kurd-partuk

الليالي من--(51← 100)

﴿اللیلة 51﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن شركان أمر الملكة إبريزة وجواريها أن ينزعن ما عليهنَّ من الثياب، وأن يلبسن لباس بنات الروم، ففعلن ذلك، ثم إنه أرسل جماعة من أصحابه إلى بغداد ليُعلِم والده عمر النعمان بقدومه، ويخبره أن الملكة إبريزة بنت ملك الروم جاءت صحبته لأجل أن يرسل موكبًا لملاقاتها. ثم إنهم نزلوا من وقتهم وساعتهم في المكان الذي وصلوا إليه، وباتوا فيه إلى الصباح، فلما أصبح ركب شركان هو ومَن معه، وركبت أيضًا الملكة إبريزة هي ومَن معها، واستقبلوا المدينة، وإذا بالوزير دندان قد أقبَلَ في ألف فارس من أجل ملاقاة الملكة إبريزة هي وشركان، وكان خروجه بإشارة الملك عمر النعمان، كما أرسل إليه ولده شركان. فلما قربوا منهما توجهوا إليهما، وقبلوا الأرض بين أيديهما، ثم ركبا وركبوا معهما، وصاروا في خدمتهما حتى وصلا إلى المدينة، وطلعا قصر الملك، ودخل شركان على والده، فقام إليه واعتنقه، وسأله عن الخبر، فأخبره بما قالته الملكة إبريزة، وما اتفق له معها، وكيف فارقت مملكتها وفارقت أباها، وقال له: إنها اختارت الرحيل معنا، والقعود عندنا، وإن ملك القسطنطينية أراد أن يعمل لنا حيلةً من أجل صفيَّة بنته؛ لأن ملك الروم قد أخبره بحكايتها، وبسبب إهدائها إليك، وإن ملك الروم ما كان يعرف أنها ابنة الملك أفريدون ملك القسطنطينية، ولو كان يعرف ذلك ما كان أهداها إليك، بل كان يردها إلى والدها، ثم قال شركان لوالده: ولم يخلصنا من هذه الحِيَل والمكايد إلا إبريزة بنت ملك القسطنطينية، وما رأينا أشجع منها.

ثم إنه شرع يحكي لأبيه ما وقع له معها من أوله إلى آخِره من أمر المصارعة والمبارزة، فلما سمع الملك عمر النعمان من ولده شركان ذلك الكلام عظمت إبريزة عنده، وصار يتمنَّى أنه يراها، ثم إنه طلبها لأجل أن يسألها، فعند ذلك ذهب شركان إليها، وقال لها: إن الملك يدعوك. فأجابت بالسمع والطاعة، فأخذها شركان وأتى والده، وكان والده قاعدًا على كرسيه، وأخرج مَنْ كان عنده ولم يَبْقَ عنده غير الخدم. فلما دخلت الجارية إبريزة على الملك النعمان قبَّلَتِ الأرضَ بين يديه، وتكلَّمَتْ بأحسن الكلام؛ فتعجَّبَ الملك من فصاحتها، وشكرها على ما فعلت مع ولده شركان، وأمرها بالجلوس فجلست وكشفت عن وجهها، فلما رآها الملك حيل بينه وبين عقله، ثم إنه قرَّبها إليه وأدناها منه، وأفرد لها قصرًا مختصًّا بها وبجواريها، ورتب لها ولجواريها الرواتب، ثم أخذ يسألها عن تلك الخرزات الثلاث التي تقدَّمَ ذكرها سابقًا، فقالت له: إن تلك الخرزات معي يا ملك الزمان. ثم إنها قامت ومضت إلى محلها وفتحت صندوقًا وأخرجت منه علبة، وأخرجت من العلبة حُقًّا من الذهب، وفتحته وأخرجت منه تلك الخرزات الثلاث، ثم قبَّلتها وناولتها للملك وانصرفت، فأخذت قلبه معها.

وبعد انصرافها أرسل إلى ولده شركان، فحضر فأعطاه خرزة من الثلاث خرزات، فسأله عن الاثنين الأخريين، فقال: يا ولدي، قد أعطيت منهما واحدة لأخيك ضوء المكان، والثانية لأختك نزهة الزمان، فلما سمع شركان أنَّ له أخًا يُسمَّى ضوء المكان، وما كان يعرف إلا أخته نزهة الزمان، التفت إلى والده الملك عمر النعمان، وقال له: يا والدي، ألك ولد غيري؟ قال: نعم وعمره الآن ست سنين. ثم أعلمه أن اسمه ضوء المكان، وأخته نزهة الزمان، وأنهما في بطن واحد، فصعب عليه ذلك، ولكنه كتم سره وقال لوالده: على بركة الله تعالى. ثم رمى الخرزة من يده ونفض أثوابه، فقال له الملك: مالي أراك قد تغيَّرَتْ أحوالك لما سمعت هذا الخبر؟ مع أنك صاحب المملكة من بعدي، وقد عاهدتُ أمراءَ الدولة على ذلك، وهذه خرزة لك من الثلاث خرزات. فأطرق شركان برأسه إلى الأرض، واستحى أن يكافح والده، ثم قام وهو لا يعلم كيف يصنع من شدة الغيظ، وما زال ماشيًا حتى دخل قصر الملكة إبريزة، فلما أقبل عليها نهضت إليه قائمة، وشكرته على فعاله، ودعت له ولوالده، وجلست وأجلسته في جانبها، فلما استقر به الجلوس رأت في وجهه الغيظ، فسألته عن حاله، وما سبب غيظه، فأخبرها أن والده الملك عمر النعمان رُزِقَ من صفية ولدين ذكرًا وأنثى، وسمَّى الولدَ ضوءَ المكان والأنثى نزهة الزمان، وقال لها: إنه أعطاهما خرزتين وأعطاني واحدة فتركتها، وأنا إلى الآن لم أعلم بذلك إلا في هذا الوقت فخنقني الغيظ، وقد أخبرتك بسبب غيظي، ولم أخفِ عنك شيئًا، وأخشى عليك من أن يتزوجك، فإني رأيت منه علامة الطمع في أنه يتزوَّج بك، فما تقولين أنت في ذلك؟ فقالت: اعلم يا شركان أن أباك ما له حكم عليَّ، ولا يقدر أن يأخذني بغير رضاي، وإن كان يأخذني غصبًا قتلتُ روحي. وأما الثلاث خرزات فما كان على بالي أنه ينعم على أحد من أولاده بشيء منها، وما ظننت إلا أنه يجعلها في خزائنه مع ذخائره، ولكن أشتهي من إحسانك أن تهب لي الخرزة التي كان أعطاها لك والدك إن قبلتها منه. فقال: سمعًا وطاعة. ثم قالت له: لا تخف. وتحدثت معه ساعة، وقالت له: إني أخاف أن يسمع أبي أني عندكم فيسعى في طلبي، ويتفق هو والملك أفريدون من أجل ابنته صفية، فيأتيان إليكم بعساكر، وتكون ضجة عظيمة. فلما سمع شركان ذلك قال لها: يا مولاتي، إذا كنتِ راضية بالإقامة عندنا لا تفكري فيهم، فلو اجتمع علينا كلُّ مَن في البر والبحر لَغلبناهم. فقالت: ما يكون إلا الخير، وها أنتم إن أحسنتم إليَّ قعدتُ عندكم، وإن أسأتموني رحلتُ من عندكم. ثم إنها أمرت الجواري بإحضار شيء من الأكل، فقُدِّمت المائدة، فأكل شركان شيئًا يسيرًا، ومضى إلى داره مهمومًا مغمومًا.

هذا ما كان من أمر شركان، وأما ما كان من أمر أبيه عمر النعمان، فإنه بعد انصراف ولده شركان من عنده قام ودخل على جاريته صفيَّة ومعه تلك الخرزات، فلما رأته نهضت قائمةً على قدمَيْها إلى أن جلس، فأقبل عليه ولداه ضوء المكان ونزهة الزمان، فلما رآهما قبَّلهما وعلَّق على كل واحد منهما خرزة، ففرحا بالخرزتين وقبَّلا يديه، وأقبلا على أمهما ففرحت بهما، ودعت للملك بطول الدوام. فقال لها الملك: يا صفية، حيث إنك ابنة الملك أفريدون ملك القسطنطينية، لأي شيء لم تُعلِميني لأجل أن أزيد في إكرامك ورفع منزلتك؟ فلما سمعت صفية ذلك قالت: أيها الملك، وماذا أريد أكثر من هذا زيادةً على هذه المنزلة التي أنا فيها؟ فها أنا مغمورة بإنعامك وخيرك، وقد رزقني الله منك بولدين ذكر وأنثى. فأَعجبَ الملكَ عمر النعمان كلامُها، واستظرف عذوبة ألفاظها، ودقة فهمها، وظرف أدبها ومعرفتها. ثم إنه مضى من عندها، وأفرد لها ولأولادها قصرًا عجيبًا، ورتَّب لهم الخدم والحشم، والفقهاء والحكماء، والفلكية والأطباء والجراحين، وأوصاهم بهم وزاد في رواتبهم، وأحسن إليهم غاية الإحسان، ثم رجع إلى قصر المملكة والمحاكمة بين الناس.

هذا ما كان من أمره مع صفية وأولادها، وأما ما كان من أمره مع الملكة إبريزة، فإنه اشتغل بحبها، وصار ليلًا ونهارًا مشغوفًا بها، وفي كل ليلة يدخل إليها ويتحدث عندها، ويلوِّح لها بالكلام، فلم تردَّ له جوابًا، بل تقول: يا ملك الزمان، أنا في هذا الوقت ما لي غرض في الرجال. فلما رأى تمنُّعها منه اشتدَّ به الغرام، وزاد عليه الوَجْد والهيام، فلما أعياه ذلك أحضر وزيره دندان، وأطلعه على ما في قلبه من محبة الملكة إبريزة ابنة الملك حردوب، وأخبره أنها لا تدخل في طاعته، وقد قتله حبها، ولم ينَلْ منها شيئًا، فلما سمع الوزير دندان ذلك قال للملك: إذا جَنَّ الليل فخُذْ معك قطعة بنج مقدار مثقال، وادخل عليها واشرب معها شيئًا من الخمر، فإذا كان وقت الفراغ من الشرب والمنادمة فأَعْطِها القدح الأخير، واجعل فيه ذلك البنج واسقها إياه، فإنها ما تصل إلى مرقدها إلا وقد تحكَّم عليها البنج، فتبلغ غرضك منها؛ وهذا ما عندي من الرأي. فقال له الملك: نِعْمَ ما أشرتَ به عليَّ.

ثم إنه عمد إلى خزائنه، وأخرج منها قطعة بنج مكرَّر، لو شمَّه الفيل لَرقد من السنة إلى السنة، ثم إنه وضعها في جيبه وصبر إلى أن مضى قليل من الليل، ودخل على الملكة إبريزة في قصرها، فلما رأته نهضت إليه قائمة، فأذن لها بالجلوس فجلست، وجلس عندها وصار يتحدث معها في أمر الشراب، فقدَّمت سفرةَ الشراب، وصفَّت له الأواني، وأوقدت الشموع، وأمرت بإحضار النقل والفاكهة، وكل ما يحتاجان إليه، وصار يشرب معها وينادمها إلى أن دبَّ السُّكْر في رأس الملكة إبريزة؛ فلما علم الملك النعمان ذلك أخرج قطعة البنج من جيبه، وجعلها بين أصابعه، وملأ كأسًا بيده وشربها، وملأها ثانيةً وأسقط قطعة البنج فيها، وهي لا تشعر بذلك، ثم قال لها: خذي اشربي هذا. فأخذته الملكة إبريزة وشربته، فما كان إلا دون ساعة حتى تحكَّم البنج عليها، وسلب إدراكها، فقام إليها فوجدها ملقاةً على ظهرها، وقد كانت قلعت السراويل من رجليها، ورفع الهواء ذيل قميصها عنها، فلما دخل عليها الملك ورآها على تلك الحالة، ووجد عند رأسها شمعة، وعند رجليها شمعة تضيء على ما بين فخذيها، حيل بينه وبين عقله، ووسوس له الشيطان، فما تمالَكَ نفسه حتى قلع سراويله ووقع عليها، وأزال بكارتها، وقام من فوقها ودخل إلى جاريةٍ من جواريها يقال لها مرجانة، وقال لها: ادخلي على سيدتك كلِّميها. فدخلت الجارية على سيدتها، فوجدت دمها يجري على ساقيها، وهي ملقاة على ظهرها، فمدَّتْ يدها إلى منديل من مناديلها، وأصلحت به شأنَ سيدتها، ومسحت عنها ذلك الدم.

فلما أصبح الصباح تقدَّمت الجارية مرجانة، وغسلت وجهَ سيدتها ويديها ورجليها، ثم جاءت بماء الورد وغسلت به وجهها وفمها، فعند ذلك عطست الملكة إبريزة وتقيَّأتْ ذلك البنج، فنزلت قطعة البنج من باطنها كالقرص، ثم إنها غسلت فمها ويديها، وقالت لمرجانة: أعلميني بما كان من أمري. فأخبرتها أنها رأتها ملقاةً على ظهرها، ودمها سائل على فخذَيْها، فعرفت أن الملك عمر النعمان قد وقع بها وواصلها، وتمت حيلته عليها؛ فاغتمَّتْ لذلك غمًّا شديدًا، وحجبت نفسها، وقالت لجواريها: امنعوا كلَّ مَن أراد أن يدخل عليَّ، وقولوا له إنها ضعيفة حتى أنظر ماذا يفعل الله بي. فعند ذلك وصل الخبر إلى الملك عمر النعمان بأن الملكة إبريزة ضعيفة، فصار يرسل إليها الأشربة والسكر والمعاجين، وأقامت على ذلك شهورًا وهي محجوبة. ثم إن الملك قد بردت ناره، وانطفأ شوقه إليها وصبر عنها، وكانت قد علقت منه، فلما مرت عليها أشهر ظهر الحمل وكبر بطنها، ضاقت بها الدنيا، فقالت لجاريتها مرجانة: اعلمي أن القوم ما ظلموني، وإنما أنا الجانية على نفسي، حيث فارقتُ أبي وأمي ومملكتي، وأنا قد كرهت الحياةَ وضعفت همتي، ولم يَبْقَ عندي من الهمة ولا من القوة شيء، وكنت إذا ركبت جوادي أقدر عليه، وأنا الآن لا أقدر على الركوب، ومتى ولدتُ عندهم صرتُ معيرة عند جواريَّ، وكلُّ مَن في القصر يعلم أنه أزالَ بكارتي سفاحًا، وإذا رجعتُ لأبي فبأيِّ وجه ألقاه! وبأي وجه أرجع إليه! وما أحسن قول الشاعر:

بِمَ التَّعَلُّلُ لَا أَهْلٌ وَلَا وَطَنُ        وَلَا نَدِيمٌ وَلَا كَأْسٌ وَلَا سَكَنُ

فقالت لها مرجانة: الأمر أمرك، وأنا في طوعك. فقالت: أريد اليوم أن أخرج سرًّا بحيث لا يعلم بي أحد غيرك، وأسافر إلى أبي وأمي، فإن اللحم إذا أنتن ما له إلا أهله، والله يفعل بي ما يريد. فقالت لها: نِعْمَ ما تفعلين أيتها الملكة. ثم إنها جهزت أحوالها، وكتمت سرها، وصبرت أيامًا حتى خرج الملك للصيد والقنص، وخرج ولده شركان إلى القلاع ليقيم بها مدةً من الزمان، فأقبلت إبريزة على جاريتها مرجانة، وقالت لها: أريد أن أسافر في هذه الليلة، ولكن كيف أصنع في المقادير وقد قرب أوان الطلق والولادة؟ وإن قعدت خمسة أيام أو أربعة وضعت هنا، ولم أقدر أن أروح بلادي، وهذا ما كان مكتوبًا على جبيني، ومقدَّرًا عليَّ في الغيب. ثم تفكَّرت ساعةً، وبعد ذلك قالت لمرجانة: انظري لنا رجلًا يسافر معنا، ويخدمنا في الطريق، فإنه ليس لي قوة على حمل السلاح. فقالت مرجانة: والله يا سيدتي ما أعرف غير عبد أسود اسمه الغضبان، وهو من عبيد الملك عمر النعمان، وهو شجاع ملازم لباب قصرنا، فإن الملك أمره أن يخدمنا، وقد غمرناه بإحساننا؛ فها أنا أخرج إليه وأكلِّمه في شأن هذا الأمر، وأَعِدُه بشيء من المال، وأقول له: إذا أردتَ المقامَ عندنا أزوِّجك بمَن شئتَ. وكان قد ذكر لي قبل اليوم أنه كان يقطع الطريق، فإن هو وافقنا بلغنا مرادَنا، ووصلنا إلى بلادنا. فقالت لها: هاتيه عندي حتى أحدِّثه.

فخرجت له مرجانة وقالت له: يا غضبان، قد أسعدك الله إنْ قبلتَ من سيدتك ما تقوله لك من الكلام. ثم أخذت بيده وأقبلت به على سيدتها، فلما رآها قبَّل يديها، فحين رأته نفر قلبها منه، لكنها قالت في نفسها: إن الضرورة لها أحكام. وأقبلت عليه تحدِّثه وقلبها نافر منه وقالت له: يا غضبان، هل فيك مساعدة لنا على غدرات الزمان؟ وإذا أظهرتُك على أمري تكون كاتمًا له؟ فلما نظر العبد إليها، ورأى حُسْنها ملكت قلبه وعشقها لوقته، وقال لها: يا سيدتي، إن أمرتِني بشيء لا أخرج عنه. فقالت له: أريد منك في هذه الساعة أن تأخذني وتأخذ جاريتي هذه، وتشد لنا راحلتين وفرسين من خيل الملك، وتضع على كل فرس خرجًا من المال وشيئًا من الزاد، وترحل معنا إلى بلادنا، وإن أقمتَ عندنا زوَّجناك مَن تختارها من جواريَّ، وإن طلبتَ الرجوعَ إلى بلادك أعطيناك ما تحب، ثم ترجع إلى بلادك بعد أن تأخذ ما يكفيك من المال. فلما سمع الغضبان ذلك الكلام فرح فرحًا شديدًا، وقال: يا سيدتي، إني أخدمكما بعيوني، وأمضي معكما وأشد لكما الخيل. ثم مضى وهو فرحان، وقال في نفسه: قد بلغتُ ما أريد منهما، وإن لم تطاوعاني قتلتهما، وأخذت ما معهما من المال. وأضمر ذلك في سره، ثم مضى وعاد ومعه راحلتان وثلاث من الخيل، وهو راكب إحداها، وأقبل على الملكة إبريزة، وقدَّم إليها فرسًا فركبتها وهي متوجعة من الطلق، ولا تملك نفسها من كثرة الوجع، وركبت مرجانة فرسًا، ثم سافر بهما ليلًا ونهارًا حتى وصلوا بين الجبال، وبقي بينها وبين بلادها يوم واحد، فجاءها الطلق، فما قدرت أن تمسك نفسها على الفرس، فقالت للغضبان: أنزلني فقد لحقني الطلق. وقالت لمرجانة: انزلي واقعدي تحتي وولِّديني. فعند ذلك نزلت مرجانة من فوق فرسها، ونزل الغضبان من فوق فرسه، وشد لجام الفرسين، ونزلت الملكة إبريزة من فوق فرسها وهي غائبة عن الدنيا من شدة الطلق، وحين رآها الغضبان نزلت على الأرض وقف الشيطان في وجهه، فشهر حسامه في وجهها، وقال: يا سيدتي، ارحميني بوصلك. فلما سمعت مقالته التفتت إليه وقالت له: ما بقي عليَّ إلا العبيد السود، بعدما كنتُ لا أرضى بالملوك الصناديد. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 52﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملكة إبريزة لما قالت للعبد الذي هو غضبان: ما بقي عليَّ إلا العبيد السود، ثم صارت تُبكِّته، وأظهرت له الغيظ، وقالت له: ويلك، ما هذا الكلام الذي تقوله لي؟! فلا تتكلم بشيء من هذا في حضرتي، واعلم أنني لا أرضى بشيء مما قلتَه، ولو سُقيتُ كأسَ الردى، ولكن اصبر حتى أُصلِح الجنين، وأُصلِح شأني وأرمي الخلاص، ثم بعد ذلك إن قدرتَ عليَّ فافعل بي ما تريد، وإن لم تترك فاحش الكلام في هذا الوقت فإني أقتل نفسي بيدي، وأفارق الدنيا وأرتاح من هذا كله. ثم أنشدت هذه الأبيات:

أَيَا غَضْبَانَ دَعْنِي قَدْ كَفَانِي        مُكَابَدَةُ الْحُوَادِثِ وَالزَّمَانِ

عَنِ الْفَحْشَاءِ رَبِّي قَدْ نَهَانِي        وَقَالَ النَّارُ مَثْوَى مَنْ عَصَانِي

وَإِنِّي لَا أَمِيلُ بِفِعْلِ سُوءٍ        بِعَيْنِ النَّقْصِ دَعْنِي لَا تَرَانِي

وَلَوْ لَمْ تَتْرُكِ الْفَحْشَاءَ عَنِّي        وَتَرْعَى حُرْمَتِي فِيمَنْ رَعَانِي

لَأَصْرُخُ طَاقَتِي لِرِجَالِ قَوْمِي        وَأَجْلِبُ كُلَّ قَاصِيهَا وَدَانِي

وَلَوْ قُطِّعْتُ بِالسَّيْفِ الْيَمَانِي        لَمَا خَلَّيْتُ فَحَّاشًا يَرَانِي

مِنَ الْأَحْرَارِ وَالْكُبَرَاءِ طُرًّا        فَكَيْفَ الْعَبْدُ مِنْ نَسْلِ الزَّوَانِي

فلما سمع الغضبان ذلك الشعر غضب غضبًا شديدًا، واحمرَّت مقلتاه، واغبرَّتْ سحنته، وانتفخت مناخره، واستدلَّتْ مشافره، وزادت به النفرات، وأنشد هذه الأبيات:

أَإِبْرِيزَ اذْكُرِي إِنْ تَهْجُرِينِي        قَتِيلَ هَوَاكِ بِاللَّحْظِ الْيَمَانِي

فَقَلْبِي قَدْ تَقَطَّعَ مِنْ جَفَاكِ        وَجِسْمِي نَاحِلٌ وَالصَّبْرُ فَانِ

وَلَفْظُكِ قَدْ سَبَى الْأَلْبَابَ سِحْرًا        فَعَقْلِي نَازِحٌ وَالشَّوْقُ دَانِ

وَلَوْ أَجْلَبْتُ مِلْءَ الْأَرْضِ جَيْشًا        لِأَبْلُغَ مَأْرَبِي فِي ذَا الزَّمَانِ

فلما سمعت إبريزة كلامه بكت بكاء شديدًا، وقالت له: ويلك يا غضبان، وهل بلغ من قدرك أن تخاطبني بهذا الخطاب يا ولد الزنا وتربية الخنا؟ أتحسب أن الناس كلهم سواء؟ فلما سمع ذلك العبد النحس هذا الكلام غضب منها غضبًا شديدًا، وتقدَّمَ إليها وضربها بالسيف فقتلها، وساق جوادها قدامه بعد أن أخذ المال، وفرَّ بنفسه آبقًا في الجبال.

هذا ما كان من أمر الغضبان، وأما ما كان من أمر الملكة إبريزة، فإنها صارت طريحة على الأرض، وكان الولد الذي ولدته ذكرًا، فحملته مرجانة في حجرها، وصرخت صرخة عظيمة، وشقت أثوابها، وصارت تحثو التراب على رأسها، وتلطم على خدها حتى طلع الدم من وجهها، وقالت: وا خيبتاه! كيف قتل سيدتي عبدٌ أسود لا قيمةَ له بعد فروسيتها؟ فبينما هي تبكي وإذا بغبار قد طار حتى سدَّ الأقطار، ولما انكشف ذلك الغبار بان من تحته عسكر جرار، وكانت تلك العساكر عساكر ملك الروم والد الملكة إبريزة، وسبب ذلك أنه لما سمع أن ابنته هربت هي وجواريها إلى بغداد، وأنها عند الملك عمر النعمان، خرج بمَن معه يتنسم الأخبار من بعض المسافرين إن كانوا رأوها عند الملك عمر النعمان، فخرج بمَن معه ليسأل المسافرين من أين أتوا لعله يعلم بخبر ابنته، وكان رأى على بُعدٍ هؤلاء الثلاثة: ابنته، والعبد الغضبان، وجاريتها مرجانة، فقصدهم ليسألهم، فلما قصدهم خاف العبد على نفسه فقتلها ونجا بنفسه، فلما أقبلوا عليها رآها أبوها مرمية على الأرض، وجاريتها تبكي عليها، فرمى نفسه من فوق جواده، ووقع إلى الأرض مغشيًّا عليه، فترجَّلَ كلُّ مَن كان معه من الفرسان والأمراء والوزراء، وضربوا الخيام في الجبال، ونصبوا قبةً للملك حردوب، ووقف أرباب الدولة خارج تلك القبة، فلما رأت مرجانة سيدها عرفته، وزادت في البكاء والنحيب، فلما أفاق الملك من غشيته، سألها عن الخبر، فأخبرته بالقصة، وقالت له: إن الذي قتل ابنتك عبد أسود من عبيد الملك عمر النعمان، وأخبرته بما فعله الملك عمر النعمان بابنته.

فلما سمع الملك حردوب ذلك الكلام اسودَّت الدنيا في وجهه، وبكى بكاءً شديدًا، ثم أمر بإحضار محفة وحمل ابنته فيها، ومضى إلى قسارية، وأدخلوها القصر، ثم إن الملك حردوب دخل على أمه ذات الدواهي، وقال لها: أهكذا يفعل المسلمون بابنتي؟ فإن الملك عمر النعمان أزال بكارتها قهرًا، وبعد ذلك قتلها عبد أسود من عبيده، فوحَقِّ المسيح لا بد من أخذ ثأر بنتي منه، وكشف العار عن عرضي، وإلا قتلتُ نفسي بيدي. ثم بكى بكاء شديدًا، فقالت له أمه ذات الدواهي: ما قتل ابنتك إلا مرجانة؛ لأنها كانت تكرهها في الباطن. ثم قالت لولدها: لا تحزن من أخذ ثأرها، فوحَقِّ المسيح لا أرجع عن الملك عمر النعمان حتى أقتله وأقتل أولاده، ولَأعملنَّ معه عملًا تعجز عنه الدهاة والأبطال، ويتحدَّث به المتحدثون في جميع الأقطار، ولكن ينبغي لك أن تمتثل أمري في كل ما أقوله وأنت تبلغ ما تريد. فقال لها: وحقِّ المسيح لا أخالفك أبدًا فيما تقولينه. قالت له: ائتني بجَوارٍ نهد أبكار، وائتني بحكماء الزمان، وأجزل لهم العطايا، وأمرهم أن يعلِّموا الجواري الحكمةَ والأدب وخطاب الملوك ومنادمتهم والأشعار، وأن يتكلموا بالحكمة والمواعظ، ويكون الحكماء مسلمين لأجل أن يعلِّموهنَّ أخبار العرب، وتواريخ الخلفاء، وأخبار مَن سلف من ملوك الإسلام، ولو أقمنا على ذلك عشرة أعوام، وطوِّل روحَك واصبر؛ فإن بعض الأعراب يقول: إن أخْذَ الثأر بعد أربعين عامًا مدته قليلة، ونحن إذا علَّمنا تلك الجواري بلغنا من عدونا ما نختار؛ لأنه ممتحن بحب الجواري، وعنده ثلاثمائة جارية وست وستون جارية، وازددن مائة جارية من خواص جواريك اللاتي كنَّ مع المرحومة، فإذا تعلَّمَ الجواري ما أخبرتُك من العلوم، فإني آخذهن بعد ذلك وأسافر بهن.

فلما سمع الملك حردوب كلام أمه ذات الدواهي فرح فرحًا شديدًا، وقبَّل رأسها، ثم أرسل من وقته وساعته المسافرين والقصَّاد إلى أطراف البلاد ليأتوا إليه بالحكماء من المسلمين، فامتثلوا أمْرَه وسافروا إلى بلاد بعيدة، وأتوه بما طلبه من الحكماء والعلماء، فلما حضروا بين يديه أكرمهم غايةَ الإكرام، وخلع عليهم الخلع، ورتَّب لهم الرواتب والجرايات، ووعدهم بالمال الجزيل إذا فعلوا ما أمرهم به، ثم أحضر لهم الجواري. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 53﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العلماء والحكماء لما حضروا عند الملك حردوب أكرمهم إكرامًا زائدًا، وأحضر الجواري بين أيديهم، وأوصاهم أن يعلِّموهن الحكمة والأدب، فامتثلوا أمره.

هذا ما كان من أمر الملك حردوب، وأما ما كان من أمر الملك عمر النعمان، فإنه لما عاد من الصيد والقنص وطلع القصر، طلب الملكة إبريزة فلم يجدها، ولم يخبره أحد عنها، فعظم عليه ذلك وقال: كيف تخرج هذه الجارية من القصر ولم يعلم بها أحد؟ فإن كانت مملكتي على هذا الأمر، فإنها ضائعة المصلحة ولا ضابط لها! فما بقيتُ أخرج إلى الصيد والقنص حتى أرسل إلى الأبواب مَن يتوكَّل بها. واشتد حزنه، وضاق صدره لفراق الملكة إبريزة، فبينما هو كذلك وإذا بولده شركان قد أتى من سفره، فأعلمه والده بذلك، وأخبره أنها هربت وهو في الصيد والقنص؛ فاغتمَّ شركان لذلك غمًّا شديدًا. ثم إن الملك صار يتفقَّد ولديه كلَّ يوم ويكرمهما، وكان قد أحضر العلماء والحكماء ليعلموهما العلم، ورتَّب لهما الرواتب، فلما رأى شركان ذلك الأمر غضب غضبًا شديدًا، وحسد أخوَيْه على ذلك إلى أن ظهر أثر الغيظ في وجهه، ولم يزل متمرِّضًا بسبب هذا الأمر، فقال له والده يومًا من الأيام: ما لي أراك تزداد ضعفًا في جسمك، واصفرارًا في لونك؟ فقال له شركان: يا والدي، كلما رأيتك تقرِّب أخويَّ، وتُحسِن إليهما يحصل عندي حسد، وأخاف أن يزيد بي الحسد فأقتلهما وتقتلني أنت بسببهما إذا أنا قتلتهما، فمرض جسمي، وتغيَّرَ لوني بسبب ذلك، ولكن أنا أشتهي من إحسانك أن تعطيني قلعةً من القلاع حتى أقيم بها بقيةَ عمري؛ فإن صاحب المثل يقول: بُعدي عن حبيبي أجمل لي وأحسن من عين لا تنظر وقلب لا يحزن. ثم أطرق برأسه إلى الأرض.

فلما سمع الملك عمر النعمان كلامه، عرف سبب ما هو فيه من التقصير، فأخذ بخاطره وقال له: يا ولدي، إني أجيبك إلى ما تريد، وليس في ملكي أكبر من قلعة دمشق، فقد ملكتَها من هذا الوقت. ثم أحضر الموقِّعين في الوقت والساعة، وأمرهم بكتابة تقليد ولده شركان ولاية دمشق الشام، فكتبوا له ذلك وجهَّزوه، وأخذ الوزير دندان معه وأوصاه بالمملكة والسياسة، وقلَّده أموره، ثم ودَّعه والده وودَّعته الأمراء وأكابر الدولة، وسار بالعسكر حتى وصل إلى دمشق، فلما وصل إليها دقَّ له أهلها الكاسات، وصاحوا بالبوقات، وزينوا المدينة، وقابلوه بموكب عظيم سار فيه أهل الميمنة ميمنة، وأهل الميسرة ميسرة.

هذا ما كان من أمر شركان، وأما ما كان من أمر والده عمر النعمان، فإنه بعد سفر ولده شركان أقبل عليه الحكماء، وقالوا له: يا مولانا، إن أولادك تعلَّموا العلم والحكمة والأدب. فعند ذلك فرح الملك عمر النعمان فرحًا شديدًا، وأنعم على جميع الحكماء؛ حيث رأى ضوء المكان كبر وترعرع، وركب الخيل، وصار له من العمر أربع عشرة سنة، وطلع مشتغلًا بالدين والعبادة، محبًّا للفقراء وأهل العلم والقرآن، وصار أهل بغداد يحبونه نساءً ورجالًا، إلى أن طاف ببغداد محمل العراق من أجل الحج، وزيارة قبر النبي ﷺ، فلما رأى ضوء المكان موكب المحمل اشتاق إلى الحج، فدخل على والده وقال له: إني أتيتُ إليك لأستأذنك في أن أحجَّ. فمنعه من ذلك، وقال له: اصبر إلى العام القابل، وأنا أتوجه إلى الحج وآخذك معي. فلما رأى الأمر يطول عليه، دخل على أخته نزهة الزمان فوجدها قائمةً تصلي، فلما قضت الصلاة قال لها: إني قد قتلني الشوق إلى حج بيت الله الحرام، وزيارة قبر النبي - عليه الصلاة والسلام - واستأذنت والدي فمنعني من ذلك، فالمقصود أن آخذ شيئًا من المال وأخرج إلى الحج سرًّا ولا أُعلِم أبي بذلك. فقالت له أخته: بالله عليك أن تأخذني معك، ولا تحرمني من زيارة النبي ﷺ. فقال لها: إذا جنَّ الظلام فاخرجي من هذا المكان، ولا تُعلِمي أحدًا بذلك.

فلما كان نصف الليل قامت نزهة الزمان، وأخذت شيئًا من المال، ولبست لباس الرجال، وكانت قد بلغت من العمر مثل عمر ضوء المكان، ومشت متوجهة إلى باب القصر، فوجدت أخاها ضوء المكان قد جهَّز الجِمال، فركب وأركبها، وسارا ليلًا واختلطا بالحجيج، ومشيا إلى أن صارا في وسط الحج العراقي، وما زالا سائرين، وكتب الله لهما السلامة حتى دخلَا مكة المشرَّفة، ووقفَا بعرفات، وقضيَا مناسِكَ الحج، ثم توجَّها إلى زيارة النبي ﷺ، فزاراه. وبعد ذلك أرادَا الرجوع مع الحجاج إلى بلادهم، فقال ضوء المكان لأخته: يا أختي، أريد أن أزور بيت المقدس والخليل إبراهيم - عليه الصلاة والسلام. فقالت له: وأنا كذلك. واتفقا على ذلك، ثم خرج واكترى له ولها مع المقادسة، وجهَّزا حالهما، وتوجها مع الركب، فحصل لأخته في تلك الليلة حمَّى باردة فتشوَّشت، ثم شُفيت، وتشوَّشَ الآخَر، فصارت تلاطفه في ضعفه، ولم يزالا سائرين إلى أن دخلا بيت المقدس، واشتد المرض على ضوء المكان، ثم إنهما نزلا في خان هناك، واكتريا لهما فيه حجرة واستقرَّا فيها، ولم يزل المرض يتزايد على ضوء المكان حتى أنحله وغاب عن الدنيا، فاغتَمَّتْ لذلك أخته نزهة الزمان، وقالت: لا حول ولا قوة إلا بالله، هذا حكم الله.

ثم إنها قعدت هي وأخوها في ذلك المكان، وقد زاد به الضعف وهي تخدمه وتنفق عليه نفسها، حتى فرغ ما معها من المال وافتقرت، ولم يَبْقَ معها دينار ولا درهم، فأرسلت صبي الخان إلى السوق بشيء من قماشها فباعه وأنفقته على أخيها، ثم باعت شيئًا آخَر، ولم تزل تبيع من أمتعتها شيئًا فشيئًا حتى لم يَبْقَ لها غير حصير مقطَّعة، فبكت وقالت: لله الأمر من قبلُ ومن بعدُ. ثم قال لها أخوها: يا أختي، إني قد أحسستُ بالعافية، وفي خاطري شيء من اللحم المشوي. فقالت له أخته: والله يا أخي، إني ما لي وجه للسؤال، ولكن غدًا أدخل بيت أحد من الأكابر وأخدم وأعمل بشيء نقتات به أنا وأنت. ثم تفكَّرت ساعةً وقالت له: إني لا يهون عليَّ فراقك وأنت في هذه الحالة، ولكن لا بد من طلب المعاش قهرًا عني. فقال لها أخوها: أَبَعْدَ العزِّ تصبحين ذليلةً؟! فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ثم بكى وبكت، وقالت له: يا أخي، نحن غرباء، وقد أقمنا هنا سنة كاملة ما دقَّ علينا البابَ أحدٌ، فهل نموت من الجوع؟ فليس عندي من الرأي إلا أني أخرج وأخدم، وآتيك بشيء نقتات به إلى أن تبرأ من مرضك، ثم نسافر إلى بلادنا. ومكثت تبكي ساعة.

ثم بعد ذلك قامت نزهة الزمان، وغطت رأسها بقطعة عباءة من ثياب الجمَّالين كان صاحبها نسيها عندهما، وقبَّلت رأسَ أخيها واعتنقَتْه، وخرجت من عنده وهي تبكي، ولم تعلم أين تمضي. وما زال أخوها ينتظرها إلى أن قرب وقت العشاء ولم تأتِ، فمكث بعد ذلك وهو ينتظرها إلى أن طلع النهار فلم تَعُدْ إليه، ولم يزل على هذه الحالة يومين، فعظم ذلك عنده، وارتجف قلبه عليها، واشتدَّ به الجوع، فخرج من الحجرة وصاح على صبي الخان وقال له: أريد أن تحملني إلى السوق. فحمله وألقاه في السوق، فاجتمع عليه أهل القدس وبكوا عليه لمَّا رأوه على تلك الحالة، فأشار إليهم بطلب شيء يأكله، فجاءوا له من بعض التجار الذين في السوق ببعض دراهم، واشتروا له شيئًا وأطعموه إياه، ثم حملوه ووضعوه على دكان وفرشوا له قطعة برش، ووضعوا عند رأسه إبريقًا، فلما أقبل الليل انصرف عنه كلُّ الناس وهم حاملون همَّه، فلما كان نصف الليل تذكَّرَ أخته، فازداد به الضعف، وامتنع من الأكل والشرب، وغاب عن الوجود، فقام أهل السوق وأخذوا له من التجار ثلاثين درهمًا واكتروا له جملًا، وقالوا للجمَّال: احمل هذا وأوصله إلى دمشق، وأدخله المارستان لعَلَّه أن يبرأ. فقال لهم: على الرأس. ثم قال في نفسه: كيف أمضي بهذا المريض وهو مُشرِف على الموت؟! ثم خرج به إلى مكان واختفى به إلى الليل، ثم ألقاه على مزبلة مستوقد حمَّام، ثم مضى إلى حال سبيله.

