kurd-partuk

الليالي من--(1← 50)

﴿اللیلة 1﴾

حكاية التاجر مع العفريت

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أنه كان تاجر من التجار كثير المال والمعاملات في البلاد، قد ركب يومًا، وخرج يطالب في بعض البلاد، فاشتَدَّ عليه الحر، فجلس تحت شجرة وحطَّ يده في خُرجه، وأكل كسرة كانت معه وتمرة، فلما فرغ من أكل التمرة رمى النواة، وإذا هو بعفريت طويل القامة وبيده سيف، دنا من ذلك التاجر، وقال له: قُمْ حتى أقتلك مثلما قتلتَ ولدي. فقال له التاجر: كيف قتلتُ ولدَك؟ قال له: لما أكلتَ التمرة ورميتَ نواتها، جاءت النواة في صدر ولدي فقُضِي عليه ومات من ساعته. فقال التاجر للعفريت: اعلم أيها العفريت أني عليَّ دَيْنٌ، ولي مال كثير وأولاد وزوجة، وعندي رهون، فدعني أذهب إلى بيتي، وأعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، ثم أعود إليك ولك عليَّ عهد وميثاق أني أعود إليك، فافعل بي ما تريد، والله على ما أقول وكيل. فاستوثق منه الجني وأطلقه، فرجع إلى بلده، وقضى جميع تعلقاته، وأوصل الحقوق إلى أهلها، وأعلم زوجته وأولاده بما جرى له فبكوا، وكذلك جميع أهله ونسائه وأولاده، وأوصى وقعد عندهم إلى تمام السنة، ثم توجَّه وأخذ كفنه تحت إبطه، وودَّعَ أهله وجيرانه وجميع أهله، وخرج رغمًا عن أنفه، فأقاموا عليه العياط والصراخ، فمشى إلى أن وصل إلى ذلك البستان، وكان ذلك اليوم أول السنة الجديدة، فبينما هو جالس يبكي على ما يحصل له، وإذا بشيخ كبير قد أقبل عليه ومعه غزالة مُسَلْسَلَةٌ، فسلَّم على هذا التاجر وحيَّاه، وقال له: ما سبب جلوسك في هذا المكان وأنت منفرد، وهو مأوى الجن؟! فأخبره التاجر بما جرى له مع ذلك العفريت، وبسبب قعوده في هذا المكان، فتعجَّبَ الشيخُ صاحبُ الغزالة، وقال: واللهِ يا أخي ما دَينُك إلا دَيْنٌ عظيم، وحكايتك حكاية عجيبة، لو كُتِبت بالإبر على آماق البصر لَكانت عِبرةً لمَنِ اعتبر. ثم إنه جلس بجانبه وقال: واللهِ يا أخي لا أبرح من عندك حتى أنظر ما يجري لك مع ذلك العفريت. ثم إنه جلس عنده يتحدَّث معه، فغُشِي على ذلك التاجر، وحصل له الخوف والفزع، والغم الشديد والفكر المزيد، وصاحب الغزالة بجانبه، وإذا بشيخ ثانٍ قد أقبل عليهما، ومعه كلبتان سلاقيتان من الكلاب السود، فسألهما بعد السلام عليهما عن سبب جلوسهما في هذا المكان وهو مأوى الجن، فأخبراه بالقصة من أولها إلى آخِرها، فلم يستقرَّ به الجلوس حتى أقبل عليهم شيخٌ ثالث، ومعه بغلة زرزوريَّة، فسلَّمَ عليهم وسألهم عن سبب جلوسهم في هذا المكان، فأخبروه بالقصة من أولها إلى آخِرها وليس في الإعادة إفادة، وإذا بغبرة هاجت، وزوبعة عظيمة قد أقبلت من وسط تلك البرية، فانكشفتِ الغبرةُ؛ وإذا بذلك الجني وبيده سيف مسلول، وعيونه ترمي بالشرر، فأتاهم وجذب ذلك التاجر من بينهم، وقال له: قُمْ حتى أقتلك مثلما قتلتَ ولدي وحشاشةَ كبدي. فانتحب ذلك التاجر وبكى، وأعلن الثلاثة شيوخ بالبكاء والعويل والنحيب.

فانتبه منهم الشيخ الأول، وهو صاحب الغزالة، وقبَّل يد ذلك العفريت وقال له: أيها الجني وتاج ملوك الجان، إذا حكيتُ لك حكايتي مع هذه الغزالة، ورأيتها عجيبةً أتهب لي ثلُث دَمِ هذا التاجر؟ قال: نعم أيها الشيخ، إذا أنت حكيتَ لي الحكايةَ، ورأيتُها عجيبةً وهبتُ لك ثلثَ دمه.

فقال ذلك الشيخ الأول: اعلم أيها العفريت أن هذه الغزالة هي بنت عمي، ومن لحمي ودمِي، وكنتُ تزوَّجتُ بها وهي صغيرة السن، وأقمت معها نحو ثلاثين سنة، فلم أُرْزَقْ منها بولدٍ، فأخذتُ لي سريةً، فرُزِقت منها بولدٍ ذكرٍ كأنه البدر؛ إذ بَدَا بعينين مليحتين، وحاجبين مُزَجَّجَيْنِ، وأعضاء كاملة، فكبر شيئًا فشيئًا إلى أن صار ابن خمس عشرة سنة، فطرأت لي سفرةٌ إلى بعض المدائن، فسافرتُ بمتجر عظيم، وكانت بنت عمي هذه الغزالة تعلَّمَتِ السحر والكهانة من صغرها، فسحرَتْ ذلك الولدَ عِجْلًا، وسحرَتِ الجاريةَ أمَّه بقرةً، وسلَّمتهما إلى الراعي، ثم جئتُ أنا بعد مدة طويلة من السفر، فسألتُ عن ولدي وعن أمه، فقالت لي: جاريتك ماتَتْ، وابنك هرب ولم أعلم أين راح. فجلستُ مدةَ سنة وأنا حزين القلب باكي العين إلى أن جاء عيد الضحية، فأرسلتُ إلى الراعي أن يخصني ببقرة سمينة، فجاءني ببقرة سمينة وهي سريتي التي سحرتها تلك الغزالة، فشمَّرْتُ ثيابي، وأخذت السكين بيدي وتهيَّأْتُ لذبحها، فصاحت وبكت بكاءً شديدًا، فقمت عنها وأمرت ذلك الراعي بذبحها وسلخها، فذبحها وسلخها فلم يجد فيها شحمًا ولا لحمًا غير جلد وعظم، فندمتُ على ذبحها حيث لا ينفعني الندم، وأعطيتها للراعي وقلتُ له: ائتني بعجل سمين. فأتاني بولدي المسحور عجلًا، فلما رآني ذلك العجل قطع حبله، وجاءني وتمرَّغ عليَّ، وولول وبكى، فأخذتني الرأفة عليه، وقلت للراعي: ائتني ببقرة ودَعْ هذا.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح، فقالت لها أختها: ما أطيب حديثك، وألطفه وألَذَّه وأعذبه! فقالت لها: وأين هذا ممَّا أحدِّثكم به الليلةَ القابلة إن عشتُ وأبقاني الملك! فقال الملك في نفسه: والله ما أقتُلها حتى أسمع بقية حديثها. ثم إنهما باتَا تلك الليلة إلى الصباح متعانِقَيْنِ، فخرج الملك إلى محل حكمه، وطلع الوزير بالكفن تحت إبطه، ثم حكم الملك وولَّى وعزل إلى آخِر النهار، ولم يُخبر الوزير بشيء من ذلك؛ فتعجب الوزير غاية العجب، ثم انفَضَّ الديوان، ودخل الملك شهريار قصره.

