ولا أعلم أين أذهب، وإذا بغلامين سائرين كأنهما قمران، وفي يدِ كلِّ واحد منهما قضيب من ذهب يتعكز عليه، فتقدَّمْتُ إليهما، وسلَّمت عليهما، فَردَّا عليَّ السلام، فقلت لهما: بالله عليكما مَن أنتما؟ وما شأنكما؟ فقالا لي: نحن من عباد الله تعالى. ثم إنهما أعطياني قضيبًا من الذهب الأحمر الذي كان معهما، وانصرفا في حال سبيلهما وخلياني، فصرت أسير على رأس ذلك الجبل وأنا أتعكَّز بالعكاز، وأتفكر في أمر هذين الغلامين، وإذا بحية قد خرجت من تحت ذلك الجبل وفي فمها رجل بلعته إلى تحت سرته، وهو يصيح ويقول: مَن يخلِّصني يخلِّصه الله من كل شدة؟ فتقدَّمْتُ إلى تلك الحية وضربتُها بالقضيب الذهبي على رأسها، فرمت الرجل من فمها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 566﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري لما ضرب الحية بالقضيب الذهب الذي كان بيده، وألقت الرجل من فمها قال: فتقدَّمَ إليَّ الرجل وقال: حيث كان خلاصي على يديك من هذه الحية، فما بقيت أفارقك، وأنت صرت رفيقي في هذا الجبل. فقلت له: مرحبًا. وسرنا في ذلك الجبل، وإذا بقومٍ أقبلوا علينا، فنظرت إليهم فإذا فيهم الرجل الذي كان حملني على أكتافه وطار بي، فتقدَّمْتُ إليه واعتذرت له وتلطفت به، وقلت له: يا صاحبي، ما هكذا يفعل الأصحاب بأصحابهم! فقال لي الرجل: أنت الذي أهلكتنا بتسبيحك على ظهري. فقلت له: لا تؤاخذني، فإني لم يكن لي علم بهذا الأمر، ولكنني لا أتكلم بعد ذلك أبدًا. فسمح بأخذي معه، ولكن شرط عليَّ ألَّا أذكر الله ولا أسبِّحه على ظهره، ثم إنه حملني وطار بي مثل الأول حتى أوصلني إلى منزلي، فتلقَّتْني زوجتي وسلمت عليَّ، وهنتني بالسلامة وقالت لي: احترس من خروجك بعد ذلك مع هؤلاء الأقوام، ولا تعاشرهم؛ فإنهم إخوان الشياطين، ولا يعلمون ذكر الله تعالى. فقلت لها: كيف حال أبيك معهم؟ فقالت لي: إن أبي لم يكن منهم، ولم يعمل مثلهم، والرأي عندي حيث مات أبي أنك تبيع جميع ما عندنا وتأخذ بثمنه بضائع، ثم تسافر إلى بلادك وأهلك، وأنا أسير معك وليس لي حاجة بالقعود هنا في هذه المدينة بعد أمي وأبي. فعند ذلك صرت أبيع من متاع ذلك الشيخ شيئًا بعد شيء وأنا أترقب أحدًا يسافر من تلك المدينة، وأسير معه.

فبينما أنا كذلك وإذا بجماعة في المدينة قد أرادوا السفر ولم يجدوا لهم مركبًا، فاشتروا خشبًا وصنعوا لهم مركبًا كبيرة، فاكتريت معهم ودفعت إليهم الأجرة بتمامها، ثم نزلت زوجتي وجميع ما كان معنا في المركب وتركنا الأملاك والعقارات، وسرنا ولم نزل سائرين في البحر من جزيرة إلى جزيرة، ومن بحر إلى بحر، وقد طاب لنا ريح السفر حتى وصلنا بالسلامة إلى مدينة البصرة، فلم أقم بها، بل اكتريت مركبًا أخرى، ونقلت إليها جميع ما كان معي، وتوجهت إلى مدينة بغداد، ثم دخلت حارتي، وجئت إلى داري، وقابلت أهلي وأصحابي وأحبابي، وخزَّنت جميع ما كان معي من البضائع في حواصلي، وقد حسب أهلي مدة غيابي عنهم في السفرة السابقة، فوجدوها سبعًا وعشرين سنة حتى قطعوا الرجاء مني، فلما جئتهم وأخبرتهم بجميع ما كان من أمري وما جرى لي، صاروا كلهم يتعجبون من ذلك الأمر عجبًا كبيرًا، وقد هنوني بالسلامة، ثم إني تبت إلى الله تعالى عن السفر في البر والبحر بعد عدة السفرة السابقة التي هي غاية السفرات، وقاطعة الشهوات، وشكرت الله سبحانه وتعالى وحمدته، وأثنيتُ عليه حيث أعادني إلى أهلي وبلادي وأوطاني؛ فانظر يا سندباد يا بري ما جرى لي وما وقع لي، وما كان من أمري. فقال السندباد البري للسندباد البحري: بالله عليك لا تؤاخذني بما كان مني في حقك. ولم يزالوا في عِشْرة ومودة، مع بسط زائد وفرح وانشراح، إلى أن أتاهم هادم اللذات، ومفرق الجماعات، ومخرب القصور ومعمر القبور، وهو كأس الممات، فسبحان الحي الذي لا يموت.

 

بلغني أيضًا أنه كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان بدمشق الشام، ملكٌ من الخلفاء يُسمَّى عبد الملك بن مروان، وكان جالسًا يوم من الأيام وعنده أكابر دولته من الملوك والسلاطين، فوقعت بينهم مُباحَثَة في حديث الأمم السالفة، وتذكروا أخبارَ سيدنا سليمان بن داود عليهما السلام، وما أعطاه الله تعالى من الملك والحكم في الإنس والجن والطير والوحش وغير ذلك، وقالوا: قد سمعنا ممَّن كان قبلنا أن الله سبحانه وتعالى لم يُعْطِ أحدًا مثل ما أعطى سيدنا سليمان، وأنه وصل إلى شيء لم يصل إليه أحد، حتى إنه كان يسجن الجن والمَرَدة والشياطين في قماقم من النحاس، ويسبك عليهم بالرصاص، ويختم عليهم بخاتمه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 567﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الخليفة عبد الملك بن مروان لما تحدَّثَ مع أعوانه وأكابر دولته، وتذكروا سيدنا سليمان وما أعطاه الله من الملك، قال: إنه وصل إلى شيء لم يصل إليه أحد، حتى إنه كان يسجن المَرَدة والشياطين في قماقم من النحاس، ويسبك عليهم الرصاص، ويختم عليهم بخاتمه، وأخبر طالب أن رجلًا نزل في مركب مع جماعة، وانحدروا إلى بلاد الهند، ولم يزالوا سائرين حتى طلع عليهم ريح، فوجَّههم ذلك الريح إلى أرض من أراضي الله تعالى، وكان ذلك في سواد الليل، فلما أشرق النهار خرج إليهم من مغارات تلك الأرض أقوام سود الألوان، عراة الأجساد، كأنهم وحوش لا يفقهون خطابًا، لهم ملك من جنسهم، وليس منهم أحد يعرف العربية غير ملكهم، فلما رأوا المركب ومَن فيها، خرج إليهم في جماعة من أصحابه فسلَّمَ عليهم، ورحَّب بهم، وسألهم عن دينهم، فأخبروه بحالهم، فقال لهم: لا بأس عليكم. وحين سألهم عن دينهم كان كلٌّ منهم على دين من الأديان، قبل ظهور الإسلام، وقبل بعث محمد ﷺ، فقال أهل المركب: نحن لا نعرف ما تقول، ولا نعرف شيئًا من هذا الدين. فقال لهم الملك: إنه لم يصل إلينا أحد من بني آدم قبلكم. ثم إنه ضيفهم بلحم الطيور والوحوش والسمك؛ لأنه ليس لهم طعام غير ذلك، ثم إن أهل المركب نزلوا يتفرجون في تلك المدينة، فوجدوا بعض الصيادين أرخى شبكةً في البحر ليصطاد سمكًا، ثم رفعها فإذا فيها قمقم من نحاس مرصص مختوم عليه بخاتم سليمان بن داود عليهما السلام، فخرج به الصياد وكسره، فخرج منه دخان أزرق التحق بعنان السماء، فسمعنا صوتًا منكرًا يقول: التوبة التوبة يا نبي الله. ثم صار من ذلك الدخان شخص هائل المنظر مهول الخلقة، يلحق رأسه الجبل، ثم غاب عن أعينهم. فأما أهل المركب فكادت تنخلع قلوبهم، وأما السودان فلم يفكروا في ذلك، فرجع رجل إلى الملك وسأله عن ذلك، فقال له: اعلم أن هذا من الجن الذين كان سليمان بن داود إذا غضب عليهم سجنهم في هذه القماقم، ورصَّص عليهم ورماهم في البحر، فإذا رمى الصياد الشبكة تطلع بهذه القماقم في غالب الأوقات، فإذا كُسِرت يخرج منها جني ويخطر بباله أن سليمان حي فيتوب، ويقول: التوبة يا نبي الله. فتعجَّبَ أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان من هذا الكلام، وقال: سبحان الله، لقد أوتي سليمان ملكًا عظيمًا. وكان ممَّنْ حضر في ذلك المجلس النابغة الذبياني فقال: صدق طالب فيما أخبر به، والدليل على صدقه قول الحكيم الأول:

وَفِي سُلَيْمَانَ إِذْ قَالَ الْإِلَهُ لَهُ        قُمْ بِالْخِلَافَةِ وَاحْكُمْ حُكْمَ مُجْتَهِدِ

فَمَنْ أَطَاعَكَ فَأَكْرِمْهُ بِطَاعَتِهِ        وَمَنْ أَبَى عَنْكَ فَاحْبِسْهُ إِلَى الْأَبَدِ

وكان يجعلهم في قماقم من النحاس، ويرميهم في البحر، فاستحسن أمير المؤمنين هذا الكلام وقال: والله إني لأشتهي أن أرى شيئًا من هذه القماقم. فقال له طالب بن سهل: يا أمير المؤمنين، إنك قادر على ذلك وأنت مقيم في بلادك، فأرسِلْ إلى أخيك عبد العزيز بن مروان أن يأتيك بها من بلاد الغرب، بأن يكتب إلى موسى أن يركب من بلاد الغرب إلى هذا الجبل الذي ذكرناه، ويأتيك من هذه القماقم بما تطلب، فإن البر متصل من آخِر ولايته بهذا الجبل. فاستصوب أمير المؤمنين رأيه، وقال: يا طالب، صدقتَ فيما قلته، وأريد أن تكون أنت رسولي إلى موسى بن نصر في هذا الأمر، ولك الراية البيضاء وكل ما تريده من مال أو جاه أو غير ذلك، وأنا خليفتك في أهلك. قال: حبًّا وكرامة يا أمير المؤمنين. فقال له: سِرْ على بركة الله تعالى وعونه. ثم أمر أن يكتبوا له كتابًا لأخيه عبد العزيز نائبه في مصر، وكتابًا آخَر إلى موسى نائبه في بلاد الغرب يأمره بالسير في طلب القماقم السليمانية بنفسه، ويستخلف ولده على البلاد، ويأخذ معه الأدلة، وينفق المال وَلْيستكثر من الرجال، ولا يلحقه في ذلك فترة، ولا يحتج بحجة، ثم ختم الكتابين وسلَّمهما إلى طالب بن سهل، وأمره بالسرعة، ونصب الرايات على رأسه. ثم إن الخليفة أعطاه الأموال والركاب والرجال ليكونوا أعوانًا له في طريقه، وأمر بإجراء النفقة على بيته من كل ما يحتاج إليه، وتوجه طالب يطلب مصر. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 568﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن طالب بن سهل سار هو وأصحابه يقطعون البلاد من الشام إلى أن دخلوا مصر، فتلقَّاه أمير مصر وأنزله عنده وأكرمه غاية الإكرام في مدة إقامته عنده، ثم بعث معه دليلًا إلى الصعيد الأعلى حتى وصلوا إلى الأمير موسى بن نصير، فلما علم به خرج إليه وتلقَّاه وفرح به، فناوَلَه الكتاب فأخذه وقرأه وفهم معناه، ووضعه على رأسه، وقال: سمعًا وطاعة لأمير المؤمنين. ثم إنه اتفق رأيه على أن يحضر أرباب دولته فحضروا، فسألهم عمَّا بدا له في الكتاب، فقالوا: أيها الأمير، إنْ أردتَ مَن يدلك على طريق ذلك المكان، فعليك بالشيخ عبد الصمد بن عبد القدوس الصمودي؛ فإنه رجل عارف، وقد سافر كثيرًا، وهو خبير بالبراري والقفار والبحار وسكانها وعجائبها، والأرضين وأقطارها، فعليك به فإنه يرشدك إلى ما تريده. فأمر بإحضاره فحضر بين يديه، وإذا هو شيخ كبير قد أهرمه تداولُ السنين والأعوام، فسلَّمَ عليه الأمير موسى وقال له: يا شيخ عبد الصمد، إن مولانا أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان قد أمرنا بكذا وكذا، وأنا قليل المعرفة بتلك الأرض، وقد قيل لي إنك عارف بتلك البلاد والطرقات، فهل لك رغبة في قضاء حاجة أمير المؤمنين؟ فقال الشيخ: اعلم أيها الملك أن هذه الطريق وعرة، بعيدة الغيبة، قليلة المسالك. فقال له الأمير: كَمْ مسير مسافتها؟ فقال: مسير سنتين وأشهرٍ ذهابًا، ومثلها مجيئًا، وفيها شدائد وأهوال وغرائب وعجائب، وأنت رجل مجاهد، وبلادنا بالقرب من العدو، فربما تخرج النصارى في غيبتك، والواجب أن تستخلف في مملكتك مَن يدبرها. قال: نعم. فاستخلف ولده هارون عوضًا عنه في مملكته، وأخذ عليه عهدًا، وأمر الجنود ألَّا يخالفوه بل يطاوعوه في جميع ما يأمرهم به، فسمعوا كلامه وأطاعوه.

وكان ولده هارون عظيم البأس همامًا جليلًا، وبطلًا كميًّا، وأظهر له الشيخ عبد الصمد أن الموضع الذي فيه حاجة أمير المؤمنين مسير أربعة أشهر، وهو على ساحل البحر، وكله منازل تتصل ببعضها، وفيها عشب وعيون، وقال: قد يهون الله علينا ذلك ببركتك يا نائب أمير المؤمنين. فقال الأمير موسى: هل تعلم أن أحدًا من الملوك وَطِئ هذه الأرض قبلنا؟ قال له: نعم يا أمير المؤمنين، هذه الأرض لملك الإسكندرية داران الرومي. ثم ساروا، ولم يزالوا سائرين إلى أن وصلوا إلى القصر، فقال: تقدَّمْ بنا إلى هذا القصر الذي هو عبرة لمَن اعتبر. فتقدَّمَ الأمير موسى إلى القصر ومعه الشيخ عبد الصمد وخواص أصحابه حتى وصلوا إلى بابه فوجدوه مفتوحًا، وله أركان طويلة ودرجات، وفي تلك الدرجات درجتان ممتدتان، وهما من الرخام الملون الذي لم يُرَ مثله، والسقوف والحيطان منقوشة بالذهب والفضة والمعدن، وعلى الباب لوح مكتوب فيه باليوناني، فقال الشيخ عبد الصمد: هل أقرأه يا أمير؟ فقال له: تقدَّمْ واقرأ بارَكَ الله فيك، فما حصل لنا في هذا السفر إلا بركتك. فقرأه، فإذا فيه شعر وهو:

قَوْمٌ تَرَاهُ بَعْدَ مَا صَنَعُوا        يَبْكِي عَلَى الْمُلْكِ الَّذِي نَزَعُوا

فَالْقَصْرُ فِيهِ مُنْتَهَى خَبَرٍ        عَنْ سَادَةٍ فِي التُّرْبِ قَدْ جَمَعُوا

أَبَادَهُمْ مَوْتٌ وَفَرَّقَهُمْ        وَضَيَّعُوا فِي التُّرْبِ مَا جَمَعُوا

كَأَنَّمَا حَطُّوا رِحَالَهُمُو        لِيَسْتَرِيحُوا فَجْأَةً رَحَلُوا

قال: فبكى الأمير موسى حتى غُشِي عليه، وقال: لا إله إلا الله الحي الباقي بلا زوال. ثم إنه دخل القصر فتحيَّر من حُسْنه وبنائه، ونظر إلى ما فيه من الصور والتماثيل، وإذا على الباب الثاني أبيات مكتوبة، فقال الأمير موسى: تقدَّمْ أيها الشيخ واقرأ. فتقدَّمَ وقرأ فإذا هي:

كَمْ مَعْشَرٍ فِي قِبَابِهَا نَزَلُوا        عَلَى قَدِيمِ الزَّمَانِ وَارْتَحَلُوا

فَانْظُرْ إِلَى مَا بِغَيْرِهِمْ صَنَعَتْ        حَوَادِثُ الدَّهْرِ إِذْ بِهِمْ نَزَلُوا

تَقَاسَمُوا كُلَّ مَا لَهُمْ جَمَعُوا        وَخَلَّفُوا بَعْدُ فَارْتَحَلُوا

كَمْ لَابَسُوا نِعْمَةً وَكَمْ أَكَلُوا        فَأَصْبَحُوا فِي التُّرَابِ قَدْ أُكِلُوا

فبكى الأمير موسى بكاءً شديدًا، واصفرت الدنيا في وجهه، ثم قال: لقد خُلِقنا لأمر عظيم. ثم تأمَّلوا القصر فإذا هو قد خلا من السكان، وعدم الأهل والقطان، دوره موحشات، وجهاته مقفرات، وفي وسطه قبة عالية شاهقة في الهواء، وحواليها أربعمائة قبر. قال: فدَنَا الأمير موسى إلى تلك القبور، وإذا بقبر بينهم مبني بالرخام، منقوش عليه هذه الأبيات:

فَكَمْ قَدْ وَقَفْتُ وَكَمْ قَدْ فَتَكْتُ        وَكَمْ قَدْ شَهِدْتُ مِنَ الْكَائِنَاتِ

وَكَمْ قَدْ أَكَلْتُ وَكَمْ قَدْ شَرِبْتُ        وَكَمْ قَدْ سَمِعْتُ مِنَ الْغَانِيَاتِ

وَكَمْ قَدْ أَمَرْتُ وَكَمْ قَدْ نَهَيْتُ        وَكَمْ مِنْ حُصُونٍ تُرَى مَانِعَاتِ

فَحَاصَرْتُهَا ثُمَّ فَتَّشْتُهَا        وَبَيَّنْتُ مِنْهَا حُلِيَّ الْغَانِيَاتِ

وَلَكِنْ بِجَهْلِي تَعَدَّيْتُ في        حُصُولِ أَمَانٍ غَدَتْ فَانِيَاتِ

فَحَاسِبْ لِنَفْسِكَ يَا ذَا الْفَتَى        قُبَيْلَ شَرَابِكَ كَأْسَ الْمَمَاتِ

فَعَمَّا قَلِيلٍ يُهَالُ الثَّرَى        عَلَيْكَ وَأَنْتَ عَدِيمُ الْحَيَاةِ

فبكى الأمير موسى ومَن معه، ثم دَنَا من القبة فإذا لها ثمانية أبواب من خشب الصندل، بمسامير من الذهب مكوكبة بكواكب الفضة، مرصَّعة بالمعادن من أنواع الجواهر، مكتوب على الباب الأول هذه الأبيات:

مَا قَدْ تَرَكْتُ فَمَا خَلَّفْتُهُ كَرَمًا        بَلِ الْقَضَاءُ وَحُكْمٌ فِي الْوَرَى جَارِ

فَطَالَ مَا كُنْتُ مَسْرُورًا وَمُغْتَبِطًا        أَحْمِي حِمَايَ لِمِثْلِ الضَّيْغَمِ الضَّارِي

لَا أَسْتَقِرُّ وَلَا أَسْخَى بِخَرْدَلَةٍ        شُحًّا عَلَيْهِ وَلَوْ أُلْقِيتُ فِي النَّارِ

حَتَّى رُمِيتُ بِأَقْدَارٍ مُقَدَّرَةٍ        مِنَ الْإِلَهِ الْعَظِيمِ الْخَالِقِ الْبَارِي

إنْ كَانَ مَوْتِي مَحْتُومًا عَلَى عَجَلٍ        فَلَمْ أُطِقْ دَفْعَهُ عَنِّي بِإِكْثَارِي

وَلَا جُنُودِي الَّتِي جَمَّعْتُهَا نَفَعَتْ        وَلَمْ يَغِثْنِي صَدِيقٌ لِي وَلَا جَارِي

وَطُولُ عُمْرِي مَتْعُوبٌ عَلَى سَفَرٍ        تَحْتَ الْمَنِيَّةِ فِي يُسْرٍ وَإِعْسَارِ

عَادَتْ لِغَيْرِكَ قَبْلَ الصُّبْحِ كَامِلَةً        وَقَدْ أَتَوْكَ بِحَمَّالٍ وَحَفَّارِ

وَيَوْمَ عَرْضِكَ تَلْقَى اللهَ مُنْفَرِدًا        بِحَمْلِ إِثْمٍ وَإِجْرَامٍ وَأَوْزَارِ

فَلَا تَغُرَّنَّكَ الدُّنْيَا بِزِينَتِهَا        وَانْظُرْ إِلَى فِعْلِهَا بِالْأَهْلِ وَالْجَارِ

فلما سمع الأمير موسى هذه الأبيات بكى بكاءً شديدًا حتى غُشِي عليه، فلما أفاق دخل القبة فرأى فيها قبرًا طويلًا هائل المنظر، وعليه لوح من الحديد الصيني، فدَنَا منه الشيخ عبد الصمد وقرأه، فإذا فيه مكتوب: باسم الله الدائم الأبدي الأبد، باسم الله الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، باسم الله ذي العزة والجبروت، باسم الحي الذي لا يموت … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 569﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشيخ عبد الصمد لما قرأ ما ذكرناه، رأى بعده مكتوبًا في اللوح: أما بعد، أيها الواصل إلى هذا المكان اعتبِرْ بما ترى من حوادث الزمان، وطوارق الحدثان، ولا تغترَّ بالدنيا وزينتها، وزورها وبهتانها، وغرورها وزخرفها؛ فإنها ملَّاقة مكَّارة غدَّارة، أمورها مستعارة، تأخذ المعار من المستعير، فهي كأضغاث النائم، وحلم الحالم، كأنها أسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، يزخرفها الشيطان للإنسان إلى الممات، فهذه صفات الدنيا فلا تثق بها، ولا تَمِلْ إليها؛ فإنها تخون مَن استند إليها، وعوَّلَ في أموره عليها، لا تقع في حبالها، ولا تتعلَّق بأذيالها، فإني ملكت أربعة آلاف حصان أحمر في دار، وتزوَّجت ألف بنت من بنات الملوك، نواهد أبكارًا كأنهن الأقمار، ورُزِقت ألف ولد كأنهم الليوث العوابس، وعشت من العمر ألف سنة منعم البال والأسرار، وجمعت من الأموال ما يعجز عنه ملوك الأقطار، وكان ظني أن النعيم يدوم لي بلا زوال، فلم أشعر حتى نزل بنا هازم اللذات، ومفرق الجماعات، وموحش المنازل، ومخرب الدور العامرات، ومفني الكبار والصغار والأطفال والولدان والأمهات، وقد تركنا في هذا القصر مطمئنين حتى نزل بنا حكم رب العالمين، ورب السموات ورب الأرضين، فأخذتنا صيحة الحق المبين، فصار يموت منَّا كلَّ يوم اثنان، حتى فني منَّا جماعة كثيرة، فلما رأيت الفناء قد خل ديارنا وقد حلَّ بنا وفي بحر المنايا أغرقنا، أحضرت كاتبًا وأمرته أن يكتب هذه الأشعار والمواعظ والاعتبارات، وقد جعلتها بالبيكار مسطَّرة على هذه الأبواب والألواح والقبور.