فلما أصبح الصباح طلع وقَّاد الحمَّام إلى شغله، فوجده ملقًى على ظهره، فقال في نفسه: لأي شيء ما يرمون هذا الميت إلا هنا؟ ورفسه برجله فتحرَّك، فقال له الوقَّاد: الواحد منكم يأكل قطعةَ حشيش ويرمي نفسه في أي موضع كان! ثم نظر وجهه فرآه لا نبات بعارضيه، وهو ذو بهاء وجمال، فأخذته الرأفة عليه، وعرف أنه مريض وغريب، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، إني دخلت في خطيئة هذا الصبي، وقد أوصى النبي ﷺ بإكرام الغريب، لا سيما إذا كان الغريب مريضًا. ثم حمله وأتى به إلى منزله، ودخل على زوجته وأمرها أن تخدمه وتفرش له بساطًا، ففرشت له وجعلت تحت رأسه وسادةً، وسخَّنت له ماء وغسلت له به يديه ورجلَيْه ووجهه، وخرج الوقَّاد إلى السوق، وأتى له بشيء من ماء الورد والسكر، ورش ماء الورد على وجهه وسقاه السكر، وأخرج له قميصًا نظيفًا وألبسه إياه، فشمَّ نسيمَ الصحة، وتوجَّهَتْ إليه العافية، واتكأ على المخدة، ففرح الوقَّاد بذلك، وقال: الحمد لله على عافية هذا الصبي، اللهم إني أسألك بسرِّكَ المكنون أن تجعل سلامة هذا الشاب على يدي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 54﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوقَّاد قال: اللهم إني أسألك بسرك المكنون أن تجعل سلامة هذا الصبي على يدي. وما زال الوقَّاد يتعهده ثلاثة أيام وهو يسقيه السكر وماء الخلاف وماء الورد، ويتعطف عليه ويتلطف به حتى سَرَتِ الصحةُ في جسمه، وفتح عينه، فاتفق أن الوقَّاد دخل عليه فرآه جالسًا وعليه آثار الشظ، فقال له: ما حالك يا ولدي في هذا الوقت؟ فقال ضوء المكان: بخير وعافية. فحمد الوقَّاد ربَّه وشكره، ثم نهض إلى السوق، واشترى له عشر دجاجات، وأتى زوجته وقال لها: اذبحي له في كل يوم اثنتين، واحدة في أول النهار، وواحدة في آخِر النهار. فقامت وذبحت له دجاجة وسلقتها، وأتت بها إليه، وأطعمته إياها، وأسقته مرقتها، فلما فرغ من الأكل قدَّمت له ماءً مسخَّنًا، فغسل يديه، واتكأ على الوسادة، وغطته بملاءة، فنام إلى العصر، ثم قامت وسلقت دجاجة أخرى، وأتته بها وفسختها، وقالت له: كُلْ يا ولدي. فبينما هو يأكل وإذا بزوجها قد دخل فوجدها تُطعِمه، فجلس عند رأسه، وقال له: ما حالك يا ولدي في هذا الوقت؟ فقال: الحمد لله على العافية، جزاك الله عني خيرًا. ففرح الوقاد بذلك، ثم إنه خرج وأتى بشراب البنفسج وماء الورد وسقاه.

وكان ذلك الوقاد يعمل في الحمام كل يوم بخمسة دراهم، فيشتري له كلَّ يوم بدرهم سكرًا وماء الورد وشراب البنفسج، ويشتري له بدرهم فراريج، وما زال يلاطفه إلى أن مضى عليه شهر من الزمان حتى زالت عنه آثار المرض، وتوجَّهَتْ إليه العافية؛ ففرح الوقَّاد هو وزوجته بعافية ضوء المكان، وقال له الوقَّاد: يا ولدي، هل لك أن تدخل معي الحمَّام؟ قال: نعم. فمضى إلى السوق، وأتى له بمكاري أركبه حمارًا، وجعل يسنده إلى أن وصل إلى الحمَّام، ثم دخل معه الحمَّام، وأجلسه في داخله، ومضى إلى السوق، واشترى له سدرًا ودقاقًا، وقال لضوء المكان: يا سيدي، باسم الله أغسل لك جسدك. وأخذ الوقَّاد يحكُّ لضوء المكان رجلَيْه، وشرع يغسل له جسده بالسدر والدقاق، وإذا ببلان قد أرسله معلم الحمَّام إلى ضوء المكان، فوجد الوقَّاد يحكُّ رجلَيْه، فتقدَّم إليه البلان وقال له: هذا نقص في حق المعلم. فقال الوقَّاد: والله، إن المعلم غمرنا بإحسانه. فشرع البلان يحلق رأس ضوء المكان، ثم اغتسل هو والوقَّاد، وبعد ذلك رجع به الوقاد إلى منزله، وألبسه قميصًا رفيعًا، وثوبًا من ثيابه، وعمامة لطيفة، وأعطاه حزامًا، وكانت زوجة الوقاد قد ذبحت دجاجتين وطبختهما، فلما طلع ضوء المكان وجلس على الفراش، قام الوقاد وأذاب له السكر في ماء الورد وسقاه، ثم قدَّمَ له السفرة، وصار الوقاد يفسخ له من ذلك الدجاج ويُطعِمه ويسقيه من المسلوقة إلى أن اكتفى، وغسل يديه، وحمد الله تعالى على العافية، ثم قال للوقاد: أنت الذي مَنَّ الله عليَّ بك، وجعل سلامتي على يديك. فقال الوقاد: دَعْ عنك هذا الكلام، وقُلْ لنا ما سبب مجيئك إلى هذه المدينة؟ ومن أين أنت؟ فإني أرى على وجهك آثارَ النعمة. فقال له ضوء المكان: قُلْ لي أنت كيف وقعتَ بي حتى أخبرك بحديثي؟ فقال الوقاد: أما أنا فإني وجدتك مرميًّا على القمامة في المستوقد حين لاح الفجر لمَّا توجَّهتُ إلى أشغالي، ولم أعرف مَن رماك، فأخذتُك عندي، وهذه حكايتي.

فقال ضوء المكان: سبحان مَن يُحْيِي العظامَ وهي رميم، إنك يا أخي ما فعلتَ الجميلَ إلا مع أهله، وسوف تجني ثمرةَ ذلك. ثم قال للوقاد: وأنا الآن في أي البلاد؟ فقال له الوقاد: أنت في مدينة القدس. فعند ذلك تذكَّرَ ضوء المكان غربتَه، وفراقَ أخته، وبكى حيث باح بسره إلى الوقَّاد، وحكى له حكايته، ثم أنشد هذه الأبيات:

لَقَدْ حَمَّلُونِي فِي الْهَوَى فَوْقَ طَاقَتِي        وَمِنْ أَجْلِهِمْ قَامَتْ عَلَيَّ قِيَامَتِي

أَلَا فَارْفِقُوا يَا هَاجِرُونَ بِمُهْجَتِي        فَقَدْ رَقَّ لِي مِنْ بَعْدِكُمْ كُلُّ شَامِتِ

وَلَا تَمْنَعُوا أَنْ تَسْمَحُوا لِي بِنَظْرَةٍ        تُخَفِّفُ أَحْوَالِي وَفَرْطَ صَبَابَتِي

سَأَلْتُ فُؤَادِي الصَّبْرَ عَنْكُمْ فَقَالَ لِي        إِلَيْكَ فَإِنَّ الصَّبْرَ مِنْ غَيْرِ عَادَتِي

ثم زاد في بكائه، فقال له الوقَّاد: لا تبكِ، واحمد الله على السلامة والعافية. فقال ضوء المكان: كم بيننا وبين دمشق؟ فقال: ستة أيام. فقال ضوء المكان: هل لكَ أن ترسلني إليها؟ فقال له الوقَّاد: يا سيدي، كيف أدعك تروح وحدك وأنت شاب صغير؟ فإن شئتَ السفر إلى دمشق فأنا الذي أروح معك، وإن أطاعتني زوجتي وسافرَتْ معي أقمتُ هناك، فإنه لا يهون عليَّ فراقك. ثم قال الوقَّاد لزوجته: هل لكِ أن تسافري معي إلى دمشق الشام، أو تكوني مقيمةً هنا حتى أوصل سيدي هذا إلى دمشق الشام، وأعود إليكِ؟ فإنه يطلب السفر إليها، فإني والله لا يهون عليَّ فراقه، وأخاف عليه من قطاع الطريق. فقالت له زوجته: أسافر معكما. فقال الوقَّاد: الحمد لله على الموافقة. ثم إن الوقَّاد قام وباع أمتعته وأمتعة زوجته. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 55﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوقَّاد اتفق هو وزوجته على السفر مع ضوء المكان، وعلى أنهما يمضيان معه إلى دمشق، ثم إن الوقَّاد باع أمتعته وأمتعة زوجته، ثم اكترى حمارًا، وأركب ضوء المكان إياه وسافروا، ولم يزالوا مسافرين ستةَ أيام إلى أن دخلوا دمشق، فنزلوا هناك في آخِر النهار، وذهب الوقَّاد واشترى شيئًا من الأكل والشرب على العادة، وما زالوا على ذلك الحال خمسةَ أيام، وبعد ذلك مرضت زوجةُ الوقاد أيامًا قلائل، وانتقلت إلى رحمة الله تعالى؛ فعظم ذلك على ضوء المكان؛ لأنه كان قد اعتاد عليها، وكانت تخدمه، وحزن عليها الوقَّاد حزنًا شديدًا، فالتفت ضوء المكان إلى الوقَّاد فوجده حزينًا، فقال له: لا تحزن، فإننا كلنا داخلون في هذا الباب. فالتفَتَ الوقَّاد إلى ضوء المكان وقال له: جزاك الله خيرًا يا ولدي، فالله تعالى يعوِّض علينا بفضله، ويزيل عنَّا الحزن، فهل لك يا ولدي أن تخرج بنا ونتفرج في دمشق لينشرح خاطرك؟ فقال له ضوء المكان: الرأي رأيك. فقام الوقَّاد ووضع يده في يد ضوء المكان، وسارا إلى أن أتيَا تحت إصطبل والي دمشق، فوجدَا جِمالًا محمَّلةً صناديق، وفرشًا من الديباج وغيره، وجنائب مسرجة، وبخاتي وعبيدًا ومماليك، والناس في هرج ومرج، فقال ضوء المكان: يا تُرَى لمَن تكون هؤلاء المماليك والجمال والأقمشة؟ وسأل بعض الخدم عن ذلك، فقال له المسئول: هذه هدية من أمير دمشق يريد إرسالَها إلى الملك عمر النعمان مع خراج الشام. فلما سمع ضوء المكان هذا الكلام، تغرغرت عيناه بالدموع، وأنشد يقول:

إِنْ شَكَوْنَا الْبِعَادَ مَاذَا نَقُولُ        أَوْ تَلِفْنَا شَوْقًا فَكَيْفَ السَّبِيلُ

أَوْ رَأَيْنَا الرَّسُولَ تَرْجَمَ عَنَّا        مَا يَؤُدِّي شَكْوَى الْمُحِبِّ رَسُولُ

أَوْ صَبَرْنَا فَمَا مِنَ الصَّبْرِ عِنْدِي        بَعْدَ فَقْدِ الْأَحْبَابِ إِلَّا الْقَلِيلُ

وقال أيضًا:

رَحَلُوا غَائِبِينَ عَنْ جَفْنِ عَيْنِي        إِنَّهُمْ فِي الْفُؤَادِ مِنِّي حُلُولُ

غَابَ عَنِّي جَمَالُهُمْ فَحَيَاتِي        لَيْسَ تَحْلُو وَلَا اشْتِيَاقِي يَحُولُ

إِنْ قَضَى اللهُ بِاجْتِمَاعِي إِلَيْكُمْ        أَذْكُرُ الْوَجْدَ فِي حَدِيثٍ يَطُولُ

فلما فرغ من شعره بكى، فقال له الوقاد: يا ولدي، نحن ما صدَّقنا أنك جاءتك العافية، فطِبْ نفسًا ولا تبكِ؛ فإني أخاف عليك من النكسة. وما زال يلاطفه ويمازحه وضوء المكان يتنهد ويتحسر على غربته، وعلى فراقه لأخته ومملكته، ويرسل العَبَرات، ثم أنشد هذه الأبيات:

تَزَوَّدْ مِنَ الدُّنْيَا فَإِنَّكَ رَاحِلٌ        وَأَيْقِنْ بِأَنَّ الْمَوْتَ لَا شَكَّ نَازِلُ

نَعِيمُكَ فِي الدُّنْيَا غُرُورٌ وَحَسْرَةٌ        وَعَيْشُكَ فِي الدُّنْيَا مُحَالٌ وَبَاطِلُ

أَلَا إِنَّمَا الدُّنْيَا كَمَنْزِلِ رَاكِبٍ        أَنَاخَ عَشِيًّا وَهْوَ فِي الصُّبْحِ رَاحِلُ

ثم إن ضوء المكان جعل يبكي وينتحب على غربته، وكذلك الوقاد صار يبكي على فراق زوجته، ولكنه ما زال يتلطف بضوء المكان إلى أن أصبح الصباح، فلما طلعت الشمس قال له الوقاد: كأنك تذكَّرت بلادك. فقال له ضوء المكان: نعم، ولا أستطيع أن أقيم هنا، وأستودعك الله، فإني مسافر مع هؤلاء القوم، وأمشي معهم قليلًا قليلًا حتى أصل إلى بلادي. فقال له الوقاد: وأنا معك؛ فإني لا أقدر أن أفارقك، فإني عملت معك حسنة، وأريد أن أتمِّمها بخدمتي لك. فقال له ضوء المكان: جزاك الله عني خيرًا. وفرح ضوء المكان بسفر الوقاد معه، ثم إن الوقاد خرج من ساعته، واشترى له حمارًا وهيَّأ زادًا، وقال لضوء المكان: اركب هذا الحمار في السفر، فإذا تعبتَ من الركوب فانزل وامشِ. فقال ضوء المكان: بارَكَ الله فيك، وأعانني على مكافأتك؛ فإنك فعلتَ معي من الخير ما لا يفعله أحد مع أخيه. ثم صبرا إلى أن جنَّ الظلام، فحملا زادهما وأمتعتهما على ذلك الحمار، وسافرَا.

هذا ما كان من أمر ضوء المكان والوقاد، وأما ما كان من أمر أخته نزهة الزمان، فإنها لما فارقت أخاها ضوء المكان خرجت من الخان الذي كانا فيه في القدس بعد أن التفَّتْ بالعباءة لأجل أن تخدم أحدًا، وتشتري لأخيها ما اشتهاه من اللحم المشوي، وصارت تبكي في الطريق وهي لا تعرف أين تتوجه، وصار خاطرها مشغولًا بأخيها، وقلبها متفكِّرًا في الأهل والأوطان، فصارت تتضرَّع إلى الله تعالى في دفع هذه البليَّات، وأنشدت هذه الأبيات:

جَنَّ الظَّلَامُ وَهَاجَ الْوَجْدُ بِالسَّقَمِ        وَالشَّوْقُ حَرَّكَ مَا عِنْدِي مِنَ الْأَلَمِ

وَلَوْعَةُ الْبَيْنِ فِي الْأَحْشَاءِ قَدْ سَكَنَتْ        وَالْوَجْدُ صَيَّرَنِي فِي حَالَةِ الْعَدَمِ

وَالْحُزْنُ أَقْلَقَنِي وَالشَّوْقُ أَحْرَقَنِي        وَالدَّمْعُ بَاحَ بِحُبِّ أَيِّ مُكْتَتِمِ

وَلَيْسَ لِي حِيلَةٌ فِي الْوَصْلِ أَعْرِفُهَا        حَتَّى تُزَحْزِحَ مَا عِنْدِي مِنَ الْأَلَمِ

فَنَارُ قَلْبِيَ بِالْأَشْوَاقِ مُوقَدَةٌ        وَمِنْ لَظَاهَا يَظَلُّ الصَّبُّ فِي نِقَمِ

يَا مَنْ يَلُومُ عَلَى مَا حَلَّ بِي وَكَفَى        إِنِّي صَبَرْتُ عَلَى مَا خُطَّ بِالْقَلَمِ

أَقْسَمْتُ بِالْحُبِّ مَا لِي سَلْوَةٌ أَبَدًا        يَمِينُ أَهْلِ الْهَوَى مَبْرُورَةُ الْقَسَمِ

يَا لَيْلُ بَلِّغْ رُوَاةَ الْحُبِّ عَنْ خَبَرِي        وَاشْهَدْ بِعِلْمِكَ أَنِّي فِيكَ لَمْ أَنَمِ

ثم إن نزهة الزمان أخت ضوء المكان صارت تمشي وتلتفت يمينًا ويسارًا، وإذا شيخ مسافر من البدو ومعه خمسة نفر من العرب قد التفَتَ إلى نزهة الزمان فرآها جميلةً، وعلى رأسها عباءة مقطعة، فتعجَّب من حُسْنها، وقال في نفسه: إن هذه جميلة، ولكنها ذات قشف، فإن كانت من أهل هذه المدينة أو كانت غريبة فلا بد لي منها. ثم إنه تبعها قليلًا قليلًا حتى تعرَّض لها في الطريق في مكان ضيق، وناداها ليسألها عن حالها، وقال لها: يا بنية، هل أنت حرة أم مملوكة؟ فلما سمعت كلامه نظرت إليه، وقالت له: بحياتك لا تجدِّد عليَّ الأحزان. فقال لها: إني رُزِقت ستة بنات، مات لي منهن خمسٌ، وبقيت واحدة وهي أصغرهن، وأتيتُ إليك لأسألكِ هل أنتِ من أهل هذه المدينة أو غريبة؟ لأجل أن آخذك وأجعلك عندها لتؤانسيها، فتشتغل بكِ عن الحزن على أخواتها؟ فإن لم يكن لك أحد جعلتك مثل واحدة منهن، وتصيرين مثل أولادي.

فلما سمعت نزهة الزمان كلامه قالت في سرها: عسى أن آمن على نفسي عند هذا الشيخ. ثم أطرقت برأسها من الحياء، وقالت: يا عم، أنا بنت غريبة، ولي أخ ضعيف، فأنا أمضي معك إلى بيتك بشرط أن أكون عندها بالنهار، وبالليل أمضي إلى أخي، فإن قبلتَ هذا الشرط مضيتُ معك؛ لأني غريبة، وكنت عزيزة، فأصبحت ذليلةً حقيرةً، وجئتُ أنا وأخي من بلاد الحجاز، وأخاف أنَّ أخي لا يعرف لي مكانًا. فلما سمع البدوي كلامها قال في نفسه: والله، إني فزتُ بمطلوبي. ثم قال لها: ما أريدك إلا لتؤانسي بنتي نهارًا، وتمضي إلى أخيك ليلًا، وإن شئتِ فانقليه إلى مكاننا. ولم يزل البدوي يطيِّب قلبها، ويليِّن لها الكلام إلى أن وافقَتْه على الخدمة، ومشى قدامها وتبعته، ولم يزل سائرًا إلى جماعته، وكانوا قد هيَّئُوا الجِمَال، ووضعوا عليها الأحمال، ووضعوا فوقها الماء والزاد، وكان البدوي قاطع الطريق، وخائن الرفيق، وصاحب مكرٍ وحِيَل، ولم يكن عنده بنت ولا ولد، وإنما قال ذلك الكلام حيلةً على هذه البنت المسكينة لأمرٍ قدَّره الله.

ثم إن البدوي صار يحدِّثها في الطريق إلى أن خرج من مدينة القدس، واجتمع برفقته، فوجدهم قد أرحلوا الجمال، فركب البدوي جملًا وأردفها خلفه، وساروا معظم الليل، فعرفت نزهة الزمان أن كلام البدوي كان حيلة عليها، وأنه مَكَر بها، فصارت تبكي وتصرخ وهم في الطريق قاصدين الجبال؛ خوفًا أن يراهم أحد، فلما صاروا قريب الفجر نزلوا عن الجمال، وتقدَّمَ البدوي إلى نزهة الزمان وقال لها: يا مدنية، ما هذا البكاء؟ والله إن لم تتركي البكاءَ ضربتك إلى أن تهلكي يا قطعة حضرية. فلما سمعت نزهة الزمان كلامه كرهت الحياة، وتمنَّتِ الموتَ، فالتفتت إليه وقالت له: يا شيخ السوء، يا شيبة جهنم، كيف استأمنتك وأنت تخونني وتمكر بي؟ فلما سمع البدوي كلامها قال لها: يا قطعة حضرية، ألكِ لسان تجاوبينني به؟ وقام إليها ومعه سوط فضربها، وقال: إن لم تسكتي قتلتك. فسكتت ساعة، ثم تفكَّرَتْ أخاها وما هو فيه من الأمراض؛ فبكت سرًّا، وفي ثاني يوم التفتت إلى البدوي، وقالت له: كيف تعمل عليَّ هذه الحيلة حتى أتيتَ بي إلى هذه الجبال القفرة؟ وما قصدك مني؟ فلما سمع كلامها قسا قلبه، وقال لها: يا قطعة حضرية، ألكِ لسان تجاوبينني به؟ وأخذ السوط ونزل به على ظهرها إلى أن غُشِي عليها، فانكبَّت على رجليه وقبَّلتهما، فكفَّ عنها الضرب، وصار يشتمها ويقول لها: وحق طرطوري، إن سمعتك تبكين قطعت لسانك ودسسته في كسك يا قطعة حضرية. فعند ذلك سكتت، ولم ترد جوابًا، وآلمها الضرب، فقعدت على قرافيصها، وجعلت رأسها في طوقها، وصارت تتفكر في حالها، وفي حال أخيها، وفي ذلها بعد العز، وفي مرض أخيها ووحدته، واغترابهما، وأرسلت دموعها على الوجنات، وأنشدت هذه الأبيات:

مِنْ عَادَةِ الدَّهْرِ إِدْبَارٌ وَإِقْبَالُ        فَمَا يَدُومُ لَهُ بَيْنَ الْوَرَى حَالُ

وَكُلُّ شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا لَهُ أَجَلٌ        وَتَنْقَضِي لِجَمِيعِ النَّاسِ آجَالُ

كَمْ أَحْمِلُ الضَّيْمَ وَالْأَهْوَالَ يَا أَسَفِي        مِنْ عِيشَةٍ كُلُّهَا ضَيْمٌ وَأَهْوَالُ

لَا أَسْعَدَ اللهُ أَيَّامًا عُزِزْتُ بِهَا        دَهْرًا وَفِي طَيِّ ذَاكَ الْعِزِّ إِذْلَالُ

قَدْ خَابَ قَصْدِي وَآمَالِي بِهَا انْصَرَمَتْ        وَقَدْ تُقَطَّعُ بِالتَّغْرِيبِ أَوْصَالُ

يَا مَنْ يَمُرُّ عَلَى دَارٍ بِهَا سَكَنِي        بَلِّغْهُ عَنِّيَّ أَنَّ الدَّمْعَ هَطَّالُ

فلما سمع البدوي شعرها عطف عليها، ورثى لها ورحمها، وقام إليها ومسح دموعها، وأعطاها قرصًا من شعير، وقال لها: أنا لا أحب مَن يجاوبني في وقت الغيظ، وأنت بعد ذلك لا تجاوبيني بشيء من هذا الكلام الفاحش، وأنا أبيعك لرجل جيد مثلي يفعل معك الخير مثلما فعلتُ معك. قالت: نِعْمَ ما تفعل. ثم إنها لما طال عليها الليل وأحرقها الجوع، أكلت من ذلك القرص الشعير شيئًا يسيرًا، فلما انتصف الليل أمر البدوي جماعته أن يسافروا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 56﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن البدوي لما أعطى نزهة الزمان القرص الشعير، ووعدها أن يبيعها لرجل جيد مثله، قالت له: نِعْمَ ما تفعل. فلما انتصف الليل وأحرقها الجوع، أكلت من القرص الشعير شيئًا يسيرًا، ثم إن البدوي أمر جماعته أن يسافروا، فحمَّلوا الجمال، وركب البدوي جملًا، وأردف نزهة الزمان خلفه، وساروا وما زالوا سائرين مدة ثلاثة أيام، ثم دخلوا مدينة دمشق، ونزلوا في خان السلطان بجانب باب الملك، وقد تغيَّرَ لون نزهة الزمان من الخوف وتعب السفر، فصارت تبكي من أجل ذلك، فأقبل عليها البدوي، وقال لها: يا حضرية، وحق طرطوري، إن لم تتركي هذا البكاء لا أبيعك إلا ليهودي! ثم إنه قام وأخذ بيدها، وأدخلها في مكان، وتمشَّى إلى السوق، ومر على التجار الذين يتَّجرون في الجواري، وصار يكلِّمهم، ثم قال لهم: عندي جارية أتيتُ بها معي، وأخوها ضعيف، فأرسلته إلى أهلي في مدينة القدس لأجل أن يداووه حتى يبرأ، وقصدي أن أبيعها، ومن يوم ضعف أخيها وهي تبكي، وصعب عليها فراقه، وأريد أن الذي يشتريها مني يلين لها الكلام، ويقول لها: إن أخاك عندي في القدس ضعيف، وأنا أرخِّص له ثمنها. فنهض له رجل من التجار، وقال له: كم عمرها؟ فقال: هي بكر بالغة، ذات عقل وأدب وفطنة وحُسْن وجمال، ومن حين أرسلتُ أخاها إلى القدس اشتغل قلبها به، وتغيَّرَتْ محاسنها، وانهزل سمنها.

فلما سمع التاجر ذلك تمشَّى مع البدوي، وقال له: اعلم يا شيخ العرب أني أروح معك، وأشتري منك الجارية التي تمدحها، وتشكر عقلها وأدبها وحُسْنها وجمالها، وأعطيك ثمنها، وأشرط عليك شروطًا إن قبلتها نقدتُ لك ثمنها، وإن لم تقبلها رددتُها عليك. فقال له البدوي: إن شئتَ فاطلع بها إلى السلطان، واشرط عليَّ ما شئتَ من الشروط، فإنك إذا أوصلتَها إلى الملك شركان بن الملك عمر النعمان صاحب بغداد وخراسان، ربما تليق بعقله فيعطيك ثمنها، ويُكثِر لك الربح فيها. فقال له التاجر: وأنا لي عند السلطان حاجة، وهو أن يكتب إلى والده عمر النعمان بالوصية عليَّ، فإن قَبِل الجارية مني وزنت لك ثمنها في الحال. فقال له البدوي: قبلتُ منك هذا الشرط. ثم مشى الاثنان إلى أن أقبلَا على المكان الذي فيه نزهة الزمان، ووقف البدوي على باب الحجرة وناداها: يا ناجية. وكان سمَّاها بهذا الاسم، فلما سمعَتْه بكَتْ ولم تُجِبْه، فالتفت البدوي إلى التاجر وقال له: ها هي قاعدة دونك، فأقبل عليها وانظرها ولاطِفْها مثل ما أوصيتُك. فتقدَّمَ التاجر إليها فرآها بديعة في الحُسْن والجمال، لا سيما وكانت تعرف بلسان العرب. فقال التاجر: إن كانت كما وصفتَ لي، فإني أبلغ بها عند السلطان ما أريد. ثم إن التاجر قال لها: السلام عليكِ يا بنية، كيف حالك؟ فالتفتَتْ إليه، وقالتكَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا. ونظرت إليه، فإذا هو رجل ذو وقار، ووجهه حسن، فقالت في نفسها: أظن أن هذا جاء يشتريني. ثم قالت: إن امتنعتُ منه صرتُ عند هذا الظالم فيهلكني من الضرب، فعلى كل حال هذا رجل وجهه حسن، وهو أرجى للخير من هذا البدوي الجلف، ولعله ما جاء إلا ليسمع منطقي، فأنا أجاوبه جوابًا حسنًا. كل ذلك وعينها في الأرض، ثم رفعت بصرها إليه، وقالت له بكلام عذب: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته يا سيدي، بهذا أمر النبي ﷺ، وأما سؤالك عن حالي، فإن شئتَ أن تعرفه فلا تتمنَّه إلا لأعدائك. ثم سكتَتْ، فلما سمع التاجر كلامَها طار عقله فرحًا بها، والتفت إلى البدوي وقال له: كم ثمنها؟ فإنها جليلة. فاغتاظ البدوي، وقال له: أفسدتَ عليَّ الجارية بهذا الكلام! لأي شيء تقول إنها جليلة مع أنها من رعاع الناس؟ فأنا لا أبيعها لك.

فلما سمع التاجر كلامه عرف أنه قليل العقل، فقال له: طِبْ نفسًا وقَرَّ عينًا، فأنا أشتريها على هذا العيب الذي ذكرتَه. فقال البدوي: وكم تدفع لي فيها؟ فقال له التاجر: ما يسمِّي الولدَ إلا أبوه، فاطلب فيها مقصودك. فقال له البدوي: ما يتكلم إلا أنت. فقال التاجر في نفسه: إن هذا البدوي جلف يابس الرأس، وأنا لا أعرف لها قيمة إلا أنها ملكت قلبي بفصاحتها وحُسْن منظرها، وإن كانت تكتب وتقرأ فهذا من تمام النعمة عليها، وعلى مَن يشتريها، لكن هذا البدوي لا يعرف لها قيمة. ثم التفت إلى البدوي، وقال له: يا شيخ العرب، أدفع لك فيها مائتَيْ دينار سالمة ليدك غير الضمان وقانون السلطان. فلما سمع ذلك البدوي اغتاظ غيظًا شديدًا، وصرخ على التاجر وقال له: قُمْ إلى حال سبيلك، لو أعطيتني مائتَيْ دينار في هذه القطعة العباءة التي عليها، ما بعتُها لك، فأنا لا أبيعها بل أخليها عندي ترعى الجمال وتطحن الطحين. ثم صاح عليها وقال: تعالي يا منتنة، أنا لا أبيعك. ثم التفت إلى التاجر وقال له: كنت أحسبك أهل معرفة، وحق طرطوري، إن لم تذهب عني لأسمعتُك ما لا يرضيك. فقال التاجر في نفسه: إن هذا البدوي مجنون، ولا يعرف قيمتها، ولا أقول له شيئًا في ثمنها في هذا الوقت، فإنه لو كان صاحب عقل ما قال وحق طرطوري؛ والله إنها تساوي خزنةً من الجواهر، وأنا ما معي ثمنها، ولكن إنْ طلب مني ما يريد أعطيتُه إياه، ولو أخذ جميعَ مالي. ثم التفت إلى البدوي وقال له: يا شيخ العرب، طوِّلْ بالك وقل لي: ما لها من القماش عندك؟ فقال البدوي: وما تفعل قطاعة الجواري هذه بالقماش؟ والله إن هذه العباءة التي هي ملفوفة فيها كثيرة عليها. فقال له التاجر: عن إذنك أكشف عن وجهها، وأقلِّبها كما يقلب الناس الجواري لأجل الاشتراء. فقال له البدوي: دونك وما تريد، الله يحفظ شبابك، فقلِّبها ظاهرًا وباطنًا، وإن شئت فَعِرِّها الثيابَ، ثم انظرها وهي عريانة. فقال التاجر: معاذ الله! أنا ما أنظر إلا وجهها. ثم إن التاجر تقدَّمَ إليها وهو خجلان من حُسْنها وجمالها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 57﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن التاجر تقدَّم إلى نزهة الزمان وهو خجلان من حُسْنها، وجلس إلى جانبها، وقال لها: يا سيدتي، ما اسمك؟ فقالت له: أتسألني عن اسمي في هذا الزمان، أو عن اسمي القديم؟ فقال لها: هل لك اسم جديد واسم قديم؟ قالت: نعم، اسمي القديم نزهة الزمان، واسمي الجديد غصة الزمان. فلما سمع التاجر منها هذا الكلام، تغرغرت عيناه بالدموع وقال لها: هل لك أخ ضعيف؟ فقالت: إي والله يا سيدي، ولكن فرَّق الزمانُ بيني وبينه وهو مريض في بيت المقدس. فتحيَّرَ عقلُ التاجر من عذوبة منطقها، وقال في نفسه: لقد صدق البدوي في مقالته. ثم إن نزهة الزمان تذكَّرت أخاها ومرضه وغربته، وفراقها عنه وهو ضعيف، ولا تعلم ما وقع له، وتذكَّرت ما جرى لها من هذا الأمر مع البدوي، ومن بُعْدها عن أمها وأبيها ومملكتها، فجرت دموعُها على خدها، وأرسلت العَبَرات، وأنشدت هذه الأبيات:

حُيْثُمَا كُنْتَ قَدْ وَقَاكَ إِلَهِي        أَيُّهَا الرَّاحِلُ الْمُقِيمُ بِقَلْبِي

وَلَكَ اللهُ حَيْثُ أَمْسَيْتَ جَارًا        حَافِظًا مِنْ صُرُوفِ دَهْرٍ وَخَطْبِ

غِبْتَ فَاسْتَوْحَشَتْ لِقُرْبِكَ عَيْنِي        وَاسْتَهَلَّتْ مَدَامِعِي أَيَّ سَكْبِ

لَيْتَ شِعْرِي بِأَيِّ رَبْعٍ وَأَرْضِ        أَنْتَ مُسْتَوْطِنٌ بِدَارٍ وَشِعْبِ

إِنْ يَكُنْ شَارِبًا لِمَاءِ حَيَاةٍ        خَضِرِ الْوَرْدِ فَالْمَدَامِعُ شُرْبِي

أَوْ شَهِدْتَ الرُّقَادَ يَوْمًا فَجَمْرٌ        مِنْ سُهَادِي بَيْنَ الْفِرَاشِ وَجَنْبِي

كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا فِرَاقَكَ سَهْلٌ        عِنْدَ قَلْبِي وَغَيْرُهُ غَيْرُ صَعْبِ

فلما سمع التاجر ما قالته من الشعر بكى، ومد يده ليمسح دموعها عن خدها، فغطَّت وجهها وقالت له: حاشاك يا سيدي. ثم إن البدوي قعد ينظر إليها وهي تغطي وجهها من التاجر، حيث أراد أن يمسح دمعها عن خدها، فاعتقد أنها تمنعه من التقليب، فقام إليها يجري وكان معه مقود جمل، فرفعه في يده وضربها به على أكتافها، فجاءت الضربة بقوة فانكبَّت بوجهها على الأرض، فجاءت حصاة من الأرض في حاجبها فشقته، فسال دمها على وجهها، فصرخت صرخة عظيمة، وغشي عليها، وبكت وبكى التاجر معها، فقال التاجر: لا بد أن أشتري هذه الجارية، ولو بثقلها ذهبًا، وأريحها من هذا الظالم. وصار التاجر يشتم البدوي وهي في غشيتها، فلما أفاقت مسحت الدموع والدم عن وجهها، وعصبت رأسها، ورفعت طرفها إلى السماء، وطلبت من مولاها بقلب حزين، وأنشدت هذين البيتين:

وَا رَحْمَتَا لِعَزِيزَةٍ        بِالضَّيْمِ قَدْ صَارَتْ ذَلِيلَةْ

تَبْكِي بِدَمْعٍ هَاطِلٍ        وَتَقُولُ مَا فِي الْوَعْدِ حِيلَةْ

فلما فرغت من شعرها، التفتت إلى التاجر وقالت له بصوت خفي: بالله لا تدعني عند هذا الظالم الذي لا يعرف الله تعالى، فإن بتُّ هذه الليلة عنده قتلت نفسي بيدي، فخلِّصني منه يخلصك الله مما تخاف في الدنيا والآخرة. فقام التاجر وقال للبدوي: يا شيخ العرب، هذه ليست غرضك، بِعْني إياها بما تريد. فقال البدوي: خذها وادفع ثمنها، وإلا أروح بها إلى النجع وأتركها هناك تلمُّ البعر وترعى الجمال. فقال التاجر: أعطيك خمسين ألف دينار. فقال البدوي: يفتح الله. فقال التاجر: سبعين ألف دينار. فقال البدوي: يفتح الله، هذا ما هو رأس مالها؛ لأنها أكلت عندي أقراصًا من الشعير بتسعين ألف دينار. فقال التاجر: أنت وأهلك وقبيلتك في طول عمركم ما أكلتم بألف دينار شعيرًا، ولكن أقول لك كلمة واحدة، فإن لم ترضَ بها غمزتُ عليك والي دمشق فيأخذها منك قهرًا. فقال البدوي: تكلَّمْ. فقال: بمائة ألف دينار. فقال البدوي: بعتك إياها بهذا الثمن، وأقدر أنني اشتريت بها ملحًا. فلما سمعه التاجر ضحك، ومضى إلى منزله، وأتى بالمال وأقْبَضَه إياه، فأخذه البدوي وقال في نفسه: لا بد أن أذهب إلى القدس لعلِّي أجد أخاها، فأجيء به وأبيعه. ثم ركب وسافر حتى وصل إلى بيت المقدس، فذهب إلى الخان وسأل عن أخيها، فلم يجده.

هذا ما كان من أمره، وأما ما كان من أمر التاجر ونزهة الزمان، فإنه لما أخذها ألقى عليها شيئًا من ثيابه، ومضى بها إلى منزله. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 58﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن التاجر لما تسلَّم الجارية من البدوي، وضع عليها شيئًا من ثيابه، ومضى بها إلى منزله، وألبسها أفخرَ الملبوس، ثم أخذها ونزل بها إلى السوق، وأخذ لها مصاغًا ووضعه في بقجة من الأطلس، ووضعها بين يديها وقال لها: هذا كله من أجلك، ولا أريد منك إلا إذا طلعت بك إلى السلطان والي دمشق أن تُعلِميه بالثمن الذي اشتريتُك به، وإن كان قليلًا في ظفرك، وإذا اشتراك مني فاذكري له ما فعلتُ معكِ، واطلبي لي منه مرقومًا سلطانيًّا بالوصية عليَّ لأذهب به إلى والده صاحب بغداد الملك عمر النعمان، لأجل أن يمنع مَن يأخذ مني مكسبًا على القماش أو غيره من جميع ما أتَّجِرُ فيه. فلما سمعت كلامه بكت وانتحبت، فقال لها التاجر: يا سيدتي، إني أراك كلما ذكرتُ لك بغداد تدمع عيناك، ألكِ فيها أحد تحبينه؟ فإن كان تاجرًا أو غيره فأخبريني، فإني أعرف جميع مَن فيها من التجار وغيرهم، وإنْ أردتِ رسالةً أنا أوصلها إليه. فقالت: والله، ما لي معرفة بتاجر ولا غيره، وإنما لي معرفة بالملك عمر النعمان صاحب بغداد.

