﴿اللیلة 501﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن جانشاه هو ومماليكه لما هجموا على الغزالة ليمسكوها
قنصًا، فرَّتْ منهم ورمت نفسها في البحر، وكان في ذلك البحر مركب صياد، فنَطَّتْ
فيها الغزالة، فنزل جانشاه ومماليكه عن خيلهم إلى المركب، وقنصوا الغزالة، وأرادا
أن يرجعوا إلى البر، وإذا بجانشاه ينظر إلى جزيرة عظيمة، فقال للمماليك الذين معه:
إني أريد أن نذهب إلى الجزيرة. فقالوا له: سمعًا وطاعةً. وساروا بالمركب إلى ناحية
الجزيرة حتى وصلوا إليها، فلما وصلوا إليها طلعوا فيها وصاروا يتفرجون عليها، ثم
بعد ذلك عادوا إلى المركب ونزلوا فيها، وساروا والغزالة معهم قاصدين البرَّ الذي
أتوا منه، فأمسى عليهم المساء، وتاهوا في البحر، فهَبَّتْ عليهم الريح، وأجرت
المركب في وسط البحر، وناموا إلى وقت الصباح، ثم انتبهوا وهم لا يعرفون الطريق،
ولم يزالوا سائرين في البحر.
هذا
ما كان من أمرهم، وأما ما كان من أمر الملك طيغموس والد جانشاه، فإنه تفقَّدَ ابنه
فلم يَرَه، فأمر العسكر أن يروح كل جماعة منهم إلى طريق، فصاروا دائرين يفتِّشون
عن ابن الملك طيغموس، وذهب جماعة منهم إلى البحر، فرأوا المملوك الذي خلوه عند
الخيل، فأتوه وسألوه عن سيده، وعن الستة المماليك، فأخبرهم المملوك بما جرى لهم،
فأخذوا المملوك والخيل، ورجعوا على الملك وأخبروه بذلك الخبر، فلما سمع الملك بذلك
الكلام بكى بكاءً شديدًا، ورمى التاج من فوق رأسه، وعضَّ يدَيْه ندمًا، وقام من وقته
وكتب كتبًا، وأرسلها إلى الجزائر التي في البحر، وجمع مائة مركب، وأنزل فيها
عساكر، وأمرهم أن يدوروا في البحر، ويفتِّشوا على ولده جانشاه. ثم إن الملك أخذ
بقية العساكر والجيوش، ورجع إلى المدينة، وصار في نكد شديد، ولما علمت والدة
جانشاه بذلك، لطمت وجهها وأقامت عزاءه.
هذا
ما كان من أمرهم، وأما ما كان من أمر جانشاه والمماليك الذين معه، فإنهم لم يزالوا
تائهين في البحر، ولم يزل الرواد دائرين يفتشون عنهم في البحر مدةَ عشرة أيام، فما
وجدوهم، فرجعوا إلى الملك وأعلموه بذلك، ثم إن جانشاه والمماليك الذين معه هبَّ
عليهم ريح عاصف، وساق المركب التي هم فيها حتى أوصلها إلى جزيرة، وطلع جانشاه
والستة المماليك من المركب، وتمشَّوْا في تلك الجزيرة حتى وصلوا إلى عين ماء جارية
في وسط تلك الجزيرة، فرأوا رجلًا جالسًا على بُعْدٍ قريبًا من العين، فأتوه
وسلَّموا عليه، فردَّ عليهم السلام، ثم إن الرجل كلَّمهم بكلام مثل صغير الطير،
فلما سمع جانشاه كلامَ ذلك الرجل تعجَّبَ، ثم إن الرجل التفَتَ يمينًا وشمالًا،
وبينما هم يتعجَّبون من ذلك الرجل، إذا هو قد انقسم نصفين، وراح كل نصف في ناحية.
وبينما هم كذلك إذ أقبَلَ عليهم أصنافُ رجال لا تُحصَى ولا تُعَدُّ، وأتوا من جانب
الجبل، وساروا حتى وصلوا إلى العين، وصار كل واحد منقسمًا نصفين، ثم إنهم أتوا
جانشاه والمماليك ليأكلوهم، فلما رآهم جانشاه يريدون أكلهم هرب منهم، وهربت معه
المماليك، فتبعهم هؤلاء الرجال، فأكلوا من المماليك ثلاثة، وبقي ثلاثة مع جانشاه.
ثم
إن جانشاه نزل في المركب ومعه الثلاثة المماليك، ودفعوا المركب إلى وسط البحر،
وساروا ليلًا ونهارًا وهم لا يعرفون أين تذهب بهم المركب، ثم إنهم ذبحوا الغزالة،
وصاروا يقتاتون منها، فضربتهم الرياح، فنقلتهم إلى جزيرة أخرى، فنظروا إلى تلك
الجزيرة، فرأوا فيها أشجارًا وأنهارًا، وأثمارًا وبساتين، وفيها من جميع الفواكه،
والأنهار تجري من تحت تلك الأشجار، وهي كأنها الجنة، فلما رأى جانشاه تلك الجزيرة
أعجبته، وقال للمماليك: مَن فيكم يطلع هذه الجزيرة، وينظر لنا خبرها؟ فقال مملوك
منهم: أنا أطلع وأكشف لكم عن خبرها، وأرجع إليكم. فقال جانشاه: هذا أمر لا يكون،
وإنما تطلعون أنتم الثلاثة، وتكشفون لنا عن خبر هذه الجزيرة، وأنا قاعد لكم في
المركب حتى ترجعوا. ثم إن جانشاه أنزل الثلاثة المماليك ليكشفوا عن خبر هذه
الجزيرة، فطلع المماليك إلى الجزيرة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام
المباح
﴿اللیلة 502﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن المماليك الثلاثة لما طلعوا إلى الجزيرة داروا فيها
شرقًا وغربًا، فلم يجدوا فيها أحدًا، ثم مشوا فيها إلى وسطها فرأوا على بُعْدٍ
قلعةً من الرخام الأبيض، وبيوتها من البلور الصافي، وفي وسط تلك القلعة بستان فيه
من جميع الفواكه اليابسة والرطبة ما يكلُّ عنه الوصف، وفيه جميع المشموم، ورأوا في
تلك القلعة أشجارًا وأثمارًا، وأطيارًا تناغي على تلك الأشجار، وفيها بحيرة عظيمة،
وبجانب البحيرة إيوان عظيم، وعلى ذلك الإيوان كراسي منصوبة، وفي وسط تلك الكراسي
تخت منصوب من الذهب الأحمر، مرصَّع بأنواع الجواهر واليواقيت. فلما رأى المماليك
حُسْن تلك القلعة وذلك البستان، داروا في تلك القلعة يمينًا وشمالًا فما رأوا فيها
أحدًا، ثم طلعوا من القلعة ورجعوا إلى جانشاه وأعلموه بما رأوه. فلما سمع جانشاه
ابن الملك منهم ذلك الخبر قال لهم: إني لا بد لي من أن أتفرج في هذه القلعة. ثم إن
جانشاه طلع من المركب وطلعت معه المماليك وساروا حتى أتوا القلعة ودخلوا فيها،
فتعجَّبَ جانشاه من حُسْن ذلك المكان، ثم داروا يتفرجون في البستان، ويأكلون من
تلك الفواكه، ولم يزالوا دائرين إلى وقت المساء، ولما أمسى عليهم المساء، أتوا إلى
المنصوبة وجلس جانشاه على التخت المنصوب في الوسط، وصارت الكراسي منصوبة عن يمينه
وشماله، ثم إن جانشاه لما جلس على ذلك التخت صار يتفكَّر ويبكي على فراق تخت
والده، وعلى فراق بلاده وأهله وأقاربه، وبكت حوله الثلاثة المماليك. فبينما هم في
ذلك الأمر، وإذا بصيحةٍ عظيمة من جانب البحر، فالتفتوا إلى جهة تلك الصيحة، فإذا
هم قردة كالجراد المنتشرة، وكانت تلك القلعة والجزيرة للقردة، ثم إن هؤلاء القردة
لما رأوا المركب التي أتى فيها جانشاه، خسفوها على شاطئ البحر، وأتوا جانشاه وهو
جالس في القلعة.
قالت
ملكة الحيات: كل هذا يا حاسب مما يحكيه الشاب الجالس بين القبرين لبلوقيا. فقال
لها حاسب: وما فعل جانشاه مع القردة بعد ذلك؟ قالت له ملكة الحيات: لما طلع جانشاه
وجلس على التخت، والمماليك عن يمينه وشماله، أقبل عليهم القِرَدة، فأفزعوهم
وأخافوهم خوفًا عظيمًا، ثم دخلت جماعة من القردة، وتقدَّموا إلى أن قربوا من التخت
الجالس عليه جانشاه، وقبَّلوا الأرض قدَّامه، ووضعوا أيديهم على صدورهم، ووقفوا
قدامه ساعة، وبعد ذلك أقبلَتْ جماعة منهم، ومعهم غزلان فذبحوها، وأتوا بها إلى
القلعة وسلخوها، وقطعوا لحمها وشووها حتى طابت للأكل، وحطوها في صوان من الذهب
والفضة، ومدوا السماط، وأشاروا إلى جانشاه وجماعته أن يأكلوا، فنزل جانشاه من فوق
التخت وأكل، وأكلت معه القرود والمماليك، حتى اكتفوا من الأكل. ثم إن القرود رفعوا
سماط الطعام وأتوا بفاكهة، فأكلوا منها وحمدوا الله تعالى، ثم إن جانشاه أشار إلى
أكابر القرود، وقال لهم: ما شأنكم؟ ولمَنْ هذا المكان؟ فقال له القرود بالإشارة:
اعلم أن هذا المكان لسيدنا سليمان بن داود عليهما السلام، وكان يأتي إليه في كل
سنة مرة يتفرَّج فيه، ويروح من عندنا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام
المباح.
﴿اللیلة 503﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن جانشاه أخبره القرود عن القلعة، وقالوا له: إن هذا
المكان كان لسيدنا سليمان بن داود، وكان يأتي إليه في كل سنة يتفرَّج فيه ويروح من
عندنا. ثم قال له القرود: اعلم أيها الملك أنك بقيتَ علينا سلطانًا، ونحن في
خدمتك، وكُلْ واشربْ، وكل ما أمرتنا به نفعله. ثم قام القرود وقبَّلوا الأرض بين
يدَيْه، وانصرف كلُّ واحد منهم إلى حال سبيله، ونام جانشاه فوق التخت، ونام
المماليك حوله على الكراسي إلى وقت الصباح. ثم دخل عليه الأربعة وزراء الرؤساء على
القرود وعساكرهم حتى امتلأ ذلك المكان، وصاروا حوله صفًّا بعد صف، وأتت الوزراء
وأشاروا إلى جانشاه أن يحكم بينهم بالصواب، ثم صاح القرود على بعضهم وانصرفوا،
وبقي منهم جانب قدام الملك جانشاه من أجل الخدمة، ثم بعد ذلك أقبَلَ قرود معهم
كلاب في صورة الخيل، وفي رأس كل كلب منهم سلسلة، فتعجَّبَ جانشاه من هذه الكلاب
ومن عِظَم خلقتها. ثم إن وزراء القرود أشاروا لجانشاه أن يركب ويسير معهم، فركب
جانشاه والثلاثة مماليك، وركب معهم عسكر القرود، وصاروا مثل الجراد المنتشر،
وبعضهم راكب، وبعضهم ماشٍ، فتعجَّبَ من أمورهم. ولم يزالوا سائرين إلى شاطئ البحر،
فلما رأى جانشاه المركب التي كان راكبًا فيها قد خُسِفت، التفت إلى وزرائه من
القرود وقال لهم: أين المركب التي كانت هنا؟ فقالوا له: اعلم أيها الملك أنكم
لمَّا أتيتم إلى جزيرتنا، علمنا أنك تكون سلطانًا علينا، وخفنا أن تهربوا منَّا إذ
أتينا عندكم وتنزلوا المركب، فمن أجل ذلك خسفناها.
فلما
سمع جانشاه هذا الكلام التفت إلى المماليك، وقال لهم: ما بقي لنا حيلة في الرواح
من عند هؤلاء القرود، ولكن نصبر لما قدَّرَه الله تعالى. ثم ساروا، وما زالوا
سائرين حتى وصلوا إلى شاطئ نهر، وفي جانب ذلك النهر جبل عالٍ، فنظر جانشاه إلى ذلك
الجبل، فرأى فيه غيلانًا كثيرة، فالتفت إلى القرود وقال لهم: ما شأن هؤلاء
الغيلان؟ فقال له القرود: اعلم أيها الملك أن هؤلاء الغيلان أعداؤنا، ونحن أتينا
لنقاتلهم، فتعجَّبَ جانشاه من هؤلاء الغيلان، ومن عِظَم خلقتهم، وهم راكبون على
الخيل، ورءوس بعضهم على صورة رءوس البقر، وبعضهم على صورة الجمال، فلما رأى
الغيلانُ عسكرَ القرود هجموا عليهم، ووقفوا على شاطئ النهر، وصاروا يرجمونهم بشيء
من الحجارة في صورة العواميد، وحصل بينهم حرب عظيمة؛ فلما رأى جانشاه الغيلان
غلبوا القرود، زعق على المماليك وقال لهم: أطلعوا القسيَّ والنشابَ، وارموا عليهم
بالنبال حتى تقتلوهم، وتردُّوهم عنَّا. ففعل المماليك ما أمرهم به جانشاه حتى حصل
للغيلان كرب عظيم، وقُتِل منهم خلق كثير، وانهزموا وولَّوْا هاربين، فلما رأى
القرود من جانشاه هذا الأمر، نزلوا في النهر وعدوه، وجانشاه معهم، وطرد الغيلان
حتى غابوا عن أعينهم، وانهزموا وقُتِل منهم كثير، ولم يزل جانشاه والقرود سائرين
حتى وصلوا إلى جبلِ عالٍ، فنظر جانشاه إلى ذلك الجبل، فوجد فيه لوحًا من المرمر
مكتوبًا فيه: «اعلم يا مَن دخل هذه الأرض، أنك تصير سلطانًا على هؤلاء القرود، وما
يتأتى لك رواح من عندهم إلا إنْ رحتَ من الدرب الشرقي بناحية الجبل، وطوله ثلاثة
أشهر، وأنت سائر بين الوحوش والغيلان والمَرَدة والعفاريت، وبعد ذلك تنتهي إلى
البحر المحيط بالدنيا؛ أو رحت من الدرب الغربي، وطوله أربعة أشهر، وفي رأسه وادي
النمل، فإذا وصلتَ إلى وادي النمل ودخلت فيه، فاحترز على نفسك من هذا النمل حتى
تنتهي إلى جبلٍ عالٍ، وذلك الجبل يتوقَّد مثل النار، ومسيرته عشرة أيام». فلما رأى
جانشاه ذلك اللوح … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 504﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن جانشاه لما رأى ذلك اللوح، قرأه ورأى فيه ما ذكرناه،
ورأى في آخِر الكلام: «ثم تنتهي إلى نهر عظيم وهو يجري، وجريانه يخطف البصر من شدة
عزمه، وذلك النهر في كل سبت ييبس، وبجانبه مدينة أهلها كلهم يهود، ولدين محمد
جحود، ما فيهم مسلم أبدًا، وما في هذه الأرض إلا هذه المدينة، وما دمتَ مقيمًا عند
القرود هم منصورون على الغيلان. واعلم أن هذا اللوح كتبه السيد سليمان بن داود
عليهما السلام». فلما قرأه جانشاه بكى بكاءً شديدًا، ثم التفت إلى مماليكه،
وأعلمهم بما هو مكتوب على اللوح، وبعد ذلك ركب وركب حوله عساكر القرود، وصاروا
فرحانين بالنصر على أعدائهم، ورجعوا إلى قلعتهم؛ ومكث جانشاه في القلعة سلطانًا
على القرود سنةً ونصفًا، ثم بعد ذلك أمر جانشاه عساكر القرود أن يركبوا للصيد
والقنص، فركبوا وركب معهم جانشاه ومماليكه، وساروا في البراري والقفار، ولم يزالوا
سائرين من مكان إلى مكان حتى عرف وادي النمل، ورأى الأمارة المكتوبة في اللوح
المرمر؛ فلما رأى ذلك أمرهم أن ينزلوا في ذلك المكان، فنزلوا ونزلت عساكر القرود،
ومكثوا في أكل وشرب مدة عشرة أيام، ثم اختلى جانشاه بمماليكه ليلةً من الليالي،
وقال لهم: إني أريد أن نهرب ونروح إلى وادي النمل، ونسير إلى مدينة اليهود؛ لعل
الله ينجينا من هؤلاء القرود، ونروح إلى حال سبيلنا. فقالوا له: سمعًا وطاعةً.
ثم
إنه صبر حتى مضى من الليل شيء قليل، وقام وقامت معه المماليك، وتسلَّحوا بأسلحتهم،
وحزموا أوساطهم بالسيوف والخناجر، وما أشبه ذلك من آلات الحرب، وخرج جانشاه هو
ومماليكه وساروا من أول الليل إلى وقت الصبح، فلما انتبه القرود من نومهم لم يروا
جانشاه ولا مماليكه، فعلموا أنهم هربوا منهم، فقامت جماعة من القرود وركبوا وساروا
ناحية الدرب الشرقي، وجماعة ركبوا وساروا إلى وادي النمل. فبينما القرود سائرون إذ
نظروا جانشاه والمماليك معه وهم مُقبِلون على وادي النمل، فلما رأوهم أسرعوا
وراءهم، فلما نظرهم جانشاه هرب وهربت معه المماليك، ودخلوا وادي النمل، فما مضت
ساعة من الزمان إلا والقرود قد هجمت عليهم، وأرادوا أن يقتلوا جانشاه هو ومماليكه،
وإذا هم بنملٍ قد خرج من تحت الأرض مثل الجراد المنتشر، كل نملة منه قدر الكلب، فلما
رأى النملُ القرودَ هجم عليهم، وأكل منهم جماعة، وقُتِل من النمل جماعة كثيرة، لكن
حصل النصر للنمل، وصارت النملة تأتي إلى القرد وتضربه فتقسمه نصفين، وصار العشرة
قرود يركبون النملة الواحدة ويمسكونها ويقسمونها نصفين، ووقع بينهم حرب عظيم إلى
وقت المساء، ولما أمسى الوقت هرب جانشاه هو والمماليك في بطن الوادي. وأدرك شهرزاد
الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 505﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أنه لما أقبل المساء هرب جانشاه هو ومماليكه في بطن
الوادي إلى الصباح، فلما أصبح الصباح أقبل القرود على جانشاه، فلما رآهم زعق على
مماليكه، وقال لهم: اضربوهم بالسيوف. فسحب المماليك سيوفهم، وجعلوا يضربون القرود
يمينًا وشمالًا، فتقدَّمَ قرد عظيم له أنياب مثل أنياب الفيل، وأتى إلى واحد من
المماليك وضربه فقسمه نصفين، وتكاثرت القرود على جانشاه، فهرب إلى أسفل الوادي،
ورأى هناك نهرًا عظيمًا وبجانبه نمل عظيم، فلما رأى النمل جانشاه مُقبِلًا عليه
واحتاط به، وإذا بمملوك ضرب نملة بالسيف فقسمها نصفين، فلما رأت عساكر النمل ذلك
تكاثروا على المملوك وقتلوه. فبينما هم في هذا الأمر وإذا بالقرود قد أقبلوا من
فوق الجبل، وتكاثروا على جانشاه، فلما رأى جانشاه اندفاعهم عليه، نزع ثيابه ونزل
النهر، ونزل معه المملوك الذي بقي، وعاما في الماء إلى وسط النهر، ثم إن جانشاه
رأى شجرة على شاطئ النهر من الجهة الأخرى، فمدَّ يده إلى غصن من أغصانها وتناوله،
وتعلَّقَ به وطلع إلى البر، وأما المملوك فإنه غلب عليه التيار فأخذه وقطعه في
الجبل، وصار جانشاه واقفًا وحده في البر يعصر ثيابه وينشِّفها في الشمس، ووقع بين
القرود والنمل قتال عظيم، ثم رجع القرود إلى بلادهم.
هذا
ما كان من أمر القرود والنمل، وأما ما كان من أمر جانشاه، فإنه صار يبكي إلى وقت
المساء، ثم دخل مغارة واستكنَّ فيها، وقد خاف خوفًا شديدًا، واستوحش لفقد مماليكه،
ثم نام في تلك المغارة إلى الصباح، ثم سار، ولم يزل سائرًا ليالي وأيامًا وهو يأكل
من الأعشاب، حتى وصل إلى الجبل الذي يتوقَّد مثل النار، فلما أتى إليه سار فيه حتى
وصل إلى النهر الذي ينشف في كل يوم سبت، فلما وصل إلى ذلك النهر رآه نهرًا عظيمًا،
وبجانبه مدينة عظيمة، وهي مدينة اليهود التي رآها مكتوبة في اللوح، فأقام هناك إلى
أن أتى يوم السبت ونشف النهر، ثم مشى من النهر حتى وصل إلى مدينة اليهود، فلم يَرَ
فيها أحدًا، فمشى فيها حتى وصل إلى باب بيت ففتحه ودخله، فرأى أهله ساكتين لا
يتكلمون أبدًا، فقال لهم: إني رجل غريب جائع. فقالوا له بالإشارة: كُلْ واشربْ ولا
تتكلَّمْ. فقعد عندهم وأكل وشرب، ونام تلك الليلة، فلما أصبح الصباح سلَّمَ عليه
صاحب البيت ورحَّب به، وقال له:
من
أين أتيتَ؟ وإلى أين رائح؟ فلما سمع جانشاه كلام ذلك اليهودي، بكى بكاءً شديدًا
وحكى له قصته، وأخبره بمدينة أبيه، فتعجَّبَ اليهودي من ذلك وقال له: ما سمعنا
بهذه المدينة قطُّ، غير أننا كنَّا نسمع من قوافل التجار أن هناك بلادًا تُسمَّى
بلاد اليمن. فقال جانشاه لليهودي: هذه البلاد التي يخبر بها التجار لا تبعد عن هذا
المكان. فقال له اليهودي: إن تجار تلك القوافل يزعمون أن مدة سفرهم من بلادهم إلى
هنا سنتان وثلاثة أشهر. فقال جانشاه لليهودي: ومتى تأتي القافلة؟ فقال له: تأتي في
السنة القابلة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 506﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن جانشاه لما سأل اليهودي عن مجيء القافلة قال له: تأتي
في السنة القابلة. فلما سمع جانشاه كلامه بكى بكاءً شديدًا، وحزن على نفسه، وعلى
مماليكه، وعلى فراق أمه وأبيه، وعلى ما جرى له في سفره، فقال له اليهودي: لا تبكِ
يا شاب، واقعدْ عندنا حتى تأتي القافلة، ونحن نُرسِلك معها إلى بلادك. فلما سمع
جانشاه ذلك الكلام، قعد عند اليهودي مدة شهرين، وصار في كل يوم يخرج إلى أزِقَّة
المدينة ويتفرج فيها، فاتفق أنه خرج على عادته يومًا من الأيام، ودار في شوارع المدينة
يمينًا وشمالًا، فسمع رجلًا ينادي، ويقول: مَن يأخذ ألف دينار وجارية حسناء بديعة
الحُسْن والجمال، ويعمل لي شغلًا من وقت الصباح إلى وقت الظهر؟ فلم يُجِبْه أحدٌ.
فلما سمع جانشاه كلام المنادي قال في نفسه: لولا أن هذا الشغل خطر ما كان صاحبه
يعطي ألف دينار وجارية حسناء في شغل من الصبح إلى الظهر. ثم إن جانشاه تمشى إلى
المنادي، وقال له: أنا أعمل هذا الشغل. فلما سمع المنادي من جانشاه هذا الكلام
أخذه، وأتى به إلى بيتٍ عالٍ، فدخل هو وجانشاه ذلك البيت فوجده بيتًا عظيمًا، ووجد
هناك رجلًا يهوديًّا تاجرًا جالسًا على كرسي من الأبنوس، فوقف المنادي قدامه وقال
له: أيها التاجر، إن لي ثلاثة شهور وأنا أنادي في المدينة، فلم يُجِبْني أحد إلا
هذا الشاب. فلما سمع التاجر كلام المنادي رحَّبَ بجانشاه وأخذه ودخل به إلى مكان
نفيس، وأشار إلى عبيده أن يأتوا له بالطعام، فمدوا السماط، وأتوا بأنواع الأطعمة،
فأكل التاجر وجانشاه، وغسلَا أيديهما، وأتوا بالمشروب فشربا، ثم إن التاجر قام
وأتى لجانشاه بكيس فيه ألف دينار، وأتى له بجارية بديعة الحُسْن والجمال، وقال له:
خذ هذه الجارية وهذا المال في الشغل الذي تعمله. فأخذ جانشاه الجارية والمال،
وأجلس الجارية بجانبه، وقال له التاجر: في غدٍ اعمل لنا الشغل.
ثم
ذهب التاجر من عنده، ونام جانشاه هو والجارية في تلك الليلة، ولما أصبح الصباح راح
إلى الحمام، فأمر التاجر عبيده أن يأتوا له ببدلة من الحرير، فأتوا له ببدلة نفيسة
من الحرير، وصبروا حتى خرج من الحمام، وألبسوه البدلة، وأتوا به إلى البيت، فأمر
التاجر عبيده أن يأتوا بالحنك والعود والمشروب، فأتوا إليهما بذلك، فشربا ولعبا
وضحكا إلى أن مضى من الليل نصفه، وبعد ذلك ذهب التاجر إلى حريمه، ونام جانشاه مع
الجارية إلى وقت الصباح، ثم راح إلى الحمام، فلما رجع من الحمام جاء إليه التاجر،
وقال: إني أريد أن تعمل لنا الشغل. فقال جانشاه: سمعًا وطاعةً. فأمر التاجر عبيده
أن يأتوا ببغلتين، فأتوه ببغلتين، فركب بغلة وأمر جانشاه أن يركب البغلة الثانية
فركبها، ثم إن جانشاه والتاجر سارَا من وقت الصباح إلى وقت الظهر حتى وصلا إلى
جبلٍ عالٍ ما له حدٌّ في العلوِّ، فنزل التاجر من فوق ظهر البغلة، وأمر جانشاه أن
ينزل، فنزل جانشاه، ثم إن التاجر ناول جانشاه سكينًا وحبلًا، وقال له: أريد منك أن
تذبح هذه البغلة. فشمر جانشاه ثيابه، وأتى إلى البغلة، ووضع الحبل في أربعتها،
ورماها على الأرض، وأخذ السكين وذبحها وسلخها، وقطع أربعتها ورأسها، وصارت كوم
لحم؛ فقال له التاجر: أمرتك أن تشقَّ بطنها وتدخل فيه وأخيط عليك، وتقعد هناك ساعة
من الزمان، ومهما تراه في بطنها فأخبرني به. فشقَّ جانشاه بطن البغلة ودخله، وخاطه
عليه التاجر، ثم تركه وبَعُدَ عنه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 507﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن التاجر لما خاط بطن البغلة على جانشاه، تركه وبَعُدَ
عنه، واستخفى في ذيل الجبل، وبعد ساعة نزل على البغلة طائر عظيم فاختطفها وطار، ثم
حطَّ بها أعلى الجبل، وأراد أن يأكلها، فحسَّ جانشاه بالطائر، فشقَّ بطن البغلة
وخرج منها، فجفل الطائر لما رأى جانشاه، وطار وراح إلى حال سبيله، فقام جانشاه على
قدمَيْه وصار ينظر يمينًا وشمالًا، فلم يَرَ أحدًا إلا رجالًا ميتة يابسة من
الشمس، فلما رأى ذلك قال في نفسه: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ثم إنه
نظر إلى أسفل الجبل، فرأى التاجر واقفًا تحت الجبل ينظر إلى جانشاه، فلما رآه قال
له: ارمِ لي من الحجارة التي حولك حتى أدلك على طريقٍ تنزل منها. فرمى جانشاه من
تلك الحجارة نحو مائتَيْ حجر، وكانت تلك الحجارة من الياقوت والزبرجد والجواهر
الثمينة، ثم إن جانشاه قال للتاجر: دلَّني على الطريق، وأنا أرمي لك مرة أخرى.
فلمَّ التاجر تلك الحجارة، وحملها على البغلة التي كان راكبها، وسار ولم يردَّ له
جوابًا، وبقي جانشاه فوق الجبل وحده، فصار يستغيث ويبكي، ثم مكث فوق الجبل ثلاثة
أيام، وبعد الثلاثة أيام قام وسار في عرض الجبل مدة شهرين وهو يأكل من أعشاب
الجبل، وما زال سائرًا حتى وصل في سيره إلى طرف الجبل، فلما وصل إلى ذيل الجبل رأى
واديًا على بُعْدٍ، وفيه أشجار وأثمار وأطيار تسبِّح الله الواحد القهار.
فلما
رأى جانشاه ذلك الوادي فرح فرحًا شديدًا، فقصده، ولم يزل ماشيًا ساعة من الزمان
حتى وصل إلى شرم في الجبل ينزل منه السيل، فنزل منه، وسار حتى وصل إلى الوادي الذي
رآه وهو على الجبل، فنزل الوادي وصار يتفرج فيه يمينًا وشمالًا، وما زال يمشي
ويتفرج حتى وصل إلى قصرٍ عالٍ شاهق في الهواء، فتقرَّبَ جانشاه من ذلك القصر حتى
وصل إلى بابه، فرأى شيخًا مليح الهيئة، يلمع النور من وجهه، وبيده عكاز من
الياقوت، وهو واقف على باب القصر، فتمشَّى جانشاه حتى قرب منه وسلَّم عليه، فردَّ
عليه السلام ورحَّبَ به، وقال له: اجلس يا ولدي. فجلس جانشاه على باب ذلك القصر،
ثم إن الشيخ سأله وقال له: من أين أتيت إلى هذه الأرض؟ وابن آدم ما داسها قطُّ،
وإلى أين رائح؟ فلما سمع جانشاه كلام الشيخ بكى بكاءً شديدًا من كثرة ما قاساه،
وخنقه البكاء، فقال له الشيخ: يا ولدي، اترك البكاء، فقد أوجعتَ قلبي. ثم قام
الشيخ وأتى له بشيء من الأكل وحطه قدامه، وقال له: كُلْ من هذا. فأكل جانشاه حتى
اكتفى، وحمد الله تعالى. ثم إن الشيخ بعد ذلك سأل جانشاه، وقال له: يا ولدي، أريد
منك أن تحكي لي حكايتك، وتخبرني بما جرى لك. فحكى له حكايته، وأخبره بجميع ما جرى
له من أول الأمر إلى أن وصل إليه؛ فلما سمع كلامه تعجب منه عجبًا شديدًا، فقال
جانشاه للشيخ: أريد منك أن تخبرني بصاحب هذا الوادي، ولمَن هذا القصر العظيم؟ فقال
الشيخ لجانشاه: اعلم يا ولدي أن هذا الوادي وما فيه، وذلك القصر وما حواه، للسيد
سليمان بن داود عليهما السلام، وأنا اسمي الشيخ نصر ملك الطيور، واعلم أن السيد
سليمان وكَّلَني بهذا القصر. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 508﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الشيخ نصر ملك الطيور قال لجانشاه: واعلم أن السيد
سليمان وكَّلني بهذا القصر، وعلَّمني منطق الطير، وجعلني حاكمًا على جميع الطير
الذي في الدنيا، وفي كل سنة يأتي الطير إلى هذا القصر وننظره ويروح، وهذا سبب
قعودي في المكان. فلما سمع جانشاه كلامَ الشيخ نصر بكى بكاءً شديدًا، وقال له: يا
والدي، كيف تكون حيلتي حتى أروح إلى بلادي؟ فقال له الشيخ: اعلم يا ولدي أنك
بالقرب من جبل قاف، وليس لك رواح من هذا المكان إلا إذا أتت الطيور، وأوصي عليك
واحدًا منها فيوصلك إلى بلادك، فاقعد عندي في هذا المكان وكُلْ واشربْ، وتفرج في
هذه المقاصير حتى تأتي الطيور. فقعد جانشاه عند الشيخ، وصار يدور في الوادي، ويأكل
من تلك الفواكه، ويتفرج ويضحك ويلعب، ولم يزل مُقِيمًا في ألذ عيش مدةً من الزمان
حتى قرب مجيء الطيور من أماكنها لزيارة الشيخ نصر؛ فلما علم الشيخ نصر بمجيء
الطيور قام على قدمَيْه، وقال لجانشاه: يا جانشاه، خذ هذه المفاتيح، وافتح
المقاصير التي في هذا القصر، وتفرَّج على ما فيها إلا المقصورة الفلانية، فاحذر أن
تفتحها، ومتى خالفتني وفتحتها ودخلتها لا يحصل لك خير أبدًا. وأوصى جانشاه بهذه
الوصية، وأكَّدَ عليه فيها، وسار من عنده لملاقاة الطيور، فلما نظرَتِ الطيور
الشيخ نصر أقبلَتْ عليه، وقبَّلَتْ يدَيْه جنسًا بعد جنس.