وقد كان لي جيش ألف ألف عنان أهل جلاد برماح وأزراد وسيوف حداد، وسواعد شداد، فأمرتهم أن يلبسوا الدروع السابغات، ويتقلدوا السيوف الباترات، ويعتقلوا الرماح الهائلات، ويركبوا الخيول الصافنات، فلما نزل بنا حكم رب العالمين، رب الأرض والسموات، قلت: يا معاشر الجنود والعساكر، هل تقدرون أن تمنعوا ما نزل بي من المَلِك القاهر؟ فعجزَتِ العساكر والجنود عن ذلك وقالوا: كيف نحارب مَن لم يحجب عنه حاجب، صاحب الباب الذي ليس له بوَّاب؟ فقلت لهم: أحضروا لي الأموال وهي ألف جب، في كل جب ألف قنطار من الذهب الأحمر، وفيها أصناف الدر والجواهر، ومثلها من الفضة البيضاء والذخائر التي يعجز عنها ملوك الأرض. ففعلوا ذلك، فلما أحضروا المال بين يدي قلت لهم: هل تقدرون أن تنقذوني بهذه الأموال كلها وتشتروا لي بها يومًا واحدًا أعيشه؟ فلم يقدروا على ذلك، وصاروا مسلمين للقضاء والقدر، وصبرت لله على القضاء والبلاء حتى أخذ روحي وأسكنني ضريحي. وإنْ سألتَ عن اسمي، فإني كوش بن شداد بن عاد الأكبر، وفي ذلك اللوح مكتوب أيضًا هذه الأبيات:

إِنْ تَذْكُرُونِي بَعْدَ طُولِ زَمَانِي        وَتَقَلُّبِ الْأَيَّامِ وَالْحَدَثَانِ

فَأَنَا ابْنُ شَدَّادٍ الَّذِي مَلَكَ الْوَرَى        وَالْأَرْضَ أَجْمَعَهَا بِكُلِّ مَكَانِ

دَانَتْ لِيَ الزُّمَرُ الصِّعَابُ بِأَسْرِهَا        وَالشَّامُ مِنْ مِصْرَ إِلَى عَدْنَانِ

قَدْ كُنْتُ فِي عِزٍّ أَذَلَّ مُلُوكَهَا        وَتَخَافُ أَهْلُ الْأَرْضِ مِنء سُلْطَانِي

وَأَرَى الْقَبَائِلَ وَالْجَحَافِلَ فِي يَدِي        وَأَرَى الْبِلَادَ وَأَهْلَهَا تَخْشَانِي

وَإِذَا رَكِبْتُ رَأَيْتُ عُدَّةَ عَسْكَرِي        فَوْقَ الصَّوَاهِلِ أَلْفَ أَلْفَ عِنَانِ

وَمَلَكْتُ مَالًا لَيْسَ يُحْصَرُ عَدُّهُ        أَعْدَدْتُهُ لِنَوَائِبِ الْحَدَثَانِ

وَعَزَمْتُ أَنْ أُفْدِي بِمَالِي كُلِّهِ        رُوحِي إِلَى حِينٍ مِنَ الْأَحْيَانِ

فَأَبَى الْإِلَهُ سِوَى نَفَاذِ مُرَادِهِ        فَأَنَا الْوَحِيدُ إِذَنْ مِنَ الْإِخْوَانِ

وَأَتَانِيَ الْمَوْتُ الْمُفَرِّقُ لِلْوَرَى        فَنُقِلْتُ مِنْ عِزٍّ لِدَارِ هَوَانِ

وَلَقَدْ لَقِيتُ جَمِيعَ مَا قَدَّمْتُهُ        فَأَنَا الرَّهِينُ بِهِ وَكُنْتُ الْجَانِي

فَارْبَأْ بِنفْسِكَ أَنْ تَكُونَ عَلَى شَفَا        وَاحْذَرْ هُدِيتَ طَوَارِقَ الْحَدَثَانِ

فبكى الأمير موسى حتى غُشِي عليه لما رأى من مصارع القوم. قال: فبينما هم يطوفون بنواحي القصر، ويتأملون في مجالسه ومنتزهاته، وإذا بمائدة على أربع قوائم من المرمر مكتوب عليها: قد أكل على هذه المائدة ألف مَلِك أعور، وألف مَلِك سليم العينين، كلهم فارَقُوا الدنيا، وسكنوا الأرماس والقبور. فكتب الأمير موسى ذلك كله، ثم خرج ولم يأخذ معه من القصر غير المائدة، وسار العسكر والشيخ عبد الصمد أمامهم يدلهم على الطريق، حتى مضى ذلك اليوم كله وثانيه وثالثه، وإذا هم برابية عالية، فنظروا إليها فإذا عليها فارس من نحاس، وفي رأس رمحه سنان عريض برَّاق يكاد أن يخطف البصر، مكتوب عليه: أيها الواصل إليَّ، إنْ كنتَ لا تعرف الطريقَ الموصلة إلى مدينة النحاس، فافرك كفَّ الفارس فإنه يدور، ثم يقف، فأي جهة وقف إليها فاسلكها، ولا خوفَ عليك ولا حرج؛ فإنها توصلك إلى مدينة النحاس. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 570﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الأمير موسى لما فرك كفَّ الفارس، دار كأنه البرق الخاطف، وتوجَّهَ إلى غير الجهة التي كانوا فيها، فتوجَّهَ القوم فيها وساروا، فإذا هي طريق حقيقة فسلكوها، ولم يزالوا سائرين يومهم وليلتهم حتى قطعوا بلادًا بعيدة. فبينما هم سائرون يومًا من الأيام، وإذا هم بعمود من الحجر الأسود وفيه شخص غائص في الأرض إلى إبطه، وله جناحان عظيمان، وأربع أيادٍ؛ يدان منها كأيدي الآدميين، ويدان كأيدي السباع فيها مخالب، وله شعر في رأسه كأنه أذناب الخيل، وله عينان كأنهما جمرتان، وله عين ثالثة في جبهته كعين الفهد يلوح منها شرر النار، وهو أسود طويل، وينادي: سبحان ربي حكم عليَّ بهذا البلاء العظيم والعذاب الأليم إلى يوم القيامة. فلما عايَنَه القوم طارت عقولهم، واندهشوا لما رأوا من صفته، وولوا هاربين، فقال الأمير موسى للشيخ عبد الصمد: ما هذا؟ قال: لا أدري ما هو. فقال: ادنُ منه وابحث عن أمره؛ فلعله يكشف عن أمره، ولعلك تطلع على خبره. فقال الشيخ عبد الصمد: أصلَحَ الله الأمير، إنَّا نخاف منه. قال: لا تخافوا، فإنه مكفوف عنكم وعن غيركم بما هو فيه. فدنا منه الشيخ عبد الصمد وقال له: أيها الشخص، ما اسمك؟ وما شأنك؟ وما الذي جعلك في هذا المكان على هذه الصورة؟ فقال له: أما أنا فإني عفريت من الجن، واسمي داهش بن الأعمش، وأنا مكفوف ها هنا، بالعظمة محبوس، بالقدرة معذَّب إلى ما شاء الله عزَّ وجل. قال الأمير موسى: يا شيخ عبد الصمد، اسأله ما سبب سجنه في هذا العمود؟ فسأله عن ذلك فقال له العفريت: إن حديثي عجيب؛ وذلك أنه كان لبعض أولاد إبليس صنم من العقيق الأحمر، وكنت موكلًا به، وكان يعبده ملك من ملوك البحر جليل القدر عظيم الخطر، يقود من عساكر الجان ألفَ ألفٍ، يضربون بين يديه بالسيوف، ويجيبون دعوته في الشدائد، وكان الجان الذين يطيعونه تحت أمري وطاعتي، يتبعون قولي إذا أمرتهم، وكانوا كلهم عصاة عن سليمان بن داود عليهما السلام، وكنت أدخل في جوف الصنم فآمرهم وأنهاهم، وكانت ابنة ذلك الملك تحت ذلك الصنم كثيرة السجود له منهمكة على عبادته، وكانت أحسن أهل زمانها؛ ذات حُسْن وجمال وبهاء وكمال، فوصفتها لسليمان عليه السلام، فأرسل إلى أبيها يقول له: زوِّجني بنتك، واكسر صنمك العقيق، واشهد أن لا إله إلا الله وأن سليمان نبي الله، فإن أنت فعلتَ ذلك كان لك ما لنا، وعليك ما علينا، وإن أنت أبيتَ أتيتك بجنودٍ لا طاقةَ لك بها، فاستعِدَّ للسؤال جوابًا، والبس للموت جلبابًا، فسوف أسير لك بجنود تملأ الفضاء، وتذرك كالأمس الذي مضى. فلما جاءه رسول سليمان عليه السلام، طغى وتجبَّرَ وتعاظم في نفسه وتكبَّر، ثم قال لوزرائه: ماذا تقولون في أمر سليمان بن داود؟ فإنه أرسل يطلب ابنتي، وأن أكسر صنمي العقيق، وأن أدخل في دينه. فقالوا: أيها الملك العظيم، هل يقدر سليمان أن يفعل بك ذلك وأنت في وسط هذا البحر العظيم؟ فإن هو سار إليك لا يقدر عليك؛ فإن مَرَدة الجن يقاتلون معك، وتستعين عليه بصنمك الذي تعبده، فإنه يُعِينك عليه وينصرك، والصواب أن تشاور ربك في ذلك — ويعنون به الصنم العقيق الأحمر — وتسمع ما يكون جوابه، فإن أشار عليك أن تقاتله فقاتله وإلا فلا. فعند ذلك سار الملك من وقته وساعته، ودخل على صنمه بعد أن قرَّب القربان، وذبح الذبائح، وخرَّ له ساجدًا، وجعل يبكي ويقول شعرًا:

يَا رَبِّ إِنِّي عَارِفٌ بِقَدْرِكَ        وَهَا سُلَيْمَانُ يَرُومُ كَسْرَكَ

يَا رَبِّ إِنِّي طَالِبٌ لِنَصْرِكَ        فَأْمُرْ فَإِنِّي طَائِعٌ لِأَمْرِكَ

ثم قال ذلك العفريت الذي نصفه في العمود للشيخ عبد الصمد ومَن حوله يسمع: فدخلت أنا في جوف الصنم من جهلي، وقلة عقلي، وعدم اهتمامي بأمر سليمان، وجعلت أقول شعرًا:

أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مِنْهُ خَائِفُ        لِأَنَّنِي بِكُلِّ أَمْرٍ عَارِفُ

وَإِنْ يُرِدْ حَرْبِي فَإِنِّي زَاحِفُ        وَإِنَّنِي لِلرُّوحِ مِنْهُ زَاحِفُ

فلما سمع الملك جوابي له قوي قلبه، وعزم على حرب سليمان نبي الله عليه السلام، وعلى مقاتلته، فلما حضر رسول سليمان ضربه ضربًا وجيعًا، وردَّ عليه ردًّا شنيعًا، وأرسل يهدِّده ويقول له مع الرسول: لقد حدَّثَتْك نفسك بالأماني، أتوعدني بزور الأقوال! فإما أن تسير إليَّ وإما أن أسير إليك. ثم رجع الرسول إلى سليمان وأعلمه بجميع ما كان من أمره، وما حصل له، فلما سمع نبي الله سليمان ذلك قامت قيامته، وثارت عزيمته، وجهَّزَ عساكره من الجن والإنس والوحوش والطير والهوام، وأمر وزيره الدمرياط ملك الجن أن يجمع مَرَدة الجن من كل مكان، فجمع له من الشياطين ستمائة ألفَ ألفٍ، وأمر آصف بن برخياء أن يجمع عساكره من الإنس، فكانت عدتهم ألفَ ألفٍ أو يزيدون، وأعَدُّوا العدةَ والسلاح، وركب هو وجنوده من الجن والإنس على البساط، والطير فوق رأسه طائر، والوحوش من تحت البساط سائرة، حتى نزل بساحته وأحاط بجزيرته، وقد ملأ الأرض بالجنود. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 571﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن العفريت قال: لما نزل نبي الله سليمان عليه السلام بجيوشه حول الجزيرة، أرسل إلى ملكنا يقول له: ها أنا قد أتيتُ فاردد عن نفسك ما نزل، وإلا فادخل تحت طاعتي وقرَّ برسالتي، واكسر صنمك، واعبد الواحدَ المعبود، وزوِّجني بنتك بالحلال، وقُلْ أنت ومَن معك: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن سليمان نبي الله. فإن قلتَ ذلك كان لك الأمان والسلامة، وإن أبيتَ فلا يمنعك تحصُّنُك مني في هذه الجزيرة؛ فإن الله تبارَكَ وتعالى أمر الريح بطاعتي، فأمرها أن تحملني إليك بالبساط، وأجعلك عبرة ونكالًا لغيرك. فجاءه الرسول وبلَّغَه رسالةَ نبي الله سليمان عليه السلام، فقال له: ليس لهذا الأمر الذي طلبه مني سبيل، فأعلِمْه أني خارج إليه. فعاد الرسول إلى سليمان وردَّ عليه الجواب، ثم إن الملك أرسل إلى أهل أرضه وجمع له من الجن الذين كانوا تحت يده ألف ألف، وضمَّ إليهم غيرهم من المَرَدة والشياطين الذين في جزائر البحار ورءوس الجبال، ثم جهَّزَ عساكره وفتح خزائن السلاح، وفرَّقَها عليهم.

وأما نبي الله سليمان عليه السلام، فإنه رتَّبَ جنوده وأمر الوحوش أن تنقسم شطرين؛ على يمين القوم وعلى شمالهم، وأمر الطيور أن تكون في الجزائر، وأمرها عند الحملة أن تختطف أعينهم بمناقيرها، وأن تضرب وجوههم بأجنحتها، وأمر الوحوش أن تفترس خيولهم، فقالوا: السمع والطاعة لله ولك يا نبي الله. ثم إن سليمان نبي الله نصب له سريرًا من المرمر مرصَّعًا بالجوهر مصفَّحًا بصفائح الذهب الأحمر، وجعل وزيره آصف بن برخيا على الجانب الأيمن، ووزيره الدمرياط على الجانب الأيسر، وملوك الإنس على يمينه، وملوك الجن على يساره، والوحوش والأفاعي والحيات أمامه، ثم زحفوا علينا زحفة واحدة، وتحارينا معه في أرض واسعة مدة يومين، ووقع بنا البلاء في اليوم الثالث، فنفذ فينا قضاء الله تعالى، وكان أول مَن حمل على سليمان أنا وجنودي، وقلت لأصحابي: الزموا مواطنكم حتى أبرز إليهم وأطلب قتال الدمرياط، وإذا به قد برز كأنه الجبل العظيم، ونيرانه تلتهب، ودخانه مرتفع، فأقبل ورماني بشهاب من نار فغلب سهمه على ناري، وصرخ عليَّ صرخةً عظيمة تخيَّلت منها أن السماء انطبقت عليَّ، وانهزت لصوته الجبال، ثم أمر أصحابه فحملوا علينا حملة واحدة، وحملنا عليهم، وصرخ بعضنا على بعض، وارتفعت النيران وعلا الدخان، وكادت القلوب أن تنفطر، وقامت الحرب على ساق، وصارت الطيور تقاتل في الهواء والوحوش تقاتل في الثرى، وأنا أقاتل الدمرياط حتى أعياني وأعييتُه، ثم بعد ذلك ضعفت وخذلت أصحابي وجنودي، وانهزمَتْ عشائري، وصاح نبي الله سليمان: خذوا هذا الجبار العظيم النحس الذميم. فحملت الإنس على الإنس، والجن على الجن، ووقعت بملكنا الهزيمة، وكنا لسليمان غنيمة، وحملت العساكر على جيوشنا، والوحوش حولهم يمينًا وشمالًا، والطيور فوق رءوسنا تخطف أبصار القوم تارةً بمخالبها، وتارةً بمناقيرها، وتارةً تضرب بأجنحتها في وجوه القوم، والوحوش تنهش الخيول وتفترس الرجال، حتى صار أكثر القوم على وجه الأرض كجذوع النخل، وأما أنا فطرتُ من بين أيادي الدمرياط، فتبعني مسيرة ثلاثة أشهر حتى لحقني، وقد وقعت كما تروني. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 572﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجني الذي في العمود لما حكى لهم حكايته من أولها إلى أن سُجِن في العمود، قالوا له: أين الطريق الموصلة إلى مدينة النحاس؟ فأشار لنا إلى طريق المدينة، وإذا بيننا وبينها خمسة وعشرون بابًا لا يظهر منها باب واحد، ولا يُعرَف له أثر، وسورها كأنه قطعة من جبل أو حديد صُبَّ في قالب.

فنزل القوم ونزل الأمير موسى والشيخ عبد الصمد، واجتهدوا أن يعرفوا لها بابًا، أو يجدوا لها سبيلًا، فلم يصلوا إلى ذلك، فقال الأمير موسى: يا طالب، كيف الحيلة في دخول هذه المدينة؟ فلا بد أن نعرف لها بابًا ندخل منه؟ فقال طالب: أصلح الله الأمير، ليسترِحْ يومين أو ثلاثة وندبِّر الحيلةَ إن شاء الله تعالى في الوصول إليها والدخول فيها. قال: فعند ذلك أمر الأمير موسى بعض غلمانه أن يركب جملًا، ويطوف حول المدينة لعله يطلع على أثر باب، أو موضع قصر في المكان الذي هم فيه نازلون، فركب بعض غلمانه وسار حولها يومين بلياليهما يجدُّ السيرَ ولا يستريح، فلما كان اليوم الثالث أشرف على أصحابه وهو مدهوشٌ لما رأى من طولها وارتفاعها، ثم قال: أيها الأمير، إن أهون موضع فيها هذا الموضع الذي أنتم نازلون فيه.

ثم إن الأمير موسى أخذ طالب بن سهل والشيخ عبد الصمد وصعدوا على جبل مقابلها وهو مشرف عليها، فلما طلعوا ذلك الجبل رأوا مدينة لم تَرَ العيون أعظمَ منها، قصورها عالية، وقبابها زاهية، ودورها عامرات، وأنهارها جاريات، وأشجارها مثمرات، ورياضها يانعات، وهي مدينة بأبواب منيعة خالية خامدة لا حسَّ فيها ولا أنيس، يصفر البوم في جهاتها، ويحوم الطير في عرصاتها، وينعق الغراب في نواحيها وشوارعها، ويبكي على مَن كان فيها، فوقف الأمير موسى يتندَّم على خلوِّها من السكان، وخرابها من الأهل والقطان، وقال: سبحان مَن لا تغيِّره الدهور والأزمان، خالق الخلق بقدرته. فبينما هو يسبح الله عز وجل إذ حانت منه التفاتة إلى جهة، وإذا فيها سبعة ألواح من الرخام الأبيض، وهي تلوح من البُعْد، فدنا منها فإذا هي منقوشة مكتوبة، فأمر أن تُقرَأ كتابتها، فتقدَّمَ الشيخ عبد الصمد وتأمَّلَها وقرأها، فإذا فيها وعظ واعتبار، وزجر لذوي الأبصار، مكتوب على اللوح الأول بالقلم اليوناني: «يا ابن آدم، ما أغفلك عن أمر هو أمامك، قد ألهَتْك عنه سنونك وأعوامك، أَمَا علمتَ أن كأس المنية لك يترع، وعن قريب له تتجرَّع، فانظر لنفسك قبل دخولك رمسك، أين مَن ملك البلاد وأذلَّ العباد، وقاد الجيوش؟ نزل بهم والله هادم اللذات، ومفرق الجماعات، ومخرب المنازل العامرات، فنقلهم من سعة القصور إلى ضيق القبور!» وفي أسفل اللوح مكتوب هذه الأبيات:

أَيْنَ الْمُلُوكُ وَمَنْ بِالْأَرْضِ قَدْ عَمَرُوا        قَدْ فَارَقُوا مَا بَنَوْا فِيهَا وَمَا عَمَرُوا

وَأَصْبَحُوا رَهْنَ قَبْرٍ بِالَّذِي عَمِلُوا        عَادُوا رَمِيمًا مِنْ بَعْدِ مَا دُثِرُوا

أَيْنَ الْعَسَاكِرُ مَا رَدَّتْ وَمَا نَفَعَتْ        وَأَيْنَ مَا جَمَعُوا فِيهَا وَمَا ادَّخَرُوا

أَتَاهُمْ أَمْرُ رَبِّ الْعَرْشِ فِي عَجَلٍ        لَمْ يُنْجِهِمْ مِنْهُ أَمْوَالٌ وَلَا وَزَرُ

فصُعِق الأمير موسى وجرت دموعه على خده، وقال: والله إن الزهد في الدنيا هو غاية التوفيق ونهاية التحقيق. ثم إنه أحضر دواة وقرطاسًا، وكتب ما على اللوح الأول، ثم دنا من اللوح الثاني، وإذا عليه مكتوب: «يا ابن آدم، ما غرَّك بقديم الأزل، وما ألهاك عن حلول الأجل، أَلَمْ تعلم أن الدنيا دار بوار، وما لأحد فيها قرار، وأنت ناظر إليها، ومكب عليها؟ أين الملوك الذين عمروا العراق، وملكوا الآفاق؟ أين مَن عمروا أصفهان وبلاد خراسان؟ دعاهم داعي المنايا فأجابوه، وناداهم داعي الفناء فلَبَّوْه، وما نفعهم ما بنوا وشيَّدوا، ولا ردَّ عنهم ما جمعوا وعددوا». وفي أسفل اللوح مكتوب هذه الأبيات:

أَيْنَ الَّذِينَ بَنَوْا لِذَاكَ وَشَيَّدُوا        غُرَفًا بِهِ لَمْ يَحْكِهَا بِنْيَانُ

جَمَعُوا الْعَسَاكِرَ وَالْجُيُوشَ مَخَافَةً        مِنْ ذُلِّ تَقْدِيرِ الْإِلَهِ فَهَانُوا

أَيْنَ الْأَكَاسِرَةُ الْمَنَّاعُ حِصْنُهُمُ        تَرَكُوا الْبِلَادَ كَأَنَّهُمْ مَا كَانُوا

فبكى الأمير موسى وقال: والله لقد خُلِقنا لأمرٍ عظيم. ثم كتب ما عليه، ودنا من اللوح الثالث … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 573﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الأمير موسى دنا من اللوح الثالث فوجد فيه مكتوب: «يا ابن آدم، أنت بحب الدنيا لاهٍ، وعن أمر ربك ساهٍ، كل يوم من عمرك ماضٍ، وأنت بذلك قانع وراضٍ، فقدِّم الزاد ليوم الميعاد، واستعِدَّ لرد الجواب بين يدَيْ ربِّ العباد». وفي أسفل اللوح مكتوب هذه الأبيات:

أَيْنَ الَّذِي عَمَرَ الْبِلَادَ بِأَسْرِهَا        سِنْدًا وَهِنْدًا وَاعْتَدَى وَتَجَبَّرَا

وَالزِّنْجُ وَالْحَبَشُ اسْتَقَادُوا لِأَمْرِهِ        وَالنُّوبُ لَمَّا أَنْ طَغَى وَتَكَبَّرَا

لَا تَنْتَظِرْ خَيْرًا بِمَا فِي قَبْرِهِ        هَيْهَاتَ أَنْ تَلْقَى لِذَلِكَ مُخْبِرَا

فَدَهَتْهُ مِنْ رَيْبِ الْمَنُونِ حَوَادِثٌ        لَمْ يُنْجِهِ مَن قَصْرِهَا مَا عَمَّرَا

فبكى الأمير موسى بكاءً شديدًا، ثم دنا من اللوح الرابع فرأى مكتوبًا عليه: «يا ابن آدم، كم يمهلك مولاك وأنت غائص في بحر لهوك؟ كل يوم خيره إليك حتى لا تموت. يا ابن آدم لا تغرنك أيامك ولياليك، وساعاتك الملهية وغفلاتها، واعلم أن الموت لك مراصد، وعلى كتفك صاعد، ما من يوم يمضي إلا صبحك صباحًا ومساك مساء، فاحذرْ من هجمته، واستعِدَّ له، فكأني بك وقد سلبت طول حياتك، وضيَّعت لذات أوقاتك، فاسمع مقالي، وثق بمولى الموالي؛ ليس للدنيا ثبوت، إنما الدنيا كبيت العنكبوت». ورأى في أسفل اللوح مكتوبًا هذه الأبيات:

أَيْنَ مَنْ أَسَّسَ الذُّرَى وَبَنَاهَا        وَتَوَلَّى مَشِيدَهَا ثُمَّ عَلَّى

أَيْنَ أَهْلُ الْحُصُونِ مَنْ سَكَنُوهَا        كُلُّهُمْ عَنْ تِلْكَ الصَّيَاصِي وَلَّى

أَصْبَحُوا فِي الْقُبُورِ رَهْنًا لِيَوْمٍ        فِيهِ كُلُّ السَّرَائِرِ تَبْلَى

لَيْسَ يَبْقَى سِوَى الْإِلَهِ تَعَالَى        وَهْوَ مَا زَالَ لِلْكَرَامَةِ أَهْلَا

فبكى الأمير موسى، وكتب ذلك كله ونزل من فوق الجبل، وقد صور الدنيا بين عينيه، فلما وصل إلى العسكر أقاموا يومهم يدبرون الحيلة في دخول المدينة، فقال الأمير موسى لوزيره طالب بن سهل ولمَن حوله من خواصه: كيف تكون الحيلة في دخول المدينة لننظر عجائبها؟ ولعلنا نجد فيها ما نتقرَّب به إلى أمير المؤمنين. فقال طالب بن سهل: أدام الله نعمة الأمير، نعمل سلمًا ونصعد عليه لعلنا نصل إلى الباب من داخل. فقال الأمير موسى: هذا ما خطر ببالي وهو نِعْم الرأي. ثم إنه دعا بالنجارين والحدادين، وأمر أن يسووا الأخشاب، ويعملوا سلَّمًا مصفَّحًا بصفائح الحديد، ففعلوه وأحكموه، وقعدوا في عمله شهرًا كاملًا، واجتمعت عليه الرجال فأقاموه وألصقوه بالسور، فجاء مساويًا له كأنه قد عُمِل له قبل ذلك اليوم؛ فتعجَّبَ الأمير موسى منه، وقال: بارَكَ الله فيكم، كأنكم قستوه عليه من حُسْن صنعتكم! ثم إن الأمير موسى قال للناس: مَن يطلع منكم على هذا السلم ويصعد فوق السور ويمشي عليه، ويتحايل في نزوله إلى أسفل المدينة لينظر كيف الأمر، ثم يخبرنا بكيفية فتح الباب؟ فقال أحدهم: أنا أصعد عليه أيها الأمير وأنزل أفتحه. فقال له الأمير موسى: اصعد بارَكَ الله فيك. فصعد الرجل على السلم حتى صار في أعلاه، ثم إنه قام على قدميه وشخص إلى المدينة، وصفَّقَ بكفيه وصاح بأعلى صوته، وقال: أنت مليح. ورمى بنفسه من داخل المدينة فانهرس لحمه على عظمه، فقال الأمير موسى: هذا فعل العاقل، فكيف يكون فعل المجنون؟ إنْ كنَّا نفعل هكذا بجميع أصحابنا، لم يَبْقَ منهم أحد فنعجز عن قضاء حاجتنا وحاجة أمير المؤمنين، ارحلوا فلا حاجةَ لنا بهذه المدينة.

فقال بعضهم: لعل غير هذا أثبت منه. فصعد ثانٍ وثالث ورابع وخامس، فما زالوا يصعدون من على ذلك السلم إلى السور واحدًا بعد واحد، إلى أن راح منهم اثنا عشر رجلًا، وهم يفعلون كما فعل الأول، فقال الشيخ عبد الصمد: ما لهذا الأمر غيري، وليس المجرب كغير المجرب. فقال له الأمير موسى: لا تفعل ذلك، ولا أمكنك من الطلوع إلى هذا السور؛ لأنك إذا مت كنتَ سببًا لموتنا كلنا، ولم يَبْقَ منَّا أحد لأنك أنت دليل القوم. فقال له الشيخ عبد الصمد: لعل ذلك يكون على يدي بمشيئة الله تعالى. فاتفق القوم كلهم على صعوده. ثم إن الشيخ عبد الصمد قام ونشط نفسه وقال: بسم الله الرحمن الرحيم. ثم إنه صعد على السلم وهو يذكر الله تعالى ويقرأ آيات النجاة، إلى أن بلغ أعلى السور، ثم إنه صفَّقَ بيدَيْه وشخص ببصره، فصاح عليه القوم جميعًا وقالوا: أيها الشيخ عبد الصمد، لا تفعل ولا تُلْقِ نفسك. وقالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون، إن وقع الشيخ عبد الصمد هلكنا بأجمعنا. ثم إن الشيخ عبد الصمد ضحك ضحكًا زائدًا، وجلس ساعة طويلة يذكر الله تعالى ويتلو آيات النجاة، ثم إنه قام على حيله، ونادى بأعلى صوته: أيها الأمير، لا بأسَ عليكم، فقد صرف الله عزَّ وجل عني كيدَ الشيطان ومكره، ببركة بسم الله الرحمن الرحيم. فقال له الأمير: ما رأيتَ أيها الشيخ؟ قال: لما حصلت أعلى السور رأيتُ عشرَ جوارٍ كأنهن الأقمار، وهنَّ ينادين … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 574﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشيخ عبد الصمد قال: لما حصلت أعلى السور رأيت عشرَ جوارٍ كأنهن الأقمار، وهنَّ يُشِرْنَ بأيديهن أن تعال إلينا، وتخيَّلَ لي أن تحتي بحرًا من الماء، فأردتُ أن أُلقِي نفسي كما فعل أصحابنا، فرأيتهم موتى، فتماسكتُ عنهم، وتلوتُ شيئًا من كتاب الله تعالى، فصرف الله عني كيدهن، وانصرفن عني، فلم أرمِ نفسي، وردَّ الله عني كيدهن وسحرهن، ولا شك أن هذا سحر ومكيدة صنعها أهل تلك المدينة ليردوا عنها كلَّ مَن أراد أن يشرف عليها، ويروم الوصول إليها، وهؤلاء أصحابنا مطروحون موتى. ثم إنه مشى على السور إلى أن وصل إلى البرجين النحاس، فرأى لهما بابين من الذهب ولا قفل عليهما، وليس فيهما علامة للفتح، ثم وقف الشيخ ما شاء الله وتأمَّلَ فرأى في وسط الباب صورة فارس من نحاس له كف ممدود كأنه يشير به، وفيه خط مكتوب، فقرأه الشيخ عبد الصمد فإذا فيه: افرك المسمار الذي في سرَّة الفارس اثنتي عشرة فركة؛ فإن الباب ينفتح. فتأمَّلَ الفارس فإذا في سرته مسمار محكم متقن مكين، ففركه اثنتي عشرة فركة فانفتح الباب في الحال، وله صوت كالرعد، فدخل منه الشيخ عبد الصمد، وكان رجلًا فاضلًا عالمًا بجميع اللغات والأقلام، فمشى إلى أن دخل دهليزًا طويلًا نزل منه على درجات، فوجد مكانًا بدكك حسنة، وعليها أقوام موتى، وفوق رءوسهم التروس المكلفة والحسامات المرهفة، والقسي الموترة، والسهام المفوقة، وخلف الباب عمود من حديد، ومتاريس من خشب، وأقفال رقيقة، وآلات محكمة، فقال الشيخ عبد الصمد في نفسه: لعل المفاتيح عند هؤلاء القوم. ثم نظر بعينه وإذا هو بشيخ يظهر أنه أكبرهم سنًّا وهو على دكة عالية بين القوم الموتى، فقال الشيخ عبد الصمد: وما يدريك أن تكون مفاتيح هذه المدينة مع هذا الشيخ؟ ولعله بوَّاب المدينة وهؤلاء من تحت يده. فدنا منه ورفع ثيابه، وإذا بالمفاتيح معلَّقة في وسطه، فلما رآها الشيخ عبد الصمد فرح فرحًا شديدًا، وقد كاد عقله أن يطير من الفرحة.