﴿اللیلة 2﴾

قالت دنيازاد لأختها شهرزاد: يا أختي، أتممي لنا حديثك الذي هو حديث التاجر والجني. قالت: حبًّا وكرامة، إنْ أذِنَ لي الملك في ذلك. فقال لها الملك: احكي. فقالت: بلغني أيها الملك السعيد ذو الرأي الرشيد أنه لما رأى بكاء العجل حنَّ قلبه إليه، وقال للراعي: أبقِ هذا العجل بين البهائم. كلُّ ذلك والجني يتعجَّب من حكاية ذلك الكلام العجيب، ثم قال صاحب الغزالة: يا سيديي ملوك الجان، كل ذلك جرى وابنة عمي هذه الغزالة تنظر وترى وتقول: اذبح هذا العجل فإنه سمين، فلم يَهُنْ عليَّ أن أذبحه، وأمرتُ الراعي أن يأخذه، فأخذه وتوجَّه به، ففي ثاني يوم وأنا جالس وإذا بالراعي مقبل عليَّ، وقال: يا سيدي، إني أقول شيئًا تُسَرُّ به ولي البشارة. فقلت: نعم. فقال: أيها التاجر، إن لي بنتًا كانت تعلَّمَتِ السحر في صغرها من امرأةٍ عجوز كانت عندنا، فلما كنَّا بالأمس وأعطيتني العجلَ دخلْتُ به عليها، فنظرت إليه بنتي وغطَّتْ وجهها وبكت، ثم إنها ضحكت وقالت: يا أبي، قد خَسَّ قدري عندك حتى تُدخِل عليَّ الرجالَ الأجانب؟ فقلت لها: وأين الرجال الأجانب؟ ولماذا بكيتِ وضحكتِ؟ فقالت لي: إن هذا العجل الذي معك ابنُ سيدي التاجر، ولكنه مسحور وسحرته زوجة أبيه هو وأمه، فهذا سبب ضحكي، وأما سبب بكائي فمن أجل أمه حيث ذبحها أبوه. فتعجَّبْتُ من ذلك غاية العجب، وما صدقت بطلوع الصباح حتى جئتُ إليك لأُعلِمك. فلما سمعتُ أيها الجني كلامَ هذا الراعي خرجتُ معه وأنا سكران من غير مُدام من كثرة الفرح والسرور الذي حصل لي، إلى أن أتيت إلى داره، فرحَّبت بي ابنة الراعي وقبَّلَتْ يدي، ثم إن العجل جاء إليَّ وتمرَّغَ عليَّ، فقلت لابنة الراعي: أحقٌّ ما تقولينه عن ذلك العجل؟ فقالت: نعم يا سيدي، إنه ابنك وحشاشة كبدك. فقلتُ لها: أيتها الصبية، إنْ أنت خلَّصتِه، فلك عندي ما تحت يد أبيك من المواشي والأموال. فتبسَّمَتْ وقالت: يا سيدي، ليس لي رغبة في المال إلا بشرطين: الأول أن تزوِّجني به، والثاني أن أسحر مَن سحرَتْه وأحبسها؛ وإلا فلستُ آمن مكرها.

فلما سمعتُ أيها الجني كلامَ بنت الراعي قلتُ: ولك فوق ذلك جميع ما تحت يد أبيك من الأموال زيادة، وأما بنت عمي فدمُها لك مباح، فلما سمعتْ كلامي أخذت طاسة وملأتها ماء، ثم إنها عزمت عليها ورشَّت بها العجل، وقالت له: إن كان الله خلقك عجلًا فدُمْ على هذه الصفة ولا تتغير، وإن كنتَ مسحورًا فعُدْ إلى خلقَتِك الأولى بإذن الله تعالى. وإذا به انتفض، ثم صار إنسانًا، فوقعتُ عليه وقلتُ له: بالله عليك احْكِ لي جميع ما صنعَتْ بك وبأمك بنتُ عمي. فحكى لي جميع ما جرى لهما، فقلت: يا ولدي، قد قيَّضَ الله لك مَن خلَّصك وخلص حقك. ثم إني أيها الجني زوَّجتُه ابنة الراعي، ثم إنها سحرت ابنة عمي هذه الغزالة، وجئتُ إلى هنا فرأيتُ هؤلاء الجماعة فسألتهم عن حالهم، فأخبروني بما جرى لهذا التاجر، فجلستُ لأنظر ما يكون، وهذا حديثي.

فقال الجني: هذا حديث عجيب، وقد وهبتُ لك ثلث دمه، فعند ذلك تقدَّمَ الشيخ الثاني صاحب الكلبتين السلاقيتين، وقال له: اعلم يا سيد ملوك الجان أن هاتين الكلبتين أخواي، وأنا ثالثهما، ومات والدي وخلَّف لنا ثلاثة آلاف دينار، ففتحت أنا دكانًا أبيع فيه وأشتري، وسافر أخي بتجارته، وغاب عنَّا مدةَ سنة مع القوافل، ثمَّ أتى وما معه شيء، فقلت له: يا أخي، أَمَا أشرتُ عليك بعدم السفر؟! فبكى وقال: يا أخي، قدَّر الله - عز وجل - عليَّ بهذا ولم يَبْقَ لهذا الكلام فائدة، ولست أملك شيئًا. فأخذته وطلعت به إلى الدكان، ثم ذهبت به إلى الحمام وألبستُه حُلَّةً من الملابس الفاخرة، وأكلتُ أنا وإياه، وقلت له: يا أخي، إني أحسب ربح دكاني من السنة إلى السنة، ثم أقسمه دون رأس المال بيني وبينك. ثم إني عملتُ حسابَ الدكان من ربح مالي فوجدته ألفَيْ دينار؛ فحمدت الله - عز وجل - وفرحت غاية الفرح، وقسمت الربح بيني وبينه شطرين، وأقمنا مع بعضنا أيامًا، ثم إن أخويَّ طلبَا السفر أيضًا، وأرادَا أن أسافر معهما فلم أَرْضَ، وقلتُ لهما: أي شيء كسبتما في سفركما حتى أكسب أنا؟! فألحَّا عليَّ ولم أُطِعْهما، بل أقمنا في دكاكيننا نبيع ونشتري سنةً كاملة، وهما يعرضان عليَّ السفر حتى مضَتْ ستُّ سنوات كوامل، ثم وافقتهما على السفر وقلت لهما: يا أخويَّ، إننا نحسب ما عندنا من المال. فحسبناه فإذا هو ستة آلاف دينار، فقلت: ندفن نصفها تحت الأرض لينفعنا إذا أصابنا أمرٌ، ويأخذ كلُّ واحد منَّا ألفَ دينار ونتسبب فيها. قالَا: نِعْم الرأي. فأخذت المال وقسَّمتُه نصفين، ودفنت ثلاثة آلاف دينار، وأما الثلاثة آلاف دينار الأخرى، فأعطيت كلَّ واحد منَّا ألف دينار، وجهزنا بضائع، واكترينا مركبًا، ونقلنا فيها حوائجنا، وسافرنا مدة شهر كامل إلى أن دخلنا مدينة، وبِعْنَا بضائعنا، فربحنا في الدينار عشرة دنانير، ثم أردنا السفر فوجدنا على شاطئ البحر جارية عليها خلق مقطع، فقبَّلت يديَّ وقالت: يا سيدي، هل عندك إحسان ومعروف أجازيك عليهما؟ قلت: نعم، إن عندي الإحسان والمعروف ولو لم تجازِني. فقالت: يا سيدي، تزوَّجني وخذني إلى بلادك، فإني قد وهبتك نفسي، فافعل معي معروفًا؛ لأني ممَّن يُصنَع معه المعروف والإحسان ويجازي عليهما، ولا يغرَّنَّك حالي.

فلما سمعت كلامها حن قلبي إليها لأمر يريده الله - عز وجل - فأخذتها وكسوتها، وفرشت لها في المركب فرشًا حسنًا، وأقبلت عليها وأكرمتها، ثم سافرنا، وقد أحبها قلبي محبة عظيمة، وصرت لا أفارقها ليلًا ولا نهارًا، واشتغلت بها عن أخويَّ، فغارَا مني وحسداني على مالي، وكثرة بضاعتي، وطمحت عيونهما في المال جميعه، وتحدَّثَا بقتلي وأخذ مالي، وقالَا: نقتل أخانا ويصير المال جميعه لنا. وزيَّنَ لهم الشيطان أعمالهما، فجاءاني وأنا نائم بجانب زوجتي، وحملاني أنا وزوجتي ورميانا في البحر، فلما استيقظَتْ زوجتي انتفضَتْ فصارت عفريتة، وحملتني وأطلعتني على جزيرة، وغابت عني قليلًا، وعادت إليَّ عند الصباح، وقالت لي: أنا زوجتك التي حملتك ونجَّيْتُك من القتل بإذن الله تعالى، واعلم أني جنية، رأيتك فحَبَّك قلبي لله، وأنا مؤمنة بالله ورسوله ﷺ، فجئتك بالحال الذي رأيتني فيه فتزوَّجْتَ بي، وها أنا قد نجَّيْتُك من الغرق، وقد غضبتُ على أخوَيْك، ولا بد أن أقتلهما. فلما سمعت حكايتها تعجَّبْتُ، وشكرتها على فعلها، وقلت لها: أما هلاك أخويَّ فلا ينبغي. ثم حكيت لها ما جرى لي معهما من أول الزمان إلى آخره، فلما سمعت كلامي قالت: أنا في هذه الليلة أطير إليهما وأُغرِق مراكبهما وأُهلِكهما. فقلت لها: باللهِ عليك لا تفعلي؛ فإن صاحب المثل يقول: يا محسنًا لمَن أساء، كفى المسيء فعله. وهم أخواي على كل حال. قالت: لا بد من قتلهما. فاستعطفتها، ثم إنها حملتني وطارت فوضعتني على سطح داري، ففتحت الأبواب، وأخرجت الذي خبَّأته تحت الأرض، وفتحت دكاني بعدما سلَّمْتُ على الناس، واشتريت بضائع، فلما كان الليل دخلتُ داري فوجدت هذين الكلبين مربوطين فيها، فلما رأياني قامَا إليَّ وبكيَا، وتعلَّقَا بي، فلم أشعر إلا وزوجتي قالت: هذان أخواكَ. فقلت: مَن فعل بهما هذا الفعل؟ قالت: أنا أرسلتُ إلى أختي ففعلت بهما ذلك، ولا يتخلصان إلا بعد عشر سنوات. فجئتُ وأنا سائر إليها تخلصهما بعد إقامتهما عشر سنوات في هذه الحال، فرأيت هذا الفتى فأخبرني بما جرى له، فأردتُ ألَّا أبرح حتى أنظر ما يجري بينك وبينه، وهذه قصتي. قال الجني: إنها حكاية عجيبة، وقد وهبتُ لك ثلث دمه في جنايته.