هذا
ما كان من أمر الشيخ نصر، وأما ما كان من أمر جانشاه، فإنه قام على قدميه، وصار
دائرًا يتفرج على القصر يمينًا وشمالًا، وفتح جميع المقاصر التي في القصر، حتى وصل
إلى المقصورة التي حذَّره الشيخ نصر من فتحها؛ فنظر إلى باب تلك المقصورة فأعجبه
ورأى عليه قفلًا من الذهب، فقال في نفسه: إن هذه المقصورة أحسن من جميع المقاصير
التي في القصر، يا تُرَى ما يكون في هذه المقصورة حتى منعني الشيخ نصر من الدخول
فيها؟ فلا بد لي من أن أدخل هذه المقصورة، وأنظر الذي فيها، وما كان مقدَّرًا على
العبد لا بد أن يستوفيه. ثم مدَّ يده وفتح المقصورة ودخلها، فرأى فيها بحيرة
عظيمة، وبجانب البحيرة قصر صغير، وهو مبني من الذهب والفضة والبلور، وشبابيكه من
الياقوت، ورخامه من الزبرجد الأخضر والبلخش والزمرد والجواهر مرصَّعة في الأرض على
هيئة الرخام، وفي وسط ذلك القصر فسقية من الذهب ملآنة بالماء، وحول تلك الفسقية
وحوش وطيور مصنوعة من الذهب والفضة، يخرج من بطونها الماء، وإذا هبَّ النسيم يدخل
في آذانها فتصفِّر كل صورة بلغتها، وبجانب الفسقية إيوان عظيم، وعليه تخت عظيم من
الياقوت مرصَّع بالدر والجواهر، وعلى ذلك التخت خيمة منصوبة من الحرير الأخضر،
مزركشة بالفصوص والمعادن الفاخرة، ومقدار سعتها خمسون ذراعًا، وداخل تلك الخيمة
مخدع فيه البساط الذي كان للسيد سليمان عليه السلام. ورأى جانشاه حول ذلك القصر
بستانًا عظيمًا، وفيه أشجار وأثمار وأنهار، وفي دائر القصر مزارع من الورد
والريحان والنسرين، ومن كل مشموم، وإذا هبَّتِ الرياح على الأشجار تمايلت تلك
الأغصان، ورأى جانشاه في ذلك البستان من جميع الأشجار رطبًا ويابسًا، وكل ذلك في
تلك المقصورة، فلما رأى جانشاه هذا الأمر تعجَّبَ منه غاية العجب، وصار يتفرَّج في
ذلك البستان وفي ذلك القصر على ما فيهما من العجائب والغرائب، ونظر إلى البحيرة
فرأى حصاها من الفصوص النفيسة، والجواهر الثمينة، والمعادن الفاخرة، ورأى في تلك
المقصورة شيئًا كثيرًا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 509﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن جانشاه رأى في تلك المقصورة شيئًا كثيرًا، فتعجَّبَ
منه، ثم تمشَّى حتى دخل القصر الذي في تلك المقصورة، وطلع على التخت المنصوب على الليوان
بجانب الفسقية، ودخل الخيمة المنصوبة فوقه، ونام في تلك الخيمة مدة من الزمان، ثم
أفاق وقام يتمشى حتى خرج من باب القصر، وجلس على كرسي قدام باب القصر وهو يتعجَّب
من حُسْن ذلك المكان.
فبينما
هو جالس إذ أقبل عليه من الجوِّ ثلاثة طيور في صفة الحمام، ثم إن الطيور حطوا
بجانب البحيرة، ولعبوا ساعة، وبعد ذلك نزعوا ما عليهم من الريش، فصاروا ثلاث بنات
كأنهن الأقمار، ليس لهن في الدنيا شبيه، ثم نزلن البحيرة وسبحن فيها، ولعبن وضحكن،
فلما رآهن جانشاه تعجَّبَ من حُسْنهن وجمالهن واعتدال قدودهن، ثم طلعن إلى البر
ودُرْنَ يتفرَّجْنَ في البستان، فلما رآهن جانشاه طلعن إلى البر كاد عقله أن يذهب،
وقام على قدمَيْه وتمشى حتى وصل إليهن، فلما قرب منهن سلَّم عليهن، فردَدْنَ عليه
السلام، ثم إنه سألهن وقال لهن: مَن أنتن أيتها السيدات الفاخرات؟ ومن أين أقبلتن؟
فقالت له الصغيرة: نحن أتينا من ملكوت الله تعالى؛ لنتفرج في هذا المكان. فتعجَّبَ
من حُسْنهن، ثم قال للصغيرة: ارحميني وتعطَّفِي عليَّ وارثي لحالي، وما جرى لي في
عمري. فقالت له: دَعْ عنك هذا الكلام. فلما سمع جانشاه منها هذا الكلام بكى بكاءً
شديدًا، واشتدت به الزفرات، وأنشد هذه الأبيات:
بَدَتْ
لِي فِي الْبُسْتَانِ بِالْحُلَلِ الْخُضْرِ مُفَكَّكَةَ الْأَزْرَارِ مَحْلُولَةَ
الشَّعْرِ
فَقُلْتُ
لَهَا: مَا الِاسْمُ؟ قَالَتْ: أَنَا الَّتِي كَوَيْتُ قُلُوبَ الْعَاشِقِينَ عَلَى
حِجْرِي
شَكَوْتُ
إِلَيْهَا مَا لَقِيتُ مِنَ الْهَوَى
فَقَالَتْ: إِلَى صَخْرٍ شَكَوْتَ وَلَمْ تَدْرِ
فَقُلْتُ
لَهَا: إِنْ كَانَ قَلْبُكِ صَخْرَةً
فَقَدْ أَنْبَعَ اللهُ الزُّلَالَ مِنَ الصَّخْرِ
فلما
سمع البنات هذا الشعر من جانشاه، ضحكن ولعبن وغنين وطربن، ثم إن جانشاه أتى إليهن
بشيء من الفواكه، فأكلن وشربن، ونمن مع جانشاه تلك الليلة إلى الصباح، فلما أصبح
الصباح لبسن البنات ثيابهن الريش، وصرن في هيئة الحمام، وطرن ذاهبات إلى حال
سبيلهن؛ فلما رآهن جانشاه طائرات، وقد غبن عن عيونه، كاد عقله أن يطير معهن، وزعق
زعقة عظيمة، ووقع مغشيًّا عليه، ومكث في غشيته طول ذلك اليوم. فبينما هو طريح على
الأرض، وإذا بالشيخ نصر قد أتى من ملاقاة الطيور، وفتَّشَ على جانشاه ليُرسِله مع
الطيور ويروح إلى بلاده، فلم يَرَه، فعلم الشيخ نصر أنه دخل المقصورة، وقد كان
الشيخ نصر قال للطيور: إن عندي ولدًا صغيرًا جاءت به المقادير من بلاد بعيدة إلى
هذه الأرض، وأريد منكم أن تحملوه وتوصلوه إلى بلاده. فقالوا له: سمعًا وطاعةً. ولم
يزل الشيخ نصر يفتِّش على جانشاه حتى أتى إلى باب المقصورة التي نهاه عن فتحها،
فوجده مفتوحًا، فدخل فرأى جانشاه مرميًّا تحت شجرة وهو مغشي عليه، فأتاه بشيء من
المياه العطرية، ورشَّه على وجهه، فأفاق من غشيته، وصار يلتفت. وأدرك شهرزاد
الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 510﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الشيخ نصر لما رأى جانشاه مرميًّا تحت شجرة، أتاه
بشيء من المياه العطرية، ورشَّه على وجهه فأفاق من غشيته، وصار يلتفت يمينًا
وشمالًا، فلم يَرَ عنده أحدًا سوى الشيخ نصر، فزادت به الحسرات، وأنشد هذه الأبيات:
تَبَدَّتْ
كَبَدْرِ التِّمِّ فِي لَيْلَةِ السَّعْدِ
مُنَعَّمَةَ الْأَطْرَافِ مَمْشُوقَةَ الْقَدِّ
لَهَا
مُقْلَةٌ تَسْبِي الْعُقُولَ بِسِحْرِهَا
وَثَغْرٌ حَكَى الْيَاقُوتَ فِي
حُمْرَةِ الْوَرْدِ
تَحَدَّرَ
فَوْقَ الرِّدْفِ أَسْوَدُ شَعْرِهَا
فَإِيَّاكَ إِيَّاكَ الْحُبَابَ مِنَ الْجَعْدِ
لَقَدْ
رَقَّتِ الْأَعْطَافُ مِنْهَا وَقَلْبُهَا
عَلَى صَبِّهَا أَقْسَى مِنَ الْحَجَرِ الصَّلْدِ
وَتُرْسِلُ
سَهْمَ اللَّحْظِ مِنْ قَوْسٍ حَاجِبٍ
يُصِيبُ وَلَمْ يُخْطِئْ وَلَوْ كَانَ مِنْ بُعْدِ
فَيَا
حُسْنَهَا قَدْ فَاقَ كُلَّ مَلَاحَةٍ
وَلَيْسَ لَهَا بَيْنَ الْبَرِيَّةِ مِنْ نِدِّ
فلما
سمع الشيخ نصر من جانشاه هذه الأشعار قال له: يا ولدي، أَمَا قلتُ لك لا تفتح هذه
المقصورة، ولا تدخلها؛ ولكن أخبرني يا ولدي بما رأيتَ فيها، واحكِ لي حكايتك،
وعرِّفني ما جرى لك. فحكى له جانشاه حكايته، وأخبره بما جرى له مع الثلاث بنات وهو
جالس، فلما سمع الشيخ نصر كلامه قال له: اعلم يا ولدي أن هذه البنات من بنات
الجان، وفي كل سنة يأتين إلى هذا المكان فيلعبن وينشرحن إلى وقت العصر، ثم يذهبن
إلى بلادهن. فقال له جانشاه: وأين بلادهن؟ فقال له الشيخ نصر: والله يا ولدي ما
أعلم أين بلادهن. ثم إن الشيخ نصر قال له: قُمْ معي، وقوِّ نفسك حتى أُرسِلَك إلى
بلادك مع الطيور، وخلِّ عنك هذا العشق. فلما سمع جانشاه كلامَ الشيخ نصر صرخ صرخة
عظيمة، ووقع مغشيًّا عليه، فلما أفاق قال له: يا والدي، أنا لا أريد الرواح إلى
بلادي حتى أجتمع بهؤلاء البنات، واعلم يا والدي أني ما بقيت أذكر أهلي ولو أموت
بين يديك. ثم بكى وقال: أنا رضيت بأن أنظر وجهَ مَن عشقتها، ولو في السنة مرةً
واحدةً. ثم صعد الزفرات، وأنشد هذه الأبيات:
لَيْتَ
الْخَيَالَ عَلَى الأَحْبَابِ مَا طَرَقَ
وَلَيْتَ هَذَا الْهَوَى لِلنَّاسِ مَا خُلِقَ
لَوْلَا
حَرَارَةُ قَلْبِي مِنْ تَذَكُّرِكُمْ
مَا سَالَ دَمْعِي عَلَى خَدِّي وَلَا انْدَفَقَ
أُصَبِّرُ
الْقَلْبَ فِي يَوْمِي وَلَيْلَتِهِ
وَصَارَ جِسْمِي بِنَارِ الْحُبِّ مُحْتَرِقًا
ثم
إن جانشاه وقع على رجلي الشيخ نصر وقبَّلَهما، وبكى بكاءً شديدًا، وقال له: ارحمني
يرحمك الله، وأَعِنِّي على بلوتي يُعِنْك الله. فقال له الشيخ نصر: يا ولدي، والله
لا أعرف هذه البنات، ولا أدري أين بلادهن، ولكن يا ولدي حيث تولَّعْتَ بإحداهن،
فاقعد عندي إلى مثل هذا العام؛ لأنهن يأتين في السنة القابلة مثل هذا اليوم، فإذا
قربت الأيام التي يأتين فيها، فكُنْ مستخفيًا في البستان تحت شجرة، ولما ينزلن
البحيرة ويسبحن فيها، ويلعبن ويبعدن عن ثيابهن، فخُذْ ثياب التي تريدها منهن، فإذا
نظرْنَك يطلعن على البر ليلبسن ثيابهن، وتقول لك التي أخذت ثيابها بعذوبة كلام،
وحسن ابتسام: أَعْطِني ثيابي يا أخي حتى ألبسها، وأستتر بها. ومتى قبلتَ كلامها
وأعطيتها ثيابها، فإنك لا تبلغ مرادك منها أبدًا، بل تلبس ثيابها وتروح إلى أهلها،
ولا تنظرها بعد ذلك أبدًا؛ فإذا ظفرتَ بثيابها فاحفظها، وحطها تحت إبطك، ولا
تُعْطِها إياها حتى أرجع من ملاقاة الطيور، وأوفِّق بينك وبينها، وأُرسِلك إلى
بلادك وهي معك، وهذا الذي أقدر عليه يا ولدي لا غير. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ
عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 511﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الشيخ نصر قال لجانشاه: احفظ ثياب التي تريدها، ولا
تعطها إياها حتى أرجع من ملاقاة الطيور، وهذا الذي أقدر عليه يا ولدي لا غير. فلما
سمع جانشاه كلام الشيخ نصر اطمأنَّ قلبه، وقعد عنده إلى ثاني عام، وصار يعدُّ
الماضي من الأيام التي تأتي الطيور عقبها؛ فلما جاء ميعاد مجيء الطيور أتى الشيخ
نصر إلى جانشاه، وقال له: اعمل بالوصية التي أوصيتُك بها من أمر ثياب البنات،
فإنني ذاهب إلى ملاقاة الطيور. فقال جانشاه: سمعًا وطاعةً لأمرك يا والدي. ثم ذهب
الشيخ نصر إلى ملاقاة الطيور، وبعد ذهابه قام جانشاه وتمشَّى حتى دخل البستان،
واختفى تحت شجرة بحيث لا يراه أحد، وقعد أول يوم وثاني يوم وثالث يوم فلم تأتِ
إليه البنات، فقلق وصار في بكاء وأنين ناشئ عن قلب حزين، ولم يزل يبكي حتى أُغمِي
عليه، ثم بعد ساعة أفاق وجعل ينظر تارةً إلى السماء، وتارةً ينظر إلى الأرض،
وتارةً ينظر إلى البحيرة، وتارةً ينظر إلى البر، وقلبه يرتجف من شدة العشق. فبينما
هو على هذه الحالة إذ أقبل عليه من الجو ثلاثة طيور في صفة الحمام، ولكن كل حمامة
قدر النسر، ثم إنهن نزلن بجانب البحيرة، وتلفَّتْنَ يمينًا وشمالًا فلم يرين أحدًا
من الإنس، ولا من الجن، فنزعن ثيابهن ونزلن البحيرة، وصرن يلعبن ويضحكن وينشرحن،
وهن عرايا كسبائك الفضة، ثم إن الكبيرة فيهن قالت لهن: أخشى يا أخواتي أن يكون أحد
مختفيًا لنا في هذا القصر. فقالت الوسطى منهن: يا أختي، إن هذا القصر من عهد
سليمان، ما دخله إنس ولا جان. فقالت الصغيرة منهن وهي تضحك: والله يا أخواتي إن
كان أحدٌ مختفيًا في هذا المكان، فإنه لا يأخذ إلا أنا.
ثم
إنهن لعبن وضحكن، وقلب جانشاه يرتجف من فرط الغرام، وهو مختفٍ تحت الشجرة ينظرهن،
وهنَّ لا ينظرنه، ثم إنهن سبحن في الماء حتى وصلن إلى وسط البحيرة، وبعدن عن
ثيابهن، فقام جانشاه على قدمَيْه وهو يجري كالبرق الخاطف، وأخذ ثياب البنت
الصغيرة، وهي التي تعلَّقَ قلبه بها، وكان اسمها شمسة، فلما التفتَتْ رأت جانشاه،
فارتجفت قلوبهن، واستترن منه بالماء، وأتين إلى قرب البر، ثم نظرن إلى وجه جانشاه،
فرأينه كأنه البدر في ليلة تمامه، فقلن له: مَن أنت؟ وكيف أتيت إلى هذا المكان
وأخذت ثياب السيدة شمسة؟ فقال لهن: تعالَيْنَ عندي حتى أحكي لَكُنَّ ما جرى لي.
فقالت السيدة شمسة: ما خبرك؟ ولأي شيء أخذت ثيابي؟ وكيف عرفتني من دون أخواتي؟
فقال لها جانشاه: يا نور عيني، اطلعي من الماء حتى أحكي لك حكايتي، وأخبرك بما جرى
لي، وأعلمك بسبب معرفتي بك. فقالت له: يا سيدي، وقرة عيني، وثمرة فؤادي، أَعْطِني
ثيابي حتى ألبسها وأستتر بها، وأطلع عندك. فقال لي جانشاه: يا سيدة الملاح، ما
يمكن أن أعطيك ثيابك، وأقتل نفسي من الغرام، فلا أعطيك ثيابك إلا إذا أتى الشيخ
نصر ملك الطيور. فلما سمعت السيدة شمسة كلامَ جانشاه قالت له: إنْ كنتَ لا تعطيني
ثيابي، فتأخَّرْ عنَّا قليلًا حتى تطلع أخواتي إلى البر، ويلبسن ثيابهن، ويعطينني
شيئًا أستتر به. فقال لها جانشاه: سمعًا وطاعةً. ثم تمشَّى من عندهن إلى القصر
ودخله، فطلعت السيدة شمسة هي وأخواتها إلى البر، ولبسن ثيابهن.
ثم
إن أخت السيدة شمسة الكبيرة أعطتها ثوبًا من ثيابها لا يمكنها الطيران به،
وألبستها إياه، ثم قامت السيدة شمسة وهي كالبدر الطالع، والغزال الراتع، وتمشَّتْ
حتى وصلت إلى جانشاه، فرأته جالسًا فوق التخت، فسلَّمَتْ عليه، وجلست قريبًا منه،
وقالت له: يا مليح الوجه، أنت الذي قتلتني وقتلت نفسك، ولكن أخبرنا بما جرى لك حتى
ننظر ما خبرك.
فلما
سمع جانشاه كلام السيدة شمسة، بكى حتى بلَّ ثيابه من دموعه، فلما علمت أنه مُغرَم
بحبها قامت على قدمَيْها، وأخذته من يده وأجلسته بجانبها، ومسحت دموعه بكمها،
وقالت له: يا مليح الوجه، دَعْ عنك هذا البكاء، واحكِ لي ما جرى لك. فحكى لها
جانشاه ما جرى له، وأخبرها بما رآه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 512﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن السيدة شمسة قالت لجانشاه: احكِ لي ما جرى لك. فحكى
لها جميع ما جرى له، فلما سمعت السيدة منه ذلك الكلام، تنهَّدَتْ وقالت له: يا
سيدي، إذا كنتَ مغرمًا بي، فأَعْطِني ثيابي حتى ألبسها وأروح أنا وأخواتي إلى
أهلي، وأُعلِمهم بما جرى لك في محبتي، ثم أرجع إليك وأحملك إلى بلادك. فلما سمع
جانشاه منها هذا الكلام بكى بكاءً شديدًا وقال لها: أيحلُّ لكِ من الله أن تقتليني
ظلمًا؟ فقالت له: يا سيدي، بأي سبب أقتلك ظلمًا؟ فقال لها: لأنك متى لبست ثيابك
ورحت من عندي، فإني أموت من وقتي.
فلما
سمعت السيدة شمسة كلامه ضحكت وضحك أخواتها، ثم قالت له: طِبْ نفسًا وقرَّ عينًا،
فلا بد أن أتزوج بك. ومالت عليه، وعانقته وضمَّتْه إلى صدرها، وقبَّلَتْه بين
عينيه وفي خده، وتعانَقَتْ هي وإياه ساعةً من الزمان، ثم افترقَا وجلسَا فوق ذلك
التخت، فقامت أختها الكبيرة، وخرجت من القصر إلى البستان، فأخذت شيئًا من الفواكه
والمشموم وأتت به إليهم، فأكلوا وشربوا وتلذَّذوا وطربوا وضحكوا ولعبوا، وكان
جانشاه بديع الحُسْن والجمال، رشيق القد والاعتدال، فقالت له السيدة شمسة: يا
حبيب، والله أنا أحبك محبة عظيمة، وما بقيت أفارقك أبدًا. فلما سمع جانشاه كلامها
انشرح صدره، وضحك سنه، واستمروا يضحكون ويلعبون.
فبينما
هم في حظ وسرور، وإذا بالشيخ نصر قد أتى من ملاقاة الطيور، فلما أقبل عليهم نهض
الجميع إليه قائمين على أقدامهم، وسلَّموا عليه وقبَّلوا يديه، فرحَّبَ بهم الشيخ
نصر، وقال لهم: اجلسوا. فجلسوا، ثم إن الشيخ نصر قال للسيدة شمسة: إن هذا الشاب
يحبك محبة عظيمة، فبالله عليك أن تتوصِّي به، فإنه من أكابر الناس، ومن أبناء
الملوك، وأبوه يحكم على بلاد كابل، وقد حوى ملكًا عظيمًا. فلما سمعت السيدة شمسة
كلام الشيخ نصر قالت له: سمعًا وطاعةً لأمرك. ثم إنها قبَّلَتْ يدَيِ الشيخ نصر
ووقفت قدامه، فقال لها الشيخ نصر: إنْ كنتِ صادقةً في قولك، فاحلفي لي بالله إنك
لا تخونينه ما دمتِ على قيد الحياة. فحلفت يمينًا عظيمًا أنها لا تخونه أبدًا، ولا
بد أن تتزوَّج به، وبعد أن حلفت قالت: اعلم يا شيخ نصر أني لا أفارقه أبدًا.
فلما
حلفت السيدة شمسة للشيخ نصر صدَّقَ يمينها، وقال لجانشاه: الحمد لله الذي وفَّقَ
بينك وبينها. ففرح جانشاه بذلك فرحًا شديدًا، ثم قعد جانشاه هو والسيدة شمسة عند
الشيخ نصر مدة ثلاثة أشهر في أكل وشرب ولعب وضحك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن
الكلام المباح.
﴿اللیلة 513﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن جانشاه هو والسيدة شمسة قعدا عند الشيخ نصر ثلاثة
أشهر في أكل وشرب ولعب وحظٍّ عظيم، وبعد الثلاثة أشهر قالت السيدة شمسة لجانشاه:
إني أريد أن نروح إلى بلادك وتتزوج بي ونقيم فيها. فقال لها: سمعًا وطاعةً. ثم إن
جانشاه شاوَرَ الشيخ نصر وقال له: إننا نريد أن نروح إلى بلادي. وأخبره بما قالته
السيدة شمسة، فقال لهما الشيخ نصر: اذهبَا إلى بلادك، وتوصَّ بها. فقال جانشاه:
سمعًا وطاعةً. ثم إنها طلبت ثوبها، وقالت: يا شيخ نصر، مُرْه أن يعطيني ثوبي حتى
ألبسه. فقال له: يا جانشاه، أَعْطِها ثيابها. فقال: سمعًا وطاعةً. ثم قام بسرعة
ودخل القصر وأتى بثوبها، وأعطاه لها، فأخذته منه ولبسته، وقالت لجانشاه: اركب فوق
ظهري، وغمض عينَيْك، وسدَّ أذنيك حتى لا تسمع دوي الفلك الدوَّار، وأمسك في ثوبي
الريش وأنت على ظهري بيدَيْك، واحترِسْ على نفسك من الوقوع.
فلما
سمع جانشاه كلامها ركب على ظهرها، ولما أرادت الطيران قال لها الشيخ نصر: قفي حتى
أصف لك بلاد كابل خوفًا عليكما أن تغلطَا في الطريق. فوقفت حتى وصف لها البلاد،
وأوصاها بجانشاه، ثم ودَّعَهما، وودَّعَتِ السيدة شمسة أختَيْها، وقالت لهما:
روحَا إلى أهلكما؛ أَعْلِماهم بما جرى لي مع جانشاه. ثم إنها طارت من وقتها
وساعتها، وصارت في الجو مثل هبوب الريح والبرق اللائح، وبعد ذلك طارت أختاها
وذهبتا إلى أهلهما، وأعلماهم بما جرى للسيدة شمسة مع جانشاه، ومن حين طارت السيدة
شمسة لم تزل طائرة من وقت الضحى إلى وقت العصر، وجانشاه راكب على ظهرها، وفي وقت
العصر لاح لها على بُعْد وادٍ ذو أشجار وأنهار، فقالت لجانشاه: قصدي أن ننزل في
هذا الوادي لنتفرج على ما فيه من الأشجار والنباتات هذه الليلة. فقال لها جانشاه:
افعلي ما تريدين. فنزلت من الجو، وحطت في ذلك الوادي، ونزل جانشاه من فوق ظهرها،
وقبَّلَها بين عينَيْها، ثم جلسَا بجانب نهرٍ ساعةً من الزمان، وبعد ذلك قامَا على
قدميهما، وصارَا دائرين في الوادي يتفرجان على ما فيه، ويأكلان من تلك الأثمار،
ولم يزالا يتفرجان في الوادي إلى وقت المساء، ثم أتيَا إلى شجرة وناما عندها إلى
الصباح. ثم قامت السيدة شمسة وأمرت جانشاه أن يركب على ظهرها، فقال جانشاه: سمعًا
وطاعةً. ثم ركب على ظهرها وطارت به من وقتها وساعتها، ولم تزل طائرة من الصبح إلى
وقت الظهر.
فبينما
هما سائران إذ نظرَا الأمارات التي أخبرهما بها الشيخ نصر، فلما رأت السيدة شمسة
تلك الأمارات، نزلت من أعلى الجو إلى مرجٍ فسيحٍ ذي زرع مليح، فيه غزلان راتعة،
وعيون نابعة، وأثمار يانعة، وأنهار واسعة، فلما نزلت في ذلك المرج نزل جانشاه من
فوق ظهرها، وقبَّلَها بين عينَيْها، فقالت له: يا حبيبي وقرة عيني، أتدري ما
المسافة التي سرناها؟ قال: لا. قالت: مسافة ثلاثين شهرًا. فقال لها جانشاه: الحمد
لله على السلامة. ثم جلس وجلست بجانبه، وقعدَا في أكل وشرب ولعب وضحك. فبينما هما
في هذا الأمر إذ أقبَلَ عليهما مملوكان؛ أحدهما الذي كان عند الخيل لما نزل جانشاه
في مركب الصياد، والثاني من المماليك الذين كانوا معه في الصيد والقنص؛ فلما رأيَا
جانشاه عرفاه، وسلَّمَا عليه، وقالا له: عن إذنك نتوجَّه إلى والدك، ونبشِّرُه
بقدومك. فقال لهما جانشاه: اذهبا إلى أبي، وأعلماه بذلك، وَأْتِيَانا بالخيام،
ونحن نقعد في هذا المكان سبعة أيام لأجل الراحة؛ حتى يجيء الموكب لملاقاتنا، وندخل
في موكب عظيم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 514﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن جانشاه قال للمملوكَيْن: اذهبَا إلى أبي، وأعلمَاه بي،
وَأْتِيَانا بالخيام، ونحن نقعد في هذا المكان سبعة أيام لأجل الراحة حتى يجيء
الموكب لملاقاتنا، وندخل في موكب عظيم. فركب المملوكان خيلهما، وذهبا إلى أبيه
وقالا له: البشارة يا ملك الزمان. فلما سمع الملك طيغموس كلامَ المملوكين، قال
لهما: بأي شيء تبشِّراني؟ هل قَدِمَ ابني جانشاه؟ فقالا: نعم، إن ابنك جانشاه أتى
من غيبته، وهو بالقرب منك في مرج الكراني. فلما سمع الملك كلام المملوكين، فرح
فرحًا شديدًا ووقع مغشيًّا عليه من شدة الفرح، فلما أفاق أمر وزيره أن يخلع على
المملوكين كل واحد خلعة نفيسة، ويعطي كل واحد منهما قدرًا من المال، فقال له
الوزير: سمعًا وطاعةً. ثم قام من وقته، وأعطى المملوكين ما أمره به الملك، وقال
لهما: خذَا هذا المال في نظير البشارة التي أتيتما بها، سواء أكذبتما أم صدقتما.
فقالا المملوكان: نحن ما نكذب، وكنَّا في هذا الوقت قاعدَيْن عنده، وسلَّمْنا
عليه، وقبَّلْنا يديه، وأمَرَنا أن نأتي له بالخيام، وهو يقعد في مرج الكراني سبعة
أيام حتى تذهب الأمراء والوزراء وأكابر الدولة لملاقاته. ثم إن الملك قال لهما:
كيف حال ولدي؟ فقالا له: إن ولدك معه حورية كأنه خرج بها من الجنة. فلما سمع الملك
ذلك الكلام أمر بدق الكاسات والبوقات، فدقت البشائر، وأرسل الملك طيغموس
المبشِّرين في جهات المدينة ليبشِّروا أمَّ جانشاه، ونساء الأمراء والوزراء،
وأكابر الدولة؛ فانتشر المبشِّرون في المدينة، وأعلَمُوا أهلها بقدوم جانشاه، ثم
تجهَّزَ الملك طيغموس بالعساكر والجيوش وتوجَّهَ إلى مرج الكراني.