ثم إن الشيخ عبد الصمد أخذ المفاتيح ودنا من الباب وفتح الأقفال وجذب الباب والمتاريس والآلات، فانفتحت وانفتح الباب بصوت كالرعد لكبره وهوله وعظم آلاته، فعند ذلك كبَّرَ الشيخ وكبَّرَ القوم معه، واستبشروا وفرحوا، وفرح الأمير موسى بسلامة الشيخ عبد الصمد، وفتح باب المدينة، وقد شكره القوم على ما فعله، فبادر العسكر كلهم بالدخول من الباب، فصاح عليهم الأمير موسى وقال لهم: يا قوم، لا نأمن إذا دخلنا من أمر يحدث، ولكن يدخل النصف ويتأخر النصف. ثم إن الأمير موسى دخل من الباب ومعه نصف القوم وهم حاملون آلات الحرب، فنظر القوم إلى أصحابهم وهم ميتون فدفنوهم، ورأوا البوَّابين والخدم والحجاب والنواب راقدين فوق الفراش الحرير موتى كلهم، ودخلوا إلى سوق المدينة فنظروا سوقًا عظيمة عالية الأبنية لا يخرج بعضها عن بعض، والدكاكين مفتَّحة والموازين معلَّقة، والنحاس مصفوفًا، والخانات ملآنة من جميع البضائع، ورأوا التجَّار موتى على دكاكينهم، وقد يبست منهم الجلود، ونخرت منهم العظام، وصاروا عبرةً لمَن اعتبر. ونظروا إلى أربعة أسواق مستقلات دكاكينها مملوءة بالمال، فتركوها ومضوا إلى سوق الخز، وإذا فيها من الحرير والديباج ما هو منسوج بالذهب الأحمر والفضة البيضاء على اختلاف الألوان، وأصحابه موتى رقود على أنطاع الأديم، يكادون أن ينطقوا، فتركوهم ومضوا إلى سوق الجواهر واللؤلؤ والياقوت، فتركوها ومضوا إلى سوق الصيارف، فوجدهم موتى وتحتهم أنواع الحرير والإبريسم، ودكاكينهم مملوءة من الذهب والفضة، فتركوهم ومضوا إلى سوق العطارين، فإذا دكاكينهم مملوءة بأنواع العطريات، ونوافح المسك والعنبر والعود والند والكافور وغير ذلك، وأهلها كلهم موتى، ولم يكن عندهم شيء من المأكول، فلما طلعوا من سوق العطارين وجدوا قريبًا منه قصرًا مزخرفًا مبنيًّا متقنًا، فدخلوه فوجدوا أعلامًا منشورة وسيوفًا مجردة وقسيًّا موترة، وتروسًا معلَّقة بسلاسل من الذهب والفضة، وخوذًا مطلية بالذهب الأحمر، وفي دهاليز ذلك القصر دكك من العاج المصفَّح بالذهب الوهَّاج والإبريسم، وعليها رجال قد يبست منهم الجلود على العظام، يحسبهم الجاهل نيامًا، ولكنهم من عدم القوت ماتوا وذاقوا الحِمام، فعند ذلك وقف الأمير موسى يسبِّح الله تعالى ويقدِّسه، وينظر إلى حُسْن ذلك القصر، ومحكم بنائه، وعجيب صنعه بأحسن صفة وأتقن هندسة، وأكثر نقشه باللازورد الأخضر، مكتوب على دائره هذه الأبيات:

انْظُرْ إِلَى مَا تَرَى يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ        وَكُنْ عَلَى حَذَرٍ مِنْ قَبْلُ تَرْتَحِلُ

وَقَدِّمِ الزَّادَ مِنْ خَيْرٍ تَفُزْ بِهِ أَبَدًا        فَكُلُّ سَاكِنِ دَارٍ سَوْفَ يَرْتَحِلُ

وَانْظُرْ إِلَى مَعْشَرٍ زَانُوا مَنَازِلَهُمْ        فَأَصْبَحُوا فِي الثَّرَى رَهْنًا بِمَا عَمِلُوا

بَنَوْا فَمَا نَفَعَ الْبُنْيَانُ وَادَّخَرُوا        لَمْ يُنْجِهِمْ مَالُهُمْ لَمَّا انْقَضَى الْأَجَلُ

كَمْ أَمَّلُوا غَيْرَ مَقْدُورٍ لَهُمْ فَمَضَوْا        إِلَى الْقُبُورِ وَلَمْ يَنْفَعْهُمِ الْأَمَلُ

وَاسْتُنْزِلُوا مِنْ أَعَالِي عِزِّ رُتْبَتِهِمْ        لِذُلِّ ضِيقٍ لُحُودًا سَاءَ مَا نَزَلُوا

فَجَاءَهُمْ صَارِخٌ مِنْ بَعْدِ مَا دُفِنُوا        أَيْنَ الْأَسِرَّةُ وَالتِّيجَانُ وَالْحُلَلُ

أَيْنَ الْوُجُوهُ الَّتِي كَانَتْ مُحَجَّبَةً        مِنْ دُونِهَا تُضْرَبُ الْأَسْتَارُ وَالْمُثُلُ

فَأَفْصَحَ الْقَبْرُ عَنْهُمْ حَسْبُ سَائِلِهِمْ        أَمَّا الْخُدُودُ فَعَنْهَا الْوَرْدُ مُنْتَقِلُ

قَدْ طَالَ مَا أَكَلُوا يَوْمًا وَمَا شَرِبُوا        فَأَصْبَحُوا بَعْدَ طِيبِ الْأَكْلِ قَدْ أُكِلُوا

فبكى الأمير موسى حتى غُشِي عليه، وأمر بكتابة هذا الشعر، ودخل القصر. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 575﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الأمير موسى دخل القصر فرأى حجرة كبيرة وأربع مجالس عالية كبار متقابلة واسعة، منقوشة بالذهب والفضة، مختلفة الألوان، وفي وسطها فسقية كبيرة من المرمر، وعليها خيمة من الديباج، وفي تلك المجالس جهات، وفي تلك الجهات فساقٍ مزخرفة وحيطان مرخمة ومجارٍ تجري من تحت تلك المجالس، وتلك الأنهر الأربعة تجري وتجتمع في بحيرة عظيمة مرخمة باختلاف الألوان. ثم قال الأمير موسى للشيخ عبد الصمد: ادخل بنا هذه المجالس. فدخلوا المجلس الأول فوجدوه مملوءًا من الذهب والفضة البيضاء واللؤلؤ والجواهر واليواقيت والمعادن النفيسة، ووجدوا فيها صناديق مملوءة من الديباج الأحمر والأصفر والأبيض. ثم إنهم انتقلوا إلى المجلس الثاني ففتحوا خزانة فيه، فإذا هي مملوءة بالسلاح وآلات الحرب من الخوذ المذهبة، والدروع الداودية، والسيوف الهندية، والرماح الخطية، والدبابيس الخوارزمية، وغيرها من أصناف آلات الحرب والكفاح. ثم انتقلوا إلى المجلس الثالث فوجدوا فيه خزائن عليها أقفال مغلقة، وفوقها ستارات منقوشة بأنواع الطراز، ففتحوا منها خزانة فوجدوها مملوءة بالسلاح المزخرف بأنواع الذهب والفضة والجواهر. ثم إنهم انتقلوا إلى المجلس الرابع فوجدوا فيه خزائن، ففتحوا منها خزانة فوجدوها مملوءة بآلات الطعام والشراب من أصناف الذهب والفضة، وسكارج البلور، والأقداح المرصَّعة باللؤلؤ الرطب، وكاسات العقيق وغير ذلك، فجعلوا يأخذون ما يصلح لهم من ذلك، ويحمل كل واحد من العسكر ما يقدر عليه.

فلما عزموا على الخروج من تلك المجالس رأوا هناك بابًا من الساج متداخِلًا فيه العاج والأبنوس، وهو مصفَّح بالذهب الوهَّاج في وسط ذلك القصر، وعليه ستر مسبول من حرير منقوش بأنواع الطراز، وعليه أقفال من الفضة البيضاء تفتح بالحيلة بغير مفتاح، فتقدَّمَ الشيخ عبد الصمد إلى تلك الأقفال ففتحها بمعرفته وشجاعته وبراعته، فدخل القوم من دهليز مرخم، في جوانب ذلك الدهليز براقعُ عليها صور من أصناف الوحوش والطيور، وكل ذلك من ذهب أحمر وفضة بيضاء وأعينها من الدرر واليواقيت، تحير كلُّ مَن رآها. ثم وصلوا إلى قاعة مصنوعة، فلما رآها الأمير موسى والشيخ عبد الصمد اندهشَا من صنعتها. ثم إنهم عبروا فوجدوا قاعة مصنوعة من رخام مسقول منقوش بالجواهر، يتوهم الناظر أن في طريقه ماءً جاريًا لو مَرَّ عليه أحدٌ لزلق، فأمر الأميرُ موسى الشيخَ عبد الصمد أن يطرح عليها شيئًا حتى يتمكَّنوا أن يمشوا عليها، ففعل ذلك وتحيَّل حتى عبروا فوجدوا فيها قبة عظيمة مبنية بحجارة مطلية بالذهب الأحمر، لم يشاهد القوم في جميع ما رأوه أحسن منها، وفي وسط تلك القبة قبة عظيمة كبيرة من المرمر، بدائرها شبابيك منقوشة مرصَّعة بقضبان الزمرد لا يقدر عليها أحد من الملوك، وفيها خيمة من الديباج منصوبة على أعمدة من الذهب الأحمر، وفيها طيور أرجلها من الزمرد الأخضر، وتحت كل طير شبكة من اللؤلؤ الرطب مجللة على فسقية، وموضوع على الفسقية سرير مرصَّع بالدر والجواهر والياقوت، وعلى السرير جارية كأنها الشمس الضاحية، لم يَرَ الراءون أحسن منها، وعليها ثوب من اللؤلؤ الرطب، وعلى رأسها تاج من الذهب الأحمر وعصابة من الجوهر، وفي عنقها عقد من الجوهر، وفي وسطه جواهر مشرقة، وعلى جبينها جوهرتان نورهما كنور الشمس، وهي كأنها ناظرة إليهم تتأملهم يمينًا وشمالًا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 576﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الأمير موسى لما رأى هذه الجارية تعجَّبَ غاية العجب من جمالها، وتحيَّرَ من حُسْنها وحُمْرَة خدَّيْها وسواد شعرها، يظن الناظر أنها بالحياة ولم تكن ميتة. فقالوا لها: السلام عليك أيتها الجارية. فقال له طالب بن سهل: أصلَحَ الله شأنك، اعلم أن هذه الجارية ميتة لا روحَ فيها، فمن أين لها أن تردَّ السلامَ؟ ثم إن طالب بن سهل قال له: أيها الأمير، إنها صورة مدبَّرة بالحكمة، وقد قُلِعت عيناها بعد موتها وجُعِل تحتهما زئبق وأُعِيدتا مكانهما، فهما يلمعان كأنهما يحركهما الهدب، يُخيَّل للناظر أنها ترمش بعينيها وهي ميتة. فقال الأمير موسى: سبحان الله الذي قهر العباد بالموت.

وأما السرير الذي عليه الجارية فله درج، وعلى الدرج عبدان أحدهما أبيض والآخَر أسود، وبيد أحدهما آلة من البولاد، وبيد الآخر سيف مجوهر يخطف الأبصار، وبين يدي العبدين لوح من ذهب، وفيه كتابة تُقرَأ وهي: «بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله خالق الإنسان وهو رب الأرباب، ومسبِّب الأسباب، باسم الله الباقي السرمدي، باسم الله مقدِّر القضاء والقدر. ويا ابن آدم ما أجهلك بطول الأمل، وما أسهاك عن حلول الأجل، أَمَا علمتَ أن الموت لك قد دعاك، وإلى قبض روحك قد سعى؟ فكُنْ على أهبة الرحيل، وتزوَّدْ من الدنيا فستفارقها عن قليل، أين آدم أبو البشر؟ أين نوح وما نسل؟ أين الملوك الأكاسرة والقياصرة؟ أين ملوك الهند والعراق؟ أين ملوك الآفاق؟ أين العمالقة؟ أين الجبابرة؟ خلت منهم الديار وقد فارقوا الأهل والأوطان. أين ملوك العجم والعرب؟ ماتوا بأجمعهم وصاروا أممًا.

أين السادة ذوو الرتب؟ قد ماتوا جميعًا. أين قارون وهامان؟ أين شداد بن عاد؟ أين كنعان وذو الأوتاد؟ قرضهم والله قارض الأعمار وأخلى منهم الديار، فهل قدَّموا الزاد ليوم المعاد، واستعدُّوا لجواب رب العباد؟ يا هذا إن كنت لا تعرفني، فأنا أعرِّفك باسمي ونسبي، أنا ترمز ابن بنت عمالقة الملوك، من الذين عدلوا في البلاد، ملكت ما لم يملكه أحد من الملوك، وأعدلت في القضية، وأنصفت بين الرعية، وأعطيت ووهبت، وقد عشت زمانًا طويلًا في سرور وعيش رغيد، وأعتقتُ الجواري والعبيد، حتى نزل بي طارق المنايا، وحلَّتْ بين يدي الرزايا، وذلك أنه قد تواترت علينا سبع سنين لم ينزل علينا ماء من السماء، ولا نبت لنا عشب على وجه الأرض، فأكلنا ما كان عندنا من القوت، ثم عطفنا على المواشي من الدواب، فأكلناها ولم يَبْقَ شيء، فحينئذٍ أحضرت المال واكتلته بمكيال وبعثته مع الثقات من الرجال، فطافوا به جميع الأقطار، ولم يتركوا مصرًا من الأمصار في طلب شيء من القوت فلم يجدوه، ثم عادوا إلينا بالمال بعد طول الغيبة، فحينئذٍ أظهرنا أموالنا وذخائرنا، وأغلقنا أبواب الحصون التي بمدينتنا وسلَّمْنا لحكم ربنا، وفوَّضْنا أمرنا لمالكنا، فمتنا جميعًا كما ترانا، وتركنا ما عمَّرْنا وما ادَّخَرْنا، فهذا هو الخبر، وما بعد العين إلا الأثر». وقد نظروا في أسفل اللوح فرأوا مكتوبًا فيه هذه الأبيات:

بُنَيَّ آدَمَ لَا يَهْزَأْ بِكَ الْأَمَلُ        عَنْ كُلِّ مَا ادَّخَرَتْ كَفَّاكَ تَنْتَقِلُ

أَرَاكَ تَرْغَبُ فِي الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا        وَقَدْ سَعَى قَبْلَكَ الْمَاضُونَ وَالْأُوَلُ

قَدْ حَصَّلُوا الْمَالَ مِنْ حِلٍّ وَمِنْ حُرَمٍ        فَلَمْ يَرُدَّ الْقَضَا لَمَّا انْتَهَى الْأَجَلُ

قَادُوا الْعَسَاكِرَ أَفْوَاجًا وَقَدْ جَمَعُوا        فَخَلَّفُوا الْمَالَ وَالْبُنْيَانَ وَارْتَحَلُوا

إِلَى قُبُورٍ وَضِيقٍ فِي الثَّرَى رَقَدُوا        وَقَدْ أَقَامُوا بِهِ رَهْنًا بِمَا عَمِلُوا

كَأَنَّمَا الرَّكْبُ قَدْ حَطُّوا رِحَالَهُمُ        فِي جُمْعِ لَيْلٍ بِدَارٍ مَا بِهَا نُزُلُ

فَقَالَ صَاحِبُهَا يَا قَوْمُ لَيْسَ لَكُمْ        فِيهَا مَقَامٌ فَشَدُّوا بَعْدَ مَا نَزَلُوا

فَكُلُّهُمْ خَائِفٌ أَضْحَى بِهَا وَجِلًا        وَلَا يَطِيبُ لَهُ حَلٌّ وَمُرْتَحَلُ

فَقَدِّمِ الزَّادَ مِنْ خَيْرٍ تُسَرُّ غَدًا        وَلَيْسَ إِلَّا بِتَقْوَى رَبِّكَ الْعَمَلُ

فبكى الأمير موسى لما سمع هذا الكلام: «والله إن التقوى هي رأس الأمور والتحقيق والركن الوثيق، وإن الموت هو الحق المبين والوعد اليقين، وفيه يا هذا المرجع والمآب، واعتبِرْ بمَن سلف قبلك في التراب، وبادِرْ إلى سبيل المعاد، أَمَا ترى الشيب إلى القبر دعاك، وبياض شعرك على نفسك قد نعاك؟ فكن على يقظة الرحيل والحساب. يا ابن آدم، ما أقسى قلبك! فما غرك بربك؟ أين الأمم السالفة؟ العبرة لمَن يعتبر، أين ملوك الصين أهل البأس والتمكين؟ أين عاد؟ أين شدَّاد وما بنى وعمَّر؟ أين النمرود الذي طغى وتجبَّر؟ أين فرعون الذي جحد وكفر؟ كلهم قهرهم الموت على الأثر، فما أبقى صغيرًا ولا كبيرًا، ولا أنثى ولا ذكرًا، قرضهم قارضُ الأعمار، ومكورُ الليل على النهار.

اعلم أيها الواصل إلى هذا المكان ممَّنْ رآنا أنه لا يُغتَرُّ بشيء من الدنيا وحطامها؛ فإنها غدارة مكارة، دار بوار وغرور، فطوبى لعبدٍ ذكر ذنبَه وخشي ربه وأحسن المعاملة، وقدم الزاد ليوم المعاد، فمَن وصل إلى مدينتنا ودخلها وسهَّلَ الله عليه دخولها، فَلْيأخذ من المال ما يقدر عليه، ولا يمس من فوق جسدي شيئًا؛ فإنه ستر لعورتي وجهازي من الدنيا، فَلْيتقِّ الله ولا يسلب منه شيئًا فيهلك نفسه. وقد جعلت ذلك نصيحة مني إليه، وأمانة مني لديه والسلام، فأسأل الله أن يكفيكم شر البلايا والسقام». وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 577﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الأمير موسى لما سمع هذا الكلام بكى بكاءً شديدًا حتى غُشِي عليه، فلما أفاق كتب جميع ما رآه واعتبر بما شاهده، ثم قال لأصحابه: ائتوا بالأعدال واملئُوها من هذه الأموال وهذه الأواني والتحف والجواهر. فقال طالب بن سهل للأمير موسى: أيها الأمير، أنترك هذه الجارية بما عليها وهو شيء لا نظير له، ولا يوجد في وقت مثله، وهو أوفى ما أخذت من الأموال، وأحسن هدية تتقرَّب بها إلى أمير المؤمنين. فقال الأمير موسى: يا هذا، أَلَمْ تسمع ما أوصت به الجارية في هذا اللوح، لا سيما وقد جعلته أمانة، وما نحن من أهل الخيانة. فقال الوزير طالب: وهل لأجل هذه الكلمات نترك هذه الأموال وهذه الجواهر وهي ميتة؟ فما تصنع بهذا وهو زينة الدنيا وجمال الأحياء؟ وثوب من القطن تستر به هذه الجارية ونحن أحق به منها. ثم دنا من السلم وصعد على الدرج حتى صار بين العمودين، وحصل بين الشخصين، وإذا بأحد الشخصين ضربه في ظهره، وضربه الآخر بالسيف الذي في يده، فرمى رأسه ووقع ميتًا، فقال الأمير موسى: لا رحم الله لك مضجعًا، لقد كان في هذه الأموال ما فيه كفاية، والطمع لا شك يزري بصاحبه. ثم أمر بدخول العساكر، فدخلوا وحملوا الجمال من تلك الأموال والمعادن، ثم إن الأمير موسى أمرهم أن يغلقوا الباب كما كان.

ثم ساروا على الساحل حتى أشرفوا على جبلٍ عالٍ مشرف على البحر، وفيه مغارات كثيرة، وإذا فيها قوم من السودان وعليهم نطوع، وعلى رءوسهم برانس من نطوع، لا يُعرَف كلامهم، فلما رأوا العسكر أجفلوا منهم وولوا هاربين إلى تلك المغارات ونساؤهم وأولادهم على أبواب المغارات، فقال الأمير موسى: يا شيخ عبد الصمد، ما هؤلاء القوم؟ فقال: هؤلاء طلبة أمير المؤمنين. فنزلوا وضُرِبت الخيام وحطَّتِ الأموال، فما استقر بهم المكان حتى نزل ملك السودان من الجبل، ودنا من العسكر وكان يعرف العربية، فلما وصل إلى الأمير موسى سلَّمَ عليه، فردَّ عليه السلام وأكرمه، فقال ملك السودان للأمير موسى: أنتم من الإنس أم من الجن؟ فقال الأمير موسى: أما نحن فمن الإنس، وأما أنتم فلا شك أنكم من الجن، لانفرادكم في هذا الجبل المنفرد عن الخلق، ولعظم خلقتكم. فقال ملك السودان: بل نحن قوم آدميون من أولاد حام بن نوح عليه السلام، وأما هذا البحر فإنه يُعرَف بالكركر. فقال له الأمير موسى: ومن أين لكم علم ولم يبلغكم نبي أُوحِي إليه في مثل هذه الأرض؟ فقال: اعلم أيها الأمير أنه يظهر لنا من هذا البحر شخص له نور تضيء له الآفاق، فينادي بصوتٍ يسمعه البعيد والقريب: يا أولاد حام، استحوا ممَّن يرى ولا يُرى، وقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأنا أبو العباس الخضر. وكنا قبل ذلك نعبد بعضنا، فدعانا إلى عبادة رب العباد. ثم قال للأمير موسى: وقد علَّمنا كلمات نقولها. فقال الأمير موسى: وما تلك الكلمات؟ قال: هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. وما نتقرب إلى الله عز وجل إلا بهذه الكلمات ولا نعرف غيرها، وكل ليلة جمعة نرى نورًا على وجه الأرض ونسمع صوتًا يقول: سبوح قدوس رب الملائكة والروح، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، كل نعمة من الله فضل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فقال له الأمير موسى: نحن أصحاب ملك الإسلام عبد الملك بن مروان، وقد جئنا بسبب القماقم النحاس التي عندكم في بحركم، وفيها الشياطين محبوسة من عهد سليمان بن داود عليهما السلام، وقد أمر أن نأتيه بشيء منها يبصره ويتفرج عليه. فقال له ملك السودان: حبًّا وكرامةً.

ثم أضافه بلحوم السمك، وأمر الغواصين أن يُخرِجوا من البحر شيئًا من القماقم السليمانية، فأخرجوا لهم اثني عشر قمقمًا؛ ففرح الأمير موسى بها والشيخ عبد الصمد والعساكر لأجل قضاء حاجة أمير المؤمنين. ثم إن الأمير موسى وهب لملك السودان مواهبَ كثيرة، وأعطاه عطايا جزيلة، وكذلك ملك السودان أهدى إلى الأمير موسى هدية من عجائب البحر على صفة الآدميين، وقال: إن ضيافتكم في هذه الثلاثة أيام من لحوم هذا السمك. فقال الأمير موسى: لا بد أن نحمل معنا شيئًا حتى ينظر إليه أمير المؤمنين، فيطمئن خاطره بذلك أكثر من القماقم السليمانية. ثم ودَّعوه وساروا حتى وصلوا إلى بلاد الشام، فدخلوا على أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، فحدَّثه الأمير موسى بجميع ما رآه، وما وقع له من الأشعار والأخبار والمواعظ، وأخبره بخبر طالب بن سهل، فقال له أمير المؤمنين: ليتني كنتُ معكم حتى أعاين ما عاينتم. ثم أخذ القماقم، وجعل يفتح قمقمًا بعد قمقم، والشياطين يخرجون منها ويقولون: التوبة يا نبي الله، وما نعود لمثل ذلك أبدًا. فتعجَّبَ عبد الملك بن مروان من ذلك. وأما بنات البحر التي أضافهم بنوعها ملك السودان، فإنهم صنعوا لها حياضًا من خشب وملئوها ماءً، ووضعوها فيها فماتت من شدة الحر. ثم إن أمير المؤمنين أحضر الأموال، وقسَّمَها بين المسلمين. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 578﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان لما رأى القماقم وما فيها، تعجَّبَ من ذلك غاية العجب، وأمر بإحضار الأموال وقسَّمَها بين المسلمين وقال: لم يعطِ الله أحدًا مثل ما أعطى سليمان بن داود. ثم إن الأمير موسى سأل أمير المؤمنين أن يستخلف ولده مكانه على بلاده، وهو يتوجَّه إلى القدس الشريف يعبد الله فيه؛ فولَّى أمير المؤمنين ولدَه وتوجَّهَ هو إلى القدس الشريف ومات فيه. وهذا آخِر ما انتهى إلينا من حديث مدينة النحاس على التمام، والله أعلم.

 

وقد بلغنا أيضًا أنه في قديم الزمان، وسالف العصر والأوان، ملك من ملوك الزمان كان كثير الجند والأعوان، وصاحب جاهٍ وأموال، ولكنه بلغ من العمر مدةً ولم يُرزَق ولدًا ذكرًا، فلما قلق الملك توسَّلَ بالنبي ﷺ إلى الله تعالى، وسأله بجاه الأنبياء والأولياء والشهداء من عباده المقرَّبين أن يرزقه بولد ذكر حتى يرث المُلْك من بعده، ويكون قرَّة عينه، ثم قام من وقته وساعته ودخل إلى قاعة جلوسه، وأرسل إلى بنت عمه فواصَلَها فصارت حاملة بإذن الله تعالى، فمكثت مدة حتى آن أوان وضعها، فولدت ولدًا ذكرًا وجهه مثل دورة القمر ليلة أربعة عشر، فتربَّى ذلك الغلام إلى أن بلغ من العمر خمس سنين، وكان عند ذلك الملك رجل حكيم من الحكماء الماهرين يُسمَّى السندباد، فسلَّمَ إليه ذلك الغلام، فلما بلغ من العمر عشر سنين علَّمَه الحكمة والأدب إلى أن صار ذلك الولد ليس أحدٌ في هذا الزمان يناظِره في العلم والأدب والفهم. فلما بلغ والده ذلك أحضر له جماعة من فرسان العرب يعلِّمونه الفروسية فمهر فيها، وصال وجال في حومة الميدان إلى أن فاق أهل زمانه وسائر أقرانه؛ ففي بعض الأيام نظر ذلك الحكيم في النجوم فرأى طالع الغلام، وأنه متى عاش سبعة أيام وتكلَّمَ بكلمة واحدة صار فيها هلاكه، فذهب الحكيم إلى الملك والده وأعلمه بالخبر، فقال له والده: فما يكون الرأي والتدبير يا حكيم؟ فقال له الحكيم: أيها الملك، الرأي والتدبير عندي أن تجعله في مكان نزهة وسماع آلات مطربة، يكون فيه إلى أن تمضي السبعة أيام. فأرسل الملك إلى جارية من خواصه، وكانت أحسن الجواري، فسلَّمَ إليها الولد وقال لها: خذي سيدك في القصر واجعليه عندك، ولا ينزل من القصر إلا بعد سبع أيام تمضي. فأخذته الجارية من يده وأجلسته في ذلك القصر.