﴿اللیلة 3﴾

قالت: بلغني أن الشيخ الثالث صاحب البغلة قال للجني: أنا أحكي لك حكايةً أعجب من حكاية الاثنين، وتهب لي باقي دمه وجنايته أيها الجني! قال: نعم. فقال الشيخ: أيها السلطان ورئيس الجان، إن هذه البغلة كانت زوجتي، سافرتُ وغبتُ عنها سنة كاملة، ثم قضيت سفري وجئت إليها في الليل، فرأيت عبدًا أسودَ راقدًا معها في الفراش، وهما في كلام وغنج وضحك وتقبيل وهراش، فلما رأتني عجلَتْ وقامت إليَّ بكوز فيه ماء، فتكلَّمت عليه ورشتني، وقالت: اخرج من هذه الصورة إلى صورة كلب. فصرتُ في الحال كلبًا، فطردتني من البيت، فخرجتُ من الباب ولم أزل سائرًا حتى وصلتُ إلى دكان جزَّار، فتقدَّمت وصرتُ آكل من العظام، فلما رآني صاحب الدكان أخذني ودخل بي بيته، فلما رأتني بنت الجزار غطَّت وجهها مني وقالت: أتجيء لنا برجل وتدخل علينا به؟! فقال أبوها: أين الرجل؟ قالت: إن هذا الكلب سحرَتْه امرأته وأنا أقدر على تخليصه. فلما سمع أبوها كلامها قال: بالله عليك يا بنتي خلِّصيه. فأخذت كوزًا فيه ماء وتكلَّمَتْ عليه، ورشَّت عليَّ منه قليلًا، وقالت: اخرج من هذه الصورة إلى صورتك الأولى. فصرت إلى صورتي الأولى، فقبَّلْتُ يدها وقلت لها: أريد أن تسحري زوجتي كما سحرتني. فأعطتني قليلًا من الماء، وقالت: إذا رأيتَها نائمةً رُشَّ هذا الماء عليها، فإنها تصير كما أنت طالب. فوجدتُها نائمةً فرشَشْتُ عليها الماء، وقلت: اخرجي من هذه الصورة إلى صورة بغلة، فصارت في الحال بغلة، وهي هذه التي تنظرها بعينك أيها السلطان ورئيس ملوك الجان. ثم التفَتَ إليها وقال: أصحيح؟ فهزَّتْ رأسها وقالت بالإشارة: نعم، هذا صحيح. فلما فرغ من حديثه اهتز الجني من الطرب، ووهب له ثلث دمه.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح، فقالت لها أختها: يا أختي، ما أحلى حديثك وأطيبه، وألذه وأعذبه! فقالت: وأين هذا ممَّا أحدثكم به الليلة القابلة إن عشتُ وأبقاني الملك؟ فقال الملك: واللهِ لا أقتلها حتى أسمع بقيةَ حديثها؛ لأنه عجيب. ثم باتَا تلك الليلة متعانقَيْن إلى الصباح، فخرج الملك إلى محل حكمه، ودخل عليه الوزير والعسكر، واحتبك الديوان، فحكم الملك وولَّى وعزَلَ، ونهى وأمَرَ إلى آخِر النهار، ثم انْفَضَّ الديوان، ودخل الملك شهريار إلى قصره. فلما أقبل الليل وقضى حاجته من بنت الوزير، قالت لها أختها دنيازاد: يا أختي، أَتمِمي لنا حديثك.

فقالت: حبًّا وكرامة، بلغني أيها الملك السعيد أن الشيخ الثالث لمَّا قال للجني حكايةً أعجب من الحكايتين، تعجَّبَ الجني غايةَ العجب، واهتَزَّ من الطرب، وقال: قد وهبتُ لك باقي جنايته وأطلقتُه لكم. فأقبل التاجر على الشيوخ وشكرهم وهنَّوه بالسلامة، ورجع كل واحد إلى بلده.


حكاية الصياد مع العفريت

وما هذه بأعجب من حكاية الصياد. فقال لها الملك: وما حكاية الصياد؟ قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنه كان رجل صياد، وكان طاعنًا في السن، وله زوجة وثلاثة أولاد، وهو فقير الحال، وكان من عادته أنه يرمي شبكته كل يوم أربعَ مرات لا غير، ثم إنه خرج يومًا من الأيام في وقت الظهر إلى شاطئ البحر، وحطَّ مقطفه وطرح شبكته، وصبر إلى أن استقرت في الماء، ثم جمع خيطانها فوجدها ثقيلة، فجذبها فلم يقدر على ذلك، فذهب بالطرف إلى البر، ودقَّ وتِدًا وربطها فيه، ثم تعرَّى وغطس في الماء حول الشبكة، وما زال يعالج حتى أطلعها، ففرح ولبس ثيابه وأتى إلى الشبكة، فوجد فيها حمارًا ميتًا، فلما رأى ذلك حزن وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ثم قال: إن هذا الرزق عجيب، وأنشد يقول:

يَا خَائِضًا فِي ظَلَامِ اللَّيْلِ وَالْهَلَكَةْ        أَقْصِرْ عَنَاكَ فَلَيْسَ الرِّزْقُ بِالْحَرَكَةْ

ثم إن الصياد لما رأى الحمار الميت خلَّصه من الشبكة وعصرها، فلما فرغ من عصرها نشرها، وبعد ذلك نزل البحر، وقال: باسم الله. وطرحها فيه، وصبر عليها حتى استقرت، ثم جذبها فثقلت ورسخت أكثر من الأول؛ فظنَّ أنه سمك فربط الشبكة، وتعرَّى ونزل وغطس، ثم عالج إلى أن خلَّصَها وأطلعها على البر، فوجد فيها زيرًا كبيرًا، وهو ملآن برَمْلٍ وطين، فلما رأى ذلك تأسَّفَ، وأنشد قول الشاعر:

يَا حُرْقَةَ الدَّهْرِ كُفِّي        إِنْ لَمْ تَكُّفِّي فَعِفِّي

فَلَا بِحَظِّيَ أُعْطِي        وَلَا بِصَنْعَةِ كَفِّي

خَرَجْتُ أَطْلُبُ رِزْقِي        وَجَدْتُ رِزْقِي تُوُفِّي

كَمْ جَاهِلٍ فِي ظُهُورٍ        وَعَالِمٍ مُتَخَفِّ

ثم إنه رمى الزير، وعصر شبكته ونظَّفها، واستغفر الله وعاد إلى البحر ثالث مرة، ورمى الشبكة وصبر عليها حتى استقرت، وجذبها فوجد فيها شقافة وقوارير، فأنشد قول الشاعر:

هُوَ الرِّزْقُ لَا حَلٌّ لَدَيْكَ وَلَا رَبْطُ        وَلَا قَلَمٌ يُجْدِي عَلَيْكَ وَلَا خَطُّ

ثم إنه رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إنك تعلم أني لم أَرْمِ شبكتي غير أربع مرات، وقد رميت ثلاثًا. ثم إنه سمَّى الله ورمى الشبكة في البحر، وصبر إلى أن استقرت وجذبها، فلم يطق جذبها، وإذا بها اشتبكت في الأرض، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله. فتعرى وغطس عليها، وصار يعالج فيها إلى أن طلعت على البر، وفتحها فوجد فيها قمقمًا من نُحاس أصفر ملآن، وفمه مختوم برصاص عليه طبع خاتم سيدنا سليمان، فلما رآه الصياد فرح، وقال: هذا أبيعه في سوق النحاس، فإنه يساوي عشرة دنانير ذهبًا. ثم إنه حرَّكَه فوجده ثقيلًا فقال: لا بد أني أفتحه، وأنظر ما فيه، وأدَّخره في الخرج، ثم أبيعه في سوق النحاس. ثم إنه أخرج سكينًا، وعالج في الرصاص إلى أن فكَّه من القمقم، وحطه على الأرض، وهزَّه ليَنكبَّ ما فيه، فلم ينزل منه شيء، ولكن خرج من ذلك القمقم دخان صعد إلى عَنان السماء، ومشى على وجه الأرض، فتعجب غاية العجب، وبعد ذلك تكامل الدخان واجتمع، ثم انتفض فصار عفريتًا رأسه في السحاب ورجلاه في التراب، برأس كالقبة، وأيدٍ كالمداري، ورجلين كالصواري، وفَمٍ كالمغارة، وأسنان كالحجارة، ومناخير كالإبريق، وعينين كالسراجين، أشعث أغبر، فلما رأى الصياد ذلك العفريت ارتعدت فرائصه، وتشبَّكت أسنانه، ونشف ريقه، وعمي عن طريقه، فلما رآه العفريت قال: لا إله إلا الله، سليمان نبي الله. ثم قال العفريت: يا نبي الله، لا تقتلني؛ فإني لا عدت أخالف لك قولًا، وأعصي لك أمرًا. فقال له الصياد: أيها المارد، أتقول سليمان نبي الله، وسليمان مات من مدة ألف وثمانمائة سنة، ونحن في آخِر الزمان؟ فما قصتك، وما حديثك، وما سبب دخولك في هذا القمقم؟

فلما سمع المارد كلامَ الصياد قال: لا إله إلا الله، أبشر يا صياد. فقال الصياد: بماذا تبشرني؟ فقال: بقتلك في هذه الساعة أشرَّ القتلات! قال الصياد: تستحق على هذه البشارة يا قَيِّمَ العفاريت زوال الستر عنك يا بعيد، لأي شيء تقتلني، وأي شيء يُوجِب قتلي، وقد خلصتك من القمقم، ونجيتك من قرار البحر، وطلَّعتك إلى البر؟ فقال العفريت: تَمَنَّ عليَّ أي موتة تموتها، وأي قتلة تُقتَلها؟ فقال الصياد: ما ذنبي حتى يكون هذا جزائي منك؟ قال العفريت: اسمع حكايتي يا صياد. قال الصياد: قُلْ وأوجز في الكلام؛ فإن روحي وصلت إلى قدمي.