فبينما
جانشاه جالس والسيدة شمسة بجانبه، وإذا بالعساكر قد أقبلَتْ عليهما، فقام جانشاه
على قدميه، وتمشَّى حتى قَرُبَ منهم، فلما رأته العساكر عرفوه، ونزلوا عن خيلهم،
وترجَّلوا إليه، وسلَّموا عليه، وقبَّلوا يدَيْه، وما زال جانشاه سائرًا والعساكر
قدامه واحدًا بعد واحد، حتى وصل إلى أبيه، فلما نظر الملك طيغموس ولده، رمى نفسه
عن ظهر الفرس وحضنه، وبكى بكاءً شديدًا، ثم ركب وركب ابنه، والعساكر عن يمينه
وشماله، وما زالوا سائرين حتى أتوا إلى جانب النهر، فنزلت العساكر والجيوش، ونصبوا
الخيام والصواوين والبيارق، ودُقَّتِ الطبول، وزمرت الزمور، وضُرِبت الكاسات،
وزعقت البوقات. ثم إن الملك طيغموس أمر الفراشين أن يأتوا بخيمة من الحرير الأحمر،
وينصبوها للسيدة شمسة، ففعلوا ما أمرهم به، وقامت السيدة شمسة وقلعت ثوبها الريش،
وتمشت حتى وصلت إلى تلك الخيمة وجلست فيها. فبينما هي جالسة، وإذا بالملك طيغموس
وابنه جانشاه بجانبه أقبلَا عليها، فلما رأت السيدة شمسة الملك طيغموس قامت على
قدمَيْها، وقبَّلَتِ الأرضَ بين يدَيْه، ثم جلس الملك، وأخذ ولده جانشاه عن يمينه،
والسيدة شمسة عن شماله، ورحَّبَ بالسيدة شمسة، وسأل ابنه جانشاه وقال له: أخبرني
بالذي وقع لك في هذه الغيبة. فحكى له جميع ما جرى من الأول إلى الآخِر، فلما سمع
الملك من ابنه هذا الكلام، تعجَّبَ عجبًا شديدًا، والتفت إلى السيدة شمسة وقال:
الحمد لله الذي وفَّقَكِ حتى جمعتِ بيني وبين ابني، إن هذا لَهُوَ الفضل العظيم.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 515﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن الملك طيغموس قال للسيدة شمسة: الحمد لله الذي وفَّقكِ
حتى جمعتِ بيني وبين ولدي، إن هذا لَهُوَ الفضل العظيم، ولكن أريد منكِ أن تتمني
عليَّ ما تشتهينه حتى أفعله إكرامًا لكِ. فقالت له السيدة شمسة: تمنَّيْتُ عليك
عمارة قصر في وسط بستان، والماء يجري من تحته. فقال: سمعًا وطاعةً. فبينما هما في
الكلام، وإذا بأم جانشاه أقبلت ومعها جميع نساء الأمراء والوزراء، ونساء أكابر
المدينة جميعًا، فلما رآها ولدُها جانشاه خرج من الخيمة وقابلها، وتعانَقَا ساعةً
من الزمان، ثم إن أمه من فرط الفرح أجرت دمع العين، وأنشدت هذين البيتين:
هَجَمَ
السُّرُورُ عَلَيَّ حَتَّى إِنَّهُ مِنْ
فَرْطِ مَا قَدْ سَرَّنِي أَبْكَانِي
يَا
عَيْنُ قَدْ صَارَ الدَّمْعُ مِنْكِ سَجِيَّةً تَبْكِينَ مِنْ فَرَحٍ وَمِنْ أَحْزَانِ
ثم
شكيَا لبعضهما ما قاسياه من البُعْد وألم الشوق، ثم انتقل والده إلى خيمته، وانتقل
جانشاه هو وأمه إلى خيمته، وجلسَا يتحدثان مع بعضهما، فبينما هما جالسان إذ أقبل
المبشِّرون بقدوم السيدة شمسة، وقالوا لأم جانشاه: إن شمسة أتَتْ إليكِ وهي ماشية
تريد أن تسلِّم عليك. فلما سمعت أم جانشاه هذا الكلام، قامت على قدمَيْها وقابلتها
وسلَّمت عليها، وقعدتا ساعة من الزمان، ثم قامت أم جانشاه مع السيدة شمسة، وسارت
هي وإياها ونساء الأمراء وأرباب الدولة، وما زلن سائرات حتى وصلن خيمة السيدة
شمسة، فدخلنها وجلسن فيها. ثم إن الملك طيغموس أجزل العطايا، وأكرم الرعايا، وفرح
بابنه فرحًا شديدًا، ومكثوا في ذلك المكان مدة عشرة أيام في أكل وشرب، وأهنى عيش،
وبعد ذلك أمر الملك عساكره أن يرحلوا، ويتوجهوا إلى المدينة، ثم ركب الملك وركبت
حوله العساكر والجيوش، وسارت الوزراء والحجاب عن يمينه وعن شماله، وما زالوا
سائرين حتى دخلوا المدينة، وذهبت أم جانشاه هي والسيدة شمسة إلى منزلهم، وتزيَّنَتِ
المدينة بأحسن زينة، ودقَّتِ البشائر والكاسات، وزوَّقوا المدينة بالحلي والحلل،
وفرشوا نفيس الديباج تحت سنابك الخيل، وفرح أرباب الدولة وأظهروا التحف، وانبهر
المتفرجون، وأطعموا الفقراء والمساكين، وعملوا فرحًا عظيمًا مدة عشرة أيام، وفرحت
السيدة شمسة فرحًا شديدًا لما رأت ذلك.
ثم
إن الملك طيغموس أرسل إلى البنَّائين والمهندسين وأرباب المعرفة، وأمرهم أن يعملوا
له قصرًا في ذلك البستان، فأجابوه بالسمع والطاعة، وشرعوا في تجهيز ذلك القصر؛ ثم
إنهم أتموه على أحسن حال، وحين علم جانشاه بصدور الأمر ببناء القصر، أمر الصنَّاع
أن يأتوا بعمودٍ من الرخام الأبيض، وأن ينقروه ويجوفوه، ويجعلوه على صورة صندوق،
ففعلوا ما أمرهم به. ثم إن جانشاه أخذ ثوب السيدة شمسة الذي تطير به، وحطَّه في
ذلك العمود، ودفنه في أساس القصر، وأمر البنَّائين أن يبنوا فوقه القناطر التي
عليها القصر، ولما تمَّ القصر فرشوه، وصار قصرًا عظيمًا في وسط ذلك البستان،
والأنهار تجري من تحته. ثم إن الملك طيغموس بعد ذلك عمل عرس جانشاه في تلك المدة،
وصار فرحًا عظيمًا لم يَبْقَ له نظير، وزفوا السيدة شمسة إلى جانشاه، وذهب كل واحد
منهم إلى حال سبيله. ولما دخلت السيدة شمسة في ذلك القصر، شمَّتْ رائحةَ ثوبها
الريش. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 516﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن السيدة شمسة لما دخلت ذلك القصر شمَّتْ رائحةَ ثوبها
الريش الذي تطير به، وعرفت مكانه، وأرادت أخذه، فصبرت إلى نصف الليل حتى استغرق
جانشاه في النوم، ثم قامت وتوجَّهَتْ إلى العمود الذي عليه القناطر، وحفرت بجانبه
حتى وصلت إلى العمود الذي فيه الثوب، وأزالت الرصاص الذي كان مسبوكًا عليه، وأخرجت
الثوب منه، ولبسته وطارت من وقتها، وجلست على أعلى القصر، وقالت لهم: أريد منكم أن
تحضروا إليَّ جانشاه حتى أودِّعه. فأخبروا جانشاه بذلك، فذهب إليها فرآها فوق سطح
القصر، وهي لابسة ثوبها الريش، فقال لها: كيف فعلتِ هذه الفعال؟ فقالت له: يا
حبيبي، وقرة عيني، وثمرة فؤادي، والله إني أحبك محبةً عظيمةً، وقد فرحتُ فرحًا
شديدًا حيث أوصلتُك إلى أرضك وبلادك، ورأيت أمك وأباك، فإن كنتَ تحبني كما أحبك
فتعالَ عندي إلى قلعة جوهر تكني. ثم طارت من وقتها وساعتها، ومضت إلى أهلها.
فلما
سمع جانشاه كلام السيدة شمسة وهي فوق سطح القصر، كاد يموت من الجزع، ووقع مغشيًّا
عليه، فمضوا إلى أبيه وأعلموه بذلك، فركب أبوه وتوجَّهَ إلى القصر، ودخل على ولده
فرآه مطروحًا على الأرض، فبكى الملك طيغموس، وعلم أن ابنه مغرم بحب السيدة شمسة،
فرَشَّ على وجهه ماء ورد، فأفاق، فرأى أباه عند رأسه، فبكى من فراق زوجته، فقال له
أبوه: ما الذي جرى لك يا ولدي؟ فقال: اعلم يا أبي أن السيدة شمسة من بنات الجان،
وأنا أحبها ومُغرَم بها، وقد عشقت جمالها، وكان عندي ثوب لها وهي ما تقدر أن تطير
بدونه، وقد كنت أخذت ذلك الثوب وأخفيته في عمود على هيئة الصندوق، وسبكت عليه
الرصاص، ووضعته في أساس القصر، فحفرت ذلك الأساس وأخذته، ولبسته وطارت، ثم نزلت
على سطح القصر، وقالت: إني أحبك، وقد أوصلتُك إلى أرضك وبلادك، واجتمعت بأبيك
وأمك، فإنْ كنتَ أنت تحبني فتعالَ عندي في قلعة جوهر تكني. ثم طارت من سطح القصر،
وراحت إلى حال سبيلها. فقال الملك طيغموس: يا ولدي، لا تحمل همًّا، فإننا نجمع
أرباب التجارة والسياحين في البلاد، ونستخبرهم عن تلك القلعة، فإذا عرفناها نسير
إليها ونذهب إلى أهل السيدة شمسة، ونرجو من الله تعالى أن يعطوك إياها وتتزوج بها.
ثم
خرج الملك من وقته وساعته، وأمر وزراءه الأربعة، وقال لهم: اجمعوا كلَّ مَن في
المدينة من التجار والمسافرين، واسألوهم عن قلعة جوهر تكني، وكل مَن عرفها ودلَّ
عليها، فإني أعطيه خمسين ألف دينار. فلما سمع الوزراء ذلك الكلام قالوا له: سمعًا
وطاعةً. ثم ذهبوا من وقتهم وساعتهم، وفعلوا ما أمرهم به الملك، وصاروا يسألون
التجار والسياحين في البلاد عن قلعة جوهر تكني، فما أخبرهم بها أحد، فأتوا الملك
وأخبروه بذلك؛ فلما سمع الملك كلامهم قام من وقته وساعته، وأمر أن يأتوا لابنه
جانشاه من السراري الحسان، والجواري ربات الآلات، والمحاظي المطربات بما لا يوجد
مثله إلا عند الملوك؛ لعله يتسلَّى عن حب السيدة شمسة، فأتوه بما طلبه، ثم بعد ذلك
أرسل الملك روادًا وجواسيس إلى جميع البلاد والجزائر والأقاليم ليسألوا عن قلعة
جوهر تكني، فسألوا عنها مدة شهرين، فما أخبرهم بها أحد، فرجعوا إلى الملك وأعلموه
بذلك؛ فبكى بكاءً شديدًا، وذهب إلى ابنه فوجده جالسًا بين السراري والمحاظي وربات
آلات الطرب من الجنك والسنطير وغيرهما، وهو لا يتسلَّى بهن عن السيدة شمسة، فقال
له: يا ولدي، ما وجدتُ مَن يعرف هذه القلعة، وقد أتيتُك بأجمل منها. فلما سمع
جانشاه ذلك الكلام بكى، وأفاض دمع العين، وأنشد هذين البيتين:
تَرَحَّلَ
صَبْرِي وَالْغَرَامُ مُقِيمُ وَجِسْمِي
مِنْ فَرْطِ الْغَرَامِ سَقِيمُ
مَتَّى
تَجْمَعُ الْأَيَّامُ شَمْلِي بِشَمْسَةَ
وَعَظْمِيَ مِنْ حَرِّ الْفِرَاقِ رَمِيمُ
ثم
إن الملك طيغموس كان بينه وبين ملك الهند عداوة عظيمة؛ فإن الملك طيغموس كان عدا
عليه وقتل رجاله وسلب أمواله، وكان ملك الهند يقال له الملك كفيد، وله جيوش وعساكر
وأبطال، وكان له ألف بهلوان، كل بهلوان منهم يحكم على ألف قبيلة، وكل قبيلة من تلك
القبائل تشمل على أربعة آلاف فارس، وكان عنده أربعة وزراء، وتحته ملوك وأكابر
وأمراء، وجيوش كثيرة، وكان يحكم على ألف مدينة، لكل مدينة ألف قلعة، وكان ملكًا
عظيمًا، شديد البأس، وعساكره قد ملأت جميع الأرض. فلما علم الملك كفيد ملك الهند
أن الملك طيغموس اشتغل بحب ابنه، وترك الحكم والملك، وقلَّتْ من عنده العساكر،
وصار في همٍّ ونكدٍ بسبب اشتغاله بحب ابنه، جمع الوزراء والأمراء وأرباب الدولة،
وقال لهم: أَمَا تعلمون أن الملك طيغموس قد هجم على بلادنا، وقتل أبي وإخوتي، ونهب
أموالنا، وما منكم أحد إلا وقد قتل له قريبًا، وأخذ له مالًا، ونهب رزقه، وأسَرَ
أهله، وإني سمعت اليوم أنه مشغول بحب ابنه جانشاه، وقد قلَّتْ من عنده العساكر،
وهذا وقت أخذ ثأرنا منه، فتأهَّبوا للسفر إليه، وجهِّزوا آلات الحرب للهجوم عليه،
ولا تتهاونوا في هذا الأمر، بل نسير إليه ونهجم عليه، ونقتله هو وابنه، ونملك
بلاده. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 517﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن الملك كفيد ملك الهند أمر جيوشه وعساكره أن يركبوا على
بلاد الملك طيغموس، وقال لهم: تأهبوا للسفر، وجهزوا آلات الحرب للهجوم عليه، ولا
تتهاونوا في هذا الأمر، بل نسير إليه ونهجم عليه ونقتله هو وابنه، ونملك بلاده.
فلما سمعوا منه ذلك الكلام قالوا: سمعًا وطاعة. وأخذ كل واحد منهم في تجهيز عدته،
واستمروا في تجهيز العدد والسلاح، وجمع العساكر ثلاثة أشهر، ولما تكاملت العساكر
والجيوش والأبطال دقوا الكاسات، ونفخوا في البوقات، ونصبوا البيارق والرايات، ثم
إن الملك كفيد خرج بالعساكر والجيوش، وسار حتى وصل إلى أطراف بلاد كابل، وهي بلاد
الملك طيغموس، ولما وصلوا إلى تلك البلاد نهبوها، وفسقوا في الرعية، وذبحوا
الكبار، وأسروا الصغار، فوصل الخبر إلى الملك طيغموس، فلما سمع بذلك الخبر اغتاظ
غيظًا شديدًا، وجمع أكابر دولته، ووزراءه وأمراء مملكته، وقال لهم: اعلموا أن كفيد
قد أتى ديارنا، ونزل بلادنا، ويريد قتالنا، ومعه جيوش وأبطال وعساكر لا يعلم عددهم
إلا الله تعالى، فما الرأي عندكم؟ فقالوا له: يا ملك الزمان، الرأي عندنا أننا
نخرج إليه ونقاتله، ونرده عن بلادنا. فقال لهم الملك طيغموس: تجهَّزوا إلى القتال.
ثم أخرج لهم من الزرد والدروع، والخوذ والسيوف، وجميع آلات الحرب، ما يردي
الأبطال، ويتلف صناديد الرجال، فاجتمعت العساكر والجيوش والأبطال وتجهزوا للقتال،
ونصبوا الرايات ودُقَّت الكاسات ونُفِخ في البوقات، وضُرِبت الطبول وزمرت الزمور، وسار
الملك طيغموس بعساكره إلى ملاقاة الملك كفيد، وما زال الملك طيغموس سائرًا
بالعساكر والجيوش حتى قربوا من الملك كفيد، ثم نزل الملك طيغموس على وادٍ يقال له
وادي زهران، وهو في أطراف بلاد كابل.
ثم
إن الملك طيغموس كتب كتابًا وأرسله مع رسول من عسكره إلى الملك، مضمونه: «أما بعد،
فالذي نعلم به الملك كفيد أنك ما فعلت إلا فعل الأوباش، ولو كنتَ ملكًا ابن ملك ما
فعلتَ هذه الفعال، ولا كنتَ تجيء بلادي، وتنهب أموال الناس، وتفسق في رعيتي؛ أَمَا
علمت أن هذا كله جور منك، ولو علمت بأنك تتجارى على مملكتي لَكنتُ أتيتُ قبل مجيئك
بمدة، ومنعتك عن بلادي، ولكن إنْ رجعتَ وتركتَ الشر بيننا وبينك فبها نعمت، وإن لم
ترجع فابرز إليَّ في حومة الميدان، وتجلَّدَ لديَّ في موقف الحرب والطعان». ثم إنه
ختم الكتاب وسلَّمَه لرجل عامل من عسكره، وأرسل معه جواسيس يتجسَّسون له على
الأخبار. ثم إن الرجل أخذ الكتاب وسار به حتى وصل إلى الملك كفيد، فلما قرب من
مكانه رأى خيامًا منصوبة على بُعْد، وهي مصنوعة من الحرير الأطلس، ورأى رايات من
الحرير الأزرق، ورأى بين الخيام خيمة عظيمة من الحرير الأحمر، وحول تلك الخيمة
عسكر عظيم، وما زال سائرًا حتى وصل إلى تلك الخيمة، فسأل عنها فقيل له: إنها خيمة
الملك كفيد. فنظر الرجل إلى وسط الخيمة، فرأى الملك كفيد جالسًا على كرسي مرصَّع
بالجواهر، وعنده الوزراء والأمراء وأرباب الدولة؛ فلما رأى ذلك أظهر الكتاب في
يده، فذهب إليه جماعة من عسكر الملك كفيد وأخذوا الكتاب منه، وأتوا به أمام الملك،
فأخذه الملك، فلما قرأه وعرف معناه، كتب له جوابًا مضمونه: «أما بعد، فالذي نعلم
به الملك طيغموس أنه لا بد من أننا نأخذ الثأر، ونكشف العار، ونخرب الديار، ونهتك
الأستار، ونقتل الكبار، ونأسر الصغار، وفي غدٍ أبرز إلى القتال في الميدان حتى
أريك الحرب والطعان». ثم ختم الكتاب وسلَّمَه لرسول الملك طيغموس، فأخذه وسار.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 518﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن الملك كفيد سلَّمَ جواب الكتاب الذي أرسله إليه الملك
طيغموس لرسوله، فأخذه ورجع، فلما وصل إليه قبَّلَ الأرض بين يدَيْه، ثم أعطاه
الكتاب، وأخبره بما رآه، وقال له: يا ملك، إني رأيتُ فرسانًا وأبطالًا ورجالًا لا
يُحصَى لهم عدد، ولا ينقطع لهم مدد. فلما قرأ الكتاب وفهم معناه، غضب غضبًا
شديدًا، وأمر وزيره عين زار أن يركب ومعه ألف فارس، ويهجم على عسكر الملك كفيد في
نصف الليل، وأن يخوضوا فيهم ويقتلوهم؛ فقال له الوزير عين زار: سمعًا وطاعة. ثم
ركب وركبت معه العساكر والجيوش، وساروا نحو الملك كفيد، وكان للملك كفيد وزيرٌ
يقال له غطرفان، فأمره أن يركب ويأخذ معه خمسة آلاف فارس، ويذهب بهم إلى عسكر
الملك طيغموس، ويهجموا عليهم ويقتلوهم، فركب الوزير غطرفان، وفعل ما أمره به الملك
كفيد، وسار بالعسكر نحو الملك طيغموس، وما زالوا سائرين إلى نصف الليل حتى قطعوا
نصف الطريق، فإذا الوزير غطرفان وقع في الوزير عين زار، فصاحت الرجال على الرجال،
ووقع بنيهم شديد القتال، وما زال يقاتل بعضهم بعضًا إلى وقت الصباح.
فلما
أصبح الصباح، انهزمت عساكر الملك كفيد، وولَّوْا هاربين إليه، فلما رأى ذلك غضب
غضبًا شديدًا، وقال لهم: يا ويلكم، ما الذي أصابكم حتى فقدتم أبطالكم؟ فقالوا له:
يا ملك الزمان، إنه لما ركب الوزير غطرفان، وسرنا نحو الملك طيغموس، لم نزل سائرين
إلى أن نصفنا الليل، وقطعنا نصف الطريق، فقابلنا عين زار وزير الملك طيغموس، وأقبل
علينا ومعه جيوش وأبطال، وكانت المقابلة بجنب وادي زهران، فما نشعر إلا ونحن في
وسط العسكر، ووقعت العين على العين، وقاتلنا قتالًا شديدًا من نصف الليل إلى
الصباح، وقد قُتِل خلق كثير، وصار الوزير عين زار يصيح في وجه الفيل ويضربه، فيجفل
الفيل من شدة الضربة، ويدوس الفرسان، ويولي هاربًا، وما بقي أحد ينظر أحدًا من
كثرة ما يطير من الغبار، وصار الدم يجري كالتيار، ولولا أننا أتينا هاربين لكنَّا
قُتِلنا عن آخرنا.
فلما
سمع الملك كفيد هذا الكلام، قال: لا باركت فيكم الشمس، بل غضبت عليكم غضبًا
شديدًا. ثم إن الوزير عين زار رجع إلى الملك طيغموس، وأخبره بذلك، فهنَّأه الملك
طيغموس بالسلامة، وفرح فرحًا شديدًا، وأمر بدق الكاسات، والنفخ في البوقات، ثم
تفقَّدَ عسكره، فإذا هم قد قُتِل منهم مائتا فارس من الشجعان الشداد. ثم إن الملك
كفيد هيَّأ عسكره وجنوده وجيوشه وأتى الميدان، واصطفوا صفًّا بعد صف، فكمَّلوا
خمسة عشر صفًّا، كل صف عشرة آلاف فارس، وكان معه ثلاثمائة بهلوان يركبون على
الأفيال، وقد انتخب الأبطال وصناديد الرجال، ونصب البيارق والرايات، ودُقَّت الكاسات،
ونُفِخ في البوقات، وبرز الأبطال طالبين القتال؛ وأما الملك طيغموس فإنه صفَّ
عسكره صفًّا بعد صف، فإذا هم عشرة صفوف، في كل صف عشرة آلاف فارس، وكان معه مائة
بهلوان يركبون عن يمينه وشماله، ولما اصطفت الصفوف تقدَّمَ كل فارس موصوف، وتصادمت
الجيوش، وضاق رحب الأرض عن الخيل، وضُربت الطبول، وزمرت الزمور، ودُقت الكاسات،
ونُفخ في البوقات، وصاح النفير، وصُمَّت الآذان من صهيل الخيل في الميدان، وصاحت
الرجال بأصواتهم، وانعقد الغبار على رءوسهم، واقتتلوا قتالًا شديدًا من أول النهار
إلى أن أقبل الظلام، ثم افترقوا وذهبت العساكر إلى منازلهم. وأدرك شهرزاد الصباح
فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 519﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن العساكر افترقوا وذهبوا إلى منازلهم، فتفقَّدَ الملك
كفيد عسكره، فإذا هم قد قُتِل منهم خمسة آلاف، فغضب غضبًا شديدًا، وتفقَّدَ الملك طيغموس
عسكره فإذا هم قد قُتِل منهم ثلاثة آلاف فارس من خواص شجعانه، فلما رأى ذلك غضب
غضبًا شديدًا. ثم إن الملك كفيد برز إلى الميدان ثانيًا، وفعل كما فعل أول مرة،
وكل واحد منهما يطلب النصر لنفسه، وصاح الملك كفيد على عسكره، وقال: هل فيكم مَن
يبرز إلى الميدان، ويفتح لنا باب الحرب والطعان؟ فإذا بطلٌ يقال له بركيك، قد أقبل
راكبًا على فيل، وكان بهلوانًا عظيمًا، ثم تقدَّمَ ونزل من فوق ظهر الفيل، وقبَّلَ
الأرض بين يدَيِ الملك كفيد، واستأذنه في البراز، ثم ركب الفيل وساقه إلى الميدان،
وصاح وقال: هل من مبارز؟ هل من مناجز؟ هل من مقاتل؟
فلما
سمع ذلك الملك طيغموس التفت إلى عسكره، وقال لهم: مَن يبرز إلى هذا البطل منكم؟
فإذا فارس قد برز من بين الصفوف راكبًا على جواد عظيم الخلقة، وسار حتى أقبل على
الملك طيغموس، وقبَّلَ الأرض قدامه، واستأذنه في المبارزة، ثم توجَّهَ إلى بركيك، فلما
أقبل عليه قال له: مَن تكون أنت حتى تستهزأ بي، وتبرز إليَّ وحدك؟ وما اسمك؟ فقال
له: اسمي غضنفر بن كمخيل. فقال له بركيك: كنت أسمع بك وأنا في بلادي، فدونك
والقتال بين صفوف الأبطال. فلما سمع غضنفر كلامه سحب العود الحديد من تحت فخذه،
وقد أخذ بركيك السيف في يده، وتقاتَلَا قتالًا شديدًا، ثم إن بركيك ضرب غضنفر
بالسيف فأتت الضربة في خوذته، ولم يصبه منها ضرر، فلما رأى ذلك غضنفر، ضربه بالعود
فاستوى لحمه بلحم الفيل، فأتاه شخص وقال له: مَن أنت حتى تقتل أخي؟ ثم أخذ نبلة في
يده، وضرب بها غضنفر فأصابت فخذه، فسمرت الدرع فيه، فلما رأى ذلك غضنفر جرَّدَ
السيف في يده، وضربه فقسمه نصفين، فنزل إلى الأرض يخور في دمه.
ثم
إن غضنفر ولى هاربًا نحو الملك طيغموس، فلما رأى ذلك الملك كفيد صاح على عسكره
وقال لهم: انزلوا الميدان، وقاتلوا الفرسان. ونزل الملك طيغموس بعسكره وجيوشه،
وقاتلوا قتالًا شديدًا وقد صهلت الخيل على الخيل، وصاحت الرجال على الرجال،
وتجرَّدَتِ السيوف، وتقدَّمَ كل فارس موصوف، وحملت الفرسان على الفرسان، وفرَّ
الجبان من موقف الطعان، ودقت الكاسات، ونفخ في البوقات، فما تسمع الناس إلا ضجة
صياح، وقعقعة سلاح، وهلك في ذلك الوقت من الأبطال مَن هلك، وما زالوا على هذا
الحال إلى أن صارت الشمس في قبة الفلك. ثم إن الملك طيغموس انفرق بعسكره وجيوشه،
وعاد لخيامه، وكذلك الملك كفيد. ثم إن الملك طيغموس تفقَّدَ رجاله فوجدهم قد قُتِل
منهم خمسة آلاف فارس، وانكسرت منهم أربعة بيارق، فلما علم الملك طيغموس ذلك غضب
غضبًا شديدًا؛ وأما الملك كفيد فإنه تفقَّدَ عسكره فوجدهم قد قُتِل منهم ستمائة
فارس من خواص شجعانه، وانكسرت منهم تسعة بيارق، ثم ارتفع القتال من بينهم مدة
ثلاثة أيام، وبعد ذلك كتب الملك كفيد كتابًا، وأرسله مع رسولٍ من عسكره إلى ملكٍ
يقال له فاقون الكلب، فذهب الرسول إليه، وكان كفيد يدَّعِي أنه قريبه من جهة أمه.
فلما علم الملك فاقون بذلك جمع عسكره وجيوشه، وتوجَّهَ إلى الملك كفيد. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 520﴾
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك فاقون جمع عساكره وجيوشه، وتوجَّهَ إلى الملك كفيد، فبينما الملك طيغموس جالس في حظه إذ أتاه شخص، وقال له: إني رأيت غبرة ثائرة على بُعْد قد ارتفعت إلى الجو، فأمر الملك طيغموس جماعة من عسكره أن يكشفوا عن خبر تلك الغبرة، فقالوا: سمعًا وطاعة. ثم ذهبوا ورجعوا وقالوا: أيها الملك، قد رأينا الغبرة وبعد ساعة ضربها الهواء وقطعها، وبان من تحتها بيارق، تحت كل بريق ثلاثة آلاف فارس، وساروا إلى ناحية الملك كفيد. ولما وصل الملك فاقون الكلب إلى الملك كفيد، سلَّمَ عليه وقال له: ما خبرك؟ وما هذا القتال الذي أنت فيه؟ فقال له الملك كفيد: أَمَا تعلم أن الملك طيغموس عدوي وقاتَلَ إخوتي وأبي؟ وأنا قد جئتُه لأقاتله، وآخذ بثأري منه. فقال الملك فاقون: باركت الشمس فيك. ثم إن الملك كفيد أخذ الملك فاقون الكلب وذهب به إلى خيمته، وفرح فرحًا شديدًا. هذا ما كان من أمر الملك طيغموس والملك كفيد.
وأما
ما كان من أمر الملك جانشاه، فإنه استمر شهرين وهو لم ينظر أباه، ولم يأذن بالدخول
عليه لأحد من الجواري اللاتي كن في خدمته، فحصل له بذلك قلق عظيم، فقال لبعض
أتباعه: ما خبر أبي حتى إنه لم يأتني؟ فأخبروه بما جرى لأبيه مع الملك كفيد، فقال:
ائتوني بجوادي حتى أذهب إلى أبي. فقالوا له: سمعًا وطاعة. وأتوه بالجواد، فلما حضر
جواده قال في نفسه: أنا مشغول بنفسي، فالرأي أن آخذ فرسي وأسير إلى مدينة اليهود،
وإذا وصلتُ إليها يهون الله عليَّ بذلك التاجر الذي استأجرني للعمل، لعله يفعل بي
مثل ما فعل أول مرة، وما يدري أحد أين تكون الخيرة! ثم إنه ركب وأخذ معه ألف فارس،
وسار حتى صار الناس يقولون: إن جانشاه ذاهب إلى أبيه ليقاتل معه. وما زالوا سائرين
إلى وقت المساء، ثم نزلوا في مرج عظيم، وباتوا بذلك المرج، فلما ناموا، وعلم
جانشاه أن عسكره ناموا كلهم، قام في خفية وشد وسطه، وركب جواده، وسار إلى طريق
بغداد؛ لأنه كان سمع من اليهود أنه تأتيهم في كل سنتين قافلة من بغداد، وقال في
نفسه: إذا وصلتُ إلى بغداد أسير مع القافلة حتى أصل إلى مدينة اليهود. وصمَّمَتْ
نفسه على ذلك، وسار إلى حال سبيله، فلما استيقظ العساكر من نومهم، ولم يروا جانشاه
ولا جواده، ركبوا وساروا يفتشون على جانشاه يمينًا وشمالًا، فلم يجدوا له خبرًا،
فرجعوا إلى أبيه وأعلموه بما فعل ابنه؛ فغضب غضبًا شديدًا، وكاد الشرار يطلع من
فيه، ورمى بتاجه من فوق رأسه، وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، قد فقدتُ ولدي
والعدو قبالتي. فقال له الملوك والوزراء: اصبر يا ملك الزمان، فما بعد الصبر إلا
الخير. ثم إن جانشاه صار من أجل أبيه وفراقِ محبوبته حزينًا مهمومًا، جريحَ القلب،
قريحَ العين، سهرانَ الليل والنهار. وأما أبوه فإنه لما علم بفَقْد جميع عساكره
وجيوشه، رجع عن حرب عدوه، وتوجَّهَ إلى مدينته، ودخلها وغلق أبوابها، وحصَّنَ
أسوارها، وصار هاربًا من الملك كفيد، وصار كفيد في كل شهر يجيء المدينة طالبًا
القتال والخصام، ويقعد عليها سبع ليالٍ وثمانية أيام، وبعد ذلك يأخذ عسكره ويرجع
بهم إلى الخيام ليداووا المجروحين من الرجال. فأما أهل مدينة الملك طيغموس، فإنهم
عند انصراف العدو عنهم يشتغلون بإصلاح السلاح، وتحصين الأسوار، وتهيئة المنجنيقات،
ومكث الملك طيغموس والملك كفيد على هذه الحالة سبع سنين، والحرب مستمرة بينهما.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 521﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن الملك طيغموس مكث هو والملك كفيد على هذه الحالة سبع
سنين. هذا ما كان من أمرهما، وأما ما كان من أمر جانشاه، فإنه لم يزل سائرًا يقطع
البراري والقفار، وكلما وصل إلى بلد من البلاد، سأل عن قلعة جوهر تكني، فلم يخبره
أحد بها، وإنما يقولون له: إننا لم نسمع بهذا الاسم أصلًا. ثم إنه سأل عن مدينة
اليهود، فأخبره رجل من التجار أنها في أطراف بلاد المشرق، وقال له: في هذا الشهر،
سِرْ معنا إلى مدينة مزرقان وهي في الهند، ومن تلك المدينة نذهب إلى خراسان، ثم
نسافر من هناك إلى مدينة شمعون، ومنها إلى خوارزم، وتبقى مدينة اليهود قريبة من
خوارزم، فإن بينها وبينها مسافة سنةٍ وثلاثةِ أشهر، فصبر جانشاه حتى سافرَتِ
القافلة، وسافَرَ معها إلى أن وصل إلى مدينة مزرقان، ولما دخل تلك المدينة صار
يسأل عن قلعة جوهر تكني فلم يخبره بها أحد، وسافرت القافلة وسافر معها إلى الهند،
ودخل المدينة وسأل عن قلعة جوهر تكني، فلم يخبره بها أحد، وقالوا له: ما سمعنا
بهذا الاسم أصلًا. وقاسى في الطريق شدةً عظيمة، وأهوالًا صعبة، وجوعًا وعطشًا.