وكان في القصر أربعون حجرة، وفي كل حجرة عشرُ جوارٍ، وكل جارية معها آلة من آلات الطرب إذا ضربت واحدة منهن يرقص من نغمتها ذلك القصر؛ وحواليه نهر جارٍ مزروع شاطئه بجميع الفواكه والمشموم. وكان ذلك الولد فيه من الحُسْن والجمال ما لا يُوصَف، فبات ليلة واحدة فرأته الجارية محظية والده، فطرق العشق قلبها، فلم تتمالك حتى رمت نفسها عليه، فقال لها الولد: إن شاء الله تعالى حين أخرج عند والدي أخبره بذلك فيقتلك. فتوجهت الجارية إلى الملك، ورمت نفسها عليه بالبكاء والنحيب، فقال لها: ما خبرك يا جارية؟ كيف سيدك أَمَا هو طيب؟ فقالت: يا مولاي، إن سيدي راوَدَني عن نفسي، وأراد قتلي على ذلك، فمنعته وهربت منه، وما بقيت أرجع إليه ولا إلى القصر أبدًا. فلما سمع والده ذلك الكلام حصل له غيظ عظيم، فأحضر عنده الوزراء وأمرهم بقتله، فقالوا لبعضهم: إن الملك صمَّمَ على قتل ولده، وإنْ قتله يندم عليه بعد قتله لا محالةَ؛ فإنه عزيز عنده، وما جاءه هذا الولد إلا بعد اليأس، ثم بعد ذلك يرجع عليكم باللوم، فيقول لكم: لِمَ لم تدبروا لي تدبيرًا يمنعني عن قتله؟ فاتفق رأيهم على أن يدبِّروا له تدبيرًا يمنعه عن قتل ولده، فتقدَّمَ الوزير الأول وقال: أنا أكفيكم شرَّ الملك في هذا اليوم. فقام ومضى إلى أن دخل على الملك وتمثَّلَ بين يديه، ثم استأذنه في الكلام فأذن له، فقال له: أيها الملك، لو قُدِّر أنه كان لك ألف ولد لم تطع نفسك في أن تقتل واحدًا منهم بقول جارية، إما أن تكون صادقة أو كاذبة، ولعل هذه مكيدة منها لولدك. فقال: وهل بلغك شيء من كيدهن أيها الوزير؟ قال: نعم.

 

بلغني أيها الملك أنه كان ملك من ملوك الزمان مغرمًا بحب النساء، فبينما هو مختلٍ في قصره يومًا من الأيام، إذ وقعت عينه على جارية وهي في سطح بيتها، وكانت ذات حُسْن وجمال، فلما رآها لم يتمالك نفسه من المحبة، فسأل عن ذلك البيت، فقالوا له: هذا بيت وزيرك فلان. فقام من ساعته وأرسل إلى الوزير، فلما حضر بين يديه أمره أن يسافر إلى بعض جهات الملكة ليطلع عليها ثم يعود، فسافَرَ الوزير كما أمره الملك، فبعد أن سافَرَ تحايَلَ الملك حتى دخل بيت الوزير، فلما رأته الجارية عرفته، فوثبت قائمة على قدميها وقبَّلَتْ يديه ورجليه ورحَّبَتْ به، ووقفت بعيدًا عنه مشتغلة بخدمته، ثم قالت له: يا مولانا، ما سبب القدوم المبارك، ومثلي لا يكون له ذلك؟ فقال: سببه أن عشقك والشوق إليك أقدماني على ذلك. فقبَّلَتِ الأرض بين يديه ثانيًا وقالت له: يا مولانا، أنا لا أصلح أن أكون جاريةً لبعض خدَّام الملك، فمن أين يكون لي عندك هذا الحظ حتى صرت عندك بهذه المنزلة؟ فمَدَّ الملك يده إليها، فقالت: هذا الأمر لا يفوتنا، ولكن اصبر أيها الملك وأقِمْ عندي هذا اليوم كله حتى أصنع لك شيئًا تأكله. قال: فجلس الملك على مرتبة وزيره، ثم نهضت قائمة، وأتته بكتاب فيه المواعظ والآداب ليقرأ فيه حتى تجهِّز له الطعام، فأخذه الملك وجعل يقرأ فيه، فوجد فيه من المواعظ والحكم ما زجره عن الزنا وكسر همته عن ارتكاب المعاصي.

فلما جهَّزَتْ له الطعام قدَّمته بين يديه، وكانت عدة الصحون تسعين صحنًا، فجعل الملك يأكل من كل صحن ملعقة والطعام أنواع مختلفة وطعمها واحد، فتعجَّبَ الملك من ذلك غاية العجب، ثم قال: أيتها الجارية، أرى هذه الأنواع كثيرة وطعمها واحد! فقالت له الجارية: أسعد الله الملك، هذا مثل ضربته لك لتعتبر به. فقال لها: وما سببه؟ فقالت: أصلح الله حال مولانا الملك، إن في قصرك تسعين محظية مختلفات الألوان وطعمهن واحد. فلما سمع الملك ذلك الكلام خجل منها وقام من وقته، وخرج من المنزل ولم يتعرض لها بسوء، ومن خجلته نسي خاتمه عندها تحت الوسادة، ثم توجَّهَ إلى قصره. فلما جلس الملك في قصره حضر الوزير ذلك الوقت وتقدَّمَ إلى الملك وقبَّلَ الأرض بين يديه، وأعلمه بحال ما أرسله إليه، ثم سار الوزير إلى أن دخل بيته وقعد على مرتبته، ومدَّ يده تحت الوسادة فلقي خاتم الملك تحتها، فرفعه الوزير وحمله على قلبه، وانعزل عن الجارية مدة سنة كاملة ولم يكلمها وهي لا تعلم ما سبب غيظه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 579﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الوزير انعزل عن الجارية مدة سنة كاملة ولم يكلِّمها وهي لا تعلم ما سبب غيظه، فلما طال بها المطال، ولم تعلم ما سبب ذلك، أرسلَتْ إلى أبيها وأعلمَتْه بما جرى لها معه من انعزاله عنها مدة سنة كاملة. فقال لها أبوها: إني أشكوه حين يكون بحضرة الملك. فدخل يومًا من الأيام فوجده بحضرة الملك وبين يديه قاضي العسكر، فادَّعَى عليه فقال: أصلح الله تعالى حال الملك، إنه كان لي روضة حسنة غرستُها بيدي، وأنفقت عليها مالي حتى أثمرت، وطاب جناها، فأهديتها لوزيرك هذا، فأكل منها ما طاب له، ثم رفضها ولم يسقها، فيبس زهرها، وذهب رونقها، وتغيَّرَتْ حالتها. فقال الوزير: أيها الملك، صدَقَ هذا في مقالته، إني كنت أحفظها وآكل منها، فذهبتُ يومًا إليها، فرأيت أثر الأسد هناك، فخفت على نفسي منه، فعزلت نفسي عنها. ففهم الملك أن الأثر الذي وجده الوزير هو خاتم الملك الذي نسيه في البيت، فقال الملك عند ذلك لوزيره: ارجع أيها الوزير لروضتك وأنت آمِن مطمئن، فإن الأسد لم يقربها، وقد بلغني أنه وصل إليها ولكن لم يتعرَّض لها بسوء وحرمة آبائي وأجدادي. فقال الوزير عند ذلك: سمعًا وطاعة. ثم إن الوزير رجع إلى بيته، وأرسل إلى زوجته وصالَحَها ووثق بصيانتها.

 

وبلغني أيها الملك أيضًا أن تاجرًا كان كثير الأسفار، وكانت له زوجة جميلة يحبها ويغار عليها من كثرة المحبة، فاشترى لها درةً، فكانت الدرة تُعلِم سيدها بما جرى في غيبته، فلما كان في بعض أسفاره تعلَّقَتِ امرأة التاجر بغلام كان يدخل عليها فتكرمه وتواصله مدة غياب زوجها، فلما قدِمَ زوجها من سفره أعلمَتْه الدرة بما جرى، وقالت له: يا سيدي، غلام تركي كان يدخل على زوجتك في غيابك، فتكرمه غاية الإكرام. فهَمَّ الرجل بقتل زوجته، فلما سمعت زوجته ذلك قالت له: يا رجل، اتَّقِ الله وارجع إلى عقلك، هل يكون لطيرٍ عقلٌ أو فهمٌ؟ وإن أردتَ أن أبيِّن لك ذلك لتعرف كذبها من صدقها، فامضِ هذه الليلة ونَمْ عند بعض أصدقائك، فإذا أصبحتَ فتعالَ لها واسألها حتى تعلم هل تصدق هي فيما تقول أو تكذب؟ فقام الرجل وذهب إلى بعض أصدقائه فبات عنده، فلما كان الليلة عمدت زوجة الرجل إلى قطعة نطع غطَّتْ به قفص الدرة، وجعلت ترش على ذلك النطع شيئًا من الماء وتروح عليها بمروحة، وتقرب إليها السراج على صورة لمعان البرق، وصارت تدير الرحى إلى أن أصبح الصباح.

فلما جاء زوجها قالت له: يا مولاي، اسأل الدرة. فجاء زوجها إلى الدرة يحدِّثها ويسألها عن ليلتها الماضية، فقالت له الدرة: يا سيدي، ومَن كان ينظر أو يسمع في الليلة الماضية؟ فقال لها: لأي شيء؟ فقالت: يا سيدي من كثرة المطر والريح والرعد والبرق. فقال لها: كذبتِ، إن الليلة التي مضت ما كان فيها شيء من ذلك. فقالت الدرة: ما أخبرتك إلا بما عاينتُ وشاهدتُ وسمعتُ. فكذَّبَها في جميع ما قالته عن زوجته، وأراد أن يصالح زوجته فقالت: والله ما أصطلح حتى تذبح هذه الدرة التي كذبت عليَّ. فقام الرجل إلى الدرة وذبحها، ثم أقام بعد ذلك مع زوجته مدة أيام قلائل، ثم رأى في بعض الأيام ذلك الغلام التركي وهو خارج من بيته، فعلم صدق قول الدرة وكذب زوجته، فندم على ذبح الدرة، ودخل من وقته وساعته على زوجته وذبحها، وأقسَمَ على نفسه أنه لا يتزوج بعدها امرأة مدة حياته. وما أعلمتك أيها الملك إلا لتعلم أن كيدهن عظيم، والعجلة تورث الندامة. فرجع الملك عن قتل ولده.

 

فلما كان في اليوم الثاني دخلت عليه الجارية وقبَّلَتِ الأرض بين يديه، وقالت له: أيها الملك، كيف أهملتَ حقي، وقد سمع الملوك عنك أنك أمرتَ بأمرٍ ثم نقضه وزيرك؟ وطاعة الملك من نفاذ أمره، وكل أحد يعلم عدلك وإنصافك، فأنصفني من ولدك، فقد بلغني أن رجلًا قصارًا كان يخرج كل يوم إلى شاطئ دجلة يقصر القماش، ويخرج معه ولده فينزل النهر ليعوم فيه مدة إقامته، ولم يَنْهَه والده عن ذلك.

فبينما هو يعوم يومًا من الأيام إذ تعبت سواعده فغرق، فلما نظر إليه أبوه وثب عليه وترامى إليه، فلما أمسكه أبوه تعلَّقَ به ذلك الولد، فغرق الأب والابن جميعًا، فكذلك أنت أيها الملك، إذا لم تَنْهَ ولدك وتأخذ حقي منه، أخاف عليك أن يغرق كلٌّ منكما. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 580﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية لما حكت للملك حكايةَ القصار وولده، وقالت: أخاف أن تغرق أنت وولدك أيضًا.

 

قالت: وكذلك بلغني من كيد الرجال أن رجلًا عشق امرأة وكانت ذات حُسْن وجمال، وكان لها زوج يحبها وتحبه، وكانت تلك المرأة صالحة عفيفة، ولم يجد الرجل العاشق إليها سبيلًا، فطال عليه الحال ففكَّرَ في الحيلة، وكان لزوج المرأة غلام ربَّاه في بيته، وذلك الغلام أمين عنده، فجاء إليه ذلك العاشق وما زال يلاطفه بالهدية والإحسان إلى أن صار الغلام طوعًا له فيما يطلبه منه، فقال له يومًا من الأيام: يا فلان، أَمَا تدخل بي منزلكم إذا خرجَتْ سيدتك منه؟ فقال له: نعم. فلما خرجت سيدته إلى الحمام وخرج سيده إلى الدكان، جاء الغلام إلى صاحبه وأخذ بيده إلى أن أدخله المنزل، ثم عرض عليه جميع ما في المنزل، وكان العاشق مصممًا على مكيدة يكيد بها المرأة، فأخذ بياض بيضه معه في إناء، ودنا من فراش الرجل وسكبه على الفراش من غير أن ينظر إليه الغلام، ثم خرج من المنزل ومضى إلى حال سبيله، ثم بعد ساعة دخل الرجل فأتى الفراش ليستريح عليه، فوجد فيه بللًا فأخذه بيده، فلما رآه ظنَّ في عقله أنه منيُّ رجل، فنظر إلى الغلام بعين الغضب، ثم قال له: أين سيدتك؟ فقال له: ذهبت إلى الحمام وتعود في هذه الساعة. فتحقَّقَ ظنُّه وغلب على عقله أنه منيُّ رجال، فقال للغلام: اخرج في هذه الساعة وأحضر سيدتك.

فلما حضرت بين يديه وثب قائمًا إليها وضربها ضربًا عنيفًا، ثم كتَّفَها وأراد أن يذبحها، فصاحت على الجيران فأدركوها فقالت لهم: إن هذا الرجل يريد أن يذبحني ولا أعرف لي ذنبًا. فقام عليه الجيران وقالوا له: ليس لك عليها سبيل، إما أن تطلقها وإما أن تمسكها بمعروف، فإننا نعرف عفافها، وهي جارتنا مدة طويلة، ولم نعلم عليها سوءًا أبدًا. فقال: إني رأيت في فراشي منيًّا كمني الرجال، وما أدري ما سبب ذلك. فقام رجل من الحاضرين وقال له: أَرِني ذلك. فلما رآه الرجل قال: أحضِرْ لي نارًا ووعاء. فلما أحضر له ذلك أخذ البياض وقلاه على النار وأكل منه الرجل، وأطعمه للحاضرين، فتحقَّقَ الحاضرون أنه بياض بيض، فعلم الرجل أنه ظالم لزوجته وأنها بريئة من ذلك. ثم دخل عليه الجيران وصالحوه هو وإياها بعد أن طلَّقَها، وبطلت حيلة ذلك الرجل فيما دبَّرَه من المكيدة لتلك المرأة وهي غافلة. فاعلم أيها الملك أن هذا من كيد الرجال. فأمر الملك بقتل ولده، فتقدَّمَ الوزير الثاني وقبَّلَ الأرض بين يديه، وقال له: أيها الملك، لا تعجل على قتل ولدك، فإن أمه ما رُزِقته إلا بعد يأس، ونرجو أن يكون ذخيرة في ملكك، وحافظًا على مالك، فتصبر أيها الملك عليه، لعل له حجة يتكلم بها، فإن عجلت على قتله ندمتَ كما ندم الرجل التاجر. قال له الملك: وكيف كان ذلك؟ وما حكايته يا وزير؟

 

قال: بلغني أنه كان تاجر لطيف في مأكله ومشربه، فسافَرَ يومًا من الأيام إلى بعض البلاد، فبينما هو يمشي في أسواقها وإذا بعجوز معها رغيفان، فقال لها: هل تبيعيهما؟ فقالت له: نعم. فساومها بأرخص ثمن واشتراهما منها وذهب بهما إلى منزله، فأكلهما ذلك اليوم. فلما أصبح الصباح عاد إلى ذلك المكان، فوجد العجوز ومعها الرغيفان، فاشتراهما أيضًا منها، ولم يزل كذلك مدة عشرين يومًا، ثم غابت العجوز عنه فسأل عنها فلم يجد لها خبرًا. فبينما هو ذات يوم من الأيام في بعض شوارع المدينة إذ وجدها، فوقف وسلَّمَ عليها وسألها عن سبب غيابها وانقطاع الرغيفين عنه، فلما سمعت العجوز كلامه تكاسلت عن رد الجواب، فأقسم عليها أن تخبره عن أمرها. فقالت له: يا سيدي، اسمع مني الجواب، وما ذلك إلا أني كنت أخدم إنسانًا، وكانت به آكلة في صلبه، وكان عنده طبيب يأخذ الدقيق ويلته بسمن ويجعله على الموضع الذي فيه الوجع طول ليلته إلى أن يصبح الصباح، فآخذ ذلك الدقيق وأجعله رغيفين وأبيعهما لك أو لغيرك، وقد مات ذلك الرجل فانقطع عني الرغيفان. فلما سمع التاجر ذلك الكلام قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 581﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن العجوز لما أخبرت التاجر بسبب الرغيفين قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ولم يزل التاجر يتقيَّأ إلى أن مرض وندم، ولم يفده الندم.

 

وبلغني أيها الملك من كيد النساء أن رجلًا كان يقف بالسيف على رأس ملك من الملوك، وكان لذلك الرجل جارية يهواها، فبعث إليها يومًا من الأيام غلامه برسالة على العادة بينهما، فجلس الغلام عندها ولاعَبَها فمالت إليه وضمَّتْه إلى صدرها، فطلب منها المجامعة فطاوعته، فبينما هما كذلك، وإذا بسيد الغلام قد طرق الباب، فأخذت الغلام ورمته في طابق عندها، ثم فتحت الباب، فدخل وسيفه بيده، فجلس على فراش المرأة، فأقبلت عليه تمازجه وتلاعبه وتضمه إلى صدرها وتقبِّله، فقام الرجل إليها وجامَعَها، وإذا بزوجها يدق عليها الباب فقال لها: مَن هذا؟ قالت: زوجي. فقال لها: كيف أفعل؟ وكيف الحيلة في ذلك؟ فقالت له: قم سلَّ سيفك وقف على الدهليز، ثم سبَّنِي واشتمني، فإذا دخل عليك زوجي فاذهب وامضِ إلى حال سبيلك. ففعل ذلك، فلما دخل زوجها رأى خازندار الملك واقفًا وسيفه مسلول بيده، وهو يشتم زوجته ويهدِّدها، فلما رآه الخازندار استحى وأغمد سيفه وخرج من البيت، فقال الرجل لزوجته: ما سبب ذلك؟ فقالت له: يا رجل، ما أبرك هذه الساعة التي أتيت فيها، قد أعتقتَ نفسًا مؤمنة من القتل، وما ذاك إلا أنني كنت فوق السطح أغزل، وإذا بغلام قد دخل عليَّ مطرودًا ذاهبَ العقل وهو يلهث خوفًا من القتل، وهذا الرجل مجرد سيفه وهو يسرع وراءه ويجدُّ في طلبه، فوقع الغلام عليَّ وقبَّلَ يدي ورجلي وقال: يا سيدتي، أعتقيني ممَّن يريد قتلي ظلمًا. فخبَّأْتُه في الطابق الذي عندنا، فلما رأيت هذا الرجل قد دخل وسيفه مسلول أنكرته منه حين طلبه مني، فصار يشتمني ويهدِّدني كما رأيتَ، والحمد لله الذي ساقك لي، فإني كنت حائرةً وليس عندي أحد ينقذني. فقال لها زوجها: نِعْمَ ما فعلتِ يا امرأة، أجرُكِ على الله فيجازيك بفعلك خيرًا. ثم إن زوجها ذهب إلى الطابق ونادى الغلام، وقال له: اطلع لا بأسَ عليك. فطلع من الطابق وهو خائف، والرجل يقول له: أَرِحْ نفسك لا بأس عليك. وصار يتوجع لما أصابه والغلام يدعو لذلك الرجل، ثم خرجَا جميعًا ولم يعلمَا بما دبَّرَتْ هذه المرأة. فاعلم أيها الملك أن هذا من جملة كيد النساء، فإياك والركون إلى قولهن. فرجع الملك عن قتل ولده.

فلما كان اليوم الثالث، دخلت الجارية على الملك وقبَّلَتِ الأرض بين يديه، وقالت له: أيها الملك، خذ لي حقي من ولدك، ولا ترجع إلى قول وزرائك، فإن وزراء اليوم لا خير فيهم، ولا تكن كالملك الذي ركن إلى قول وزير السوء من وزرائه. فقال لها الملك: وكيف كان ذلك؟

 

قالت: بلغني أيها الملك السعيد ذو الرأي الرشيد، أن ملكًا من الملوك كان له ولد يحبه ويكرمه غاية الإكرام، ويفضِّله على سائر أولاده، فقال له يومًا من الأيام: يا أبتي، إني أريد أن أذهب إلى الصيد والقنص. فأمر بتجهيزه، وأمر وزيرًا من وزرائه أن يخرج معه في خدمته، ويقضي له جميع مهماته في سفره، فأخذ ذلك الوزير جميع ما يحتاج إليه الولد في السفر، وخرج معهما الخَدَم والنوَّاب والغلمان، وتوجَّهوا إلى الصيد حتى وصلوا إلى أرض مخضرة ذات عشب ومرعًى ومياه، والصيد فيها كثير، فتقدَّمَ ابن الملك للوزير وعرفه بما أعجبه من النزه، فأقاموا بتلك الأرض مدة أيام، وابن الملك في أطيب عيش وأرغده. ثم أمرهم ابن الملك بالانصراف، فاعترضته غزالة قد انفردت عن رفقتها، فاشتاقت نفسه إلى اقتناصها وطمع فيها، فقال للوزير: إني أريد أن أتبع هذه الغزالة. فقال له الوزير: افعل ما بَدَا لك. فتبعها الولد منفردًا وحده، وطلبها طول النهار إلى أن أمسى الليل، فصعدت الغزالة إلى محل وعر، وأظلم على الولد الليل، وأراد الرجوع فلم يعرف أين يذهب، فبقي متحيِّرًا في نفسه، وما زال راكبًا على ظهر فرسه إلى أن أصبح الصباح ولم يلقَ فرجًا لنفسه، ثم سار ولم يزل سائرًا خائفًا جائعًا عطشانًا وهو لا يدري أين يذهب، حتى انتصف عليه النهار، وحميت عليه الرمضاء، وإذا هو قد أشرف على مدينة عالية البنيان مشيدة الأركان، وهي قفراء خراب ليس فيها غير البوم والغراب. فبينما هو واقف عند تلك المدينة يتعجَّب من رسومها إذ لاحت منه نظرة، فرأى جارية ذات حُسْن وجمال تحت جدار من جدرانها وهي تبكي، فدَنَا منها وقال لها: مَن تكونين؟ فقالت له: أنا بنت التميمة ابنة الطياخ ملك الأرض الشهباء، خرجتُ ذات يوم من الأيام أقضي حاجةً لي، فاختطفني عفريت من الجن، وطار بين السماء والأرض، فنزل عليه شهاب من نارٍ فاحترق فسقطتُ ها هنا، ولي ثلاثة أيام بالجوع والعطش، فلما نظرتُك طمعتُ في الحياة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 582﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن ابن الملك لما خاطبته بنت الملك الطياخ وقالت له: لما نظرتك طمعتُ في الحياة. أدرك ابن الملك عليها الرأفة، فأركبها وراءه على جواده، وقال لها: طيبي نفسًا وقري عينًا، إنْ ردَّني الله سبحانه وتعالى إلى قومي وأهلي أرسلتك إلى أهلك. ثم سار ابن الملك يلتمس الفرج، فقالت له الجارية التي وراءه: يا ابن الملك، أنزلني حتى أقضي حاجتي تحت هذا الحائط. فوقف وأنزلها ثم انتظرها، فتوارت في الحائط، ثم خرجت بأشنع منظر، فلما رآها ابن الملك اقشعَرَّ بدنه وطار عقله، وخاف منها وتغيَّرَتْ حالته، ثم وثبت تلك الجارية فركبت وراء ظهره على الجواد وهي في صورة أقبح ما يكون من الصور، ثم قالت له: يا ابن الملك، ما لي أراك قد تغيَّرَ وجهك؟ فقال لها: إني تذكرت أمرًا أهَمَّني. فقالت له: استعِنْ عليه بجيوش أبيك وأبطاله. فقال لها: إن الذي أهَمَّني لا تزعجه الجيوش ولا يهتمُّ بالأبطال. فقالت له: استعِنْ عليه بمال أبيك وذخائره. فقال لها: إن الذي أهَمَّني لا يقنع بالمال ولا بالذخائر. فقالت له: إنكم تزعمون أن لكم في السماء إلهًا يرى ولا يُرى، وإنه قادر على كل شيء. فقال لها: نعم ما لنا إلا هو. قالت له: فادعوه لعله أن يخلِّصك مني. فرفع ابن الملك طرفه إلى السماء وأخلص بقلبه الدعاء وقال: اللهم إني استعنت بك على هذا الأمر الذي أهَمَّني. وأشار بيده إليها، فسقطت على الأرض محرقة مثل الفحمة، فحمد الله وشكره. وما زال يجدُّ في المسير والله سبحانه وتعالى يهوِّن عليه السير ويدلُّه في الطرق، إلى أن أشرف على بلاده، ووصل إلى مُلْك أبيه بعد أن كان قد يئس من الحياة، وكان ذلك كله برأي الوزير الذي سافَرَ معه لأجل أن يُهلِكه في سفرته، فنصره الله تعالى. وإنما أخبرتك أيها الملك لتعلم أن وزراء السوء لا يصفون النية ولا يُحسِنون التوبة مع ملوكهم، فكُنْ من ذلك الأمر على حذر. فأقبل عليها الملك وسمع كلامها، وأمر بقتل ولده، فدخل الوزير الثالث وقال: أنا أكفيكم شر الملك في هذا النهار. ثم إن ذلك الوزير دخل على الملك وقبَّلَ الأرض بين يديه، وقال له: أيها الملك، إني ناصحك وشفيق عليك وعلى دولتك، ومشير عليك برأي سديد، وهو ألَّا تعجل على قتل ولدك، وقرة عينك، وثمرة فؤادك، فربما كان ذنبه أمرًا هينًا قد عظَّمَتْه عندك هذه الجارية. فقد بلغني أن أهل قريتين أفنوا بعضهم على قطرة عسل. فقال له الملك: وكيف ذلك؟

 

فقال: اعلم أيها الملك أنه بلغني أن رجلًا صيادًا كان يصيد الوحوش في البرية، فدخل يومًا من ذات الأيام كهفًا من كهوف الجبل، فوجد فيه حفرة ممتلئة عسل نحل، فجمع شيئًا من ذلك العسل في قربة كانت معه، ثم حملها على كتفه، وأتى بها إلى المدينة ومعه كلب صيد، وكان ذلك الكلب عزيزًا عليه، فوقف الرجل الصياد على دكان زيات، وعرض عليه العسل، فاشتراه صاحب الدكان، ثم فتح القربة وأخرج منها العسل لينظره، فقطرت من القربة قطرة عسل، فسقط عليها طير، وكان الزيات له قطٌّ فوثَبَ على الطير، فرآه كلب الصياد فوثب على القطِّ فقتله، فوثب الزيات على كلب الصياد فقتله، فوثب الصياد على الزيات فقتله، وكان للزيات قرية وللصياد قرية، فسمعوا بذلك، فأخذوا أسلحتهم وعُدَدهم وقاموا على بعضهم بعضًا، والتقى الصفان؛ فلم يزل السيف دائرًا بينهم إلى أن مات خلق كثير لا يعلم عَدَدهم إلا الله تعالى.