قال: اعلم أني من الجن المارقين، وقد عصيت سليمان بن داود أنا وصخر الجن، فأرسل لي وزيره آصف بن برخيا، فأتى بي مُكرهًا، وقادني إليه وأنا ذليل على رغم أنفي، وأوقفني بين يديه، فلما رآني سليمان استعاذ مني، وعرض عليَّ الإيمان والدخول تحت طاعته فأبيت، فطلب هذا القمقم وحبسني فيه، وختم عليَّ بالرصاص وطبعه بالاسم الأعظم، وأمر الجن فاحتملوني، وألقَوْنِي في وسط البحر، فأقمت مائة عام، وقلت في قلبي: كلُّ مَن خلَّصني أغنيته إلى الأبد. فمَرَّتْ مائة عام ولم يخلِّصني أحدٌ، ودخلَتْ عليَّ مائة أخرى، فقلت: كلُّ مَن خلَّصني فتحتُ له كنوزَ الأرض. فلم يخلِّصني أحدٌ، فمرَّ عليَّ أربعمائة عام أخرى، فقلت: كلُّ مَن خلَّصني أقضي له ثلاث حاجات. فلم يخلِّصني أحد؛ فغضبت غضبًا شديدًا، وقلت في نفسي: كلُّ مَن خلَّصني في هذه الساعة قتلته، ومنَّيته كيف يموت. وها أنت قد خلَّصتني، ومنَّيتك كيف تموت.

فلما سمع الصياد كلامَ العفريت قال: يا لله العجب، أنا ما جئتُ أخلِّصك إلا في هذه الأيام! ثم قال الصياد للعفريت: اعْفُ عن قتلي يَعْفُ الله عنك، ولا تهلكني يسلِّط اللهُ عليك مَن يُهلِكك. فقال المارد: لا بد من قتلك، فتمنَّ عليَّ موتة تموتها. فلما تحقَّقَ من ذلك الصيادُ، راجَعَ العفريت وقال: اعْفُ عني إكرامًا لما أعتقتك. فقال العفريت: وأنا ما أقتلك إلا لأجل ما خلصتني. فقال له الصياد: يا شيخ العفاريت، هل أصنع معك مليحًا فتقابلني بالقبيح؟ ولكن لم يكذب المثل حيث قال:

فَعَلْنَا جَمِيلًا قَابَلُونَا بِضِدِّهِ        وَهَذَا لَعَمْرِي مِنْ فِعَالِ الفَوَاجِرِ

وَمَنْ يَفْعَلِ الْمَعْرُوفَ مَعْ غَيْرِ أَهْلِهِ        يُجَازَ كَمَا جُوزِي مُجِيرُ أُمِّ عَامِرِ

فلما سمع العفريت كلامه قال له: لا تطمع، فلا بد من موتك. فقال الصياد: هذا جنيٌّ وأنا إنسيٌّ، وقد أعطاني الله عقلًا كاملًا، وها أنا أدَبِّر أمرًا في هلاكه بحيلتي وعقلي، وهو يدبِّر بمكره وخبثه. ثم قال للعفريت: هل صمَّمْتَ على قتلي؟ قال: نعم. فقال له: بالاسم الأعظم المنقوش على خاتم سليمان، أسألك عن شيء وتصدقني فيه. قال: نعم. ثم إن العفريت لما سمع ذِكْر الاسم الأعظم اضطرب واهتزَّ، وقال له: اسأل وأوجز. فقال له: كيف كنتَ في هذا القمقم، والقمقم لا يسع يدك ولا رجلك، فكيف يسعك كلك؟ فقال له العفريت: وهل أنت لا تصدِّق أنني كنتُ فيه؟ فقال الصياد: لا أصدِّق أبدًا حتى أنظرك فيه بعيني. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 4﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الصياد لما قال للعفريت: لا أصدِّقك أبدًا حتى أنظرك بعيني في القمقم. انتفض العفريت وصار دخانًا صاعدًا إلى الجو، ثم اجتمع ودخل في القمقم قليلًا قليلًا حتى استكمل الدخان داخل القمقم، وإذا بالصياد أسرع وأخذ السدادة الرصاص المختومة، وسَدَّ بها فم القمقم، ونادى العفريت وقال له: تَمَنَّ عليَّ أي موتة تموتها، لَأرمينَّك في هذا البحر، وأبني لي هنا بيتًا، وكلُّ مَن أتى هنا أمنعه أن يصطاد، وأقول له: هنا عفريت، وكلُّ مَن طلَّعه يبين له أنواع الموت ويخيِّره بينها. فلما سمع العفريت كلامَ الصياد أراد الخروج، فلم يقدر، ورأى نفسه محبوسًا، ورأى عليه طبع خاتم سليمان، وعلم أن الصياد سجنه في سجنِ أحقر العفاريت وأقذرها وأصغرها، ثم إن الصياد ذهب بالقمقم إلى جهة البحر، فقال له العفريت: لا لا. فقال الصياد: لا بد، لا بد. فلطف المارد كلامه وخضع، وقال: ما تريد أن تصنع بي يا صياد؟ قال: أُلقيك في البحر، إن كنتَ أقمتَ فيه ألفًا وثمانمائة عام، فأنا أجعلك تمكث إلى أن تقوم الساعة، أَمَا قلتُ لك أبقني يُبْقِك الله، ولا تقتلني يقتُلك الله، فأبيتَ قولي، وما أردتَ إلا غدري، فألقاك الله في يدي، فغدرتُ بك. فقال العفريت: افتح لي حتى أُحسِن إليك. فقال له الصياد: تكذب يا ملعون، أنا مَثَلِي ومثلك مَثَلُ وزير الملك يونان والحكيم رويان. فقال العفريت: وما شأن وزير الملك يونان والحكيم رويان، وما قصتهما؟

فقال الصياد: اعلم أيها العفريت أنه كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان، في مدينة الفرس وأرض رومان، ملك يقال له الملك يونان، وكان ذا مال وجنود وبأس وأعوان من سائر الأجناس، وكان في جسده بَرَصٌ قد عجزت فيه الأطباء والحكماء، ولم ينفعه منه شرب أدوية، ولا سفوف ولا دهان، ولم يقدر أحد من الأطباء أن يداويه، وكان قد دخل مدينةَ الملك يونان حكيمٌ كبير طاعن في السن يقال له الحكيم رويان، وكان عارفًا بالكتب اليونانية والفارسية والرومية والعربية والسريانية، وعِلْم الطب والنجوم، وعالمًا بأصول حكمتها، وقواعد أمورها من منفعتها ومضرَّتها، وعالمًا بخواص النباتات والحشائش، والأعشاب المضرة والنافعة، قد عرف عِلْمَ الفلاسفة، وحاز جميع العلوم الطبية وغيرها، ثم إن الحكيم لما دخل المدينة وأقام بها أيامًا قلائِلَ، سمع خبر الملك وما جرى له في بدنه من البرص الذي ابتلاه الله به، وقد عجزت عن مداواته الأطباء وأهل العلوم، فلما بلغ ذلك الحكيم باتَ مشغولًا، فلما أصبح الصباح وأضاء بنوره ولاح، وسلمت الشمس على زين الملاح، لبس أفخر ثيابه، ودخل على الملك يونان، وقبَّلَ الأرض ودعا له بدوام العز والنِّعَم، وأحسن ما به تكلَّمَ، وأعلمه بنفسه، فقال: أيها الملك، بلغني ما اعتراك من هذا الذي في جسدك، وأن كثيرًا من الأطباء لم يعرفوا الحيلة في زواله، وها أنا أداويك أيها الملك، ولا أسقيك دواء، ولا أدهنك بدهن.