ثم
سافَرَ من الهند ولم يزل مسافرًا حتى وصل إلى بلاد خراسان، وانتهى إلى مدينة
شمعون، ودخلها وسأل عن مدينة اليهود، فأخبروه عنها ووصفوا له طريقها، فسافَرَ
أيامًا وليالي حتى وصل إلى المكان الذي هرب فيه من القِرَدة، ثم مشى أيامًا وليالي
حتى وصل إلى النهر الذي بجانب مدينة اليهود، وجلس على شاطئه، وصبر إلى يوم السبت
حتى نشف بقدرة الله تعالى، فعدَّى منه وذهب إلى بيت اليهودي الذي كان فيه أول مرة،
فسلَّمَ عليه هو وأهل بيته؛ ففرحوا به وأتوه بالأكل والشرب، ثم قالوا له: أين كانت
غيبتك؟ فقال لهم: في ملك الله تعالى. ثم بات تلك الليلة عندهم، ولما كان الغد دارَ
في المدينة يتفرَّج، فرأى مناديًا ينادي ويقول: يا معاشر الناس، مَن يأخذ ألف
دينار وجارية حسنة، ويعمل عندنا شغل نصف يوم؟ فقال جانشاه: أنا أعمل هذا الشغل.
فقال له المنادي: اتبعني. فتبعه حتى وصل إلى بيت اليهودي التاجر الذي وصل إليه أول
مرة، ثم قال المنادي لصاحب البيت: إن هذا الولد يعمل الشغل الذي تريد. فرحَّبَ به
التاجر، وقال له: مرحبًا بك، وأخذه ودخل به إلى الحريم، وأتاه بالأكل والشرب، فأكل
جانشاه وشرب. ثم إن التاجر قدَّمَ له الدنانير والجارية الحسنة، وبات معها تلك
الليلة، ولما أصبح الصباح أخذ الدنانير والجارية وسلَّمَها لليهودي الذي بات في
بيته أول مرة، ثم رجع إلى التاجر صاحب الشغل، فركب معه وسارَا حتى وصلَا إلى جبلٍ
عالٍ شاهق في العلو.
ثم
إن التاجر أخرج حبلًا وسكينًا وقال لجانشاه: ارم هذه الفرس على الأرض. فرماها
وكتَّفَها بالحبل، وذبحها وسلخها، وقطع قوائمها ورأسها، وشقَّ بطنها كما أمره
التاجر، ثم قال التاجر لجانشاه: ادخل بطن هذا الفرس حتى أخيطه عليك، ومهما رأيته
فيه فقل لي عليه، فهذا الشغل الذي أخذتَ أجرته. فدخل جانشاه بطن الفرس وخاطه عليه
التاجر، ثم ذهب إلى محل بعيد عن الفرس واختفى فيه، وبعد ساعة أقبل طير عظيم ونزل
من الجو، وخطف الفرس، وارتفع بها إلى عنان السماء، ثم نزل على رأس الجبل، فلما
استقر على رأس الجبل أراد أن يأكل الفرس، فلما أحسَّ به جانشاه شقَّ بطن الفرس
وخرج، فجفل الطير منه وطار إلى حال سبيله، فطلع جانشاه ونظر إلى التاجر، فرآه
واقفًا تحت الجبل مثل العصفور، فقال له: ما تريد أيها التاجر؟ فقال له: ارمِ لي
بشيء من هذه الحجارة التي حواليك حتى أدلك على الطريق التي تنزل منها. فقال
جانشاه: أنت الذي فعلتَ بي كيت وكيت من مدة خمس سنين، وقد قاسيتُ جوعًا وعطشًا،
وحصل لي تعبٌ عظيم، وشرٌّ كثير، وها أنت عدتَ بي إلى هذا المكان، وأردت هلاكي،
والله لا أرمي لك بشيء. ثم إن جانشاه سار وقصد الطريق التي توصل إلى الشيخ نصر ملك
الطيور. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 522﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن جانشاه سار وقصد الطريق التي توصل إلى الشيخ نصر ملك
الطيور، ولم يزل سائرًا أيامًا وليالي وهو باكي العين، حزين القلب، وإذا جاع يأكل
من نبات الأرض، وإذا عطش يشرب من أنهارها، حتى وصل إلى قصر السيد سليمان، فرأى
الشيخ نصر جالسًا على باب القصر، فأقبل عليه وقبَّلَ يديه، فرحَّبَ به الشيخ
وسلَّم عليه، ثم قال له: يا ولدي، ما خبرك حتى جئتَ هذا المكان؟ وكنتَ قد
توجَّهْتَ من هنا مع السيدة شمسة، وأنت قرير العين، منشرح الصدر. فبكى جانشاه،
وحكى له ما جرى من السيدة شمسة لما طارت، وقالت له: إنْ كنتَ تحبني تعال عندي في
قلعة جوهر تكني. فتعجَّبَ الشيخ نصر من ذلك، وقال: والله يا ولدي ما أعرفها وحقِّ
السيد سليمان، ولا سمعتُ بهذا الاسم طول عمري. فقال جانشاه: كيف أعمل وقد متُّ من
العشق والغرام؟ فقال له الشيخ نصر: اصبر حتى تأتي الطيور، ونسألهم عن قلعة جوهر
تكني؛ لعل أحدًا منهم يعرفها. فاطمأن قلب جانشاه، ودخل القصر، وذهب إلى المقصورة
المشتملة على البحيرة التي رأى فيها البنات الثلاث، ومكث عند الشيخ نصر مدة من
الزمان.
فبينما
هو جالس على عادته، إذ قال له الشيخ نصر: يا ولدي، إنه قد قرب مجيء الطير. ففرح
جانشاه بذلك الخبر، ولم تمضِ إلا أيام قلائل حتى أقبلت الطيور، فجاء الشيخ جانشاه،
وقال له: يا ولدي، تعلم هذه الأسماء وأقبل على الطيور. فجاءت وسلَّمَتْ على الشيخ نصر
نوعًا بعد نوع، ثم سألها عن قلعة جوهر تكني، فقال كل منها: ما سمعت بهذه القلعة
طول عمري. فبكى جانشاه، وتحسَّرَ ووقع مغشيًّا عليه، فطلب الشيخ نصر طيرًا عظيمًا،
وقال له: أوصل هذا الشاب إلى بلاد كابل. ووصف له البلاد وطريقها، فقال له: سمعًا
وطاعة. ثم ركب جانشاه على ظهره، وقال له: احترس على نفسك، وإياك أن تميل فتتقطع في
الهواء، وسدَّ أذنَيْك من الريح؛ لئلا يضرك جري الأفلاك، ودوي البحار. فقبِلَ
جانشاه ما قاله الشيخ نصر، ثم اقتلع الطير، وعلا به إلى الجو، وسار به يومًا
وليلة، ثم نزل به عند ملك الوحوش، واسمه شاه بدري، فقال الطير لجانشاه: قد تهنا عن
البلاد التي وصفها لنا الشيخ نصر. وأراد أن يأخذ جانشاه ويطير به، فقال له جانشاه:
اذهب إلى حال سبيلك، واتركني في هذه الأرض حتى أموت فيها، أو أصل إلى بلادي. فتركه
الطير عند ملك الوحوش شاه بدري، وذهب إلى حال سبيله. ثم إن شاه بدري سأله وقال له:
يا ولدي، مَن أنت؟ ومن أين أقبلتَ مع هذا الطير العظيم؟ وما حكايتك؟ فحكى له جميع
ما جرى له من الأول إلى الآخِر، فتعجَّبَ ملك الوحوش من حكايته، وقال له: وحقِّ
السيد سليمان إني ما أعرف هذه القلعة، وكل مَن دلَّنا عليها نكرمه، ونرسلك إليها.
فبكى جانشاه بكاءً شديدًا، وصبر مدة قليلة، وبعدها أتاه ملك الوحوش وهو شاه بدري،
وقال له: قُمْ يا ولدي، وخذ هذه الألواح، واحفظ الذي فيها، وإذا أتَتِ الوحوش
نسألها عن تلك القلعة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 523﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن شاه بدري ملك الوحوش قال لجانشاه: احفظ ما في هذه
الألواح، وإذا جاءت الوحوش نسألها عن تلك القلعة، فما مضى غير ساعة حتى أقبلت
الوحوش نوعًا بعد نوع، وصاروا يسلِّمون على الملك شاه بدري، ثم إنه سألهم عن قلعة
جوهر تكني، فقالوا له جميعًا: ما نعرف هذه القلعة، ولا سمعنا بها. فبكى جانشاه،
وتأسَّفَ على عدم ذهابه مع الطير الذي أتى به من عند الشيخ نصر، فقال له ملك
الوحوش: يا ولدي، لا تحمل همًّا، إنَّ لي أخًا أكبر مني يقال له الملك شماخ، وكان
أسيرًا عند السيد سليمان؛ لأنه كان عاصيًا عليه، وليس أحد من الجن أكبر منه هو
والشيخ نصر، فلعله يعرف هذه القلعة، وهو يحكم على الجان الذين في هذه البلاد. ثم
ركَّبَه ملك الوحوش على ظهر وحش منها، وأرسل معه كتابًا إلى أخيه بالوصية عليه، ثم
إن ذلك الوحش سار من وقته وساعته، ولم يزل سائرًا بجانشاه أيامًا وليالي حتى وصل
إلى الملك شماخ، فوقف ذلك الوحش في مكانٍ وحده بعيدًا عن الملك، ثم نزل جانشاه من
فوق ظهره، وصار يتمشَّى حتى وصل إلى حضرة الملك شماخ، فقبَّلَ يدَيْه وناوله
الكتاب، فقرأه وعرف معناه، ورحَّبَ به وقال له: والله يا ولدي إن هذه القلعة عمري
ما سمعتُ بها، ولا رأيتها. فبكى جانشاه وتحسَّرَ، فقال له الملك شمساخ: احكِ لي
حكايتك، وأخبرني مَن أنت، ومن أين أتيتَ، وإلى أين تذهب؟ فأخبره بجميع ما جرى له
من الأول إلى الآخِر، فتعجَّبَ شماخ من ذلك، وقال له: يا ولدي، ما أظن أن السيد
سليمان في عمره سمع بهذه القلعة ولا رآها، ولكن يا ولدي أنا أعرف راهبًا في الجبل
وهو كبير في العمر، وقد أطاعته جميع الطيور والوحوش والجان من كثرة أقسامه؛ لأنه
ما زال يتلو الأقسام على ملوك الجن حتى أطاعوه قهرًا عنهم من شدة تلك الأقسام
والسحر الذي عنده، وجميع الطيور والوحوش تسير إلى خدمته، وها أنا قد كنتُ عصيتُ
السيد سليمان فهو أسرني عنده، وما غلبني سوى هذا الراهب من شدة مكره وأقسامه
وسحره، وقد بقيت في خدمته، واعلم أنه ساحَ في جميع البلاد والأقاليم، وعرف الطرق
والجهات والأماكن والقلاع والمدائن، وما أظن أنه يخفى عليه مكان؛ فأنا أرسلك إليه
لعلَّه يدلُّك على هذه القلعة، وإنْ لم يدلُلْكَ هو عليها فما يدلك عليها أحد؛
لأنه قد أطاعته الطيور والوحوش والجان، وكلهم يأتونه، ومن شدة سحره قد اصطنع له
عكازة ثلاث قطع، فيغرزها في الأرض ويتلو القسم على القطعة الأولى من العكازة،
فيخرج منها لحم، ويخرج منها دم، ويتلو القسم على القطعة الثانية فيخرج منها لبن،
ويتلو القسم على القطعة الثالثة فيخرج منها قمح وشعير، وبعد ذلك يخرج العكازة من
الأرض، ثم يذهب إلى ديره، وديره يُسمَّى دير الماس، وهذا الراهب الكاهن يخرج من
يده اختراع كل صنعة غريبة، وهو ساحر كاهن ماكر مخادع خبيث، واسمه يغموس، وقد حوى
جميعَ الأقسام والعزائم، ولا بد من أن أرسلك إليه مع طير عظيم له أربعة أجنحة.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 524﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن الملك شماخ قال لجانشاه: ولا بد من أن أرسلك إلى
الراهب مع طير عظيم له أربعة أجنحة. ثم ركَّبَه على ظهر طير عظيم له أربعة أجنحة،
طول كل جناح منها ثلاثون ذراعًا بالهاشمي، وله أرجل مثل أرجل الفيل، لكنه لا يطير
في السنة إلا مرتين، وكان عند الملك شماخ عون يقال له طمشون، كل يوم يختطف لهذا
الطير بخنيتين من بلاد العراق، ويفسخهما له ليأكلهما، فلما ركب جانشاه على ظهر ذلك
الطير، أمره شماخ أن يوصله إلى الراهب يغموس. فأخذه على ظهره، وسار به ليالي
وأيامًا حتى وصل إلى جبل القلع ودير الماس، فنزل جانشاه عند ذلك الدير، فرأى يغموس
الراهب داخل الكنيسة وهو يتعبَّد فيها، فتقدَّمَ جانشاه إليه، وقبَّلَ الأرض، ووقف
بين يدَيْه، فلما رآه الراهب قال له: مرحبًا بك يا ولدي، يا غريب الديار، وبعيد
المزار، أخبرني ما سبب مجيئك هذا المكان. فبكى جانشاه، وحكى له حكايته من الأول
إلى الآخِر؛ فلما سمع الراهب الحكايةَ تعجَّبَ منها غاية العجب، وقال له: والله يا
ولدي عمري ما سمعتُ بهذه القلعة، ولا رأيتُ مَن سمع بها أو رآها، مع أني كنتُ
موجودًا على عهد نوح نبي الله، وحكمتُ من عهد نوح إلى زمن السيد سليمان بن داود
على الوحوش والطيور والجن، وما أظن أن سليمان سمع بهذه القلعة، ولكن اصبر يا ولدي
حتى تأتي الطيور والوحوش، وعون الجان، وأسألهم لعل أحدًا منهم يخبرنا بها، ويأتينا
بخبرٍ عنها، ويهوِّن الله تعالى عليك.
فقعد
جانشاه مدة من الزمان عند الراهب، فبينما هو قاعد إذ أقبلت عليه الطيور والوحوش
والجان أجمعون، وصار جانشاه والراهب يسألونهم عن قلعة جوهر تكني، فما أحد منهم قال
أنا رأيتها أو سمعت بها، بل كان كل منهم يقول: لا رأيت هذه القلعة، ولا سمعت بها.
فصار جانشاه يبكي وينوح ويتضرَّع إلى الله تعالى، وبينما هو كذلك إذا بطير قد
أقبَلَ آخِر الطيور، وهو أسود اللون، عظيم الخلقة، ولما نزل من أعلى الجو جاء
وقبَّلَ يدَيِ الراهب، فسأله الراهب عن قلعة جوهر تكني، فقال له الطير: أيها
الراهب، إننا كنَّا ساكنين خلف قاف بجبل البلور في برٍّ عظيم، وكنتُ أنا وإخوتي
فراخًا صغارًا، وأبي وأمي كانا يسرحان في كل يوم يجيئان برزقنا، فاتفق أنهما سرحا
يومًا من الأيام، وغابا عنَّا سبعة أيام، فاشتدَّ علينا الجوع، ثم أتيا في اليوم
الثامن وهما يبكيان، فقلنا لهما: ما سبب غيابكما عنَّا؟ فقالا: إنه خرج علينا مارد
فخطفنا، وذهب بنا إلى قلعة جوهر تكني، وأوصلنا إلى الملك شهلان، فلما رآنا الملك
شهلان أراد قتلنا، فقلنا له: إن وراءنا فراخًا صغارًا، فأعتقنا من القتل. ولو كان
أبي وأمي في قيد الحياة لَكانا أخبراكم عن القلعة. فلما سمع جانشاه هذا الكلام بكى
بكاءً شديدًا، وقال للراهب: أريد منك أن تأمر هذا الطير أن يوصلني إلى نحو وكر
أبيه وأمه في جبل البلور خلف جبل قاف. فقال الراهب للطير: أيها الطير، أريد منك أن
تطيع هذا الولد في جميع ما يأمرك به. فقال الطير للراهب: سمعًا وطاعةً لما تقول.
ثم إن ذلك الطير أركب جانشاه على ظهره وطار، ولم يزل طائرًا به أيامًا وليالي حتى
أقبَلَ على جبل البلور، ثم نزل به هناك، ومكث برهة من الزمان، ثم أركبه على ظهره
وطار، ولم يزل طائرًا به مدة يومين حتى وصل إلى الأرض التي فيها الوكر. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 525﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن الطير لم يزل طائرًا بجانشاه مدة يومين حتى وصل به إلى
الأرض التي فيها الوكر، ونزل به هناك، ثم قال له: يا جانشاه، هذا الوكر الذي كنَّا
فيه. فبكى جانشاه بكاءً شديدًا، وقال للطير: أريد منك أن تحملني وتوصلني إلى
الناحية التي كان أبوك وأمك يذهبان إليها ويجيئان منها بالرزق. فقال له الطير:
سمعًا وطاعةً يا جانشاه. ثم حمله وطار به، ولم يزل طائرًا سبع ليالٍ وثمانية أيام
حتى وصل به إلى جبلٍ عالٍ، ثم أنزله من فوق ظهره، وقال له: ما بقيت أعرف وراء هذا
المكان أرضًا. فغلب على جانشاه النوم، فنام في رأس ذلك الجبل، فلما أفاق من النوم
رأى بريقًا على بُعْد يملأ نورُه الجوَّ، فصار متحيِّرًا في نفسه من ذلك اللمعان
والبريق، ولم يَدْرِ أنه لمعان القلعة التي هو يفتِّش عليها، وكان بينه وبينها مسيرة
شهرين، وهي مبنية من الياقوت الأحمر، وبيوتها من الذهب الأصفر، ولها ألف برج مبنية
من المعادن النفيسة التي تخرج من بحر الظلمات؛ ولهذا سُمِّيت قلعة جوهر تكني؛
لأنها من نفس الجواهر والمعادن، وكانت قلعةً عظيمة، واسم ملكها شهلان، وهو أبو
البنات الثلاث.
هذا
ما كان من أمر جانشاه، وأما ما كان من أمر السيدة شمسة، فإنها لما هربت من عند
جانشاه، وراحت عند أبيها وأمها وأهلها، أخبرتهم بما جرى لها مع جانشاه، وحكت لهم
حكايته، وأعلمَتْهم أنه ساحَ في الأرض ورأى العجائب، وعرَّفَتْهم بمحبته لها
ومحبتها له، وبما وقع بينهما. فلما سمع أبوها وأمها منها ذلك الكلام قالا لها: ما
يحل لك من الله أن تفعلي معه هذا الأمر. ثم إن أباها حكى هذه المسألة لأعوانه من
مردة الجان، وقال لهم: كلُّ مَن رأى منكم إنسيًّا فَلْيأتني به. وكانت السيدة شمسة
أخبرت أمها أن جانشاه مغرم بها، وقالت لها: ولا بد من أنه يأتينا؛ لأني لما طرتُ
من فوق قصر أبيه قلت له: إنْ كنتَ تحبني فتعال في قلعة جوهر تكني.
ثم
إن جانشاه لما رأى ذلك البريق واللمعان قصد نحوه ليعرف ما هو، وكانت السيدة شمسة
قد أرسلت عونًا من الأعوان في شغل بناحية جبل قرموس، فبينما ذلك العون سائر إذ هو ينظر
من بعيد شخص إنسي، فلما رآه أقبل نحوه وسلَّمَ عليه، فخاف جانشاه من ذلك العون،
ولكنه ردَّ عليه السلام، فقال له العون: ما اسمك؟ فقال له: اسمي جانشاه، وكنتُ
قبضت على جنية اسمها السيدة شمسة؛ لأني تعلَّقْتُ بحسنها وجمالها، وكنت أحبها محبة
عظيمة، ثم إنها هربت مني بعد دخولها في قصر والدي. وحكى له جميع ما جرى له معها،
وصار جانشاه يكلِّم المارد وهو يبكي، فلما نظر العون إلى جانشاه وهو يبكي أحرق
قلبه، وقال له: لا تَبْكِ، فإنك قد وصلتَ إلى مرادك، واعلم أنها تحبك محبة عظيمة،
وقد أعلمت أباها وأمها بمحبتك لها، وكل مَن في القلعة يحبك لأجلها، فطِبْ نفسًا،
وقرَّ عينًا. ثم إن المارد حمله على كاهليه، وسار به حتى وصل إلى قلعة جوهر تكني،
وذهب المبشِّرون إلى الملك شهلان وإلى السيدة شمسة وإلى أمها، يبشرونهم بمجيء
جانشاه، ولما جاءتهم البشائر بذلك فرحوا فرحًا عظيمًا. ثم إن الملك شهلان أمر جميع
الأعوان أن يلاقوا جانشاه، وركب هو وجميع الأعوان والعفاريت والمَرَدة إلى ملاقاة
جانشاه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 526﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن الملك شهلان ركب هو وجميع الأعوان والعفاريت والمَرَدة
إلى ملاقاة جانشاه، فلما أقبل الملك أبو السيدة شمسة على جانشاه عانَقَه، ثم إن
جانشاه قبَّلَ يدَيِ الملك شهلان، وأمر له الملك بخلعة عظيمة من الحرير مختلفة
الألوان، مطرزة بالذهب، مرصَّعة بالجوهر، ثم ألبسه التاج الذي ما رأى مثله أحد من
ملوك الإنس، ثم أمر له بفرس عظيمة من خيل ملوك الجان، فركبها ثم ركب والأعوان عن
يمينه وشماله، وسار هو والملك في موكب عظيم حتى أتوا باب القصر، فنزل الملك ونزل
جانشاه في ذلك القصر، فرآه قصرًا عظيمًا، حيطانه مبنية بالجواهر واليواقيت ونفيس
المعدن، وأما البلور والزبرجد والزمرد فمرصَّع في الأرض؛ فصار يتعجَّب من ذلك
ويبكي، والملك وأم السيدة شمسة يمسحان دموعه ويقولان له: قلِّلْ من البكاء ولا
تحمل همًّا، واعلم أنك قد وصلتَ إلى مرادك. ثم إنه لما وصل إلى وسط المكان،
لاقَتْه الجواري الحسان والعبيد والغلمان، وأجلسوه في أحسن مكان ووقفوا في خدمته،
وهو متحيِّر في حسن ذلك المكان وحيطانه التي بُنِيت من جميع المعادن ونفيس الجواهر.
وانصرف
الملك شهلان إلى محل جلوسه وأمر الجواري والغلمان أن يأتوه بجانشاه ليجلس عنده،
فأخذوه ودخلوا به عليه، فقام الملك إليه وأجلسه على تخته بجانبه، ثم إنهم أتوا
بالسماط، فأكلوا وشربوا، ثم غسلوا أيديهم، وبعد ذلك أقبلَتْ عليه أم السيدة شمسة،
فسلَّمَتْ عليه ورحَّبَتْ به، وقالت له: قد بلغتَ المقصود بعد التعب، ونامَتْ
عينُك بعد السهر، والحمد لله على سلامتك. ثم ذهبت من وقتها إلى بنتها السيدة شمسة،
فأتت بها جانشاه؛ فلما أقبلت عليه السيدة شمسة سلَّمَتْ عليه وقبَّلَتْ يدَيْه،
وأطرقت برأسها خجلًا منه، ومن أمها وأبيها، وأتى إخوتها الذين كانوا معها في
القصر، وقبَّلوا يدَيْه وسلَّموا عليه، ثم إن السيدة أم شمسة قالت له: مرحبًا يا
ولدي، ولكن بنتي شمسة قد أخطأت في حقك، ولا تؤاخذها بما فعلَتْ معك لأجلنا. فلما
سمع جانشاه منها ذلك الكلام صاح ووقع مغشيًّا عليه، فتعجَّبَ الملك منه. ثم إنهم
رشوا وجهه بماء الورد الممزوج بالمسك والزباد، فأفاق ونظر إلى السيدة شمسة، وقال:
الحمد لله الذي بلَّغني مرادي، وأطفأ ناري، حتى لم يَبْقَ في قلبي نار. فقالت له
السيدة شمسة: سلامتك من النار، ولكن يا جانشاه أريد أن تحكي لي على ما جرى لك بعد
فراقي، وكيف أتيتَ هذا المكان؟ مع أن أكثر الجان لا يعرفون قلعة جوهر تكني، ونحن
عاصون على جميع الملوك، وما أحد عرف طريق هذا المكان، ولا سمع به. فأخبرها بجميع
ما جرى له، وكيف أتى، وأعلمهم بما جرى لأبيه مع الملك كفيد، وأخبرهم بما قاساه في
الطريق، وما رآه من الأهوال والعجائب، وقال لها: كلُّ هذا من أجلك يا سيدتي شمسة.
فقالت له أمها: قد بلغتَ المراد، والسيدة شمسة جارية نُهْدِيها إليك. فلما سمع ذلك
جانشاه فرح فرحًا شديدًا، فقالت له: بعد ذلك إن شاء الله تعالى في الشهر القابل
ننصب الفرح، ونعمل العرس ونزوِّجك بها، ثم تذهب بها إلى بلادك، ونعطيك ألف مارد من
الأعوان، لو أذنتَ لأقلِّ مَن فيهم أن يقتل الملك كفيد هو وقومه لَفعل ذلك في
لحظة، وفي كل عام نرسل إليك قومًا، إذا أمرتَ واحدًا منهم بإهلاك أعدائك جميعًا أهلكهم.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 527﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن أم السيدة شمسة قالت له: وفي كل عام نرسل إليك قومًا
إذا أمرتَ واحدًا منهم بإهلاك أعدائك جميعًا، أهلكهم عن آخِرهم. ثم إن الملك شهلان
جلس فوق التخت، وأمر أرباب الدولة أن يعملوا فرحًا عظيمًا، ويزيِّنوا المدينةَ
سبعةَ أيام ولياليها، فقالوا: سمعًا وطاعةً. ثم ذهبوا في ذلك الوقت، وأخذوا في
تجهيز الأهبة للفرح، ومكثوا في التجهيز مدة شهرين، وبعد ذلك عملوا عرسًا عظيمًا
للسيدة شمسة حتى صار فرحًا عظيمًا لم يكن مثله، ثم أدخلوا جانشاه على السيدة،
واستمر معها مدة سنتين في ألذ عيش وأهناه، وأكل وشرب، ثم بعد ذلك قال للسيدة شمسة:
إن أباك قد وعدنا بالذهاب، وأن نقعد هناك سنة، وهنا سنة. فقالت السيدة شمسة: سمعًا
وطاعةً. ولما أمسى المساء دخلت على أبيها، وذكرت له ما قاله جانشاه، فقال لها:
سمعًا وطاعةً. ولكن اصبرَا إلى أول الشهر حتى نجهِّز لكما الأعوان، فأخبرت جانشاه
بما قاله أبوها، وصبر المدة التي عيَّنَها، وبعد ذلك أذِنَ الملك شهلان للأعوان أن
يخرجوا في خدمة السيدة شمسة وجانشاه، حتى يوصلوهما إلى بلاد جانشاه، وقد جهَّزَ
لهما تختًا عظيمًا من الذهب الأحمر مرصَّعًا بالدر والجوهر، فوقه خيمة من الحرير
الأخضر، منقوشة بسائر الألوان، مرصعة بنفيس الجواهر، يحار في حسنها الناظر، فطلع
جانشاه هو والسيدة شمسة فوق ذلك التخت، ثم انتخب من الأعوان أربعة ليحملوا ذلك
التخت، فحملوه وصار كل واحد منهم في جهة من جهاته، وجانشاه والسيدة شمسة فوقه.
ثم
إن السيدة شمسة ودَّعَتْ أمها وأباها وإخوتها وأهلها، وقد ركب أبوها وسار مع
جانشاه، وسارت الأعوان بذلك التخت، ولم يزل الملك شهلان سائرًا معهم إلى وسط
النهار، ثم حطَّت الأعوان ذلك التخت، ونزلوا وودَّعوا بعضهم، وصار الملك شهلان
يوصي جانشاه على السيدة شمسة، ويوصي الأعوان عليهما، ثم أمر الأعوان أن يحملوا
التخت، فودَّعَتِ السيدة شمسة أباها، وكذلك ودَّعَه جانشاه، وسارَا ورجع أبوها،
وكان أبوها قد أعطاها ثلاثمائة جارية من السراري الحسان، وأعطى جانشاه ثلاثمائة
مملوك من أولاد الجان، ثم إنهم ساروا من ذلك الوقت بعد أن طلعوا جميعهم على ذلك
التخت، والأعوان الأربعة قد حملته، وطارت به بين السماء والأرض، وصاروا يسيرون في
كل يوم مسيرة ثلاثين شهرًا، ولم يزالوا سائرين على هذه الحالة مدة عشرة أيام، وكان
في الأعوان عون يعرف بلاد كابل، فلما رآها أمرهم أن ينزلوا على المدينة الكبيرة في
تلك البلاد، وكانت تلك المدينة مدينة الملك طيغموس، فنزلوا عليها. وأدرك شهرزاد
الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 528﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن الأعوان نزلوا على مدينة الملك طيغموس، ومعهم جانشاه
والسيدة شمسة، وكان الملك طيغموس قد انهزم من الأعداء، وهرب في مدينة، وصار في حصر
عظيم، وضيَّقَ عليه الملك كفيد، وطلب الأمان من الملك كفيد فلم يؤمنه؛ فلما علم
الملك طيغموس أنه لم يَبْقَ له حيلة في الخلاص من الملك كفيد، أراد أن يخنق روحه
حتى يموت ويستريح من ذلك الهم والحزن، وقاد وودَّعَ الوزراء والأمراء ودخل بيته
ليودِّع الحريم، وصار أهل مملكته في بكاء ونواح وعزاء وصياح. فبينما هو في ذلك
الأمر إذا بالأعوان قد أقبلوا على القصر الذي في داخل القلعة، وأمرهم جانشاه أن
ينزلوا بالتخت في وسط الديوان؛ ففعلوا ما أمرهم به جانشاه، ونزلت السيدة شمسة مع
جانشاه والجواري والمماليك، فرأوا جميع أهل المدينة في حصر وضيق وكرب عظيم؛ فقال
جانشاه للسيدة شمسة: يا حبيبة قلبي وقرة عيني، انظري إلى أبي، كيف هو في أسوأ حال.
فلما رأت السيدة شمسة أباه وأهل مملكته في ذلك الحال، أمرت الأعوان أن يضربوا العسكر
الذين حاصروهم ضربًا شديدًا ويقتلوهم، وقالت للأعوان: لا تبقوا منهم أحدًا. ثم إن
جانشاه أومأ إلى عون من الأعوان شديد البأس اسمه قراطش، وأمره أن يجيء بالملك كفيد
مقيَّدًا، ثم إن الأعوان ساروا إليه، وأخذوا ذلك التخت معهم، وما زالوا سائرين حتى
حطوا التخت فوق الأرض، ونصبوا الخيمة على التخت، وصبروا إلى نصف الليل، ثم هجموا
على الملك كفيد وعساكره، وساروا يقتلونهم، وصار الواحد يأخذ عشرة أو ثمانية، وهم
على ظهر الفيل، ويطير بهم إلى الجو، ثم يبقيهم فيتمزَّقون في الهواء، وكان بعض
الأعوان يضرب العساكر بالعمد الحديد. ثم إن العون الذي اسمه قراطش ذهب من وقته إلى
خيمة الملك كفيد، فهجم عليه وهو جالس فوق السرير، وأخذه وطار به إلى الجو، فزعق من
هيبة ذلك العون، ولم يزل طائرًا به حتى وضعه على التخت قدام جانشاه، فأمر الأعوان
أن يقتلعوا التخت وينصبوه في الهواء، فلم ينتبه الملك كفيد إلا وقد رأى نفسه ما
بين السماء والأرض، فصار يلطم وجهه ويتعجَّب من ذلك.