 

وقد بلغني أيها الملك من جملة كيد النساء أن امرأة دفع لها زوجها درهمًا لتشتري به أرزًا، فأخذت منه الدرهم وذهبت به إلى بياع الأرز، فأعطاها الأرز وجعل يلاعبها ويغامزها ويقول لها: إن الأرز لا يطيب إلا بالسكر، فإن أردتِه فادخلي عندي قدر ساعة. فدخلت المرأة عنده في الدكان، فقال بياع الأرز لعبده: زن لها بدرهم سكرًا. وأعطاه سيده رمزًا، فأخذ العبد المنديل من المرأة وفرغ منه الأرز، وجعل في موضعه ترابًا، وجعل بدل السكر حجرًا، وعقد المنديل وتركه عندها، فلما خرجت المرأة من عنده أخذت منديلها وانصرفت إلى منزلها وهي تحسب أن الذي في منديلها أرز وسكر. فلما وصلت إلى منزلها وضعت المنديل بين يدي زوجها، فوجد فيه ترابًا وحجرًا، فلما أحضرت القدر قال لها زوجها: هل نحن قلنا لك أن عندنا عمارة حتى جئتِ لنا بتراب وحجر؟ فلما نظرت إلى ذلك، علمت أن عبد البياع نصب عليها، وكانت قد أتت بالقدر في يدها، فقالت لزوجها: يا رجل، من شغل البال الذي أصابني ذهبتُ لأجيء بالغربال فجئت بالقدر. فقال لها زوجها: وأي شيء أشغل بالك؟ قالت له: يا رجل، إن الدرهم الذي كان معي سقط مني في السوق، فاستحييت من الناس أن أدور عليه، وما هان عليَّ أن الدرهم يروح مني، فجمعت التراب من ذلك الموضع الذي وقع فيه الدرهم وأردت أن أغربله، وكنت رائحة أجيء بالغربال فجئت بالقدر. ثم ذهبت وأحضرت الغربال وأعطته لزوجها، وقالت له: غربله فإن عينك أصح من عيني. فقعد الرجل يغربل في التراب إلى أن امتلأ وجهه وذقنه من الغبار وهو لا يدرك مكرها وما وقع منها. فهذا أيها الملك من جملة كيد النساء، وانظر إلى قول الله تعالى: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ، وقوله سبحانه وتعالى: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا.

فلما سمع الملك من كلام الوزير ما أقنعه وأرضاه وزجره عن هواه، وتأمَّلَ ما تلاه عليه من آيات الله، سطعت أنوار النصيحة على سماء عقله وخلده، ورجع عن تصميمه على قتل ولده، فلما كان اليوم الرابع دخلت الجارية على الملك وقبَّلَتِ الأرض بين يديه وقالت له: أيها الملك السعيد ذو الرأي الرشيد، قد أظهرتُ لك حقي عيانًا، فظلمتَني وأهملت مقاصصة غريمي لكونه ولدك ومهجة قلبك، وسوف ينصرني الله سبحانه وتعالى عليه كما نصر الله ابن الملك على وزير أبيه. فقال لها الملك: وكيف كان ذلك؟

 

فقالت له الجارية: بلغني أيها الملك أنه كان ملك من الملوك الماضية له ولد، ولم يكن له من الأولاد غيره، فلما بلغ ذلك الولد زوَّجَه أبوه بابنة ملك آخَر، وكانت جاريةً ذات حُسْن وجمال، وكان لها ابن عم قد خطبها من أبيها، ولم تكن راضيةً بزواجها منه، فلما علم ابن عمها أنها تزوَّجت بغيره أخذته الغيرة، فاتفق رأي ابن عم الجارية أن يرسل الهدايا إلى وزير الملك الذي تزوَّجَ بها ابنه، فأرسل إليه هدايا عظيمة، وأنفذ إليه أموالًا كثيرة، وسأله أن يحتال على قتل ابن الملك بمكيدةٍ تكون سببًا لهلاكه، أو يتلطف به حتى يرجع عن زواج الجارية، وبعث يقول له: أيها الوزير، لقد حصل عندي من الغيرة على ابنة عمي ما حملني على هذا الأمر. فلما وصلت الهدايا إلى الوزير قبلها وأرسل إليه يقول: طب نفسًا وقر عينًا، فلك عندي كل ما تريده.

ثم إن الملك أبا الجارية أرسل إلى ابن الملك بالحضور إلى مكانه لأجل الدخول على ابنته، فلما وصل الكتاب إلى ابن الملك أذن له أبوه في المسير، وبعث معه الوزير الذي جاءت له الهدايا، وأرسل معهما ألف فارس وهدايا ومحامل وسرادقات وخيامًا، فسار الوزير مع ابن الملك وفي ضميره أن يكيده بمكيدة، وأضمر له في قلبه السوء، فلما صاروا في الصحراء تذكَّرَ الوزير أن في هذا الجبل عينًا جارية من الماء تُعرَف بالزهراء، وكلُّ مَن شرب منها إذا كان رجلًا يعود امرأة، فلما تذكَّرَ ذلك الوزير أنزل العسكر بالقرب منها، وركب الوزير جواده، ثم قال لابن الملك: هل لك أن تروح معي نتفرَّج على عين ماء في هذا المكان؟ فركب ابن الملك وسار هو ووزير أبيه وليس معهما أحد، وابن الملك لا يدري ما قد جرى له في الغيب، ولم يزالا سائرين حتى وصلا إلى تلك العين، فنزل ابن الملك من فوق جواده وغسل يديه وشرب منها، وإذا به قد صار امرأةً، فلما عرف ذلك صرخ وبكى حتى غُشِي عليه، فأقبل عليه الوزير يتوجَّع لما أصابه، ويقول: ما الذي أصابك؟ فأخبره الولد، فلما سمع الوزير كلامه توجَّع له وبكى لما أصاب ابن الملك، ثم قال له: يعينك الله تعالى من هذا الأمر، كيف قد حلَّتْ بك هذه المصيبة، وعظمت بك تلك الرزية، ونحن سائرون بفرحة حيث تدخل على ابنة الملك، والآن لا أدري هل نتوجَّه إليها أم لا؟ والرأي لك، فما تأمرني به؟ فقال له الولد: ارجع إلى أبي، وأخبره بما أصابني، فإني لست أبرح من ها هنا حتى يذهب عني هذا الأمر، أو أموت بحسرتي. فكتب الولد كتابًا لأبيه يُعلِمه بما جرى له، ثم أخذ الوزر الكتاب وانصرف راجعًا إلى مدينة الملك، وترك العساكر والولد وما معه من الجيوش عنده وهو فرحان في الباطن بما فعل بابن الملك.

فلما دخل الوزير على الملك أعلَمَه بقضية ولده وأعطاه كتابه، فحزن الملك على ولده حزنًا شديدًا، ثم أرسل إلى الحكماء وأصحاب الأسرار أن يكشفوا له عن هذا الأمر الذي حصل لولده، فما أحد ردَّ عليه جوابًا، ثم إن الوزير أرسَلَ إلى ابن عم الجارية يبشِّره بما حصل لابن الملك، فلما وصل إليه الكتاب فرح فرحًا شديدًا، وطمع في زواج ابنة عمه، وأرسل إلى الوزير هدايا عظيمة وأموالًا كثيرة، وشكره شكرًا زائدًا. وأما ابن الملك فإنه أقام على تلك العين مدة ثلاثة أيام بلياليها لا يأكل ولا يشرب، واعتمد فيما أصابه على الله سبحانه وتعالى الذي ما خاب مَن توكَّلَ عليه، فلما كان في الليلة الرابعة، وإذا هو بفارس على رأسه تاج، وهو في صفة أولاد الملوك، فقال له الفارس: مَن أتى بك أيها الغلام إلى ها هنا؟ فأعلمه الولد بما أصابه، وأنه كان مسافرًا إلى زوجته ليدخل عليها، وأعلمه أن الوزير أتى به إلى عين الماء، فشرب منها فحصل له ما حصل. وكلما تحدَّثَ الغلام يغلبه البكاء فيبكي.

فلما سمع الفارس كلامه رثى لحاله وقال له: إن وزير أبيك هو الذي رماك في هذه المصيبة؛ لأن هذه العين لم يعلم بها أحدٌ من البشر إلا رجل واحد. ثم إن الفارس أمره أن يركب معه فركب الولد، وقال له الفارس: امضِ معي إلى منزلي، فأنت ضيفي في هذه الليلة. فقال له الولد: أَعْلِمني مَن أنت حتى أسير معك. فقال له: أنا ابن ملك الجان، وأنت ابن ملك الإنس، فطِبْ نفسًا وقرَّ عينًا بما يزيل همك وغمك، فهو عليَّ هيِّن. فسار معه الولد من أول النهار وأهمل جيوشه وعساكره، وما زال سائرًا معه إلى نصف الليل، فقال له ابن ملك الجن: أتدري كم قطعنا في هذا الوقت؟ فقال له الغلام: لا أدري. فقال له ابن ملك الجن: قطعنا مسيرةَ سنةٍ للمُجِدِّ المسافِر. فتعجَّبَ ابن الملك من ذلك، وقال له: كيف العمل والرجوع إلى أهلي؟ فقال له: ليس هذا من شأنك إنما هو من شأني، فحيث تبرأ من علتك تعود إلى أهلك في أسرع من طرفة العين، وذلك عليَّ هين. فلما سمع الغلام من الجني هذا الكلام طار من شدة الفرح، وظنَّ أنه أضغاث أحلام، وقال: سبحان القدير على أن يرد الشقي سعيدًا. وفرح بذلك فرحًا شديدًا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 583﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن ابن ملك الجن قال لابن ملك الإنس: حيث تبرأ من علتك تعود إلى أهلك أسرع من طرفة عين. ففرح بذلك ولم يزالَا سائرين إلى أن أصبح الصباح، وإذا هم بأرض مخضرة نَضِرة ذات أشجار باسقة، وأطيار ناطقة، ورياض فائقة، وقصور رايقة، فنزل ابن ملك الجن عن جواده وأمر الولد بالنزول فنزل، وأخذ بيده ودخلا في بعض تلك القصور؛ فنظر ابن الملك إلى مُلْكٍ عالٍ وسلطانٍ له شأن، فأقام عنده ذلك اليوم في أكل وشرب إلى أن أقبل الليل، فقام ابن ملك الجن وركب جواده وركب ابن ملك الإنس معه وخرجَا تحت الليل مُجِدِّين السير إلى أن أصبح الصباح، وإذا هما بأرض سوداء غير عامرة، ذات صخور وأحجار سود كأنها قطعة من جهنم؛ فقال له ابن ملك الإنس: ما يقال لهذه الأرض؟ فقال له: يقال لها الأرض الدهماء، لملك من ملوك الجن اسمه ذو الجناحين، لم يقدر أحد من الملوك أن يسطو عليه ولا يدخلها أحدٌ إلا بإذنه، فقف في مكانك حتى نستأذنه. فوقف الشاب، ثم غاب عنه ساعةً وعاد إليه وسارا.

ولم يزالا سائرين حتى انتهيا إلى عين ماء تسيل من جبال سود، فقال للشاب: انزل. فنزل الشاب من فوق جواده، ثم قال له: اشرب من هذه العين. فشرب منها الشاب، فعاد لوقته وساعته ذكرًا كما كان أولًا بقدرة الله تعالى؛ ففرح الشاب فرحًا شديدًا ما عليه من مزيد، ثم قال له: يا أخي، ما يقال لهذه العين؟ فقال له: يقال لها عين النساء، لا تشرب منه امرأة إلا صارت رجلًا، فاحمد الله واشكره على العافية، واركب جوادك. فسجد ابن الملك شكرًا لله تعالى، ثم ركب وسارا يُجِدَّان السير بقية يومهما حتى رجعَا إلى أرض ذلك الجني، فبات الشاب عنده في أرغد عيش، ولم يزالا في أكل وشرب إلى أن جاء الليل، ثم قال له ابن ملك الجن: أتريد أن ترجع إلى أهلك في هذه الليلة؟ فقال: نعم أريد ذلك؛ لأني محتاج إليه. فدعا ابن ملك الجان بعبدٍ له من عبيد أبيه اسمه راجز، وقال له: خذ هذا الفتى من عندي واحمله على عاتقك، ولا تخل الصباح يصبح عليه إلا وهو عند صهره وزوجته. فقال له العبد: سمعًا وطاعةً، وحبًّا وكرامةً. ثم غاب العبد عنه ساعة وأقبل وهو في صورة عفريت، فلما رآه الفتى طار عقله واندهش، فقال له ابن ملك الجن: لا بأسَ عليك، اركب جوادك واعلُ به فوق عاتقه. فقال الشاب: بل أركب أنا وأترك الجواد عندك. ثم نزل الشاب عن الجواد وركب على عاتقه، فقال له ابن ملك الجن: أغمض عينيك. فأغمض عينيه وطار به بين السماء والأرض، ولم يزل طائرًا به، ولم يدرِ الشاب بنفسه، فما جاء ثلث الليل الأخير إلا وهو على قصر صهره، فلما نزل على قصره قال له العفريت: انزل. فنزل، وقال له: افتح عينيك، فهذا قصر صهرك وابنته. ثم تركه ومضى، فلما أضاء النهار وسكن الشاب من روعه نزل من فوق القصر، فلما نظره صهره قام إليه وتلقَّاه وتعجَّب حيث رآه فوق القصر، ثم قال له: إنَّا رأينا الناس تأتي من الأبواب وأنت تنزل من السماء؟ فقال له: قد كان الذي أراده الله سبحانه وتعالى. فتعجَّب الملك من ذلك وفرح بسلامته.

فلما طلعت الشمس أمر صهرُه وزيرَه أن يعمل الولائم العظيمة، فعمل الولائم واستقام العرس، ثم دخل على زوجته وأقام مدة شهرين، ثم ارتحل بها إلى مدينة أبيه. وأما ابن عم الجارية فإنه هلك من الغيرة والحسد لما دخل بها ابن الملك ونصره الله سبحانه وتعالى عليه وعلى وزير أبيه، ووصل إلى أبيه بزوجته على أتم حال وأكمل سرور، فتلقاه أبوه بعسكره ووزرائه. وأنا أرجو الله تعالى أن ينصرك على وزرائك أيها الملك، وأنا أسألك أن تأخذ حقي من ولدك. فلما سمع الملك ذلك منها أمر بقتل ولده. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 584﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية لما حكت للملك وقالت: أسألك أن تأخذ حقي من ولدك أمر بقتله، وكان ذلك في اليوم الرابع، فدخل على الملكِ الوزيرُ الرابع، وقبَّلَ الأرض بين يديه، وقال: ثبَّتَ الله الملك وأيَّده، أيها الملك، تأنَّ في هذا الأمر الذي عزمتَ عليه؛ لأن العاقل لا يعمل عملًا حتى ينظر في عاقبته، وصاحب المثل يقول: «مَن لم يتدبَّر في العواقب، فما الدهر له بصاحب». ومَن عمل عملًا بغير تثبُّت، أصابه ما أصاب الحمَّامي في زوجته. فقال له الملك: وما أصاب الحمَّامي في زوجته؟

 

فقال له الوزير: بلغني أيها الملك أن حماميًّا كان يدخل عنده أكابرُ الناس ورؤساؤهم، فدخل عنده يومًا من الأيام شاب حسن الصورة من أولاد الوزراء، وذلك الشاب سمين ضخم الجسم، فصار الحمامي واقفًا في خدمته؛ فلما تجرَّدَ الشاب من ثيابه، لم يَرَ ذَكَرَه الحمَّاميُّ؛ لأنه غاب بين فخذيه من شدة السمن، ولم يظهر منه إلا مثل البندقة، فصار الحمامي يتأسف ويضرب يده على الأخرى، فلما رآه الشاب قال له: ما لك يا حمامي تتأسَّف؟ فقال له: يا سيدي، تأسُّفي عليك لأنك في حصر شديد، مع أنك في هذه النعمة والحُسْن والجمال العظيم، وليس معك شيء تتمتَّع به مثل الرجال. فقال له الشاب: صدقتَ فيما قلتَ، ولكن ذكَّرْتَني بشيء كنتُ غافلًا عنه. فقال له الحمَّامي: وما هو؟ فقال له: تأخذ مني هذا الدينار وتُحضِر لي امرأة مليحة حتى أجرِّب نفسي فيها. فأخذ الحمامي الدينار وسار إلى زوجته وقال لها: يا امرأتي، قد دخل عندي في الحمَّام شاب من أولاد الوزراء، وهو كالبدر ليلة تمامه، وليس له ذَكَر مثل الرجال، وما معه إلا شيء يسير مثل البندقة، وقد تأسَّفْتُ على شبابه، وإنه أعطاني هذا الدينار وسألني أن آتيه بامرأةٍ يجرِّب نفسه فيها، وأنتِ أحقُّ بالدينار، وما علينا في ذلك من بأس وأنا أستر عليكِ، فاقعدي معه ساعة تضحكين عليه وخذي هذا الدينار منه. فأخذت زوجة الحمَّامي منه ذلك الدينار. ثم إنها قامت وتزينت ولبست أفخر ملبوسها، وكانت مليحة زمانها، ثم إنها خرجت مع زوجها إلى أن أدخلها على ابن الوزير في موضعٍ خالٍ، فلما حضرت عنده ورأته وجدته شابًّا حسنًا جميل المنظر كأنه البدر في كماله، فاندهشَتْ من حُسْنه وجماله.

ثم إن الشاب لما نظر إليها ذهل عقله ولبه من وقته، ومكث هو وإياها وقفلَا عليهما الباب. ثم إن الشاب أخذ تلك الصبية وضمَّها إلى صدره وتعانَقَا، فانتشر من ذلك الشاب ذَكَر مثل ذَكَر الحمار، وركب على صدر زوجة الحمامي ساعة طويلة، وهي تبكي وتصرخ تحته وتهرج وتمرج، فصار الحمَّامي يناديها ويقول لها: يا أم محمد يكفيكِ، اخرجي قد طال النهار على ابنك الرضيع. فيقول لها الشاب: اخرجي إلى ابنك وتعالي. فتقول له: إن خرجتُ من عندك طلعت روحي، ومن قبل ابني، فأنا أتركه يموت من البكاء أو يتربى يتيمًا بلا أم. وما زالت عند الشاب إلى أن قضى حاجته منها عشر مرات، وزوجها قدام الباب ينادي ويصيح ويبكي ويتسغيث فلا يغاث، وما زال كذلك وهو يقول: قتلت نفسي. ولم يجد إلى زوجته وصولًا، واشتدَّ بالحمَّامي البلاء والغيرة، فطلع على أعلى الحمام وارتمى من فوقه فمات.

 

وبلغني أيضًا أيها الملك من كيد النساء حكاية أخرى. قال له الملك: وما بلغك؟ فقال له: بلغني أيها الملك أن امرأة ذات حُسْسن وجمال، وبهاء وكمال، لم يكن لها نظير، فنظرها بعض الشبان الغاوين، فتعلَّقَ بها شاب وأحَبَّها محبة عظيمة، وكانت تلك المرأة عفيفة عن الزنا، وليس لها فيه رغبة، فاتفق أن زوجها سافَرَ يومًا من الأيام إلى بعض البلاد، فصار الشاب كل يوم يرسل إليها مرات عديدة ولم تجبه، فقصد الشاب عجوزًا كانت ساكنة بالقرب فسلَّمَ عليها، وقعد يشكو إليها ما أصابه من المحبة وما هو عليه من عشق المرأة، وأخبرها أنه مراده وصالها، فقالت له العجوز: أنا أضمن لك ذلك ولا بأس عليك، وأنا أبلغك ما تريد إن شاء الله تعالى. فلما سمع الشاب كلامها دفع لها دينارًا، ثم انصرف إلى حال سبيله. فلما أصبح الصباح دخلت العجوز على المرأة وجدَّدَتْ معها عهدًا ومعرفة، وصارت العجوز تتردد إليها في كل يوم وتتغدى وتتعشى عندها، وتأخذ من عندها بعض الطعام إلى أولادها، وصارت تلك العجوز تلاعبها وتباسطها إلى أن أفسدت حالها، وصارت لا تقدر على مفارقة العجوز ساعة واحدة، فاتفق في بعض الأيام أن العجوز وهي خارجة من عند المرأة كانت تأخذ خبزًا وتجعل فيه شحمًا وفلفلًا، وتُطعِمه إلى كلبة مدة أيام، فجعلت الكلبة تتبعها من أجل الشفقة والحسنة، فأخذت لها يومًا شيئًا كثيرًا من الفلفل والشحم وأطعمته للكلبة، فلما أكلته صارت عيناها تدمع من حرارة الفلفل، ثم تبعتها الكلبة وهي تبكي، فتعجَّبَتْ منها الصبية غاية العجب، ثم قالت للعجوز: يا أمي، ما سبب بكاء هذه الكلبة؟ فقالت لها: يا بنتي هذه لها حكاية عجيبة، فإنها كانت صبية وكانت صاحبتي ورفيقتي، وكانت صاحبة حُسْن وجمال وبهاء وكمال، وكان قد تعلَّقَ بها شاب في الحارة، وزاد بها حبًّا وشغفًا حتى لزم الوسادة، وأرسل إليها مرات عديدة لعلها ترقُّ له وترحمه، فأبت، فنصحتها وقلت لها: يا بنتي، أطيعيه في جميع ما قاله وارحميه، واشفقي عليه. فما قبلت نصيحتي، فلما قلَّ صبر هذا الشاب شكا لبعض أصحابه، فعملوا لها سحرًا وقلبوا صورتها من صورة البشر إلى صورة الكلاب، فلما رأت ما حصل لها وما هي فيه من الأحوال وانقلاب الصورة، ولم تجد أحدًا من المخلوقين يشفق عليها غيري، جاءتني إلى منزلي وصارت تستعطف بي وتقبِّل يدي ورجلي، وتبكي وتنتحب، فعرفتها وقلت لها: كثيرًا ما نصحتك فلم يفدك نصحي شيئًا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 585﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن العجوز صارت تحكي للمرأة خبر الكلبة وتعرفها عن حالها بمكر وخداع، لأجل موافقتها لغرض تلك العجوز، وجعلت تقول لها: لما جاءتني هذه الكلبة المسحورة وبكت قلت لها: كم نصحتك! ولكن يا بنتي لما رأيتها في هذه الحالة شفقت عليها وأبقيتها عندي، فهي على هذه الحالة، وكلما تتفكَّر حالتها الأولى تبكي على نفسها. فلما سمعت الصبية كلامَ العجوز حصل لها رعب كبير، وقالت لها: يا أمي، والله إنك خوَّفتني بهذه الحكاية. فقالت لها العجوز: من أي شيء تخافين؟ فقالت لها: إن شابًّا مليحًا متعلِّقًا بحبي، وأرسل لي مرات وأنا أمتنع منه، وأنا اليوم أخاف أن يحصل لي مثل ما حصل لهذه الكلبة. فقالت لها العجوز: احذري يا بنتي أن تخالفي، فإني أخاف عليك كثيرًا، وإذا كنتِ لم تعرفي محله فأخبريني بصفته وأنا أجيء به إليك، ولا تخل قلب أحدٍ يتغيَّر عليك. فوصفته لها وجعلت تتغافل وتريها أنها لم تعرفه، وقالت لها: لما أقوم وأسأل عنه. فلما خرجت من عندها ذهبت إلى الشاب وقالت له: طِبْ نفسًا قد لعبت بعقل الصبية فأنت في غدٍ وقت الظهر تحضر وتقف لي عند رأس الحارة، حتى أجيء فآخذك وأذهب بك إلى منزلها وتنبسط عندها بقية النهار وطول الليل. ففرح الشاب فرحًا شديدًا وأعطاها دينارين وقال لها: لما أقضي حاجتي أعطي لك عشرة دنانير. فرجعت إلى الصبية وقالت لها: عرفته وكلمته في شأن ذلك فرأيته غضبانًا عليك كثيرًا وعازمًا على ضررك، فما زلتُ أستعطف بخاطره على حضوره في غد عند آذان الظهر. ففرحت الصبية فرحًا شديدًا وقالت لها: يا أمي، إن طاب خاطره وجاءني وقت الظهر أعطيكي عشرة دنانير. فقالت لها العجوز: لا تعرفي حضوره إلا مني.