فلما سمع التاجر كلامها ضحك وفرح فرحًا شديدًا، وقال في نفسه: والله إني وصلت إلى ما أريد. ثم قال لها: هل عُرِضتِ عليه سابقًا؟ فقالت: لا، بل تربَّيْتُ، وأنا بنته، فكنتُ عزيزةً عنده، ولي عنده حرمة كبيرة، فإن كان غرضك أن الملك عمر النعمان يكتب لك ما تريد، فائتني بدواة وقرطاس، فإني أكتب لك كتابًا، فإذا دخلتَ مدينةَ بغداد فسلِّم الكتابَ من يدك إلى يد الملك عمر النعمان، وقل له: إن جاريتك نزهة الزمان قد طرقتها صروفُ الليالي والأيام، حتى بيعت من مكان إلى مكان، وهي تُقْرِئك السلام، وإذا سألك عني فأخبره أني عند نائب دمشق. فتعجَّبَ التاجرُ من فصاحتها، وازدادت عنده محبتها، وقال: ما أظن إلا أن الرجال لعبوا بعقلك، وباعوك بالمال، فهل تحفظين القرآن؟ قالت: نعم، وأعرف الحكمة، والطب، ومقدمة المعرفة، وشرح فصول بقيراط لجالينوس الحكيم، وشرحته أيضًا، وقرأتُ التذكرة، وشرحتُ البرهان، وطالعتُ مفردات ابن البيطار، وتكلَّمْتُ على القانون لابن سينا، وحلَلْتُ الرموزَ، ووضعتُ الأشكال، وتحدَّثْتُ في الهندسة، وأتقنتُ حكمةَ الأبدان، وقرأتُ كتبَ الشافعية، وقرأتُ الحديثَ والنحو، وناظرتُ العلماء، وتكلَّمْتُ في سائر العلوم، وألَّفْتُ في علم المنطق والبيان، والحساب والجدل، وأعرف الروحاني والميقات، وفهمت هذه العلوم كلها. ثم قالت: ائتني بدواة وقرطاس حتى أكتب لك كتابًا يسلِّيك في الأسفار، ويغنيك عن مجلدات الأسفار. فلما سمع التاجر منها هذا الكلام صاح: بخٍ بخٍ، فيا سعد مَن تكونين في قصره! ثم أتاها بدواة وقرطاس وقلم من نحاس، فلما أحضر التاجر ذلك بين يديها، قبَّلَ الأرضَ تعظيمًا لها، فأخذت نزهة الزمان الدرج، وتناولت القلم وكتبت في الدرج هذه الأبيات:

مَا بَالُ نَوْمِيَ مِنْ عَيْنَيَّ قَدْ نَفَرَ        أَأَنْتَ عَلَّمْتَ طَرْفِي بَعْدَكَ السَّهَرَ

وَمَا لِذِكْرِكَ يُذْكِي النَّارَ فِي كَبِدِي        أَهَكَذَا كُلُّ صَبٍّ لِلْهَوَى ذُكِرَ

سَقْيًا لِأَيَّامِنَا مَا كَانَ أَطْيَبَهَا        مَضَتْ وَلَمْ أَقْضِ مِنْ لَذَّاتِهَا وَطَرَ

أَسْتَعْطِفُ الرِّيحَ إِنَّ الرِّيحَ حَامِلَةٌ        إِلَى الْمُتَيَّمِ مِنْ أَكْنَافِكُمْ خَبَرَ

يَشْكُو إِلَيْكَ مُحِبٌّ قَلَّ نَاصِرُهُ        وَلِلْفِرَاقِ خُطُوبٌ تَصْدَعُ الْحَجَرَ

ثم إنها لما فرغت من كتابة هذا الشعر كتبت بعد ذلك هذا الكلام، وهي تقول: ممَّنِ استولى عليها الفكر، وأنحَلَها السهرُ، فظُلمتها لا تجد لها من أنوار، ولا تعلم الليل من النهار، وتتقلب على مراقد البين، وتكتحل بمَراوِد الأرق، ولم تزل للنجوم رقيبة، وللظلام نقيبة، أذابها الفكر والنحول، وشرْحُ حالِها يطول، لا مساعِدَ لها غير العَبَرات. وأنشدَتْ هذه الأبيات:

مَا غَرَّدَتْ سَحَرًا وَرْقَاءُ فِي فَنَنِ        إِلَّا تَحَرَّكَ عِنْدِي قَاتِلُ الشَّجَنِ

وَلَا تَأَوَّهَ مُشْتَاقٌ بِهِ طَرَبٌ        إِلَى الْأَحِبَّةِ إِلَّا ازْدَدْتُ فِي حَزَنِي

أَشْكُو الْغَرَامَ إِلَى مَنْ لَيْسَ يَرْحَمُنِي        كَمْ فَرَّقَ الْوَجْدُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْبَدَنِ

ثم أفاضت دموع العين، وكتبت أيضًا هذين البيتين:

أَبْلَى الْهَوَى أَسَفًا يَوْمَ النَّوَى بَدَنِي        وَفَرَّقَ الْهَجْرُ بَيْنَ الْجَفْنِ وَالْوَسَنِ

كَفَى بِجِسْمِي نُحُولًا إِنَّنِي دَنَفٌ        لَوْلَا مُخَاطَبَتِي إِيَّاكَ لَمْ تَرَنِي

وبعد ذلك كتبَتْ في أسفل الدرج: هذا من عند البعيدة عن الأهل والأوطان، الحزينة القلب والجنان؛ نزهة الزمان. ثم طوت الدرج، وناولته للتاجر، فأخذه وقبَّله، وعرف ما فيه؛ ففرح وقال: سبحان مَن صوَّركِ! وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 59﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن نزهة الزمان كتبت الكتاب، وناولته للتاجر، فأخذه وقرأه وعلم ما فيه، فقال: سبحان مَن صوَّرك! وزاد في إكرامها، وصار يلاطفها نهاره كله، فلما أقبل الليل خرج إلى السوق، وأتى بشيء فأطعمها إياه، ثم أدخلها الحمام، وأتى لها ببلانة وقال لها: إذا فرغتْ من غسل رأسها، فألبسيها ثيابها، ثم أرسلي أعلميني بذلك. فقالت: سمعًا وطاعة. ثم أحضر لها طعامًا وفاكهة وشمعًا، وجعل ذلك على مصطبة الحمام، فلما فرغت البلانة من تنظيفها ألبستها ثيابَها، ولما خرجت من الحمام، وجلست على مصطبة الحمام وجدَتِ المائدةَ حاضرة، فأكلت هي والبلانة من الطعام والفاكهة، وتركت الباقي لحارسة الحمام، ثم باتت إلى الصباح، وبات التاجر منعزلًا عنها في مكان آخَر، فلما استيقظ من نومه أيقظ نزهة الزمان، وأحضر لها قميصًا رفيعًا، وكوفية بألف دينار، وبدلة لباس تركية مزركشة بالذهب، وخفًّا مزركشًا بالذهب الأحمر، مرصَّعًا بالدر والجوهر، وجعل في أذنيها حلقًا من اللؤلؤ بألف دينار، ووضع في رقبتها طوقًا من الذهب، وقلادة من العنبر تضرب تحت نهديها فوق سرَّتها، وتلك القلادة فيها عشر أكر وتسعة أهلة، كل هلال في وسطه فصٌّ من الياقوت، وكل أكرة فيها فصٌّ من البلخش، وثمن تلك القلادة ثلاثة آلاف دينار، فصارت الكسوة التي كساها إياها بجملة بليغة من المال. ثم أمرها التاجر أن تتزين فتزيَّنَتْ بأحسن الزينة، ومشت ومشى التاجر قدامها، فلما عاينها الناس بهتوا في حُسْنها، وقالوا: تبارك الله أحسن الخالقين، هنيئًا لمَن كانت هذه عنده.

وما زال التاجر يمشي وهي تمشي خلفه حتى دخل على الملك شركان، فلما دخل على الملك قبَّل الأرض بين يديه، وقال: أيها الملك السعيد، أتيت لك بهدية غريبة الأوصاف، عديمة النظير في هذا الزمان، قد جمعَتْ بين الحُسْن والإحسان. فقال له الملك: قصدي أن أراها عيانًا. فخرج التاجر وأتى بها حتى أوقفها قدامه، فلما رآها الملك شركان حنَّ الدمُ إلى الدم، وكانت قد فارقَتْه وهي صغيرة، ولم ينظرها؛ لأنه بعد مضيِّ مدةٍ من ولادتها، سمع أن له أختًا تُسمَّى نزهة الزمان، وأخًا يُسمَّى ضوء المكان، فاغتاظ من أبيه غيظًا شديدًا غيرةً على المملكة كما تقدَّم. ولما قدَّمَها إليه التاجر، قال له: يا ملك الزمان، إنها مع كونها بديعة الحسن والجمال، بحيث لا نظير لها في عصرها، تعرف جميع العلوم الدينية والدنيوية والسياسية والرياضية. فقال له الملك: خذ ثمنها مثلما اشتريتها، ودعها وتوجَّه إلى حال سبيلك. فقال له التاجر: سمعًا وطاعة، ولكن اكتب لي مرقومًا أني لا أدفع عُشْرًا أبدًا على تجارتي. فقال الملك: إني أفعل لك ذلك، ولكن أخبرني كم وزنتَ ثمنها؟ فقال: وزنتُ ثمنها مائة ألف دينار، وكسوتها بمائة ألف دينار. فلما سمع ذلك الملك قال: أنا أعطيك في ثمنها أكثر من ذلك. ثم دعا بخازن داره، وقال له: أعطِ هذا التاجر ثلاثمائة ألف دينار وعشرين ألف دينار. ثم إن شركان أحضر القضاة الأربعة، وقال لهم: أُشْهِدكم أني أعتقت جاريتي هذه، وأريد أن أتزوَّجَها. فكتب القضاةُ حجةً بإعتاقها، ثم كتبوا كتابَه عليها، ونثر الملك على رءوس الحاضرين ذهبًا كثيرًا، وصار الغلمان والخدم يلتقطون ما نثره عليهم الملك من الذهب؛ ثم إن الملك أمر بكتابة منشور إلى التاجر على طِبق مراده من أنه لا يدفع على تجارته عُشْرًا، ولا يتعرَّض له أحدٌ بسوء في سائر مملكته، وبعد ذلك أمر له بخلعة سنية. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 60﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك أمر بكتابة منشور للتاجر على طِبق مراده من أنه لا يدفع على تجارته عُشْرًا أبدًا، ولا يتعرَّض له أحد بسوء في تجارته. وبعد ذلك أمر له بخلعة سنية، ثم صرف جميع مَن عنده، ولم يَبْقَ عنده غير القضاة والتاجر، وقال للقضاة: أريد أن تسمعوا من ألفاظ هذه الجارية ما يدل على علمها وأدبها من كل ما ادَّعَاه التاجر لنحقِّق صدْقَ كلامه. فقالوا: لا بأس بذلك. فأمر بإرخاء ستارة بينه هو ومَن معه، وبين الجارية ومَن معها، وصار جميع النساء اللاتي مع الجارية خلف الستارة يقبِّلن يديها ورجليها لمَّا علموا أنها صارت زوجة الملك. ثم دُرْنَ حولها، وقمن بخدمتها، وخفَّفن ما عليها من الثياب، وصرن ينظرن حُسْنَها وجمالها. وسمعت نساء الأمراء والوزراء أن الملك شركان اشترى جاريةً لا مثيلَ لها في الجمال والعلم والأدب، وأنها حوَتْ جميعَ العلوم، وقد وزن ثمنها ثلاثمائة ألف دينار وعشرين ألف دينار وأعتقها، وكتب كتابَه عليها، وأحضر القضاة الأربعة لأجل امتحانها حتى ينظر كيف تجاوبهم عن أسئلتهم. فطلب النساءُ الإذنَ من أزواجهن، ومضين إلى القصر الذي فيه نزهة الزمان، فلما دخلن عليها وجدن الخدم وقوفًا بين يديها، وحين رأت نساء الأمراء والوزراء داخلات عليها قامت إليهن وقابلتهن، وقامت الجواري خلفها، وتلقت النساء بالترحيب، وصارت تتبسم في وجوههن، فأخذت قلوبهن وأنزلتهن في مراتبهن كأنها تربَّتْ معهن، فتعجَّبن من حُسْنها وجمالها، وعقلها وأدبها، وقلن لبعضهن: ما هذه جارية، بل هي ملكة بنت ملك. وصرن يعظمن قدرها، وقلن لها: يا سيدتنا، أضاءت بك بلدتنا، وشرَّفتِ بلادنا ومملكتنا، فالمملكة مملكتك، والقصر قصرك، وكلنا جواريك، فبالله لا تخلينا من إحسانك والنظر إلى حُسْنك. فشكرتهن على ذلك.

هذا كله والستارة مرخاة بين نزهة الزمان ومَن عندها من النساء، وبين الملك شركان هو والقضاة الأربعة والتاجر، ثم بعد ذلك ناداها الملك شركان، وقال لها: أيتها الجارية العزيزة في زمانها، إن هذا التاجر قد وصفك بالعلم والأدب، وادَّعَى أنك تعرفين في جميع العلوم حتى علم النجوم، فأسمعينا من كل باب طرفًا يسيرًا. فلما سمعت كلامه قالت: سمعًا وطاعة أيها الملك. الباب الأول في السياسات والآداب الملكية، وما ينبغي لولاة الأمور الشرعية، وما يلزمهم من قِبَل الأخلاق المرضية؛ اعلم أيها الملك أن مقاصد الخَلْق منتهية إلى الدين والدنيا؛ لأنه لا يتوصل أحد إلى الدين إلا بالدنيا؛ فإن الدنيا نِعْمَ الطريق إلى الآخرة، وليس ينتظم أمر الدنيا إلا بأعمال أهلها، وأعمال الناس تنقسم إلى أربعة أقسام: الإمارة، والتجارة، والزراعة، والصناعة. فالإمارة ينبغي لها السياسة التامة، والفراسة الصادقة؛ لأن الإمارة مدار عمارة الدنيا التي هي طريق إلى الآخرة؛ لأن الله تعالى جعل الدنيا للعباد كزاد المسافر إلى تحصيل المراد، فينبغي لكل إنسان أن يتناول منها بقدر ما يوصله إلى الله، ولا يتبع في ذلك نفسه وهواه، ولو تناولها الناس بالعدل لانقطعت الخصومات، ولكنهم يتناولونها بالجور، ومتابعة الهوى؛ فتسبَّبت عن انهماكهم عليها الخصوماتُ، فاحتاجوا إلى سلطان لأجل أن ينصف بينهم، ويضبط أمورهم، ولولا ردع الملك الناس عن بعضهم لغلب قويهم على ضعيفهم، وقد قال أزدشير: إن الدين والملك توءمان؛ فالدين كنز، والملك حارس، وقد دلَّتِ الشرائع والعقول على أنه يجب على الناس أن يتخذوا سلطانًا يدفع الظالم عن المظلوم، وينصف الضعيف من القوى، ويكفُّ بأس العاتي والباغي.

واعلم أيها الملك أنه على قدر حسن أخلاق السلطان يكون الزمان، فإنه قد قال رسول الله ﷺ: شيئان في الناس إنْ صلحَا صلحَ الناسُ، وإنْ فسدَا فسَدَ الناسُ: العلماء والأمراء. وقد قال بعض الحكماء: الملوك ثلاثة؛ ملك دين، وملك محافظة على الحرمات، وملك هوى، فأما ملك الدين فإنه يلزم رعيته باتباع دينهم، وينبغي أن يكون أدينهم؛ لأنه هو الذي يُقتدَى به في أمور الدين، ويلزم الناس طاعته فيما أمر به موافقًا للأحكام الشرعية، ولكنه ينزل الساخط منزلة الراضي بسبب التسليم إلى الأقدار. وأما ملك المحافظة على الحرمات، فإنه يقوم بأمور الدين والدنيا، ويُلزِم الناسَ باتِّبَاع الشرع والمحافظة على المروءة، ويكون جامعًا بين القلم والسيف، فمَن زاغ عمَّا سطَّرَ القلمُ زلَّتْ به القَدَم، فيقوِّم اعوجاجه بحدِّ الحسام، وينشر العدل في جميع الأنام. وأما ملك الهوى فلا دين له إلا اتباع هواه، ولم يخشَ سطوة مولاه الذي ولَّاه، فمآلُ ملْكِه إلى الدمار، ونهاية عتوه إلى دار البوار. وقالت الحكماء: الملك يحتاج إلى كثير من الناس، وهم محتاجون إلى واحد، ولأجل ذلك وجب أن يكون عارفًا بأخلاقهم ليردَّ اختلافهم إلى وفاقهم، ويعمهم بعدله، ويغمرهم بفضله.

واعلم أيها الملك أن أزدشير وهو الثالث من ملوك الفرس، قد ملك الأقاليم جميعها، وقسَّمَها على أربعة أقسام، وجعل له من أجل ذلك أربع خواتم، لكل قسم خاتم؛ الأول: خاتم البحر والشرطة والمحاماة، وكتب عليه النيابات. الثاني: خاتم الخراج وجباية الأموال، وكتب عليه العمارة. الثالث: خاتم القوت، وكتب عليه الرخاء. الرابع: خاتم المظالم، وكتب عليه العدل. واستمرت هذه الرسوم في الفرس إلى أن ظهر الإسلام. وكتب كسرى لابنه وهو في جيشه: لا توسعنَّ على جيشك، فيستغنوا عنك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 61﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن كسرى كتب لابنه وهو في جيشه: لا توسعنَّ على جيشك فيستغنوا عنك، ولا تضيِّق عليهم فيضجروا منك، وأعطِهم عطاءً مقتصدًا، وامنحهم مَنحًا جميلًا، ووسِّع عليهم في الرخاء، ولا تضيِّق عليهم في الشدة. ورُوِي أن أعرابيًّا جاء إلى المنصور وقال له: جوِّعْ كلْبَك يتبعك. فغضب المنصور من الأعرابي لما سمع منه هذا الكلام، فقال أبو العباس الطوسي: أخشى أن يلوِّح له غيرك برغيف فيتبعه ويتركك. فسكن غيظ المنصور، وعلم أنها كلمة لا تخطئ، وأمر للأعرابي بعطية.

واعلم أيها الملك أنه كتب عبد الملك بن مروان لأخيه عبد العزيز بن مروان حين وجهه إلى مصر: تفقَّدْ كتابَك وحجابَك، فإن الثابت يخبرك عنه كتابك، والتوسيم تعرفك به حجابك، والخارج من عندك يعرفك بجيشك. وكان عمر بن الخطاب إذا استخدم خادمًا شرط عليه أربعة شروط: ألا يركب البراذين، وألا يلبس الثياب النفيسة، وألا يأكل من الفيء، وألا يؤخر الصلاة عن وقتها. وقيل: لا مال أجود من العقل، ولا عقل كالتدبير والحزم، ولا حزم كالتقوى، ولا قربة كحُسْن الخلق، ولا ميزان كالأدب، ولا فائدة كالتوفيق، ولا تجارة كالعمل الصالح، ولا ربح كثواب الله، ولا ورع كالوقوف عند حدود السنة، ولا علم كالتفكُّر، ولا عبادة كالفرائض، ولا إيمان كالحياء، ولا حسب كالتواضع، ولا شرف كالعلم؛ فاحفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، واذكر الموت والبلاء. وقال علي: اتقوا أشرارَ النساء، وكونوا منهن على حذر، ولا تشاوروهن في أمر، ولا تضيِّقوا عليهن في معروف؛ حتى لا يطمعن في المكر. وقال: مَن ترك الاقتصاد حار عقله. وقال عمر - رضي الله عنه: النساء ثلاثة؛ امرأة مسلمة تقية ودود ولود، تُعِين بعْلَها على الدهر، ولا تعين الدهْرَ على بعْلِها، وأخرى تُراد للولد لا تزيد على ذلك، وأخرى يجعلها الله غلًّا في عنق مَن يشاء. والرجال أيضًا ثلاثة: رجل عاقل إذا أقبل على رأيه، وآخَر أعقل منه؛ وهو مَن إذا نزل به أمر لا يعرف عاقبته، فيأتي ذوي الرأي فينزل عند آرائهم، وآخَر حائر لا يعلم رشدًا، ولا يطيع مرشدًا. والعدل لا بد منه في كل الأشياء، حتى إن الجواري يحتجن إلى العدل؛ وضربوا لذلك مثلًا في قطَّاع الطريق المقيمين على ظلم الناس، فإنهم لو لم يتناصفوا فيما بينهم، ويستعملوا الواجب فيما يقسمونه لاختلَّ نظامهم. وبالجملة: فسَيِّدُ مكارمِ الأخلاقِ الكرمُ وحُسْنُ الخلق. وما أحسن قول الشاعر:

بِبَذْلٍ وَحِلْمٍ سَادَ فِي قَوْمِهِ الْفَتَى        وَكَوْنُكَ إِيَّاهَ عَلَيْكَ يَسِيرُ

وقال الآخَر:

فَفِي الْحِلْمِ تَقْدِيسٌ وَفِي الْعَفْوِ هَيْبَةٌ        وَفِي الصِّدْقِ مَنْجَاةٌ لِمَنْ كَانَ صَادِقَا

وَمَنْ يَلْتَمِسْ حُسْنَ الثَّنَاءِ بِمَالِهِ        يَكُنْ بِالنَّدَى فِي حَلْبَةِ الْمَجْدِ سَابِقَا

ثم إن نزهة الزمان تكلَّمت في سياسة الملوك حتى قال الحاضرون: ما رأينا أحدًا تكلَّم في باب السياسة مثل هذه الجارية، فلعلها تُسمِعنا شيئًا من غير هذا الباب. فسمعت نزهة الزمان ما قالوه وفهمته، فقالت: وأما باب الأدب، فإنه واسع المجال؛ لأنه مجمع الكمال؛ فقد اتفق أن بني تميم وفدوا على معاوية ومعهم الأحنف بن قيس، فدخل حاجب معاوية عليه ليستأذنه لهم في الدخول، فقال: يا أمير المؤمنين، إن أهل العراق يريدون الدخول عليك ليتحدثوا معك، فاسمع حديثهم. فقال معاوية: انظروا مَنْ بالباب. فقالوا: بنو تميم. قال: ليدخلوا. فدخلوا ومعهم الأحنف بن قيس، فقال له معاوية: اقرب مني يا أبا بحر بحيث أسمع كلامك. ثم قال: يا أبا بحر، كيف رأيك لي؟ قال: يا أمير المؤمنين، افرق الشعر، وقص الشارب، وقلِّم الأظافر، وانتفِ الإبط، واحلق العانة، وأدم السواك؛ فإن فيه اثنتين وسبعين فضيلة، وغُسْلُ الجمعة كفَّارةٌ لما بين الجمعتين. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 62﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الأحنف بن قيس قال لمعاوية لما سأله: وأدم السواك فإن فيه اثنتين وسبعين فضيلة، وغُسْلُ الجمعة كفارة لما بين الجمعتين. قال له معاوية: كيف رأيك لنفسك؟ قال: أوطئ قدمي على الأرض، وأنقلهم على تمهُّل، وأراعيها بعيني. قال: كيف رأيك إذا دخلتَ على نفرٍ من قومك دون الأمراء؟ قال: أُطرِق حياءً، وأبدأ بالسلام، وأَدَع ما لا يعنيني، وأقلُّ الكلام. قال: كيف رأيك إذا دخلتَ على نظرائك؟ قال: أستمع لهم إذا قالوا، ولا أجول عليهم إذا جالوا. قال: كيف رأيك إذا دخلتَ على أمرائك؟ قال: أسلِّم مِن غير إشارة، وأنتظر الإجابة، فإنْ قرَّبوني قربت، وإن أبعدوني بعدت. قال: كيف رأيك مع زوجتك؟ قال: أعفني من هذا يا أمير المؤمنين. قال: أقسمتُ عليك أن تخبرني. قال: أُحسن الخلق، وأُظهر العشرة، وأُوسع النفقة، فإن المرأة خُلِقت من ضلع أعوج. قال: فما رأيك إذا أردتَ أن تجامعها؟ قال: أُكلمها حتى تطيب نفسها، وألثمها حتى تطرب، فإن كان الذي تعلم طرحتها على ظهرها، وإن استقرت النطفة في قرارها، قلتُ: اللهم اجعلها مباركةً، ولا تجعلها شقية، وصوِّرها أحسنَ تصوير. ثم أقوم عنها إلى الوضوء، فأفيض الماء على يدي، ثم أصبه على جسدي، ثم أحمد الله على ما أعطاني من النِّعَم. فقال معاوية: أحسنتَ في الجواب، فقُلْ حاجتَكَ. فقال: حاجتي أن تتقي الله في الرعية، وتعدل بينهم بالسوية. ثم نهض قائمًا من مجلس معاوية، فلما ولَّى قال معاوية: لو لم يكن بالعراق إلا هذا لَكفى.

ثم إن نزهة الزمان قالت: وهذه النبذة من جملة باب الأدب، واعلم أيها الملك أنه كان معيقب عاملًا على بيت المال في خلافة عمر بن الخطاب. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 63﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن نزهة الزمان قالت: واعلم أيها الملك أنه كان معيقب عاملًا على بيت المال في خلافة عمر بن الخطاب، فاتفق أنه رأى ابن عمر يومًا، فأعطاه درهمًا من بيت المال، قال معيقب: وبعد أن أعطيته الدرهم انصرفت إلى بيتي، فبينما أنا جالس وإذا برسول عمر جاءني، فرهبت منه وتوجَّهْتُ إليه، فإذا الدرهم في يده، وقال لي: ويحك يا معيقب، إني قد وجدتُ في نفسك شيئًا. قلت: وما ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: إنك تخاصم أمة محمد ﷺ في هذا الدرهم يوم القيامة. وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري كتابًا مضمونه: إذا جاءكَ كتابي هذا فأعطِ الناس الذي لهم، واحمل إليَّ ما بقي. ففعل، فلما ولي عثمان الخلافة كتب إلى أبي موسى مثل ذلك، ففعل وجاء زياد معه، فلما وضع الخراج بين يدي عثمان، جاء ولده فأخذ منه درهمًا، فبكى زياد، فقال عثمان: ما يبكيك؟ قال: أتيت عمر بن الخطاب بمثل ذلك فأخذ ابنه درهمًا، فأمر بنزعه من يده، وابنك أخذ فلم أرَ أحدًا ينزعه منه، أو يقول له شيئًا. فقال عثمان: وأين تلقى مثل عمر؟!

وروى زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال: خرجت مع عمر ذات ليلة حتى أشرفنا على نار تضرم، فقال: يا أسلم، إني أحسب هؤلاء ركبًا أضرَّ بهم البرد، فانطلِق بنا إليهم. فخرجنا حتى أتينا إليهم، فإذا امرأة توقد نارًا تحت قدر، ومعها صبيان يتضرعون، فقال عمر: السلام عليكم أصحاب الضوء - وكره أن يقول أصحاب النار - ما بالكم؟ قالت: أضرَّ بنا البرد والليل. قال: فما بال هؤلاء القوم يتضرعون؟ قالت: من الجوع. قال: فما هذه القِدر؟ قالت: ما أُسكِتهم به، وإن عمر بن الخطاب ليسأله اللهُ عنهم يومَ القيامة. قال: وما يُدري عمر بحالهم؟ قالت: كيف يتولى أمورَ الناس ويغفل عنهم؟! قال أسلم: فأقبل عمر عليَّ وقال: انطلق بنا. فخرجنا نهرول حتى أتينا دار الصرف، فأخرج عدلًا فيه دقيق، وإناءً فيه شحم، ثم قال: حَمِّلني هذا. فقلت: أنا أحمله عنك يا أمير المؤمنين. فقال: أتحمل عني وزري يوم القيامة؟ فحمَّلته إياه، وخرجنا نهرول حتى ألقينا ذلك العدل عندها، ثم أخرج من الدقيق شيئًا، وجعل يقول للمرأة: تردَّدي إليَّ، وكان ينفخ تحت القدر، وكان ذا لحية عظيمة، فرأيت الدخان يخرج من خلال لحيته حتى طبخ، وأخذ مقدارًا من الشحم فرماه فيه، ثم قال: أطعميهم، وأنا أبرِّد لهم. ولم يزالوا كذلك حتى أكلوا وشبعوا، وترك الباقي عندها، ثم أقبل عليَّ وقال: يا أسلم، إني رأيت الجوعَ أبكاهم، فأحببتُ ألَّا أنصرف حتى يتبيَّن لي سبب الضوء الذي رأيته. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 64﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن نزهة الزمان قالت: قيل إن عمر مرَّ براعٍ مملوك، فاستباعه شاة فقال له: إنها ليست لي. فقال: أنت القصد. فاشتراه ثم أعتقه وقال: اللهم كما رزقتني العتق الأصغر فارزقني العتق الأكبر. وقيل: إن عمر بن الخطاب كان يطعم الحليب للخدم، ويأكل الغليظ، ويكسوهم اللين، ويلبس الخشن، ويعطي الناس حقوقهم، ويزيد في عطائهم، وأعطى رجلًا أربعة آلاف درهم، وزاده ألفًا، فقيل له: أَمَا تزيد ابنك كما زدتَ هذا؟ قال: هذا ثبت والده يوم أُحد. وقال الحسن: أتى عمر بمال كثير فأتته حفصة، وقالت له: يا أمير المؤمنين، حق قرابتك. فقال: يا حفصة، إنما أوصى الله بحق قرابتي من مالي، وأما مال المسلمين فلا. يا حفصة، قد أرضيتِ قومَك، وأغضبتِ أباكِ. فقامت تجرُّ ذيلها. وقال ابن عمر: تضرَّعتُ إلى ربي سَنةً من السنين أن يريني أبي حتى رأيتُه يمسح العَرَق عن جنبيه. فقلتُ له: ما حالك يا والدي؟ فقال: لولا رحمة ربي لَهلك أبوك.

ثم قالت نزهة الزمان: اسمع أيها الملك السعيدُ الفصلَ الثاني من الباب الثاني، وهو باب الأدب والفضائل، وما ذُكِر فيه من أخبار التابعين والصالحين. قال الحسن البصري: لا تخرج نفس ابن آدم من الدنيا إلا وهو يتأسَّف على ثلاثة أشياء: عدم تمتُّعه بما جمع، وعدم إدراكه لما أمل، وعدم استعداده بكثرة الزاد لما هو قادم عليه. وقيل لسفيان: هل يكون الرجل زاهدًا وله مال؟ قال: نعم، إذا كان متى ابتُلِي صبر، ومتى أُعطِي شكر. وقيل: لمَّا حضرت عبد الله بن شداد الوفاةُ، أحضر ولده محمدًا فأوصاه، وقال له: يا بني، إني لَأرى داعي الموت قد دعاني، فاتقِّ ربَّك في السر والعلانية، واشكر الله على ما أنعم، واصدقْ في الحديث؛ فالشكر يؤذِن بازدياد النِّعَم، والتقوى خيرُ زادٍ في المعاد، كما قال بعضهم:

وَلَسْتُ أَرَى السَّعَادَةَ جَمْعَ مَالٍ        وَلَكِنَّ التَّقِيَّ هُوَ السَّعِيدُ

وَتَقْوَى اللهِ خَيْرُ الزَّادِ حَقًّا        وَعِنْدَ اللهِ تَلْقَى مَا تُرِيدُ

ثم قالت نزهة الزمان: ليسمع الملك هذه النكت من الفصل الثاني من الباب الأول. قيل لها: وما هي؟ قالت: لما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة، جاء لأهل بيته، فأخذ ما بأيديهم ووضعه في بيت المال، ففزعت بنو أمية إلى عمته فاطمة بنت مروان، فأرسلت إليه قائلةً: إنه لا بد من لقائك. ثم أتَتْه ليلًا، فأنزلها عن دابتها، فلما أخذت مجلسها قال لها: يا عمة، أنتِ أولى بالكلام؛ لأن الحاجة لك فأخبريني عن مرادك. فقالت: يا أمير المؤمنين، أنت أولى بالكلام، ورأيك يستشف ما يخفى عن الأفهام. فقال عمر بن عبد العزيز: إن الله تعالى بعث محمدًا رحمة للعالمين، وعذابًا لقومٍ آخَرين، ثم اختار له ما عنده فقبضه إليه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 65﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن نزهة الزمان قالت: فقال عمر بن عبد العزيز: إن الله قد بعث محمدًا رحمة للعالمين، وعذابًا لقوم آخرين، ثم اختار له ما عنده فقبضه إليه، وترك للناس نهرًا يروي عُطَاشهم، ثم قام أبو بكر خليفةً بعده، فأجرى النهر مجراه، وعمل ما يُرضِي الله، ثم قام عمر بعد أبي بكر فعمل خير أعمال الأبرار، واجتهد اجتهادًا ما يقدر أحدٌ على مثله، فلما قام عثمان اشتقَّ من النهر نهرًا، ثم ولي معاوية فاشتق منه الأنهار، ثم لم يزل كذلك يشتق منه يزيد وبنو مروان كعبد الملك والوليد وسليمان، حتى آل الأمر إليَّ، فأحببت أن أردَّ النهر إلى ما كان عليه. فقالت: قد أردتُ كلامك ومذاكرتك فقط، فإن كانت هذه مقالتك فلستُ بذاكرةٍ لك شيئًا. ورجعت إلى بني أمية فقالت لهم: ذوقوا عاقبةَ أمركم بتزويجكم إلى عمر بن الخطاب.

وقيل: لما حضرت عمر بن عبد العزيز الوفاةُ جمَعَ أولاده حوله، فقال له مسلمة بن عبد الملك: يا أمير المؤمنين، كيف تترك أولادك فقراء وأنت راعيهم؟ فما يمنعك أحد في حياتك من أن تعطيهم من بيت المال ما يغنيهم، وهذا أولى من أن ترجعه إلى الوالي بعدك. فنظر إلى مسلمة نظر مغضب متعجِّب، ثم قال: يا مسلمة، منعتهم أيام حياتي، فكيف أشقى بهم بعد مماتي؟ إن أولادي ما بين رَجُلَيْن، إما مطيع لله تعالى، فالله يصلح شأنه، وإما عاصٍ فما كنتُ لأعينه على معصية. يا مسلمة، إني حضرتُ وإياك حين دفن بعض بني مروان، فحملتني عيني فرأيته في المنام أفضى إلى أمر من أمور الله عز وجل، فهالني وراعني، فعاهدت الله ألَّا أعمل عمله إن وليت، وقد اجتهدت في ذلك مدة حياتي، وأرجو أن أفضي إلى عفْوِ ربي. قال مسلمة: بقي رجل حضرت دفنه، فلما فرغت من دفنه حملتني عيني، فرأيته فيما يرى النائم في روضة فيها أنهار جارية، وعليه ثياب بيض، فأقبل عليَّ وقال: يا مسلمة، لمثل هذا فَلْيعمل العاملون. ونحو هذا كثير.

وقال بعض الثقات: كنت أحلب الغنم في خلافة عمر بن عبد العزيز، فمررت براعٍ، فرأيت مع غنمه ذئبًا أو ذئابًا، فظننتُ أنها كلابها، ولم أكن رأيت الذئاب قبل ذلك، فقلت: ما تصنع بهذه الكلاب؟ فقال: إنها ليست كلابًا، بل هي ذئاب. فقلت: هل ذئاب في غنم لم تضرها؟ فقال: إذا صلح الرأس صلح الجسد. وخطب عمر بن عبد العزيز على منبر من طين، فحمد الله وأثنى عليه، ثم تكلَّم بثلاث كلمات، فقال: أيها الناس، أصلحوا أسراركم لتصلح علانيتكم لإخوانكم، وتُكْفَوا أمْرَ دنياكم، واعلموا أن الرجل ليس بينه وبين آدم رجل حي في الموتى، مات عبد الملك ومَن قبله، ويموت عمر ومَن بعده. فقال له مسلمة: يا أمير المؤمنين، لو عملنا لك متَّكأً لتعتمد عليه قليلًا. فقال: أخاف أن يكون في عنقي منه إثم يوم القيامة. ثم شهق شهقة فخرَّ مغشيًّا عليه، فقالت فاطمة: يا مريم، يا مزاحم، يا فلان، انظروا هذا الرجل. فجاءت فاطمة تصبُّ عليه الماء وتبكي حتى أفاق من غشيته، فرآها تبكي فقال: ما يبكيك يا فاطمة؟ قالت: يا أمير المؤمنين، رأيتُ مصرعَك بين أيدينا، فتذكرتُ مصرعَك بين يدي الله عز وجل، للموت وتخلِّيك عن الدنيا وفراقك لنا، فذاك الذي أبكانا. فقال: حسبك يا فاطمة، فلقد أبلغت. ثم أراد القيامَ فنهض فسقط، فضَمَّتْه فاطمة إليها وقالت: بأبي أنت وأمي يا أمير المؤمنين، ما نستطيع أن نكلمك كلنا.

ثم إن نزهة الزمان قالت لأخيها شركان وللقضاة الأربعة: تتمة الفصل الثاني من الباب الأول … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 66﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن نزهة الزمان قالت لأخيها شركان - وهي لم تعرفه - بحضور القضاة الأربعة والتاجر: تتمة الفصل الثاني من الباب الأول: اتفق أنه كتب عمر بن عبد العزيز إلى أهل الموسم: أما بعد؛ فإني أُشهِد الله في الشهر الحرام والبلد الحرام ويوم الحج الأكبر، أني أمرق من ظلمكم، وعدوان مَن اعتدى عليكم أن أكون أمرتُ بذلك وتعمَّدتُه، أو يكون أمرٌ من أموره بلغني أو أحاط به علمي، وأرجو أن يكون لذلك موضع من الغفران، إلا أنه لا إذن مني بظلم أحد، فإني مسئول عن كل مظلوم، إلَّا وأي عامل من عمالي زاغ عن الحق، وعمل بلا كتاب ولا سُنَّة، فلا طاعةَ له عليكم حتى يرجع إلى الحق. وقال رضي الله تعالى عنه: ما أحِبُّ أن يُخفَّف عني الموت؛ لأنه آخِر ما يُؤجَر عليه المؤمن.

وقال بعض الثقات: قدمت على أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز وهو خليفة، فرأيت بين يديه اثني عشر درهمًا، فأمر بوضعها في بيت المال، قلت: يا أمير المؤمنين، إنك أفقرت أولادك، وجعلتهم عيالًا لا شيء لهم، فلو أوصيت إليهم بشيء وإلى مَن هو فقير من أهل بيتك؟ فقال: ادنُ مني. فدنوت منه، فقال: أمَّا قولك أفقرْتَ أولادك، فأوصِ إليهم أو إلى مَن هو فقير من أهل بيتك، فغير سديد؛ لأن الله خليفتي على أولادي، وعلى مَن هو فقير من أهل بيتي، وهو وكيل عليهم، وهم ما بين رَجُلَيْن: إما رجل يتقي الله فسيجعل الله له مخرجًا، وإما رجل معتكف على المعاصي فإني لم أكن لأقوِّيه على معصية الله. ثم بعث إليهم، وأحضرهم بين يديه، وكانوا اثني عشر ذكرًا، فلما نظر إليهم ذرفَتْ عيناه بالدموع، ثم قال: إن أباكم ما بين أمرَيْن: إما أن تستغنوا فيدخل أبوكم النار، وإما أن تفتقروا فيدخل أبوكم الجنة، ودخولُ أبيكم الجنةَ أحَبُّ إليه من أن تستغنوا، قوموا قد وكَّلتُ أمرَكم إلى الله.

وقال خالد بن صفوان: صحبني يوسف بن عمر إلى هشام بن عبد الملك، فلما قدمت عليه، وقد خرج بقرابته وخدمه، فنزل في أرض وضرب له خيامًا، فلما أخذت الناس مجالسهم، خرجتُ من ناحية البساط فنظرت إليه، فلما صارت عيني في عينه قلتُ له: تمَّمَ اللهُ نعمتَه عليك يا أمير المؤمنين، وجعل ما قلَّدك من هذه الأمور رشدًا، ولا خالط سرورك أذًى يا أمير المؤمنين، إني لم أجد لك نصيحة أبلغ من حديث مَن سلف قبلك من الملوك. فاستوى جالسًا، وكان مُتَّكِئًا، وقال: هات ما عندك يا ابن صفوان. فقلتُ: يا أمير المؤمنين، إن ملكًا من الملوك خرج قبلك في عام قبل عامك هذا إلى هذه الأرض، فقال لجلسائه: هل رأيتم مثل ما أنا فيه؟ وهل أُعطِي أحدٌ مثلَ ما أعطيته؟ وكان عنده رجل من بقايا حملة الحجة، والمعينين على الحق السالكين في منهاجه، فقال: أيها الملك، إنك سألتَ عن أمر عظيم، أتأذن لي في الجواب عنه؟ قال: نعم. قال: أرأيت الذي أنت فيه شيئًا لم يزل أم شيئًا زائلًا؟ فقال: هو شيء زائل. قال: فما لي أراك قد أُعجبت بشيء تكون فيه قليلًا، وتسأل عنه طويلًا، وتكون عند حسابه مرتهنًا؟ قال: فأين المهرب؟ وأين المطلب؟ قال: أن تقيم في ملكك، فتعمل بطاعة الله تعالى، أو تلبس أطمارك، وتعبد ربك حتى يأتيك أجلك، فإذا كان السَّحَر فإني قادم عليك. قال خالد بن صفوان: ثم إن الرجل قرع عليه بابه عند السَّحَر، فرآه قد وضع تاجه وتهيَّأ للسياحة من عظم موعظته؛ فبكى هشام بن عبد الملك بكاءً كثيرًا حتى بلَّ لحيته، وأمر بنزع ما عليه، ولزم قصره، فأتت الموالي والخدم إلى خالد بن صفوان، وقالوا: أهكذا فعلتَ بأمير المؤمنين، أفسدتَ لذَّتَه، ونغَّصْتَ حياته؟!