هذا
ما كان من أمر الملك كفيد، وأما ما كان من أمر الملك طيغموس، فإنه لما رأى ابنه
كاد يموت من شدة الفرح، وصاح صيحة عظيمة، ووقع مغمًى عليه، فرشوا وجهه بماء الورد،
فلما أفاق تعانَقَ هو وابنه، وبكيَا بكاءً شديدًا، ولم يعلم الملك طيغموس بأن
الأعوان في قتال الملك كفيد، وبعد ذلك قامت السيدة شمسة، وتمشت حتى وصلت إلى الملك
طيغموس أبي جانشاه، وقبَّلَتْ يدَيْه وقالت له: يا سيدي، اصعد إلى أعلى القصر،
وتفرَّج على قتال أعوان أبي. فصعد الملك أعلى القصر، وجلس هو والسيدة شمسة يتفرجان
على الأعوان؛ وذلك أنهم صاروا يضربون في العساكر طولًا وعرضًا، وكان منهم مَن يأخذ
العمود الحديد، ويضرب به الفيل، فينهرس الفيل والذي على ظهره، حتى صارت الفِيَلة
لا تتميز من الآدميين، ومنهم مَن يجيء جماعة وهم هاربون، فيصيح في وجوههم فيسقطون
ميتين، ومنهم مَن يقبض على العشرين فارسًا، ويقتلع بهم إلى الجو، ويلقيهم إلى
الأرض، فيتقطعون قطعًا؛ هذا وجانشاه ووالده والسيدة شمسة ينظرون إليهم، ويتفرجون
على القتال. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 529﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن طيغموس هو وابنه جانشاه وزوجته السيدة شمسة، ارتقوا
إلى أعلى القصر، وصاروا يتفرجون على قتال الأعوان مع عسكر الملك كفيد، وصار الملك
كفيد ينظر إليهم وهو فوق التخت ويبكي، وما زال القتل في عسكره مدة يومين حتى قطعوا
عن آخِرهم. ثم إن جانشاه أمر الأعوان أن يأتوا بالتخت، وينزلوا به إلى الأرض في
وسط قلعة الملك طيغموس، فأتوا به وفعلوا ما أمرهم به سيدهم الملك جانشاه. ثم إن
الملك طيغموس أمر عونًا من الأعوان يقال له شموال، أن يأخذ الملك كفيد ويجعله في
السلاسل والأغلال، ويسجنه في البرج الأسود، ففعل شموال ما أمره به، ثم إن الملك
طيغموس أمر بضرب الكاسات وأرسل المبشرين إلى أم جانشاه، فذهبوا وأعلموها بأن ابنها
أتى وفعل هذه الأفعال؛ ففرحت بذلك وركبت وأتت، فلما رآها جانشاه ضمَّها إلى صدره
فوقعت مغشيةً عليها من شدة الفرح، فرشُّوا وجهها بماء الورد؛ فلما أفاقت عانقَتْه
وبكَتْ من فرط السرور، ولما علمت السيدة شمسة بقدومها، قامت تتمشَّى حتى وصلت
إليها وسلَّمَتْ عليها وعانَقَ بعضهما بعضًا ساعة من الزمان، ثم جلستا تتحدثان،
وفتح الملك طيغموس أبوابَ المدينة وأرسَلَ المبشرين إلى جميع البلاد، فنشروا
البشائر فيها، ووردت عليه الهدايا والتحف، وصار الأمراء والعساكر والملوك الذين في
البلدان يأتون ليسلِّموا عليه ويهنوه بتلك النصرة وبسلامة ابنه. وما زالوا على هذا
الحال والناس يأتونهم بالهدايا والتحف العظيمة مدةً من الزمان.
ثم
إن الملك عمل عرسًا عظيمًا للسيدة شمسة مرةً ثانية، وأمر بزينة المدينة، وجلاها
على جانشاه بالحلي والحلل الفاخرة، ودخل جانشاه عليها وأعطاها مائة جارية من
السراري الحسان لخدمتها. ثم بعد ذلك بأيام توجَّهَتِ السيدة شمسة إلى الملك
طيغموس، وتشفَّعَتْ عنده في الملك كفيد، وقالت له: أطلِقْه ليرجع إلى بلاده، وإن
حصل منه شرٌّ أمرتُ أحدَ الأعوان أن يخطفه، ويأتيك به. فقال لها: سمعًا وطاعة. ثم
أرسل إلى شموال أن يحضر إليه بالملك كفيد، فأتى به في السلاسل والأغلال، فلما قدم
عليه وقبَّلَ الأرض بين يدَيْه، أمر الملك أن يحلُّوه من تلك الأغلال، فحلُّوه
منها؛ ثم أركبه على فرس عرجاء، وقال له: إن الملكة شمسة قد تشفَّعَتْ فيك، فاذهب
إلى بلادك، وإنْ عدتَ لما كنتَ عليه، فإنها ترسل إليك عونًا من الأعوان فيأتي بك.
فسار الملك كفيد إلى بلاده وهو في أسوأ حال. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن
الكلام المباح.
﴿اللیلة 530﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن الملك كفيد سار إلى بلده وهو في أسوأ حال، ثم إن
جانشاه قعد هو وأبوه والسيدة شمسة في ألذ عيش وأهناه، وأطيب سرور وأوفاه، وكل هذا
يحكيه الشاب الجالس بين القبرين لبلوقيا، ثم قال له: وها أنا جانشاه الذي رأيتُ
هذا كله يا أخي يا بلوقيا. فتعجَّبَ بلوقيا من حكايته، ثم إن بلوقيا السائح في حب
محمد ﷺ قال لجانشاه: يا أخي، وما شأن هذين القبرين؟ وما جلوسك بينهما؟
وما سبب بكائك؟
فردَّ
عليه جانشاه، وقال له: اعلم يا بلوقيا أننا كنَّا في ألذ عيش وأهناه، وأطيب سرور
وأوفاه، وكنَّا نقيم ببلادنا سنة، وبقلعة جوهر تكني سنة، ولا نسير إلا ونحن جالسون
فوق التخت، والأعوان تحمله، وتطير به بين السماء والأرض. فقال له بلوقيا: يا أخي
يا جانشاه، ما كان طول المسافة التي بين تلك القلعة وبين بلادكم؟ فردَّ عليه
جانشاه وقال له: كنَّا نقطع في كل يوم مسافة ثلاثين شهرًا، وكنَّا نصل إلى القلعة
في عشرة أيام، ولم نزل على هذه الحالة مدة من من السنين، فاتفق أننا سافرنا على
عادتنا حتى وصلنا إلى هذا المكان، فنزلنا فيه بالتخت لنتفرج على هذه الجزيرة،
فجلسنا على شاطئ النهر، وأكلنا وشربنا، فقالت السيدة شمسة: إني أريد أن أغتسل في
هذا النهر. ثم نزعت ثيابها، ونزع الجواري ثيابهن، ونزلن في النهر، وسبحن فيه، ثم
إني تمشيت على شاطئ النهر، وتركت الجواري يلعبن فيه مع السيدة شمسة، فإذا بقرش
عظيم من دواب البحر ضربها في رجلها من دون الجواري، فصرخت ووقعت ميتة من وقتها
وساعتها، فطلعت الجواري من النهر هاربات إلى الخيمة من ذلك القرش.
ثم
إن بعض الجواري حملنها وأتين بها الخيمة وهي ميتة، فلما رأيتُها ميتة وقعتُ
مغشيًّا عليًّ، فرشُّوا وجهي بالماء، فلما أفقتُ بكيتُ عليها، وأمرت الأعوان أن
يأخذوا التخت، ويروحوا به إلى أهلها، ويعلموهم بما جرى لها؛ فراحوا إلى أهلها،
وأعلموهم بما جرى لها، فلم يغب أهلها إلا قليلًا حتى أتوا هذا المكان، فغسَّلوها
وكفَّنوها، وفي هذا المكان دفنوها، وعملوا عزاءها، وطلبوا أن يأخذوني معهم إلى
بلادهم، فقلت لأبيها: أريد منك أن تحفر لي حفرة بجانب قبرها، واجعل تلك الحفرة
قبرًا لي، لعلي إذا متُّ أُدفَن فيها بجانبها. فأمر الملك شهلان عونًا من الأعوان
بذلك، ففعل لي ما أردتُه، ثم راحوا من عندي، وخلوني هنا أنوح وأبكي عليها، وهذه قصتي،
وسبب قعودي بين هذين القبرين. ثم أنشد هذين البيتين:
مَا
الدَّارُ مُذْ غِبْتُمُو يَا سَادَتِي دَارُ كَلَّا وَلَا ذَلِكَ الْجَارُ الرَّضِي
جَارُ
وَلَا
الْأَنِيسُ الَّذِي قَدْ كُنْتُ أَعْهَدُهُ
فِيهَا أَنِيسٌ وَلَا الْأَنْوَارُ أَنْوَارُ
فلما
سمع بلوقيا هذا الكلام من جانشاه تعجَّبَ. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام
المباح.
﴿اللیلة 531﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن بلوقيا لما سمع هذا الكلام من جانشاه تعجب وقال: والله
إني كنت أظن أنني سحت ودرت طائفًا في الأرض، والله إني نسيت الذي رأيته بما سمعته
من قصتك. ثم إنه قال لجانشاه: أريد من فضلك وإحسانك يا أخي، أنك تدلني على طريق
السلامة. فدلَّه على الطريق، ثم ودَّعه وسار، وكل هذا الكلام تحكيه ملكة الحيات
لحاسب كريم الدين، فقال لها حاسب كريم الدين: كيف عرفتِ هذه الأخبار؟ فقالت له:
اعلم يا حاسب، أني كنتُ أرسلت إلى بلاد مصر حية عظيمة من مدة خمسة وعشرين عامًا،
وأرسلت معها كتابًا بالسلام على بلوقيا لتوصله إليه، فراحت تلك الحية وأوصلته إلى
بنت شموخ، وكان لها بنت في أرض مصر؛ فأخذت ذلك الكتاب وسارت حتى وصلت إلى مصر،
وسألت الناس عن بلوقيا فدلُّوها عليه، فلما أتت ورأته، سلَّمَتْ عليه وأعطته ذلك
الكتاب؛ فقرأه وفهم معناه ثم قال للحية: هل أنت أتيتِ من عند ملكة الحيات؟ قالت:
نعم. فقال لها: أريد أن أروح معك إلى ملكة الحيات لأن لي عندها حاجة. فقالت له:
سمعًا وطاعة. ثم أخذته وسارت به إلى بنتها وسلَّمَتْ عليها، ثم ودَّعَتْها وخرجت
من عندها وقالت له: أغمض عينَيْك. فأغمض عينَيْه وفتحهما، فإذا هو في الجبل الذي
أنا فيه؛ فسارت به إلى الحية التي أعطتها الكتاب، وسلَّمَتْ عليها وقالت لها: هل
أوصلتِ الكتاب إلى بلوقيا؟ قالت: نعم، أوصلته إليه وقد جاء معي، وها هو. فتقدَّمَ
بلوقيا وسلَّم على تلك الحية وسألها عن ملكة الحيات، فقالت له: إنها راحت إلى جبل
قاف بجنودها وعساكرها، وإنها حين يأتي الصيف تعود إلى هذه الأرض، وكلما ذهبت إلى
جبل قاف وضعتني في موضعها حتى تأتي؛ فإن كان لك حاجة فأنا أقضيها لك. فقال لها
بلوقيا: أريد منك أن تجيئي بالنبات الذي كلُّ مَن دقه وشرب ماءه لا يضعف ولا يشيب
ولا يموت. فقالت له تلك الحية: ما أجيء به حتى تخبرني بما جرى لك بعد مفارقتها،
حيث رحت أنت وعفان إلى مدفن السيد سليمان. فأخبرها بلوقيا بقصته من أولها إلى
آخِرها، وأعلمها بما جرى لجانشاه وحكى لها حكايته، ثم قال لها: اقضي لي حاجتي حتى
أروح إلى بلادي. فقالت الحية: وحق السيد سليمان ما أعرف طريق ذلك العشب. ثم إنها
أمرت الحية التي جاءت به وقالت لها: أوصليه إلى بلاده. فقالت لها: سمعًا وطاعةً.
ثم قالت له: أغمض عينيك. فأغمض عينيه وفتحهما، فرأى نفسه في الجبل المقطب، فسار
حتى أتى منزله.
ثم
إن ملكة الحيات لما عادت من جبل قاف توجَّهَتْ إليها الحية التي أقامتها مقامها،
وسلَّمت عليها وقالت لها: إن بلوقيا يسلِّم عليك. وحكت لها جميع ما أخبرها به
بلوقيا مما رآه في سياحته ومن اجتماعه بجانشاه، ثم قالت ملكة الحيات لحاسب كريم
الدين: وهذا الذي أخبرني بهذا الخبر يا حاسب. فقال لها حاسب: يا ملكة الحيات،
أخبريني بما جرى لبلوقيا حين عاد إلى مصر. فقالت له: اعلم يا حاسب أن بلوقيا لما
فارَقَ جانشاه، سار ليالي وأيامًا حتى وصل إلى بحر عظيم، ثم إنه دهن قدمَيْه من
الماء الذي معه، ومشى على وجه الماء حتى وصل إلى جزيرةٍ ذات أشجار وأنهار وأثمار
كأنها الجنة، ودار في تلك الجزيرة، فرأى شجرة عظيمة ورقها مثل قلوع المراكب، فقرب
من تلك الشجرة، فرأى تحتها سماطًا ممدودًا، وفيه جميع الألوان الفاخرة من الطعام،
ورأى على تلك الشجرة طيرًا عظيمًا من اللؤلؤ والزمرد الأخضر، ورجلاه من الفضة،
ومنقاره من الياقوت الأحمر، وريشه من نفيس المعادن، وهو يسبِّح الله تعالى،
ويصلِّي على محمد ﷺ. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 532﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن بلوقيا لما طلع الجزيرة ووجدها كالجنة، تمشَّى في
جوانبها ورأى ما فيها من العجائب، ومن جملتها الطير الذي هو من اللؤلؤ والزمرد
الأخضر، وريشه من نفيس المعدن، على تلك الحالة وهو يسبح الله تعالى، ويصلِّي على
محمد ﷺ، فلما رأى بلوقيا ذلك الطائر العظيم قال له: مَن أنت؟ وما شأنك؟ فقال
له: أنا من طيور الجنة، واعلم يا أخي أن الله تعالى أخرج آدم من الجنة، وأخرج معه
أربع ورقات يستتر بها، فسقطن في الأرض، فواحدة منهن أكلها الدود فصار منها الحرير،
والثانية أكلها الغزلان فصار منها المسك، والثالثة أكلها النحل فصار منها العسل،
والرابع وقعت في الهند فصار منها البهار، وأما أنا فإني سحت في جميع الأرض إلى أنْ
مَنَّ الله عليَّ بهذا المكان فمكثت فيه، وإنه في كل ليلة جمعة ويومها، تأتي
الأولياء والقطاب الذين في الدنيا هذا المكان ويزورونه، ويأكلون من هذا الطعام،
وهو ضيافة الله تعالى لهم، يضيفهم بها في كل ليلة جمعة ويومها، ثم بعد ذلك يرتفع
السماط إلى الجنة، ولا ينقص أبدًا، ولا يتغيَّر، فأكل بلوقيا، ولما فرغ من الأكل
وحمد الله تعالى فإذا الخضر عليه السلام قد أقبل، فقام بلوقيا إليه وسلَّمَ عليه،
وأراد أن يذهب. فقال له الطير: اجلس يا بلوقيا في حضرة الخضر عليه السلام. فجلس
بلوقيا، فقال له الخضر: أخبرني بشأنك، واحكِ لي حكايتك. فأخبره بلوقيا بجميع ما
جرى له من الأول إلى الآخِر، إلى أن أتاه ووصل إلى المكان الذي هو جالس فيه بين
يدَيِ الخضر، ثم قال له: يا سيدي، ما مقدار الطريق من هنا إلى مصر؟ فقال له: مسيرة
خمسة وتسعين عامًا. فلما سمع بلوقيا هذا الكلام بكى، ثم وقع على يد الخضر
وقبَّلَها، وقال له: أنقذني من هذه الغربة وأجرك على الله؛ لأني قد أشرفتُ على
الهلاك، وما بقيت لي حيلة. فقال له الخضر: ادعُ الله تعالى أن يأذن لي في أن أوصلك
إلى مصر قبل أن تهلك. فبكى بلوقيا، وتضرَّعَ إلى الله تعالى، فتقبَّلَ الله دعاءه،
وألهم الخضر عليه السلام أن يوصله إلى أهله، فقال الخضر عليه السلام لبلوقيا: ارفع
رأسك؛ فقد تقبَّلَ الله دعاءك، وألهمني أن أوصلك إلى مصر، فتعلَّقْ بي، واقبضْ عليَّ
بيديك، وأغمض عينيك. فتعلَّقَ بلوقيا بالخضر عليه السلام وقبض عليه بيديه، وأغمض
عينيه، وخطا الخضر عليه السلام خطوة، ثم قال لبلوقيا: افتح عينيك. ففتح عينيه فرأى
نفسه واقفًا على باب منزله، ثم إنه التفَتَ ليودِّع الخضر عليه السلام فلم يجد له
أثرًا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 533﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن بلوقيا لما أوصله الخضر عليه السلام إلى باب منزله،
فتح عينيه ليودعه فلم يجده، فدخل بيته، فلما رأته أمه صاحت صيحة عظيمة، ووقعت
مغشية عليها من شدة الفرح، فرشُّوا وجهها بالماء حتى أفاقت، فلما أفاقت عانقَتْه،
وبكت بكاءً شديدًا، وصار بلوقيا يبكي وتارةً يضحك، وأتاه أهله وجماعته، وجميع
أصحابه، وصاروا يهنونه بالسلامة، وشاعت الأخبار في البلاد، وجاءته الهدايا من جميع
الأقطار، ودقت الطبول، وزمرت الزمور، وفرحوا فرحًا شديدًا، ثم بعد ذلك حكى لهم
بلوقيا حكايته، وأخبرهم بجميع ما جرى له، وكيف أتى به الخضر، وأوصله إلى باب
منزله، فتعجَّبوا من ذلك، وبكوا حتى ملُّوا من البكاء.
وكل
هذا تحكيه ملكة الحيات لحاسب كريم الدين، فتعجب حاسب كريم الدين من ذلك، وبكى
بكاءً شديدًا، ثم قال لملكة الحيات: إني أريد الذهاب إلى بلادي. فقالت له ملكة
الحيات: إني أخاف يا حاسب إذا وصلتَ إلى بلادك أن تنقض العهد، وتحنث في اليمين
الذي حلفتَه، وتدخل الحمام. فحلف أيمانًا أخرى وثيقة أنه لن يدخل الحمام طول عمره،
فأمرت حيةً وقالت لها: أَخْرِجي حاسب كريم الدين إلى وجه الأرض. فأخذته الحية،
وسارت به من مكان إلى مكان حتى أخرجته على وجه الأرض من سطح جب مهجور، ثم مشى حتى
وصل إلى المدينة، وتوجَّهَ إلى منزله، وكان ذلك آخِر النهار وقتَ اصفرار الشمس؛ ثم
طرق الباب فخرجت أمه، وفتحت الباب، فرأت ابنها واقفًا، فلما رأته صاحت من شدة
فرحتها، وألقت نفسها عليه وبكت، فلما سمعت زوجته بكاها خرجت إليها، فرأت زوجها
فسلَّمَتْ عليه، وقبَّلَتْ يدَيْه، وفرح بعضهم ببعض فرحًا عظيمًا، ودخلوا البيت،
فلما استقرَّ بهم الجلوس وقعد بين أهله، سأل عن الحطابين الذين كانوا يحطبون معه،
وراحوا وخلوه في الجب، فقالت له أمه: إنهم أتوني وقالوا لي: إن ابنك أكله الذئب في
الوادي. وقد صاروا تجارًا، وأصحاب أملاك ودكاكين، واتسعت عليهم الدنيا، وهم في كل
يوم يجيئوننا بالأكل والشرب، وهذا دأبهم إلى الآن. فقال لأمه: في غدٍ روحي إليهم،
وقولي لهم: قد جاء حاسب كريم الدين من سفره، فتعالوا وقابِلوه وسلِّموا عليه. فلما
أصبح الصباح راحت أمه إلى بيوت الحطابين، وقالت لهم ما وصَّاها به ابنها، فلما سمع
الحطابون ذلك الكلامَ تغيَّرَتْ ألوانهم، وقالوا لها: سمعًا وطاعةً. وقد أعطاها كل
واحد منهم بدلة من الحرير مطرزة بالذهب، وقالوا لها: أعطِ ولدَكِ هذه ليلبسها،
وقولي له: إنهم في غدٍ يأتون عندك. فقالت لهم: سمعًا وطاعة. ثم رجعت من عندهم إلى
ابنها، وأعلمته بذلك، وأعطته الذي أعطوها إياه.
هذا
ما كان من أمر حاسب كريم الدين وأمه، وأما ما كان من أمر الحطابين، فإنهم جمعوا
جماعة من التجار، وأعلموهم بما حصل منهم في حق حاسب كريم الدين، وقالوا لهم: كيف
نصنع معه الآن؟ فقال لهم التجار: ينبغي لكلٍّ منكم أن يعطيه نصف ماله ومماليكه.
فاتفق الجميع على هذا الرأي، وكل واحد أخذ نصف ماله معه، وذهبوا إليه جميعًا،
وسلَّموا عليه وقبَّلوا يدَيْه، وأعطوه ذلك وقالوا له: هذا من بعض إحسانك، وقد
صرنا بين يدَيْك. فقبله منهم وقال لهم: قد راح الذي راح، وهذا مقدور من الله
تعالى، والمقدور يغلب المحذور. فقالوا له: قُمْ بنا نتفرج في المدينة، وندخل
الحمام. فقال لهم: أنا قد صدر مني يمين أنني لا أدخل الحمام طول عمري. فقالوا: قم
بنا لبيوتنا حتى نضيفك. فقال لهم: سمعًا وطاعةً. ثم قام وراح معهم إلى بيوتهم،
وصار كل واحد منهم يضيفه ليلة، ولم يزالوا على هذه الحالة مدة سبع ليالٍ، وقد صار
صاحبَ أموالٍ وأملاك ودكاكين، واجتمع به تجار المدينة، فأخبرهم بجميع ما جرى له
وما رآه، وصار من أعيان التجار، ومكث على هذا الحال مدةً من الزمان.
فاتفق
أنه خرج في يومٍ من الأيام يتمشَّى في المدينة، فرآه صاحب حمَّامي، وهو جائز على
باب الحمام، ووقعت العين على العين، فسلَّمَ عليه وعانَقَه، وقال له: تفضَّلْ
عليَّ بدخول الحمام، وتكيَّسَ حتى أعمل لك ضيافة. فقال له: إنه صدر مني يمين أنني
لا أدخل الحمام مدة عمري. فحلف الحمامي وقال له: نسائي الثلاث طالقات ثلاثًا إنْ
لم تدخل معي الحمام وتغتسل فيه. فتحيَّرَ حاسب كريم الدين في نفسه، وقال: أتريد يا
أخي أنك تيتِّم أولادي وتخرب بيتي، وتجعل الخطيئة في رقبتي. فارتمى الحمامي على
رجل حاسب كريم الدين وقبَّلَها، وقال له: أنا في جيرتك أن تدخل معي الحمام، وتكون
الخطيئة في رقبتي أنا. واجتمع عَمَلة الحمام، وكلُّ مَن فيه على حاسب كريم الدين،
وتداخلوا عليه، ونزعوا عنه ثيابه، وأدخلوه الحمام، فبمجرد ما دخل الحمام وقعد
بجانب الحائط، وسكب على رأسه من الماء، أقبل عليه عشرون رجلًا، وقالوا له: قُمْ
أيها الرجل من عندنا، فإنك غريم السلطان. وأرسلوا واحدًا منهم إلى وزير السلطان،
فراح الرجل وأعلَمَ الوزير، فركب الوزير وركب معه ستون مملوكًا، وساروا حتى أتوا
الحمام، واجتمعوا بحاسب كريم الدين، وسلَّمَ عليه الوزير ورحَّبَ به، وأعطى
الحمامي مائة دينار، وأمر أن يقدِّموا لحاسب حصانًا ليركبه، ثم ركب الوزير وحاسب،
وكذلك جماعة الوزير وأخذوه معهم، وساروا به حتى وصلوا إلى قصر السلطان، فنزل
الوزير ومَن معه، ونزل حاسب، وجلسوا في القصر، وأتوا بالسماط فأكلوا وشربوا، ثم
غسلوا أيديهم، وخلع عليه الوزير خلعتين، كل واحدة تساوي خمسة آلاف دينار، وقال له:
اعلم أن الله قد مَنَّ علينا بك، ورحمنا بمجيئك، فإن السلطان كان أشرف على الموت
من الجذام الذي به، وقد دلَّتْ عندنا الكتبُ على أن حياته على يدَيْك.
فتعجَّبَ
حاسب من أمرهم، ثم تمشَّى الوزير وحاسب وخواص الدولة من أبواب القصر السبعة إلى أن
دخلوا على الملك، وكان يقال له الملك كرزدان ملك العجم، وقد ملك الأقاليم السبعة،
وكان في خدمته مائة سلطان يجلسون على كراسي من الذهب الأحمر، وعشرة آلاف بهلوان،
كل بهلوان تحت يده مائة نائب ومائة جلَّاد، وبأيديهم السيوف والأطبار، فوجدوا ذلك
الملك نائمًا، ووجهه ملفوف في منديل، وهو يئنُّ من الأمراض، فلما رأى حاسب هذا
الترتيب دهش عقله من هيئة الملك كرزدان، وقبَّلَ الأرض بين يديه، ودعا له، ثم أقبل
عليه وزيره الأعظم، وكان يقال له الوزير شمهور، ورحَّبَ به وأجلسه على كرسي عظيم
عن يمين الملك كرزدان. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 534﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير شمهور أقبل على حاسب وأجلسه على كرسي عن يمين
الملك كرزدان، وأحضروا السماط فأكلوا وشربوا، وغسلوا أيديهم، ثم بعد ذلك قام
الوزير شمهور، وقام لأجله كلُّ مَن في المجلس هيبةً له، وتمشى إلى نحو حاسب كريم
الدين، وقال له: نحن في خدمتك، وكل ما طلبت نعطيك، ولو طلبتَ نصف المُلْك أعطيناك
إياه؛ لأن شفاء الملك على يديك. ثم أخذه من يده، وذهب به إلى الملك، فكشف حاسب عن
وجه الملك، ونظر إليه فرآه في غاية المرض، فتعجَّبَ من ذلك، ثم إن الوزير نزل على
يد حاسب وقبَّلَها، وقال له: نريد منك أن تداوي هذا الملك، والذي تطلبه نعطيك
إياه، وهذه حاجتنا عندك. فقال حاسب: نعم، إني ابن دانيال نبي الله، لكنني ما أعرف
شيئًا من العلم، فإنهم وضعوني في صنعة الطب ثلاثين يومًا فلم أتعلم شيئًا من تلك
الصنعة، وكنت أود لو عرفت شيئًا من العلم وأداوي هذا الملك. فقال الوزير: لا
تُطِلْ علينا الكلام، فلو جمعنا حكماء المشرق والمغرب ما يداوي الملك إلا أنت.
فقال له حاسب: كيف أداويه وأنا ما أعرف داءه ولا دواءه؟ فقال له الوزير: إن دواء
الملك عندك. قال له حاسب: لو كنتُ أعرف دواءه لَداويتُه. فقال له الوزير: أنت تعرف
دواءه معرفة جيدة، فإن دواءه ملكة الحيات، وأنت تعرف مكانها ورأيتَها، وكنت عندها.
فلما
سمع حاسب هذا الكلام، عرف أن سبب ذلك دخول الحمام، وصار يتندَّم حيث لا ينفعه
الندم، وقال لهم: كيف ملكة الحيات وأنا لا أعرفها، ولا سمعت طول عمري بهذا الاسم؟
فقال الوزير: لا تُنكِر معرفتَها، فإن عندي دليلًا على أنك تعرفها، وأقمتَ عندها
سنتين. فقال حاسب: أنا لا أعرفها، ولا رأيتها، ولا سمعت بهذا الخبر إلا في هذا
الوقت منكم. فأحضر الوزير كتابًا وفتحه، وصار يتحسب، ثم قال: إن ملكة الحيات تجتمع
برجل ويمكث عندها سنتين، ويرجع من عندها، ويطلع على وجه الأرض، فإذا دخل الحمام
تسودُّ بطنه. ثم قال لحاسب: انظر إلى بطنك. فنظر إليها فرآها سوداء، فقال لهم
حاسب: إن بطني سوداء من يوم ولدتني أمي. فقال له الوزير: أنا كنت وكَّلْتُ على كل
حمام ثلاثة مماليك لأجل أن يتعهَّدوا كلَّ مَن يدخل الحمام، وينظروا إلى بطنه،
ويُعلِموني به، فلما دخلت أنت الحمام نظروا إلى بطنك فوجدوها سوداء، فأرسلوا إليَّ
خبرًا بذلك، وما صدَّقْنا أننا نجتمع بك في هذا اليوم، وما لنا عندك حاجة إلا أن
ترينا الموضع الذي طلعتَ منه، وتروح إلى حال سبيلك، ونحن نقدر على إمساك ملكة
الحيات، وعندنا مَن يأتينا بها.
فلما
سمع حاسب هذا الكلام ندم على دخول الحمام ندمًا عظيمًا حيث لا ينفعه الندم، وصار
الأمراء والوزراء يتدخلون على حاسب في أن يخبرهم بملكة الحيات حتى عجزوا، وهو
يقول: لا رأيت هذا الأمر ولا سمعت به. فعند ذلك طلب الوزير الجلاد، فأتوه به،
فأمره أن ينزع ثياب حاسب عنه، ويضربه ضربًا شديدًا، ففعل ذلك حتى عاين الموت من
شدة العذاب، وبعد ذلك قال له الوزير: إن عندنا دليلًا على أنك تعرف مكان ملكة
الحيات، فلأي شيء أنت تنكره؟ أَرِنا الموضع الذي خرجت منه، وابعد عنا، وعندنا الذي
يمسكها، ولا ضرر عليك. ثم لاطَفَه وأقامه، وأمر له بخلعة مزركشة بالذهب والمعادن،
فامتثل حاسب لأمر الوزير وقال له: أنا أريكم الموضع الذي خرجت منه. فلما سمع
الوزير كلامه فرح فرحًا شديدًا، وركب هو والأمراء جميعًا، وركب حاسب وسار قدام
العساكر، وما زالوا سائرين حتى وصلوا إلى الجبل، ثم إنه دخل بهم إلى المغارة، وبكى
وتحسَّرَ، ونزلت الأمراء والوزراء وتمشوا وراء حاسب حتى وصلوا إلى البئر الذي طلع
منه، ثم تقدَّمَ الوزير وجلس وأطلق البخور، وأقسم وتلا العزائم، ونفث وهمهم؛ لأنه
كان ساحرًا ماكرًا كاهنًا يعرف علم الروحاني وغيره، ولما فرغ من عزيمته الأولى قرأ
عزيمة ثانية وعزيمة ثالثة، وكلما فرغ البخور وضع غيره على النار، ثم قال: اخرجي يا
ملكة الحيات. فإذا البئر قد غاض ماؤه، وانفتح فيها باب عظيم، وخرج منها صراخ عظيم
مثل الرعد، حتى ظنوا أن ذلك البئر قد انهدم، ووقع جميع الحاضرين في الأرض مغشيًّا
عليهم، ومات بعضهم، وخرج من ذلك البئر حية عظيمة مثل الفيل، يطير مِن عينيها ومِن
فيها الشررُ مثل الجمر، وعلى ظهرها طبق من الذهب الأحمر مرصَّع بالدر والجوهر، وفي
وسط ذلك الطبق حية تضيء المكان، ووجهها كوجه إنسان، وتتكلَّم بأفصح لسان، وهي ملكة
الحيات، والتفتت يمينًا وشمالًا فوقع بصرها على حاسب كريم الدين، فقالت له: أين
العهد الذي عاهدتَني به، واليمين الذي حلفتَه لي من أنك لا تدخل الحمام؟ ولكن لا
تنفع حيلة من قدر، والذي على الجبين مكتوب ما منه مهروب، وقد جعل الله آخِر عمري
على يدَيْك، وبهذا حكم الله، وأراد أن أُقتَل أنا والملك كرزدان يُشفى من مرضه. ثم
إن ملكة الحيات بكت بكاءً شديدًا، وبكى حاسب لبكائها، ولما رأى الوزير شمهور
الملعون ملكة الحيات، مدَّ يده إليها ليمسكها، فقالت له: امنع يدك يا ملعون، وإلا
نفخت عليك وصيَّرتك كوم رماد أسود. ثم صاحت على حاسب، وقالت له: تعال عندي وخذني
بيدك، وحطَّني في هذه الصينية التي معكم، واحلمها على رأسك، فإن موتي على يدك مقدر
من الأزل، ولا حيلةَ لك في دفعه. فأخذها حاسب وحطها في الصينية، وحملها على رأسه،
وعادت البئر كما كانت، ثم ساروا وحاسب حامل الصينية التي هي فيها على رأسه.