فلما سمع الملك يونان كلامَه تعجَّبَ، وقال له: كيف تفعل؟! فوالله إن أبرأتني أُغْنِيك لولد الولد، وأُنعِم عليك، وكل ما تتمناه فهو لك، وتكون نديمي وحبيبي. ثم إنه خلع عليه وأحسن إليه، وقال له: أتبرئني من هذا المرض بلا دواء ولا دهان؟! قال: نعم، أبرئك بلا مشقة في جسدك. فتعجَّبَ الملك غاية العجب، ثم قال له: أيها الحكيم، الذي ذكرته لي يكون في أي الأوقات، وفي أي الأيام؟ فأسرع به يا ولدي! قال له: سمعًا وطاعة. ثم نزل من عند الملك واكترى له بيتًا، وحطَّ فيه كتبه وأدويته وعقاقيره، ثم استخرج الأدوية والعقاقير، وجعل منها صولجانًا وجوَّفه، وعمل له قصبة، وصنع له كرة بمعرفته، فلما صنع الجميع وفرغ منها، طلع إلى الملك في اليوم الثاني، ودخل عليه، وقبَّل الأرض بين يدَيْه، وأمره أن يركب إلى الميدان، وأن يلعب بالكرة والصولجان.

وكان معه الأمراء والحُجَّابُ والوزراء وأرباب الدولة، فما استقر به الجلوس في الميدان حتى دخل عليه الحكيم رويان، وناوله الصولجان، وقال له: خذ هذا الصولجان، واقبض عليه مثل هذه القبضة، وامشِ في الميدان، واضرب به الكرة بقوتك حتى يعرق كفك وجسدك، فينفذ الدواء من كفك، فيسري في سائر جسدك، فإذا عرقت وأثَّرَ الدواءُ فيك، فارجع إلى قصرك، وادخل بعد ذلك الحمامَ واغتسل ونَمْ، فقد بُرِئت والسلام. فعند ذلك أخذ الملك يونان ذلك الصولجان من الحكيم، وأمسكه بيده وركب الجواد، ورُمِيَتِ الكرة بين يدَيْه، وساق خلفها حتى لحقها، وضربها بقوة وهو قابض بكفه على قصبة الصولجان، وما زال يضرب به الكرة حتى عرق كفه، وسائر بدنه، وسرى له الدواء من القبضة، وعرف الحكيم رويان أن الدواء سرى في جسده، فأمره بالرجوع إلى قصره، وأن يدخل الحمَّامَ من ساعته، فرجع الملك يونان من وقته، وأمر أن يُخلُوا له الحمامَ فأَخْلَوْه له، وتسارَعَ الفراشون، وتسابَقَ المماليك، وأعدُّوا للملك قماشه، ودخل الحمام واغتسل غسلًا جيدًا، ولبس ثيابه داخل الحمام، ثم خرج منه وركب إلى قصره ونام فيه.

هذا ما كان من أمر الملك يونان، وأما ما كان من أمر الحكيم رويان، فإنه رجع إلى داره وبات، فلما أصبح الصباح طلع إلى الملك، واستأذن عليه فأذن له في الدخول، فدخل وقبَّلَ الأرض بين يدَيْه، وأشار إلى الملك بهذه الأبيات:

زَهَتِ الْفَصَاحَةُ إِذْ دُعِيتَ لَهَا أَبًا        وَإِذَا دَعَتْ يَوْمًا سِوَاكَ لَهَا أَبَا

يَا صَاحِبَ الْوَجْهِ الَّذِي أَنْوَارُهُ        تَمْحُو مِنَ الْخَطْبِ الْكَرِيهِ غَيَاهِبَا

مَا زَالَ وَجْهُكَ مُشْرِقًا مُتَهَلِّلًا        كَيْ لَا نَرَى وَجْهَ الزَّمَانِ مُقَطِّبَا

أَوْلَيْتَنِي مِنْ فَضْلِكَ الْمِنَنَ الَّتِي        فَعَلَتْ بِنَا فِعْلَ السَّحَابِ مَعَ الرُّبَا

وَصَرَفْتَ جُلَّ الْمَالِ فِي طَلَبِ الْعُلَا        حَتَّى بَلَغْتَ مِنَ الزَّمَانِ مَآرِبَا

فلما فرغ من شعره نهض الملك قائمًا على قدميه، وعانقه وأجلسه بجانبه، وخلع الخلع السنية، ولما خرج الملك من الحمام نظر إلى جسده فلم يجد فيه شيئًا من البرص، وصار جسده نقيًّا مثل الفضة البيضاء؛ ففرح بذلك غاية الفرح، واتسع صدره وانشرح، فلما أصبح الصباح دخل الديوان، وجلس على سرير ملكه، ودخلت عليه الحُجَّابُ وأكابر الدولة، ودخل عليه الحكيم رويان، فلما رآه قام إليه مسرعًا، وأجلسه بجانبه، وإذا بموائد الطعام قد مُدَّتْ فأكل صحبتَه، وما زال عنده ينادمه طول نهاره، فلما أقبل الليل أعطى الحكيمَ ألفَيْ دينار غير الخلع والهدايا، وأركبه جواده وانصرف إلى داره، والملك يونان يتعجَّب من صنعه ويقول: هذا داواني من ظاهر جسدي، ولم يدهنِّي بدهان! فواللهِ ما هذه إلا حكمة بالغة، فيجب عليَّ لهذا الرجلِ الإنعامُ والإكرام، وأنْ أتخذه جليسًا وأنيسًا مدى الزمان.

وبات الملك يونان مسرورًا فرحان بصحة جسمه، وخلاصه من مرضه، فلما أصبح خرج الملك وجلس على كرسيه، ووقفت أرباب دولته بين يدَيْه، وجلست الأمراء والوزراء على يمينه ويساره، ثم طلب الحكيم رويان، فدخل عليه وقبَّلَ الأرضَ بين يدَيْه، فقام له الملك وأجلسه بجانبه، وأكل معه وحيَّاه، وخلع عليه وأعطاه، ولم يزل يتحدَّث معه إلى أن أقبل الليل، فرسم له بخمس خِلَعٍ وألف دينار، ثم انصرف الحكيم إلى داره وهو شاكر للملك، فلما أصبح الصباح خرج الملك إلى الديوان، وقد أحدقت به الأمراء والوزراء والحجاب، وكان له وزيرٌ من وزرائه بَشِع المنظر، نحس الطالع، لئيم بخيل حسود، مجبول على الحسد والمقت، فلما رأى ذلك الوزير أن الملك قرَّبَ الحكيم رويان، وأعطاه هذا الإنعام، حسده عليه وأضمر له الشر، كما قيل في المعنى: ما خلا جسد من حسد. وقيل في المعنى: الظلم كمينٌ في النفس، القوة تُظهِره والعجز يخفيه.

ثم إن الوزير تقدَّمَ إلى الملك يونان، وقبَّلَ الأرضَ بين يدَيْه، وقال له: يا ملك العصر والأوان، أنت الذي شمل الناسَ إحسانُك، ولك عندي نصيحة عظيمة، فإنْ أخفيتُها عنك أكون ولدَ زنا، فإن أمرتني أن أبديها أبديتها لك. فقال الملك وقد أزعجه كلام الوزير: وما نصيحتك؟ فقال: أيها الملك الجليل، قد قالت القدماء: مَن لم ينظر في العواقب فما الدهر له بصاحب. وقد رأيتُ الملكَ على غير صواب؛ حيث أنعم على عدوِّه، وعلى مَن يطلب زوالَ ملكه، وقد أحسن إليه وأكرمه غاية الإكرام، وقرَّبَه غايةَ القرب، وأنا أخشى على الملك من ذلك. فانزعج الملك وتغيَّرَ لونه، وقال له: مَن الذي تزعم أنه عدوي وأُحسِن إليه؟ فقال له: أيها الملك، إن كنتَ نائمًا فاستيقظ؛ فأنا أشير إلى الحكيم رويان. فقال له الملك: إن هذا صديقي وهو أعز الناس عندي؛ لأنه داواني بشيء قبضته بيدي، وأبرأني من مرضي الذي عجزت فيه الأطباء، وهو لا يوجد مثله في هذا الزمان في الدنيا غربًا وشرقًا، فكيف أنت تقول عليه هذا المقال؟ وأنا من هذا اليوم أرتب له الجوامك والجرايات، وأعمل له في كل شهر ألف دينار، ولو قاسمتُه في ملكي لَكان قليلًا عليه، وما أظنُّ أنك تقول ذلك إلا حسدًا كما بلغني عن الملك السندباد. ثم قال الملك يونان: ذكر والله أعلم

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح، فقالت لها أختها: يا أختي، ما أحلى حديثك وأطيبه وألذه وأعذبه! فقالت لها: وأين هذا ممَّا أحدثكم به الليلةَ المقبِلة إنْ عشتُ وأبقاني الملك؟! فقال الملك في نفسه: واللهِ لا أقتلها حتى أسمع بقية حديثها؛ لأنه حديث عجيب. ثم إنهم باتَا تلك الليلة متعانقَيْن إلى الصباح، ثم خرج الملك إلى محل حكمه، واحتبك الديوان، فحكم وولَّى وعزل، وأمر ونهى إلى آخر النهار، ثم انفضَّ الديوان فدخل الملك قصره، وأقبل الليل، وقضى حاجته من بنت الوزير شهرزاد.