ثم إن نزهة الزمان قالت لشركان: وكَمْ في هذا الباب من النصائح! إني لَأعجز عن الإتيان بجميع ما في هذا الباب في مجلس واحد. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 67﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن نزهة الزمان قالت لشركان: وكم في هذا الباب من النصائح! وإني لَأعجز عن الإتيان لك بجميع ما في هذا الباب في مجلس واحد، ولكن على طول الأيام يا ملك الزمان يكون خيرًا. فقالت القضاة: أيها الملك، إن هذه الجارية أعجوبة الزمان، ويتيمة العصر والأوان، فإننا ما رأينا ولا سمعنا بمثلها في زمن من الأزمان. ثم إنهم دعوا للملك وانصرفوا، فعند ذلك التفت شركان إلى خدامه، وقال لهم: اشرعوا في عمل العرس، وهيِّئوا الطعام من جميع الألوان. فامتثَلوا أمره في الحال، وهيَّئوا جميعَ الأطعمة، وأمَرَ نساءَ الأمراء والوزراء وأرباب الدولة ألَّا ينصرفوا حتى يحضروا الجلاء والعرس، فما جاء وقت العصر حتى مدوا السفرة مما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وأكل جميع الناس حتى اكتفوا، وأمر الملك أن تحضر كل مغنية في دمشق فحضرن، وكذلك جواري الملك اللائي يعرفن الغناء، وطلع جميعهن إلى القصر، فلما أتى المساء وأظلم الظلام أوقدوا الشموع من باب القلعة إلى باب القصر يمينًا وشمالًا، ومشى الأمراء والوزراء والكبراء بين يدي الملك شركان، وأخذت المواشط الصبية لتزينها وتلبسها، فرأتها لا تحتاج إلى زينة. وكان الملك شركان قد دخل الحمام، فلما خرج جلس على المنصة، وجليت عليه العروس، ثم خففوا عنها ثيابها، وأوصوها بما تُوصَى به البنت ليلة الزفاف، ودخل عليها شركان، وأخذ وجهها، وعلقت منه في تلك الليلة، وأعلمته بذلك، ففرح فرحًا شديدًا، وأمر الحكماء أن يكتبوا تاريخ الحمل.

فلما أصبح جلس على الكرسي، وطلع له أرباب دولته وهنَّئوه، وأحضر كاتب سره وأمره أن يكتب كتابًا لوالده عمر النعمان بأنه اشترى جارية ذات علم وأدب قد حوت فنون الحكمة، وأنه لا بد من إرسالها إلى بغداد لتزور أخاه ضوء المكان وأخته نزهة الزمان، وأنه أعتقها، وكتب كتابه عليها، ودخل بها، وحملت منه. ثم ختم الكتاب وأرسله إلى أبيه صحبة بريد، فغاب ذلك البريد شهرًا كاملًا، ثم رجع إليه بالجواب، وناوله إياه فأخذه وقرأه، فإذا فيه بعد البسملة: هذا من عند الحائر الولهان، الذي فقد الولدان، وهجر الأوطان، الملك عمر النعمان، إلى ولده شركان. اعلم أنه بعد مسيرك من عندي ضاق عليَّ المكان، حتى لا أستطيع صبرًا، ولا أقدر أن أكتم سرًّا، وسبب ذلك أنني ذهبت إلى الصيد والقنص، وكان ضوء المكان قد طلب مني الذهاب إلى الحجاز، فخفت عليه من نوائب الزمان، ومنعته من السفر إلى العام الثاني أو الثالث، فلما ذهبت إلى الصيد والقنص غبت شهرًا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 68﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك عمر النعمان قال في مكتوبه: فلما ذهبتُ إلى الصيد والقنص غبتُ شهرًا، فلما أتيتُ وجدتُ أخاك وأختك أخذَا شيئًا من المال، وسافرَا مع الحجاج خفيةً، فلما علمت بذلك ضاق بي الفضاء، وقد انتظرت مجيء الحجاج لعلهما يجيئان معهم، فلما جاء الحجاج سألت عنهما، فلم يخبرني أحد بخبرهما، فلبست لأجلهما ثياب الحزن، وأنا مرهون الفؤاد، عديم الرقاد، غريق دمع العين. ثم أنشد هذين البيتين:

خَيَالُهُمَا عِنْدِي وَلَيْسَ بِغَائِبٍ        جَعَلْتُ لَهُ فِي الْقَلْبِ أَشْرَفَ مَوْضِعِ

وَلَوْلَا رَجَاءُ الْعُودِ مَا عِشْتُ سَاعَةً        وَلَوْلَا خَيَالُ الطَّيْفِ لَمْ أَتَهَجَّعِ

ثم كتب من جملة المكتوب: وبعد السلام عليك، وعلى مَن عندك، أعرفك أنك لا تتهاون في كشف الأخبار، فإن هذا علينا عار. فلما قرأ الكتاب حزن على أبيه، وفرح لفقد أخته وأخيه، وأخذ الكتاب ودخل به على زوجته نزهة الزمان، ولم يعلم أنها أخته، وهي لا تعلم أنه أخوها، مع أنه يتردد عليها ليلًا ونهارًا، إلى أن كملت أشهرها، وجلست على كرسي الطلق، فسهَّل الله عليها الولادة، فولدت بنتًا، فأرسلت تطلب شركان، فلما رأته قالت له: هذه بنتك فسمِّها ما تريد، فإن عادة الناس أن يسموا أولادَهم في سابع يومِ ولادتهم. ثم انحنى شركان على ابنته وقبَّلها، فوجد في عنقها خرزةً معلقةً من الثلاث خرزات التي جاءت بها الملكة إبريزة من بلاد الروم، فلما عايَنَ الخرزة معلَّقةً في عنق ابنته، غاب عقله واشتد به الغيظ، وحملق عينيه في الخرزة حتى عرفها حق المعرفة، ثم نظر إلى نزهة الزمان، وقال لها: من أين جاءتك هذه الخرزة يا جارية؟ فلما سمعت من شركان ذلك الكلام، قالت له: أنا سيدتك وسيدة كل مَن في قصرك، أَمَا تستحي وأنت تقول يا جارية، وأنا ملكة بنت ملك؟ والآن زال الكتمان، واشتهر الأمر وبان، أنا نزهة الزمان بنت الملك عمر النعمان. فلما سمع منها هذا الكلام لحقه الارتعاش، وأطرق برأسه إلى الأرض. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 69﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن شركان لما سمع هذا الكلام ارتجف قلبه، واصفرَّ لونه، ولحقه الارتعاش، وأطرق برأسه إلى الأرض، وعرف أنها أخته من أبيه، فغاب عن الدنيا، فلما أفاق صار يتعجَّب، ولكنه لم يعرِّفها بنفسه، وقال لها: يا سيدتي، هل أنتِ بنت الملك عمر النعمان؟ قالت: نعم. فقال لها: وما سبب فراقك لأبيك وبيعك؟ فحكت له جميع ما وقع لها من الأول إلى الآخر، وأخبرته أنها تركت أخاها مريضًا في بيت المقدس، وأخبرته باختطاف البدوي لها، وبيعه إياها للتاجر. فلما سمع شركان ذلك الكلام تحقَّقَ أنها أخته من أبيه، وقال في نفسه: كيف أتزوَّجُ بأختي؟ لكن أنا أزوِّجها لواحدٍ من حجَّابي، وإذا ظهر أمر أدَّعِي أنني طلقتها قبل الدخول، وزوَّجْتُها بالحاجب الكبير. ثم رفع رأسه وتأسَّف، وقال: يا نزهة الزمان، أنت أختي حقيقة، وأستغفر الله من هذا الذنب الذي وقعنا فيه، فإنني أنا شركان ابن الملك عمر النعمان. فنظرتُ إليه وتأمَّلَتْه فعرفته، فلما عرفته غابت عن صوابها وبكت، ولطمت وجهها وقالت: قد وقعنا في ذنب عظيم، ماذا يكون العمل؟ وما أقول لأبي وأمي إذا قالَا لي من أين جاءتك هذه البنت؟ فقال شركان: الرأي أن أزوِّجك بالحاجب، وأدعك تربي بنتي في بيته، بحيث لا يعلم أحد بأنك أختي، وهذا الذي قدَّره الله علينا لأمرٍ أراده، فما يسترنا إلا زواجك بهذا الحاجب قبل أن يدري أحد. ثم صار يأخذ بخاطرها، ويقبِّل رأسها، فقالت له: وما تسمِّي البنت؟ قال أسميها: قضى فكان. ثم زوَّجها للحاجب الكبير، ونقلها إلى بيته هي وبنتها، فربوها على أكتاف الجواري، وواظبوا عليها بالأشربة، وأنواع السفوف.

هذا كله وأخوها ضوء المكان مع الوقاد بدمشق، فاتفق أنه أقبل بريدٌ يومًا من الأيام من عند الملك عمر النعمان إلى الملك شركان، ومعه كتاب، فأخذه وقرأه، فرأى فيه بعد البسملة: اعلم أيها الملك العزيز أني حزين حزنًا شديدًا على فراق الأولاد، وعدمتُ الرقاد، ولازمني السهاد، وقد أرسلتُ هذا الكتابَ إليك، فحالَ حصولِه بين يديك تُرسِلُ إلينا الخراج، وترسل صحبته الجارية التي اشتريتها وتزوَّجتَ بها، فإني أحببتُ أن أراها وأسمع كلامها؛ لأنه جاءنا من بلاد الروم عجوز من الصالحات، وصحبتها خمس جوارٍ نُهد أبكار، وقد حازوا من العلم والأدب وفنون الحكمة ما يجب على الإنسان معرفته، ويعجز عن وصف هذه العجوز ومَن معها اللسانُ، فإنهن حُزْنَ أنواعَ العلم والفضيلة والحكمة، فلما رأيتهن أحببتهن، وقد اشتهيت أن يكنَّ في قصري وفي ملك يدي؛ لأنه لا يوجد لهن نظير عند سائر الملوك، فسألتُ المرأة العجوز عن ثمنهن، فقالت: لا أبيعهن إلا بخراج دمشق. وأنا والله أرى خراج دمشق قليلًا في ثمنهن، فإن الواحدة منهن تساوي أكثر من هذا المبلغ، فأجبتها إلى ذلك، ودخلت بهن قصري، وبقين في حوزتي، فعجِّلْ لنا بالخراج لأجل أن تسافر المرأة إلى بلادها، وأرسل لنا الجارية لأجل أن تناظرهن. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 70﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك عمر النعمان قال في مكتوبه: وأرسِل إلينا الجارية لأجل أن تناظرهن بين العلماء، فإذا غلبتهن أرسلتها إليك، وصحبتها خراج بغداد. فلما علم ذلك شركان أقبل على صهره، وقال له: هات الجارية التي زوَّجتُكَ إياها. فلما حضرت أوقفها على الكتاب، وقال لها: يا أختي، ما عندك من الرأي في رد الجواب؟ قالت له: الرأي رأيك. ثم قالت له وقد اشتاقت إلى أهلها ووطنها: أرسلني صحبة زوجي الحاجب لأجل أن أحكي لأبي حكايتي، وأخبره بما وقع لي مع البدوي الذي باعني للتاجر، وأخبره بأن التاجر باعني لك، وزوَّجتني للحاجب بعد عتقي. فقال لها شركان: وهو كذلك. ثم أخذ ابنته قضى فكان، وسلَّمَها للمراضع والخدم، وشرع في تجهيز الخراج، وأمر الحاجب أن يأخذ الخراج والجارية صحبته، ويتوجه إلى بغداد، فأجابه الحاجب بالسمع والطاعة، فأمر بمحفَّة يجلس فيها، وللجارية أيضًا، ثم كتب كتابًا وسلَّمه للحاجب، وودَّع نزهة الزمان، وكان قد أخذ منها الخرزة، وجعلها في عنق ابنته في سلسلةٍ من خالص الذهب.

ثم سافَرَ الحاجب في تلك الليلة، فاتفق أنه خرج ضوء المكان هو والوقاد في تلك الليلة يتفرَّجان، فرأيا جمالًا وبغالًا محمَّلة ومشاعل وفوانيس مضيئة، فسأل ضوء المكان عن هذه الأحمال وعن صاحبها، فقال: هذا خراج دمشق مسافر إلى الملك عمر النعمان صاحب مدينة بغداد. فقال: ومَن رئيس هذه المحامل؟ قيل: هو الحاجب الكبير الذي تزوَّجَ الجارية التي تعلَّمت العلم والحكمة. فعند ذلك بكى بكاءً شديدًا، وتذكَّر أمه وأباه وأخته ووطنه، وقال للوقَّاد: ما بقي لي قعود هنا، بل أسافر مع هذه القافلة، وأمشي قليلًا قليلًا حتى أصل إلى بلادي. فقال له الوقاد: أنا أمنت عليك من القدس إلى دمشق، فكيف آمن عليك إلى بغداد؟ فأنا أكون معك حتى تصل إلى مقصدك. فقال ضوء المكان: حبًّا وكرامة. فشرع الوقاد في تجهيز حاله، ثم شد الحمار وجعل خرجه عليه، ووضع فيه شيئًا من الزاد، وشدَّ وسطه، وما زال على أهبة حتى جازت عليه الأحمال، والحاجب راكب على هجين، والمشاة حوله، وركب ضوء المكان حمارَ الوقَّاد، وقال للوقاد: اركب معي. فقال: لا أركب، ولكن أكون في خدمتك. فقال ضوء المكان: لا بدَّ أن تركب ساعة. فقال له: إذا تعبت فأركب ساعة. ثم إن ضوء المكان قال للوقاد: يا أخي، سوف تنظر ما أفعل بك إذا وصلتُ إلى أهلي. وما زالوا مسافرين إلى أن طلعت الشمس، فلما اشتد عليهم الحر أمرهم الحاجب بالنزول، فنزلوا واستراحوا، وسقوا جمالهم، ثم أمرهم بالمسير، وبعد خمسة أيام وصلوا إلى مدينة حماة، ونزلوا وأقاموا بها ثلاثة أيام. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 71﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنهم أقاموا في مدينة حماة ثلاثة أيام، ثم سافروا، وما زالوا مسافرين حتى وصلوا مدينة أخرى، فأقاموا بها ثلاثة أيام، ثم سافروا حتى وصلوا إلى ديار بكر، وهبَّ عليهم نسيم بغداد، فتذكَّرَ ضوء المكان أختَه نزهة الزمان، وأباه وأمه ووطنه، وكيف يرجع إلى أبيه بغير أخته. فبكى وأَنَّ واشتكى، واشتدت به الحسرات، فأنشد هذه الأبيات:

خَلِيلَيَّ كَمْ هَذَا التَّأَنِّي وَأَصْبِرُ        وَلَمْ يَأْتِنِي مِنْكُمْ رَسُولٌ يُخَبِّرُ

أَلَا إِنَّ أَيَّامَ الْوِصَالِ قَصِيرَةٌ        فَيَا لَيْتَ أَيَّامَ التَّفَرُّقِ تَقْصُرُ

خُذُوا بِيَدِي ثُمَّ اكْشِفُوا الثَّوْبَ وَانْظُرُوا        ضَنَى جَسَدِي لَكِنَّنِي أَتَصَبَّرُ

فَإِنْ تَطْلُبُوا مِنِّي سُلُوًّا أَقُلْ لَكُمْ        فَوَاللهِ مَا أَسْلُو إِلَى حِينَ أُحْشَرُ

فقال له الوقاد: اترك هذا البكاء والأنين، فإننا قريب من خيمة الحاجب. فقال ضوء المكان: لا بد من إنشادي شيئًا من الشعر؛ لعل نار قلبي تنطفئ. فقال له الوقَّاد: بالله عليك أن تترك الحزن حتى تصل إلى بلادك، وافعل بعد ذلك ما شئت، وأنا معك حيث ما كنتَ. فقال ضوء المكان: والله لا أفتر عن ذلك. ثم التفت بوجهه إلى ناحية بغداد، وكان القمر مضيئًا، وكانت نزهة الزمان لم تَنَمْ تلك الليلة؛ لأنها تذكَّرت أخاها ضوء المكان، فقلقت وصارت تبكي، فبينما هي تبكي إذ سمعت أخاها ضوء المكان يبكي، وينشد هذه الأبيات:

لَمَعَ الْبَرْقُ الْيَمَانِي        فَشَجَانِي مَا شَجَانِي

مِنْ حَبِيبٍ كَانَ عِنْدِي        سَاقِيًا كَأْسَ التَّهَانِي

يَا وَمِيضَ الْبَرْقِ هَلْ        تَرْجِعُ أَيَّامُ التَّدَانِي

يَا عَذُولِي لَا تَلُمْنِي        إِنَّ رَبِّي قَدْ بَلَانِي

بِحَبِيبٍ غَابَ عَنِّي        وَزَمَانٍ قَدْ دَهَانِي

قَدْ نَأَتْ نُزْهَةُ قَلْبِي        عِنْدَمَا وَلَّى زَمَانِي

وَحَوَى لِي الْهَمَّ صِرْفًا        وَبِكَأْسٍ قَدْ سَقَانِي

وَأُرَانِي يَا خَلِيلَي        مِتُّ مِنْ قَبْلِ التَّدَانِي

يَا زَمَانًا لِلتَّصَابِي        عُدْ قَرِيبًا بِالتَّهَانِي

فِي سُرُورٍ مَعْ أَمَانٍ        مَنْ لِسَهْمٍ قَدْ رَمَانِي

مَنْ لِمِسْكِينٍ غَرِيبٍ        بَاتَ مَرْعُوبَ الْجَنَانِ

صَارَ فِي الْحُزْنِ فَرِيدًا        بَعْدَ نُزْهَاتِ الزَّمَانِ

حُكِّمَتْ فِينَا بِرَغْمٍ        كَفُّ أَوْلَادِ الزَّوَانِي

فلما فرغ من شعره صاح وخرَّ مغشيًّا عليه. هذا ما كان من أمره، وأما ما كان من أمر نزهة الزمان، فإنها كانت ساهرة في تلك الليلة؛ لأنها تذكرت أخاها في ذلك المكان، فلما سمعت ذلك الصوت بالليل ارتاح فؤادها، وقامت وتنحنحت، ودعت الخادم، فقال لها: ما حاجتك؟ فقالت له: قُمْ وائتني بالذي ينشد هذه الأشعار. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 72﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن نزهة الزمان لما سمعت من أخيها الشعر، دعَتِ الخادمَ الكبير وقالت له: اذهب وائتني بمَن ينشد هذه الأشعار. فقال لها: إني لم أسمعه، ولم أعرفه، والناس كلهم نائمون. فقالت له: كلُّ مَن رأيته مستيقظًا فهو الذي ينشد الأشعار. ففتَّشَ فلم يرَ مستيقظًا سوى الرجل الوقَّاد، وأما ضوء المكان فإنه كان في غشيته، فلما رأى الوقاد الخادم واقفًا على رأسه خاف منه، فقال له الخادم: هل أنت الذي كنت تنشد الشعر، وقد سمعَتْك سيدتنا؟ فاعتقد الوقَّاد أن السيدة اغتاظت من الإنشاد، فخاف وقال له: والله ما هو أنا. فقال له الخادم: ومَن الذي كان ينشد الشعر؟ فدُلَّني عليه فإنك تعرفه لأنك يقظان. فخاف الوقاد على ضوء المكان، وقال في نفسه: ربما يضره الخادم بشيء. فقال: لم أعرفه. فقال له الخادم: والله إنك تكذب، فإنه ما هنا قاعد إلا أنت، فأنت تعرفه. فقال الوقاد: أنا أقول لك الحق، إن الذي كان ينشد الأشعار رجلٌ عابرُ طريق، وهو الذي أزعجني وأقلقني، فالله يجازيه. فقال له الخادم: إذا كنت تعرفه فدُلَّني عليه، وأنا أمسكه وآخذه إلى باب المحفة التي فيها سيدتنا، أو أمسكه أنت بيدك. فقال له: اذهب أنت حتى آتيك به. فتركه الخادم وانصرف، ودخل وأعلم سيدته بذلك، وقال: ما أحد يعرفه؛ لأنه عابر سبيل. فسكتت، ثم إن ضوء المكان لما أفاق من غشيته رأى القمر وصل إلى وسط السماء، وهبَّ عليه نسيم الأسحار؛ فهيَّجَ في قلبه البلابلَ والأشجانَ، فحسن صوته وأراد أن ينشد، فقال له الوقاد: ماذا تريد أن تصنع؟ فقال له: أريد أن أنشد شيئًا من الشعر لأطفئ به نار قلبي. قال له: أنت ما علمت بما جرى لي، وما سلمت من القتل إلا بأخذ خاطر الخادم. فقال له ضوء المكان: وماذا جرى؟ فأخبرني بما وقع. فقال: يا سيدي، قد أتاني الخادم وأنت مغشي عليك، ومعه عصًا طويلة من اللوز، وجعل يتطلع في وجوه الناس وهم نائمون، ويسأل على مَن كان ينشد الأشعار، فلم يجد مَن هو مستيقظ غيري، فسألني فقلت له: إنه عابر سبيل، فانصرف، وسلمني الله منه، وإلا كان قتلني. فقال لي: إذا سمعته ثانيًا فائتِ به عندنا.

فلما سمع ضوء المكان ذلك بكى وقال: مَن يمنعني من الإنشاد؟! فأنا أنشد ويجري عليَّ ما يجري، فإني قربت من بلادي، وما أبالي بأحد. فقال له الوقَّاد: أنت ما مرادك إلا هلاك نفسك! فقال له ضوء المكان: لا بد من إنشادي. فقال له الوقاد: قد وقع الفراق بيني وبينك من هنا، وكان مرادي ألَّا أفارقك حتى تدخل مدينتك، وتجتمع بأبيك وأمك، وقد مضى لك عندي سنة ونصف ما حصل لك مني ما يضرك، فما سبب إنشادك الشعر ونحن في غاية التعب من المشي والسهر، والناس قد هجعوا ليستريحوا من التعب، ومحتاجون إلى النوم؟ فقال ضوء المكان: لا أرجع عمَّا أنا فيه. ثم هزته الأشجانُ فباح بالكتمان، وجعل ينشد هذه الأبيات:

قِفْ بِالدِّيَارِ وَحَيِّ الْأَرْبُعَ الدُّرُسَا        وَنَادِهَا فَعَسَاهَا أَنْ تُجِيبَ عَسَى

فَإِنْ أَجَنَّكَ لَيْلٌ مِنْ تَوَحُّشِهَا        أَوْقِدْ مِنَ الشَّوْقِ فِي ظَلْمَائِهَا قَبَسَا

إِنْ صَلَّ صِلُّ عِذَارَيْهِ فَلَا عَجَبٌ        أَنْ يَجْنِي لَسْعًا وَإِنِّي أَجْتَنِي لَعَسَا

يَا جَنَّةً فَارَقَتْهَا النَّفْسُ مُكْرَهَةً        لَوْلَا التَّأَسِّي بِدَارِ الْخُلْدِ مِتُّ أَسًى

وأنشد أيضًا هذين البيتين:

كُنَّا وَكَانَتْ لِنَا الْأَيَّامُ خَادِمَةً        وَالشَّمْلُ مُجْتَمِعٌ فِي أَبْهَجِ الْوَطَنِ

مَنْ لِي بِدَارِ أَحِبَّائِي وَكَانَ بِهَا        ضَوْءُ الْمَكَانِ وَفِيهَا نُزْهَةُ الزَّمَنِ

فلما فرغ من شعره صاح ثلاث صيحات، ثم وقع مغشيًّا عليه، فقام الوقاد وغطَّاه، فلما سمعت نزهة الزمان ما أنشده من الأشعار المتضمنة لذكر اسمها واسم أخيها ومعاهدهما، بكت وصاحت على الخادم، وقالت له: ويلك! إن الذي أنشد أولًا أنشد ثانيًا، وسمعته قريبًا مني، والله إن لم تأتِني به لَأنبهنَّ عليك الحاجبَ فيضربك ويطردك، ولكن خذ هذه الألف دينار وأعطِه إياها، وائتني به برفق ولا تضره، فإن أَبَى فادفع له هذا الكيس الذي فيه ألف دينار، فإن أَبَى فاتركه، واعرف مكانه وصنعته، ومن أي البلاد هو، وارجع إليَّ بسرعة ولا تغِب. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 73﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن نزهة الزمان أرسلت الخادم يفتش عليه، وقالت له: إذا وجدته فلاطفه، وائتِني به برفق ولا تغِب. فخرج الخادم يتأمل في الناس، ويدوس بينهم وهم نائمون، فلم يجد أحدًا مستيقظًا، فجاء إلى الوقَّاد فوجده قاعدًا مكشوف الرأس، فدنا منه وقبض على يده، وقال له: أنت الذي كنتَ تنشد الشعر. فخاف على نفسه، وقال: لا والله يا مقدم القوم، ما هو أنا. فقال الخادم: لا أتركك حتى تدلني على مَن كان ينشد الشعر؛ لأني لا أقدر على الرجوع إلى سيدتي من غيره. فلما سمع الوقاد كلام الخادم خاف على ضوء المكان، وبكى بكاءً شديدًا وقال للخادم: والله ما هو أنا، وإنما سمعت إنسانًا عابر سبيل ينشد، فلا تدخل في خطيئتي؛ فإني غريب، وجئت من بلاد القدس والخليل معكم. فقال الخادم للوقاد: قم أنت إلى سيدتي، وأخبرها بفمك، فإني ما رأيت أحدًا مستيقظًا غيرك. فقال له الوقاد: أَمَا جئتَ ورأيتَني في الموضع الذي أنا قاعد فيه، وعرفت مكاني؟ وما أحد يقدر أن ينفكَّ عن موضعه إلا أمسكَتْه الحرس، فامضِ أنت إلى مكانك، فإن بقيتَ تسمع أحدًا في هذه الساعة ينشد شيئًا من الشعر، سواء كان بعيدًا أو قريبًا لا تعرفه إلا مني. ثم باس رأس الخادم، وأخذ بخاطره، فتركه الخادم، ودار دورة، وخاف أن يرجع إلى سيدته بلا فائدة، فاستتر في مكان قريب من الوقاد، فقام الوقاد إلى ضوء المكان ونبَّهَه، وقال له: قُمِ اقعد حتى أحكي لك ما جرى. وحكى له ما وقع، فقال له: دعني، فإني لا أبالي بأحد، فإن بلادي قريبة. فقال الوقَّاد لضوء المكان: لأي شيء أنت مطاوع نفسك وهواك، ولا تخاف من أحد، وأنا خائف على روحي وروحك؟ فبالله عليك إنك لا تتكلم بشيء من الشعر حتى تدخل بلدك، وأنا ما كنت أظنك على هذه الحالة، أَمَا علمتَ أن زوجة الحاجب تريد زجرك لأنك أقلقتها، وكأنها ضعيفة أو تعبانة من السفر، وكم مرة وهي ترسل الخادم يفتش عليك؟ فلم يلتفت ضوء المكان إلى كلام الوقَّاد، بل صاح ثالثًا، وأنشد هذه الأبيات:

تَرَكْتُ كُلَّ لَائِمٍ        مَلَامُهُ أَقْلَقَنِي

يَعْذُلُنِي وَمَا دَرَى        بِأَنَّهُ حَرَّضَنِي

قَالَ الْوُشَاةُ: قَدْ سَلَا        قُلْتُ: لِحُبِّ الْوَطَنِ

قَالُوا: فَمَا أَحْسَنُهُ        قُلْتُ: فَمَا أَعْشَقَنِي

قَالُوا: فَمَا أَعَزَّهُ        قُلْتُ: فَمَا أَذَلَّنِي

هَيْهَاتَ أَنْ أَتْرُكَهُ        تَرْكِي لَهُ يَقْتُلُنِي

وَمَا أَطَعْتُ لَائِمًا        فِي حُبِّيَ يَعْذِلُنِي

وكان الخادم يسمعه وهو مستخفٍ، فما فرغ من شعره إلا والخادم على رأسه، فلما رآه الوقاد قام ووقف بعيدًا ينظر ما يقع بينهما، فقال الخادم: السلام عليكم يا سيدي. فقال ضوء المكان: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. فقال الخادم: يا سيدي … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 74﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخادم قال لضوء المكان: يا سيدي، إني أتيتُ إليك في هذه الليلة ثلاث مرات؛ لأن سيدتي تطلبك عندها. قال: ومن أين هذه الكلبة حتى تطلبني؟ مقَّتَها الله ومقَّتَ زوجها معها. ونزل في الخادم شتمًا، فما قدر الخادم أن يردَّ عليه جوابًا؛ لأن سيدته أوصته أنه لا يأتي به إلا بمراده هو، فإنْ لم يأتِ معه يعطيه المائة دينار، فجعل الخادم يلين له الكلام، ويقول له: يا ولدي، أنا ما أخطأت معك، ولا جرنا عليك، فالقصد أن تصل بخطواتك الكريمة إلى سيدتنا، وترجع في خير وسلامة، ولك عندنا بشارة. فلما سمع ذلك الكلام قام ومشى بين الناس، والوقاد ماشٍ خلفه وناظر إليه، ويقول في نفسه: يا خسارة شبابه! في غدٍ يشنقونه. وما زال الوقَّاد ماشيًا حتى قرب من مكانهم، وقال: ما أخسَّه إن كان يقول عليَّ: هو الذي قال لي أنشد الأشعار.

هذا ما كان من أمر الوقاد، وأما ما كان من أمر ضوء المكان، فإنه ما زال ماشيًا مع الخادم حتى وصل إلى المكان، ودخل الخادم على نزهة الزمان، وقال لها: قد جئت بما تطلبينه، وهو شاب حسن الصورة، عليه أثر النعمة. فلما سمعت ذلك خفق قلبها، وقالت له: اؤمره أن ينشد شيئًا من الشعر حتى أسمعه من قرب، وبعد ذلك فاسأله عن اسمه، ومن أي البلاد هو. فخرج الخادم إليه وقال له: أنشِد شيئًا من الشعر حتى تسمعه سيدتي؛ فإنها حاضرة بالقرب منك، وأخبرني عن اسمك وبلدك وحالك. فقال: حبًّا وكرامة، ولكن حيث سألتني عن اسمي فإنه مُحِيَ، ورسمي فَنِيَ، وجسمي بَلِيَ، ولي حكايةٌ تُكتَب بالإبر على آماق البصر، وها أنا في منزلة السكران الذي أكثر من الشراب، وحلَّت به الأوصاب، فتاهَ عن نفسه، واحتار في أمره، وغرق في بحر الأفكار. فلما سمعت نزهة الزمان هذا الكلام بكت، وزادت في البكاء والأنين، وقالت للخادم: قُلْ له هل فارقتَ أحدًا ممَّن تحب مثل أمك وأبيك؟ فسأله الخادم كما أمرته نزهة الزمان، فقال ضوء المكان: نعم، فارقتُ الجميع، وأعزهم عندي أختي التي فرَّقَ الدهرُ بيني وبينها. فلما سمعت نزهة الزمان منه هذا الكلام، قالت: الله يجمع شمله بمَن يحبُّ. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 75﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن نزهة الزمان لما سمعت كلامه قالت: الله يجمع شمله بمَن يحب، ثم قالت للخادم: قُلْ له أسمِعنا شيئًا من الأشعار المتضمنة لشكوى الفراق. فقال له الخادم كما أمرته سيدته، فصعَّد الزفرات، وأنشد هذه الأبيات:

لَيْتَ شِعْرِي لَوْ دَرَوْا        أَيَّ قَلْبٍ مَلَكُوا

وَفُؤَادِي لَوْ دَرَى        أَيَّ شِعْبٍ سَلَكُوا

أَتُرَاهُمْ سَلِمُوا        أَمْ تُرَاهُمْ هَلَكُوا

حَارَ أَرْبَابُ الْهَوَى        فِي الْهَوَى وَارْتَبَكُوا

وأنشد أيضًا هذه الأبيات:

أَضْحَى التَّنَائِي بَدِيلًا مِنْ تَدَانِينَا        وَنَابَ عَنْ طِيبِ لُقْيَانَا تَجَافِينَا

بِنْتُمْ وَبِنَّا فَمَا ابْتَلَّتْ جَوَانِحُنَا        شَوْقًا إِلَيْكُمْ وَلَا جَفَّتْ مَآقِينَا

غِيظَ الْعِدَى مِنْ تَسَاقِينَا الْهَوَى فَدَعَوْا        بِأَنْ نَغُصَّ فَقَالَ الدَّهْرُ آمِينَا

إِنَّ الزَّمَانَ الَّذِي مَا زَالَ يُضْحِكُنَا        أُنْسًا بِقُرْبِكُمُ قَدْ عَادَ يُبْكِينَا

يَا جَنَّةَ الْخُلْدِ بُدِّلْنَا بِسَلْسَلِهَا        وَالْكَوْثَرِ الْعَذْبِ زَقُّوَمًا وَغِسْلِينَا

ثم سكب العَبَرات وأنشد هذه الأبيات:

للهِ نَذْرٌ إِنْ أَزُرْ مَكَانِي        وَفِيهِ أُخْتِي نُزْهَةُ الزَّمَانِ

لَأَقْضِيَنَّ بِالصَّفَا زَمَانِي        مَا بَيْنَ غِيدٍ خُرَّدٍ حِسَانِ

وَصَوْتِ عُودٍ مُطْرِبِ الْأَلْحَانِ        مَعَ ارْتِضَاعِ كَأْسِ بِنْتِ أَلْحَانِ

وَرَشْفِ أَلْمَى فَاتِرِ الْأَجْفَانِ        بِشَطِّ نَهْرٍ سَالَ فِي بُسْتَانِ

فلما فرغ من شعره، وسمعته نزهة الزمان، كشفت ذيل الستارة عن المحفة ونظرت إليه، فلما وقع بصرها على وجهه عرفته غايةَ المعرفة، فصاحت قائلة: يا أخي، يا ضوء المكان! فرفع بصره إليها فعرفها، وصاح قائلًا: يا أختي، يا نزهة الزمان! فألقت نفسها عليه، فتلقَّاها في حضنه، ووقع الاثنان مغشيًّا عليهما، فلما رآهما الخادم على تلك الحالة تعجَّب في أمرهما، وألقى عليهما شيئًا سترهما به، وصبر عليهما حتى أفاقا، فلما أفاقا من غشيتهما، فرحت نزهة الزمان غايةَ الفرح، وزال عنها الهم والترح، وتوالت عليها المسرات، وأنشدت هذه الأبيات:

الدَّهْرُ أَقْسَمَ لَا يَزَالُ مُكَدِّرِي        حَنَثَتْ يَمِينُكَ يَا زَمَانُ فَكَفِّرِ

السَّعْدُ وَافَى وَالْحَبِيبُ مُسَاعِدِي        فَانْهَضْ إِلَى دَاعِي السُّرُورِ وَشَمِّرِ

مَا كُنْتُ أَعْتَقِدُ السَّوَالِفَ جَنَّةً        حَتَّى ظَفِرْتُ مِنَ اللَّمَى بِالْكَوْثَرِ

فلما سمع ذلك ضوء المكان، ضمَّ أخته إلى صدره، وفاضت لفرط سروره من أجفانه العَبَرات، وأنشد هذه الأبيات:

وَلَقَدْ نَدِمْتُ عَلَى تَفَرُّقِ شَمْلِنَا        نَدَمًا أَفَاضَ الدَّمْعَ مِنْ أَجْفَانِي

وَنَذَرْتُ إِنْ عَادَ الزَّمَانُ يَلُمُّنَا        لَا عُدْتُ أَذْكُرُ فُرْقَةً بِلِسَانِي

هَجَمَ السُّرُورُ عَلَيَّ حَتَّى إِنَّهُ        مِنْ فَرْطِ مَا قَدْ سَرَّنِي أَبْكَانِي

يَا عَيْنُ صَارَ الدَّمْعُ عِنْدَكِ عَادَةً        تَبْكِينَ مِنْ فَرَحٍ وَمِنْ أَحْزَانِي

وجلسا على باب المحفة ساعةً، ثم قالت: قُمِ ادخل المحفة، واحكِ لي ما وقع لك، وأنا أحكي لك ما وقع لي. فقال ضوء المكان: احكي لي أنتِ أولًا. فحَكَتْ له جميعَ ما وقع لها منذ فارقَتْه من الخان، وما وقع لها من البدوي والتاجر، وكيف اشتراها منه، وكيف أخذها التاجر إلى أخيها شركان، وباعها له، وأن شركان أعتقها من حين اشتراها وكتب كتابه عليها، ودخل بها، وأن الملك أباها سمع بخبرها، فأرسل إلى شركان يطلبها منه، ثم قالت له: الحمد لله الذي مَنَّ عليَّ بك، ومثل ما خرجنا من عند والدنا سواء نرجع إليه سواء. ثم قالت له: إن أخي شركان زوَّجَني بهذا الحاجب لأجل أن يوصلني إلى والدي، وهذا ما وقع لي من الأول إلى الآخر، فاحكِ لي أنت ما وقع لك بعد ذهابي من عندك. فحكى لها جميع ما وقع له من الأول إلى الآخر، وكيف مَنَّ الله عليه بالوقَّاد، وكيف سافر معه، وأنفق عليه ماله، وأنه كان يخدمه في الليل والنهار. فشكرته على ذلك، ثم قال لها: يا أختي، إن هذا الوقَّاد فعل معي من الإحسان فعلًا لا يفعله أحد في أحد من أحبابه، ولا الوالد مع ولده، حتى كان يجوع ويطعمني، ويمشي ويُركبني، وكانت حياتي على يديه. فقالت نزهة الزمان: إن شاء الله تعالى نكافئه بما نقدر عليه. ثم إن نزهة الزمان صاحت على الخادم فحضر وقبَّل يد ضوء المكان، فقالت له نزهة الزمان: خُذْ بشارتك يا وجه الخير؛ لأنه كان جُمْعُ شملي بأخي على يديك، فالكيس الذي معك وما فيه لك، فاذهب وائتني بسيدك عاجلًا. ففرح الخادم، وتوجه إلى الحاجب، ودخل عليه، ودعاه إلى سيدته، فأتى به ودخل على زوجته نزهة الزمان، فوجد عندها أخاها، فسأل عنه، فحكت له ما وقع لهما من أوله إلى آخره، ثم قالت: اعلم أيها الحاجب أنك ما أخذت جاريةً، وإنما أخذت بنت الملك عمر النعمان، فأنا نزهة الزمان، وهذا أخي ضوء المكان.