فبينما
هم في أثناء الطريق إذ قالت ملكة الحيات لحاسب كريم الدين سرًّا: يا حاسب، اسمع ما
أقول لك من النصيحة، ولو كنت نقضتَ العهد، وحنثتَ في اليمين، وفعلتَ هذه الأفعال؛
لأن ذلك مقدور من الأزل. فقال لها: سمعًا وطاعةً، ما الذي تأمرينني به يا ملكة
الحيات؟ فقالت له: إذا وصلت إلى بيت الوزير، فإنه يقول لك: اذبح ملكة الحيات،
وقطِّعها ثلاث قطع. فامتنِعْ من ذلك ولا تفعل، وقل له: أنا ما أعرف الذبح. لأجل أن
يذبحني هو بيده ويعمل فيَّ ما يريد. فإذا ذبحني وقطَّعني يأتيه رسول من عند الملك
كرزدان، ويطلبه إلى الحضور عنده، فيضع لحمي في قدر من النحاس، ويضع القدر فوق
الكانون قبل الذهاب إلى الملك، ويقول لك: أوقد النار على هذا القدر حتى تطلع رغوة
اللحم، فإذا طلعت الرغوة فخذها وحطها في قنينة، واصبر عليها حتى تبرد، واشربها
أنت، فإذا شربتها لا يبقى في بدنك وجع، فإذا طلعت الرغوة الثانية فحطها عندك في
قنينة ثانية حتى أجيء من عندك الملك، وأشربها من أجل مرضٍ في صلبي. ثم إنه يعطيك
القنينتين ويروح إلى الملك، فإذا راح إليه أوقد النار على القدر حتى تطلع الرغوة
فخذها وحطها في قنينة واحفظها عندك وإياك أن تشربها، فإنْ شربْتَها لم يحصل لك
خير، وإذا طلعت الرغوة الثانية فحطَّها في القنينة الثانية، واصبر حتى تبرد،
واحفظها عندك حتى تشربها، فإذا جاء من عند الملك وطلب منك القنينة الثانية فأعْطِه
الأولى، وانظر ما يجري له. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 535﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن ملكة الحيات أوصت حاسب كريم الدين بعدم الشرب من
الرغوة الأولى، والمحافظة على الرغوة الثانية، وقالت له: إذا رجع الوزير من عند
الملك وطلب منك القنينة الثانية فأَعْطِه الأولى، وانظر ما يجري له، ثم بعد ذلك
اشرب أنت الثانية، فإذا شربتها يصير قلبك بيت الحكمة، ثم بعد ذلك أطلع اللحم، وحطه
في صينية من النحاس، وأعْطِ الملك إياه ليأكله، فإذا أكله واستقرَّ في بطنه، استر
وجهه بمنديل واصبر عليه إلى وقت الظهر حتى تبرد بطنه، وبعد ذلك اسقه شيئًا من
الشراب، فإنه يعود صحيحًا كما كان، ويبرأ من مرضه بقوة الله تعالى، واسمع هذه
الوصية التي وصيتك بها، وحافِظْ عليها كلَّ المحافظة.
وما
زالوا سائرين حتى أقبلوا على بيت الوزير، فقال الوزير لحاسب: ادخل معي البيت. فلما
دخل الوزير وحاسب، وتفرَّقَ العساكر، وراح كلٌّ منهم إلى حال سبيله، وضَعَ حاسب
الصينية التي فيها ملكة الحيات من فوق رأسه، ثم قال له الوزير: اذبح ملكة الحيات.
فقال له حاسب: أنا لا أعرف الذبح، وعمري ما ذبحتُ شيئًا، فإنْ كان لك غرض في
ذبحها، فاذبحها أنت بيدك. فقام الوزير شمهور وأخذ ملكة الحيات من الصينية التي هي
فيها وذبحها، فلما رأى حاسب ذلك بكى بكاءً شديدًا، فضحك شمهور منه، وقال له: يا
ذاهب العقل، كيف تبكي من أجل ذبح حية؟ وبعد أن ذبحها الوزير قطَّعها ثلاث قطع،
ووضعها في قدر من النحاس، ووضع القدر على النار، وجلس ينتظر نضج لحمها. فبينما هو
جالس، إذا بمملوك أقبل عليه من عند الملك وقال له: إن الملك يطلبك في هذه الساعة.
فقال له الوزبر: سمعًا وطاعةً. ثم قام وأحضر قنينتين لحاسب، وقال له: أوقد النار
على هذا القدر حتى تخرج رغوة اللحم الأولى، فإذا خرجَتْ فاكشطها من فوق اللحم،
وحطها في إحدى هاتين القنينتين، واصبر عليها حتى تبرد واشربها أنت، فإذا شربتها
صحَّ جسمك، ولا يبقى في جسدك وجع ولا مرض، وإذا طلعت الرغوة الثانية فضعها في
القنينة الأخرى، واحفظها عندك حتى أرجع من عند الملك وأشربها؛ لأن في صلبي وجعًا
عساه يبرأ إذا شربتُها. ثم توجَّهَ إلى الملك بعد أن أكَّدَ على حاسب في تلك
الوصية، فصار حاسب يوقد النار تحت القدر حتى طلعت الرغوة الأولى، فكشطها وحطها في
قنينة من الاثنتين، ووضعها عنده، ولم يزل يوقد النار تحت القدر حتى طلعت الرغوة
الثانية، فكشطها وحطها في القنينة الأخرى، وحفظها عنده، ولما استوى اللحم أنزل
القدر من فوق النار، وقعد ينتظر الوزير، فلما أقبل الوزير من عند الملك قال لحاسب:
أي شيء فعلتَ؟ فقال له حاسب: قد انقضى الشغل. فقال له الوزير: ما فعلتَ في القنينة
الأولى؟ قال له: شربتُ ما فيها في هذا الوقت. فقال له الوزير: أرى جسدك لم يتغيَّر
منه شيء. فقال له حاسب: إن جسدي من فوقي إلى قدمي أحس منه بأنه يشتعل مثل النار.
فكتم الماكر الوزير شمهور الأمر عن حاسب خداعًا، ثم إنه قال له: هات القنينة
الثانية لأشرب ما فيها لعلي أشفى وأبرأ من هذا المرض الذي في صلبي. ثم إنه شرب ما
في القنينة الأولى وهو يظن أنها الثانية، فلم يتم شربها حتى سقطت من يده، وتورَّمَ
من ساعته، وصحَّ فيه قول صاحب المثل: مَن حفر بئرًا لأخيه وقع فيه.
فلما
رأى حاسب ذلك الأمر تعجَّبَ منه، وصار خائفًا من شرب القنينة الثانية، ثم تفكَّرَ
وصية الحية، وقال في نفسه: لو كان ما في القنينة الثانية مضرًّا ما كان الوزير
استخارها لنفسه. ثم إنه قال: توكَّلْتُ على الله تعالى. وشرب ما فيها، ولما شرب
فجَّرَ الله تعالى في قلبه ينابيع الحكمة، وفتح له عين العلم، وحصل على الفرح
والسرور، وأخذ اللحم الذي كان في القدر، ووضعه في صينية من نحاس، وخرج به من بيت
الوزير، ورفع رأسه إلى السماء، فرأى السموات السبع وما فيهن إلى سدرة المنتهى،
ورأى كيفية دوران الفلك، وكشف الله له عن جميع ذلك، ورأى النجوم السيَّارة
والثوابت، وعلم كيفية الكواكب، وشاهَدَ هيئة البر والبحر، واستنبط من ذلك علم
الهندسة، وعلم التنجيم، وعلم الهيئة، وعلم الفلك، وعلم الحساب، وما يتعلَّق بذلك
كله، وعرف ما يترتَّب على الكسوف والخسوف، وغير ذلك؛ ثم نظر إلى الأرض فعرف ما
فيها من المعادن والنبات والأشجار، وعلم جميع ما لها من الخواص والمنافع، واستنبط
من ذلك علم الطب، وعلم السيمياء، وعلم الكيمياء، وعرف صنعة الذهب والفضة، ولم يزل
سائرًا بذلك اللحم حتى وصل إلى قصر الملك كرزدان، ودخل عليه، وقبَّلَ الأرض بين
يدَيْه، وقال له: تسلم رأسك في وزيرك شمهور. فاغتاظ الملك غيظًا شديدًا بسبب موت
وزيره، وبكى بكاءً شديدًا، وبكت عليه الوزراء والأمراء وأكابر الدولة.
ثم
بعد ذلك قال الملك كرزدان: إن الوزير شمهور كان عندي في هذا الوقت وهو في غاية
الصحة، ثم ذهب ليأتيني باللحم إن كان طاب طبخه، فما سبب موته في هذه الساعة؟ وأي
شيء عرض له من العوارض؟ فحكى حاسب للملك جميع ما جرى لوزيره، من أنه شرب القنينة،
وتورَّمَ وانتفخ بطنه ومات؛ فحزن عليه الملك حزنًا شديدًا، ثم قال لحاسب: كيف حالي
بعد شمهور؟ فقال حاسب: لا تحمل همًّا يا ملك الزمان، فأنا أداويك في ثلاثة أيام،
ولا أترك في جسمك شيئًا من الأمراض. فانشرح صدر الملك كرزدان، وقال لحاسب: أنا
مرادي أن أعافى من هذا البلاء، ولو بعد مدة من السنين. فقام حاسب وأتى بالقدر وحطه
قدام الملك، وأخذ قطعة من لحم ملكة الحيات، وأطعمها للملك كرزدان، وغطاه ونشر على
وجهه منديلًا، وقعد عنده وأمره بالنوم؛ فنام من وقت الظهر إلى وقت المغرب حتى دارت
قطعة اللحم في بطنه، ثم بعد ذلك أيقظه، وسقاه شيئًا من الشراب، وأمره بالنوم، فنام
الليل إلى وقت الصبح، ولما طلع النهار فعل معه مثل ما فعل بالأمس حتى أطعمه القطع
الثلاث على ثلاثة أيام، فقب جلد الملك، وانقشر جميعه؛ فعند ذلك عرق الملك حتى جرى
العرق من رأسه إلى قدمه وتعافى، وما بقي في جسده شيء من الأمراض. وبعد ذلك قال له
حاسب: لا بد من دخول الحمام. ثم أدخله الحمام، وغسل جسده، وأخرجه فصار جسمه مثل
قضيب الفضة، وعاد لما كان عليه من الصحة، ورُدَّتْ له العافية أحسن ما كانت أولًا،
ثم إنه لبس أحسن ملبوسه، وجلس على التخت، وأذن لحاسب كريم الدين في أن يجلس معه،
فجلس بجانبه، ثم أمر الملك بمد السماط، فمُدَّ فأكلَا وغسلَا أيديهما، وبعد ذلك
أمر أن يأتوا بالمشروب فأتوا بما طلب فشربا، ثم بعد ذلك أتى جميع الأمراء والوزراء
والعسكر وأكابر الدولة وعظماء رعيته، وهنوه بالعافية والسلامة، ودقوا الطبول
وزينوا المدينة من أجل سلامة الملك، ولما اجتمعوا عنده للتهنئة قال لهم الملك: يا
معشر الوزراء والأمراء وأرباب الدولة، هذا حاسب كريم الدين داواني من مرضي، اعلموا
أنني قد جعلته وزيرًا أعظم مكان الوزير شمهور. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن
الكلام المباح.
﴿اللیلة 536﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن الملك قال لوزرائه وأكابر دولته: إن الذي دواني من
مرضي هو حاسب كريم الدين، وقد جعلته وزيرًا أعظم مكان الوزير شمهور، فمَن أحَبَّه
فقد أحَبَّني، ومَن أكرمه فقد أكرمني، ومَن أطاعه فقد أطاعني. فقال له الجميع:
سمعًا وطاعة.
ثم
قاموا كلهم، وقبَّلوا حاسب كريم الدين، وسلَّموا عليه، وهنَّوه بالوزارة، ثم بعد
ذلك خلع عليه الملك خلعة سنية منسوجة بالذهب الأحمر، مرصَّعة بالدر والجوهر، أقل
جوهرة فيها تساوي خمسة آلاف دينار، وأعطاه ثلاثمائة مملوك، وثلاثمائة سرية تضيء
مثل الأقمار، وثلاثمائة جارية من الحبش، وخمسمائة بغلة محملة من المال، وأعطاه من
المواشي والغنم والجاموس والبقر ما يكلُّ عنه الوصف، وبعد هذا كله أمر وزراءه
وأمراءه، وأرباب دولته، وأكابر مملكته ومماليكه، وعموم رعيته؛ أن يهاوده، ثم ركب
حاسب كريم الدين، وركب خلفه الوزراء والأمراء، وأرباب الدولة، وجميع العساكر،
وساروا إلى بيته الذي أخلاه له الملك. ثم جلس على كرسي، وتقدَّمت إليه الأمراء
والوزراء، وقبَّلوا يده، وهنَّوه بالوزارة، وصاروا كلهم في خدمته، وفرحت أمه بذلك
فرحًا شديدًا، وهنته بالوزارة، وجاءه أهله وهنوه بالسلامة والوزارة، وفرحوا به فرحًا
شديدًا، ثم بعد ذلك أقبل عليه أصحابه الحطَّابون، وهنوه بالوزارة، وبعد ذلك ركب
وسار حتى وصل إلى قصر الوزير شمهور، فختم على بيته، ووضع يده على ما فيه، وضبطه ثم
نقله إلى بيته، وبعد أن كان لا يعرف شيئًا من العلوم، ولا قراءة الخط، صار عالمًا
بجميع العلوم بقدرة الله تعالى، وانتشر علمه وشاعت حكمته في جميع البلاد، واشتهر
بالتبحُّر في علم الطب والهيئة والهندسة، والتنجيم والكيمياء والسيمياء والروحاني،
وغير ذلك من العلوم.
ثم
إنه قال لأمه يومًا من الأيام: يا والدتي، إن أبي دانيال كان عالمًا فاضلًا،
فأخبريني بما خلَّفه من الكتب وغيرها، فلما سمعت أمه كلامَه، أتَتْه بالصندوق الذي
كان أبوه قد وضع فيه الورقات الخمس الباقية من الكتب التي غرقت في البحر، وقالت
له: ما خلَّفَ أبوك شيئًا من الكتب إلا الورقات الخمس التي في هذا الصندوق. ففتح
الصندوق وأخذ منه الورقات الخمس وقرأها، وقال لها: يا أمي، إن هذه الأوراق من جملة
كتاب وأين بقيته؟ فقالت له: إن أباك كان قد سافَرَ بجميع كتبه في البحر، فانكسرت
به المركب، وغرقت كتبه، وأنجاه الله تعالى من الغرق، ولم يَبْقَ من كتبه إلا هذه
الورقات الخمس، ولما جاء أبوك من السفر كنتُ حاملًا بك، فقال لي: ربما تلدين
ذكرًا، فخذي هذه الأوراق، واحفظيها عندك، فإذا كبر الغلام وسأل عن تركتي، فأعطيه
إياها وقولي له: إن أباك لم يخلف غيرها. وهذه إياها. ثم إن حاسب كريم الدين
تعلَّمَ جميع العلوم، ثم بعد ذلك قعد في أكل وشرب، وأطيب معيشة، وأرغد عيش إلى أن
أتاه هادم اللذات، ومفرِّق الجماعات. وهذا آخِر ما انتهى إلينا من حديث حاسب بن
دانيال رحمه الله تعالى، والله أعلم.
قالت:
بلغني أنه كان في زمن الخليفة أمير المؤمنين هارون الرشيد بمدينة بغداد رجل يقال
له السندباد الحمَّال، وكان رجلًا فقير الحال يحمل بأجرته على رأسه، فاتفق له أنه
حمل في يوم من الأيام حملة ثقيلة، وكان ذلك اليوم شديدَ الحر، فتعب من تلك الحملة،
وعرق واشتدَّ عليه الحر، فمرَّ على باب رجل تاجر قدامه كنس ورش، وهناك هواء معتدل،
وكان بجانب الباب مصطبة عريضة، فحَطَّ الحمَّال حملته على تلك المصطبة ليستريح
ويشم الهواء. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 537﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن الحمَّال لما حطَّ حملته على تلك المصطبة ليستريح ويشم
الهواء، خرج عليه من ذلك الباب نسيم رائق، ورائحة زكية، فاستلذَّ الحمَّال لذلك،
وجلس على جانب المصطبة، فسمع في ذلك المكان نغمَ أوتارٍ وعودٍ، وأصواتًا مطربة،
وأنواعَ إنشادٍ معربة، وسمع أيضًا أصواتَ طيور تناغِي وتسبِّح الله تعالى باختلاف
الأصوات وسائر اللغات؛ من قماري وهزار وشحارير وبلبل وفاخت وكيروان، فعند ذلك
تعجَّبَ في نفسه، وطرب طربًا شديدًا، فتقدَّمَ إلى ذلك الباب فوجد داخل البيت
بستانًا عظيمًا، ونظر فيه غلمانًا وعبيدًا، وخدمًا وحشمًا، وشيئًا لا يوجد إلا عند
الملوك والسلاطين، وبعد ذلك هبت عليه رائحة أطعمة طيبة زكية من جميع الألوان
المختلفة والشراب الطيب، فرفع طرفه إلى السماء، وقال: سبحانك يا رب يا خالق يا
رازق، ترزق مَن تشاء بغير حساب، اللهم إني أستغفرك من جميع الذنوب، وأتوب إليك من
العيوب، يا رب لا اعتراضَ عليك في حكمك وقدرتك، فإنك لا تُسأَل عمَّا تفعل، وأنت
على كل شيء قدير، سبحانك تُغْنِي مَن تشاء، وتُفْقِر مَن تشاء، وتُعِزُّ مَن تشاء،
وتُذِلُّ مَن تشاء، لا إله إلا أنت، ما أعظم وما أقوى سلطانك! وما أحسن تدبيرك! قد
أنعمتَ على مَن تشاء من عبادك، فهذا المكان صاحبه في غاية النعمة، وهو متلذِّذ
بالروائح اللطيفة، والمآكل اللذيذة، والمشارب الفاخرة في سائر الصفات، وقد حكمتَ
في خَلْقِك بما تريد، وما قدَّرته عليهم؛ فمنهم تعبان، ومنهم مستريح، ومنهم سعيد،
ومنهم مَن هو مثلي في غاية التعب والذل. وأنشد يقول:
الظِّلُّ
مِنْ كُلِّ شَيْءٍ شَخْصُهُ فَظِلُّ
الشَّقِيِّ كَمَا هُوَ ظِلِّي
وَأَصْبَحْتُ
فِي تَعَبٍ زَائِدٍ وَأَمْرِي
عَجِيبٌ وَقَدْ زَادَ حِمْلِي
وَغَيْرِي
سَعِيدٌ بِلَا شَقْوَةٍ وَمَا
حَمَلَ الدَّهْرُ يَوْمًا كَحِمْلِي
يَنْعَمُ
فِي عَيْشِهِ دَائِمًا بِبَسْطٍ
وَعِزٍّ وَشُرْبٍ وَأَكْلِ
وَكُلُّ
الْخَلَائِقِ مِنْ نُطْفَةٍ أَنَا
مِثْلُ هَذَا وَهَذا كَمِثْلِي
وَلَكِنَّ
شَتَّانَ مَا بَيْنَنَا وَشَتَّانَ
مَا بَيْنَ خَمْرٍ وَخَلِّ
وَلَسْتُ
أَقُولُ عَلَيْكَ فِرًى فَأَنْتَ
حَكِيمٌ حَكَمْتَ بِعَدْلِ
فلما
فرغ السندباد الحمَّال من شعره ونظمه، أراد أن يحمل حملته ويسير؛ إذ قد طلع عليه
من ذلك الباب غلام صغير السن، حسن الوجه، مليح القد، فاخر الملابس، فقبض على يد
الحمال، وقال له: ادخل كلِّمْ سيدي، فإنه يدعوك. فأراد الحمَّال الامتناعَ من
الدخول مع الغلام، فلم يقدر على ذلك؛ فحَطَّ حملته عند البواب في دهليز المكان
ودخل مع الغلام داخل الدار؛ فوجد دارًا مليحة، وعليها أنس ووقار، ونظر إلى مجلس
عظيم، فنظر فيه من السادات الكرام، والموالي العظام، وفيه من جميع أصناف الزهر،
وجميع أصناف المشموم، ومن أنواع النقل والفواكه، وشيئًا كثيرًا من أصناف الأطعمة
النفيسة، وفيه مشروب من خواص دوالي الكروم، وفيه آلات السماع والطرب من أصناف
الجواري الحسان، كلٌّ منهم في مقامه على حسب الترتيب، وفي صدر ذلك المجلس رجل عظيم
محترم، قد لكزه الشيب في عوارضه، وهو مليح الصورة، حَسَن المنظر، وعليه هيبة
ووقار، وعَزٌّ وافتخار؛ فعند ذلك بُهِت السندباد الحمَّال، وقال في نفسه: والله
إنَّ هذا المكان من بقع الجنان، أو أنه يكون قصرَ ملكٍ أو سلطان. ثم إنه تأدَّبَ
وسلَّمَ عليهم، ودَعَا لهم، وقبَّلَ الأرض بين أيديهم، ووقف وهو منكس رأسه. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 538﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن السندباد الحمَّال لما قبَّل الأرض بين أيديهم، وقف
وهو منكس الرأس متخشِّع، فأَذِن له صاحب المكان بالجلوس، فجلس وقد قرَّبَه إليه،
وصار يُؤانِسه بالكلام، ويرحِّب به، ثم إنه قدَّمَ له شيئًا من أنواع الطعام
المفتخر الطيب النفيس، فتقدَّمَ السندباد الحمال، وسمَّى وأكَلَ حتى اكتفى وشبع،
وقال: الحمد لله على كل حال. ثم إنه غسل يدَيْه، وشكرهم على ذلك، فقال صاحب
المكان: مرحبًا بك، ونهارك مبارك، فما يكون اسمك؟ وما تعاني من الصنائع؟ فقال له:
يا سيدي، اسمي السندباد الحمَّال، وأنا أحمل على رأسي أسباب الناس بالأجرة.
فتبسَّمَ صاحبُ المكان، وقال له: اعلم يا حمَّال أن اسمك مثل اسمي، فأنا السندباد
البحري، ولكن يا حمَّال قصدي أن تُسمِعني الأبيات التي كنتَ تُنْشِدها وأنت على
الباب. فاستحى الحمَّال، وقال له: بالله عليك لا تؤاخذني، فإن التعب والمشقة،
وقلَّة ما في اليد تُعلِّم الإنسان قلةَ الأدب والسفه. فقال له: لا تستحِ؛ فأنت
صرتَ أخي، فأَنْشِدِ الأبيات، فإنها أعجبَتْني لما سمعتها منك، وأنت تنشدها على
الباب. فعند ذلك أنشده الحمَّال تلك الأبيات فأعجبَتْه، وطرب لسماعها، وقال له: يا
حمَّال، اعلم أنَّ لي قصة عجيبة، وسوف أخبرك بجميع ما صار لي، وما جرى لي من قبل
أن أصير في هذه السعادة، وأجلس في هذا المكان الذي تراني فيه، فإني ما وصلتُ إلى
هذه السعادة وهذا المكان إلا بعد تعب شديد، ومشقة عظيمة، وأهوال كثيرة، وكم قاسيتُ
في الزمن الأول من التعب والنصب! وقد سافرت سبع سفرات، وكل سفرة لها حكاية عجيبة
تُحيِّر الفكر، وكل ذلك بالقضاء والقدر، وليس من المكتوب مفر ولا مهرب.
الحكاية
الأولى وهي أول السفرات؛ اعلموا يا سادة يا كرام أنه كان لي أب تاجر، وكان من
أكابر الناس والتجار، وكان عنده مال كثير، ونوال جزيل، وقد مات وأنا ولد صغير،
وخلف لي مالًا وعقارًا وضياعًا، فلما كبرت وضعت يدي على الجميع، وقد أكلت أكلًا
مليحًا، وشربت شربًا مليحًا، وعاشرت الشباب، وتجملت بلبس الثياب، ومشيت مع الخلان
والأصحاب، واعتقدت أن ذلك يدوم لي وينفعني، ولم أزل على هذه الحالة مدة من الزمان،
ثم إني رجعت إلى عقلي، وأفقت من غفلتي، فوجدت مالي قد مال، وحالي قد حال، وقد ذهب
جميع ما كان معي، ولم أستفق لنفسي إلا وأنا مرعوب مدهوش، وقد تفكَّرْتُ حكايةً
كنتُ أسمعها سابقًا؛ وهي حكاية سيدنا سليمان بن داود عليهما السلام في قوله:
«ثلاثة خير من ثلاثة: يوم الممات خير من يوم الولادة، وكلب حي خير من سبع ميت،
والقبر خير من القصر». ثم إني قمت وجمعت ما كان عندي من آثار وملبوس وبعته، ثم بعت
عقاري وجميع ما تملك يدي، فجمعت ثلاثة آلاف درهم، وقد خطر ببالي السفر إلى بلاد
الناس، وتذكَّرْتُ كلامَ بعضِ الشعراء حيث قال:
بِقَدْرِ
الْكَدِّ تُكْتَسَبُ الْمَعَالِي وَمَنْ
طَلَبَ الْعُلَا سَهَرَ اللَّيَالِي
يَغُوصُ
الْبَحْرَ مَنْ طَلَبَ اللَّآلِي وَيَحْظَى
بِالسِّيَادَةِ وَالنَّوَالِ
وَمَنْ
طَلَبَ الْعُلَا مِنْ غَيْرِ كَدٍّ أَضَاعَ
الْعُمْرَ فِي طَلَبِ الْمُحَالِ
فعند
ذلك هممت فقمت واشتريت لي بضاعة ومتاعًا وأسبابًا وشيئًا من أغراض السفر، وقد سمحت
لي نفسي بالسفر في البحر، فنزلت المركب، وانحدرت إلى مدينة البصرة مع جماعة من
التجار، وسرنا في البحر مدة أيام وليالٍ، وقد مررنا بجزيرة بعد جزيرة، ومن بحر إلى
بحر، ومن بر إلى بر، وفي كل مكان مررنا به نبيع ونشتري ونقايض بالبضائع فيه، وقد
انطلقنا في سير البحر إلى أن وصلنا إلى جزيرةٍ كأنها روضة من رياض الجنة، فأرسى
بنا صاحبُ المركب على تلك الجزيرة، ورمى مراسيها، ومدَّ السقالة، فنزل جميع مَن
كان في المركب في تلك الجزيرة، وقد عملوا لهم كوانين، وأوقدوا فيها النار، واختلفت
أشغالهم، فمنهم مَن صار يطبخ، ومنهم مَن صار يغسل، ومنهم مَن صار يتفرج، وكنت أنا
من جملة المتفرجين في جوانب الجزيرة، وقد اجتمعت الركاب على أكل وشرب، ولهو ولعب؛
فبينما نحن على تلك الحالة، وإذا بصاحب المركب واقف على جانبها، وصاح بأعلى صوته:
يا ركَّاب السلامة، أَسْرِعوا واطلعوا إلى المركب، وبادروا إلى الطلوع، واتركوا
أسبابكم، واهربوا بأرواحكم، وفوزوا بسلامة أنفسكم من الهلاك، فإن هذه الجزيرة التي
أنتم عليها ما هي جزيرة، وإنما هي سمكة كبيرة رست في وسط البحر، فبنى عليها الرمل
فصارت مثل الجزيرة، وقد نبتت عليها الأشجار من قديم الزمان، فلما أوقدتم عليها
النار أحَسَّتْ بالسخونة فتحرَّكَتْ، وفي هذا الوقت تنزل بكم في البحر فتغرقون
جميعًا، فاطلبوا النجاةَ لأنفسكم قبل الهلاك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن
الكلام المباح.
﴿اللیلة 539﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن ريس المركب لما صاح على الركاب وقال لهم: اطلبوا
النجاة لأنفسكم قبل الهلاك، واتركوا الأسباب. وسمع الركَّاب كلامَ ذلك الريس،
فأسرعوا وبادروا بالطلوع إلى المركب، وتركوا الأسباب، وحوائجهم، ودسوتهم،
وكوانينهم، فمنهم مَن لحق المركب، ومنهم مَن لم يلحقها، وقد تحرَّكَتْ تلك
الجزيرة، ونزلت إلى قرار البحر بجميع ما كان عليها، وانطبق عليها البحر العجاج
المتلاطم بالأمواج، وكنت أنا من جملة مَن تخلَّفَ في الجزيرة، فغرقت في البحر مع
جملة مَن غرق، ولكن الله تعالى أنقذني ونجَّاني من الغرق، ورزقني بقصعة خشب كبيرة
من التي كانوا يغسلون فيها، فمسكتها بيدي، وركبتها من حلاوة الروح، ورفصت في الماء
برجليَّ مثل المجاديف، والأمواج تلعب بي يمينًا وشمالًا، وقد نشر الريس قلاعَ
المركب، وسافَرَ بالذين طلع بهم في المركب، ولم يلتفت لمَن غرق منهم. وما زلت أنظر
إلى ذلك المركب حتى خفي عن عيني، وأيقنت بالهلاك، ودخل عليَّ الليل وأنا على هذه
الحالة، فمكثت على ما أنا فيه يومًا وليلة، وقد ساعدني الريح والأمواج إلى أن رست
بي تحت جزيرة عالية، وفيها أشجار مطلة على البحر، فمسكت فرعًا من شجرة عالية،
وتعلَّقْتُ به بعدما أشرفت على الهلاك، وتمسَّكْتُ به إلى أن طلعت إلى الجزيرة،
فوجدتُ في رجليَّ خدلًا، وأثر أكل السمك في بطونهما، ولم أدرِ بذلك من شدة ما كنتُ
فيه من الكرب والتعب، وقد ارتميت في الجزيرة وأنا مثل الميت، وغبت عن وجودي، وغرقت
في دهشتي، ولم أزل على هذه الحالة إلى ثاني يوم، وقد طلعت الشمس عليَّ، وانتبهتُ
في الجزيرة، فوجدتُ رجليَّ قد ورمتا، فصرتُ حزينًا على ما أنا فيه؛ فتارة أزحف،
وتارة أحبو على ركبتيَّ. وكان في الجزيرة فواكه كثيرة، وعيون من الماء العذب، فصرت
آكل من تلك الفواكه، ولم أزل على هذه الحالة مدة أيام وليالٍ، ولقد انتعشت نفسي،
ورُدَّتْ لي روحي، وقويت حركتي، وصرت أتفكَّر وأمشي في جانب الجزيرة، وأتفرَّج بين
الأشجار على ما خلق الله تعالى، وقد عملتُ لي عكازًا من تلك الأشجار أتوكَّأُ عليه.