﴿اللیلة 5﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك يونان قال لوزيره: أيها الوزير، أنت دخلك الحسد من أجل هذا الحكيم فتريد أن أقتله، وبعد ذلك أندم كما ندم الملك السندباد على قتل الباز. فقال الوزير: وكيف كان ذلك؟ فقال الملك: ذُكِر أنه كان ملك ملوك الفرس يحب الفرجة والتنزُّه والصيد والقنص، وكان له باز ربَّاه ولا يفارقه ليلًا ولا نهارًا، ويبيت طول الليل حامله على يده، وإذا طلع إلى الصيد يأخذه معه وهو عامل له طاسة من الذهب معلَّقة في رقبته يسقيه منها، فبينما الملك جالس وإذا بالوكيل على طير الصيد يقول: يا ملك الزمان، هذا أوان الخروج إلى الصيد. فاستعد الملك للخروج، وأخذ البازي على يده، وساروا إلى أن وصلوا إلى وادٍ، ونصبوا شبكةَ الصيد، وإذا بغزالة وقعت في تلك الشبكة، فقال الملك: كلُّ مَن فاتت الغزالة من جهته قتلتُه. فضيَّقوا عليها حلقةَ الصيد، وإذا بالغزالة أقبلت على الملك، وشبت على رجلَيْها، وحطت يديها على صدرها كأنها تُقَبِّلُ الأرضَ للملك، فطأطأ الملك للغزالة، ففرَّت من فوق دماغه، وراحت إلى البر، فالتفت الملك إلى العسكر فرآهم يتغامزون عليه، فقال: يا وزير، ماذا يقول العساكر؟ فقال: يقولون: إنك قلتَ كل مَن فاتت الغزالة من جهته يُقتَل. فقال الملك: وحياة رأسي لأتبعنها حتى أجيء بها. ثم طلع الملك في إثر الغزالة، ولم يزل وراءها، وصار البازي يلطشها على عينيها إلى أن أعماها ودوَّخها، فسحب الملك دبوسًا وضربها فقلبها، ونزل فذبحها وسلخها، وعلَّقها في قربوس السرج، وكانت ساعة حَرٍّ، وكان المكان قفرًا لم يوجد فيه ماء، فعطش الملك وعطش الحصان، فالتفت الملك فرأى شجرةً ينزل منها ماء مثل السمن، وكان الملك لابسًا في كفه جلدًا، فأخذ الطاسة من قبة البازي، وملأها من ذلك الماء، ووضع الماء قدامه، وإذا بالبازي لطش الطاسة فقلبها، فأخذ الملك الطاسة ثانيًا وملأها، وظن أن البازي عطشان فوضعها قدامه فلطشها ثانيًا وقلبها، فغضب الملك من البازي، وأخذ الطاسةَ ثالثًا وقدَّمها للحصان فقلبها البازي بجناحه، فقال الملك: الله يخيِّبك يا أشأم الطيور، حرمتني من الشرب، وحرمت نفسك، وحرمت الحصان. ثم ضرب البازي بالسيف، فرمى أجنحته فصار البازي يقيم رأسه، ويقول بالإشارة: انظر الذي فوق الشجرة، فرفع الملك عينه فرأى فوق الشجرة حية، والذي يسيل سمها، فندم الملك على قصِّ أجنحة البازي، ثم قام وركب حصانه، وسار ومعه الغزالة حتى وصل إلى مكانه الأول، فألقى الغزالة إلى الطبَّاخ، وقال له: خذها واطبخها. ثم جلس الملك على الكرسي، والبازي على يده، فشهق البازي ومات، فصاح الملك حزنًا: وا أسفَا على قتل البازي! حيث خلَّصه من الهلاك، هذا ما كان من حديث الملك السندباد.

فلما سمع الوزير كلام الملك يونان قال له: أيها الملك العظيم الشأن، وما الذي فعلته من الضرورة، ورأيتَ منه سوءًا؟ إنما أفعل معك هذا شفقةً عليك، وستعلم صحةَ ذلك، فإن قبلتَ مني نجوتَ وإلا هلكتَ، كما هلك وزير كان احتال على ابن ملك من الملوك؛ كان لذلك الملك ولد مولع بالصيد والقنص، وكان له وزيرٌ، فأمر الملك ذلك الوزيرَ أن يكون مع ابنه أينما توجَّه، فخرج يومًا من الأيام إلى الصيد والقنص، وخرج معه وزير أبيه، فساروا جميعًا فنظرا إلى وحش كبير، فقال الوزير لابن الملك: دونك هذا الوحش فاطلبه، فقصده ابن الملك حتى غاب عن العين، وغاب عنه الوحش في البَرِّيَّة، وتحيَّرَ ابن الملك، فلم يعرف أين يذهب، وإذا بجاريةٍ على رأس الطريق وهي تبكي، فقال لها ابن الملك: مَن أنت؟ قالت: بنتُ ملكٍ من ملوك الهند، وكنت في البرية فأدركني النعاس، فوقعت من فوق الدابة، ولم أعلم بنفسي فصرتُ منقطعة حائرة.

فلما سمع ابن الملك كلامها رَقَّ لحالها، وحملها على ظهر دابته، وأردفها وسار حتى مرَّ بجزيرةٍ، فقالَتْ له الجاريةُ: يا سيدي، أريد أن أزيل ضرورة. فأنزلها إلى الجزيرة، ثم تعوقت فاستبطأها، فدخل خلفها وهي لا تعلم به، فإذا هي غولة وهي تقول لأولادها: يا أولادي، قد أتيتكم اليومَ بغلام سمين. فقالوا لها: ائتينا به يا أمنا نأكله في بطوننا. فلما سمع ابن الملك كلامهم أيقن بالهلاك، وارتعدت فرائصه، وخشي على نفسه ورجع، فخرجت الغولة فرأته كالخائف الوجل وهو يرتعد، فقالت له: ما بالك خائفًا؟ فقال لها: إن لي عدوًّا وأنا خائف منه. فقالت الغولة: إنك تقول أنا ابن الملك. قال لها: نعم. قالت له: ما لك لا تعطي عدوك شيئًا من المال فترضيه به؟ فقال لها: إنه لا يرضى بمال، ولا يرضى إلا بالروح، وأنا خائف منه، وأنا رجل مظلوم. فقالت له: إن كنتَ مظلومًا كما تزعم، فاستعِنْ بالله عليه؛ فإنه يكفيك شرَّه وشرَّ جميع ما تخافه. فرفع ابن الملك رأسه إلى السماء وقال: يا مَن يجيب دعوةَ المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء، انصرني على عدوي، واصرفه عني؛ إنك على ما تشاء قدير.

فلما سمعَتِ الغولة دعاءه انصرفت عنه وانصرف ابن الملك إلى أبيه، وحدَّثَه بحديث الوزير، وأنت أيها الملك متى آمنت لهذا الحكيم قتلك أقبح القتلات، وإن كنتَ أحسنتَ إليه وقرَّبته منك؛ فإنه يدبر في هلاكك، أَمَا ترى أنه أبرأك من المرض من ظاهر الجسد بشيء أمسكته بيدك، فلا تأمن أن يُهلِكَك بشيء تمسكه أيضًا. فقال الملك يونان: صدقتَ، فقد يكون كما ذكرتَ أيها الوزير الناصح، فلعل هذا الحكيم أتى جاسوسًا في طلب هلاكي، وإذا كان أبرأني بشيء أمسكتُه بيدي، فإنه يقدر أن يهلكني بشيء أشمه. ثم إن الملك يونان قال لوزيره: أيها الوزير، كيف العمل فيه؟ فقال له الوزير: أرسل إليه في هذا الوقت واطلبه، فإنْ حضر فاضرب عنقه؛ فتُكفَى شره وتستريح منه، واغدر به قبل أن يغدر بك. فقال الملك يونان: صدقتَ أيها الوزير. ثم إن الملك أرسل إلى الحكيم فحضر وهو فرحان، ولا يعلم ما قدَّرَه الرحمن، كما قال بعضهم في المعنى:

يَا خَائِفًا مِنْ دَهْرِهِ كُنْ آمِنًا        وَكِلِ الْأُمُورَ إِلَى الَّذِي بَسَطَ الثَّرَى

إِنَّ الْمُقَدَّرَ كَائِنٌ لَا يُنْمَحَى        وَلَكَ الْأَمَانُ مِنَ الَّذِي مَا قَدَّرَا

وأنشد الحكيم مخاطبًا للملك قولَ الشاعر:

إِذَا لَمْ أَقُمْ يَوْمًا لِحَقِّكَ بِالشُّكْرِ        فَقُلْ لِي لِمَنْ أَعْدَدْتُ نَظْمِي مَعَ النَّثْرِ

لَقَدْ جُدْتَ لِي قَبْلَ السُّؤَالِ بِأَنْعُمٍ        أَتَتْنِي بِلَا مَطْلٍ لَدَيْكَ وَلَا عُذْرِ

فَمَا لِيَ لَا أُعْطِي ثَنَاءَكَ حَقَّهُ        وَأَثْنِي عَلَى عُلْيَاكَ فِي السِّرِّ وَالْجَهْرِ

سَأَشْكُرُ مَا أَوْلَيْتَنِي مِنْ صَنَائِعٍ        يَخِفُّ لَهَا فَمِّي وَإِنْ أَثْقَلَتْ ظَهْرِي

وأيضًا في المعنى:

كُنْ عَنْ هُمُومِكَ مُعْرِضًا        وَكِلِ الْأُمُورَ إِلَى القَضَا

وَابْشِرْ بِخَيْرٍ عَاجِلٍ        تَنْسَى بِهِ مَا قَدْ مَضَى

فَلَرُبَّ أَمْرٍ مُسْخِطٍ        لَكَ فِي عَوَاقِبِهِ رِضَى

اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَا        ءُ فَلَا تَكُنْ مُعْتَرِضَا

وأيضًا في المعنى:

سَلِّمْ أُمُورَكَ لِلْحَكِيمِ الْعَالِمِ        وَأَرِحْ فُؤَادَكَ مِنْ جَمِيعِ الْعَالَمِ

وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَمَا تَشَا        بَلْ مَا يَشَاءُ اللهُ أَحْكَمُ حَاكِمِ

وأيضًا في المعنى:

لَا تَبْتَئِسْ وَانْسَ الْهُمُومَ جَمِيعَهَا        إِنَّ الْهُمُومَ تُزِيلُ لُبَّ الْحَازِمِ

لَا يَنْفَعُ التَّدْبِيرُ عَبْدًا عَاجِزًا        فَاتْرُكْهُ تَسْلَمْ فِي نَعِيمٍ دَائِمٍ

فلما حضر الحكيم رويان قال له الملك: أتعلم لماذا أحضرتك؟ فقال الحكيم: لا يعلم الغيب إلا الله تعالى. فقال له الملك: أحضرتك لأقتلك وأعدمك روحك. فتعجَّبَ الحكيمُ رويان من تلك المقالة غاية العجب، وقال: أيها الملك، لماذا تقتلني؟ وأي ذنب بَدَا مني؟ فقال له الملك: قد قيل لي إنك جاسوس، وقد أتيتَ لتقتلني، وها أنا أقتلك قبل أن تقتلني. ثم إن الملك صاح على السياف وقال له: اضرب رقبة هذا الغدار، وأَرِحْنا من شرِّه. فقال الحكيم: أَبْقِني يُبْقِيك الله، ولا تقتلني يقتلك الله. ثم إنه كرَّرَ عليه القول مثل ما قلت لك أيها العفريت، وأنت لا تدعني، بل تريد قتلي. فقال الملك يونان للحكيم رويان: إني لا آمن إلا إن قتلتك، فإنك أبرأتني بشيء أمسكته بيدي، فلا آمن أن تقتلني بشيء أشمه، أو غير ذلك. فقال الحكيم: أيها الملك، أهذا جزائي منك، تقابل المليح بالقبيح؟! فقال الملك: لا بد من قتلك من غير مهلة. فلما تحقَّقَ الحكيم أن الملك قاتِلُه ولا محالةَ، بكى وتأسَّفَ على ما صنع من الجميل مع غير أهله، كما قيل في المعنى:

مَيْمُونَةُ مِنْ سِمَاتِ الْعَقْلِ عَارِيَةٌ        لَكِنْ أَبُوهَا مِنَ الْأَلْبَابِ قَدْ خُلِقَ

لَمْ يَمْشِ فِي يَابِسٍ يَوْمًا وَلَا وَحَلٍ        إِلَّا بِنُورٍ هَدَاهُ يَتَّقِي الزَّلَقَ

وبعد ذلك تقدَّم السيَّافُ، وغمَّى عينَيْه، وشهر سيفه، وقال: ائذَنْ. والحكيم يبكي، ويقول للملك: أبقني يُبْقِك الله، ولا تقتلني يقتلك الله. وأنشد قول الشاعر:

نَصَحْتُ فَلَمْ أُفْلِحْ وَغَشُّوا فَأَفْلَحُوا        فَأَوْقَعَنِي نُصْحِي بِدَارِ هَوَانِ

فَإِنْ عِشْتُ لَمْ أَنْصَحْ وَإِنْ مِتُّ فَانْعِ لِي        ذَوِي النُّصْحِ مِنْ بَعْدِي بِكُلِّ لِسَانِ

ثم إن الحكيم قال للملك: أيكون هذا جزائي منك فتجازيني مجازاة التمساح؟! قال الملك: وما حكاية التمساح؟ فقال الحكيم: لا يمكنني أن أقولها وأنا في هذه الحال، فبالله عليك أبقني يُبْقِك الله. ثم إن الحكيم بكى بكاءً شديدًا، فقام بعض خواص الملك، وقال: أيها الملك، هَبْ لي دمَ هذا الحكيم؛ لأننا ما رأيناه فعَلَ معك ذنبًا، وما رأيناه إلا أبرأك من مرضك الذي أعيا الأطباء والحكماء. فقال لهم الملك: لم تعرفوا سببَ قتلي لهذا الحكيم؛ وذلك لأني إن أبقيته فأنا هالك لا محالة، ومَن أبرأني من المرض الذي كان بي بشيء أمسكته بيدي، فيمكنه أن يقتلني بشيء أشمه، فأنا أخاف أن يقتلني، ويأخذ عليَّ جعالة؛ لأنه ربما كان جاسوسًا، وما جاء إلا ليقتلني، فلا بد من قتله، وبعد ذلك آمن على نفسي. فقال الحكيم: أبقني يُبْقِك الله، ولا تقتلني يقتلك الله. فلما تحقَّقَ الحكيم - أيها العفريت - أن الملك قاتِلَه لا محالةَ، قال له: أيها الملك، إن كان ولا بد من قتلي فأمهلني حتى أنزل إلى داري فأخلِّص نفسي، وأوصي أهلي وجيراني أن يدفنوني، وأهِبُ كتبَ الطب، وعندي كتاب خاص الخاص أهبه لك هدية تدَّخره في خزانتك. فقال الملك للحكيم: وما هذا الكتاب؟ قال: فيه شيء لا يُحصَى، وأقل ما فيه من الأسرار أنك إذا قطعتَ رأسي وفتحته، وعددتَ ثلاث ورقات، ثم تقرأ ثلاث أسطر من الصحيفة التي على يسارك، فإن الرأس يكلِّمك ويجاوبك عن جميع ما سألتَه عنه. فتعجَّبَ الملك غايةَ العجب، واهتزَّ من الطرب، وقال له: أيها الحكيم، وهل إذا قطعتُ رأسك تكلَّمت؟ فقال: نعم أيها الملك، وهذا أمر عجيب. ثم إن الملك أرسله مع المحافظة عليه، فنزل الحكيم إلى داره، وقضى أشغاله في ذلك اليوم، وفي اليوم الثاني طلع الحكيم إلى الديوان، وطلعت الأمراء والوزراء والحُجَّاب والنوَّاب وأرباب الدولة جميعًا، وصار الديوان كزهر البستان، وإذا بالحكيم دخل الديوان، ووقف قدام الملك، ومعه كتاب عتيق، ومكحلة فيها ذرور، وجلس وقال: ائتوني بطبق. فأتوه بطبق، وكبَّ فيه الذرور وفرشه، وقال: أيها الملك، خذ هذا الكتاب، ولا تعمل به حتى تقطع رأسي، فإذا قطعته فاجعله في ذلك الطبق، وَأْمُر بكبسه على ذلك الذرور، فإذ فعلتَ ذلك فإن دمه ينقطع، ثم افتح الكتاب، ففتحه الملك، فوجده ملصوقًا، فحطَّ أصبعه في فمه وبلَّه بريقه، وفتح أول ورقة والثانية والثالثة، والورق ما ينفتح إلا بجهد، ففتح الملك ست ورقات ونظر فيها فلم يجد فيها كتابةً، فقال الملك: أيها الحكيم، ما فيه شيء مكتوب. فقال الحكيم: قلِّب زيادة على ذلك، فقَلَّبَ فيه زيادةً فلم يكن إلا قليل من الزمان حتى سرى فيه السم لوقته وساعته، فإن الكتاب كان مسمومًا، فعند ذلك تزحزح الملك وصاح، وقال: قد سرى فيَّ السم. فأنشد الحكيم رويان يقول:

تَحَكَّمُوا فَاسْتَطَالُوا فِي حُكُومَتِهِمْ        وَعَنْ قَلِيلٍ كَأَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَكُنِ

لَوْ أَنْصَفُوا أَنْصَفُوا لَكِنْ بَغَوْا فَبَغَى        عَلَيْهُمُ الدَّهْرُ بِالْآفَاتِ وَالْمِحَنِ

وَأَصْبَحُوا وَلِسَانُ الْحَالِ يُنْشِدُهُمْ        هَذَا بِذَاكَ فَلَا عَتْبٌ عَلَى الزَّمَنِ

فلما فرغ رويان الحكيم من كلامه، سقط الملك ميتًا من وقته. فاعلم أيها العفريت أن الملك يونان لو أبقى الحكيم رويان لأبقاه الله، ولكن أَبَى وطلب قتله فقتله الله، وأنت أيها العفريت لو أبقيتني لَأبقاك الله.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح، فقالت لها أختها دنيازاد: ما أحلى حديثك! فقالت: وأين هذا ممَّا أحدِّثكم به الليلةَ القابلة إنْ عشتُ وأبقاني الملك؟ وباتوا تلك الليلة في نعيم وسرور إلى الصباح، ثم طلع الملك إلى الديوان، ولما انفضَّ الديوان دخل قصره، واجتمع بأهله.