فلما سمع الحاجب القصة منها تحقَّقَ ما قالته، وبان له الحق الصريح، وتيقَّن أنه صار صهر الملك عمر النعمان، فقال في نفسه: مصيري أن آخذ نيابةً على قطر من الأقطار. ثم أقبل على ضوء المكان، وهنَّأه بسلامته، وجَمْع شمله بأخته، ثم أمر خدمه في الحال أن يهيِّئوا لضوء المكان خيمةً ومركوبًا من أحسن الخيل، فقالت له زوجته: إنَّا قد قربنا من بلادنا، فأنا أختلي بأخي، ونستريح مع بعضنا، ونشبع من بعضنا قبل أن نصل إلى بلادنا، فإن لنا زمنًا طويلًا ونحن مفترقان. فقال الحاجب: الأمر كما تريدان. ثم أرسل إليهما الشموع، وأنواع الحلاوة، وخرج من عندهما، وأرسل إلى ضوء المكان ثلاث بدلات من أفخر الثياب، وتمشَّى إلى أن جاء إلى المحفة، وعرف مقدار نفسه. فقالت له نزهة الزمان: أرسِل إلى الخادم وأمره أن يأتي بالوقَّاد، ويهيئ له حصانًا يركبه، ويرتب له سفرة طعام في الغداة والعشى، ويأمره أنه لا يفارقنا. فعند ذلك أرسل الحاجب إلى الخادم، وأمره أن يفعل ذلك، فقال: سمعًا وطاعة. ثم إن الخادم أخذ غلمانه وذهب يفتش على الوقاد إلى أن وجده في آخر الركب، وهو يشد حماره، ويريد أن يهرب، ودموعه تجري على خده من الخوف على نفسه، ومن حزنه على فراق ضوء المكان، وصار يقول: قد نصحتُه في سبيل الله فلم يسمع مني، يا تُرَى كيف حاله؟ فلم يُتِمَّ كلامَه إلا والخادم واقف على رأسه، ودارت حوله الغلمان، فالتفت الوقَّاد فرأى الخادم واقفًا فوق رأسه، ورأى الغلمان حوله، فاصفرَّ لونه وخاف. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 76﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوقَّاد لما أراد أن يشدَّ حماره ويهرب، وصار يكلِّم نفسه، ويقول: يا تُرَى كيف حاله؟ فما تمَّ كلامه إلا والخادم واقف على رأسه، والغلمان حوله، فالتفت الوقاد فرأى الخادم واقفًا على رأسه، فارتعدت فرائصه وخاف، وقال وقد رفع صوته بالكلام: إنه ما عرف مقدار ما عملتُه معه من المعروف، فأظن أنه غمز الخادم وهؤلاء الغلمان عليَّ، وأنه أشركني معه في الذنب. وإذا بالخادم صاح عليه، وقال له: مَن الذي كان ينشد الأشعار يا كذَّاب؟ كيف تقول لي أنا ما أنشدتُ الأشعار ولا أعرف مَن أنشدها وهو رفيقك؟ فأنا لا أفارقك من هنا إلى بغداد، والذي يجري على رفيقك يجري عليك. فلما سمع الوقَّاد كلامه قال في نفسه: ما خفتُ منه وقعتُ فيه! ثم أنشد هذا البيت:

كَانَ الَّذِي خِفْتُ أَنْ يَكُونَ        إِنَّا إِلَى اللهِ رَاجِعُونَ

ثم إن الخادم صاح على الغلمان وقال لهم: أنزلوه عن الحمار. فأنزلوا الوقَّاد عن حماره، وأتوا له بحصان فركبه، ومشى صحبة الركب والغلمان حوله محدِّقون به، وقال لهم الخادم: إن عدم منه شعرة كانت بواحد منكم، ولكن أكرموه ولا تهينوه. فلما رأى الوقاد الغلمان حوله يئس من الحياة، والتفت إلى الخادم وقال له: يا مقدم، أنا ما لي إخوة ولا قرائب، وهذا الشاب لا يقرب لي، ولا أنا أقرب له، وإنما أنا رجل وقَّاد في حمام، ووجدته مُلْقًى على المزبلة مريضًا. وصار الوقاد يبكي، ويحسب في نفسه ألف حساب، والخادم ماشٍ بجانبه ولم يعرِّفه بشيء، بل يقول له: قد أقلقت سيدتنا بإنشادك الشعر أنت وهذا الصبي، ولا تَخَف على نفسك. وصار الخادم يضحك عليه سرًّا، وإذا نزلوا أتاهم الطعام فيأكل هو والوقاد في آنية واحدة، فإذا أكلوا أمر الخادم الغلمان أن يأتوا بقُلَّة سكر، فيشرب منها ويعطيها للوقاد فيشرب، لكنه لم تنشف له دمعة من الخوف على نفسه، والحزن على فراق ضوء المكان، وعلى ما وقع لهما في غربتهما وهما سائران، والحاجب تارةً يكون على باب المحفَّة لأجل خدمة ضوء المكان ابن الملك عمر النعمان، ونزهة الزمان، وتارةً يلاحظ الوقَّاد. وصارت نزهة الزمان وأخوها ضوء المكان في حديث وشكوى، ولم يزالَا على تلك الحالة وهم سائرون حتى قربوا من البلاد، ولم يَبْقَ بينهم وبين البلاد إلا ثلاثة أيام، فنزلوا وقت المساء واستراحوا، ولم يزالوا نازلين إلى أن لاح الفجر، فاستيقظوا وأرادوا أن يحملوا، وإذا بغبار عظيم قد لاح لهم، وأظلم الجوُّ منه حتى صار كالليل الداجي، فصاح الحاجب قائلًا: أمهلوا ولا تحملوا. وركب هو ومماليكه، وساروا نحو ذلك الغبار، فلما قربوا منه بان من تحته عسكر جرار كالبحر الزخار، وفيه رايات وأعلام وطبول وفرسان وأبطال، فتعجَّب الحاجب من أمرهم، فلما رآهم العسكر افترقت منه فرقة قدر خمسمائة فارس، وأتوا إلى الحاجب هو ومَن معه وأحاطوا بهم، وأحاطت كل خمسة من العسكر بمملوك من مماليك الحاجب، فقال لهم الحاجب: أي شيء الخبر؟ ومن أين هذه العساكر حتى تفعل معنا هذه الأفعال؟ فقالوا له: مَن أنت؟ ومن أين أتيتَ؟ وإلى أين تتوجَّه؟ فقال لهم: أنا حاجب أمير دمشق الملك شركان ابن الملك عمر النعمان صاحب بغداد وأرض خراسان، أتيت من عنده بالخراج والهدية متوجِّهًا إلى والده ببغداد. فلما سمعوا كلامه أرخوا مناديلهم على وجوههم وبكوا، وقالوا له: إن عمر النعمان قد مات، وما مات إلا مسمومًا، فتوجَّهْ وما عليك بأس حتى تجتمع بوزيره الأكبر الوزير دندان.

فلما سمع الحاجب ذلك الكلام بكى بكاء شديدًا، وقال: يا خيبتنا في هذه السفرة! وصار يبكي هو ومَن معه إلى أن اختلطوا بالعسكر، فاستأذنوا له الوزير دندان، فأذن له، وأمر الوزير بضرب خيامه، وجلس على سرير في وسط الخيمة، وأمر الحاجب بالجلوس، فلما جلس سأله عن خبره، فأعلمه أنه حاجب أمير دمشق، وقد جاء بالهدايا وخراج دمشق. فلما سمع الوزير دندان ذلك بكى عند ذكر الملك عمر النعمان، ثم قال له الوزير دندان: إن الملك عمر النعمان قد مات مسمومًا، وبسبب موته اختلف الناس فيمَن يولُّونه بعده حتى أوقعوا القتل في بعضهم، ولكن منعهم عن بعضهم الأكابر والأشراف والقضاة الأربعة، واتفق جميع الناس على أن ما أشار به القضاة الأربعة لا يخالفهم فيه أحد، فوقع الاتفاق على أننا نسير إلى دمشق، ونقصد ولده الملك شركان، ونأتي به ونسلطنه على مملكة أبيه، وفيهم جماعة يريدون ولده الثاني، وقالوا: إنه يُسمَّى ضوء المكان، وله أخت تُسمَّى نزهة الزمان، وكانا قد توجَّهَا إلى أرض الحجاز، ومضى لهما خمس سنين، ولم يقع لهما أحد على خبر. فلما سمع الحاجب ذلك علم أن القضية التي وقعت لزوجته صحيحة، فاغتمَّ لموت السلطان غمًّا عظيمًا، ولكنه فرح فرحًا شديدًا، وخصوصًا بمجيء ضوء المكان؛ لأنه يصير سلطانًا ببغداد في مكان أبيه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 77﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن حاجب شركان لما سمع الوزير دندان ما ذكره من خبر الملك عمر النعمان، تأسَّفَ ولكنه فرح لزوجته وأخيها ضوء المكان؛ لأنه يصير سلطانًا ببغداد مكان أبيه، ثم التفت الحاجب إلى الوزير دندان وقال: إن قصتكم من أعجب العجائب، اعلم أيها الوزير الكبير أنكم حيث صادفتموني الآن أراحكم الله من التعب، وقد جاءكم الأمر كما تشتهون على أهون سبب؛ لأن الله ردَّ إليكم ضوء المكان هو وأخته نزهة الزمان، وانصلح الأمر وهان. فلما سمع الوزير هذا الكلام فرح فرحًا شديدًا، ثم قال له: أيها الحاجب، أخبرني بقصتهما، وبما جرى لهما، وبسبب غيابهما. فحدثه بحديث نزهة الزمان، وأنها صارت زوجته، وأخبره بحديث ضوء المكان من أوله إلى آخره، فلما فرغ الحاجب من حديثه، أرسل الوزير دندان إلى الأمراء والوزراء وأكابر الدولة، وأطلعهم على القصة؛ ففرحوا بذلك فرحًا شديدًا، وتعجبوا من هذا الاتفاق، ثم اجتمعوا كلهم وجاءوا عند الحاجب، ووقفوا على خدمته، وقبَّلوا الأرضَ بين يديه، وأقبل الوزير من ذلك الوقت على الحاجب، ووقف بين يديه، ثم إن الحاجب عمل في ذلك اليوم ديوانًا عظيمًا، وجلس هو والوزير دندان على تخت، وبين أيديهما جميع الأمراء والكبراء وأرباب المناصب على حسب مراتبهم، ثم بَلُّوا السكر في ماء الورد وشربوا، ثم قعد الأمراء للمشورة، وأعطوا بقية الجيش إذنًا في أن يركبوا مع بعضهم، ويتقدموا قليلًا حتى يتموا المشورة ويلحقوهم، فقبَّلوا الأرض بين يَدَي الحاجب، وركبوا وقدَّامهم رايات الحرب، فلما فرغ الكبراء من مشورتهم ركبوا ولحقوا العساكر.

ثم أقبل الحاجب على الوزير دندان، وقال له: الرأي عندي أن أتقدَّم وأسبقكم لأجل أن أهيِّئ للسلطان مكانًا يناسبه، وأُعلِمه بقدومكم، وأنكم اخترتموه على أخيه شركان سلطانًا عليكم. فقال الوزير: نِعم الرأي الذي رأيته. ثم نهض ونهض الوزير دندان تعظُّمًا له، وقدَّم له التقادم، وأقسم عليه أن يقبلها، وكذلك الأمراء الكبار وأرباب المناصب قدَّموا له التقادم ودعوا له، وقالوا: لعلك تحدِّث السلطان ضوء المكان في أمرنا ليبقينا مستمرين في مناصبنا. فأجابهم لِمَا سألوه، ثم أمر غلمانه بالسير، فأرسل الوزير دندان الخيام مع الحاجب، وأمر الفراشين أن ينصبوها خارج المدينة بمسافة يوم، فامتثلوا أمره وركب الحاجب وهو في غاية الفرح، وقال في نفسه: ما أبرك هذه السفرة! وعظمت زوجته في عينه، وكذلك ضوء المكان.

ثم جَدَّ في السفر إلى أن وصل إلى مكانٍ بينه وبين المدينة مسافة يوم، ثم أمر بالنزول فيه لأجل الراحة، وتهيئة مكانٍ لجلوس السلطان ضوء المكان ابن الملك عمر النعمان، ثم نزل من بعيد هو ومماليكه، وأمر الخدام أن يستأذنوا السيدة نزهة الزمان في أن يدخل عليها، فاستأذنوها في شأن ذلك فأذنت له، فدخل عليها واجتمع بها وبأخيها، وأخبرهما بموت أبيهما، وأن ضوء المكان جعله الرؤساء ملكًا عليهم عوضًا عن أبيه عمر النعمان، وهنأهما بالملك. فبكيَا على فقْدِ أبيهما، وسألَا عن سبب قتله، فقال لهما: الخبر مع الوزير دندان، وفي غدٍ يكون هو والجيش كله في هذا المكان، وما بقي في الأمر أيها الملك إلا أن تفعل ما أشاروا به؛ لأنهم كلهم اختاروك سلطانًا، وإن لم تفعل سلطنوا غيرك، وأنت لا تأمن على نفسك من الذي يتسلطن غيرك، فربما يقتلك، أو يقع الفشل بينكما، ويخرج المُلك من أيديكما. فأطرق برأسه ساعةً من الزمان، ثم قال: قبلت هذا الأمر؛ لأنه لا يمكن التخلي عنه. وتحقَّق أن الحاجب تكلَّم بما فيه الرشاد، ثم قال للحاجب: يا عم، وكيف أعمل مع أخي شركان؟ فقال: يا ولدي، أخوك يكون سلطان دمشق، وأنت سلطان بغداد، فشُدَّ عزمك، وجهِّز أمرك. فقبل منه ضوء المكان ذلك، ثم إن الحاجب قدَّمَ إليه البدلة التي كانت مع الوزير دندان من ملابس الملوك، وناوَلَه النمشة وخرج من عنده، وأمر الفراشين أن يختاروا موضعًا عاليًا وينصبوا فيه خيمة واسعة عظيمة للسلطان ليجلس فيها إذا قدم عليه الأمراء، ثم أمر الطباخين أن يطبخوا طعامًا فاخرًا ويحضروه، وأمر السقَّايين أن ينصبوا حياض الماء، وبعد ساعة طار الغبار حتى سدَّ الأقطار، ثم انكشف ذلك الغبار، وبان من تحته عسكر جرَّار مثل البحر الزخار. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 78﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الحاجب لما أمر الفرَّاشين أن ينصبوا خيمة واسعة لاجتماع الناس عند الملك، نصبوا خيمة عظيمة على عادة الملوك، فلما فرغوا من أشغالهم، وإذا بغبار قد طار، ثم محق الهواء ذلك الغبار، وبان من تحته عسكر جرار، وتبيَّنَ أن ذلك العسكر عسكر بغداد وخراسان، ومقدِّمه الوزير دندان، وكلهم فرحوا بسلطنة ضوء المكان، وكان ضوء المكان لابسًا خلعة الملك، متقلدًا بسيف الموكب، فقدَّم له الحاجب الفرس، فركب وسار هو ومماليكه، وجميع مَن في الخيام مشى في خدمته حتى دخل القبة الكبيرة، وجلس ووضع النمشة على فخذيه، ووقف الحاجب في خدمته بين يديه، ووقفت مماليكه في دهليز الخيمة، وشهروا في أيديهم السيوف، ثم أقبلت العساكر والجيوش، وطلبوا الإذن، فدخل الحاجب واستأذن لهم السلطان ضوء المكان، فأمر أن يدخلوا عليه عشرة عشرة، فأعلمهم الحاجب بذلك، فأجابوا بالسمع والطاعة، ووقف الجميع على باب الدهليز، فدخلت عشرة منهم، فشقَّ بهم الحاجب في الدهليز، ودخل بهم على السلطان ضوء المكان، فلما رأوه هابوه، فتلقَّاهم أحسن ملتقًى، ووعدهم بكل خير، فهنَّئوه بالسلامة، ودعوا له، وحلفوا له الأيمان الصادقة إنهم لا يخالفون له أمرًا، ثم قبَّلوا الأرضَ بين يديه وانصرفوا، ودخلت عشرة أخرى، ففعل بهم مثل ما فعل بغيرهم، ولم يزالوا يدخلون عشرة بعد عشرة حتى لم يَبْقَ غير الوزير دندان، فدخل عليه وقبَّلَ الأرض بين يديه، فقام إليه ضوء المكان، وأقبل عليه وقال له: مرحبًا بالوزير والوالد الكبير، إنَّ فعلك فعل المشير العزيز، والتدبير بيد اللطيف الخبير.

ثم إن الحاجب خرج في تلك الساعة، وأمر بمد السماط، وأمر بإحضار العسكر جميعًا، فحضروا وأكلوا وشربوا، ثم إن الملك ضوء المكان قال للوزير دندان: اؤمر العسكر بالإقامة عشرة أيام حتى أختلي بك وتخبرني بسبب قتل أبي. فامتثل الوزير قول السلطان، وقال: لا بد من ذلك. ثم خرج إلى وسط الخيام، وأمر العسكر بالإقامة عشرة أيام، فامتثلوا أمره، ثم إن الوزير أعطاهم إذنًا أنهم يتفرجون، ولا يدخل أحد من أرباب الخدمة عند الملك مدة ثلاثة أيام، فتضرَّع جميع الناس، ودعوا لضوء المكان بدوام العز، ثم أقبل عليه الوزير، وأعلمه بالذي كان، فصبر إلى الليل ودخل على أخته نزهة الزمان، وقال لها: هل علمتِ بسبب قتل أبي أم لم تعلمي بسببه كيف كان؟ فقالت له: لم أعلم سببَ قتْلِه. ثم إنها ضربت لها ستارة من حرير، وجلس ضوء المكان خارج الستارة، وأمر بإحضار الوزير دندان، فحضر بين يديه، فقال له: أريد أن تخبرني تفصيلًا بسبب قتل أبي الملك عمر النعمان.

 

حكاية مقتل الملك عمر النعمان

فقال الوزير دندان: اعلم أيها الملك، أن الملك عمر النعمان لما أتى من الصيد والقنص، وجاء إلى المدينة، سأل عنكما فلم يجدكما، فعلم أنكما قد قصدتما الحج؛ فاغتمَّ لذلك وازداد به الغيظ، وضاق صدره، وأقام نصف سنة وهو يستخبر عنكما كلَّ شارد ووارد، فلم يخبره أحد عنكما، فبينما نحن بين يديه يومًا من الأيام، بعدما مضى لكما سنة كاملة من تاريخ فقدكما، وإذا بعجوز عليها آثار العبادة قد وردت علينا ومعها خمس جوارٍ نُهد أبكار كأنهن الأقمار، وقد حوين من الحسن والجمال ما يعجز عن وصفه اللسان، ومع كمال حسنهن يقرأن القرآن، ويعرفن الحكمة وأخبار المتقدمين، فاستأذنت العجوز في الدخول على الملك، فأذن لها، فدخلت عليه وقبَّلت الأرض بين يديه، وكنت أنا جالسًا بجانب الملك، فلما دخلت عليه قرَّبها إليه لما رأى عليها آثارَ الزهد والعبادة، فلما استقرت العجوز عنده أقبلت عليه، وقالت له: اعلم أيها الملك أن معي خمس جوارٍ ما ملك أحد من الملوك مثلهن؛ لأنهن ذوات عقل وجمال وحسن وكمال، يقرأن القرآن بالروايات، ويعرفن العلوم وأخبار الأمم السالفة، وهنَّ بين يديك واقفات في خدمتك يا ملك الزمان، وعند الامتحان يُكرَم المرء أو يهان. فنظر المرحوم والدك إلى الجواري فسرَّته رؤيتهن، وقال لهن: كل واحدة منكن تُسمِعني شيئًا مما تعرفه من أخبار الناس الماضين والأمم السابقين. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 79﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير دندان قال للملك ضوء المكان: فنظر المرحوم والدك إلى الجواري فسرَّته رؤيتهن، وقال لهن: كل واحدة منكن تُسمِعني شيئًا مما تعرفه من أخبار الناس الماضين والأمم السابقين.

 

حكاية الصبية الأولى

فتقدَّمَتْ واحدة منهن وقبَّلَتِ الأرض بين يديه، وقالت: اعلم أيها الملك أنه ينبغي لذي الأدب أن يجتنب الفضول، ويتحلَّى بالفضائل، وأن يؤدِّي الفرائض، ويجتنب الكبائر، ويلازم ذلك ملازمةَ مَن لو أفرد عنه لَهَلك، وأساس الأدب مكارم الأخلاق، واعلم أن معظم أسباب المعيشة طلب الحياة، والقصد من الحياة عبادة الله، فينبغي أن تُحسِن خُلُقك مع الناس، وألَّا تعدل عن تلك السُّنَّة، فإن أعظم الناس خطرًا أحوجهم إلى التدبير، والملوك أحوج إليه من السُّوقة؛ لأن السُّوقة قد تفيض في الأمور من غير نظر في العاقبة، وأن تبذل في سبيل الله نفسك ومالك. واعلم أن العدو خصم تخصمه بالحجة، وتحترز منه، وأما الصديق فليس بينك وبينه قاضٍ يحكم غير حُسْن الخُلُق، فاختر صديقك لنفسك بعد اختياره، فإن كان من إخوان الآخرة فليكن محافظًا على اتباع ظاهر الشرع، عارفًا بباطنه على حسب الإمكان، وإن كان من إخوان الدنيا فليكن حرًّا صادقًا، ليس بجاهل ولا شرير، فإن الجاهل أهل لأن يهرب منه أبواه، والكاذب لا يكون صديقًا؛ لأن الصديق مأخوذ من الصدق الذي يكون ناشئًا عن صميم القلب، فكيف به إذا أظهر الكذب على اللسان؟! واعلم أن اتباع الشرع ينفع صاحبه، فأحِبَّ أخاك إذا كان بهذه الصفة، ولا تقطعه، وإنْ ظهر لك منه ما تكره؛ فإنه ليس كالمرأة يمكن طلاقها ومراجعتها، بل كالزجاج إذا تصدَّع لا يتجبَّر، ولله در القائل:

احْرِصْ عَلَى فَرْطِ الْقُلُوبِ مِنَ الْأَذَى        فَرُجُوعُهَا بَعْدَ التَّنَافُرِ يَعْسَرُ

إِنَّ الْقُلُوبَ إِذَا تَنَافَرَ وُدُّهَا        مِثْلُ الزُّجَاجَةِ كَسْرُهَا لَا يُجْبَرُ

قالت الجارية في آخِر كلامها وهي تشير إلينا: إن أصحاب العقول قالوا: خير الإخوان أشدهم في النصيحة، وخير الأعمال أجملها عاقبةً، وخير الثناء ما كان على أفواه الرجال، وقد قيل: لا ينبغي للعبد أن يغفل عن شكر الله؛ خصوصًا على نعمتين: العافية، والعقل. وقيل: مَن كرمت عليه نفسه هانت عليه شهوته، ومَن عظَّم صغائر المصائب ابتلاه الله بكبارها، ومَن أطاع الهوى ضيَّع الحقوق، وَمَن أطاع الواشي ضيَّع الصديق، ومَن ظنَّ بك خيرًا فصدِّق ظنَّه بك، ومَن بالَغَ في الخصومة أَثِمَ، ومَن لم يحذر الحيف لم يأمن السيف.

وها أنا أذكر لك شيئًا من آداب القضاة: اعلم أيها الملك أنه لا ينفع حكم بحقٍّ إلا بعد التثبيت، وينبغي للقاضي أن يجعل الناس في منزلة واحدة حتى لا يطمع شريف في الجور، ولا ييأس ضعيف من العدل، وينبغي أيضًا أن يجعل البيِّنة على مَن ادَّعى، واليمين على مَن أنكَرَ، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًا، وما شككت فيه اليوم فراجع فيه عقلك، وتبيَّنْ به رشْدَك لترجع فيه إلى الحق؛ فالحق فرض، والرجوع إلى الحق خير من التمادي على الباطن. ثم اعرف الأمثال وافْقَهِ المقال، وسوِّ بين الأخصام في الوقوف، وَلْيكن نظرك على الحق موقوفًا، وفوِّض أمرك إلى الله عز وجل، واجعل البيِّنة على مَن ادَّعى، فإن حضرت بيِّنته أخذتَ له بحقه، وإلا فحلِّف المدَّعَى عليه؛ وهذا حكم الله، واقبل شهادة عدول المسلمين بعضهم على بعض؛ فإن الله تعالى أمر الحكام أن تحكم بالظاهر وهو يتولى السرائر، ويجب على القاضي أن يجتنب القضاء عند شدة الألم والجوع، وأن يقصد بقضائه بين الناس وجه لله تعالى، فإن مَن خلصت نيته، وأصلح ما بينه وبين نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس. وقال الزهري: ثلاثٌ إذا كنَّ في قاضٍ كان منعزلًا: إذا أكرَمَ اللئامَ، وأحَبَّ المَحامِدَ، وكره العزْلَ. وقد عزل عمر بن عبد العزيز قاضيًا، فقال له: لِمَ عزلتني؟ فقال عمر: قد بلغني عنك أن مقالك أكبر من مقامك. وحُكي أن الإسكندر قال لقاضيه: إني ولَّيتك منزلة، واستودعتك فيها روحي وعرضي ومروءتي، فاحفظ هذه المنزلة لنفسك وعقلك. وقال لطباخه: إنك مسلَّط على جسمي، فارفق بنفسك فيه. وقال لكاتبه: إنك متصرِّف في عقلي، فاحفظني فيما تكتبه عني.

ثم تأخرت الجارية الأولى، وتقدَّمَتِ الثانية. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 80﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير دندان قال لضوء المكان: ثم تأخَّرَتِ الجارية الأولى وتقدَّمت الثانية، وقبَّلَتِ الأرضَ بين يدي الملك والدك سبع مرات، ثم قالت:

 

حكاية الصبية الثانية

قال لقمان لابنه: ثلاثة لا تُعرَف إلا في ثلاثة مواطن: لا يُعرَف الحليم إلا عند الغضب، ولا الشجاع إلا عند الحرب، ولا أخوك إلا عند حاجتك إليه. وقيل: إن الظالم نادم وإنْ مَدَحَه الناس، والمظلوم سليم وإنْ ذمَّه الناس. وقال الله تعالى: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وقال عليه الصلاة والسلام: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل أمرئٍ ما نوى». واعلم أيها الملك أن أعجب ما في الإنسان قلبه؛ لأن به زمام أمره، فإن هاج به الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه الأسى قتله الأسف، وإنْ عظم عنده الغضب اشتدَّ به العطب، وإنْ سعد بالرضا أَمِنَ من السخط، وإنْ ناله الخوف شغله الحزن، وإن أصابته مصيبة ضمنه الجزع، وإن استفاد مالًا ربما اشتغل به عن ذكر ربه، وإن أغصَّته فاقة أشغله الهمُّ، وإن أجهده الجزع أقعده الضعف؛ فعلى كل حالة لا صلاحَ له إلا بذكر الله، وإشغاله بما فيه تحصيل معاشه وصلاح معاده. وقيل لبعض العلماء: مَن أسرُّ الناس حالًا؟ قال: مَن غلبت شهوتَه مروءتُه، وبعُدت في المعالي همتُه، فاتسعت معرفته، وضاقت معذرته. وما أحسن ما قاله قيس:

وَإِنِّي لَأُغْنِي النَّاسَ عَنْ مُتَكَلِّفٍ        يَرَى النَّاسَ أَضْلَالًا وَمَا هُوَ مُهْتَدِي

وَمَا الْمَالُ وَالْأَخْلَاقُ إِلَّا مُعَارَةٌ        فَكُلٌّ بِمَا يُخْفِيهِ فِي الصَّدْرِ مُرْتَدِي

إِذَا مَا أَتَيْتَ الْأَمْرَ مِنْ غَيْرِ بَابِهِ        ضَلَلْتَ وَإِنْ تَدْخُلْ مِنَ الْبَابِ تَهْتَدِي

ثم إن الجارية قالت: وأمَّا أخبار الزهد، فقد قال هشام بن بشر: قلت لعمر بن عبيد: ما حقيقة الزهد؟ فقال لي: قد بيَّنَه رسول الله ﷺ في قوله: الزاهد مَن لم يَنْسَ القبرَ والبلاءَ، وآثَرَ ما يَبقى على ما يَفنى، ولم يَعُدَّ غدًا من أيامه، وعدَّ نفسه في الموتى. وقيل: إن أبا ذر كان يقول: الفقر أحبُّ إليَّ من الغنى، والسَّقَمُ أحبُّ إليَّ من الصحة. فقال بعض السامعين: رحم الله أبا ذر! أما أنا فأقول: مَن اتكل على حسن الاختيار من الله تعالى، رضي بالحالة التي اختارها الله له. وقال بعض الثقات: صلَّى بنا ابن أبي أوفى صلاة الصبح، فقرأ: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ حتى بلغ قوله تعالى: فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ، فخَرَّ ميتًا. ويُروى أن ثابتًا البناني بكى حتى كادت أن تذهب عيناه، فجاءوا برجلٍ يعالجه قال: أعالجه بشرط أن يطاوعني. قال ثابت: في أي شيء؟ قال الطبيب: في ألَّا تبكي. قال ثابت: فما فضلُ عينيَّ إن لم تبكيَا؟ وقال رجل لمحمد بن عبد الله: أَوْصِني. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 81﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير دندان قال لضوء المكان: وقالت الجارية الثانية لوالدك المرحوم عمر النعمان: وقال رجل لمحمد بن عبد الله: أَوْصِني. فقال: أوصيك أن تكون في الدنيا مالكًا زاهدًا، وفي الآخِرة مملوكًا طامعًا. قال: وكيف ذلك؟ قال: الزاهد في الدنيا يملك الدنيا والآخرة. وقال غوث بن عبد الله: كان أخوان في بني إسرائيل قال أحدهما للآخر: ما أخوف عمل عملته؟ قال له: إني مررتُ ببيتِ فراخ، فأخذت منه واحدة ورميتها في ذلك البيت، ولكن بين الفراخ التي لم آخذها منها؛ فهذا أخوف عمل عملته، فما أخوف ما عملته أنت؟ فقال: أمَّا أنا فأخوف عمل أعمله أني إذا قمتُ إلى الصلاة، أخاف أن أكون لا أعمل ذلك إلا للجزاء. وكان أبوهما يسمع كلامهما، فقال: اللهم إنْ كانا صادقين فاقبضهما إليك. فقال بعض العقلاء: إن هذين من أفضل الأولاد. وقال سعيد بن جبير: صحبت فضالة بن عبيد، فقلت له: أَوْصِني. فقال: احفظ عني هاتين الخصلتين: ألَّا تشرك بالله شيئًا، وألَّا تؤذي من خَلْقِ الله أحدًا. وأنشد هذين البيتين:

كُنْ كَيْفَ شِئْتَ فَإِنَّ اللهَ ذُو كَرَمٍ        وَانْفِ الْهُمُومَ فَمَا فِي الْأَمْرِ مِنْ بَاسِ

إِلَّا اثْنَتَيْنِ فَلَا تَقْرَبْهُمَا أَبَدًا        الشِّرْكُ بِاللهِ وَالْإِضْرَارُ بِالنَّاسِ

وما أحسن قول الشاعر:

إِذَا أَنْتَ لَمْ يَصْحَبْكَ زَادٌ مِنَ التُّقَى        وَلَاقَيْتَ بَعْدَ الْمَوْتِ مَنْ قَدْ تَزَوَّدَا

نَدِمْتَ عَلَى أَنْ لَا تَكُونَ كَمِثْلِهِ        وَأَنَّكَ لَمْ تَرْصُدْ كَمَا كَانَ أَرْصَدَا

 

حكاية الصبية الثالثة

ثم تقدَّمت الجارية الثالثة بعد أن تأخرت الثانية وقالت: إن باب الزهد واسع جدًّا، ولكن أذكر بعضَ ما يحضرني فيه عن السلف الصالح؛ قال بعض العارفين: أنا أستبشر بالموت، ولا أتيقَّن فيه راحة، غير أني علمت أن الموت يحول بين المرء وبين الأعمال، فأرجو مضاعَفةَ العمل الصالح، وانقطاع العمل السيئ. وكان عطاء السلمي إذا فرغ من وصيته انتفض وارتعد، وبكى بكاءً شديدًا، فقيل له: لِمَ ذلك؟ فقال: إني أريد أن أُقبِل على أمر عظيم، وهو الانتصاب بين يدي الله تعالى للعمل بمقتضى الوصية؛ ولذلك كان علي زين العابدين بن الحسين يرتعد إذا قام للصلاة، فسُئِل عن ذلك فقال: أتدرون لمَن أقوم، ولمَن أخاطب؟ وقيل: كان بجانب سفيان الثوري رجل ضرير، فإذا كان شهر رمضان يخرج ويصلي بالناس فيسكت ويبطئ. وقال سفيان: إذا كان يوم القيامة أُتي بأهل القرآن فيُميَّزون بعلامة مزيد الكرامة عمَّن سواهم. وقال سفيان: لو أن النفس استقرت في القلب كما ينبغي لَطار فرحًا وشوقًا إلى الجنة، وحزنًا وخوفًا من النار. وعن سفيان الثوري أنه قال: النظر إلى وجه الظالم خطيئة.

 

حكاية الصبية الرابعة

ثم تأخَّرَتِ الجارية الثالثة وتقدَّمت الجارية الرابعة، وقالت: وها أنا أتكلم ببعض ما يحضرني من أخبار الصالحين: رُوي أن بشرًا الحافي قال: سمعت خالدًا يقول: إياكم وسرائر الشرك! فقلت له: وما سرائر الشرك؟ قال: أن يصلي أحدكم فيطيل ركوعه وسجوده حتى يلحقه الحدث. وقال بعض العارفين: فِعْلُ الحسنات يكفِّر السيئات. وقال بعض العارفين: التمستُ من بشر الحافي شيئًا من أسرار الحقائق، فقال: يا بني، هذا العلم لا ينبغي أن نعلمه كلَّ أحد، فمن كل مائة خمسةٌ مثل زكاة الدرهم. قال إبراهيم بن أدهم: فاستحليت كلامه واستحسنته، فبينما أنا أصلي وإذا ببشر يصلي، فقمت وراءه أركع إلى أن يؤذن المؤذن، فقام رجل رثُّ الحالة، وقال: يا قوم، احذروا الصدق الضار، ولا بأس بالكذب النافع، وليس مع الاضطرار اختيار، ولا ينفع الكلام عند العدم، كما لا يضر السكوت عند وجود الوجود. وقال إبراهيم: رأيت بشرًا سقط منه دانف، فقمت إليه وأعطيته درهمًا، فقال: لا آخذه. فقلت: إنه من خالص الحلال. فقال لي: أنا لست أستبدل نِعَم الدنيا بنِعَم الآخرة. ويُروَى أن أخت بشر الحافي قصدت أحمد بن حنبل … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 82﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير دندان قال لضوء المكان: إن الجارية قالت لوالدك: إنَّ أخت بشر الحافي قصدت أحمد بن حنبل فقالت له: يا إمام الدين، إنَّا قوم نغزل بالليل، ونشتغل بمعاشنا في النهار، وربما تمرُّ بنا مشاعل ولاة بغداد، ونحن على السطح نغزل في ضوئها، فهل يُحرَّم علينا ذلك؟ قال لها: مَن أنت؟ قالت: أخت بشر الحافي. فقال: يا أهل بشر، لا أزال أستشف الورع من قلوبكم. وقال بعض العارفين: إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا، فتح عليه باب العمل. وكان مالك بن دينار إذا مرَّ في السوق ورأى ما يشتهيه يقول: يا نفس اصبري، فلا أوافقك على ما تريدين. وقال رضي الله عنه: سلامة النفس في مخالفتها، وبلاؤها في متابعتها. وقال منصور بن عمار: حججتُ حجة فقصدت مكة من طريق الكوفة، وكانت ليلة مظلمة، وإذا بصارخ يصرخ في جوف الليل ويقول: إلهي، وعزتك وجلالك، ما أردتُ بمعصيتي مخالفتَك، وما أنا جاهل، ولكن خطيئة قضيتها عليَّ في قديم أزلك، فاغفر لي ما فرط مني، فإني قد عصيتك بجهلي. فلما فرغ من دعائه تلا هذه الآيةيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ. وسمعت سقطة لم أعرف لها حقيقة، فمضيت، فلما كان الغد مَشَيْنا إلى مدرجنا وإذا بجنازة خرجت، ووراءها عجوز ذهبت قوتها، فسألتها عن الميت، فقالت: هذه جنازة رجل كان مرَّ بنا البارحة وولدي قائم يصلي، فتلا آيةً من كتاب الله تعالى، فانفطرت مرارةُ ذلك الرجل فوقع ميتًا.

 

حكاية الصبية الخامسة

ثم تأخَّرت الجارية الرابعة وتقدَّمت الجارية الخامسة، وقالت: وها أنا أذكر بعض ما يحضرني من أخبار السلف الصالح: كان مسلمة بن دينار يقول: عند تصحيح الضمائر تُغفَر الصغائر والكبائر، وإذا عزم العبد على ترك الآثام أتاه الفتوح. وقال: كلُّ نعمة لا تقرِّب إلى الله فهي بليَّة، وقليلُ الدنيا يشغل عن كثير الآخرة، وكثيرها يُنسِيك قليلها. وسُئِل أبو حازم: مَن أيسر الناس؟ فقال: رجل أذهب عمره في طاعة الله. قال: فمَن أحمق الناس؟ قال: رجل باع آخِرته بدنيا غيره. وروي أن موسى - عليه السلام - لما ورد ماء مدين قال: رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ. فسأل موسى ربه ولم يسأل الناس، وجاءت الجاريتان فسقى لهما، ولم تُصدر الرعاء، فلما رجعتا أخبرتا أباهما شعيبًا، فقال: لعله جائع. ثم قال لإحداهما: ارجعي إليه وادعيه. فلما أتته غطَّت وجهها وقالت: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا. فكره موسى ذلك، وأراد ألا يتبعها، وكانت امرأة ذات عَجُز، فكانت الريح تضرب ثوبها فيظهر لموسى عَجُزها، فيغضُّ بصرَه، ثم قال لها: كوني خلفي. فمشت خلفه حتى دخل على شعيب والعشاء مهيَّأ. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 83﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير دندان قال لضوء المكان: وقالت الجارية الخامسة لوالدك: فدخل موسى - عليه السلام - على شعيب والعشاء مهيَّأ، فقال شعيب لموسى: يا موسى، إني أريد أن أعطيك أجرة ما سقيتَ لهما. فقال موسى: أنا من أهل بيت لا نبيع شيئًا من عمل الآخرة بما على الأرض من ذهب وفضة. فقال شعيب: يا شاب، ولكن أنت ضيفي، وإكرام الضيف عادتي وعادة آبائي بإطعام الطعام. فجلس موسى فأكل، ثم إن شعيبًا استأجر موسى ثماني حجج؛ أي سنين، وجعل أجرته على ذلك تزويجه إحدى بنتيه، وكان عمل موسى لشعيب صداقًا لها، كما قال تعالى حكايةً عنهإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ. وقال رجل لبعض أصحابه، وكان له مدة لم يَرَه: إنك أوحشتني؛ لأنني ما رأيتُك من منذ زمان. قال: اشتغلت عنك بابن شهاب، أتعرفه؟ قال: نعم، هو جاري من منذ ثلاثين سنة إلا أنني لم أكلمه. قال له: إنك نسيت الله فنسيت جارك، ولو أحببتَ الله لَأحببتَ جارك، أَمَا علمتَ أن للجار على الجار حقًّا كحق القرابة؟ وقال حذيفة: دخلنا مكة مع إبراهيم بن أدهم، وكان شقيق البلخي قد حجَّ في تلك السنة، فاجتمعنا في الطواف، فقال إبراهيم لشقيق: ما شأنكم في بلادكم؟ فقال شقيق: إننا إذا رُزِقنا أكلنا، وإذا جعنا صبرنا. فقال: كذا تفعل كلاب بلخ، ولكننا إذا رُزِقنا آثرنا، وإذا جعنا شكرنا. فجلس شقيق بين يدي إبراهيم وقال له: أنت أستاذي. وقال محمد بن عمران: سأل رجل حاتمًا الأصم فقال: ما أمرك في التوكُّل على الله تعالى؟ قال: على خصلتين: علمتُ أن رزقي لا يأكله غيري فاطمأنَّتْ نفسي به، وعلمت أني لم أُخلَق من غير علم الله فاستحييت منه.