فلما أصبح قالت لها العجوز: أحضري الغداء وتزيَّني والبسي أعزَّ ما عندك حتى أذهب إليه وأجيء به إليك. فقامت تزين نفسها وتهيِّئ الطعام، وأما العجوز فإنها خرجت في انتظار الشاب فلم يأتِ، فدارت تفتِّش عليه فلم تقف له على خبر، فقالت في نفسها: كيف العمل؟ أيروح هذا الأكل الذي فعلته خسارة والوعد الذي وعدتني به من الدراهم؟ ولكن لم أخل هذه الحيلة تروح بلا شيء، بل أفتش لها على غيره، وأجيء به إليها. فبينما هي كذلك تدور في الشارع إذ نظرت شابًّا حسنًا جميلًا على وجهه أثر السفر، فتقدَّمت إليه وسلمت عليه، وقالت له: هل لك في طعام وشراب وصبية مهيَّأة؟ فقال لها الرجل: وأين هذا؟ قالت: عندي في بيتي. فسار معها الرجل والعجوز وهي لا تعلم أنه زوج الصبية، حتى وصلت إلى البيت ودقت الباب، ففتحت لها الصبية الباب، فدخلت وهي تجري لتتهيأ بالملبوس والبخور، فأدخلته العجوز في قاعة الجلوس وهي في كيد عظيم، فلما دخلت المرأة عليه ووقع بصرها عليه، والعجوز قاعدة عنده، بادرت المرأة بالحيلة والمكيدة، ودبَّرَتْ لها أمرًا في الوقت والساعة، ثم سحبت الخفَّ من رجلها وقالت لزوجها: ما هكذا العهد الذي بيني وبينك؟ فكيف تخونني وتفعل معي هذا الفعل؟ فإني لما سمعت بحضورك جربتك بهذه العجوز، فأوقعتك فيما حذَّرْتُك منه، وقد تحقَّقْتُ أمرك، وإنك نقضتَ العهد الذي بيني وبينك، وكنتُ قبل الآن أظن أنك طاهر حتى شاهدتك بعيني مع هذه العجوز، وأنك تتردَّد على النساء الفاجرات. وصارت تضربه بالخف على رأسه وهو يتبرأ من ذلك، ويحلف لها أنه ما خانها مدة عمره، ولا فعل فعلًا مما اتهمته به، ولم يزل يحلف لها أيمانًا بالله تعالى وهي تضربه وتبكي وتصرخ، وتقول: تعالوا إليَّ يا مسلمين. فيمسك فمها بيده وهي تعضه، وصار متذللًا لها ويقبِّل يدَيْها ورجليها، وهي لا ترضى عليه ولا تكف يدها عن صفعه. ثم إنها غمزت العجوز أن تمسك يدها عنه، فجاءتها العجوز وصارت تقبِّل يديها ورجليها إلى أن أجلستهما، فلما جلسا جعل الزوج يقبِّل يد العجوز ويقول لها: جزاكِ الله تعالى كلَّ خير حيث خلصتِني منها. فصارت العجوز تتعجب من حيلة المرأة وكيدها. وهذا أيها الملك من جملة مكر النساء وحيلهن وكيدهن، فلما سمعه الملك انتصح بحكايته، ورجع عن قتل ولده. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 586﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الوزير الرابع لما حكى الحكاية للملك رجع عن قتل ولده، فلما كان في اليوم الخامس دخلت الجارية على الملك وبيدها قدح فيه سم، واستغاثت ولطمت على خدَّيْها ووجهها، وقالت له: أيها الملك، إما أن تنصفني وتأخذ حقي من ولدك وإلا أشرب هذا القدح السم وأموت، ويبقى ذنبي متعلقًا بك إلى يوم القيامة، فإن وزراءك هؤلاء ينسبونني إلى الكيد والمكر، وليس في الدنيا أمكر منهم، أَمَا سمعتَ أيها الملك حديثَ الصائغ مع الجارية؟ فقال لها الملك: ما جرى منهما يا جارية؟

 

فقالت: بلغني أيها الملك السعيد أنه كان رجل صائغ مولعًا بالنساء وشرب الخمر، فدخل يومًا من الأيام عند صديقٍ له، فنظر إلى حائط من حيطان بيته فرأى فيها صورة جارية منقوشة لم يَرَ الراءون أحسنَ ولا أجمل ولا أظرف منها، فأكثر الصائغ من النظر إليها وتعجَّب من حُسْن هذه الصورة، ووقع حب هذه الصورة في قلبه إلى أن مرض وأشرف على الهلاك، فجاءه أحد أصدقائه يزوره، فلما جلس عنده سأله عن حاله وما يشكو منه، فقال له: يا أخي، إن مرضي كله وجميع ما أصابني من العشق؛ وذلك أني عشقت صورة منقوشة في حائط فلان أخي. فلامه ذلك الصديق وقال له: إن هذا من قلة عقلك، فكيف تعشق صورة في حائط لا تضر ولا تنفع، ولا تنظر ولا تسمع، ولا تأخذ ولا تمنع؟ فقال له: ما صوَّرَها المصوِّر إلا على مثال امرأة جميلة. فقال له صديقه: لعل الذي صوَّرَها اخترعها من رأسه. فقال له: أنا في حبها ميت على كل حال، وإن كان لهذه الصورة شبيه في الدنيا فأنا أرجو الله تعالى أن يمدني بالحياة إلى أن أراه. فلما قام الحاضرون سألوا عمَّن صوَّرها فوجدوه قد سافر إلى بلد من البلدان، فكتبوا له كتابًا يشكون له فيه حال صاحبهم، ويسألونه عن تلك الصورة وما سببها؛ هل هو اخترعها من ذهنه، أو رأى لها شبيهًا في الدنيا؟ فأرسل إليهم: إني صورت هذه الصورة على شكل جارية مغنية لبعض الوزراء، وهي بمدينة كشمير بإقليم الهند.

فلما سمع الصائغ بالخبر وكان ببلاد الفرس، تجهَّزَ وسار متوجهًا إلى بلاد الهند، فوصل إلى تلك المدينة من بعد جهد جهيد، فلما دخل تلك المدينة واستقر فيها، ذهب يومًا من الأيام عند رجل عطَّار من أهل تلك المدينة، وكان ذلك العطار حاذقًا فَطِنًا لبيبًا، فسأله الصائغ عن مَلِكهم وسيرته، فقال له العطار: أما ملكنا فعادل حسن السيرة، محسن لأهل دولته، منصف لرعيته، وما يكره في الدنيا إلا السَّحَرة، فإذا وقع في يده ساحر أو ساحرة ألقاها في خارج المدينة، ويتركها بالجوع إلى أن يموتا. ثم سأله عن وزرائه؟ فذكر له سيرة كل وزير وما هو عليه، إلى أن انجرَّ الكلام إلى الجارية المغنية، فقال له: عند الوزير الفلاني. فصبر بعد ذلك أيامًا حتى أخذ في تدبير الحيلة. فلما كان في ليلة ذات مطر ورعد ورياح عاصفة، ذهب الصائغ وأخذ معه عدة من اللصوص وتوجَّهَ إلى دار الوزير سيد الجارية، وعلق فيه السلالم بكلاليب، ثم طلع إلى أعلى القصر، فلما وصل إليه نزل إلى ساحته، فرأى جميع الجواري نائمات كل واحدة على سريرها، ورأى سريرًا من المرمر عليه جارية كأنها البدر إذا أشرق في ليلة أربعة عشر، فقصدها وقعد عند رأسها، وكشف الستر عنها، فإذا عليها ستر من ذهب، وعند رأسها شمعة، وعند رجلَيْها شمعة، كل شمعة منهما في شمعدان من الذهب الوهَّاج، وهاتان الشمعتان من العنبر، وتحت الوسادة حُقٌّ من الفضة فيه جميع حليها، وهو مغطًّى عند رأسها. فأخرج سكينًا وضرب بها كفلَ الجارية فجرحها جرحًا واضحًا، فانتبهت فَزِعة مرعوبة، فلما رأته خافت من الصياح فسكتت وظنت أنه يريد أخذ المال، فقالت له: خذ الحُقَّ والذي فيه، وليس بقتلي نفع، وأنا في جيرتك وفي حسبك، فتناول الرجل الحُقَّ بما فيه وانصرف. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 587﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الصائغ حين طلع قصر الوزير ضرب الجارية على كفلها فجرحها، وأخذ الحُقَّ الذي فيه حليها وانصرف، فلما أصبح الصباح لبس ثيابه وأخذ معه الحُقَّ الذي فيه الحلي، ودخل به على ملك تلك المدينة، ثم قبَّلَ الأرض بين يديه وقال: أيها الملك، إنني رجل ناصح لك وأنا من أرض خراسان، وقد أتيت مهاجرًا إلى حضرتك لما شاع من حُسْن سيرتك وعدلك في رعيتك، فأردتُ أن أكون تحت لوائك، وقد وصلت إلى هذه المدينة آخر النهار، فوجدت الباب مغلوقًا فنمتُ من خارجه، فبينما أنا بين النائم واليقظان إذ رأيت أربع نسوة إحداهن راكبة مكنسة، والأخرى راكبة مروحة، فعلمت أيها الملك أنهن سَحَرة يدخلن مدينتك، فدنت إحداهن مني ورفصتني برجلها، وضربتني بذنب ثعلب كان في يدها، فأوجعتني فأخذتني الحدة من الضرب فضربتها بسكين كانت معي، فأصابت كفلها وهي مولية شاردة، فلما جرحتها انهزمت قدامي فوقع منها هذا الحُقُّ بما فيه، فأخذته وفتحته فرأيتُ فيه هذا الحلي النفيس، فخذه فليس لي به حاجة؛ لأني رجل سائح في الجبال، وقد رفضت الدنيا عن قلبي، وزهدتها بما فيها، وإني قاصد وجه الله تعالى. ثم ترك الحُقَّ بين يدي الملك وانصرف.

فلما خرج من عند الملك فتح الملك ذلك الحُقَّ، وأخرج جميع الحلي منه، وصار يقلِّبه بيده فوجد فيه عقدًا كان أنعم به على الوزير سيد الجارية، فدعا الملك بالوزير، فلما حضر بين يديه قال له: هذا العقد الذي أهديتُه إليك؟ فلما رآه الوزير عرفه وقال للملك: نعم، وأنا أهديته إلى جارية مغنية عندي. فقال له الملك: أحضر لي الجارية في هذه الساعة. فأحضرها، فلما حضرت الجارية بين يدي الملك، قال له: اكشف عن كفلها وانظر هل فيه جرح أم لا؟ فكشف الوزير عنه فرأى فيه جرح سكين، فقال الوزير للملك: نعم يا مولاي فيها الجرح. فقال الملك للوزير: هذه ساحرة كما قال لي الرجل الزاهد بلا شك ولا ريب. ثم أمر الملك بأن يجعلوها في جب السَّحَرة، فأرسلوها إلى الجبِّ في ذلك النهار، فلما جاء الليل وعرف الصائغ أن حيلته قد تمَّتْ جاء إلى حارس الجب وبيده كيس فيه ألف دينار، وجلس مع الحارس يتحدَّث إلى ثلث الليل الأول، ثم دخل مع الحارس في الكلام وقال له: اعلم يا أخي أن هذه الجارية بريئة من هذه البلية التي ذكروها عنها وأنا الذي أوقعتُها. وقص عيه القصة من أولها إلى آخرها، ثم قال له: يا أخي، خذ هذا الكيس فإن فيه ألف دينار، وأعطني الجارية أسافر بها إلى بلادي، فهذه الدنانير أنفع لك من حبس الجارية، واغتنم أجرنا ونحن الاثنان ندعو لك بالخير والسلامة. فلما سمع حكايته تعجب غاية العجب من هذه الحيلة وكيف تمت، ثم أخذ الحارس الكيس بما فيه وتركها له، وشرط عليه ألَّا يقيم بها في هذه المدينة ساعة واحدة، فأخذها الصائغ من وقته وسار، وجعل يجدُّ في السير إلى أن وصل إلى بلاده وقد بلغ مراده. فانظر أيها الملك إلى كيد الرجال وحيلهم ووزرائك يردونك عن أخذ حقي، وفي غد أقف أنا وأنت بين يدي حاكم عادل فيأخذ حقي منك أيها الملك.

فلما سمع الملك كلامها أمر بقتل ولده، فدخل عليه الوزير الخامس وقبَّلَ الأرض بين يديه، ثم قال له: أيها الملك العظيم الشأن، تمهَّلْ ولا تعجل على قتل ولدك؛ فرُبَّ عجلة أعقبت ندامة، وأخاف عليك أن تندم ندامة الرجل الذي لم يضحك بقية عمره. فقال له الملك: وكيف ذلك أيها الوزير؟

 

قال: بلغني أيها الملك أنه كان رجل من ذوي البيوت والنِّعَم، وكان ذا مال وخدم وعبيد وأملاك، فمات إلى رحمة الله تعالى وترك ولدًا صغيرًا، فلما كبر الولد أخذ في الأكل والشرب وسماع الطرب والأغاني، وتكرم وأعطى وأنفق الأموال التي خلَّفها له أبوه حتى ذهب المال جميعه … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 588﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الولد لما أذهب المال الذي خلفه له أبوه ولم يَبْقَ منه شيء، رجع إلى بيع العبيد والجواري والأملاك، وأنفق جميع ما كان عنده من مال أبيه وغيره، فافتقر حتى صار يشتغل مع الفَعَلَة، فمكث على ذلك مدة سنة. فبينما هو جالس يومًا من الأيام تحت حائط ينتظر مَن يستأجره، وإذا هو برجل حسن الوجه والثياب قد دَنَا من الشاب وسلَّمَ عليه، فقال له الولد: يا عم، هل أنت تعرفني قبل الآن؟ فقال له: لم أعرفك يا ولدي أصلًا، بل أرى آثارَ النعمة عليك وأنت في هذه الحالة. فقال له: يا عم، نفذ القضاء والقدر، فهل لك يا عم يا صبيح الوجه من حاجة تستخدمني فيها؟ فقال له: يا ولدي، أريد أن أستخدمك في شيء يسير. قال له الشاب: وما هو يا عم؟ فقال له: عندي عشرة من الشيوخ في دار واحدة، وليس عندنا مَن يقضي حاجتنا، ولك عندنا من المأكل والملبس ما يكفيك، فتقوم بخدمتنا، ولك عندنا ما يصل إليك من الخير والدراهم، ولعل الله يرد عليك نعمتك بسببنا. فقال له الشاب: سمعًا وطاعة. ثم قال له الشيخ: لي عليك شرط. فقال له الشاب: وما هو شرطك يا عم؟ قال له: يا ولدي أن تكون كاتمًا لسرنا فيما ترانا عليه، وإذا رأيتنا نبكي فلا تسألنا عن سبب بكائنا. فقال له الشاب: نعم يا عم. فقال له الشيخ: يا ولدي، سِرْ بنا على بركة الله تعالى. فقام الشاب خلف الشيخ إلى أن أوصله إلى الحمام فأدخله فيه، وأزال عن بدنه ما عليه من القشف، ثم أرسل الشيخ رجلًا فأتى له بحلة حسنة من القماش فألبسه إياها، ومضى به إلى منزله عند جماعته، فلما دخل الشاب وجدها دارًا عالية البنيان، مشيدة الأركان، واسعة بمجالس متقابلة وقاعات، في كل قاعةٍ فسقيةٌ من الماء عليها طيور تغرد، وشبابيك تطل من كل جهة على بستان حسن في تلك الدار، فأدخله الشيخ في أحد المجالس فوجده منقوشًا بالرخام الملون، ووجد سقفه منقوشًا باللازورد والذهب الوهَّاج، وهو مفروش ببسط الحرير، ووجد فيه عشرة من الشيوخ قاعدين متقابلين، وهم لابسون ثياب الحزن يبكون وينتحبون، فتعجَّبَ الشاب من أمرهم وهَمَّ أن يسأل الشيخ، فتذكَّر الشرط فمنع لسانه.

ثم إن الشيخ سلَّمَ إلى الشاب صندوقًا فيه ثلاثون ألف دينار، وقال له: يا ولدي أنفق علينا من هذا الصندوق وعلى نفسك بالمعروف، وأنت أمين، واحفظ ما استودعتك فيه. فقال الشاب: سمعًا وطاعةً. ولم يزل الشاب ينفق عليهم مدة أيام وليالٍ، ثم مات واحد منهم فأخذه أصحابه وغسَّلوه وكفَّنوه ودفنوه في روضة خلف الدار، ولم يزل الموت يأخذ منهم واحدًا بعد واحد إلى أن بقي الشيخ الذي استخدم الشاب، فاستمر هو والشاب في تلك الدار وليس معهما ثالث، وأقاما على ذلك مدة من السنين. ثم مرض الشيخ، فلما يئس الشاب من حياته أقبل عليه وتوجَّعَ له، ثم قال له: يا عم، أنا خدمتكم ولا كنت أقصِّر في خدمتكم ساعةً واحدة مدة اثنتي عشرة سنة، وإنما أنصح لكم وأخدمكم بجهدي وطاقتي. فقال له الشيخ: نعم يا ولدي، خدمتنا إلى أن توفيت هذه المشايخ إلى الله عز وجل، ولا بد لنا من الموت. فقال الشاب: يا سيدي، أنت على خطر وأريد منك أن تُعلِمني ما سبب بكائكم، ودوام انتحابكم وحزنكم وتحسركم؟ فقال له: يا ولدي، ما لك بذلك من حاجة، ولا تكلِّفني ما لا أطيق، فإني سألتُ الله تعالى ألَّا يبلي أحدًا ببليتي، فإن أردتَ أن تسلم مما وقعنا فيه فلا تفتح ذلك الباب - وأشار إليه بيده، وحذَّره منه - وإن أردتَ أن يصيبك ما أصابنا فافتحه؛ فإنك تعلم سببَ ما رأيتَ منَّا، لكونك تندم حيث لا ينفعك الندم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 589﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشيخ الذي بقي من العشرة قال للشاب: احذر أن تفتح هذا الباب فتندم حيث لا ينفعك الندم. ثم تزايدت العلة على الشيخ فمات، فغسَّله الشاب بيده وكفَّنه ودفنه عند أصحابه، وقعد الشاب في ذلك الموضع وهو مختوم على ما فيه، وهو مع ذلك قلق متفكِّر فيما كان فيه الشيوخ. فبينما هو يتفكر يومًا من الأيام في كلام الشيخ ووصيته له بعدم فتح الباب، إذ خطر بباله أنه ينظر إليه، فقام إلى تلك الجهة وفتَّشَ حتى رأى بابًا لطيفًا قد عشَّشَ عليه العنكبوت، وعليه أربعة أقفال من البولاد، فلما نظره تذكر ما حذَّره منه الشيخ فانصرف عنه، وصارت نفسه تراوده على فتح الباب وهو يمنعها مدة سبعة أيام، وفي اليوم الثامن غلبت عليه نفسه وقال: لا بد أن أفتح ذلك الباب، وأنظر أي شيء يجري عليَّ منه؛ فإن قضاء الله تعالى وقدره لا يرده شيء، ولا يكون أمر من الأمور إلا بإرادته. فنهض وفتح الباب بعد أن كسر الأقفال، فلما فتح الباب رأى دهليزًا ضيقًا، فجعل يمشي فيه مقدار ثلاث ساعات، وإذا به قد خرج على شاطئ نهر عظيم، فتعجَّبَ الشاب من ذلك، فصار يمشي على ذلك الشاطئ، وينظر يمينًا وشمالًا، وإذا بعقاب كبير قد نزل من الجو، فحمل ذلك الشاب في مخالبه، وطار بين السماء والأرض إلى أن أتى به إلى جزيرة في وسط البحر فألقاه فيها، وانصرف عنه ذلك العقاب، فصار الشاب متحيِّرًا في أمره لا يدري أين يذهب.

فبينما هو جالس يومًا من الأيام، وإذا بقلع مركب قد لاح له في البحر كالنجمة في السماء، فتعلق خاطر الشاب بالمركب؛ لعل نجاته تكون فيها، وصار ينظر إليها حتى وصلت إلى قربه، فلما وصلَتْ رأى زورقًا من العاج والأبنوس ومجاديفه من الصندل والعود، وهو مصفح جميعه بالذهب الوهَّاج، وفيه عشر من الجواري والأبكار كأنهن الأقمار، فلما نظره الجواري طلعن إليه من الزورق، وقبَّلْنَ يديه، وقلن له: أنت الملك العريس. ثم تقدَّمَتْ إليه جارية وهي كالشمس الضاحية في السماء الصاحية، وفي يدها منديل حرير فيه خلعة ملوكية، وتاج من الذهب مرصَّع بأنواع اليواقيت، فتقدَّمَتْ عليه وألبسته وتوَّجَتْه وحملنه على الأيدي إلى ذلك الزورق، فوجد فيه أنواعًا من بسط الحرير الملون، ثم نشرن القلوع وسِرْنَ في لجج البحر. قال الشاب: فلما سرتُ معهن اعتقدت أن هذا منام، ولا أدرى أين يذهبن بي، فلما أشرفن على البر رأيت البر قد امتلأ بعساكر لا يعلم عدتهم إلا الله سبحانه وتعالى وهم متدرعون، ثم قدَّموا إليَّ خمسةً من الخيل المسومة بسروجٍ من ذهب مرصَّعة بأنواع اللآلئ والفصوص الثمينة، فأخذت منها فرسًا فركبته والأربعة سارت معي، ولما ركبت انعقدت على رأسي الرايات والأعلام، ودُقَّتِ الطبول وضُرِبت الكاسات، ثم ترتبت العساكر ميمنة وميسرة، وسرتُ أتردَّد: هل أنا نائم أم يقظان؟ ولم أزل سائرًا ولا أصدق بما أنا فيه من الموكب، بل أظن أنه أضغاث أحلام، حتى أشرفنا على مرج أخضر فيه قصور وبساتين وأشجار، وأنهار وأزهار وأطيار تسبح الله الواحد القهار. فبينما هم كذلك وإذا بعسكر قد برز من بين تلك القصور والبساتين مثل السيل إذا انحدر إلى أن ملأ ذلك المرج، فلما دنوا مني وقفت تلك العساكر، وإذا بملك منهم قد تقدَّمَ بمفرده راكب بين يديه بعضُ خواصه مشاة، فلما قرب الملك من الشاب نزل عن جواده، فلما رأى الملكَ نزل عن جواده نزل هو الآخَر، ثم سلَّمَا على بعضهما أحسن سلام، ثم ركبوا خيولهم، فقال الملك للشاب: سِرْ بنا فإنك ضيفي. فسار معه الشاب وهم يتحدثون، والمواكب مرتبة وهي تسير بين أيديهما إلى قصر الملك، ثم نزلوا ودخلوا القصر جميعًا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 590﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك لما أخذ الشاب سار هو وإياه بالموكب حتى دخلا القصر، ويد الشاب في يد الملك، ثم أجلسه على كرسي من الذهب وجلس عنده، فلما كشف ذلك الملك اللثامَ عن وجهه، وإذا هو جارية كالشمس الضاحية في السماء الصاحية؛ حُسْن وجمال وبهاء وكمال وعجب ودلال، فنظر الشاب إلى نعمة عظيمة وسعادة جسيمة، وصار الشاب متعجبًا من حُسْنها وجمالها، ثم قالت له: اعلم أيها الملك أني ملكة هذه الأرض، وكل هذه العساكر التي رأيتها وجميع ما رأيته من فارس أو راجل فهن نساء ليس فيهن رجال، والرجال عندنا في هذه الأرض يحرثون ويزرعون ويحصدون، ويشتغلون بعمارة الأرض وعمارة البلاد ومصالح الناس من سائر الصناعات، وأما النساء فهنَّ الحكَّام وأرباب المناصب والعساكر. فتعجَّب الشاب من ذلك غاية العجب، فبينما هم كذلك وإذا بالوزير قد دخل، وإذا هي عجوز شمطاء وهي محتشمة ذات هيبة ووقار، فقالت لها الملكة: أحضري لنا القاضي والشهود. فمضت العجوز لذلك، ثم عطفت الملكة على الشاب تنادمه وتؤانسه، وتزيل وحشته بكلام لطيف، ثم أقبلت عليه وقالت: أترضى أن أكون لك زوجة؟ فقام وقبَّلَ الأرض بين يديها فمنعته، فقال لها: يا سيدتي، أنا أقل من الخدم الذين يخدمونك. فقالت له: أَمَا ترى جميع ما نظرته من الخدم والعساكر والمال والخزائن والذخائر؟ فقال لها: نعم. فقالت له: جميع ذلك بين يديك تتصرف فيه بحيث تعطي وتهب ما بَدَا لك. ثم إنها أشارت إلى باب مغلق وقالت له: جميع ذلك تتصرف فيه إلا هذا الباب فلا تفتحه، وإذا فتحته تندم حيث لا ينفعك الندم. فما استتم كلامها إلا والوزيرة والقاضي والشهود معها. فلما حضروا وكلهن عجائز ناشرات الشعر على أكتافهن، وعليهن هيبة ووقار. قال: فلما حضرنَ بين يدي الملكة أمرتهن أن يعقدن العقد بالتزويج، فزوَّجنها الشاب وعملت الولائم وجمعت العساكر، فلما أكلوا وشربوا دخل عليها ذلك الشاب فوجدها بكرًا عذراء، فأزال بكارتها، وأقام معها سبعة أعوام في ألذ عيش وأرغده وأهناه وأطيبه.

فتذكر ذات يوم من الأيام فتح الباب وقال: لولا أن يكون فيه ذخائر جليلة أحسن مما رأيت ما منعتني عنه. ثم قام وفتح الباب وإذا داخله الطائر الذي حمله من ساحل البحر وحطَّه في الجزيرة، فلما نظر ذلك الطائر قال له: لا مرحبًا بوجه لا يفلح أبدًا. فلما نظره وسمع كلامه هرب منه، فتبعه وخطفه بين السماء والأرض مسافة ساعة، وحطَّه في المكان الذي خطفه منه، ثم غاب عنه، فجلس مكانه، ثم رجع إلى عقله وتذكَّر ما نظره قبل ذلك من النعمة والعز والكرامة وركوب العسكر أمامه، والأمر والنهي، فجعل يبكي وينتحب، ثم أقام على ساحل البحر الذي وضعه فيه ذلك الطائر مدة شهرين وهو يتمنى أن يعود إلى زوجته.

فبينما هو ذات ليلة من الليالي سهران حزين متفكر، وإذا بقائل يقول وهو يسمع صوته ولا يرى شخصه وهو ينادي: ما أعظم اللذات! هيهات هيهات أن يرجع إليك ما فات، فأكثِرِ الحسرات. فلما سمعه ذلك الشاب يئس من لقاء تلك الملكة، ومن رجوع النعمة التي كان فيها إليه، ثم دخل الدار التي فيها المشايخ، وعلم أنهم قد جرى لهم مثل ما جرى له، وهذا الذي كان سبب بكائهم وحزنهم، فعذرهم بعد ذلك. ثم إن الشاب أخذه الحزن والهم ودخل ذلك المجلس، وما زال يبكي وينوح، وترك المأكل والمشرب والروائح الطيبة والضحك إلى أن مات، ودفنوه بجانب المشايخ. فاعلم أيها الملك أن العجلة ليست محمودة، وإنما هي تورث الندامة، وقد نصحتك بهذه النصيحة. فلما سمع الملك ذلك الكلام اتَّعَظَ به وانتصح، ورجع عن قتل ولده. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 591﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك لما سمع حكاية الوزير رجع عن قتل ولده، فلما كان في اليوم السادس دخلَتِ الجارية على الملك وفي يدها سكين مسلولة، وقالت: اعلم يا سيدي أنك لم تقبل شكايتي وترعَ حقك وحرمتك فيمَن تعدَّى عليَّ، وهم وزراؤك الذين يزعمون أن النساء صاحبات حِيَل ومُكْر وخديعة، ويقصدون بذلك ضياع حقي، وإهمال الملك النظرَ في حقي، وها أنا أحقِّق بين يديك أن الرجال أمكر من النساء بحكاية ابن ملك من الملوك، حيث خلا بزوجة تاجر. فقال لها الملك: وأي شيء جرى له معها؟

 

فقالت: بلغني أيها الملك السعيد أنه كان تاجر من التجار غيورًا، وكان عنده زوجة ذات حُسْن وجمال، فمن كثرة خوفه وغيرته عليها لم يسكن بها في المدائن، وإنما عمل لها خارج المدينة قصرًا منفردًا وحده عن البنيان، وقد أعلى بنيانه وشيَّد أركانه وحصَّنَ أبوابه وأحكم أقفاله، فإذا أراد الذهاب إلى المدينة قفل الأبواب، وأخذ مفاتيحها معه وعلَّقها في رقبته، فبينما هو يومًا من الأيام في المدينة إذ خرج ابن ملكِ تلك المدينة يتنزه خارجها ويتفرج على الفضاء، فنظر ذلك الخلاء وصار يتأمل فيه زمانًا طويلًا، فلاح لعينه ذلك القصر، فنظر فيه جارية عظيمة تطل من بعض طيقان القصر، فلما نظرها صار متحيرًا في حسنها وجمالها، ويريد الوصول إليها فلم يمكنه ذلك، فدعا بغلام من غلمانه فأتاه بدواة وورقة، وكتب فيها شرح حاله من المحبة، وجعلها في سنان نشابة، ثم رمى النشابة داخل القصر، فنزلت عليها وهي تمشي في بستان، فقالت لجارية من جواريها: أسرعي إلى هذه الورقة وناولينيها. وكانت تقرأ الخط، فلما قرأتها وعرفت ما ذكر لها من الذي أصابه من المحبة والشوق والغرام، كتبت له جواب ورقته، وذكرت له أنه قد وقع عندها من المحبة أكثر مما عنده. ثم طلت له من طاقة القصر فرأته، فألقت إليه الجواب واشتدَّ بها الشوق، فلما نظر إليها جاء تحت القصر وقال لها: ارمي من عندك خيطًا لأربط فيه هذا المفتاح حتى تأخذيه عندك. فرمت له خيطًا، وربط فيه المفتاح، ثم انصرف إلى وزرائه، فشكا إليهم محبة تلك الجارية، وأنه قد عجز عن الصبر عنها، فقال له بعضهم: وما التدبير الذي تأمرني به؟ فقال له ابن الملك: أريد منك أن تجعلني في صندوق وتودعه عند هذا التاجر في قصره، وتجعل أن ذلك الصندوق لك حتى أبلغ أربي من تلك الجارية مدة أيام، ثم تسترجع ذلك الصندوق، فقال له الوزير: حبًّا وكرامةً.