ولم
أزل على هذه الحالة إلى أن تمشيت يومًا من الأيام في جانب الجزيرة، فلاح لي شبح من
بعيد، فظننتُ أنه وحش، أو أنه دابة من دواب البحر، فتمشيتُ إلى نحوه، ولم أَزَلْ
أتفرج عليه، وإذا هو فرس عظيم المنظر، مربوط في جانب الجزيرة على شاطئ البحر،
فدنوتُ منه فصرخ عليَّ صرخة عظيمة، فارتعبتُ منه، وأردتُ أن أرجع، وإذ برجل خرج من
تحت الأرض، وصاح عليَّ وتبعني، وقال لي: مَن أنت؟ ومن أين جئتَ؟ وما سبب وصولك إلى
هذا المكان؟ فقلت له: يا سيدي، اعلم أني رجل غريب، وكنت في مركب فغرقتُ أنا وبعض
مَن كان فيها، فرزقني الله بقصعة خشب، فركبتها وعامت بي إلى أن رمتني الأمواج في
هذه الجزيرة. فلما سمع كلامي أمسكني من يدي، وقال لي: امشِ معي. فسرتُ معه فنزل بي
في سرداب تحت الأرض، ودخل بي إلى قاعة كبيرة تحت الأرض، وأجلسني في صدر تلك
القاعة، وجاء لي بشيء من الطعام، وأنا كنتُ جائعًا، فأكلتُ حتى شبعت واكتفيت،
وارتاحت نفسي، ثم إنه سألني عن حالي، وما جرى لي، فأخبرته بجميع ما كان من أمري من
المبتدأ إلى المنتهى، فتعجَّبَ من قصتي، فلما فرغت من حكايتي قلت: بالله عليك يا
سيدي لا تؤاخذني، فأنا قد أخبرتك بحقيقة حالي، وما جرى لي، وأنا أشتهي منك أن
تخبرني مَن أنت؟ وما سبب جلوسك في هذه القاعة التي تحت الأرض؟ وما سبب ربط هذه
الفرس على جانب البحر؟ فقال لي: اعلم أننا جماعة متفرِّقون في هذه الجزيرة على
جوانبها، ونحن سياس الملك المهرجان، وتحت أيدينا جميع خيوله، وفي كل شهر عند القمر
نأتي بالخيل الجياد، ونربطها في هذه الجزيرة من كل بكر، ونختفي في هذه القاعة تحت
الأرض حتى لا يرانا أحد، فيجيء حصان من خيول البحر على رائحة تلك الخيل، ويطلع على
البر، فيلتفت فلا يرى أحدًا، فيثب عليها ويقضي منها حاجته وينزل عنها، ويريد أخذها
معه فلا تقدر أن تسير معه من الرباط، فيصيح عليها، ويضربها برأسه ورجليه ويصيح،
فنسمع صوته، فنعلم أنه نزل عنها، فنطلع صارخين عليه، فيخاف منَّا وينزل البحر
والفرس تحمل منه وتلد مهرًا أو مهرة تساوي خزنة مال، ولا يوجد لها نظير على وجه
الأرض، وهذا وقت طلوع الحصان، وإن شاء الله تعالى آخذك معي إلى الملك المهرجان.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 540﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن السايس قال للسندباد البحري: آخذك معي إلى الملك
المهرجان، وأفرِّجك على بلادنا، واعلم أنه لولا اجتماعك علينا ما كنتَ ترى أحدًا
في هذا المكان غيرنا، وكنت تموت كمدًا، ولا يدري بك أحد، ولكن أنا أكون سبب حياتك
ورجوعك إلى بلادك. فدعوت له وشكرته على فضله وإحسانه، فبينما نحن في هذا الكلام،
وإذا بالحصان قد طلع من البحر، وصرخ صرخة عظيمة، ثم وثب على الفرس، فلما فرغ غرضه
منها نزل عنها، وأراد أخذها معه فلم يقدر، ورفصت وصاحت عليه، فأخذ الرجل السايس
سيفًا بيده ودرقة، وطلع من باب تلك القاعة وهو يصيح على رفقته ويقول: اطلعوا إلى
الحصان. ويضرب بالسيف على الدرقة، فجاء جماعة بالرماح صارخين، فجفل منهم الحصان،
وراح إلى حال سبيله، ونزل في البحر مثل الجاموس، وغاب تحت الماء، فعند ذلك جلس
الرجل قليلًا، وإذا هو بأصحابه قد جاءوه، ومع كل واحد فرس يقودها، فنظروني عنده،
فسألوني عن أمري، فأخبرتهم بما حكيتُه له، وقربوا مني، ومدوا السماط، وأكلوا وعزموا
عليَّ، فأكلتُ معهم.
ثم
إنهم قاموا وركبوا الخيول، وأخذوني معهم، وركبوني على ظهر فرس وسافرنا، ولم نزل
سائرين إلى أن وصلنا إلى مدينة الملك المهرجان، وقد دخلوا عليه وأعلموه بقصتي،
فطلبني فأدخلوني عليه، وأوقفوني بين يديه، فسلَّمْتُ عليه، فردَّ عليَّ السلام، ورحَّبَ
بي وحيَّاني بإكرام، وسألني عن حالي، فأخبرته بجميع ما حصل لي، وبكل ما رأيته من
المبتدأ إلى المنتهى، فعند ذلك تعجَّبَ مما وقع لي، وما جرى لي، وقال لي: يا ولدي،
والله لقد حصل لك مزيد السلامة، ولولا طول عمرك ما نجوتَ من هذه الشدائد، ولكن
الحمد لله على السلامة. ثم إنه أحسن إليَّ، وأكرمني وقرَّبني إليه، وصار يؤانسني
بالكلام والملاطفة، وجعلني عنده عاملًا في ميناء البحر، وكاتبًا على كل مركب عبرت
إلى البر، وصرت واقفًا عنده لأقضي له مصالحه، وهو يحسن إليَّ وينفعني من كل جانب،
وقد كساني كسوة مليحة فاخرة، وصرت مقدَّمًا عنده في الشفاعات، وقضاء مصالح الناس،
ولم أزل عنده مدة طويلة، وأنا كلما أشق على جانب البحر أسأل التجار المسافرين
والبحريين عن ناحية مدينة بغداد؛ لعل أحدًا يخبرني عنها، فأروح معه إليها، وأعود
إلى بلادي، فلا يعرفها أحد، ولا يعرف مَن يروح إليها، وقد تحيَّرْتُ من ذلك، وسئمت
من طول الغربة، ولم أزل على هذه الحالة مدةً من الزمان إلى أنْ جئتُ يومًا من
الأيام، ودخلت على الملك المهرجان، فوجدت عنده جماعة من الهنود، فسلَّمْتُ عليهم،
فردُّوا عليَّ السلام ورحَّبوا بي، وقد سألوني عن بلادي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ
عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 541﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري قال: لما سألتهم عن بلادهم ذكروا لي
أنهم أجناس مختلفة، فمنهم الشاكرية، وهم أشرف أجناسهم، لا يظلمون أحدًا ولا
يقهرونه، ومنهم جماعة تُسمَّى البراهمة، وهم قوم لا يشربون الخمر أبدًا، وإنما هم
أصحابُ حظٍّ وصفاء، ولهو وطرب وجمال، وخيول ومواشٍ، وأعلموني أن صنف اليهود يفترق
على اثنتين وسبعين فرقة، فتعجَّبْتُ من ذلك غاية العجب، ورأيت في مملكة المهرجان
جزيرة من جملة الجزائر يقال لها كابل، يُسمَع فيها ضرب الدفوف والطبول طول الليل،
وقد أخبرنا أصحاب الجزائر والمسافرون بأنهم أصحاب الجد والرأي، ورأيت في ذلك البحر
سمكةً طولها مائتا ذراع، ورأيت أيضًا سمكًا وجهه مثل وجه البوم، ورأيت في تلك
السفرة كثيرًا من العجائب والغرائب ممَّا لو حكيتُه لكم لطال شرحه.
ولم
أزل أتفرَّج على تلك الجزائر وما فيها إلى أن وقفت يومًا من الأيام على جانب
البحر، وفي يدي عكاز على جري عاداتي، وإذا بمركب كبيرة قد أقبلَتْ وفيها تجار
كثير، فلما وصلَتْ إلى ميناء المدينة وفرضتها، طوى الريس قلوعها، وأرسوها على
البر، ومد السقالة، وأطلع البحرية جميعَ ما كان في تلك المركب إلى البر، وأبطئوا
في تطليعه، وأنا واقف أكتب عليهم، فقلت لصاحب المركب: هل بقي في مركبك شيء؟ فقال:
نعم يا سيدي، معي بضائع في بطن المركب، ولكن صاحبها غرق منَّا في البحر، في بعض
الجزائر، ونحن قادمون في البحر، وصارت بضائعه معنا وديعة، فغرضنا أننا نبيعها،
ونأخذ علمًا بثمنها لأجل أن نوصله إلى أهله في مدينة بغداد دار السلام. فقلت
للريس: ما يكون اسم ذلك الرجل صاحب البضائع؟ فقال: اسمه السندباد البحري، وقد غرق
منَّا في البحر. فلما سمعت كلامه حقَّقْتُ النظر فيه، فعرفته وصرخت عليه صرخة
عظيمة، وقلت: يا ريس، اعلم أني أنا صاحب البضائع التي ذكرتَها، وأنا السندباد
البحري الذي نزلتُ من المركب في الجزيرة مع جملةِ مَن نزل من التجار، ولما
تحرَّكَتِ السمكة التي كنَّا عليها وصحتَ أنت علينا طلع مَن طلع، وغرق الباقي،
وكنت أنا من جملة مَن غرق، ولكن الله تعالى سلَّمني ونجَّاني من الغرق بقصعة كبيرة
من التي كان الركاب يغسلون فيها، فركبتها وصرت أرفص برجلي، وساعدني الريح والموج
إلى أن وصلت إلى هذه الجزيرة، فطلعتُ فيها وأعانني الله تعالى، واجتمعت بسيَّاس
الملك المهرجان، فحملوني معهم إلى أن أتوا بي إلى هذه المدينة، وأدخلوني عند الملك
المهرجان، فأخبرته بقصتي فأنعم عليَّ، وجعلني كاتبًا على ميناء هذه المدينة، فصرتُ
أنتفع بخدمته، وصار لي عنده قبول، وهذه البضائع التي معك بضائعي ورزقي. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 542﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري حين قال للريس: هذه البضائع التي معك
بضائعي ورزقي. قال الريس: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ما بقي لأحد
أمانة ولا ذمة. قال: فقلت له: يا ريس، ما سبب ذلك؟ وأنت سمعتَني أخبرتُك بقصتي.
فقال الريس: لأنك سمعتني أقول: إن معي بضائع صاحبها غرق، فتريد أن تأخذها بلا حق،
وهذا حرام عليك، فإننا رأيناه لما غرق، وكان معه جماعة من الركاب كثيرون، وما نجا
منهم أحد، فكيف تدَّعِي أنت أنك صاحب البضائع؟ فقلت له: يا ريس، اسمع قصتي، وافهم
كلامي يظهر لك صدقي، فإن الكذب سيمة المنافقين.
ثم
إني حكيت للريس جميعَ ما كان مني من حين خرجت معه من مدينة بغداد إلى أن وصلنا تلك
الجزيرة التي غرقنا فيها، وأخبرته ببعض أحوالٍ جرَتْ بيني وبينه، فعند ذلك تحقَّقَ
الريس والتجار صدقي، فعرفوني وهنوني بالسلامة، وقالوا جميعًا: والله ما كنَّا نصدق
بأنك نجوتَ من الغرق، ولكن رزقك الله عُمْرًا جديدًا. ثم إنهم أعطوني البضائع،
فوجدنا اسمي مكتوبًا عليها، ولم ينقص منها شيء، ففتحتها وأخرجتُ منها شيئًا نفيسًا
غالي الثمن، وحمَلَتْه معي بحرية المركب، وطلعتُ به إلى الملك على سبيل الهدية،
وأعلمتُ الملك بأن هذه المركب التي كنتُ فيها، وأخبرته أن بضائعي وصلت إليَّ
بالتمام والكمال، وأن هذه الهدية منها، فتعجَّبَ الملك من ذلك الأمر غايةَ العجب،
وظهر له صدقي في جميع ما قلته، وقد أحَبَّني محبةً شديدة، وأكرمني إكرامًا زائدًا،
وقد وهب لي شيئًا كثيرًا في نظير هديتي، ثم بعت حمولي وما كان معي من البضائع،
وكسبت فيها شيئًا كثيرًا، واشتريت بضاعة وأسبابًا ومتاعًا من تلك المدينة، ولما
أراد تجار المركب السفر، شحنت جميع ما كان معي في المركب، ودخلت عند الملك وشكرته
على فضله وإحسانه، ثم إني استأذنته في السفر إلى بلادي وأهلي، فودَّعَني وقد
أعطاني شيئًا كثيرًا عند سفري من متاع تلك المدينة، وقد ودَّعْتُه ونزلت المركب،
وسافرنا بإذن الله تعالى، وخدمنا السعد، وساعدتنا المقادير. ولم نزل مسافرين ليلًا
ونهارًا إلى أن وصلنا بالسلامة إلى مدينة البصرة، وطلعنا فيها، فأقمنا بها زمنًا
قليلًا، وقد فرحت بسلامتي وعودي إلى بلادي، وبعد ذلك توجَّهْتُ إلى مدينة بغداد دار
السلام، ومعي من الحمول والمتاع والأسباب شيءٌ كثير له قيمة عظيمة، ثم جئتُ إلى
حارتي، ودخلت بيتي، وقد جاء جميع أهلي وأصحابي، ثم إني اشتريت لي خدمًا وحشمًا،
ومماليك وسراري وعبيدًا، حتى صار عندي شيء كثير، وقد اشتريتُ لي دورًا وأماكنَ
وعقارًا أكثر من الأول. ثم إني عاشرتُ الأصحاب، ورافقتُ الخلَّان، وصرتُ أكثر ما
كنت عليه في الزمن الأول، وقد نسيت جميع ما كنتُ قاسيتُ من التعب والغربة والمشقة
وأهوال السفر، واشتغلت باللذات والمسرات، والمآكل الطيبة والمشارب النفيسة، ولم
أزل على هذه الحالة. وهذا ما كان في أول سفراتي، وفي غدٍ إن شاء الله تعالى أحكي
لكم الحكاية الثانية من السبع سفرات.
ثم
إن السندباد البحري عشَّى السندباد البري عنده، وأمر له بمائة مثقالٍ ذهبًا، وقال
له: آنستنا في هذا النهار. فشكره الحمال، وأخذ منه ما وهبه له، وانصرف إلى حال
سبيله وهو متفكِّر فيما يقع وما يجري للناس، ويتعجَّب غاية العجب، ونام تلك الليلة
في منزله، ولما أصبح الصباح جاء إلى بيت السندباد البحري ودخل عنده، فرحَّبَ به
وأكرمه وأجلسه عنده، ولما حضر بقية أصحابه قدَّمَ لهم الطعام والشراب، وقد صفا لهم
الوقت، وحصل لهم الطرب، فبدأ السندباد البحري بالكلام وقال: اعلموا يا إخواني أني
كنت في ألذ عيش وأصفى سرور على ما تقدم ذكره لكم بالأمس. وأدرك شهرزاد الصباح
فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 543﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن السندباد البحري لما اجتمع عنده أصحابه قال لهم: إني
كنت في ألذ عيش إلى أن خطر ببالي يومًا من الأيام السفرُ إلى بلاد الناس، واشتاقت
نفسي إلى التجارة، والتفرج في البلدان والجزائر، واكتساب المعاش، فهممت في ذلك
الأمر، وقد أخرجت من مالي شيئًا كثيرًا اشتريتُ به بضائعَ وأسبابًا تصلح للسفر،
وحزمْتُها، وجئتُ إلى الساحل فوجدت مركبًا مليحة جديدة، وله قلع قماش مليح، وهي
كثيرة الرجال، زائدة العدة، ونزلت حمولي فيها أنا وجماعة من التجار، وقد سافرنا في
ذلك النهار، وطاب لنا السفر، ولم نزل من بحر إلى بحر، ومن جزيرة إلى جزيرة، وكل
محل رسينا عليه نقابل التجار، وأرباب الدولة، والبائعين والمشترين، ونبيع ونشتري
ونقايض بالبضائع فيه. ولم نزل على هذه الحالة إلى أن ألقتنا المقادير على جزيرةٍ
مليحة كثيرة الأشجار، يانعة الأثمار، فائحة الأزهار، مترنمة الأطيار، صافية
الأنهار، ولكن ليس بها ديار، ولا نافخ نار، فأرسى بنا الريس على تلك الجزيرة، وقد
طلع التجَّار والركاب إلى تلك الجزيرة يتفرَّجون على ما بها من الأشجار والأطيار،
ويسبِّحون الله الواحد القهار، ويتعجَّبون من قدرة الملك الجبَّار، فعند ذلك طلعت
إلى الجزيرة مع جملةِ مَن طلع، وجلست على عين ماء صافٍ بين الأشجار، وكان معي شيء
من المأكل، فجلستُ في هذا المكان آكل ما قسم الله تعالى لي، وقد طاب لنا النسيم
بذلك المكان، وصفا لي الوقت، فأخذتني سِنَة من النوم، فارتحتُ في ذلك المكان، وقد
استغرقتُ في النوم، واستلذذتُ بذلك النسيم الطيب والروائح الزكية.
ثم
إني قمتُ فلم أجد في ذلك المكان إنسيًّا ولا جنيًّا، وقد سارت المركب بالركاب، ولم
يتذكَّرْني منهم أحدٌ لا من التجَّار، ولا من البحرية، فتركوني في الجزيرة، وقد
التفتُّ فيها يمينًا وشمالًا، فلم أجد بها أحدًا غيري، فحصل عندي قهر شديد ما عليه
من مزيد، وقد كادت مرارتي تنفقع من شدة ما أنا فيه من الغم والحزن والتعب، ولم يكن
معي شيء من الدنيا، ولا من المأكل، ولا من المشرب، وصرتُ وحيدًا، وقد تعبتُ في
نفسي، وآيستُ من الحياة، وقلت: ما كل مرة تسلم الجرة، وإن كنتُ سلمت في المرة
الأولى ولقيت مَن أخذني معه من الجزيرة إلى العمارة، ففي هذه المرة هيهات! هيهات!
إنْ كنتُ أجد مَن يوصلني إلى بلاد العمار.
ثم
إني صرت أبكي وأنوح على نفسي حتى تملَّكَني القهر، ولمت نفسي على ما فعلته وعلى ما
شرعتُ فيه من أمر السفر والتعب، من بعد ما كنتُ جالسًا مرتاحًا في دياري وبلادي
وأنا مبسوطٌ ومتهنٍّ بمأكول طيِّب ومشروب طيِّب وملبوس طيِّب، وما كنت محتاجًا
شيئًا من المال ولا من البضائع. وصرت أتندم على خروجي من مدينة بغداد، وسفري في
البحر من بعد ما قاسيتُ التعبَ في السفرة الأولى وأشرفت على الهلاك، وقلت: إنا لله
وإنا إليه راجعون. وقد صرتُ في حيِّز المجانين، وبعد ذلك قمتُ على حيلي، وتمشيت في
الجزيرة يمينًا وشمالًا، وصرت لا أستطيع الجلوس في محل واحد، ثم إني صعدت على شجرة
عالية، وصرت أنظر من فوقها يمينًا وشمالًا، فلم أَرَ غير سماء وماء، وأشجار
وأطيار، وجزائر ورمال، وقد حقَّقْتُ النظر فلاحَ لي في الجزيرة شبح أبيض عظيم
الخلقة، فنزلت من فوق الشجرة وقصدته، وصرتُ أمشي إلى ناحيته، ولم أزل سائرًا إلى
أن وصلتُ إليه، وإذا به قبة كبيرة بيضاء شاهقة في العلوِّ كبيرة الدائرة، فدنوت
منها، ودرت حولها، فلم أجد لها بابًا، ولم أجد لي قوة ولا حركة إلى الصعود عليها
من شدة النعومة، فعلَّمْتُ مكان وقوفي، ودرتُ حول القبة أقيس دائرتها، فإذا هو
خمسون خطوة وافية، فصرتُ متفكِّرًا في الحيلة الموصلة إلى دخولها، وقد قرب زوال
النهار، وغروب الشمس، وإذا بالشمس قد خفيت، والجو قد أظلم، واحتجبت الشمس عني،
ظننت أنه جاء على الشمس غمامة، وكان ذلك في زمن الصيف، فتعجبت ورفعت رأسي، وتأملت
في ذلك فرأيت طيرًا عظيم الخلقة، كبير الجثة، عريض الأجنحة، طائرًا في الجو، وهو
الذي غطَّى عين الشمس وحجبها عن الجزيرة؛ فازددتُ من ذلك عجبًا، ثم إني تذكرت
حكاية … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 544﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن السندباد البحري لما زاد تعجُّبه من الطائر الذي رآه
في الجزيرة، تذكَّرَ حكايةً أخبره بها قديمًا أهلُ السياحة والمسافرون؛ وهي أن في
بعض الجزائر طيرًا عظيمَ الخلقة يقال له الرخ، يزقُّ أولاده بالأفيال، فتحقَّقْتُ
أن القبة التي رأيتها إنما هي بيضة من بيض الرخ، ثم إني تعجَّبْتُ من خلق الله تعالى.
فبينما أنا على هذه الحالة، وإذا بذلك الطير نزل على تلك القبة، وحضنها بجناحيه،
ومدَّ رجلَيْه من خلفه على الأرض، ونام عليها، فسبحان مَن لا ينام، فعند ذلك قمتُ
فككتُ عمامتي من فوق رأسي، وثنيتها وفتلتها حتى صارت مثل الحبل، وتحزَّمْتُ بها،
وشددت وسطي، وربطت نفسي في رجليَّ ذلك الطائر، وشددتها شدًّا وثيقًا، وقلت في
نفسي: لعل هذا يوصلني إلى بلاد المدن والعمار، ويكون ذلك أحسن من جلوسي في هذه
الجزيرة، وقد بِتُّ تلك الليلة ساهرًا؛ خوفًا من أن أنام، فيطير بي على حين غفلة.
فلما طلع الفجر وبان الصباح، قام الطائر من على بيضته، وصاح صيحة، واقتلع بي إلى
الجو وهو يعلو ويرتفع حتى ظننتُ أنه وصل إلى عنان السماء، وبعد ذلك تنازل بي حتى
نزل بي إلى الأرض، وحطَّ على مكانٍ مرتفع عالٍ، فلما وصلتُ إلى الأرض أسرعتُ
وفككتُ الرباط من رجلَيْه، وأنا خائف منه، ولم يدرِ بي، ولم يحس بي، وبعدها فككتُ
عمامتي منه، وخلصتها من رجليه، وأنا أنتفض، ومشيت في ذلك المكان، ثم إنه أخذ شيئًا
من على وجه الأرض في مخالبه، وطار إلى عنان السماء، فتأملته فإذا هو حية عظيمة
الخلقة، كبيرة الجسم، قد أخذها وذهب بها إلى البحر، فتعجَّبْتُ من ذلك. ثم إني
تمشَّيْتُ في ذلك المكان، فوجدتُ نفسي في مكانٍ عالٍ، وتحته وادٍ كبير واسع عميق،
وبجانبه جبل عظيم شاهق في العلو لا يقدر أحد أن يرى أعلاه من فرط علوِّه، وليس
لأحدٍ قدرة على الطلوع فوقه، فلمتُ نفسي على ما فعلته وقلت: يا ليتني مكثتُ في
الجزيرة، فإنها أحسن من هذا المكان القفر؛ لأن الجزيرة كان يوجد فيها شيء آكله من
أصناف الفواكه، وأشرب من أنهارها، وهذا المكان ليس فيه أشجار ولا أثمار ولا أنهار،
فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أنا كل ما أخلص من مصيبة أقع فيما هو
أعظم منها وأشد.
ثم
إني قمت وقويت نفسي، ومشيت في ذلك الوادي، فرأيت أرضه من حجر الماس الذي يثقبون به
المعادن والجواهر، ويثقبون به الصيني والجزع، وهو حجر صلب يابس لا يعمل فيه الحديد
ولا الصخر، ولا أحد يقدر أن يقطع منه شيئًا، ولا أن يكسره إلا بحجر الرصاص، وكل
ذلك الوادي حيات وأفاعٍ، كل واحدة مثل النخلة، ومن عظم خلقتها لو جاءها فيل
لابتلعته، وتلك الحيات يظهرن في الليل، ويختفين في النهار؛ خوفًا من طير الرخ
والنسر أن يختطفها، وبعد ذلك يقطعها، ولا أدري ما سبب ذلك؛ فأقمتُ بذلك الوادي،
وأنا متندِّم على ما فعلتُه، وقلت في نفسي: والله إني قد عجلتُ بالهلاك على نفسي،
وقد ولَّى النهار عليَّ فصرتُ أمشي في ذلك الوادي، وأتلفَّتُ على محل أبيت فيه،
وأنا خائف من تلك الحيات، ونسيت أكلي وشربي ومعاشي، واشتغلت بنفسي، فَلَاحَ لي
مغارة بالقرب مني، فمشيت فوجدت بابها ضيقًا، فدخلتُها ونظرت إلى حجر كبير عند
بابها، فدفعته وسددت به باب تلك المغارة وأنا داخلها، وقلت في نفسي: إني أمنت لما
دخلت في هذا المكان، وإن طلع عليَّ النهار أطلع وأنظر ما تفعل القدرة. ثم التفَتُّ
في داخل المغارة، فنظرت حيةً عظيمة نائمة في صدر المغارة على بيضها، فاقشعَرَّ
بدني، وأقمتُ رأسي، وسلَّمْتُ أمري للقضاء والقدر، وبت ساهرًا طول الليل إلى أن
طلع الفجر ولاح، فأزحتُ الحجرَ الذي سددتُ به باب المغارة، وخرجتُ منها وأنا مثل
السكران دائخ من شدة السهر والجوع والخوف، وتمشيت في الوادي. فبينما أنا على هذه
الحالة وإذا بذبيحة عظيمة قد سقطت قدامي، ولم أجد أحدًا؛ فتعجَّبْتُ من ذلك غاية
العجب، وتفكَّرْتُ حكايةً كنتُ أسمعها من قديم الزمان من بعض التجار والمسافرين
وأهل السياحة أن في جبال حجر الماس الأهوال العظيمة، ولا يقدر أحد أن يسلك إليه،
ولكن التجار الذين يجلبونه يعملون حيلةً في الوصول إليه، ويأخذون الشاة من الغنم
ويذبحونها ويسلخونها، ويشرحون لحمها، ويرمونه على ذلك الجبل إلى أرض الوادي، فتنزل
وهي طرية، فيلتصق بها شيء من هذه الحجارة، ثم تتركها التجار إلى نصف النهار، فتنزل
الطيور من النسور والرخ إلى ذلك اللحم، وتأخذه في مخالبها، وتصعد إلى أعلى الجبل
فتأتيها التجار، وتصيح عليها، فتطير من عند ذلك اللحم، ثم تتقدَّم التجار إلى ذلك
اللحم وتخلص منه الحجارة اللاصقة به، ويتركون اللحم للطيور والوحوش، ويحملون
الحجارة إلى بلادهم، ولا أحدَ يقدر أن يتوصَّل إلى مجيء حجر الماس إلا بهذه
الحيلة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 545﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن السندباد البحري صار يحكي لأصحابه جميع ما حصل له في
جبل الماس، ويخبرهم أن التجار لا يقدرون على مجيء شيء منه إلا بحيلة مثل التي
ذكرها، ثم قال: فلما نظرتُ على تلك الذبيحة وتذكَّرْتُ هذه الحكاية، قمتُ وجئتُ
عند الذبيحة، فنقَّيْتُ من هذه الحجارة شيئًا كثيرًا، وأدخلتُه في جيبي وبين
ثيابي، وصرتُ أنقِّي وأُدْخِل في جيوبي وحزامي وعمامتي وبين حوائجي، فبينما أنا
على هذه الحالة وإذا بذبيحة كبيرة، فربطتُ نفسي عليها بعمامتي، ونمتُ على ظهري،
وجعلتها على صدري، وأنا قابض عليها، فصارت عالية على الأرض، وإذا بنسرٍ نزل على
تلك الذبيحة وقبض عليها بمخالبه، واقتلع بها إلى الجو، وأنا معلَّق بها، ولم يزل
طائرًا إلى أن صعد بها إلى أعلى الجبل، وحط بها، وأراد أن ينهش منها، وإذا بصيحة
عظيمة عالية من خلف ذلك النسر، وشيء يخبط بالخشب على ذلك الجبل، فجفل النسر وخاف
وطار إلى الجو، ففككتُ نفسي من الذبيحة، وقد تلوَّثَتْ ثيابي من دمها، ووقفت
بجانبها، وإذا بذلك التاجر الذي صاح على النسر تقدَّمَ إلى الذبيحة فرآني واقفًا،
فلم يكلمني، وقد فزع مني وارتعب، وأتى الذبيحة وقلَّبَها فلم يجد فيها شيئًا، فصاح
صيحة عظيمة وقال: وا خيبتاه! لا حول ولا قوة إلا بالله، نعوذ بالله من الشيطان
الرجيم. وهو يتندم ويخبط كفًّا على كف، ويقول: وا حسرتاه! أي شيء هذا الحال؟
فتقدَّمْتُ إليه، فقال لي: مَن أنت؟ وما سبب مجيئك إلى هذا المكان؟ فقلت له: لا
تخف ولا تخشَ؛ فإني إنسي من خيار الإنس، وكنت تاجرًا ولي حكاية عظيمة، وقصة غريبة،
وسبب وصولي إلى هذا الجبل وهذا الوادي له حكاية عجيبة، فلا تَخَفْ فلك ما يسرك
مني، وأنا معي شيء كثير من حجر الماس، فأعطيك منه شيئًا يكفيك، وكل قطعة معي أحسن
من كل شيء يأتيك؛ فلا تجزع ولا تخف. فعند ذلك شكرني الرجل، ودعا لي، وتحدَّثَ معي،
وإذا بالتجَّار سمعوا كلامي مع رفيقهم، فجاءوا إليَّ، وكان كل تاجر رمى ذبيحته،
فلما قدموا علينا سلَّموا عليَّ وهنوني بالسلامة، وأخذوني معهم، وأعلمتهم بجميع
قصتي، وما قاسيته في سفرتي، وأخبرتهم بسبب وصولي إلى هذه الوادي.
ثم
إني أعطيت لصاحب الذبيحة التي تعلَّقْتُ فيها شيئًا كثيرًا مما كان معي؛ ففرح بي،
ودعا لي، وشكرني على ذلك، وقال لي التجار: والله إنه قد كُتِب لك عُمْر جديد، فما
أحد وصل إلى هذا المكان قبلك ونجا منه، ولكن الحمد لله على سلامتك. وباتوا في مكان
مليح أمان، وبتُّ عنده وأنا فرحان غاية الفرح بسلامتي ونجاتي من وادي الحيات،
ووصولي إلى بلاد العمار. ولما طلع النهار قمنا وسرنا على ذلك الجبل العظيم، وصرنا
ننظر في ذلك الوادي حيات كثيرة، ولم نزل سائرين إلى أن أتينا بستانًا في جزيرة
عظيمة مليحة، وفيها شجر الكافور، كل شجرة منها يستظِلُّ تحتها مائة إنسان، وإذا أراد
أحدٌ أن يأخذ منه شيئًا، يثقب من أعلى الشجرة بشيء طويل، ويتلقى ما ينزل منه؛
فيسيل منه ماء الكافور، ويقعد مثل الصمغ، وهو عسل ذلك الشجر، وبعد ذلك تيبس
الشجرة، وتصير حطبًا. وفي تلك الجزيرة صنف من الوحوش يقال له الكزكزان، يرعى فيها
رعيًا مثل ما يرعى البقر والجاموس في بلادنا، ولكن جسم ذلك الوحش أكبر من جسم
الجمل، ويأكل العلق؛ وهو دابة عظيمة لها قرن واحد غليظ في وسط رأسها، طوله قدر
عشرة أذرع، وفيه صورة إنسان، وفي تلك الجزيرة شيء من صنف البقر، وقد قال لنا
البحريون المسافرون وأهل السياحة في الجبال والأراضي إن هذا الوحش المُسمَّى
بالكزكزان يحمل الفيل الكبير على قرنه، ويرعى به في الجزيرة والسواحل، ولا يشعر
به، ويموت الفيل على قرنه، ويسيح دهنه من حر الشمس على رأسه، ويدخل في عينيه فيعمى
فيرقد في جانب السواحل، فيجيء له طير الرخ فيحمله في مخالبه، ويروح به عند أولاده،
ويزقهم به، وبما على قرنه، وقد رأيت في تلك الجزيرة شيئًا كثيرًا من صنف الجاموس
ليس له عندنا نظير، وفي ذلك الوادي شيء كثير من حجر الماس الذي حملته معي،
وخبَّأْتُه في جيبي، وقايضوني عليه ببضائع ومتاع من عندهم، وحملوها لي معهم،
وأعطوني دراهم ودنانير، ولم أزل سائرًا معهم وأنا أتفرج على بلاد الناس وعلى ما
خلق الله، من وادٍ إلى وادٍ، ومن مدينة إلى مدينة، ونحن نبيع ونشتري إلى أن وصلنا
إلى مدينة البصرة، وأقمنا بها أيامًا قلائل، ثم جئتُ إلى مدينة بغداد. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 546﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن السندباد البحري لما رجع من غيبته، ودخل مدينة بغداد
دار السلام، وجاء إلى حارته، ودخل داره، ومعه من صنف حجر الماس شيء كثير، ومعه مال
ومتاع، وبضائع لها صورة، وقد اجتمع بأهله وأقاربه، ثم تصدق ووهب وأعطى، وهادى جميع
أهله وأصحابه، وصار يأكل طيبًا، ويشرب طيبًا، ويلبس لباسًا مليحًا، ويعاشر ويرافق،
ونسي جميع ما كان قاساه، ولم يزل في هني عيش، وصفاء خاطر، وانشراح صدر، وهو في لعب
وطرب، وصار كل مَن سمع بقدومه يجيء إليه، ويسأله عن حال السفر، وأحوال البلاد،
فيخبره ويحكي له ما لقيه وما قاساه، فيتعجَّب من شدة ما قاساه، ويهنِّيه بالسلامة،
وهذا آخِر ما جرى له، وما اتفق له في السفرة الثانية.