 

حكاية العجوز

ثم تأخَّرَتِ الجارية الخامسة، وتقدَّمَتِ العجوز وقبَّلت الأرض بين يَدَيْ والدك تسع مرات، وقالت: قد سمعتَ أيها الملك ما تكلَّم به الجميع في باب الزهد، وأنا تابعة لهن، فأذكر بعض ما بلغني عن أكابر المتقدمين. قيل: كان الإمام الشافعي يقسِّم الليلَ ثلاثة أقسام: الثلث الأول للعلم، والثاني للنوم، والثالث للتهجُّد، وكان الإمام أبو حنيفة يُحيِي نصفَ الليل، فأشار إليه إنسان وهو يمشي وقال لآخَر: إن هذا يُحيِي الليلَ كله. فلما سمع قال: إني أستحي من الله أن أُوصَف بما ليس فيَّ. فصار بعد ذلك يحيي الليل كله. وقال الربيع: كان الشافعي يختم القرآن في شهر رمضان سبعين مرة، كل ذلك في الصلاة. وقال الشافعي رضي الله عنه: ما شبعتُ من خبز الشعير عشر سنين؛ لأن الشبع يقسي القلب، ويزيل الفطنة، ويجلب النوم، ويضعف صاحبه عن القيام. ورُوِي عن عبد الله بن محمد السكري أنه قال: كنت أنا وعمر نتحدث، فقال لي: ما رأيت أروع ولا أفصح من محمد بن إدريس الشافعي. واتفق أنني خرجت أنا والحارث بن لبيب الصفار، وكان الحارث تلميذ المزني، وكان صوته حسنًا، فقرأ قوله تعالى: هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ * وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ، فرأيت الإمام الشافعي تغيَّر لونه، واقشعرَّ جلده، واضطرب اضطرابًا شديدًا، وخرَّ مغشيًّا عليه، فلما أفاق قال: أعوذ بالله من مقام الكذابين، وإعراض الغافلين، اللهم لك خشعَتْ قلوبُ العارفين، اللهم هَبْ لي غفران ذنوبي من جودك، وجمِّلني بسترك، واعفُ عن تقصيري بكرم وجهك. ثم قمت وانصرفت. وقال بعض الثقات: فلما دخلت بغداد كان الشافعي بها، فجلست على الشاطئ لأتوضأ للصلاة إذ مرَّ بي إنسان، فقال لي: يا غلام، أحسِنْ وضوءك يُحسِن الله إليك في الدنيا والآخرة. فالتفتُّ وإذا برجل يتبعه جماعة، فأسرعت في وضوئي، وجعلت أقفو أثره، فالتفت إليَّ وقال: هل لك من حاجة؟ فقلت: نعم، تعلِّمني ممَّا علَّمك الله تعالى. فقال: اعلم أن مَن صدق الله نجا، ومَن أشفق على دينه سلم من الردى، ومن زهد في الدنيا قرَّت عيناه غدًا، أفلا أزيدك؟ قلت: بلى. قال: كن في الدنيا زاهدًا، وفي الآخرة راغبًا، واصدق في جميع أمورك تَنْجُ مع الناجين. ثم مضى، فسألتُ عنه، فقيل لي: هذا الإمام الشافعي. وكان الإمام الشافعي يقول: وددتُ أن الناس ينتفعون بهذا العلم على ألَّا يُنسَب إليَّ منه شيء. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 84﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير دندان قال لضوء المكان: قالت العجوز لوالدك: كان الإمام الشافعي يقول: وددتُ أن الناس ينتفعون بهذا العلم على ألَّا يُنسَب إليَّ منه شيء. وقال: ما ناظرتُ أحدًا إلا أحببت أن يوفِّقه الله تعالى للحق، ويُعِينه على إظهاره، وما ناظرتُ أحدًا قطُّ إلا لأجل إظهار الحق، وما أبالي أن يبيِّن الله الحق على لساني أو على لسانه. وقال رضي الله عنه: إذا خفتَ على علمك العُجْبَ فاذكر رضى مَن تطلب، وفي أي نعيم ترغب، ومن أي عقاب ترهب. وقيل لأبي حنيفة: إن أمير المؤمنين أبا جعفر المنصور قد جعلك قاضيًا، ورسم لك بعشرة آلاف درهم. فما رضي، فلما كان اليوم الذي توقَّعَ أن يُؤتَى إليه فيه بالمال صلَّى الصبح، ثم تغشَّى بثوبه فلم يتكلم، ثم جاء رسول أمير المؤمنين بالمال، فلما دخل عليه وخاطبه فلم يكلمه، فقال له رسول الخليفة: إن هذا المال حلال. فقال: أعلم أنه حلال لي، ولكني أكره أن يقع في قلبي مودة الجبابرة. فقال له: لو دخلتَ إليهم وتحفَّظْتَ من ودِّهم! قال: هل آمَن أن ألج البحرَ ولا تبتل ثيابي؟! ومن كلام الشافعي رضي الله تعالى عنه:

أَلَا يَا نَفْسُ إِنْ تَرْضَيْ بِقَوْلِي        فَأَنْتِ عَزِيزَةٌ أَبَدًا غَنِيَّةْ

دَعِي عَنْكِ الْمَطَامِعَ وَالْأَمَانِي        فَكَمْ أُمْنِيَّةٌ جَلَبَتْ مَنِيَّةْ

ومن كلام سفيان الثوري فيما أوصى به علي بن الحسن السلمي: عليك بالصدق، وإياك والكذب والخيانة والرياء والعُجْب؛ فإن العمل الصالح يحبطه الله بخصلة من هذه الخصال، ولا تأخذ دينك إلا عمَّن هو مُشفِق على دينه، وَلْيكن جليسك مَن يزهِّدُك في الدنيا، وأكثِرْ ذِكْرَ الموت، وأكثِر الاستغفار، واسأل الله السلامة فيما بقي من عمرك، وانصح كل مؤمن إذا سألك عن أمر دينه، وإياك أن تخون مؤمنًا، فإن مَن خان مؤمنًا فقد خان الله ورسوله، وإياك والجدال والخصام، ودَعْ ما يُرِيبك إلى ما لا يُرِيبك تكن سليمًا، وَأْمُرْ بالمعروف وَانْهَ عن المنكر تكن حبيب الله، وأحسِنْ سريرتك يُحسِن الله علانيتك، واقبل المعذرةَ ممَّن اعتذر إليك، ولا تبغض أحدًا من المسلمين، وصِلْ مَن قطعك، وَاعْفُ عمَّن ظلمك تكن رفيقَ الأنبياء، وَلْيكن أمرك مفوَّضًا إلى الله في السر والعلانية، واخشَ الله خشيةَ مَن قد علم أنه ميت ومبعوث، وصائر إلى الحشر، والوقوف بين يدي الجبار، واذكر مصيرك إلى إحدى الدارين؛ إما جنة عالية، وإما نار حامية.

ثم إن العجوز جلست إلى جانب الجواري، فلما سمع والدك المرحوم كلامهن علم أنهن أفضل أهل زمانهن، ورأى حسنهن وجمالهن، وزيادة أدبهن، فآواهن إليه، وأقبل على العجوز فأكرمها وأخلى لها هي وجواريها القصرَ الذي كانت فيه الملكة إبريزة بنت ملك الروم، ونقل إليهن ما يحتجن إليه من الخيرات، فأقامت عنده عشرة أيام، وكلما دخل عليها يجدها معتكفة على صلاتها، وقيامها في ليلها وصيامها في نهارها، فوقع في قلبه محبتها، وقال لي: يا وزير، إن هذه العجوز من الصالحات، وقد عظمت في قلبي مهابتها. فلما كان اليوم الحادي عشر، اجتمع بها من جهة دفع ثمن الجواري إليها، فقالت له: أيها الملك، اعلم أن ثمن هذه الجواري فوق ما تتعامل به الناس؛ فإني لا أطلب فيهن ذهبًا ولا فضة ولا جواهر، قليلًا كان ذلك أو كثيرًا.

فلما سمع والدك كلامها تعجَّبَ وقال: أيتها السيدة، وما ثمنهن؟ قالت: ما أبيعهن لك إلا بصيام شهر كامل، تصوم نهاره وتقوم ليله لوجه الله تعالى، فإن فعلتَ ذلك فهُنَّ مِلْكٌ لك في قصرك تصنع بهن ما شئتَ. فتعجَّبَ الملك من كمال صلاحها وزهدها وورعها، وعظمت في عينه، وقال: نفعنا الله بهذه المرأة الصالحة. ثم اتفق معها على أن يصوم الشهرَ كما اشترطته عليه، فقالت له: وأنا أُعِينك بدعوات أدعو بهن لك، فائتني بكوز ماء، فأتاها بكوز ماء، فأخذته وقرأت عليه وهمهمت، وقعدت ساعةً تتكلم بكلام لا نفهمه، ولا نعرف منه شيئًا، ثم غطته بخرقة وختمته، وناولته لوالدك وقالت له: إذا صمتَ العشرة الأولى فافطر في الليلة الحادية عشرة على ما في هذا الكوز، فإنه ينزع حبَّ الدنيا من قلبك، ويملؤه نورًا وإيمانًا، وفي غدٍ أخرج إلى إخواني وهم رجال الغيب، فإني اشتقت إليهم، ثم أجيء إليك إذا مضَتِ العشرة الأولى. فأخذ والدك الكوز، ثم نهض وأفرد له خلوة في القصر، ووضع الكوز فيها، وأخذ مفتاح الخلوة في جيبه، فلما كان النهار صام السلطان، وخرجت العجوز إلى حال سبيلها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 85﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير دندان قال لضوء المكان: فلما كان النهار صام السلطان، وخرجت العجوز إلى حال سبيلها، وأتمَّ الملك صومَ العشرة أيام، وفي اليوم الحادي عشر فتح الكوز وشربه، فوجد له في فؤاده فعلًا جميلًا. وفي العشرة أيام الثانية من الشهر جاءت العجوز ومعها حلاوة في ورق أخضر يشبه ورق الشجر، فدخلت على والدك وسلَّمَتْ عليه، فلما رآها قام لها وقال لها: مرحبًا بالسيدة الصالحة. فقالت له: أيها الملك، إن رجال الغيب يسلِّمون عليك؛ لأني أخبرتهم عنك ففرحوا بك، وأرسلوا معي هذه الحلاوة، وهي من حلاوة الآخرة، فافطر عليها في آخِر النهار. ففرح والدك فرحًا زائدًا، وقال: الحمد لله الذي جعل لي إخوانًا من رجال الغيب. ثم شكر العجوز، وقبَّلَ يدَيْها، وأكرمها وأكرم الجواري غاية الإكرام، ثم مضت مدة عشرين يومًا وأبوك صائم، وعند رأس العشرين يومًا أقبلت عليه العجوز وقالت له: أيها الملك، اعلم أني أخبرت رجالَ الغيب بما بيني وبينك من المحبة، وأعلمتهم بأني تركت الجواري عندك؛ ففرحوا حيث كانت الجواري عند ملك مثلك؛ لأنهم كانوا إذا رأوهن يبالغون لهنَّ في الدعاء المستجاب، فأريد أن أذهب بهن إلى رجال الغيب لتحصيل نفحاتهم لهن، وربما أنهن لا يرجعن إليك إلا ومعهن كنز من كنوز الأرض، حتى إنك بعد تمام صومك تشتغل بكسوتهن، وتستعين بالمال الذي يأتينك به على أغراضك.

فلما سمع والدك كلامها شكرها على ذلك، وقال لها: لولا أني أخشى مخالفتي لك، ما رضيت بالكنز ولا غيره، ولكن متى تخرجين بهن؟ فقالت له: في الليلة السابعة والعشرين، وأرجع بهن إليك في رأس الشهر، وتكون أنت قد أوفيتَ الصوم، وحصل استبراؤهن، وصرن لك وتحت أمرك، والله إن كل جارية منهن ثمنها أعظم من مُلْكك مرات. فقال لها: وأنا أعرف ذلك أيتها السيدة الصالحة. فقالت له بعد ذلك: ولا بد أن ترسل معهن مَن يعزُّ عليك من قصرك؛ حتى يجد الأنس، ويلتمس البركة من رجال الغيب. فقال لها: عندي جارية رومية اسمها صفية، ورُزِقت منها بولدين: أنثى وذكر، ولكنهما فُقِدَا من منذ سنتين، فخذيها معهن لأجل أن تحصل لها البركة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 86﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير دندان قال لضوء المكان: إن أباك قال للعجوز لما طلبت منه الجواري: إن عندي جارية رومية اسمها صفية، ورُزِقت منها بولدين: أنثى وذكر، ولكنهما فُقِدَا من منذ سنتين، فخذيها معهن لأجل أن تحصل لها البركة، ولعل رجال الغيب أن يدعوا الله لها بأن يرد عليها ولدَيْها، ويجمع شملها بهما. فقالت العجوز: نِعْمَ ما قلت. وكان ذلك أعظم غرضها، ثم إن والدك أخذ في تمام صيامه، فقالت له: يا ولدي، إني متوجهة إلى رجال الغيب، فأحضر لي صفية. فدعا بها فحضرت في ساعتها، فسلَّمها إلى العجوز، فخلطتها بالجواري، ثم دخلت العجوز مخدعها، وخرجت للسلطان بكأس مختوم، وناولته له وقالت: إذا كان يوم الثلاثين فادخل الحمام، ثم اخرج منه وادخل خلوة من الخلاوي التي في قصرك، واشرب هذا الكأس ونَمْ، فقد نلتَ ما تطلب، والسلام مني عليك.

فعند ذلك فرح الملك وشكرها وقبَّل يدها، فقالت له: استودعتك الله. فقال لها: ومتى أراكِ أيتها السيدة الصالحة؟ فإني أود ألَّا أفارقك. فدعَتْ له وتوجَّهَتْ ومعها الجواري والملكة صفية، وقعد الملك بعدها ثلاثة أيام، ثم هلَّ الشهر، فقام الملك ودخل الحمام، وخرج من الحمام ودخل الخلوة التي في القصر، وأمر ألا يدخل عليه أحد، وردَّ الباب عليه، ثم شرب الكأس ونام، ونحن قاعدون في انتظاره إلى آخر النهار، فلم يخرج من الخلوة، فقلنا: لعله تعبان من الحمام، ومن سهر الليل وصيام النهار، فبسبب ذلك نام. فانتظرنا لثاني يوم فلم يخرج، فوقفنا بباب الخلوة وأعلنَّا برفع الصوت لعَلَّه ينتبه ويسأل عن الخبر، فلم يحصل منه ذلك، فخلعنا الباب ودخلنا عليه، فوجدناه قد تمزَّقَ لحمه وتفتَّتَ عظمه، فلما رأيناه على هذه الحالة عظم علينا ذلك، وأخذنا الكأس فوجدنا في غطائه قطعة ورق مكتوبًا فيها: مَن أساء لا يستوحش منه، وهذا جزاء مَن يتحيَّل على بنات الملوك ويفسدهن، والذي نُعلِم به كلَّ مَن وقف على هذه الورقة، أن شركان لما جاء بلادنا قد أفسد علينا الملكةَ إبريزة، وما كفاه ذلك حتى أخذها من عندنا وجاء بها إليكم، ثم أرسلها مع عبد أسود فقتلها، ووجدناها مقتولةً في الخلاء مطروحةً على الأرض، فهذا ما هو فِعْل الملوك، وما جزاء مَن يفعل هذا الفعل إلا ما حلَّ به، وأنتم لا تتهموا أحدًا بقتله؛ فما قتله إلا العاهرة الشاطرة التي اسمها ذات الدواهي، وها أنا أخذتُ زوجةَ الملك صفية، ومضيتُ بها إلى والدها أفريدون ملك القسطنطينية، ولا بد أن نغزوكم ونقتلكم، ونأخذ منكم الديار، فتهلكون عن آخِركم، ولا يبقى منكم ديَّار، ولا مَن ينفخ النار، إلا مَن يعبد الصليب والزنار.

فلما قرأنا هذه الورقة علمنا أن العجوز خدعتنا، وتمَّتْ حيلتها علينا، فعند ذلك صرخنا ولطمنا على وجوهنا، وبكينا فلم يفدنا البكاء شيئًا، واختلفت العساكر فيمَن يجعلونه سلطانًا عليهم، فمنهم مَن يريدك، ومنهم مَن يريد أخاك شركان. ولم نزل في هذا الاختلاف مدة شهر، ثم جمعنا بعضنا وأردنا أن نمضي إلى أخيك شركان، فسافرنا إلى أن وجدناك، وهذا سبب موت الملك عمر النعمان.

فلما فرغ الوزير من كلامه، بكى ضوء المكان هو وأخته نزهة الزمان، وبكى الحاجب أيضًا، ثم قال الحاجب لضوء المكان: أيها الملك، إن البكاء لا يفيدك شيئًا، ولا يفيدك إلا أنك تشد قلبك، وتقوِّي عزمك، وتؤيد مملكتك، ومَن خلَّف مثلك ما مات. فعند ذلك سكت عن بكائه، وأمر بنصب السرير خارج الدهليز، ثم أمر أن يعرضوا عليه العساكر، ووقف الحاجب بجانبه، والسلحدراية من ورائه، ووقف الوزير دندان قدامه، ووقف كلُّ واحد من الأمراء، وأرباب الدولة في مرتبته. ثم إن الملك قال للوزير دندان: أخبرني بخزائن أبي. فقال: سمعًا وطاعة. وأخبره بخزائن الأموال، وبما فيها من الذخائر والجواهر، وعرض عليه ما في خزنته من الأموال، فأنفق على العساكر، وخلع على الوزير دندان خلعة سنية، وقال له: أنت في مكانك. فقبَّل الأرض بين يديه ودعا له بالبقاء، ثم خلع على الأمراء. ثم إنه قال للحاجب: اعرض عليَّ الذي معك من خراج دمشق، فعرض عليه صناديق المال والتحف والجواهر، فأخذها وفرَّقها على العساكر. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 87﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن ضوءَ المكان أمَرَ الحاجب أن يعرض عليه ما أتى به من خراج دمشق، فعرض عليه صناديق المال والتحف والجواهر، فأخذها وفرَّقها على العساكر، ولم يبقَ منها شيءٌ قطُّ، فقبَّلَ الأمراءُ الأرضَ بين يديه، ودعوا له بطول البقاء، وقالوا: ما رأينا ملكًا يعطي مثل هذه العطايا. ثم إنهم مضوا إلى خيامهم، فلما أصبحوا أمرهم بالسفر، فسافروا ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع أشرفوا على بغداد، فدخلوا المدينة فوجدوها قد تزينت، وطلع السلطان ضوء المكان قصر أبيه، وجلس على السرير، ووقف أمراء العسكر والوزير دندان وحاجب دمشق بين يديه، فعند ذلك أمر كاتب السر أن يكتب كتابًا إلى أخيه شركان، ويذكر فيه ما جرى من الأول إلى الآخر، ويذكر في آخِره: وساعة وقوفك على هذا المكتوب، تجهِّز أمرك وتُحضِر بعسكرك حتى نتوجَّه إلى غزو الكفَّار، ونأخذ منهم الثأر ونكشف العار. ثم طوى الكتاب وختمه وقال للوزير دندان: ما يتوجه بهذا الكتاب إلا أنت، ولكن ينبغي أن تتلطف به في الكلام، وتقول له: إن أردتَ مُلْكَ أبيك فهو لك، وأخوك يكون نائبًا عنك في دمشق كما أخبرنا بذلك. فنزل الوزير دندان من عنده وتجهَّزَ للسفر، ثم إن ضوء المكان أمر أن يجعلوا للوقَّاد مكانًا فاخرًا، ويفرشوه بأحسن الفرش - وذلك الوقَّاد له حديث طويل - ثم إن ضوء المكان خرج يومًا إلى الصيد والقنص، وعاد إلى بغداد، فقدَّمَ له بعض الأمراء من الخيول الجياد ومن الجواري الحسان ما يعجز عن وصفه اللسان، فأعجبته جارية منهن فاستخلى بها ودخل عليها في تلك الليلة، فعلقت منه من ساعتها، وبعد مدة رجع الوزير دندان من سفره، وأخبره بخبر أخيه شركان وأنه قادم إليه، وقال له: ينبغي أن نخرج ونلاقيه. فقال له ضوء المكان: سمعًا وطاعة. فخرج إليه من خواص دولته من بغداد مسيرة يوم، ثم نصب خيامه هناك لانتظار أخيه، وعند الصباح أقبل الملك شركان في عساكر الشام، ما بين فارس مقدام وأسد ضرغام وبطل مصدام، فلما أشرقت الكتائب، وقدمت السحائب، وأقبلت العصائب، وخفقت أعلام المواكب، توجَّهَ ضوء المكان هو ومَن معه لملاقاتهم، فلما عاين ضوءُ المكان أخاه أراد أن يترجَّل إليه، فأقسم عليه شركان ألَّا يفعل ذلك، وترجَّلَ شركان ومشى خطوات، فلما صار بين يدي ضوء المكان، رمى ضوء المكان نفسه عليه، فاحتضنه شركان إلى صدره، وبكيَا بكاءً شديدًا، وعزى أحدهما الآخَر، ثم ركب الاثنان وسارَا وسار العسكر معهما إلى أن أشرفوا على بغداد ونزلوا، ثم طلع ضوء المكان هو وأخوه شركان على قصر الملك، وباتَا تلك الليلة، وعند الصباح خرج ضوء المكان، وأمر أن يجمعوا العساكر من كل جانب، وينادوا بالغزو والجهاد، ثم أقاموا ينتظرون مجيء الجيوش من سائر البلدان، وكلُّ مَن حضر يكرمونه ويَعِدُونه بالجميل، إلى أن مضى على ذلك الحال مدة شهر كامل، والقوم يأتون أفواجًا متتابعة، ثم قال شركان لأخيه: يا أخي، أَعلِمني بقضيتك. فأعلَمَه بجميع ما وقع له من الأول إلى الآخِر، وبما صنعه معه الوقَّاد من المعروف، فقال له شركان: أَمَا كافأتَه على معروفه؟ فقال له: يا أخي، ما كافأتُه إلى الآن، ولكن أكافِئه إن شاء الله تعالى لما أرجع من الغزوة. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 88﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن شركان قال لأخيه ضوء المكان: أَمَا كافأتَ الوقَّاد على معروفه؟ فقال له: يا أخي، ما كافأتُه إلى الآن، ولكن أكافئه إن شاء الله تعالى لما أرجع من الغزوة، وأتفرَّغ له. فعند ذلك عرف شركان أن أخته الملكة نزهة الزمان صادقة في جميع ما أخبرَتْه به، ثم كتم أمْرَه وأمْرَها، وأرسل إليها السلامَ مع الحاجب زوجها، فبعثَتْ له أيضًا معه السلام ودعَتْ له، وسألت عن ابنتها «قضى فكان»، فأخبرها أنها بعافية، وأنها في غاية ما يكون من الصحة والسلامة، فحمدت الله تعالى وشكرته، ورجع شركان إلى أخيه يشاوره في أمر الرحيل، فقال له: يا أخي، لما تتكامل العساكر، وتأتي العربان من كل مكان. ثم أمر بتجهيز الميرة وإحضار الذخيرة، ودخل ضوء المكان إلى زوجته، وكان مضى لها خمسة أشهر، وجعل أرباب الأقلام وأهل الحساب تحت طاعتها، ورتَّبَ لها الجرايات والجوامك، وسافَرَ في ثالث شهر من حين نزول عسكر الشام، بعد أن قدمت العربان وجميع العساكر من كل مكان، وسارت الجيوش والعساكر، وتتابعت الجحافل، وكان اسم رئيس عسكر الديلم رستم، واسم رئيس عسكر الترك بهرمان.

وسار ضوء المكان في وسط الجيوش، وعن يمينه أخوه شركان، وعن يساره الحاجب صهره، ولم يزالوا سائرين مدة شهر، وكلَّ جمعة ينزلون في مكان يستريحون فيه ثلاثة أيام؛ لأن الخلق كثير، ولم يزالوا سائرين على هذه الحالة حتى وصلوا إلى بلاد الروم، فنفر أهل القرى والضياع والصعاليك، وفرُّوا إلى القسطنطينية، فلما سمع أفريدون ملكهم بخبرهم قام وتوجَّهَ إلى ذات الدواهي، فإنها هي التي دبَّرت الحِيَل وسافرت إلى بغداد حتى قتلَتِ الملكَ عمر النعمان، ثم أخذت جواريها والملكة صفية ورجعت بالجميع إلى بلادها، فلما رجعت إلى ولدها ملك الروم وأمنت على نفسها، قالت لابنها: قرَّ عينًا، فقد أخذت لك بثأر ابنتك إبريزة، وقتلتُ الملكَ عمر النعمان، وجئت بصفية، فقُمِ الآن وارحل إلى ملك القسطنطينية وردَّ عليه صفية، وأعلمه بما جرى حتى يكون جميعنا على حذرٍ ونتجهَّز بأهبة، وأسافر أنا معك إلى الملك أفريدون ملك القسطنطينية، وأظن أن المسلمين لا يثبتون على قتالنا. فقال: امهَلِي إلى أن يقربوا من بلادنا حتى نجهِّز أحوالنا.

ثم أخذوا في جمع رجالهم وتجهيز أحوالهم، فلما جاءهم الخبر كانوا قد جهَّزوا حالهم، وجمعوا الجيوش، وسارت في أوائلهم ذات الدواهي، فلما وصلوا إلى القسطنطينية سمع الملك الأكبر ملكها أفريدون بقدوم حردوب ملك الروم فخرج لملاقاته، فلما اجتمع أفريدون بملك الروم سأله عن حاله وعن سبب قدومه، فأخبره بما عملَتْه أمه ذات الدواهي من الحيل، وأنها قتلَتْ ملك المسلمين، وأخذت من عنده الملكة صفية، وقالت: إن المسلمين جمعوا عساكرهم وجاءوا، ونريد أن نكون جميعًا يدًا واحدة ونلقاهم. ففرح الملك فريدون بقدوم ابنته وقتل عمر النعمان، وأرسل إلى سائر الأقاليم يطلب منهم النجدة، ويذكر لهم سببَ قتل الملك عمر النعمان؛ فهرعت إليه جيوش النصارى، فما مرَّ ثلاثة شهور حتى تكاملت جيوش الروم، ثم أقبلَتِ الإفرنج من سائر أطرافها؛ كالفرنسيس، والنيمسا، ودوبرة، وجورنة، وبندق، وجنويز، وسائر عساكر بني الأصفر، فلما تكاملَتِ العساكر وضاقت بهم الأرض من كثرتهم، أمرهم الملك الأكبر أفريدون أن يرحلوا من القسطنطينية، فرحلوا واستمرَّ تتابُع عساكرهم في الرحيل عشرة أيام، وساروا حتى نزلوا بوادٍ واسع الأطراف، وكان ذلك الوادي قريبًا من البحر المالح، فأقاموا ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع أرادوا أن يرحلوا فأتتهم الأخبار بقدوم عساكر الإسلام، وحُمَاة ملَّة خير الأنام، فقاموا فيه ثلاثة أيام أخرى، وفي اليوم الرابع رأوا غبارًا طار حتى سدَّ الأقطار، فلم تمضِ ساعة من النهار حتى انجلى ذلك الغبار، وتمزَّق إلى الجو وطار، ومحَتْ ظلمتَه كواكبُ الأسنة والرماح، وبريق بيض الصفاح، وبان من تحته رايات إسلامية، وأعلام محمدية، وأقبلت الفرسان كاندفاع البحار في دروع تحسبها سحبًا مزردة على أقمار.

فعند ذلك تقابَلَ الجيشان، والتطم البحران، ووقعت العين في العين، فأول مَن برز للقتال الوزير دندان هو وعساكر الشام، وكانوا ثلاثين ألف عنان، وكان مع الوزير مقدم الترك ومقدم الديلم؛ رستم وبهرام، في عشرين ألف فارس، وطلع من ورائهم رجالٌ من صوب البحر المالح، وهم لابسون زرود الحديد، وقد صاروا فيها كالبدور السافرة في الليالي العاكرة، وصار عساكر النصارى ينادون عيسى ومريم والصليب المسخم، ثم انطبقوا على الوزير دندان ومَن معه من عساكر الشام، وكان هذا كله بتدبير العجوز ذات الدواهي؛ لأن الملك أقبَلَ عليها قبل خروجه وقال لها: كيف العمل والتدبير، وأنت السبب في هذا الأمر العسير؟ فقالت: اعلم أيها الملك الكبير، والكاهن الخطير، أني أشير عليك بأمرٍ يعجز عن تدبيره إبليس، ولو استعان عليه بحزبه المتاعيس … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 89﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن هذا كله كان بتدبير العجوز؛ لأن الملك كان أقبل عليها قبل خروجها، وقال لها: كيف العمل والتدبير، وأنت السبب في هذا الأمر العسير؟ فقالت: اعلم أيها الملك الكبير، والكاهن الخطير، أني أشير عليك بأمر يعجز عن تدبيره إبليس، ولو استعان عليه بحزبه المتاعيس، وهو أن ترسل خمسين ألفًا من الرجال ينزلون في المراكب، ويتوجَّهون في البحر إلى أن يصلوا جبل الدخان، ويقيمون هناك، ولا يرحلون من ذلك المكان حتى تأتيكم أعلام الإسلام، فدونكم وإياهم، ثم تخرج إليهم العساكر من البحر، ويكونون خلفهم، ونحن نقابلهم من البر، فلا ينجو منهم أحدٌ، وقد زال عنَّا العناء، ودام لنا الهناء. فاستصوب الملك أفريدون كلامَ العجوز، وقال: نِعْمَ الرأي رأيك يا سيدة العجائز الماكرة، ومرجع الكهَّان في الفتن الثائرة.

وحين هجم عليهم عسكر الإسلام في ذلك الوادي، لم يشعروا إلا والنار تلتهب في الخيام، والسيوف تعمل في الأجسام، ثم أقبلت جيوش بغداد وخراسان، وهم في مائة وعشرين ألف فارس، وفي أوائلهم ضوء المكان، فلما رآهم عسكر الكفار الذين كانوا في البحر طلعوا إليهم من البحر، وتبعوا أثرهم، فلما رآهم ضوء المكان قال: ارجعوا إلى الكفار يا حزب النبي المختار، وقاتِلوا أهلَ الكفر والعدوان في طاعة الرحيم الرحمن. وأقبل شركان بطائفة أخرى من عساكر المسلمين نحو مائة ألف وعشرين ألفًا، وكانت عساكر الكفار نحو ألف وستمائة ألف، فلما اختلط المسلمون بعضهم ببعض قويت قلوبهم، ونادوا قائلين: إن الله وعدنا بالنصر، وأوعد الكفار بالخذلان. ثم تصادَموا بالسيف والسنان، واخترق شركان الصفوف، وهاج في الألوف، وقاتل قتالًا تشيب منه الأطفال، ولم يزل يجول في الكفار، ويُعمِل فيهم الصارمَ البتَّار، وينادي: «الله أكبر»، حتى ردَّ القومَ إلى ساحل البحر، وكلَّتْ منهم الأجسام، ونصر الله دين الإسلام، والناس يقاتلون وهم سكارى بغير مدام، وقد قُتِل من القوم في ذلك الوقت خمسة وأربعون ألفًا، وقُتِل من المسلمين ثلاثة آلاف وخمسائة. ثم إن أسد الدين الملك شركان لم يَنَمْ في تلك الليلة لا هو ولا أخوه ضوء المكان، بل كانَا يباشران الناس، ويتفقَّدان الجرحى، ويهنِّئانهم بالنصر والسلامة، والثواب في القيامة.

هذا ما كان من أمر المسلمين، وأما ما كان من أمر الملك أفريدون ملك القسطنطينية، وملك الروم وأمه العجوز ذات الدواهي، فإنهم جمعوا أمراء العسكر وقالوا لبعضهم: إنَّا كنَّا بلغنا المراد، وشفينا الفؤاد، ولكنَّ إعجابَنا بكثرتنا هو الذي خذلنا. فقالت لهم العجوز ذات الدواهي: إنه لا ينفعكم إلا أنكم تتقرَّبون للمسيح، وتتمسكون بالاعتقاد الصحيح، فوَحقِّ المسيح ما قوَّى عسكرَ المسلمين إلا هذا الشيطان الملك شركان. فقال الملك أفريدون: إني قد عوَّلت في غدٍ على أن أصفَّ لهم الصفوف، وأُخرِج لهم الفارس المعروف لوقا بن شملوط، فإنه إذا برز إلى الملك شركان قتله وقتل غيره من الأبطال، حتى لم يبقَ منهم أحدٌ، وقد عوَّلتُ في هذه الليلة على تقديسكم بالبخور الأكبر. فلما سمعوا كلامه قبَّلوا الأرض، وكان البخور الذي أراده خراء البطريق الكبير ذي الإنكار والنكير، فإنهم كانوا يتنافسون فيه، ويستحسنون مساويه، حتى كانت أكابر بطارقة الروم يبعثونه إلى سائر أقاليم بلادهم في خرق من الحرير، ويمزجونه بالمسك والعبير، فإذا وصل خبره إلى الملوك يأخذون منه كل درهم بألف دينار، حتى كان الملوك يرسلون في طلبه من أجل بخور العرائس، وكانت البطارقة يخلطونه بخرائهم، فإنَّ خراء البطريق الكبير لا يكفي عشرة أقاليم، وكان خواصُّ ملوكهم يجعلون قليلًا منه في كحل العيون، ويداوون به المريض والمبطون. فلما أصبح الصباح، وأشرق بنوره ولاح، وتبادرت الفرسان إلى حمل الرماح … وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 90﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنه لما أصبح الصباح، وأشرق بنوره ولاح، وتبادرت الفرسان إلى حمل الرماح، دعا الملك أفريدون بخواص بطارقة وأرباب دولته، وخلع عليهم، ونقش الصليب في وجوههم، وبخَّرهم بالبخور المتقدِّم ذكره - الذي هو خراء البطريق الأكبر، والكاهن الأمكر - فلما بخَّرهم دعا بحضور لوقا بن شملوط، الذي يسمونه سيف المسيح، وبخَّره بالرجيع، وحنكه به بعد التبخير ونشقه ولطَّخ له عوارضه، ومسح بالفضلة شواربه، وكان ذلك الملعون لوقا ما في بلاد الروم أعظم منه، ولا أرمى بالنبال، ولا أضرب بالسيف، ولا أطعن بالرمح يوم النزال، وكان بشع المنظر؛ كان وجهه وجه حمار، وصورته صورة قرد، وطلعته طلعة الرقيب، وقربه أصعب من فراق الحبيب، له من الليل ظلمته، ومن الأبخر نكهته، ومن القوس قامته، ومن الكفر سيمته. وبعد ذلك أقبل على الملك أفريدون، وقبَّلَ قدمَيْه، ثم وقف بين يديه، فقال الملك أفريدون: إني أريد أن تبرز إلى شركان ملك دمشق ابن عمر النعمان، وقد انجلى عنَّا هذا الشر وهان. فقال: سمعًا وطاعة. ثم إن الملك نقش في وجهه الصليب، وزعم أن النصر يحصل له عن قريب، ثم انصرف لوقا من عند الملك أفريدون، وركب الملعون لوقا جوادًا أشقر، وعليه ثوب أحمر، وزردية من الذهب المرصَّع بالجوهر، وحمل رمحًا له ثلاث حراب، كأنه إبليس اللعين يوم الأحزاب، وتوجَّهَ هو وحزبه الكفار كأنهم يساقون إلى النار، وبينهم منادٍ ينادي بالعربي ويقول: يا أمة محمد ﷺ، لا يخرج منكم إلا فارسكم سيف الإسلام شركان صاحب دمشق الشام.

فما استتمَّ كلامه إلا وضجة في الفلا سمع صوتها جميع الملأ، وركضات فرَّقت الصفين، وأذكرت يومَ حنين، ففزع اللئام منها، وألفتوا الأعناق نحوها، وإذا هو الملك شركان ابن الملك عمر النعمان، وكان أخوه ضوء المكان لما رأى ذلك الملعون في الميدان، وسمع المنادي التفَتَ لأخيه شركان وقال له: إنهم يريدونك. فقال: إن كان الأمر كذلك فهو أحبُّ إليَّ. فلما تحقَّقوا الأمر، وسمعوا هذا المنادي وهو يقول في الميدان: لا يبرز لي إلا شركان، علموا أن هذا الملعون فارس بلاد الروم، وكان قد حلف أن يخلي الأرض من المسلمين، وإلا فهو من أخسر الخاسرين؛ لأنه هو الذي حرق الأكباد، وفزعت من شره الأجناد، من الترك والديلم والأكراد، فعند ذلك برز إليه شركان كأنه أسد غضبان، وكان راكبًا على ظهر جواد يشبه شارد الغزلان، فساقه نحو لوقا حتى صار عنده، وهزَّ الرمح في يده كأنه أفعى من الحيَّات، وأنشد هذه الأبيات:

لِيَ أَشْقَرُ سَمْحُ الْعِنَانِ مُغَايِرُ        يُعْطِيكَ مَا يُرْضِيكَ مِنْ مَجْهُودِهِ

وَمُثَقَّفٌ لَدْنُ السِّنَانِ كَأَنَّمَا        أُمُّ الْمُنَايَا رُكِّبَتْ فِي عُودِهِ

وَمُهَنَّدٌ عَضْبٌ إِذَا جَرَّدْتُهُ        خِلْتَ الْبُرُوقَ تَمُوجُ فِي تَجْرِيدِهِ

فلم يفهم لوقا معنى هذا الكلام، ولا حماس هذا النظام، بل لطَمَ وجهه بيده تعظيمًا للصليب المنقوش عليه، ثم قبَّلها وأشرع الرمح نحو شركان وكرَّ عليه، ثم طوَّح الحربة بإحدى يدَيْه حتى خفيت عن أعين الناظرين، وتلقَّاها باليد الأخرى كفعل الساحرين، ثم رمى بها شركان فخرجت من يديه كأنها شهاب ثاقب، فضجَّتِ الناس وخافوا على شركان، فلما قربت الحربة منه اختطفها من الهواء فتحيَّرت عقول الورى، ثم إن شركان هزَّها بيده التي أخذها بها من النصراني حتى كاد أن يقصفها، ورماها في الجو حتى خفيت عن النظر، والتقاها بيده الثانية في أقرب من لمح البصر، وصاح صيحة من صميم قلبه، وقال: وحقِّ مَن خلق السبع الطباق، لَأجعلَنَّ هذا اللعين شهرةً في الآفاق. ثم رماه بالحربة، فأراد لوقا أن يفعل بالحربة كما فعل شركان، ومدَّ يده إلى الحربة ليختطفها من الهواء، فعاجَلَه شركان بحربة ثانية ضربه بها فوقعت في وسط الصليب الذي في وجهه، وعجَّلَ الله بروحه إلى النار، وبئس القرار. فلما رأى الكفار لوقا بن شملوط وقع مقتولًا، لطموا على وجوههم، ونادوا بالويل والثبور، واستغاثوا ببطارقة الديور. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 91﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الكفار لما رأوا لوقا بن شملوط وقع مقتولًا، لطموا على وجوههم، ونادوا بالويل والثبور، واستغاثوا ببطارقة الديور، وقالوا: أين الصلبان، وتزهُّد الرهبان؟ ثم اجتمعوا جميعًا عليه، وأعملوا الصوارم والرماح، وهجموا للحرب والكفاح، والتقت العساكر بالعساكر، وصارت الصدور تحت وقع الحوافر، وتحكَّمت الرماح والصوارم، وضعفت السواعد والمعاصم، وكأن الخيل خُلِقت بلا قوائم، ولا زال منادي الحرب ينادي إلى أن كلَّتِ الأيادي، وذهب النهار، وأقبل الليل بالاعتكار، وافترق الجيشان وصار كل شجاع كالسكران، من شدة الضرب والطعان، وقد امتلأَتِ الأرض بالقتلى، وعظمت الجراحات، ولا يُعرَف الجريح ممَّن مات. ثم إن شركان اجتمع بأخيه ضوء المكان، والحاجب والوزير دندان، فقال شركان لأخيه ضوء المكان والحاجب: إن الله قد فتح بابًا لهلاك الكافرين، والحمد لله رب العالمين. فقال ضوء المكان لأخيه: لم نزل نحمد الله لكشف الكرب عن العرب والعجم، وسوف تتحدَّث الناس جيلًا بعد جيل بما صنعتَ باللعين لوقا محرِّف الإنجيل، وأخذك الحربة من الهواء، وضربك لعدو الله بين الورى، ويبقى حديثك إلى آخِر الزمان.