ثم إن ابن الملك لما توجه إلى منزله جعل نفسه داخل صندوقٍ كان عنده وأغلق الوزير عليه، وأتى به إلى قصر التاجر، فلما حضر التاجر بين يدي الوزير قبَّلَ يديه، ثم قال له التاجر: لعل لمولانا الوزير خدمة أو حاجة نفوز بقضائها. فقال له الوزير: أريد منك أن تجعل هذا الصندوق في أعز مكان عندك. فقال التاجر للحمَّالين: احملوه. ثم أدخله التاجر في القصر، ووضعه في خزانة عنده، ثم بعد ذلك خرج إلى بعض أشغاله، فقامت الجارية إلى الصندوق وفتحته بالمفتاح الذي معها، فخرج منه شاب مثل القمر، فلما رأته لبست أحسن ملبوسها، وذهبت به إلى قاعة الجلوس وقعدت معه في أكل وشرب مدة سبعة أيام، وكلما يحضر زوجها تجعله في الصندوق وتقفل عليه. فلما كان في بعض الأيام سأل الملك عن ولده، فخرج الوزير مُسرِعًا إلى منزل التاجر، وطلب منه الصندوق. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 592﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الوزير لما حضر إلى منزل التاجر لطلب الصندوق، جاء التاجر إلى قصره على خلاف العادة وهو مستعجل وطرق الباب، فحسَّتْ به الجارية، فأخذت ابن الملك وأدخلته في الصندوق وذهلت عن قفله، فلما وصل التاجر إلى المنزل هو والحمَّالون، حملوا الصندوق من غطائه فانفتح، فنظروا فيه فإذا فيه ابن الملك راقدًا، فلما رآه التاجر وعرفه خرج إلى الوزير وقال له: ادخل أنت وخذ ابن الملك، فلا يستطيع أحدٌ منَّا أن يمسكه. فدخل الوزير وأخذه، ثم انصرفوا جميعًا، فلما انصرفوا طلق التاجر الجارية وأقسم على نفسه ألَّا يتزوج أبدًا.

 

وبلغني أيضًا أيها الملك أن رجلًا من الظرفاء دخل السوق، فوجد غلامًا يُنادَى عليه للبيع، فاشتراه وجاء به إلى منزله، وقال لزوجته: استوصي به. فقام الغلام مدة من الزمان، فلما كان في بعض الأيام قال الرجل لزوجته: اخرجي غدًا إلى البستان وتفرجي وتنزهي وانشرحي. فقالت: حبًّا وكرامةً. فلما سمع الغلام ذلك عمد إلى طعام وجهَّزَه في تلك الليلة، وإلى شراب ونقل وفاكهة، ثم توجَّهَ إلى البستان وجعل ذلك الطعام تحت شجرة، وجعل ذلك الشراب تحت شجرة، والفواكه والنقل تحت شجرة في طريق زوجة سيده. فلما أصبح الصباح أمر الرجل الغلام أن يتوجه مع سيدته إلى ذلك البستان، وأمر بما يحتاجون إليه من المأكل والمشرب والفواكه، ثم طلعت الجارية وركبت فرسًا والغلام معها حتى وصلوا إلى ذلك البستان، فلما دخلوا أنعق غراب فقال له الغلام: صدقتَ. فقالت له سيدته: هل أنت عرفتَ ما يقول الغراب؟ فقال لها: نعم يا سيدتي. قالت له: فما يقول؟ قال لها: يا سيدتي، يقول إن تحت هذه الشجرة طعامًا تعالوا كلوه. فقالت له: أراك تعرف لغات الطير. فقال لها: نعم. فتقدَّمَتِ الجارية إلى تلك الشجرة فوجدَتْ طعامًا مجهَّزًا، فلما أكلوه تعجبت منه غاية العجب، واعتقدت أنه يعرف لغات الطير.

فلما أكلوا ذلك الطعام تفرجوا في البستان، فنعق الغراب، فقال له الغلام: صدقتَ. فقالت له سيدته: أي شيء يقول؟ قال: يا سيدتي، يقول إن تحت الشجرة الفلانية كوز ماء ممسك وخمرًا عتيقًا. فذهبت هي وإياه فوجدَا ذلك، فتزايد عجبها وعظم الغلام عندها، فقعدت مع الغلام يشربان. فلما شربا مشيا في ناحية البستان، فنعق الغراب فقال له الغلام: صدقتَ. فقالت له سيدته: أي شيء يقول هذا الغراب؟ قال: يقول إن تحت الشجرة الفلانية فواكه ونقلًا. فذهبا إلى تلك الشجرة فوجدَا ذلك، فأكلا من تلك الفواكه والنقل، ثم مشيا في البستان فنعق الغراب، فأخذ الغلام حجرًا ورماه به، فقالت: ما لك تضربه؟ وما الذي قاله؟ قال: يا سيدتي، إنه يقول كلامًا ما أقدر أن أقوله لكِ. قالت: قل ولا تستحِ مني، أنا ما بيني وبينك شيء. فصار يقول: لا. وهي تقول: قُلْ. ثم أقسمت عليه فقال لها: إنه يقول لي: افعل بسيدتك مثل ما يفعل بها زوجها. فلما سمعت كلامه ضحكَتْ حتى استلقت على قفاها، ثم قالت له: حاجة هينة لا أقدر أن أخالفك فيها. ثم توجَّهَتْ نحو شجرة من الأشجار، وفرشت تحتها الفرش، ونادته ليقضي لها حاجتها، وإذا بسيده خلفه ينظر إليه، فناداه وقال له: يا غلام، ما لسيدتك راقدة هنا تبكي؟ فقال: يا سيدي، وقعت من فوق شجرة فماتَتْ، وما ردها عليك إلا الله سبحانه وتعالى، فرقدَتْ ها هنا ساعة لتستريح. فلما رأت الجارية زوجها فوق رأسها قامت وهي متمرضة تتوجَّع وتقول: آه يا ظهري، يا جنبي، تعالوا إليَّ يا أحبابي ما بقيت أعيش. فصار زوجها مبهوتًا، ثم نادى الغلام وقال له: هات لسيدتك الفرس وركِّبها. فلما ركبت أخذ الزوج بركابها والغلام بركابها الثاني، ويقول لها: الله يعافيك ويشفيك. وهذا أيها الملك من جملة حِيَل الرجال ومكرهم، فلا يردك وزراؤك عن نصرتي والأخذ بحقي. ثم بكت، فلما رأى الملك بكاءَها، وهي عنده أعزُّ جواريه، أمر بقتل ولده. فدخل عليه الوزير السادس وقبَّل الأرض بين يديه، وقال له: أعزَّ الله تعالى الملك، إني ناصحك ومشيرٌ عليك بالتمهُّل في أمر ولدك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 593﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الوزير السادس قال له: أيها الملك تمهَّلْ في أمر ولدك، فإن الباطل كالدخان، والحق مشيد الأركان، ونور الحق يُذهِب ظلام الباطل، واعلم أن مُكْر النساء عظيم، وقد قال الله في كتابه العزيزإِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ، وقد بلغني حديث امرأة فعلت مع أرباب الدولة مكيدةً ما سبقها بمثلها أحدٌ قطُّ. فقال الملك: وكيف كان ذلك؟

 

قال الوزير: بلغني أيها الملك أن امرأةً من بنات التجار كان لها زوج كثير الأسفار، فسافَرَ زوجها إلى بلاد بعيدة وأطال الغيبة، فزاد عليها الحال، فعشقت غلامًا ظريفًا من أولاد التجار، وكانت تحبه ويحبها محبة عظيمة، ففي بعض الأيام تنازع الغلام مع رجل، فشكاه الرجل إلى والي تلك البلد فسجنه، فبلغ خبره زوجة التاجر معشوقته، فطار عقلها عليه، فقامت ولبست أفخر ملبوسها، ومضت إلى منزل الوالي فسلَّمَتْ عليه ودفعت له ورقة تذكر فيها أن الذي سجنته وحبسته هو أخي فلان الذي تنازع مع فلان، والجماعة الذين شهدوا عليه قد شهدوا باطلًا، وقد سُجِن في سجنك وهو مظلوم، وليس عندي مَن يدخل عليَّ ويقوم بحالي غيره، وأسأل من فضل مولانا إطلاقه من السجن. فلما قرأ الوالي الورقة، نظر إليها فعشقها وقال لها: ادخلي المنزل حتى أحضره بين يدي، ثم أُرسِل إليك فتأخذينه. فقالت له: يا مولانا، ليس لي أحد إلا الله تعالى، وأنا امرأة غريبة لا أقدر على دخول منزل أحدٍ. فقال لها الوالي: لا أطلِّقه لك حتى تدخلي المنزل وأقضي حاجتي منك. فقالت له: إن أردتَ ذلك، فلا بد أن تحضر عندي في منزلي وتقعد وتنام وتستريح نهارك كله. فقال لها: وأين منزلك؟ فقالت له: في الموضع الفلاني.

ثم خرجت من عنده، وقد اشتغل قلب الوالي. فلما خرجت دخلت على قاضي البلد وقالت له: يا سيدنا القاضي. قال لها: نعم. قالت له: انظر في أمري وأجرك على الله. فقال لها: مَن ظلمك؟ قالت له: يا سيدي، لي أخ وليس لي أحد غيره، وهو الذي كلَّفني الخروج إليك؛ لأن الوالي قد سجنه وشهدوا عليه بالباطل أنه ظالم، وإنما أطلب منك أن تشفع لي فيه عند الوالي. فلما نظرها القاضي عشقها فقال لها: ادخلي المنزل عند الجواري واستريحي معنا ساعة ونحن نرسل إلى الوالي بأن يطلق أخاك، ولو كنا نعرف الدراهم التي عليه كنا دفعناها من عندنا لأجل قضاء حاجتنا؛ لأنك أعجبتِنا من حسن كلامك. فقالت له: إذا كنتَ أنت يا مولانا تفعل ذلك فما نلوم الغير. فقال لها القاضي: إن لم تدخلي منزلنا فاخرجي إلى حال سبيلك. فقالت له: إن أردتَ ذلك يا مولانا، فيكون عندي في منزلي أستر وأحسن من منزلك، فإن فيه الجواري والخدم والداخل والخارج، وأنا امرأة ما أعرف شيئًا من هذا الأمر، لكن الضرورة تحوج. فقال لها القاضي: وأين منزلك؟ فقالت له: في الموضع الفلاني. وواعدته على اليوم الذي واعدَتْ فيه الوالي.

ثم خرجت من عند القاضي إلى منزل الوزير، فرفعت إليه قصتها وشكت إليه ضرورة أخيها، وأنه سجنه الوالي، فراودها الوزير عن نفسها، وقال لها: نقضي حاجةً منك ونُطلِق لك أخاك. فقالت له: إن أردتَ ذلك فيكون عندي في منزلي، فإنه أستر لي ولك؛ لأن المنزل ليس بعيدًا، وأنت تعرف ما نحتاج إليه من النظافة والظرافة. فقال لها الوزير: وأين منزلك؟ فقالت له: في الموضع الفلاني. وواعدته على ذلك اليوم.

ثم خرجت من عنده إلى ملك تلك المدينة، ورفعت إليه قصتها وسألته إطلاق أخيها، فقال لها: مَن حبسه؟ قالت له: حبسه الوالي. فلما سمع الملك كلامها رشقته بسهام العشق في قلبه، فأمرها أن تدخل معه القصر حتى يرسل إلى الوالي ويخلِّص أخاها. فقالت له: أيها الملك، هذا أمر يسهل عليك، إما باختياري وإما قهرًا عني، فإن كان الملك أراد ذلك مني فإنه من سعد حظي، ولكن إذا جاء إلى منزلي يشرِّفني بنقل خطواته الكرام، كما قال الشاعر:

خَلِيلَيَّ هَلْ أَبْصَرْتُمَا أَوْ سَمِعْتُمَا        زِيَارَةَ مَنْ جَلَّتْ مَكَارِمُهُ عِنْدِي

فقال لها الملك: لا نخالف لك أمرًا. فواعدته باليوم الذي واعدَتْ فيه غيرَه وعرفته منزلها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 594﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن المرأة لما أجابت الملك عرَّفته منزلها وواعدته على ذلك اليوم الذي واعدَتْ فيه الوالي والقاضي والوزير، ثم خرجت من عنده فجاءت إلى رجل نجار، وقالت له: أريد منك أن تصنع لي خزانة بأربع طبقات بعضها فوق بعض، كل طبقة بباب يُقفَل عليها، وأخبرني بقدر أجرتك فأعطيكه. فقال لها: أربعة دنانير، وإنْ أنعمتِ عليَّ أيتها السيدة المصونة بالوصال فهو الذي أريد، ولا آخذ منك شيئًا. فقالت له: إن كان لا بد من ذلك فاعمل لي خمس طبقات بأقفالها. فقال لها: حبًّا وكرامةً. وواعدته أن يحضر لها الخزانة في ذلك اليوم بعينه، فقال لها النجار: يا سيدتي، اقعدي حتى تأخذي حاجتك في هذه الساعة، وأنا بعد ذلك أجيء على مهلي. فقعدت عنده حتى عمل لها الخزانة بخمس طبقات، وانصرفت إلى منزلها فوضعتها في المحل الذي فيه الجلوس. ثم إنها أخذت أربعة ثياب وحملتها إلى الصباغ، فصبغ كل ثوب لونًا، وكل لون خلاف الآخر، وأقبلت على تجهيز المأكول والمشروب والمشموم والفواكه والطيب، فلما جاء يوم الميعاد لبست أفخر ملبوسها، وتزينت وتطيبت، ثم فرشت المجلس بأنواع البسط الفاخرة، وقعدت تنتظر مَن يأتي، وإذا بالقاضي دخل عليها قبل الجماعة، فلما رأته قامت واقفة على قدميها وقبَّلَتِ الأرض بين يديه، وأخذته وأجلسته على ذلك الفرش، ونامت معه ولاعبَتْه، فأراد منها قضاء الحاجة فقالت له: يا سيدي، اخلع ثيابك وعمامتك، والبس هذه الغلالة الصفراء، واجعل هذا القناع على رأسك حتى نحضر بالمأكول والمشروب، وبعد ذلك تقضي حاجتك. فأخذت ثيابه وعمامته ولبس الغلالة والقناع، وإذا بطارق يطرق الباب، فقال لها القاضي: مَن هذا الذي يطرق الباب؟ فقالت له: هذا زوجي. فقال لها: وكيف العمل؟ وأين أروح أنا؟ فقالت له: لا تَخَفْ فإني أدخلك هذه الخزانة. فقال لها: افعلي ما بَدَا لكِ. فأخذته من يده وأدخلته في الطبقة السفلى وقفلت عليه.

ثم إنها خرجت إلى الباب وفتحته، وإذا هو الوالي، فلما رأته قبَّلَتِ الأرض بين يديه وأخذته بيدها وأجلسته على ذلك الفراش، وقالت له: يا سيدي، إن الموضع موضعك والمحل محلك، وأنا جاريتك، ومن بعض خدَّامك، وأنت تقيم هذا النهار كله عندي، فاخلع ما عليك من الملبوس، والبس هذا الثوب الأحمر فإنه ثوب النوم. وقد جعلتْ على رأسه خلفًا من خرقة كانت عندها، فلما أخذت ثيابه أتت إليه في الفراش ولاعبته ولاعبها، فلما مدَّ يده إليها قالت له: يا مولانا، هذا النهار نهارك، وما أحد يشاركك فيه، لكن من فضلك وإحسانك تكتب لي ورقةً بإطلاق أخي من السجن حتى يطمئن خاطري. فقال لها: السمع والطاعة على الرأس والعين. وكتب كتابًا إلى خازنداره يقول له فيها: ساعة وصول هذه المكاتبة إليك تطلق فلانًا من غير إمهال ولا إهمالٍ، ولا تراجُعْ حاملها بكلمة. ثم ختمها وأخذتها منه، ثم أقبلت تلاعبه على الفراش، وإذا بطارق يطرق الباب، فقال لها: مَن هذا؟ قالت: زوجي. قال: وكيف أعمل؟ فقالت له: ادخل هذه الخزانة حتى أصرفه وأعود إليك. فأخذته وأدخلته في الطبقة الثانية وقفلت عليه، كل هذا والقاضي يسمع كلامها.

ثم خرجت إلى الباب وفتحته، وإذا هو الوزير قد أقبل، فلما رأته قبَّلَتِ الأرض بين يديه وتلقته وخدمته، وقالت له: يا سيدي، لقد شرفتنا بقدومك في منزلنا يا مولانا، فلا أعدمنا الله هذه الطلعة. ثم أجلسته على الفراش وقالت له: اخلع ثيابك وعمامتك والبس هذه التخفيفة. فخلع ما كان عليه وألبسته غلالة زرقاء، وطرطورًا أحمر وقالت له: يا مولانا، أما هذه ثياب الوزارة فخلها لوقتها، وأما في هذه الساعة فهذه ثياب المنادمة والبسط والنوم. فلما لبسها الوزير لاعبته على الفراش ولاعبها، وهو يريد قضاء الحاجة وهي تمنعه، وتقول له: يا سيدي هذا ما يفوتنا. فبينما هم في الكلام وإذا بطارق يطرق الباب، فقال لها: مَن هذا؟ فقالت له: زوجي. فقال لها: كيف التدبير؟ فقالت له: قم وادخل هذه الخزانة حتى أصرف زوجي وأعود إليك ولا تَخَفْ. ثم إنها أدخلته الطبقة الثالثة، وقفلت عليه، وخرجت ففتحت الباب، وإذا هو الملك قد دخل، فلما رأته قبَّلَتِ الأرض بين يديه، وأخذت بيده، وأدخلته في صدر المكان، وأجلسته على الفراش، وقالت: شرفتنا أيها الملك، ولو قدمنا لك الدنيا وما فيها ما تساوي خطوة من خطواتك إلينا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 595﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك لما دخل دار المرأة قالت له: لو أهدينا لك الدنيا وما فيها ما تساوي خطوة من خطواتك إلينا. فلما جلس على الفراش قالت له: أعطني إذنًا حتى أكلمك كلمة واحدة. فقال لها: تكلمي مهما شئتِ. فقالت له: استرِحْ يا سيدي، واخلع ثيابك وعمامتك. وكانت ثيابه في ذلك الوقت تساوي ألف دينار، فلما خلعها ألبسته ثوبًا خلقًا قيمته عشرة دراهم بلا زيادة، وأقبلت تؤانسه وتلاعبه، هذا كله والجماعة الذين في الخزانة يسمعون ما يحصل منهما، ولا يقدر أحد أن يتكلم، فلما مدَّ الملك يده إلى عنقها، وأراد أن يقضي حاجته منها قالت له: هذا الأمر لا يفوتنا، وقد كنت قبل الآن وعدت خدمتك بهذا المجلس فلك عندي ما يسرك. فبينما هما يتحدثان وإذا بطارق يطرق الباب، فقال لها: مَن هذا؟ قالت له: زوجي. فقال لها: اصرفيه عنا كرمًا منه وإلا أطلع إليه أصرفه قهرًا. فقالت له: لا يكون ذلك يا مولانا، بل اصبر حتى أصرفه بحسن معرفتي. فقال لها: وكيف أفعل أنا؟ فأخذته من يده وأدخلته في الطبقة الرابعة وقفلت عليه.

ثم خرجت إلى الباب ففتحته، وإذا هو النجار، فلما دخل وسلَّمَ عليها قالت له: أي شيء هذه الخزائن التي عملتها؟ فقال لها: ما لها يا سيدتي؟ فقالت له: إن هذه الطبقة ضيقة. فقال لها: يا سيدتي، هذه واسعة. فقالت له: ادخل وانظرها فإنها لا تسعك. فقال لها: هذه تسع أربعة. ثم دخل النجار، فلما دخل قفلت عليه الطبقة الخامسة.

ثم إنها قامت وأخذت ورقة الوالي ومضت بها إلى الخازندار، فلما أخذها وقرأها قَبِلها وأطلق لها الرجل عشيقها من الحبس، فأخبرته بما فعلته، فقال لها: وكيف نفعل؟ قالت له: نخرج من هذه المدينة إلى مدينة أخرى، وليس لنا بعد هذا الفعل إقامة هنا. ثم جهَّزَا ما كان عندهما وحملاه على الجِمَال، وسافرَا من ساعتهما إلى مدينة أخرى.

وأما القوم فإنهم أقاموا في طبقات الخزانة ثلاثة أيام بلا أكل، فانحصروا؛ لأن لهم ثلاثة أيام لم يبولوا، فبال النجار على رأس السلطان، وبال السلطان على رأس الوزير، وبال الوزير على رأس الوالي، وبال الوالي على رأس القاضي، فصاح القاضي وقال: أي شيء هذه النجاسة؟ أَمَا يكفينا ما نحن فيه حتى تبولوا علينا؟ فرفع الوالي صوته وقال: عظَّمَ الله أجرك أيها القاضي. فلما سمعه عرفه أنه الوالي. ثم إن الوالي رفع صوته وقال: ما بال هذه النجاسة؟ فرفع الوزير صوته وقال: عظَّمَ الله أجرك أيها الوالي. فلما سمعه الوالي عرف أنه الوزير، ثم إن الوزير رفع صوته وقال:

ما بال هذه النجاسة؟ فرفع الملك صوته وقال: عظَّمَ الله أجرك أيها الوزير. ثم إن الملك لما سمع كلام الوزير عرفه، ثم سكت وكتم أمره، ثم إن الوزير قال: لعن الله هذه المرأة بما فعلت معنا، أحضرت جميع أرباب الدولة عندها ما عدا الملك. فلما سمعهم الملك قال لهم: اسكتوا فأنا أول مَن وقع في شبكة هذه العاهرة الفاجرة. فلما سمع النجار قولهم قال لهم: وأنا أي شيء ذنبي؟ قد عملت لها خزانة بأربعة دنانير ذهبًا، وجئت أطلب الأجرة فاحتالت عليَّ وأدخلتني هذه الطبقة وقفلتها عليَّ.

ثم إنهم صاروا يتحدثون مع بعضهم، وسلوا الملك بالحديث، وأزالوا ما عنده من الانقباض، فجاء جيران ذلك المنزل فرأوه خاليًا، فقال بعضهم لبعض: بالأمس كانت جارتنا زوجة فلان فيه، والآن لم نسمع في هذا الموضع صوت أحد ولا نرى فيه أنيسًا، فاكسروا هذه الأبواب وانظروا حقيقة الأمر لئلا يسمع الوالي أو الملك فيسجننا فنكون نادمين على أمرٍ لم نفعله قبل ذلك. ثم إن الجيران كسروا الأبواب ودخلوا فرأوا خزانة من خشب، ووجدوا فيها رجالًا تئنُّ من الجوع والعطش، فقالوا لبعضهم: هل جنيٌّ في هذه الخزانة؟ فقال واحد منهم: نجمع لها حطبًا ونحرقها بالنار. فصاح عليهم القاضي وقال: لا تفعلوا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 596﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجيران لما أرادوا أن يحملوا الحطب ويحرقوا الخزانة صاح عليهم القاضي وقال: لا تفعلوا ذلك. فقال الجيران لبعضهم: إن الجن يتصورون ويتكلمون بكلام الإنس. فلما سمعهم القاضي قرأ شيئًا من القرآن العظيم، ثم قال للجيران: ادنوا من الخزانة التي نحن فيها. فلما دنوا منها قال لهم: أنا فلان وأنتم فلان وفلان، ونحن هنا جماعة. فقال الجيران للقاضي: ومَن جاء بك هنا فأَعْلِمنا الخبر؟ فأعلمهم بالخبر من أوله إلى آخره، فأحضروا لهم نجَّارًا ففتح للقاضي خزانته، وكذلك الوالي والوزير والملك والنجار، وكلٌّ منهم بالملبوس الذي عليه، فلما طلعوا نظر بعضهم لبعض وصار كلٌّ منهم يضحك على الآخر، ثم إنهم خرجوا وطلبوا المرأة فلم يقفوا لها على خبر، وقد أخذت جميع ما كان عليهم، فأرسل كلٌّ منهم إلى جماعته يطلب ثيابًا، فأحضروا لهم ملبوسًا، ثم خرجوا مستورين به عند الناس. فانظر يا مولانا الملك هذه المكيدة التي فعلتها هذه المرأة مع هؤلاء القوم.