ثم
قال لهم: وفي غد إن شاء الله تعالى أحكي لكم حال السفرة الثالثة. فلما فرغ
السندباد البحري من حكايته للسندباد البري، تعجبوا من ذلك، وتعشوا عنده، وأمر
للسندباد بمائة مثقال ذهبًا، فأخذها وتوجَّه إلى حال سبيله، وهو يتعجَّب مما قاساه
السندباد البحري، وشكره ودعا له في بيته. ولما أصبح الصباح، وأضاء بنوره ولاح، قام
السندباد الحمال، وصلى الصبح وجاء إلى بيت السندباد البحري كما أمره، ودخل إليه
فصبَّح عليه، فرحَّبَ به وجلس معه حتى أتاه باقي أصحابه وجماعته، وقد أكلوا
وشربوا، واستلذوا وطربوا وانشرحوا، فابتدأ السندباد البحري بالكلام وقال: السفرة
الثالثة؛ اعلموا يا إخواني، واسمعوا مني حكايتها، فإنها أعجب من الحكايات
المتقدِّمة قبل تاريخه، والله أعلم بغيبه وأحكم، إني فيما مضى وتقدَّمَ لما جئتُ
من السفرة الثانية، وإني في غاية البسط والانشراح فرحان بالسلامة، وقد كسبت مالًا
كثيرًا، كما حكيتُ لكم أمسِ تاريخَه، وقد عوَّض الله عليَّ جميعَ ما راح مني،
أقمتُ بمدينة بغداد مدة من الزمان، وأنا في غاية الحظ والصفاء، والبسط والانشراح،
فاشتاقت نفسي إلى السفر والفرجة، وتشوقت إلى المتجر والكسب والفوائد، والنفسُ
أمَّارة بالسوء، فهممتُ واشتريتُ شيئًا كثيرًا من البضائع المناسبة لسفر البحر،
وقد حزمتها إلى السفر، وسافرت بها من مدينة بغداد إلى مدينة البصرة، وجئتُ إلى
ساحل البحر، فرأيتُ مركبًا عظيمة، وفيه تجار وركَّاب كثيرة، أهل خير وناس ملاح
طيبون، أهل دين ومعروف وصلاح، فنزلت معهم في تلك المركب، وسافرنا على بركة الله
تعالى بعونه وتوفيقه، وقد استبشرنا بالخير والسلامة، ولم نزل سائرين من بحر إلى
بحر، ومن جزيرة إلى جزيرة، ومن مدينة إلى مدينة، وفي كل مكان مررنا عليه نتفرج
ونبيع ونشتري ونحن في غاية الفرح والسرور، إلى أن كنَّا يومًا من الأيام سائرين في
وسط البحر العجاج المتلاطم بالأمواج، فإذا بالريس وهو على جانب المركب ينظر على
نواحي البحر، ثم إنه لطم وجهه وطوى قلوع المركب، ورمى مراسيه، ونتف لحيته، ومزَّق
ثيابه، وصاح صياحًا عظيمًا، فقلنا له: يا ريس، ما الخبر؟ فقال: اعلموا يا ركَّاب
السلامة أن الريح غلب علينا، وقد عسف بنا في وسط البحر، ورمتنا المقادير لسوء
بختنا إلى جبل القرود، وما وصل إلى هذا المكان أحد وسلم منه قطُّ، وقد أحسَّ قلبي
بهلاكنا أجمعين.
فما
استتم قول الريس حتى جاءنا القرود، وقد احتاطوا بالمركب من كل جانب، وهم شيء كثير
مثل الجراد المنتشر في المركب، وعلى البر؛ فخفنا إنْ قتلنا منها أحدًا وضربناه، أو
طردناه، أن يقتلونا لفرط كثرتهم، والكثرة تغلب الشجاعة، وبقينا خائفين منهم أن
ينهبوا رزقنا ومتاعنا، وهم أقبح الوحوش، وعليهم شعور مثل اللبد الأسود، ورؤيتهم
تفزع، ولا يفهم أحد لهم كلامًا ولا خبرًا، وهم مستوحشون من الناس، صفر العيون، سود
الوجوه، صغار الخلقة، طول كل واحد منهم أربعة أشبار، وقد طلعوا على حبال المرساة،
وقطعوها بأسنانهم، وقطعوا جميع حبال المركب من كل جانب، فمالت المركب من الريح،
ورست على جبلهم، وصارت المركب في برهم، وقد قبضوا على جميع التجار والركاب، وطلعوا
إلى الجزيرة، وأخذوا المركب بجميع ما كان فيها، وراحوا بها إلى حال سبيلهم، وقد
تركونا في الجزيرة، وخفيت عنَّا المركب ولا نعلم أين راحوا بها؟
فبينما
نحن في تلك الجزيرة نأكل من أثمارها وبقولها وفواكهها، ونشرب من الأنهار التي
فيها، إذ لاح لنا بيت عامر في وسط تلك الجزيرة، فقصدناه ومشينا إليه، فإذا هو قصر
مشيد الأركان، عالي الأسوار، له باب بدرفتين مفتوح، وهو من خشب الأبنوس، فدخلنا
بابَ ذلك القصر فوجدنا له حضيرًا واسعًا مثل الحوش الواسع الكبير، وفي دائره أبواب
كثيرة عالية في صدره ومصطبة عالية كبيرة، وفيها أواني طبيخ معلقة على الكوانين،
وحواليها عظام كثيرة، ولم نَرَ فيها أحدًا، فتعجَّبْنا من ذلك غاية العجب، وقد
جلسنا في حضير ذلك القصر قليلًا، ثم بعد ذلك نمنا، ولم نزل نائمين من ضحوة النهار
إلى غروب الشمس، وإذا بالأرض قد ارتجت من تحتنا، وسمعنا دويًّا من الجو، وقد نزل
علينا من أعلى القصر شخص عظيم الخلقة في صفة إنسان، وهو أسود اللون طويل القامة
كأنه نخلة عظيمة، وله عينان كأنهما شعلتان من نار، وله أنياب مثل أنياب الخنازير،
وله فم عظيم الخلقة مثل فم البئر، وله مشافر مثل الجمل مرخية على صدره، وله أذنان
مثل الجرسين مرخيتان على أكتافه، وأظافر يديه مثل مخالب السبع؛ فلما نظرناه على
هذه الحالة غبنا عن وجودنا، وقوي خوفنا، واشتدَّ فزعنا، وصرنا مثل الموتى من شدة
الخوف والجزع والفزع. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 547﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن السندباد البحري ورفقته لما رأوا هذا الشخص الهائل
الصورة، حصل لهم غاية الخوف والفزع، فلما نزل على الأرض جلس قليلًا على المصطبة،
ثم إنه قام وجاء عندنا، ثم إنه قبض على يدي من بين أصحابي التجار، ورفعني بيده عن
الأرض، وجسَّني وقلَّبني، فصرت في يده مثل اللقمة الصغيرة، وصار يجسني مثل ما يجس
الجزَّار ذبيحةَ الغنم، فوجدني ضعيفًا من كثرة القهر، هزيلًا من كثرة التعب
والسفر، وليس فيَّ شيء من اللحم، فأطلقني من يده، وأخذ واحدًا غيري من رفقتي
وقلَّبَه كما قلَّبَني، وجسَّه كما جسَّني وأطلقه، ولم يزل يجسنا ويقلِّبنا واحدًا
بعد واحد إلى أن وصل إلى ريس المركب الذي كنَّا فيه، وكان رجلًا سمينًا غليظًا،
عريض الأكتاف، صاحب قوة وشدة، فأعجبه وقبض عليه مثل ما يقبض الجزار على ذبيحته،
ورماه على الأرض، ووضع رجله على رقبته، فقصف رقبته، وجاء بسيخ طويل فأدخله في حلقه
حتى أخرجه من دُبُره، وأوقد نارًا شديدة، وركب عليها ذلك السيخ الذي مشكوك فيه
الريس، ولم يزل يقلبه على الجمر حتى استوى لحمه، وأطلعه من النار وحطَّه قدامه،
وفسخه كما يفسخ الفرخةَ الرجلُ، وصار يقطع لحمه بأظافره، ويأكل منه، ولم يزل على
هذه الحالة حتى أكل لحمه، ونهش عظمه، ولم يُبْقِ منه شيئًا، ورمى باقي العظام في
جنب القصر. ثم إنه جلس قليلًا وانطرح ونام على تلك المصطبة، وصار يشخر مثل شخير
الخروف أو البهيمة المذبوحة، ولم يزل نائمًا إلى الصباح، ثم قام وخرج إلى حال
سبيله. فلما تحقَّقْنا بُعْدَه، تحدَّثنا مع بعضنا، وبكينا على أرواحنا، وقلنا: يا
ليتنا غرقنا في البحر، أو أكلتنا القرود خير من شيِّ الإنسان على الجمر، والله إن
هذا الموت موت رديء، ولكنْ ما شاء الله كان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم،
لقد متنا كمدًا، ولم يدرِ بنا أحدٌ، وما بقي لنا نجاة من هذا المكان.
ثم
إننا قمنا وخرجنا إلى الجزيرة لننظر لنا مكانًا نختفي فيه أو نهرب، وقد هان علينا
أن نموت ولا يُشوَى لحمنا بالنار، فلم نجد مكانًا نختفي فيه، وقد أدركنا المساء،
فعدنا إلى القصر من شدة خوفنا، وجلسنا قليلًا، وإذا بالأرض قد ارتجَّتْ من تحتنا،
وأقبل علينا ذلك الشخص الأسود، وجاء عندنا، وصار يقلِّبنا واحدًا بعد واحد مثل
المرة الأولى، ويجسنا حتى أعجبه واحد، فقبض عليه، وفعل به مثل ما فعل بالريس في
أول يوم، فشواه وأكله على تلك المصطبة، ولم يزل نائمًا في تلك الليلة وهو يشخر مثل
الذبيحة، فلما طلع النهار قام وراح إلى حال سبيله، وتركنا على جري عادته، فاجتمعنا
ببعضنا وتحدَّثْنا، وقلنا لبعضنا: والله أن نُلقِي أنفسنا في البحر ونموت غرقًا
خيرٌ من أن نموت حرقًا؛ لأن هذه قتلة شنيعة. فقال واحد منا: اسمعوا كلامي، إننا
نحتال عليه، ونرتاح من همه، ونريح المسلمين من عدوانه وظلمه. فقلت لهم: اسمعوا يا
إخواني، إن كان ولا بد من قتله، فإننا نحول هذا الخشب، وننقل شيئًا من هذا الحطب،
ونعمل لنا فلكًا مثل المركب، وبعد ذلك نحتال في قتله، وننزل في الفلك، ونروح في
البحر إلى أي محل يريده الله، وإننا نقعد في هذا المكان حتى يمر علينا مركب فننزل
فيه، وإن لم نقدر على قتله ننزل ونروح في البحر، ولو كنا نغرق فنرتاح من شيِّنا
على النار، ومن الذبح، وإنْ سلمنا سلمنا، وإنْ غرقنا متنا شهداء. فقالوا جميعًا:
والله هذا رأي سديد، وفعل رشيد. واتفقنا على هذا الأمر، وشرعنا في فعله، فنقلنا
الأخشاب إلى خارج القصر، وصنعنا فلكًا، وربطناه على جانب البحر، ونزلنا فيه شيئًا
من الزاد، وعدنا إلى القصر.
فلما
كان وقت المساء، وإذا بالأرض قد ارتجَّتْ بنا، ودخل علينا الأسود وهو كأنه الكلب
العقور، ثم قلَّبَنا، وجسَّنا واحدًا بعد واحد، فأخذ واحدًا منَّا وفعل به مثل ما
فعل بسابقه، وأكله ونام على المصطبة، وصار شخيره مثل الرعد، فنهضنا وقمنا، وأخذنا
سيخين من حديد من الأسياخ المنصوبة، ووضعناهما في النار القوية حتى احمَرَّا
وصارَا مثل الجمر، وقبضنا عليهما قبضًا شديدًا، وجئنا بهما إلى ذلك الأسود وهو
نائم يشخر، ووضعناهما في عينَيْه، واتكأنا عليهما جميعًا بقوتنا وعزمنا،
فأدخلناهما في عينيه وهو نائم، فانطمستا، وصاح صيحة عظيمة، فارتعبَتْ قلوبنا، ثم
قام من فوق تلك المصطبة بعزمه، وصار يفتش علينا، ونحن نهرب منه يمينًا وشمالًا،
ولم ينظرنا وقد عمي بصره؛ فخفنا منه مخافةً شديدة، وأيقنَّا في تلك الساعة
بالهلاك، وآيسنا من النجاة، فعند ذلك قصد الباب وهو يحسس، وخرج منه وهو يصيح، ونحن
في غاية الرعب منه، وإذا بالأرض ترتجُّ من تحتنا من شدة صوته، فلما خرج من القصر
تبعناه، وراح إلى حال سبيله، وهو يدور علينا، ثم إنه رجع ومعه أنثى أكبر وأوحش
خلقةً، فلما رأيناه والتي معه أفظع حالةً منه، خفنا غاية الخوف، فلما رأونا أسرعنا
ونهضنا فككنا الفلك الذي صنعناه، ونزلنا فيه ودفعناه في البحر، وكان مع كل واحد
منهما صخرة عظيمة، وصارا يرجماننا بها إلى أن مات أكثرنا من الرجم، وبقي منَّا
ثلاثة أشخاص؛ أنا واثنان. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 548﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن السندباد البحري لما نزل في الفلك هو وأصحابه، وصار
يرجمهم الأسود ورفيقته، فمات أكثرهم، ولم يَبْقَ منهم إلا ثلاثة أشخاص، فطلع بهم
الفلك إلى جزيرة. قال: فمشينا إلى آخر النهار، فدخل علينا الليل ونحن على هذه
الحالة، فنمنا قليلًا، واستيقظنا من منامنا، وإذا بثعبان عظيم الخلقة، كبير الجثة،
واسع الجوف، قد أحاط بنا، وقصد واحدًا منَّا فبلعه إلى أكتافه، ثم بلع باقيه،
فسمعنا أضلاعه تتكسَّر في بطنه، وراح إلى حال سبيله، فتعجَّبْنا من ذلك غاية
العجب، وحزِنَّا على رفيقنا، وصرنا في غاية الخوف على أنفسنا، وقلنا: والله هذا
أمر عجيب، كل موت أشنع من سابقه، وكنَّا فرحنا بسلامتنا من الأسود، فما تمَّتِ
الفرحة! لا حول ولا قوة إلا بالله، والله قد نجونا من الأسود ومن الغرق، فكيف تكون
نجاتنا من هذه الآفة المشئومة؟ ثم إننا قمنا فمشينا في الجزيرة، وأكلنا من ثمرها،
وشربنا من أنهارها، ولم نزل فيها إلى وقت المساء، فوجدنا شجرة عظيمة عالية
فطلعناها، ونمنا فوقها، وقد طلعت أنا أعلى فروعها، فلما دخل الليل وأظلم الوقت،
جاء الثعبان وتلفَّتَ يمينًا وشمالًا، ثم إنه قصد تلك الشجرة التي نحن عليها، ومشى
حتى وصل إلى رفيقي، وبلعه حتى أكتافه، والتفَّ به على الشجرة، فسمعت عظمه يتكسَّر
في بطنه، ثم بلعه بتمامه وأنا أنظر بعيني. ثم إن الثعبان نزل من فوق تلك الشجرة،
وراح إلى حال سبيله، ولم أزل على تلك الشجرة باقي تلك الليلة، فلما طلع النهار
وبان النور، نزلت من فوق الشجرة، وأنا مثل الميت من كثرة الخوف والفزع، وأردت أن
أُلقِي بنفسي في البحر، وأستريح من الدنيا، فلم تَهُنْ عليَّ روحي؛ لأن الروح
عزيزة،
فربطتُ
خشبةً عريضة على أقدامي بالعرض، وربطت واحدة مثلها على جنبي الشمال، ومثلها على
جنبي اليمين، ومثلها على بطني، وربطت واحدة طويلة عريضة من فوق رأسي بالعرض، مثل
التي تحت أقدامي، وصرت أنا في وسط هذا الخشب، وهو محتاط بي من كل جانب، وقد شددتُ
ذلك شدًّا وثيقًا، وألقيت نفسي بالجميع على الأرض، فصرت نائمًا بين تلك الأخشاب،
وهي محيطة بي كالمقصورة.
فلما
أمسى الليل أقبل ذلك الثعبان على جري عادته، ونظر إليَّ وقصدني، فلم يقدر أن
يبلعني وأنا على تلك الحالة، والأخشاب حولي من كل جانب، فدار الثعبان حولي، ولم
يستطع الوصول إليَّ، وأنا أنظر بعيني، وقد صرت كالميت من شدة الخوف والفزع، وصار
الثعبان يبعد عني ويعود إليَّ، ولم يزل على هذه الحالة، وكلما أراد الوصول إليَّ
ليبتلعني تمنعه تلك الأخشاب المشدودة عليَّ من كل جانب، ولم يزل كذلك من
غروب الشمس إلى أن طلع الفجر، وبان النور وأشرقت الشمس، فمضى الثعبان إلى حال
سبيله، وهو في غاية ما يكون من القهر والغيظ؛ فعند ذلك مددتُ يدي، وفككتُ نفسي من
تلك الأخشاب، وأنا في حكم الأموات من شدة ما قاسيتُ من ذلك الثعبان، ثم إني قمتُ
ومشيتُ في الجزيرة حتى انتهيت إلى آخِرها، فلاحَتْ مني التفاتة إلى ناحية البحر،
فرأيت مركبًا على بُعْد في وسط اللجَّة، فأخذتُ فرعًا كبيرًا من شجرة، ولوَّحْتُ
به إلى ناحيتهم، وأنا أصيح عليهم، فلما رأوني قالوا:
لا
بد أننا ننظر ما يكون هذا، لعله إنسان. ثم إنهم قربوا مني، وسمعوا صياحي عليهم،
فجاءوا إليَّ، وأخذوني معهم في المركب، وسألوني عن حالي، فأخبرتهم بجميع ما جرى لي
من أوله إلى آخِره، وما قاسيته من الشدائد؛ فتعجبوا من ذلك غاية العجب، ثم إنهم
ألبسوني من عندهم ثيابًا، وستروا عورتي، وبعد ذلك قدَّموا لي شيئًا من الزاد،
فأكلت حتى اكتفيت، وسقوني ماءً باردًا عذبًا، فانتعش قلبي، وارتاحَتْ نفسي، وحصل
لي راحة عظيمة، وأحياني الله تعالى بعد موتي، فحمدت الله تعالى على نِعَمه
الوافرة، وشكرته، وقد قويت همتي بعدما كنت أيقنت بالهلاك، حتى تخيل لي أن جميع ما
أنا فيه منام. ولم نزل سائرين، وقد طاب لنا الريح بإذن الله تعالى إلى أن أشرفنا
على جزيرةٍ يقال لها جزيرة السلاهطة، فأوقف الريس المركب عليها. وأدرك شهرزاد
الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 549﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن المركب الذي نزل فيه السندباد البحري رسا على جزيرة،
فنزل منه جميع التجار والركاب، وأطلعوا بضائعهم ليبيعوا ويشتروا. قال السندباد
البحري: فالتفَتَ إليَّ صاحبُ المركب وقال لي: اسمع كلامي أنت رجل غريب فقير، وقد
أخبرتنا أنك قاسيتَ أهوالًا كثيرة، ومرادي أنفعك بشيء يُعِينك على الوصول إلى
بلادك، وتبقى تدعو لي. فقلت له: نعم، ولك مني الدعاء. فقال: اعلم أنه كان معنا رجل
مسافر فقدناه، ولم نعلم هل هو بالحياة أم مات؟ ولم نسمع عنه خبرًا، ومرادي أن أدفع
لك حموله لتبيعها في هذه الجزيرة وتحفظها، ونعطيك شيئًا في نظير تعبك وخدمتك، وما
بقي منها نأخذه إلى أن نعود إلى مدينة بغداد، فنسأل عن أهله، وندفع إليهم بقيتها،
وثمن ما بِيعَ منها، فهل لك أن تتسلمها، وتنزل بها هذه الجزيرة، فتبيعها مثل
التجار؟ فقلت: سمعًا وطاعةً لك يا سيدي، ولك الفضل والجميل. ودعوت له وشكرته على ذلك،
فعند ذلك أمر الحمَّالين والبحرية بإخراج تلك البضائع إلى الجزيرة، وأن يسلموها
إليَّ، فقال كاتب المركب: يا ريس، ما هذه الحمول التي أطلعها البحرية والحمَّالون؟
واكتبها باسم مَن مِن التجار؟ فقال: اكتب عليها اسم السندباد البحري الذي كان
معنا، وغرق في الجزيرة، ولم يأتنا عنه خبر، فنريد أن هذا الغريب يبيعها، ويحمل
ثمنها، ونعطيه شيئًا منه نظير تعبه وبيعه، والباقي نحمله معنا حتى نرجع إلى مدينة
بغداد، فإن وجدناه أعطيناه إياه، وإن لم نجده ندفعه إلى أهله في مدينة بغداد. فقال
الكاتب: كلامك مليح، ورأيك رجيح.
فلما
سمعت كلام الريس وهو يذكر أن الحمول باسمي، قلت في نفسي: والله أنا السندباد
البحري، وأنا غرقت في الجزيرة مع جملة مَن غرق. ثم إني تجلَّدْتُ وصبرت إلى أن طلع
التجار من المركب، واجتمعوا يتحدَّثون ويتذاكرون في أمور البيع والشراء،
فتقدَّمْتُ إلى صاحب المركب، وقلت له: يا سيدي، هل تعرف كيف كان صاحب الحمول التي
سلَّمْتَها إليَّ لأبيعها؟ فقال لي: لا أعلم له حالًا، ولكنه كان رجلًا من مدينة
بغداد يقال له السندباد البحري، وقد أرسينا على جزيرة من الجزائر، فغرق منَّا فيها
خلق كثير، وفُقِد بجملتهم، ولم نعلم له خبرًا إلى هذا الوقت. فعند ذلك صرختُ صرخةً
عظيمة، وقلت له: يا ريس السلامة، اعلم أني أنا السندباد البحري لم أغرق، ولكن لما
أرسيت على الجزيرة، وطلع التجار والركاب طلعتُ أنا مع جملة الناس، ومعي شيء آكله
بجانب الجزيرة، ثم إني تلذذت بالجلوس في ذلك المكان، فأخذتني سِنَة من النوم فنمتُ
وغرقتُ في النوم، ثم إني قمت فلم أجد المركب، ولم أجد أحدًا عندي، وهذا المال
مالي، وهذه البضائع بضائعي، وجميع التجار الذين يجلبون حجر الماس رأوني وأنا في
جبل الماس، ويشهدون لي بأني أنا السندباد البحري كما أخبرتهم بقصتي، وما جرى لي
معكم في المركب، وأخبرتهم بأنكم نسيتموني في الجزيرة نائمًا، وقمتُ فلم أجد أحدًا،
وجرى لي ما جرى. فلما سمع التجار والركاب كلامي اجتمعوا عليَّ، فمنهم مَن صدَّقني،
ومنهم مَن كذبني.
فبينما
نحن كذلك، وإذا بتاجر من التجار حين سمعني أذكر وادي الماس نهض وتقدَّمَ عندي،
وقال لهم: اسمعوا يا جماعة كلامي، إني لما كنتُ ذكرتُ لكم أعجب ما رأيت في أسفاري،
لما ألقينا الذبائح في وادي الماس، وألقيت ذبيحتي معهم على جري عادتي، طلع في
ذبيحتي رجل متعلِّق بها، ولم تصدِّقوني بل كذبتموني. فقالوا: نعم، حكيتَ لنا على
هذا الأمر، ولم نصدقك. فقال لهم التاجر: هذا الرجل الذي تعلَّقَ في ذبيحتي، وقد
أعطاني شيئًا من حجر الماس الغالي الثمن الذي لا يوجد نظيره، وعوَّضَني أكثر ما
كان يطلع لي في ذبيحتي، وقد استصحَبْتُه معي إلى أن وصلنا إلى مدينة البصرة، وبعد
ذلك توجَّهَ إلى بلاده، وودَّعَنا، ورجعنا إلى بلادنا، وهو هذا، وأعلمنا أن اسمه
السندباد البحري، وقد أخبرنا بذهاب المركب وجلوسه في هذه الجزيرة، واعلموا أن هذا
الرجل ما جاءنا هنا إلا لتصدِّقوا كلامي مما قلته لكم، وهذه البضائع كلها رزقه،
فإنه أخبرنا بها في وقت اجتماعه علينا، وقد ظهر صدقه في قوله. فلما سمع الريس كلام
ذلك التاجر قام على حيله، وجاء عندي، وحقق فيَّ النظرَ ساعةً، وقال: ما علامة
بضائعك؟ فقلت له: اعلم أن علامة بضائعي ما هو كذا وكذا. وقد أخبرته بأمرٍ كان بيني
وبينه لما نزلتُ معه المركب من البصرة، فتحقَّقَ أني أنا السندباد البحري
فعانَقَني، وسلَّمَ عليَّ، وهنَّأني بالسلامة، وقال لي: والله يا سيدي، إن قصتك
عجيبة، وأمرك غريب، ولكن الحمد لله الذي جمع بيننا وبينك، وردَّ بضائعك ومالك
عليك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 550﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن السندباد البحري لما تبيَّنَ للريس والتجار أنه هو
بعينه، وقال له الريس: الحمد لله الذي ردَّ بضائعك ومالك عليك. قال: فعند ذلك
تصرَّفْتُ في بضائعي بمعرفتي، وربحت بضائعي في تلك السفرة شيئًا كثيرًا، وفرحت
بذلك فرحًا عظيمًا، وهنأت نفسي بالسلامة وعود مالي إليَّ، ولم نزل نبيع ونشتري في
الجزائر إلى أن وصلنا إلى بلاد السند، وقد بعنا فيها واشترينا، ورأيت في ذلك البحر
شيئًا من العجائب والغرائب لا يُعَدُّ ولا يُحصَى، ومن جملة ما رأيتُ في ذلك البحر
سمكة على صفة البقرة، وشيئًا على صفة الحمير، ورأيت طيرًا يخرج من صدف البحر
ويبيض، ويفرخ على وجه الماء، ولا يطلع من البحر على وجه الأرض أبدًا. وبعد ذلك لم
نزل مسافرين بإذن الله تعالى، وقد طاب لنا الريح والسفر إلى أن وصلنا إلى البصرة،
وقد أقمت بها أيامًا قلائل، وبعد ذلك جئت إلى مدينة بغداد فتوجهت إلى حارتي، ودخلت
بيتي، وسلَّمْتُ على أهلي وأصحابي وأصدقائي، وقد فرحت بسلامتي وعودتي إلى بلادي
وأهلي ومدينتي ودياري، وتصدقت ووهبت، وكسوت الأرامل والأيتام، وجمعت أصحابي
وأحبابي، ولم أزل على هذه الحالة في أكل وشرب ولهو وضرب، وأنا آكل طيبًا، وأشرب
طيبًا، وأعاشر وأخالط، وقد نسيت جميع ما كان جرى لي، وما قاسيت من الشدائد
والأهوال، وكسبت شيئًا في هذه السفرة لا يُعَدُّ ولا يُحصَى، وهذا أعجب ما رأيته
في هذه السفرة، وفي غدٍ إن شاء الله تعالى تجيء إليَّ وأحكي لك حكاية السفرة
الرابعة؛ فإنها أعجب من هذه السفرات.
ثم
إن السندباد البحري أمَرَ بأن يدفعوا إليه مائة مثقال من الذهب على جري عادته، وأمر
بمد السماط فمدوه، وتعشى الجماعة، وهم يتعجبون من تلك الحكاية، وما جرى فيها، ثم
إنهم بعد العشاء انصرفوا إلى حال سبيلهم، وقد أخذ السندباد الحمَّال ما أمر له به
من الذهب، وانصرف إلى حال سبيله، وهو متعجب مما سمعه من السندباد البحري، وبات في
بيته، ولما أصبح الصباح، وأضاء بنوره ولاح، قام السندباد الحمال، وصلى الصبح،
وتمشَّى إلى السندباد البحري، وقد دخل إليه وسلَّم عليه، وتلقَّاه بالفرح
والانشراح، وأجلسه عنده إلى أن حضر بقية أصحابه، وقد قدَّموا الطعام فأكلوا وشربوا
وانبسطوا، فبدأهم بالكلام، وحكى لهم الحكاية الرابعة.
قال
السندباد البحري: اعلموا يا إخواني أني لما عدت إلى مدينة بغداد، واجتمعت على
أصحابي وأهلي، وصرت في أعظم ما يكون من الهناء والسرور والراحة، وقد نسيت ما كنت
فيه لكثرة الفوائد، وغرقت في اللهو والطرب، ومجالَسة الأحباب والأصحاب، وأنا في
ألذ ما يكون من العيش، فحدَّثتني نفسي الخبيثة بالسفر إلى بلاد الناس، وقد اشتقت
إلى مصاحبة الأجناس والبيع والمكسب، فهممتُ في ذلك الأمر، واشتريتُ بضاعةً نفيسة
تناسب البحر، وحزمت حمولة كثيرة زيادة عن العادة، وسافرتُ من مدينة بغداد إلى
مدينة البصرة، ونزلت حمولتي في المركب، واصطحبت بجماعة من أكابر البصرة، وقد
توجَّهنا إلى السفر وسارت بنا المركب على بركة الله تعالى في البحر العجاج،
المتلاطم بالأمواج، وطاب لنا السفر، ولم نزل على هذه الحالة مدة ليالٍ وأيام من
جزيرة إلى جزيرة، ومن بحر إلى بحر إلى أن خرجت علينا ريح مختلفة يومًا من الأيام،
فرمى الريس مراسي المركب، وأوقفها في وسط البحر؛ خوفًا عليها من الغرق في وسط
الإباحة، فبينما نحن على هذه الحالة ندعو ونتضرع إلى الله تعالى، إذ خرج علينا
عاصف ريح شديد، مزَّقَ القلع، وقطَّعه قطعًا، وغرق الناس، وجميع حمولهم، وما معهم
من المتاع والأموال، وغرقت أنا بجملة مَن غرق، وعمتُ في البحر نصف نهار، وقد
تخلَّيْتُ عن نفسي، فيسَّرَ الله تعالى لي قطعة لوح خشب من ألواح المركب، فركبتها
أنا وجماعة من التجار. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.