ثم قال شركان: أيها الحاجب الكبير، والمقدام الخطير. فأجابه بالتلبية، فقال له: خذ معك الوزير دندان وعشرين ألفَ فارس، وسِرْ بهم إلى ناحية البحر مقدار سبعة فراسخ، وأسرعوا في السير حتى تكونوا قريبًا من الساحل، بحيث يبقى بينكم وبين القوم قدر فرسخين، واختفوا في وهدات الأرض حتى تسمعوا ضجة الكفار إذا طلعوا من المراكب، وتسمعوا الصياح من كل جانب، وقد عملت بيننا وبينهم القواضب، فإذا رأيتم عسكرنا تقهقروا إلى الوراء كأنهم منهزمون، وجاءت الكفار زاحفة خلفهم من جميع الجهات حتى من جانب الساحل والخيام، فكونوا لهم بالمرصاد، وإذا رأيتَ أنت علمًا عليه: لا إله إلا الله محمد رسول الله ﷺ فارفع العلم الأخضر وصِحْ قائلًا: الله أكبر. واحمل عليهم من ورائهم، واجتهِدْ في ألَّا يحول الكفار بين المنهزمين وبين البحر. فقال: السمع والطاعة. واتفقوا على ذلك الأمر في تلك الساعة، ثم تجهَّزوا وساروا، وقد أخذ الحاجب معه الوزير دندان وعشرين ألفًا كما أمر الملك شركان.

فلما أصبح الصباح، ركب القوم وهم مجرِّدون الصفاح، ومعتقلون الرماح، وحاملون السلاح، وانتشرت الخلائق في الربا والبطاح، وصاحت القسوس، وكُشِفت الرءوس، ورُفِعت الصلبان على قلوع المراكب، وقصدوا الساحل من كل جانب، وأنزلوا الخيل في البر، وعزموا على الكرِّ والفرِّ، ولمعت السيوف، وتوجهت الجموع، وبرقت شهب الرماح على الدروع، ودارت طاحون المنايا على الرجال والفرسان، وطارت الرءوس عن الأبدان، وخرست الألسن وتغشت الأعين، وانفطرت المرائر وعملت البواتر، وطارت الجماجم وقُطِعت المعاصم، وخاضت الخيل في الدماء وتقابضوا في اللحى، وصاحت عساكر الإسلام بالصلاة والسلام على سيد الأنام، وبالثناء على الرحمن بما أولى من الإحسان، وصاحت عساكر الكفر بالثناء على الصليب والزنار، والعصير والعصار، والقسوس والرهبان، والشعانين والمطران، وتأخَّرَ ضوء المكان هو وشركان إلى ورائهما، وتقهقرت الجيوش وأظهروا الانهزامَ للأعداء، وزحفت عليهم عساكر الكفر لوَهْم الهزيمة، وتهيَّئوا للطعن والضرب، فاستهلَّ أهل الإسلام بقراءة أول سورة البقرة، وصارت القتلى تحت أرجل الخيل مندثرة، وصار منادي الروم يقول: يا عَبَدَة المسيح، وذوي الدين الصحيح، يا خدَّام الجاثليق، قد لاح لكم التوفيق، إن عساكر الإسلام قد جنحوا إلى الفرار، فلا تولُّوا عنهم الأدبار، فمكِّنوا السيوفَ من أقفيتهم، ولا ترجعوا من ورائهم، وإلا برئتم من المسيح ابن مريم، الذي في المهد تكلَّم. وظنَّ أفريدون ملك القسطنطينية أن عساكر الكفار منصورة، ولم يعلم أن ذلك من حسن تدبير المسلمين صورة، فأرسل إلى ملك الروم يبشِّره بالظفر، ويقول له: ما نفعنا إلا غائط البطريق الأكبر، لما فاحت رائحته من اللحى والشوارب، بين عباد الصليب حاضر وغائب، وأُقسِمُ بمعجزات إبريزة النصرانية المريمية، والمياه المعمودية، إني لا أترك على الأرض مجاهدًا بالكلية، وإني مصِرٌّ على سوء هذه النية. وتوجَّهَ الرسولُ بهذا الخطاب، ثم صاح الكفار على بعضهم قائلين: خذوا بثأر لوقا. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 92﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الكفار صاحوا على بعضهم قائلين: خذوا بثأر لوقا. وصار ملك الروم ينادي بالأخذ بثأر إبريزة، فعند ذلك صاح الملك ضوء المكان، وقال: يا عباد الملك الديَّان، اضربوا أهل الكفر والطغيان ببيض الصفاح، وسمر الرماح. فرجع المسلمون على الكفار، وأعملوا فيهم الصارم البتَّار، وصار ينادي منادي المسلمين ويقول: عليكم بأعداء الدين يا محبِّي النبي المختار، هذا وقت إرضاء الكريم الغفَّار، يا راجي النجاة في اليوم المخوف، إن الجنة تحت ظلال السيوف.

وإذا بشركان قد حمل هو ومَن معه على الكفار، وقطعوا عليهم طريق الفرار، وجالَ بين الصفوف وطاف، وإذا بفارس مليح الانعطاف، قد فتح في عسكر الكفار ميدانًا، وجالَ في الكَفَرَة حربًا وطعانًا، وملأ الأرض رءوسًا وأبدانًا، وقد خافت الكفار من حربه، ومالت أعناقهم لطعنه وضربه، قد تقلَّدَ بسيفين لحظ وحسام، واعتقل رمحين قناة وقوام، بوفرة تغني عن وافر عدد العساكر، كما قال فيه الشاعر:

لَا تَحْسُنُ الْوَفْرَةُ إِلَّا وَهْيَ        مَنْشُورَةُ الْفَرْعَيْنِ يَوْمَ النِّزَالْ

عَلَى فَتًى مُعْتَقِلٍ صَعْدَةً        يَعُلُّهَا مِنْ كُلِّ وَافِي السِّبَالْ

ويقول الآخَر:

أَقُولُ لَهُ لَمَّا تَقَلَّدَ سَيْفَهُ        كَفَتْكَ سُيُوفُ اللَّحْظِ عَنْ ذَلِكَ الْعَضْبِ

فَقَالَ: لِحَاظِي سَيْفُهَا لِذَوِي الْهَوَى        وَسَيْفِي لِمَنْ لَمْ يَدْرِ مَا لَذَّةُ الْحُبِّ

فلما رآه شركان قال: أعيذك بالقرآن، وآيات الرحمن، مَن أنت أيها الفارس من الفرسان؟ فلقد أرضيتَ بفعلك الملكَ الديَّان، الذي لا يشغله شأن عن شأن؛ حيث هزمتَ أهل الكفر والطغيان. فناداه الفارس قائلًا: أنت الذي بالأمس عاهدتني، فما أسرع ما نسيتني! ثم كشف اللثام عن وجهه حتى ظهر ما خفي من حُسْنه، فإذا هو ضوء المكان؛ ففرح به شركان إلا أنه خاف عليه من ازدحام الأقران، وانطباق الشجعان، وذلك لأمرين: أحدهما صغر سنه وصيانته عن العين، والثاني أن بقاءه للمملكة أعظم الجناحين، فقال له: يا ملك، إنك قد خاطرْتَ بنفسك، فألصق جوادك بجوادي، فإني لا آمن عليك من الأعادي، والمصلحة في ألَّا تخرج من تلك العصائب، لأجل أن ترمي الأعداء بسهمك الصائب. فقال ضوء المكان: إني أردتُ أن أساويك في النزال، ولا أبخل بنفسي بين يديك في القتال. ثم انطبقت عساكر الإسلام على الكفار، وأحاطوا بهم من جميع الأقطار، وجاهدوهم حق الجهاد، وكسروا شوكة الكفر والعناد والفساد؛ فتأسَّفَ الملك أفريدون لما رأى ما حلَّ بالروم من الأمر المذموم، وقد ولَّوا الأدبار، وركنوا إلى الفرار، يقصدون المراكب، وإذ بالعساكر قد خرجت عليهم من ساحل البحر، وفي أولهم الوزير دندان مجندل الشجعان، وضرب فيهم بالسيف والسنان، وكذا الأمير بهرام صاحب دوائر الشام، وهو في عشرين ألف ضرغام، وأحاطت بهم عساكر الإسلام من خلف ومن أمام، ومالت فرقة من المسلمين على مَن كان في المراكب، وأوقعوا فيهم المعاطب، فرموا أنفسهم في البحر، وقتلوا منهم جمعًا عظيمًا يزيد عن مائة ألف خنزير، ولم ينجُ من أبطالهم صغير ولا كبير، وأخذوا مراكبهم بما فيها من الأموال والذخائر والأثقال، إلا عشرين مركبًا، وغنم المسلمون في ذلك اليوم غنيمةً ما غنم أحد مثلها في سالف الزمان، ولا سمعت إذن بمثل هذه الحرب والطعان، ومن جملة ما غنموه خمسون ألفًا من الخيل غير الذخائر والأسلاب، مما لا يحيط به حصر ولا حساب، وفرحوا فرحًا ما عليه مزيد بما مَنَّ الله عليهم من النصر والتأييد.

هذا ما كان من أمرهم، وأما ما كان من أمر المنهزمين، فإنهم وصلوا إلى القسطنطينية، وكان الخبر قد وصل إلى أهلها أولًا بأن الملك أفريدون هو الظافر بالمسلمين، فقالت العجوز ذات الدواهي: أنا أعلم أن ولدي ملك الروم لا يكون من المنهزمين، ولا يخاف من الجيوش الإسلامية، ويردُّ أهل الأرض إلى ملة النصرانية. ثم إن العجوز كانت أمرت الملك الأكبر أفريدون أن يزين البلد، فأظهروا السرور، وشربوا الخمور، وما علموا بالمقدور، فبينما هم في وسط الأفراح إذ نعق عليهم غراب الحزن والأتراح، وأقبلت عليهم العشرون مركبًا الهاربة، وفيها ملك الروم، فقابَلَهم أفريدون ملك القسطنطينية على الساحل، وأخبروه بما جرى لهم من المسلمين، فزاد بكاؤهم، وعلا نحيبهم، وانقلبت بشارات الخير بالغمِّ والضير، وأخبروه أن لوقا بن شملوط حلَّتْ به النوائب، وتمكَّنَ منه سهم المنية الصائب، فقامت على الملك أفريدون القيامة، وعلم أن اعوجاجهم ليس له استقامة، وقامت بينهم المآتم، وانحلت منهم العزائم، وندبت النوادب، وعلا النحيب والبكاء من كل جانب. ولما دخل ملك الروم على الملك أفريدون، وأخبره بحقيقة الحال، وأن هزيمة المسلمين كانت على وجه الخداع والمحال، قال له: لا تنتظر أن يصل من العسكر إلا مَن وصل إليك. فلما سمع الملك أفريدون ذلك الكلام وقع مغشيًّا عليه، وصار أنفه تحت قدميه. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 93﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك أفريدون لما سمع ذلك الكلام وقع مغشيًّا عليه، وصار أنفه تحت قدمَيْه، فلما آفاق من غشيته نفض الخوفُ جراب معدته، فشكا إلى العجوز ذات الدواهي، وكانت تلك اللعينة كاهنة من الكهَّان، ومتقنة للسحر والبهتان، عاهرة مكَّارة، فاجرة غدَّارة، ولها فم أبخر، وجفن أحمر، وخد أصفر، بوجه أغبش، وطرف أعمش، وجسم أجرب، وشعر أشهب، وظهر أحدب، ولون حائل، ومخاط سائل، لكنها قرأت كتب الإسلام، وسافرت إلى بيت الله الحرام؛ كل ذلك لتطَّلِع على الأديان، وتعرف آيات القرآن، ومكثت في بيت المقدس سنتين لتحوز مكر الثَّقَلين، فهي آفة من الآفات، وبلية من البليات، فاسدة الاعتقاد، ليست لدينٍ تنقاد، وكان أكثر إقامتها عند ولدها حردوب ملك الروم، لأجل الجواري الأبكار؛ لأنها كانت تحب السحاق، وإن تأخَّرَ عنها تكون في انمحاق، وكل جارية أعجبتها تعلِّمها الحكمة، وتسحق عليها الزعفران؛ فيُغشَى عليها من فرط اللذة مدةً من الزمان، فمَن طاوعَتْها أحسنَتْ إليها، ورغَّبَتْ ولدها فيها، ومَن لا تطاوعها تتحيَّل على هلاكها، وبسبب ذلك عملت مرجانة وريحانة وأترجة جواري إبريزة، وكانت الملكة إبريزة تكره العجوز، وتكره أن ترقد معها؛ لأن صُنانَها يخرج من تحت إبطَيْها، ورائحة فسائها أنتن من الجيفة، وجسدها أخشن من الليفة، وكانت ترغب مَن يساحقها بالجواهر والتعليم، وكانت إبريزة تبرأ منها إلى الحكيم العليم، ولله در القائل:

يَا مَنْ تَسَفَّلَ لِلْغَنِيِّ مَذَلَّةً        وَعَلَى الْفَقِيرِ لَقَدْ عَلَا تَيَّاهَا

وَيَزِينُ شُنْعَتَهُ بِجَمْعِ دَرَاهِمَ        عِطْرُ الْقَبِيحَةِ لَا يَفِي بِفُسَاهَا

وَلْنرجع إلى حديث مكرها ودواهي أمرها؛ ثم إنها سارت وسار معها عظماء النصارى وعساكرهم، وتوجَّهوا إلى عسكر الإسلام، وبعدها دخل ملك الروم على الملك أفريدون، وقال له: أيها الملك، ما لنا حاجة بأمر البطريق الكبير ولا بدعائه، بل نعمل برأي أمي ذات الدواهي، وننظر ما تعمل بخداعها غير المتناهي مع عسكر المسلمين، فإنهم بقوتهم واصلون إلينا، وعن قريب يكونون لدينا، ويحيطون بنا. فلما سمع الملك أفريدون ذلك الكلام عظم في قلبه الرعب، فكتب من وقته وساعته إلى سائر أقاليم النصارى يقول لهم: ينبغي ألَّا يتخلَّف أحد من أهل الملة النصرانية والعصابة الصليبية، خصوصًا أهل الحصون والقلاع، بل يأتون إلينا جميعًا رجالًا وركبانًا، ونساءً وصبيانًا، فإن عسكر المسلمين قد وطئوا أرضنا، فالعَجَل العَجَل قبل حلول الوجل.

هذا ما كان من أمر هؤلاء، وأما ما كان من أمر العجوز ذات الدواهي، فإنها طلعت خارج البلد مع أصحابها، وألبستهم زي تجار المسلمين، وكانت قد أخذت معها مائة بغل محمَّلة من القماش الأنطاكي ما بين أطلس معدني، وديباج ملكي، وغير ذلك، وأخذت من الملك أفريدون كتابًا مضمونه أن هؤلاء التجار من أرض الشام، وكانوا في ديارنا، فلا ينبغي أن يتعرَّض لهم أحدٌ بسوء، ولا يأخذ منهم عشرًا حتى يصلوا إلى بلادهم ومحل أمنهم؛ لأن التجَّار بهم عمار البلاد، وليسوا من أهل الحرب والفساد. ثم إن الملعونة ذات الدواهي قالت لمَن معها: إني أريد أن أدبِّر حيلةً على هلاك المسلمين. فقالوا لها: أيتها الملكة، مُرِينا بما شئتِ، فنحن تحت طاعتك، فلا أحبَطَ المسيح عملك.

فلبست ثيابًا من الصوف الأبيض الناعم، وحكَّتْ جبينها حتى صار له وسم، ودهنته بدهان دبرته حتى صار له ضوء عظيم، وكانت الملعونة نحيلة الجسم، غائرة العينين، فقيَّدت رجليها من فوق قدميها، وسارت حتى وصلت إلى عسكر المسلمين، ثم حلَّتِ القيد من رجليها، وقد أثَّرَ القيد في ساقيها، ثم دهنتهما بدم الأخوين، وأمرت مَن معها أن يضربوها ضربًا عنيفًا، وأن يضعوها في صندوق، فقالوا لها: كيف نضربك وأنت سيدتنا ذات الدواهي أم الملك المباهي؟ فقالت: لا لوم ولا تعنيفَ على مَن يأتي الكنيف، ولأجل الضرورات تباح المحظورات، وبعد أن تضعوني في الصندوق خذوه في جملة الأموال، واحملوه على البغال، ومُرُّوا بذلك بين عسكر الإسلام، ولا تخشوا شيئًا من الملام، وإنْ تعرَّض لكم أحد من المسلمين، فسلِّموا له البغال وما عليها من الأموال، وانصرِفوا إلى ملكهم ضوء المكان، واستغيثوا به وقولوا: نحن كنَّا في بلاد الكفرة، ولم يأخذوا منَّا شيئًا، بل كتبوا لنا توقيعًا أنه لا يتعرَّض لنا أحد، فكيف تأخذون أنتم أموالنا، وهذا كتاب ملك الروم الذي مضمونه ألَّا يتعرَّض لنا أحد بمكروه. فإذا قال: وما الذي ربحتموه من بلاد الروم في تجارتكم؟ فقولوا له: ربحنا خلاص رجل زاهد، وقد كان في سرداب تحت الأرض له فيه نحو خمسة عشر عامًا، وهو يستغيث فلا يغاث، بل يعذِّبه الكفار ليلًا ونهارًا، ولم يكن عندنا علم بذلك، مع أننا أقمنا في القسطنطينية مدة من الزمان، وبعنا بضائعنا، واشترينا خلافها، وجهَّزنا حالنا، وعزمنا على الرحيل إلى بلادنا، وبتنا تلك الليلة نتحدَّث في أمر السفر، فلما أصبحنا رأينا صورة مصورة في الحائط، فلما قربنا منها تأملناها، فإذا هي تحركت وقالت: يا مسلمون، هل فيكم مَن يعامل رب العالمين؟ فقلنا: وكيف ذلك؟ فقالت تلك الصورة: إن الله أنطقني لكم ليقوِّي يقينكم، ويلهمكم دينكم، وتخرجوا من بلاد الكافرين، وتقصدوا عسكر المسلمين، فإن فيهم سيف الرحمن، وبطل الزمان الملك شركان، وهو الذي يفتح القسطنطينية، ويهلك أهل الملة النصرانية، فإذا قطعتم سفر ثلاثة أيام، تجدوا ديرًا يُعرَف بدير مطروحني، وفيه صومعة، فاقصدوا بصدق نيتكم، وتحيَّلوا على الوصول إليها بقوة عزيمتكم؛ لأن فيها رجلًا عابدًا من بيت المقدس اسمه عبد الله، وهو من أدين الناس، وله كرامات تزيح الشك والإلباس، قد خدعه بعض الرهبان، وسجنه في سرداب له فيه مدة من الزمان، وفي إنقاذه إرضاء رب العباد؛ لأن فكاكه من أفضل الجهاد.

ثم إن العجوز لما اتفقت مع مَن معها على هذا الكلام، قالت: فإذا ألقى إليكم سمعه الملك شركان، فقولوا له: فلما سمعنا هذا الكلام من تلك الصورة علمنا أن ذلك العابد … وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 94﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العجوز ذات الدواهي لما اتفقت مع مَن معها على هذا الكلام، قالت: فإذا ألقى إليكم سمعه الملك شركان، فقولوا له: فلما سمعنا هذا الكلام من تلك الصورة، علمنا أن ذلك العابد من أكابر الصالحين، وعباد الله المخلصين، فسافرنا مدة ثلاثة أيام، ثم رأينا ذلك الدير، فعرجنا عليه وملنا إليه، وأقمنا هناك يومًا في البيع والشراء على عادة التجار، فلما ولَّى النهار، وأقبل الليل بالاعتكار، قصدنا تلك الصومعة التي فيها السرداب، فسمعناه بعد تلاوة الآيات ينشد هذه الأبيات:

كَمَدًا أُكَابِدُهُ وَصَدْرِي ضَيِّقُ        وَجَرَى بِقَلْبِي بَحْرُ هَمٍّ مُغْرِقُ

إِنْ لَمْ يَكُنْ فَرَجٌ فَمَوْتٌ عَاجِلٌ        إِنَّ الْحِمَامَ مِنَ الرَّزَايَا أَرْفَقُ

يَا بَرْقُ إِنْ جِئْتَ الدِّيَارَ وَأَهْلَهَا        وَعَلَا عَلَيْكَ مِنَ الْبَشَائِرِ رَوْنَقُ

كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى اللِّقَاءِ وَبَيْنَنَا        تِلْكَ الْحُرُوبُ وَبَابُ رَهْنٍ مُغْلَقُ

بَلِّغْ أَحِبَّتَنَا السَّلَامَ وَقُلْ لَهُمْ        إِنِّي بِدَيْرِ الرُّومِ قَاصٍ مُوثَقُ

ثم قالت: إذا وصلتم بي إلى عسكر المسلمين وصرتُ عندهم، أعرف كيف أدبِّر حيلةً في خديعتهم وقتلهم عن آخِرهم. فلما سمع النصارى كلامَ العجوز قبَّلوا يدَيْها، ووضعوها في الصندوق بعد أن ضربوها أشد الضربات الموجعات تعظيمًا لها؛ لأنهم يرون طاعتها من الواجبات، ثم قصدوا بها عسكر المسلمين كما ذكرنا.

هذا ما كان من أمر هذه اللعينة ذات الدواهي ومَن معها، وأما ما كان من أمر عسكر المسلمين، فإنهم لما نصرهم الله على أعدائهم، وغنموا ما كان في المراكب من الأموال والذخائر، قعدوا يتحدَّثون مع بعضهم، فقال ضوء المكان لأخيه: إن الله نصرنا بسبب عدلنا، وانقيادنا لبعضنا، فكُنْ يا شركان ممتثِلًا أمري في طاعة الله عز وجل. فقال شركان: حبًّا وكرامة. ومد يده إلى أخيه، وقال: إنْ جاءك ولد أعطيته ابنتي «قضى فكان». ففرح بذلك وصار يهنِّئ بعضهم بعضًا بالنصر على الأعداء، وهنَّأ الوزير دندان شركان وأخاه، وقال لهما: اعلما أيها الملكان أن الله نصرنا حيث وهبنا أنفسنا لله عز وجل، وهجرنا الأهل والأوطان، والرأي عندي أن نرحل وراءهم، ونحاصرهم ونقاتلهم؛ لعل الله أن يبلغنا مرادنا، ونستأصل أعداءنا، وإنْ شئتم فانزلوا في المراكب، وسيروا في البحر، ونحن نسير في البر، ونصبر على القتال، والطعن في النزال. ثم إن الوزير دندان ما زال يحرِّضهم على القتال، وأنشد قول مَن قال:

أَطْيَبُ الطَّيِّبَاتِ قَتْلُ الْأَعَادِي        وَاخْتِيَالِي عَلَى ظُهُورِ الْجِيَادِ

وَرَسُولٌ يَأْتِي بِوَعْدِ حَبِيبٍ        وَحَبِيبٌ يَأْتِي بِلَا مِيعَادِ

وقول آخَر:

وَإِنْ عَمَرْتَ جَعَلْتَ الْحَرْبَ وَالِدَةً        وَالْمَشْرَفِيَّ أَخًا وَالسَّمْهَرِيَّ أَبَا

بِكُلِّ أَشْعَثَ يَلْقَى الْمَوْتَ مُبْتَسِمًا        حَتَّى كَأَنَّ لَهُ فِي قَتْلِهِ أَرَبَا

فلما فرغ الوزير دندان من شعره قال: سبحان مَن أيَّدنا بنصره العزيز، وأظفرنا بغنيمة الفضة والإبريز، ثم أمَرَ ضوءُ المكان العسكرَ بالرحيل، فسافروا طالبين القسطنطينية، وجدُّوا في سيرهم حتى أشرفوا على مرج فسيح، وفيه كل شيء مليح ما بين وحوش تمرح، وغزلان تسنح، وكانوا قد قطعوا مفاوز كثيرة، وانقطع عنهم الماء ستةَ أيام، فلما أشرفوا على ذلك المرج، نظروا تلك العيون النابعة والأثمار اليانعة، وتلك الأرض كأنها جنة أخذت زخرفها وازَّيَّنَتْ، وسكرت أغصانها من رحيق الظل فتمايلَتْ، وجمعت بين عذوبة التنسيم واعتلال النسيم، فتدهش العقل والناظر كما قال الشاعر:

انْظُرْ إِلَى الرَّوْضِ النَّضِيرِ كَأَنَّمَا        نُشِرَتْ عَلَيْهِ مُلَاءَةٌ خَضْرَاءُ

فَإِذَا سَنَحْتَ بِلَحْظِ عَيْنِكَ لَا تَرَى        إِلَّا غَدِيرًا جَالَ فِيهِ الْمَاءُ

وَتَرَى بِنَفْسِكَ عِزَّةً فِي دَوْحِهِ        إِذْ فَوْقَ رَأْسِكَ حَيْثُ يَسْرِي لِوَاءُ

وكما قال الآخَر:

النَّهْرُ خَدٌّ بِالشُّعَاعِ مُوَرَّدٌ        قَدْ دَبَّ فِيهِ عِذَارُ ظلِّ الْبَانِ

وَالْمَاءُ فِي سُوقِ الْغُصُونِ خَلَاخِلُ        مِنْ فِضَّةٍ وَالزَّهْرُ كَالتِّيجَانِ

فلما نظر ضوء المكان إلى ذلك المرج الذي التفَّتْ أشجاره، وزهت أزهاره، وترنمت أطياره؛ نادى أخاه شركان، وقال له: يا أخي، إن دمشق ما فيها مثل هذا المكان، فلا نرحل منه إلا بعد ثلاثة أيام، حتى نأخذ لنا راحةً لأجل أن تنشط عساكر الإسلام، وتقوى نفوسهم على لقاء الكَفَرة اللئام، فأقاموا فيه، فبينما هم كذلك إذ سمعوا أصواتًا من بعيد، فسأل عنهم ضوء المكان، فقيل له: إنها قافلة تجار من بلاد الشام، كانوا نازلين في هذا المكان للراحة، ولعل العساكر صادفوهم، وربما أخذوا شيئًا من بضائعهم التي معهم حيث كانوا في بلاد الكفار. وبعد ساعة جاء التجار وهم صارخون يستغيثون بالملك، فلما رأى ضوء المكان ذلك أمَرَ بإحضارهم، فحضروا بين يديه وقالوا: أيها الملك، إنَّا كنَّا في بلاد الكفار، ولم ينهبوا منَّا شيئًا، فكيف ينهب أموالَنا إخواننا المسلمون، ونحن في بلادهم؟ فإننا لما رأينا عساكركم أقبلنا عليهم، فأخذوا ما كان معنا، وقد أخبرناك بما حصل لنا. ثم أخرجوا له كتاب ملك القسطنطينية، فأخذه شركان وقرأه، ثم قال لهم: سوف نرد عليكم ما أُخِذ منكم، ولكن الواجب ألَّا تحملوا تجارةً إلى بلاد الكفار. فقالوا: يا مولانا، إن الله سيَّرنا إلى بلادهم لنظفر بما لم يظفر به أحدٌ من الغزاة، ولا أنتم في غزوتكم. فقال لهم: وما الذي ظفرتم به؟ فقالوا: ما نذكر لك ذلك إلا في خلوة؛ لأن هذا الأمر إذا شاع بين الناس واطَّلَعَ عليه أحد، فيكون ذلك سببًا لهلاكنا وهلاك كلِّ مَن يتوجَّه إلى بلاد الروم من المسلمين. وكانوا قد خبَّئوا الصندوق الذي فيه اللعينة ذات الدواهي، فأخذهم ضوء المكان وأخوه، واختلَيَا بهم، فشرحوا لهما حديثَ الزاهد، وصاروا يبكون حتى أبكَوْهما. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 95﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن النصارى الذين في هيئة التجار، لما اختلى بهم ضوء المكان وأخوه شركان، شرحوا لهما حديث الزاهد، وبكوا حتى أبكَوْهما كما علَّمتهم الكاهنة ذات الدواهي، فرَقَّ قلبُ شركان للزاهد، وأخذته الرأفة عليه، وقامت به الحمية لله تعالى، وقال لهم: هل خلصتم هذا الزاهد أم هو في الدير إلى الآن؟ فقالوا: بل خلصناه، وقتلنا صاحب الدير من خوفنا على أنفسنا، ثم أسرعنا في الهرب خوفًا من العطب، وقد أخبرنا بعض الثقات أن في هذا الدير قناطير من الذهب والفضة والجواهر. ثم بعد ذلك أتوا بالصندوق، وأخرجوا منه تلك الملعونة كأنها قرن خيار شنبر من شدة السواد والنحول، وهي مكبَّلَة بتلك السلاسل والقيود، فلما نظرها ضوء المكان هو والحاضرون، ظنوا أنه رجل من خيار العباد، ومن أفضل الزهاد، خصوصًا وجبينها يضيء من الدهان الذي دهنت به وجهها؛ فبكى ضوء المكان وأخوه بكاءً شديدًا، ثم قامَا إليها وقبَّلَا يدَيْها ورجلَيْها، وصارا ينتحبان، فأشارت إليهما وقالت: كُفَّا عن هذا البكاء، واسمعا كلامي. فتركَا البكاء امتثالًا لأمرها، فقالت: اعلمَا أني قد رضيت بما صنعه بي مولاي؛ لأني أرى أن البلاء الذي نزل بي امتحان منه عز وجل، ومَن لم يصبر على البلاء والمحن، فليس له وصول إلى جنات النعيم، وكنتُ أتمنى أني أعود إلى بلادي لا جزعًا من البلاء الذي حلَّ بي، بل لأجل أن أموت تحت حوافر خيل المجاهدين الذين هم بعد القتل أحياء غير أموات. ثم أنشدَتْ هذه الأبيات:

الْحِصْنُ طُورٌ وَنَارُ الْحَرْبِ مُوقدَةٌ        وَأَنْتَ مُوسَى وَهَذَا الْوَقْتُ مِيقَاتُ

أَلْقِ الْعَصَا تَتَلَقَّفْ كُلَّ مَا صَنَعُوا        وَلَا تَخَفْ مَا حِبَالُ الْقَوْمِ حَيَّاتُ

فَاقْرِئْ صُدُورَ الْعِدَى يَوْمَ الْوَغَى سُوَرًا        فَإِنَّ سَيْفَكَ فِي الْأَعْنَاقِ آيَاتُ

فلما فرغت العجوز من شعرها، تناثرت من عينَيْها المدامع، وجبينها بالدهان كالضوء اللامع، فقام إليها شركان وقبَّلَ يدها، وأحضر لها الطعام، فامتنعت وقالت: إني لم أفطر من مدة خمسة عشر عامًا، فكيف أفطر في هذه الساعة، وقد جاد عليَّ المولى بالخلاص من أسرِ الكفار، ودفع عني ما هو أشق من عذاب النار؟ فأنا أصبر إلى الغروب. فلما جاء وقت العشاء، أقبل شركان هو وضوء المكان، وقدَّمَا إليها الأكل وقالَا لها: كُلْ أيها الزاهد. فقالت: ما هذا وقت الأكل، وإنما هذا وقت عبادة الملك الديان. ثم انتصبت في المحراب تصلِّي إلى أن ذهب الليل، ولم تزل على هذه الحالة ثلاثة أيام بلياليها، وهي لا تقعد إلا وقت التحية، فلما رآها ضوء المكان على تلك الحالة ملك قلبه حُسْن الاعتقاد فيها، وقال لشركان: اضرب خيمة من الأديم لذلك العابد، ووكِّلْ فرَّاشًا بخدمته. وفي اليوم الرابع دعت الطعام، فقدَّموا لها من الألوان ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، فلم تأكل من ذلك كله إلا رغيفًا واحدًا بملح، ثم نَوَتِ الصومَ، ولما جاء الليل قامت إلى الصلاة، فقال شركان لضوء المكان: أمَّا هذا الرجل فقد زهد الدنيا غايةَ الزهد، ولولا هذا الجهاد لَكنتُ لازمْتُه وأعبد الله بخدمته حتى ألقاه، وقد اشتهيتُ أن أدخل معه الخيمة وأتحدَّث معه ساعة. فقال له ضوء المكان: وأنا كذلك، ولكن نحن في غدٍ ذاهبون إلى غزو القسطنطينية، ولم نجد لنا ساعة مثل هذه الساعة. فقال الوزير دندان: وأنا الآخَر أشتهي أن أرى هذا الزاهد لعله يدعو لي بقضاء نحبي في الجهاد، ولقاء ربي، فإني زهدت الدنيا.

فلما جنَّ عليهم الليل دخلوا على تلك الكاهنة ذات الدواهي في خيمتها، فرأوها قائمةً تصلي، فدنوا منها، وصاروا يبكون رحمة لها، وهي لا تلتفت إليهم إلى أن انتصف الليل، فسلَّمت من صلاتها، ثم أقبلت عليهم وحيَّتهم، وقالت لهم: لماذا جئتم؟ فقالوا لها: أيها العابد، أَمَا سمعتَ بكاءنا حولك؟ فقالت: إن الذي يقف بين يدي الله لا يكون له وجود في الكون حتى يسمع صوتَ أحدٍ أو يراه. ثم قالوا: إننا نشتهي أن تحدِّثنا بسبب أَسْرِك، وتدعو لنا في هذه الليلة، فإنها خيرٌ لنا من ملك القسطنطينية. فلما سمعت كلامهم قالت: والله لولا أنكم أمراء المسلمين ما أحدِّثكم بشيء من ذلك أبدًا، فإني لا أشكو إلا إلى الله، وها أنا أخبركم بسبب أسري.

 

حكاية الدير

اعلموا أنني كنتُ في القدس مع بعض الأبدال وأرباب الأحوال، وكنتُ لا أتكبر عليهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى أنعم عليَّ بالتواضع والزهد، فاتفق أنني توجَّهت إلى البحر ليلةً، ومشيت على الماء، فداخَلَني العُجْب من حيث لا أدري، وقلت في نفسي: مَن مثلي يمشي على الماء؟ فقسا قلبي من ذلك الوقت، وابتلاني الله بحب السفر، فسافرتُ إلى بلاد الروم، وجلتُ في أقطارها سنةً كاملة حتى لم أترك موضعًا إلا عبدتُ الله فيه، فلمَّا وصلتُ إلى هذا المكان صعدتُ إلى هذا الجبل، وفيه دير راهب يقال له «مطروحني»، فلما رآني خرج إليَّ وقبَّلَ يدي ورجلي، وقال: إني رأيتك منذ دخلت بلاد الروم، وقد شوَّقتني إلى بلاد الإسلام. ثم أخذ بيدي، وأدخلني في ذلك الدير، ثم دخل بي إلى بيت مظلم، فلما دخلت فيه غافلني وأغلق عليَّ الباب، وتركني فيه أربعين يومًا من غير طعام ولا شراب، وكان قصده بذلك قتلي صبرًا، فاتفق في بعض الأيام أنه دخل ذلك الديرَ بطريقٌ يقال له دقيانوس، ومعه عشرة من الغلمان، ومعه ابنة يقال لها «تماثيل»، ولكنها في الحُسْن ليس لها مثيل، فلما دخلوا الدير أخبرهم الراهب مطروحني بخبري، فقال البطريق: أخرِجوه لأنه لم يبقَ من لحمه ما يأكله الطير. ففتحوا باب ذلك البيت المظلم، فوجدوني منتصبًا في المحراب أصلِّي وأقرأ وأسبِّح وأتضرَّع إلى الله تعالى، فلما رأوني على تلك الحالة قال مطروحني: إن هذا ساحر من السَّحَرَة. فلما سمعوا كلامه قاموا جميعًا ودخلوا عليَّ، وأقبل عليَّ دقيانوس هو وجماعته وضربوني ضربًا عنيفًا، فعند ذلك تمنَّيْتُ الموت، ولمت نفسي وقلت: هذا جزاءُ مَن يتكبَّر ويُعجب بما أنعم عليه ربُّه مما ليس في طاقته، وأنتِ يا نفسي قد داخلك العُجْب والكِبْر، أَمَا علمتِ أن الكِبْر يُغضِب الرب ويقسي القلب، ويُدخِل الإنسان النارَ.

ثم بعد ذلك قيَّدوني وردُّوني إلى مكاني، وكان سردابًا في ذلك البيت تحت الأرض، وكل ثلاثة أيام يرمون إليَّ قرصة من الشعير، وشربة ماء، وكل شهرين يأتي البطريق ويدخل ذلك الدير، وقد كبرت ابنته تماثيل؛ لأنها كانت بنت تسع سنين حين رأيتها، ومضى لي في الأسر خمس عشرة سنة، فجملة عمرها أربعة وعشرون عامًا، وليس في بلادنا ولا في بلاد الروم أحسن منها، وكان أبوها يخاف عليها من الملك أن يأخذها منه؛ لأنها وهبت نفسها للمسيح، غير أنها تركب مع أبيها في زيِّ الرجال الفرسان، وليس لها مثيل في الحُسْن، ولم يعلم مَن رآها أنها جارية، وقد خزن أبوها أموالَه في هذا الدير؛ لأن كلَّ مَن كان عنده شيء من نفائس الذخائر يضعه في ذلك الدير، وقد رأيت فيه من أنواع الذهب والفضة والجواهر، وسائر الأواني والتحف، ما لا يُحصِي عددَه إلا الله تعالى، فأنتم أولى به من هؤلاء الكفرة، فخذوا ما في هذا الدير، وأنفقوه على المسلمين، وخصوصًا المجاهدين. ولما وصل هؤلاء التجار إلى القسطنطينية، وباعوا بضاعتهم، كلَّمتهم تلك الصورة التي في الحائط كرامةً أكرمني الله بها، فجاءوا إلى ذلك الدير، وقتلوا البطريق مطروحني بعد أن عاقبوه أشد العقاب، وجرُّوه من لحيته، فدلَّهم على موضعي فأخذوني، ولم يكن لهم سبيل إلا الهرب خوفًا من العطب. وفي ليلة غدٍ تأتي «تماثيل» إلى ذلك الدير على عادتها، ويلحقها أبوها مع غلمانه؛ لأنه يخاف عليها، فإن شئتم أن تشاهدوا هذا الأمر فخذوني بين أيديكم، وأنا أسلِّم إليكم الأموال وخزانة البطريق دقيانوس التي في ذلك الجبل، وقد رأيتهم يُخرِجون أواني الذهب والفضة يشربون فيها، ورأيت عندهم جارية تغنِّي لهم بالعربي، فوا حسرتاه لو كان الصوت الحَسَن في قراءة القرآن! وإن شئتم فادخلوا ذلك الدير واكمنوا فيه إلى أن يصل دقيانوس ومعه ابنته، فخذوها فإنها لا تصلح إلا لملك الزمان شركان، وللملك ضوء المكان.