 

وقد بلغني أيضًا أنه كان رجل يتمنَّى في عمره أن يرى ليلة القدر، فنظر ليلة من الليالي إلى السماء، فرأى الملائكة وأبواب السماء قد فُتِحت، ورأى كل شيء ساجدًا في محله، فلما رأى ذلك قال لزوجته: يا فلانة، إن الله قد أراني ليلة القدر، ونذرتُ إن رأيتُها أن أدعو ثلاث دعوات مستجابات، فأنا أشاورك فماذا أقول؟ فقالت المرأة: قل اللهم كبِّر لي أيري. فقال ذلك فصار ذَكَره مثل ضرف القرع، حتى صار ذلك الرجل لا يستطيع القيام به، وكانت زوجته إذا أراد أن يجامعها تهرب منه من موضع إلى موضع، فقال لها الرجل: كيف العمل؟ فهذه أمنيتكِ لأجل شهوتكِ؟ فقالت له: أنا ما أشتهي أن يبقى بهذا الطول. فرفع الرجل رأسه إلى السماء وقال: اللهم أنقذني من هذا الأمر وخلِّصني منه، فصار الرجل ممسوحًا ليس له ذَكَر، فلما رأته زوجته قالت له: ليس لي بك حاجة حيث صرت بلا ذَكَر. فقال لها: هذا كله من شؤم رأيك وسوء تدبيرك، كان لي عند الله ثلاث دعوات أنال بها خيري الدنيا والآخرة، فذهبت دعوتان وبقيت دعوة واحدة. فقالت: ادع الله تعالى أن يردَّكَ على ما كنتَ عليه أولًا. فدعا ربه فعاد كما كان. فهذا أيها الملك بسبب سوء تدبير المرأة، وإنما ذكرتُ لك ذلك لتتحقق غفلة النساء، وسخافة عقولهن، وسوء تدبيرهن، فلا تسمع قولها وتقتل ولدك مهجة قلبك، وتمحو ذِكْرك من بعدك. فانتهى الملك عن قتل ولده. فلما كان اليوم السابع، حضرت الجارية صارخة بين يدي الملك وأضرمت نارًا عظيمة، فأتوا بها قدام الملك ماسكين بأطرافها، فقال لها الملك: لماذا فعلتِ ذلك؟ قالت له: إن لم تنصفني من ولدك ألقيت نفسي في هذه النار، فقد كرهت الحياة، وقبل حضوري كتبت وصيتي وتصدَّقْتُ بمالي، وعزمت على الموت، فتندَّمْ كلَّ الندم كما ندم الملك على عذاب حارسة الحمام. فقال لها الملك: وكيف كان ذلك؟

 

فقالت له الجارية: بلغني أيها الملك أن امرأة كانت عابدة زاهدة ناسكة، وكانت تدخل قصر ملك من الملوك يتبركون بها، وكان لها عندهم حظ عظيم، فدخلت يومًا من الأيام ذلك القصر على جري عادتها، وجلست بجانب زوجة الملك فناولتها عقدًا قيمته ألف دينار، وقالت لها: يا جارية، خذي هذا العقد عندك، واحرسيه حتى أخرج من الحمام فآخذه منك. وكان الحمام في القصر، فأخذته الجارية وجلست في موضع في منزل الملكة حتى تدخل الحمام الذي عندها في المنزل وتخرج، ثم وضعت ذلك العقد تحت السجادة وقامت تصلي، فجاء طير وأخذ ذلك العقد وجعله في شق من زوايا القصر، وقد خرجت الحارسة لحاجةٍ تقضيها وترجع ولم تعلم بذلك، فلما خرجت زوجة الملك من الحمام طلبت العقد من تلك الحارسة فلم تجده، وجعلت تفتش عليه فلم تجد له خبرًا ولم تقع له على أثر، فصارت الحارسة تقول: والله يا بنتي ما جاءني أحد، وحين أخذتُه وضعتُه تحت السجادة، ولم أعلم هل أحد من الخدم عاينه واستغفلني وأنا في الصلاة وأخذه؟ والعلم في ذلك لله تعالى. فلما سمع الملك بذلك أمر زوجته أن تعذِّب الحارسة بالنار والضرب الشديد. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 597﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك لما أمر زوجته أن تعذب الحارسة بالنار والضرب الشديد، عذَّبتها بأنواع العذاب، فلم تقرَّ بشيء، ولم تتهم أحدًا، فبعد ذلك أمر بسجنها وأن يجعلوها في القيود فحُبِست، ثم إن الملك جلس يومًا من الأيام في وسط القصر والماء محدِّق به وزوجته بجانبه، فوقعت عينه على طير وهو يسحب ذلك العقد من شق من زوايا القصر، فصاح على جارية عنده فأدركت ذلك الطير وأخذت العقد منه، فعلم الملك أن الحارسة مظلومة، فندم على ما فعل معها، وأمر بإحضارها، فلما حضرت أخذ يقبِّل رأسها، ثم صار يبكي ويستغفر ويتندَّم على ما فعل معها، ثم أمر لها بمالٍ جزيلٍ، فأَبَتْ أن تأخذه، ثم سامحته وانصرفت من عنده، وأقسمت على نفسها أنها لن تدخل منزل أحد، وساحت في الجبال والأودية، وصارت تعبد الله تعالى إلى أن ماتَتْ.

 

وبلغني أيضًا أيها الملك من كيد الرجال أن حمامتين ذكرًا وأنثى جمعا قمحًا وشعيرًا في عشهما أيام الشتاء، فلما كان في زمن الصيف ضمر الحب ونقص، فقال الذكر للأنثى: أنتِ أكلتِ ذلك الحب. فصارت تقول: لا والله ما أكلت منه شيئًا. فلم يصدقها على ذلك وضربها بأجنحته ونقرها بمنقاره إلى أن قتلها. فلما كان زمن البرد عاد الحب كما كان على حاله، فعلم الذكر أنه قتل زوجته ظلمًا وعدوانًا، وندم حيث لا ينفعه الندم، فنام في جانبها ينوح عليها ويبكي تأسُّفًا، وامتنع من الأكل والشرب وضعف ولم يزل ضعيفًا إلى أن مات.

 

وبلغني أيضًا من كيد الرجال والنساء حكاية أعجب من هؤلاء كلهم. فقال لها الملك: هاتِ ما معك. فقالت: اعلم أيها الملك أن جارية من جواري الملك ليس لها نظير في زمانها في الحُسْن والجمال، والقَدِّ والاعتدال، والبهاء والدلال، والأخذ بعقول الرجال، وكانت تقول: ليس لي نظير في زماني. وكان جميع أولاد الملوك يخطبونها فلم ترضَ أن تأخذ واحدًا منهم، وكان اسمها الدتما. وكانت تقول: لا يتزوجني إلا مَن يقهرني في حومة الميدان والضرب والطعان، فإن غلبني أحد تزوَّجْتُه بطيب قلبي، وإن غلبتُه أخذت فرسه وسلاحه وثيابه، وكتبت على جبهته: هذا عتيق فلانة. وكان أبناء الملوك يأتون إليها من كل مكان بعيد وقريب، وهي تغلبهم وتعيبهم، وتأخذ أسلحتهم وتسمهم بالنار؛ فسمع بها ابن ملك من ملوك العجم يقال له بهرام، فقصدها من مسافة بعيدة، واستصحب معه مالًا وخيلًا ورجالًا، وذخائرَ من ذخائر الملوك حتى وصل إليها، فلما حضر عندها أرسل إلى والدها هدية سنية، فأقبل عليه الملك وأكرمه غاية الإكرام. ثم إنه أرسل إليه مع وزرائه أنه يريد أن يخطب بنته، فأرسل إليه والدها وقال له: يا ولدي، أما ابنتي الدتما فليس لي عليها حكم؛ لأنها أقسمَتْ على نفسها أنها لا تتزوج إلا مَن يقهرها في حومة الميدان. فقال له ابن الملك: وأنا ما سافرت من مدينتي إلا على هذا الشرط. فقال له الملك: في غدٍ تلتقي معها.

فلما جاء الغد أرسل والدها إليها واستأذنها، فلما سمعت تأهَّبَتْ للحرب ولبست آلة حربها، وخرجت إلى الميدان فخرج ابن الملك إلى لقائها وعزم على حربها، فتسامعت الناس بذلك، فأتت من كل مكان، فحضروا في ذلك اليوم، وخرجت الدتما وقد لبست وتمنطقت وتنقبت، فبرز لها ابن الملك وهو في أحسن حالةٍ وأتقن آلةٍ من آلات الحرب، وأكمل عدة، فحمل كلُّ واحد منهما على الآخر، ثم تجاولا طويلًا واعتركا مليًّا، فنظرت منه من الشجاعة والفروسية ما لم تنظره من غيره، فخافت على نفسها أن يخجلها بين الحاضرين، وعلمت أنه لا محالةَ غالبها، فأرادت مكيدته وعملت له الحيلة، فكشفت عن وجهها، وإذا هو ضوء من البدر؛ فلما نظر إليها ابن الملك اندهش فيه وضعفت قوته وبطلت عزيمته، فلما نظرت ذلك منه حملت عليه واقتلعته من سرجه، وصار في يدها مثل العصفور في مخلب العقاب، وهو ذاهل في صورتها لا يدري ما يُفعَل به، فأخذت جواده وسلاحه وثيابه، ووسمته بالنار، وأطلقت سبيله. فلما أفاق من غشيته مكث أيامًا لا يأكل ولا يشرب ولا ينام من القهر، وتمكَّنَ حب الجارية في قلبه، فصرف عبيده إلى والده، وكتب له كتابًا أنه لا يقدر أن يرجع إلى بلده حتى يظفر بحاجته أو يموت دونها. فلما وصلت المكاتبة إلى والده حزن عليه، وأراد أن يبعث إليه بالجيوش والعساكر، فمنعه الوزراء من ذلك وصبَّروه.

ثم إن ابن الملك استعمل في حصول غرضه الحيلة، فجعل نفسه شيخًا هَرِمًا، وقصد بستان بنت الملك؛ لأنها كانت أكثرَ أيامها تدخل فيه، فاجتمع ابن الملك بالخولي وقال له: إنني رجل غريب من بلاد بعيدة، وكنت مدة شبابي خولي وإلى الآن أُحسِنُ الفلاحة وحفظ النبات والمشموم ولا يُحسِنه أحد غيري. فلما سمعه الخولي فرح به غاية الفرح، فأدخله البستان ووصى عليه جماعة، فأخذ في الخدمة وتربية الأشجار، والنظر في مصالح أثمارها، فبينما هو كذلك يومًا من الأيام وإذا بالعبيد قد دخلوا البستان ومعهم البغال عليها الفرش والأواني، فسأل عن ذلك فقالوا له: إن بنت الملك تريد أن تتفرج على ذلك البستان. فمضى وأخذ الحلي والحلل التي كانت معه من بلاده وجاء بها إلى البستان، وقعد فيه، ووضع قدامه شيئًا من تلك الذخائر، وصار يرتعش ويُظهِر أن ذلك من الهِرَم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 598﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن ابن ملك العجم لما جعل نفسه شيخًا كبيرًا وقعد في البستان، حط بين يديه الحلي والحلل، وأظهر أنه يرتعش من الكبر والهِرَم والضَّعْف، فلما كان بعد ساعة حضر الجواري والخدم ومعهن ابنة الملك في وسطهن كأنها القمر بين النجوم، فأقبلن وجعلن يدرن في البستان، ويقطفن الأثمار ويتفرجن، فرأين رجلًا قاعدًا تحت شجرة من الأشجار، فقصدنه وهو ابن الملك، ونظرْنَه وإذا به شيخ كبير يرتعش بيديه ورجليه، وبين يديه حلي وذخائر من ذخائر الملوك، فلما نظرنه تعجبن من أمره، فسألنه عن هذا الحلي ما يصنع به، فقال لهن: هذا الحلي أريد أن أتزوج به واحدة منكن. فتضاحكن عليه وقلن له: إذا تزوجتَ فما تصنع بها؟ فقال: كنت أقبلها قبلة واحدة وأطلقها. فقالت له ابنة الملك: قد زوَّجْتُك بهذه الجارية. فقام إليها وهو يتوكأ على عصًا ويرتعش ويتعثر، فقبَّلَها ودفع لها ذلك الحلي والحلل، ففرحت الجارية وتضاحكن عليه، ثم ذهبن إلى منازلهن.

فلما كان في اليوم الثاني دخلن البستان وجئن نحوه، فوجدنه جالسًا في موضعه وبين يديه حلي وحلل أكثر من الأول، فقعدن عنده وقلن له: أيها الشيخ ما تصنع بهذا الحلي؟ فقال: أتزوج به واحدة منكن مثل البارحة. فقالت له ابنة الملك: قد زوَّجْتُك هذه الجارية. فقام إليها وقبَّلَها وأعطاها ذلك الحلي والحلل وذهبن إلى منزلهن، فلما رأت ابنة الملك الذي أعطاه للجواري من الحلي والحلل، قالت في نفسها: أنا كنت أحق بذلك، وما عليَّ بذلك من بأس. فلما أصبح الصباح خرجت من منزلها وحدها وهي في صورة جارية من الجواري، وأخفت نفسها إلى أن أتت عند الشيخ، فلما حضرت بين يديه قالت له: يا شيخ، أنا ابنة الملك هل تريد أن تتزوَّج بي؟ فقال لها: حبًّا وكرامةً. وأخرج لها من الحلي والحلل ما هو أعلى قدرًا وأغلى ثمنًا، ثم دفعه إليها وقام ليقبِّلها وهي آمنة مطمئنة، فلما وصل إليها قبض عليها بشدة وضرب بها الأرض وأزال بكارتها، وقال لها: أَمَا تعرفينني؟ فقالت له: مَن أنت؟ فقال لها: أنا بهرام ابن ملك العجم، قد غيَّرْتُ صورتي وتغرَّبْتُ عن أهلي ومملكتي من أجلك. فقامت من تحته وهي ساكتة لا تردُّ عليه جوابًا، ولا تبدي له خطابًا مما أصابها، وقالت في نفسها: إنْ قتلته فما يفيد قتله. ثم تفكَّرَتْ في نفسها وقالت: ما يسعني في ذلك إلا أن أهرب معه إلى بلاده. فجمعت مالها وذخائرها وأرسلت إليه وأعلمته بذلك لأجل أن يتجهَّز أيضًا ويجمع ماله، وتعاهدا على ليلة يسافران فيها، ثم ركبا الخيل الجياد وسارا تحت الليل، فما أصبح الصباح حتى قطعا بلادًا بعيدة، ولم يزالا سائرين حتى وصلا إلى بلاد العجم، قرب مدينة أبيه، فلما سمع والده تلقاه بالعساكر والجنود، وفرح غاية الفرح، ثم بعد أيام قلائل أرسل إلى والد الدتما هدية سنية، وكتب له كتابًا يخبره فيه أن ابنته عنده ويطلب جهازها، فلما وصلت الهدايا إليه تلقاها وأكرم من حضر بها غاية الإكرام، وفرح بذلك فرحًا شديدًا، ثم أولم الولائم، وأحضر القاضي والشهود، وكتب كتابها على ابن الملك، وخلع على الرسل الذين حضروا بالكتاب من عند ابن ملك العجم، وأرسل إلى ابنته جهازها، ثم أقام معها ابن ملك العجم حتى فرَّقَ الموت بينهما.

فانظر أيها الملك كيدَ الرجال والنساء، وأنا لن أرجع عن حقي إلى أن أموت. فأمر الملك بقتل ولده، فدخل عليه الوزير السابع، فلما حضر بين يديه قبَّلَ الأرض وقال: أيها الملك، أملهني حتى أقول لك هذه النصيحة، فإن مَن صبر وتأنَّى أدرك الأمل ونال ما تمنَّى، ومَن استعجل يحصل له الندم، وقد رأيتَ ما تعهرته هذه الجارية من حمل الملك على ركوب الأهوال، والمملوك المغمور من فضلك وإنعامك ناصح لك، وأنا أيها الملك أعرف من كيد النساء ما لا يعرفه أحد غيري، وقد بلغني من ذلك حديث العجوز وولد التاجر. فقال له الملك: وكيف كان ذلك يا وزير؟

 

فقال له الوزير: بلغني أيها الملك أن تاجرًا كان كثير المال، وكان له ولد يعزُّ عليه، فقال الولد لوالده يومًا من الأيام: يا والدي، أتمنى عليك أمنية تفرج عني بها. فقال له أبوه: وما هي يا ولدي حتى أعطيكها؟ ولو كانت نور عيني لأبلغك به مقصودك. فقال له الولد: أتمنى عليك أن تعطيني شيئًا من المال أسافر به مع التجار إلى بلاد بغداد لأتفرج عليها، وأنظر قصور الخلفاء؛ لأن أولاد التجار وصفوا لي ذلك، وقد اشتقت أن أنظر إليها. فقال له والده: يا بني، مَن له صبر على غيبتك؟ فقال له الولد: أنا قلت لك هذه الكلمة، ولا بد من السير إليها برضاء أو بغير رضاء، فقد وقع في نفسي وَجْد لا يزول إلا بالوصول إليها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 599﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن ابن الملك قال لأبيه: لا بد من السفر والوصول إلى بغداد. فلما تحقَّقَ منه ذلك جهَّزَ له متجرًا بثلاثين ألف دينار، وسفَّرَه مع التجار الذين يثق بهم، ووصَّى عليه التجار. ثم إن والده ودَّعه ورجع إلى منزله، وما زال الولد مسافرًا مع رفقائه التجار إلى أن وصلوا إلى مدينة بغداد دار السلام، فلما بلغوها دخل الولد سوقها واكترى له دارًا حسنة مليحة أذهلت عقله، وأدهشت ناظره، فيها الطيور تغرد، والمجالس يقابل بعضها بعضًا، وأرضها مرخمة بالرخام الملون، وسقوفها مذهَّبة باللازورد المعدني، فسأل البواب عن مقدار أجرتها كم في الشهر؟ فقال له: عشرة دنانير. فقال له الولد: هل أنت تقول حقًّا أو تهزأ بي؟ فقال له البواب: والله لا أقول إلا حقًّا، فإن كل مَن سكن هذه الدار لا يسكنها إلا جمعة أو جمعتين. فقال له الولد: وما السبب في ذلك؟ فقال له: يا ولدي، كلُّ مَن سكنها لا يخرج منها إلى مريضًا أو ميتًا، وقد اشتهرت هذه الدار بهذه الأشياء عند جميع الناس، فلم يقدم أحد على سكناها، وقد قلَّتْ أجرتها لهذا القدر.

فلما سمع الولد ذلك تعجَّبَ منه غاية العجب وقال: لا بد أن يكون لهذه الدار سببٌ من الأسباب حتى يحصل فيها ذلك المرض أو الموت. ثم تفكَّرَ الولد في نفسه واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم، وأزال ذلك الوهم من خاطره، وسكنها وباع واشترى، ومضى عليه مدة أيام وهو مقيم في الدار ولم يُصِبْه شيء مما قاله ذلك البواب. فبينما هو جالس يومًا من الأيام على باب الدار، إذ مرت عليه عجوز شمطاء كأنها الحية الرقطاء، وهي تُكثِر من التسبيح والتقديس، وتزيل الحجارة والأذى من الطريق، فرأت الولد جالسًا على الباب، فنظرت إليه وتعجبت من أمره، فقال لها الولد: يا امرأة، هل تعرفينني أو تشبِّهين عليَّ؟ فلما سمعت كلامه هرولت إليه وسلَّمَتْ عليه، وقالت له: كم لك ساكنًا في هذه الدار؟ فقال لها: يا أمي مدة شهرين. فقالت: من هذا تعجَّبْتُ، وأنا يا ولدي لا أعرفك ولا تعرفني ولا شبَّهْتُ عليك، بل إني تعجبت من أنه لا أحد غيرك يسكنها إلا ويخرج منها ميتًا أو مريضًا، وما أشك في أنك يا ولدي مُخاطِرٌ بشبابك، هل لا طلعت القصر ولا نظرت من المنظرة التي فيه؟ ثم إن العجوز مضت إلى حال سبيلها، فلما فارقته العجوز صار الولد متفكرًا في كلامها، وقال في نفسه: أنا ما طلعتُ أعلى القصر ولا أعلم أن به منظرة. ثم دخل من وقته وساعته وجعل يطوف في أركان البيت حتى رأى في ركن منها بابًا لطيفًا معشِّشًا عليه العنكبوت بين الأشجار، فلما رآه الولد قال في نفسه: لعل العنكبوت ما عشَّشَ على هذا الباب إلا لأن المنية داخله. فتمسَّكَ بقول الله تعالىقُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا، ثم فتح ذلك الباب وطلع في سلم لطيف حتى وصل إلى أعلاه، فرأى منظرة، فجلس فيها يستريح ويتفرج، فنظر إلى موضع لطيف نظيف بأعلاه مقعد منيف يشرف على جميع بغداد، وفي ذلك المقعد جارية كأنها حورية، فأخذت بمجامع قلبه، وذهبت بعقله ولبه، وأورثته صبر أيوب وحزن يعقوب، فلما نظرها الولد وتأمَّلَها بالتحقيق قال في نفسه: لعل الناس يذكرون أنه لا يسكن هذه الدار واحد إلا مات أو مرض بسبب هذه الجارية، فيا ليت شعري كيف يكون خلاصي؟ فقد ذهب عقلي.

ثم نزل من أعلى القصر متفكرًا في أمره، فجلس في الدار فلم يستقر له قرار حتى خرج وجلس على الباب متحيرًا في أمره، وإذا بالعجوز ماشية وهي تذكر وتسبِّح في الطريق، فلما رآها الولد قام واقفًا على قدميه، وبدأها بالسلام والتحية، وقال لها: يا أمي، كنتُ بخير وعافية حتى أشرتِ عليَّ بفتح الباب، فرأيت المنظرة وفتحتها ونظرت من أعلاها فرأيت ما أدهشني، والآن أظن أني هالك، وأنا أعلم أنه ليس لي طبيب غيرك. فلما سمعته ضحكت وقالت له: لا بأس عليك إن شاء الله تعالى. فلما كلمته بذلك الكلام قام الولد ودخل الدار وخرج لها وفي كمه مائة دينار، وقال لها: خذيها يا أمي وعامليني معاملة السادات للعبيد، وبالعجل أدركيني، وإذا مت فأنت المطالبة بدمي يوم القيامة. فقالت له العجوز: حبًّا وكرامةً، وإنما أريد منك يا ولدي أن تساعدني بمعونة لطيفة فيها تبلغ مرادك. فقال لها: وما تريدين يا أمي؟ فقالت: أريد منك أن تعينني وتروح إلى سوق الحرير، وتسأل عن دكان أبي الفتح بن قيدام، فإذا دلوك عليه فاقعد على دكانه وسلِّم عليه، وقل له: أعطني القناع الذي عندك مرسومًا بالذهب. فإنه ما عنده في دكانه أحسن منه، فاشتَرِه منه يا ولدي بأغلى ثمن، واجعله عندك حتى أحضر إليك في غدٍ إن شاء الله تعالى.

ثم إن العجوز انصرفت وبات الولد تلك الليلة يتقلَّب على جمر الغضا، فلما أصبح الصباح أخذ الولد في جيبه ألف دينار وذهب بها إلى سوق الحرير وسأل عن دكان أبي الفتح، فأخبره به رجل من التجار، فلما وصل إليه رأى بين يديه غلمانًا وخدمًا وحشمًا، ورأى عليه وقارًا وهو في سعة مال، ومن تمام نعمته تلك الجارية التي ما مثلها عند أبناء الملوك. ثم إن الولد لما نظره سلَّمَ عليه، فردَّ عليه السلام، ثم أمره بالجلوس فجلس عنده، فقال له الولد: يا أيها التاجر، أريد منك القناع الفلاني لأنظره. فأمر التاجر العبد أن يأتيه بربطة من الحرير من صدر الدكان، فأتاه بها ففتحها، وأخرج منها عدة قناعات، فتحيَّرَ الولد من حُسْنها وأرى ذلك القناع بعينه، فاشتراه من التاجر بخمسين دينارًا، وانصرف به مسرورًا إلى داره. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 600﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الولد لما اشترى القناع من التاجر أخذه وانصرف به إلى داره، وإذا هو بالعجوز قد أقبلَتْ، فلما رآها قام لها على قدميه وأعطاها ذلك القناع، ثم قالت له: أحضر لي جمرة نار. فأحضر الولد النار، فقربت طرف القناع من الجمرة فأحرقت طرفه، ثم طوته كما كان وأخذته وانصرفت به إلى بيت أبي الفتح، فلما وصلت طرقت الباب، فلما سمعت الجارية صوتها قامت وفتحت لها الباب، وكان للعجوز صحبة بأم الجارية وهي تعرفها؛ وذلك بسبب أنها رفيقة أمها، فقالت لها الجارية: وما حاجتك يا أمي؟ إن والدتي خرجت من عندي إلى منزلها. فقالت لها العجوز: يا بنتي أنا عارفة أن أمك ليست عندك، وأنا كنت عندها في الدار، وما جئت إليك إلا خوف فوات وقت الصلاة، فأريد الوضوء عندك، فإني أعلم منك أنك نظيفة ومنزلك طاهر. فأذنت لها الجارية بالدخول عندها، فلما دخلت سلمت عليها ودعت لها، ثم أخذت الإبريق ودخلت بيت الخلاء، ثم توضأت وصلت في موضع، وقامت بعد ذلك للجارية وقالت لها: يا بنتي، أظن أن هذا الموضع الذي صليت فيه مشى فيه الخدم وأنه نجس، فانظري لي موضعًا آخَر لأصلي فيه، فإني أبطلت الصلاة التي صليتها. فأخذتها الجارية من يدها وقالت لها: يا أمي تعالي صلي على فرشي الذي يجلس عليه زوجي. فلما أوقفتها على الفراش قامت تصلي وتدعو وتركع، ثم غافلت الجارية وجعلت ذلك القناع تحت المخدة من غير أن تنظرها، ولما فرغت من الصلاة دعت لها وقامت فخرجت من عندها.

فلما كان آخِر النهار، دخل التاجر زوجها فجلس على الفراش، فأتته بطعام فأكل منه كفايته وغسل يديه، ثم اتكأ على الوسادة وإذا بطرف القناع خارج من تحت المخدة، فأخرجه من تحتها، فلما نظره عرفه، فظنَّ بالجارية الفحشاء، فناداها وقال لها: من أين لك هذا القناع؟ فحلفت له أيمانًا وقالت له: إنه لم يأتني أحدٌ غيرك. فسكت التاجر خوفًا من الفضيحة، وقال في نفسه: متى فتحَتْ هذا الباب افتضحتُ في بغداد؛ لأن ذلك التاجر كان جليس الخليفة. فلم يسعه إلا السكوت، ولم يخاطب زوجته بكلمة واحدة، وكان اسم الجارية محظية، فناداها وقال لها: قد بلغني أن أمك راقدة ضعيفة من وجع قلبها، وجميع النساء عندها يتباكين عليها، وقد أمرتك أن تخرجي إليها. فمضت الجارية إلى أمها، فلما دخلت الدار وجدت أمها طيبة، فجلست ساعة وإذا بالحمَّالين قد أقبلوا عليها بنقل حوائجها من دار التاجر، فنقلوا جميع ما في الدار من الأمتعة، فلما رأت ذلك أمها قالت: يا بنتي، أي شيء جرى لكِ؟ فأنكرت منها ذلك، ثم بكت أمها وحزنت على فراق بنتها من ذلك الرجل.

ثم إن العجوز بعد مدة من الأيام جاءت إلى الجارية وهي في المنزل، فسلمت عليها باشتياق وقالت لها: ما لك يا بنتي يا حبيبتي قد شوشتِ فكري؟ ودخلت على أم الجارية فقالت لها: يا أختي، ما الخبر؟ وما حكاية البنت مع زوجها؟ فإنه قد بلغني أنه طلَّقَها، فأي شيء لها من الذنب يوجب هذا كله؟ فقالت لها أم الجارية: لعل زوجها يرجع إليها ببركتك، فادعي لها يا أختي، فإنك صوَّامة قوَّامة طول ليلك. ثم إن البنت لما اجتمعت هي وأمها والعجوز في البيت وتحدثن مع بعضهن، قالت لها العجوز: يا ابنتي، لا تحملي همًّا، إن شاء الله تعالى أجمع بينك وبين زوجك في هذه الأيام. ثم خرجت إلى الولد وقالت له: هيِّئ لنا مجلسًا مليحًا، فإني آتيك بها في هذه الليلة. فنهض الولد وأحضر ما يحتجن إليه من الأكل والشرب، وقعد في انتظارهما، فجاءت العجوز إلى أم الجارية وقالت لها: يا أختي، عندنا فرح فأرسلي البنت معي لتتفرج ويزول ما بها من الهم والغم، ثم أرجع بها إليك مثل ما أخذتها من عندك. فقامت أم الجارية وألبستها أفخر ملبوسها وزينتها بأحسن الزينة من الحلي والحلل، وخرجت مع العجوز وذهبت أمها معها إلى الباب، وصارت توصي العجوز وتقول لها: احذري أن ينظرها أحد من خلق الله تعالى، فإنك تعلمين منزلةَ زوجها عند الخليفة، ولا تتعوقي وارجعي بها في أسرع وقت. فأخذتها العجوز إلى أن وصلت بها إلى منزل الولد، والجارية تظن أنه منزل العرس، فلما دخلت الدار ووصلت إلى قاعة الجلوس … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

 

 

 

السابق                                                                     التــــالي←

 

 

Read our comment Policy to know your rights & responsibilities before actually leaving a comment for this article.

Post a Comment (0)