ففرحوا بذلك حين سمعوا كلامها إلا الوزير دندان، فإنه ما دخل كلامُها في عقله، وإنما كان يتحدَّث معها لأجل خاطر الملك، وصار باهتًا من كلامها، ويلوح على وجهه علامة الإنكار عليها، فقالت العجوز ذات الدواهي: إني أخاف أن يُقبِل البطريق، وينظر هذه العساكر في المرج، فما يجسر أن يدخل الدير. فأمر السلطان العسكرَ أن يرحلوا صوب القسطنطينية، وقال ضوء المكان: إن قصدي أن نأخذ معنا مائة فارس، وبغالًا كثيرة، ونتوجَّه إلى ذلك الجبل، لأجل أن نحملهم المال الذي في الدير. ثم أرسَلَ من وقته وساعته إلى الحاجب الكبير، فأحضره بين يديه، وأحضر المقدمين والأتراك والديلم، وقال: إذا كان وقت الصباح، فارحلوا إلى القسطنطينية، وأنت أيها الحاجب تكون عوضًا عني في الرأي والتدبير، وأنت يا رستم تكون نائبًا عن أخي في القتال، ولا تُعلِموا أحدًا أننا لسنا معكم، وبعد ثلاثة أيام نلحقكم. ثم انتخب مائة فارس من الأبطال، وانحازَ هو وأخوه شركان والوزير دندان والمائة فارس، وأخذوا معهم البغال والصناديق لأجل حمل المال. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 96﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن شركان وأخاه ضوء المكان والوزير دندان، سافروا هم والمائة خيَّال إلى الدير الذي وصفته لهم اللعينةُ ذات الدواهي، وأخذوا معهم البغال والصناديق لأجل حمل المال، فلما أصبح الصباح، نادى الحاجب بين العسكر بالرحيل، فرحلوا وهم يظنون أن شركان وضوء المكان والوزير دندان معهم، ولم يعلموا أنهم ذهبوا إلى الدير.

هذا ما كان من أمرهم، وأما ما كان من أمر شركان وأخيه ضوء المكان والوزير دندان، فإنهم أقاموا إلى آخِر النهار، وكان الكفار أصحاب ذات الدواهي رحلوا خفيةً بعد أن دخلوا عليها، وقبَّلوا يدَيْها ورجلَيْها، واستأذنوها في الرحيل، فأذنت لهم وأمرتهم بما شاءت من المكر، فلما جنَّ الظلام قامت العجوز وقالت لضوء المكان هو وأصحابه: قوموا معي إلى الجبل، وخذوا معكم قليلًا من العسكر، فأطاعوها وتركوا في سفح الجبل خمسة فوارس بين يدَيْ ذات الدواهي، وصارت عندها قوة من شدة فرحها، وصار ضوء المكان يقول: سبحان مَن قوَّى هذا الزاهد الذي ما رأينا مثله! وكانت الكاهنة قد أرسلَتْ كتابًا على أجنحة الطير إلى ملك القسطنطينية تخبره فيه بما جرى، وقالت في آخِر الكتاب: أريد أن تنفذ لي عشرة آلاف فارس من شجعان الروم، يكون سيرهم في سفح الجبل خفيةً لئلا يراهم عسكر الإسلام، ويأتون إلى الدير ويكمنون فيه حتى أحضر إليهم ومعي ملك المسلمين وأخوه، فإني خدعتهما وجئت بهما ومعهما الوزير ومائة فارس لا غير، وسوف أسلِّم إليهم الصلبان التي في الدير، وقد عزمتُ على قتل الراهب مطروحني؛ لأن الحيلة لا تتم إلا بقتله، فإن تمت الحيلة فلا يصل من المسلمين إلى بلادهم لا ديَّار ولا مَن ينفخ النار، ويكون مطروحني فداء لأهل الملة النصرانية والعصابة الصليبية، والشكر للمسيح أولًا وآخِرًا. فلما وصل الكتاب إلى القسطنطينية، جاء براج الحمام إلى الملك أفريدون بالورقة، فلما قرأها أنفذ الجيش من وقته، وجهَّزَ كلَّ واحد بفرس وهجين وبغل وزاد، وأمرهم أن يصلوا إلى ذلك الدير.

هذا ما كان من أمر هؤلاء، وأما ما كان من أمر الملك ضوء المكان وأخيه شركان والوزير دندان والعسكر، فإنهم لما وصلوا إلى الدير دخلوه، فرأوا الراهب مطروحني قد أقبل لينظر حالهم، فقال الزاهد: اقتلوا هذا اللعين. فضربوه بالسيوف، وأسقوه كأس الحتوف، ثم مضت بهم الملعونة إلى موضع النذور، فأخرجوا منه من التحف والذخائر أكثرَ مما وصفته لهم، وبعد أن جمعوا ذلك وضعوه في الصناديق، وحملوه على البغال، وأما «تماثيل» فإنها لم تحضر لا هي ولا أبوها خوفًا من المسلمين، فأقام ضوء المكان في انتظارها ذلك النهار، وثاني يوم وثالث يوم، فقال شركان: والله إن قلبي مشغول بعسكر الإسلام، ولا أدري ما حالهم. فقال أخوه: إنَّا قد أخذنا هذا المال العظيم، وما أظن أن «تماثيل» ولا غيرها يأتي إلى هذا الدير بعد أن جرى لعسكر الروم ما جرى، فينبغي أننا نقنع بما يسَّرَه الله لنا، ونتوجَّه لعل الله يُعِيننا على فتح القسطنطينية.

ثم نزلوا من الجبل، فما أمكن ذات الدواهي أن تتعرَّض لهم خوفًا من التفطُّن لخداعها، ثم إنهم ساروا إلى أن وصلوا إلى باب الشِّعب، وإذا بالعجوز قد أكمنت لهم عشرة آلاف فارس، فلما رأوهم احتاطوا بهم من كل جانب، وأشرعوا الرماح، وجرَّدوا عليهم بيض الصفاح، ونادى الكفار بكلمة كفرهم، وفرَّقوا سهامَ شرِّهم، فنظر ضوء المكان وأخوه شركان والوزير دندان إلى هذا الجيش، فرأوه جيشًا عظيمًا، وقالوا: مَن أعلم هذه العساكر بنا؟ فقال شركان: يا أخي، ما هذا وقت كلام، بل هذا وقت الضرب بالسيف والرمي بالسهام، فشدوا عزمكم وقوُّوا نفوسكم؛ لأن هذه الشِّعب مثل الدرب لها بابان، وحقِّ سيد العرب والعجم، لولا أن هذا المكان ضيِّق لَكنتُ أفنيتُهم، ولو كانوا مائة ألف فارس. فقال ضوء المكان: لو علمنا ذلك لَأخذنا معنا خمسة آلاف فارس. فقال الوزير دندان: لو كان معنا عشرة آلاف فارس في هذا المكان الضيق لا تفيدنا شيئًا، ولكن الله يعيننا عليهم، وأنا أعرف هذه الشِّعب وضيقها، وأعرف أن فيها مفاوز كثيرة؛ لأني قد غزوتُ فيها مع الملك عمر النعمان حين حاصرنا القسطنطينية، وكنَّا نقيم فيها، وفيها ماء أبرد من الثلج، فانهضوا بنا لنخرج من هذه الشعب قبل أن يكثر علينا عساكر الكفار، ويسبقونا إلى رأس الجبل، فيرموا علينا الحجارة، ولا نملك فيهم أربًا. فأخذوا في الإسراع بالخروج من تلك الشعب، فنظر إليهم الزاهد وقال لهم: ما هذا الخوف وأنتم قد بعتم أنفسكم لله تعالى في سبيله؟ والله إني مكثتُ مسجونًا تحت الأرض خمسة عشر عامًا، ولم أعترض على الله فيما فعل بي، فقاتِلوا في سبيل الله، فمَن قُتِل منكم فالجنة مأواه، ومَن قتل فإلى الشرف مسعاه.

فلما سمعوا من الزاهد هذا الكلامَ زال عنهم الهمُّ والغمُّ، وثبتوا حتى هجم عليهم الكفار من كل مكان، ولعبت في أعناقهم السيوف، ودارت بينهم كأس الحتوف، وقاتَلَ المسلمون في طاعة الله أشد القتال، وأَعْمَلوا في أعدائه الأسِنَّةَ والنصال، وصار ضوء المكان يضرب الرجال، ويجندل الأبطال، ويرمي رءوسهم خمسة خمسة، وعشرة عشرة، حتى أفنى منهم عددًا لا يُحصَى، وأحمالًا لا تُستقصَى، فبينما هو كذلك إذ نظر الملعونة وهي تشير بالسيف إليهم وتقويهم، وكل مَن خاف يهرب إليها، وصارت تومئ إليهم بقتل شركان، فيميلون إلى قتله فرقة بعد فرقة، وكل فرقة حملت عليه يحمل عليها ويهزمها، وتأتي بعدها فرقة أخرى حاملة عليه فيردها بالسيف على أعقابها، فظن أن نصره عليهم ببركة العابد، وقال في نفسه: إن هذا العابد قد نظر الله إليه بعين عنايته، وقوَّى عزمي على الكفار بخالص نيته، فأراهم يخافونني، ولا يستطيعون الإقدامَ عليَّ، بل كلما حملوا عليَّ يولون الأدبار، ويركنون إلى الفرار.

ثم قاتلوا بقيةَ يومهم إلى آخِر النهار، ولما أقبل الليل نزلوا في مغارة من تلك الشعب من كثرة ما حصل لهم من الوبال ورمي الحجارة، وقُتِل منهم في ذلك اليوم خمسة وأربعون رجلًا، ولما اجتمعوا مع بعضهم فتَّشوا على ذلك الزاهد، فلم يروا له أثرًا، فعظم عليهم ذلك وقالوا: لعله استشهد. فقال شركان: أنا رأيتُه يقوِّي الفرسان بالإشارات الربانية، ويعيذهم بالآيات الرحمانية. فبينما هم في الكلام، وإذا بالملعونة ذات الدواهي قد أقبَلَتْ، وفي يدها رأس البطريق الكبير الرئيس على العشرين ألفًا، وكان جبَّارًا عنيدًا، وشيطانًا مريدًا، وقد قتله رجل من الأتراك بسهم، فعجَّلَ الله بروحه إلى النار، فلما رأى الكفار ما فعل ذلك المسلم بصاحبهم مالوا بكليتهم عليه، وأوصلوا الأذيَّة إليه، وقطَّعوه بالسيوف، فعجَّلَ الله به إلى الجنة.

ثم إن الملعونة قطعت رأس ذلك البطريق، وأتَتْ بها وألقتها بين يدي شركان والملك ضوء المكان والوزير دندان، فلما رآها شركان وثب قائمًا على قدمَيْه، وقال: الحمد لله على رؤيتكَ أيها العابد المجاهد الزاهد. فقالت: يا ولدي، إني قد طلبتُ الشهادة في هذا اليوم، فصرتُ أرمي روحي بين عسكر الكفَّار، وهم يهابونني، فلما انفصلتم أخذتني الغيرة عليكم، وهجمت على البطريق الكبير رئيسهم، وكان يُعَدُّ بألف فارس، فضربته حتى أطحتُ رأسَه عن بدنه، ولم يقدر أحد من الكفار أن يدنو مني، وأتيت برأسه إليكم. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 97﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن اللعينة ذات الدواهي لما أخذت رأس البطريق رئيس العشرين ألف كافر، أتت بها وألقتها بين يدَي الملك ضوء المكان وأخيه شركان والوزير دندان، وقالت لهم: لما رأيتُ حالَكم، أخذتني الغيرةُ عليكم، وهجمتُ على البطريق الكبير وضربته بالسيف، فأطحتُ رأسَه ولم يقدر أحد من الكفار أن يدنو مني، وأتيت برأسه إليكم لتقوى نفوسكم على الجهاد، وترضوا بسيوفكم ربَّ العباد، وأريد أن أشغلكم في الجهاد، وأذهب إلى عسكركم، ولو كانوا على باب القسطنطينية، وآتيكم من عندهم بعشرين ألف فارس يهلكون هؤلاء الكفرة. فقال شركان: وكيف تمضي إليهم أيها الزاهد والوادي مسدود بالكفار من كل جانب؟ فقالت الملعونة: الله يسترني عن أعينهم فلا يرونني، ومَن رآني لا يجسر أن يُقبِل عليَّ، فإني في ذلك الوقت أكون فانيًا في الله، وهو يقاتل عني أعداءَه. فقال شركان: صدقتَ أيها الزاهد؛ لأني شاهدت ذلك، وإذا كنتَ تقدر أن تمضي أول الليل يكون ذلك أجود لنا. فقال: أنا أمضي في هذه الساعة، وإن كنتَ تريد أن تجيء معي ولا يراك أحد فقُمْ، وإن كان أخوك يذهب معنا أخذناه دون غيره، فإنَّ ظلَّ الوليِّ لا يستر غير اثنين. فقال شركان: أمَّا أنا فلا أترك أصحابي، ولكن إذا كان أخي يرضى بذلك فلا بأس حيث ذهب معك وخلص من هذا الضيق، فإنه هو حصن المسلمين وسيف رب العالمين، وإنْ شاء فَلْيأخذ معه الوزير دندان أو مَن يختار، ثم يرسل إلينا عشرة آلاف فارس إعانةً على هؤلاء اللئام. واتفقوا على هذا الحال، ثم إن العجوز قالت: أمهلوني حتى أذهب قبلكم، وأنظر حال الكفرة، هل هم نيام أو يقظانون؟ فقالوا: ما نخرج إلا معك، ونسلم أمرنا لله. فقالت: إذا طاوعتكم لا تلوموني ولوموا أنفسكم، فالرأي عندي أن تمهلوني حتى أكشف خبرهم. فقال شركان: امضِ إليهم ولا تبطئ علينا؛ لأننا ننتظرك. فعند ذلك خرجت ذات الدواهي، وكان شركان حدَّث أخاه بعد خروجهما، وقال: لولا أن هذا الزاهد صاحب كرامات ما قتل هذا البطريق الجبَّار، وفي هذا القدر كفاية في كرامة هذا الزاهد، وقد انكسرت شوكة الكفار بقتل هذا البطريق؛ لأنه كان جبَّارًا عنيدًا، وشيطانًا مريدًا.

فبينما هم يتحدثون في كرامات الزاهد، وإذا باللعينة ذات الدواهي قد دخلت عليهم، ووعدتهم بالنصر على الكفرة، فشكروا الزاهد على ذلك، ولم يعلموا أن هذا حيلة وخداع، ثم قالت اللعينة: أين ملك الزمان ضوء المكان؟ فأجابها بالتلبية، فقالت له: خذ معك وزيرك، وسِرْ خلفي حتى نذهب إلى القسطنطينية. وكانت ذات الدواهي قد أعلمت الكفار بالحيلة التي عملتها، ففرحوا بذلك غاية الفرح، وقالوا: ما يجبر خاطرنا إلا قتل ملكهم في نظير قتل البطريق؛ لأنه لم يكن عندنا أفرس منه. وقالت العجوز النحس ذات الدواهي حين أخبرتهم بأنها تذهب إليهم بملك المسلمين: إذا أتيتُ به نأخذه إلى الملك أفريدون. ثم إن العجوز ذات الدواهي توجَّهت وتوجَّهَ معها ضوء المكان والوزير دندان، وهي سابقة عليهما تقول لهما: سيروا على بركة الله تعالى. فأجاباها إلى قولها، ونفذ فيهما سهم القضاء والقدر، ولم تَزَلْ سائرةً بهما حتى توسَّطت بهما عسكر الروم، ووصلوا إلى الشعب المذكورة الضيقة، وعساكر الكفار ينظرون إليهم ولا يتعرضون لهم بسوء؛ لأن الملعونة أوصتهم بذلك. فلما نظر ضوء المكان والوزير دندان إلى عساكر الكفار، وعرفوا أن الكفار عاينوهم ولم يتعرَّضوا لهم، قال الوزير دندان: والله إن هذه كرامة من الزاهد، ولا شك أنه من الخواص. فقال ضوء المكان: والله ما أظن الكفار إلا عميانًا؛ لأننا نراهم وهم لا يروننا. فبينما هما في الثناء على الزاهد، وتعداد كراماته وزهده وعبادته، وإذا بالكفار قد هجموا عليهما، واحتاطوا بهما وقبضوا عليهما، وقالوا: هل معكما أحد غيركما فنقبض عليه؟ فقال الوزير دندان: أَمَا ترون هذا الرجلَ الآخَر الذي بين أيدينا؟ فقال لهم الكفار: وحق المسيح والرهبان والجاثليق والمطران إننا لم نَرَ أحدًا غيركما. فقال ضوء المكان: والله إن الذي حلَّ بنا عقوبة لنا من الله تعالى. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 98﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الكفار لما قبضوا على الملك ضوء المكان والوزير دندان، قالوا لهما: هل معكما غيركما فنقبض عليه؟ فقال الوزير دندان: أَمَا ترون هذا الرجلَ الآخَر الذي معنا؟ قالوا: وحق المسيح والرهبان والجاثليق والمطران إننا ما نرى أحدًا غيركما، ثم إن الكفار قد وضعوا القيودَ في أرجلهما، ووكَّلوا بهما مَن يحرسهما في المبيت، فصارَا يتأسَّفان ويقولان لبعضهما: إن الاعتراض على الصالحين يؤدِّي إلى أكثر من ذلك، وجزاؤنا ما حلَّ بنا من الضيق الذي نحن فيه.

هذا ما كان من أمر ضوء المكان والوزير دندان، وأما ما كان من أمر الملك شركان، فإنه بات تلك الليلة، فلما أصبح الصباح قام وصلَّى صلاة الصبح، ثم نهض هو ومَن معه من العساكر، وتأهَّبوا لقتال الكفار، وقوَّى قلوبهم شركان، ووعدهم بكل خير، ثم ساروا إلى أن وصلوا إلى الكفار، فلما رآهم الكفار من بعيد قالوا لهم: يا مسلمون، إنَّا أسرنا سلطانكم ووزيره الذي به انتظام أمركم، وإن لم ترجعوا عن قتالنا قتلناكم عن آخِركم، وإذا سلَّمتم لنا أنفسكم، فإننا نروح بكم إلى ملكنا فيصالحكم على ألَّا تخرجوا من بلادنا، ولا تذهبوا إلى بلادكم، ولا تضرونا بشيء ولا نضركم بشيء، فإن طاب خاطركم كان الحظ لكم، وإن أبيتم فما يكون إلا قتلكم، وقد عرفناكم وهذا آخِر كلامنا معكم. فلما سمع شركان كلامهم، وتحقَّقَ أسْرَ أخيه والوزير دندان عظم عليه ذلك، وبكى وضعفت قوته، وأيقن بالهلاك، فقال في نفسه: يا تُرَى ما سبب أسرهما؟ هل حصل منهما إساءة أدب في حق الزاهد واعتراضَا عليه؟ أو ما شأنهما؟ ثم نهضوا إلى قتال الكفار، فقتلوا منهم خلقًا كثيرًا، وتبيَّن في ذلك اليومِ الشجاعُ من الجبان، واختضب السيف والسنان، وتهافَتَ عليهم الكفار تهافُت الذباب على الشراب من كل مكان، وما زال شركان ومَن معه يقاتلون قتال مَن لا يخاف الموت، ولا يعتريه في طلب الفرصة فوت، حتى سال الوادي بالدماء، وامتلأت الأرض بالقتلى، فلما أقبل الليل تفرَّقت الجيوش، وكلٌّ من الفريقين ذهب إلى مكانه، وعاد المسلمون إلى تلك المغارة، ولم يبقَ منهم إلا القليل، لم يكن منهم إلا على الله والسيف تعويل، وقد قُتِل منهم في هذا النهار خمسة وثلاثون فارسًا من الأمراء والأعيان، وإنْ قُتِل بسيفهم من الكفَّار آلاف من الرجال والركبان. فلما عايَنَ شركان ذلك ضاق عليه الأمر، وقال لأصحابه: كيف العمل؟ فقال له أصحابه: لا يكون إلا ما يريده الله تعالى.

فلما كان ثاني يوم قال شركان لبقية العسكر: إن خرجتم للقتال ما بقي منكم أحد؛ لأنه لم يبقَ عندنا إلا قليل من الماء والزاد، والرأي الذي عندي فيه الرشاد أن تجرِّدوا سيوفكم، وتخرجوا وتقفوا على باب تلك المغارة لأجل أن تدفعوا عن أنفسكم كلَّ مَن يدخل عليكم، فلعل الزاهد أن يكون وصل إلى عسكر المسلمين ويأتينا بعشرة آلاف فارس، فيعينونا على قتال الكفرة، ولعل الكفار لم ينظروه هو ومَن معه. فقال له أصحابه: إن هذا الرأي هو الصواب، وما في سداده ارتياب. ثم إن العسكر خرجوا وملكوا باب المغارة، ووقفوا في طرفَيْه، وكلُّ مَن أراد أن يدخل عليهم من الكفار يقتلوه، وصاروا يدفعون الكفار عن الباب، وصبروا على قتال الكفار إلى أن ذهب النهار، وأقبل الليل بالاعتكار. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 99﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن عسكر المسلمين ملكوا باب المغارة، ووقفوا في طرفيه، وصاروا يدفعون الكفار عن الباب، وكلُّ مَن أراد أن يهجم عليه قتلوه، وصبروا على قتال الكفار إلى أن ولى النهار وأقبل الليل بالاعتكار، ولم يبقَ عند الملك شركان إلا خمسة وعشرون رجلًا لا غير، فقال الكفار لبعضهم: متى تنقضي هذه الأيام، فإننا قد تعبنا من قتال المسلمين. فقال بعضهم: قوموا نهجم عليهم، فإنه لم يبقَ منهم إلا خمسة وعشرون رجلًا، فإن لم نقدر عليهم نضرم عليهم النار، فإن انقادوا وسلَّموا أنفسهم إلينا أخذناهم أسارى، وإن أَبَوْا تركناهم حطبًا للنار حتى يصيروا عبرةً لأولي الأبصار، فلا رحم المسيح أباهم، ولا جعل مستقر النصارى مثواهم. ثم إنهم حملوا الحطب إلى باب المغارة، وأضرموا فيه النار، فأيقن شركان ومَن معه بالبوار، فبينما هم كذلك إذا بالبطريق الرئيس عليهم التفَتَ إلى المشير بقتلهم، وقال له: لا يكون قتلهم إلا عند الملك أفريدون لأجل أن يشفي غليله، فينبغي أننا نبقيهم عندنا أسارى، وفي غدٍ نسافر بهم إلى القسطنطينية، ونسلمهم إلى الملك أفريدون، فيفعل بهم ما يريد. فقالوا: هذا هو الرأي الصواب. ثم أمروا بتكتيفهم، وجعلوا عليهم حرَّاسًا.

فلما جنَّ الظلام اشتغل الكفار باللهو والطعام، ودعوا بالشراب، فشربوا حتى انقلب كلٌّ منهم على قفاه، وكان شركان وأخوه ضوء المكان مقيَّدين، وكذلك مَن معهم من الأبطال، فعند ذلك نظر شركان إلى أخيه وقال له: يا أخي كيف الخلاص؟ فقال ضوء المكان: والله لا أدري، وقد صرنا كالطير في الأقفاص. فاغتاظ شركان وتنهَّدَ من شدة غيظه؛ فانقطع الكتاف، فلما خلص من الوثاق قام إلى رئيس الحراس، وأخذ مفاتيح القيود من جيبه، وفكَّ ضوء المكان وفكَّ الوزير دندان، وفكَّ بقية العسكر، ثم التفت إلى أخيه ضوء المكان والوزير دندان، وقال: إني أريد أن أقتل من الحراس ثلاثة، ونأخذ ثيابهم ونلبسها نحن الثلاثة حتى نصير في زيِّ الروم، ونسير بينهم حتى لا يعرفوا أحدًا منَّا، ثم نتوجه إلى عسكرنا. فقال ضوء المكان: إن هذا الرأي غير صواب؛ لأننا إذا قتلناهم نخاف أن يسمع أحد شخيرهم، فينتبه إلينا الكفَّار فيقتلوننا، والرأي السديد أن نسير إلى خارج الشعب. فأجابوه إلى ذلك.

فلما صاروا بعيدًا عن الشعب بقليل رأوا خيلًا مربوطة، وأصحابها نائمون، فقال شركان لأخيه: ينبغي أن يأخذ كل واحد منَّا جوادًا من هذه الخيول. وكانوا خمسة وعشرين رجلًا، فأخذوا خمسة وعشرين جوادًا، وقد ألقى الله النومَ على الكفار لحكمة يعلمها، ثم إن شركان جعل يختلس من الكفار السلاحَ من السيوف والرماح حتى اكتفى، ثم ركبوا الخيل التي أخذوها وساروا، وكان في ظن الكفار أنه لا يقدر أحد على فكاك ضوء المكان وأخيه ومَن معهما من العساكر، وأنهم لا يقدرون على الهروب، فلما خلصوا جميعًا من الأسر، وصاروا في أمن من الكفار، التفَتَ إليهم شركان وقال لهم: لا تخافوا حيث سترنا الله، ولكن عندي رأي ولعله صواب. فقالوا: وما هو؟ قال: أريد أن تطلعوا فوق الجبل، وتكبِّروا كلكم تكبيرةً واحدةً، وتقولوا: لقد جاءتكم العساكر الإسلامية. ونصيح كلنا صيحة واحدة بقول: الله أكبر. فيفترق الجمع من ذلك، ولا يجدون لهم في هذا الوقت حيلة، فإنهم سكارى ويظنون أن عسكر المسلمين أحاطوا بهم من كل جانب، واختلطوا بهم، فيقعون ضربًا بالسيوف في بعضهم من دهشة السكر والنوم، فنقطعهم بسيوفهم ويدور السيف فيهم إلى الصباح. فقال ضوء المكان: إن هذا الرأي غير صواب، والصواب إننا نسير إلى عسكرنا ولا ننطق بكلمة؛ لأننا إن كبَّرنا تنبَّهوا لنا، ولحقونا فلم يسلم منَّا أحد. فقال شركان: والله لو تنبَّهوا لنا ما علينا بأس، وأشتهي أن توافقوني على هذا الرأي، وهو لا يكون إلا خيرًا. فأجابوه إلى ذلك، وطلعوا فوق الجبل، وصاحوا بالتكبير، فكبَّرَتْ معهم الجبال والأشجار والأحجار من خشية الله، فسمع الكفَّار ذلك التكبير، فصاح الكفار … وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 100﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن شركان قال: أشتهي أن توافقوني على هذا الرأي، وهو لا يكون إلا خيرًا. فأجابوه إلى ذلك، وطلعوا فوق الجبل، وصاحوا بالتكبير، فكبَّرَتْ معهم الجبال والأشجار والأحجار من خشية الله، فسمعه الكفَّار، فصاحوا على بعضهم ولبسوا السلاح، وقالوا: قد هجم علينا الأعداء وحق المسيح، ثم قتلوا من بعضهم ما لا يعلم عدده إلا الله تعالى. فلما كان الصباح فتَّشوا على الأسارى، فلم يجدوا لهم أثرًا، فقال رؤساؤهم: إن الذي فعل بكم هذه الفعال هم الأسارى الذين كانوا عندنا، فدونكم والسعي خلفهم حتى تلحقوهم فتسقوهم كأس الوبال، ولا يحصل لكم خوف ولا انذهال. ثم إنهم ركبوا خيولهم، وسعوا خلفهم، فما كان إلا لحظة حتى لحقوهم وأحاطوا بهم، فلما رأى ضوء المكان ذلك ازداد به الفزع، وقال لأخيه: إن الذي خفتُ من حصوله قد حصل، وما بقي لنا حيلة إلا الجهاد. فلزم شركان السكوت عن المقال، ثم انحدر ضوء المكان من أعلى الجبل، وكبَّر وكبَّرت معه الرجال، وعوَّلوا على الجهاد، وبيع أنفسهم في طاعة رب العباد.

فبينما هم كذلك وإذا بأصوات يصيحون بالتهليل والتكبير، والصلاة والسلام على البشير النذير، فالتفتوا إلى جهة الصوت فرأوا جيوش المسلمين، وعساكر الموحدين مُقبِلين، فلما رأوهم قويت قلوبهم، وحمل شركان على الكافرين، وهلَّلَ وكبَّرَ هو ومَن معه من الموحدين، فارتجَّتِ الأرض كالزلازل، وتفرَّقت عساكر الكفار في عرض الجبال، فتبعهم المسلمون بالضرب والطعان، وأطاحوا منهم الرءوس عن الأبدان، ولم يزل ضوء المكان هو ومَن معه من المسلمين يضربون في أعناق الكافرين إلى أن ولَّى النهار، وأقبل الليل بالاعتكار، ثم انحاز المسلمون إلى بعضهم، وباتوا مستبشرين طول ليلهم. فلما أصبح الصباح، وأشرق بنوره ولاح، رأوا بهرام مقدم الديلم، ورستم مقدم الأتراك، ومعهما عشرون ألف فارس مُقبِلين عليهم كالليوث العوابس، فلما رأوا ضوء المكان ترجَّلَ الفرسان، وسلَّموا عليه، وقبَّلوا الأرض بين يدَيْه، فقال لهم ضوء المكان: أبشروا بنصر المسلمين، وهلاك القوم الكافرين. ثم هنَّئوا بعضهم بالسلامة، وعظيم الأجر في القيامة.

وكان السبب في مجيئهم إلى هذا المكان، أن الأمير بهرام والأمير رستم والحاجب الكبير لما ساروا بجيوش المسلمين والرايات على رءوسهم منشورة حتى وصلوا إلى القسطنطينية، رأوا الكفار قد طلعوا على الأسوار، وملكوا الأبراج والقلاع، واستعدوا في كل حصن مناع، حين علموا بقدوم العساكر الإسلامية، والأعلام المحمدية، وقد سمعوا قعقعة السلاح، وضجة الصياح، ونظروا فرأوا المسلمين، وسمعوا حوافر خيولهم من تحت الغبار، فإذا هم كالجراد المنتشر، والسحاب المنهمر، وسمعوا أصوات المسلمين بتلاوة القرآن، وتسبيح الرحمن، وكان السبب في إعلام الكفَّار بذلك ما دبَّرته العجوز ذات الدواهي من زورها وعهرها، وبهتانها ومكرها، حتى قربت العساكر كالبحر الزاخر من كثرة الرجال والفرسان، والنساء والصبيان، فقال أمير الترك لأمير الديلم: يا أمير، إننا بقينا على خطر من الأعداء الذين فوق الأسوار، فانظر إلى تلك الأبراج، وإلى هذا العالَم الذي كالبحر العجاج المتلاطم بالأمواج، إن هؤلاء الكفار قدرنا مائة مرة، ولا نأمن من جاسوس شره فيخبرهم أننا على خطر من الأعداء الذين لا يُحصَى عددهم، ولا ينقطع مددهم، خصوصًا مع غيبة الملك ضوء المكان وأخيه والوزير الأجَلِّ دندان، فعند ذلك يطمعون فينا لغيبتهم عنَّا؛ فيمحقوننا بالسيف عن آخِرنا، ولا ينجو منَّا ناجٍ، ومن الرأي أن تأخذ أنت عشرة آلاف فارس من المواصلة والأتراك، وتذهب بهم إلى دير مطروحني ومرج ملوخنا في طلب إخواننا وأصحابنا، فإن أطعتموني كنتم سببًا في الفرج عنهم إن كان الكفار قد ضيَّقوا عليهم، وإن لم تطيعوني فلا لوم عليَّ، وإذا توجَّهتم ينبغي أن ترجعوا إلينا مسرعين، فإن من الحزم سوء الظن. فعندها قَبِلَ الأميرُ المذكور كلامَه، وانتخبَا عشرين ألف فارس، وساروا يقطعون الطرقات طالبين المرج المذكور، والدير المشهور.

هذا ما كان من أمر سبب مجيئهم، وأما ما كان من أمر العجوز ذات الدواهي، فإنها لما أوقعت السلطان ضوء المكان وأخاه شركان والوزير دندان في أيدي الكفار، أخذت تلك العاهرة جوادًا وركبته وقالت للكفار: إني أريد أن ألحق عسكرَ المسلمين، وأتحيَّل على هلاكهم؛ لأنهم في القسطنطينية، فأُعلِمهم أن أصحابهم هلكوا، فإذا سمعوا ذلك مني تشتَّت شملُهم، وانصرم حبلهم، وتفرَّق جمعهم، ثم أدخل أنا على الملك أفريدون ملك القسطنطينية، وولدي الملك حردوب ملك الروم، وأخبرهما بهذا الخبر، فيخرجان بعساكرهما إلى المسلمين ويهلكونهم، ولا يتركون أحدًا منهم. ثم إنها سارت تقطع الأرض على ذلك الجواد طول الليل، فلما أصبح الصباح لاحَ لها عسكر بهرام ورستم، فدخلت بعض الغابات، وأخفت جوادها هناك، ثم خرجَتْ وتمشَّتْ قليلًا وهي تقول في نفسها: لعل عساكر المسلمين قد رجعوا منهزمين من حرب القسطنطينية. فلما قربت منهم نظرت إليهم، وتحقَّقت أعلامهم، فرأتها غير منكسة، فعلمت أنهم أتوا غير منهزمين، ولا خائفين على ملكهم وأصحابهم، فلما عايَنَتْ ذلك أسرعت نحوهم بالجري الشديد مثل الشيطان المريد إلى أن وصلت إليهم، وقالت لهم: العَجَل العَجَل يا جند الرحمن إلى جهاد حزب الشيطان. فلما رآها بهرام أقبَلَ عليها، وترجَّلَ وقبَّلَ الأرض بين يديها، وقال لها: يا ولي الله، ما وراءك؟ فقالت: لا تسأل عن سوء الحال، وشديد الأهوال، فإن أصحابنا لما أخذوا المال من دير مطروحني أرادوا أن يتوجَّهوا إلى القسطنطينية، فعند ذلك خرج عليهم عسكر جرَّار ذو بأس من الكفار.

ثم إن الملعونة أعادت عليهم الحديث إرجافًا ووجلًا، وقالت: إن أكثرهم هلك، ولم يبقَ منهم إلا خمسة وعشرون رجلًا. فقال بهرام: أيها الزاهد، متى فارقَتْهم؟ فقال: في ليلتي هذه. فقال بهرام: سبحان الذي طوى لك الأرض البعيدة، وأنت ماشٍ على قدمَيْك متكئًا على جريدة، لكنك من الأولياء الطيَّارة، الملهمين وحي الإشارة. ثم ركب على ظهر جواده وهو مدهوش وحيران بما سمعه من ذات الإفك والبهتان، وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، لقد ضاع تعبنا، وضاقت صدورنا، وأُسِر سلطاننا ومَن معه، ثم جعلوا يقطعون الأرض طولًا وعرضًا ليلًا ونهارًا. فلما كان وقت السَّحَر أقبلوا على رأس الشعب، فرأوا ضوء المكان وأخاه شركان يناديان بالتهليل والتكبير، والصلاة والسلام على البشير النذير، فحمل هو وأصحابه وأحاطوا بالكفار إحاطة السيل بالقفار، وصاحوا عليهم صياحًا ضجَّتْ منه الأبطال، وتصدَّعَتْ منه الجبال، فلما أصبح الصباح، وأشرق بنوره ولاح، فاحَ لهم من ضوء المكان طِيبَه ونشره، وتعارفوا ببعضهم كما تقدَّم ذكره، فقبَّلوا الأرض بين يدي ضوء المكان وأخيه شركان، وأخبرهم شركان بما جرى لهم في المغارة، فتعجَّبوا من ذلك، ثم قالوا لبعضهم: أسرعوا بنا إلى القسطنطينية؛ لأننا تركنا أصحابنا هناك، وقلوبنا عندهم. فعند ذلك أسرعوا في المسير، وتوكَّلوا على اللطيف الخبير، وكان ضوء المكان يقوِّي المسلمين على الثبات، وينشد هذه الأبيات:

لَكَ الْحَمْدُ يَا مُسْتَوْجِبَ الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ        فَمَا زِلْتَ لِي بِالْعَوْنِ يَا رَبُّ فِي أَمْرِي

رَبِيتُ غَرِيبًا فِي الْبِلَادِ وَكُنْتَ لِي        كَفِيلًا فَلَمْ أَخْشَ الرَّدَى أَبَدَ الدَّهْرِ

وَأَعْطَيْتَنِي مَالًا وَمُلْكًا وَنِعْمَةً        وَقَلَّدْتَنِي سَيْفَ الشَّجَاعَةِ وَالنَّصْرِ

وَخَوَّلْتَنِي ظِلَّ الْمَلِيكِ مُعَمِّرًا        وَقَدْ جُدْتَ لِي مِنْ فَيْضِ جُودِكَ بِالْغَمْرِ

وَسَلَّمْتَنِي مِنْ كُلِّ خَطْبٍ حَذِرْتُهُ        فَأَيْقَنْتُ أَنَّ الشَّرَّ يَقْضِي عَلَى الشَّرِّ

بِفَضْلِكَ قَدْ صُلْنَا عَلَى الرُّومِ صَوْلَةً        وَقَدْ رَجَعُوا بِالضَّرْبِ فِي حُلَلٍ حُمْرِ

وَأَظْهَرْتُ أَنِّي قَدْ هُزِمْتُ هَزِيمَةً        وَعُدْتُ عَلَيْهِمْ عَوْدَةَ الضَّيْغَمِ الْحُرِّ

تَرَكْتُهُمُ فِي الْقَاعِ صَرْعَى كَأَنَّهُمْ        نَشَاوَى بِكَأْسِ الْمَوْتِ لَا قَهْوَةِ الْخَمْرِ

وَصَارَتْ بِأَيْدِينَا الْمَرَاكِبُ كُلُّهَا        وَصَارَ لَنَا السُّلْطَانُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ

وَجَاءَ إِلَيْنَا الزَّاهِدُ الْعَابِدُ الَّذِي        كَرَامَتُهُ شَاعَتْ لَدَى الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ

أَتَيْنَا لِأَخْذِ الثَّأْرِ مِنْ كُلِّ كَافِرٍ        وَقَدْ شَاعَ عِنْدَ النَّاسِ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِي

وَقَدْ قَتَلُوا مِنَّا رِجَالًا فَأَصْبَحُوا        لَهُمْ غُرَفٌ فِي الْخُلْدِ تَعْلُو عَلَى نَهْرِ

فلما فرغ ضوء المكان من شعره، هنَّأه أخوه شركان بالسلامة، وشكره على أفعاله، ثم إنهم توجَّهوا مُجِدِّين المسيرَ. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

 

 

 

السابق                                                                     التــــالي←

 

 

Read our comment Policy to know your rights & responsibilities before actually leaving a comment for this article.

Post a Comment (0)