﴿اللیلة 6﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الصياد لما قال للعفريت: لو أبقيتني كنت أبقيتك، لكن ما أردتَ إلا قتلي، فأنا أقتلك محبوسًا في هذا القمقم، وألقيك في هذا البحر. صرخ المارد وقال: بالله عليك أيها الصياد لا تفعل، وأبقني كرمًا، ولا تؤاخذني بعملي، فإذا كنتُ أنا مسيئًا كن أنت مُحسِنًا، ففي الأمثال السائرة: يا محسنًا لمَن أساء، كفى المسيء فعله. ولا تعمل كما عمل أمامة مع عاتكة.

قال الصياد: وما شأنهما؟ فقال العفريت: ما هذا وقت حديث وأنا في السجن حتى تطلعني منه، وأنا أحدثك بشأنهما. فقال الصياد: لا بد من إلقائك في البحر، ولا سبيل إلى إخراجك منه، فإني كنتُ أستعطفك، وأتضرَّع إليك، وأنت لا تريد إلا قتلي من غير ذنب استوجبتُه منك، ولا فعلتُ معك سوءًا قطُّ، ولم أفعل معك إلا خيرًا لكوني أخرجتك من السجن، فلما فعلتَ معي ذلك علمت أنك رديء الأصل، واعلم أنني ما رميتك في هذا البحر إلا لأجل أن كل مَن طلَّعك أخبره بخبرك، وأحذِّره منك، فيرميك فيه ثانيةً، فتقيم في هذا البحر إلى آخِر الزمان حتى ترى أنواع العذاب. فقال العفريت: أطلقني فهذا وقت المروءات، وأنا أعاهدك أني لن أسوءك أبدًا، بل أنفعك بشيء ينفعك دائمًا. فأخذ الصياد عليه العهد أنه إذا أطلَقَه لا يؤذيه أبدًا، بل يعمل معه الجميل، فلما استوثق منه بالأيمان والعهود، وحلَّفه باسم الله الأعظم، فتح له الصياد، فتصاعد الدخان حتى خرج وتكامل، فصار عفريتًا مشوَّه الخلقة، ورفس القمقم فرماه في البحر، فلما رأى الصياد أنه رمى القمقمَ في البحر أيقن بالهلاك، وبال في ثيابه، وقال: هذه ليست علامة خير. ثم إنه قوَّى قلبه وقال: أيها العفريت، قال الله تعالىوَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا، وأنت قد عاهدتني، وحلفتَ أنك لا تغدر بي، فإن غدرت بي يُجْزِكَ الله، فإنه غيور يمهل ولا يهمل، وأنا قلت لك مثل ما قال الحكيم رويان للملك يونان: أبقني يبقك الله. فضحك العفريت ومشى قدامه، وقال: أيها الصياد، اتبعني. فمشى الصياد وراءه، وهو لم يصدِّق بالنجاة إلى أن خرجوا من ظاهر المدينة، وطلعوا على جبل ونزلوا إلى بَرِّيَّةٍ متسعةٍ، وإذا في وسطها بركة ماء، فوقف العفريت عليها، وأمر الصياد أن يطرح الشبكة ويصطاد، فنظر الصياد إلى البركة وفيها السمك ألوانًا: الأبيض، والأحمر، والأزرق، والأصفر؛ فتعجَّبَ الصياد من ذلك، ثم إنه طرح شبكته وجذبها فوجد فيها أربع سمكات، كل سمكة بلون، فلما رآها الصياد فرح، فقال له العفريت: ادخل بها إلى السلطان، وقدِّمها إليه؛ فإنه يعطيك ما يغنيك، وبالله اقبل عذري، فإنني في هذا الوقت لم أعرف طريقًا، وأنا في هذا البحر مدة ألف وثمانمائة عام، ما رأيت ظاهر الدنيا إلا في هذه الساعة، ولا تصطد منها كلَّ يوم إلا مرة واحدة، واستودعتك الله.

ثم دَقَّ الأرض بقدمَيْه فانشقَّتْ وابتلعته، ومضى الصياد إلى المدينة وهو متعجِّب ممَّا جرى له مع هذا العفريت، ثم أخذ السمك ودخل به منزله، وأتى بماجور، ثم ملأه ماءً وحطَّ فيه السمك، فاختبَطَ السمك من داخل الماجور في الماء، ثم حمل الماجور فوق رأسه، وقصد به قصر الملك كما أمره العفريت، فلما طلع الصياد إلى الملك وقدَّمَ له السمك، تعجَّبَ الملكُ غاية العجب من ذلك السمك الذي قدَّمَه إليه الصياد؛ لأنه لم يَرَ في عمره مثله صفةً ولا شكلًا، فقال: ألقوا هذا السمك للجارية الطباخة، وكانت هذه الجارية قد أهداها له ملك الروم منذ ثلاثة أيام، وهو لم يُجَرِّبْهَا في طبيخ، فأمرها الوزير أن تقليه، وقال لها: يا جارية، إن الملك يقول لك: ما ادَّخرت دمعتي إلا لشدَّتي، ففرجينا اليومَ على طهيك وحسن طبيخك؛ فإن السلطان جاء إليه واحد بهدية. ثم رجع الوزير بعدما أوصاها، فأمره الملك أن يعطي الصياد أربعمائة دينار، فأعطاه الوزير إياها، فأخذها في حجره، وتوجَّهَ إلى منزله لزوجته وهو فرحان مسرور، ثم اشترى لعياله ما يحتاجون إليه.

هذا ما كان من أمر الصياد، وأما ما كان من أمر الجارية، فإنها أخذت السمك ونظَّفته، ورصته في الطاجن، ثم إنها تركت السمك حتى استوى وجهه، وقلبته على الوجه الثاني، وإذا بحائط المطبخ قد انشقَّ، وخرج منها صبية رشيقة القد، أسيلة الخد، كاملة الوصف، كحيلة الطرف، بوجه مليح، وقَدٍّ رجيح، لابسة كوفية بِخَزٍّ أزرق، وفي أذنيها حلق، وفي معاصمها أساور، وفي أصابعها خواتيم بالفصوص المثمنة، وفي يدها قضيب من الخيزران، فغرزت القضيب في الطاجن، وقالت: يا سمك، هل أنت على العهد القديم مقيم؟ فلما رأت الجارية هذا غشي عليها، وقد أعادت الصبية القول ثانيًا وثالثًا، فرفع السمك رأسه من الطاجن، وقال: نعم، نعم. ثم قال جميعه هذا البيت:

إِنْ عُدْتَ عُدْنَا وَإِنْ وَافَيْتَ وَافَيْنَا        وَإِنْ هَجَرْتَ فَإِنَّا قَدْ تَكَافَيْنَا

فعند ذلك قلبت الصبية الطاجن، وخرجت من الموضع الذي دخلت منه، والتحمت حائط المطبخ، ثم أفاقت الجارية فرأت الأربع سمكات محروقة مثل الفحم الأسود، فقالت تلك الجارية: من أول غزوته حصل كسر عصيته. فبينما هي تعاتب نفسها، وإذا بالوزير واقف على رأسها، وقال لها: هاتي السمك للسلطان. فبكت الجارية، وأعلمت الوزير بالحال، وبالذي جرى، فتعجَّبَ الوزير من ذلك، وقال: ما هذا إلا أمر عجيب. ثم إنه أرسل إلى الصياد فأتوا به إليه، فقال له: أيها الصياد، لا بد أن تجيء لنا بأربع سمكات مثل التي جئتَ بها أولًا. فخرج الصياد إلى البركة وطرح شبكته، ثم جذبها، وإذا بأربع سمكات، فأخذها وجاء بها إلى الوزير، فدخل بها الوزير إلى الجارية، وقال لها: قومي اقليها قدامي حتى أرى هذه القضية. فقامت الجارية أصلحَتِ السمكَ، ووضعته في الطاجن على النار، فما استقر إلا قليلًا، وإذا بالحائط قد انشقَّ، والصبية قد ظهرت، وهي لابسة ملبسها، وفي يدها القضيب، فغرزته في الطاجن، وقالت: يا سمك، يا سمك، هل أنت على العهد القديم مقيم؟ فرفعت السمكات رءوسها، وأنشدت هذا البيت:

إِنْ عُدْتَ عُدْنَا وَإِنْ وَافَيْتَ وَافَيْنَا        وَإِنْ هَجَرْتَ فَإِنَّا قَدْ تَكَافَيْنَا

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 7﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنه لما تكلَّمَ السمك، قلبت الصبية الطاجن بالقضيب، وخرجت من الموضع الذي جاءت منه والتحم الحائط، فعند ذلك قام الوزير وقال: هذا أمر لا يمكن إخفاؤه عن الملك. ثم إنه تقدَّمَ إلى الملك وأخبره بما جرى قدامه، فقال: لا بد أن أنظر بعيني، فأرسل إلى الصياد، وأمره أن يأتي بأربع سمكات مثل الأولى، وأمهله ثلاثة أيام، فذهب الصياد إلى البركة، وأتاه بالسمك في الحال، فأمر الملك أن يعطوه أربعمائة دينار، ثم التفت الملك إلى الوزير وقال له: سوِّ أنت السمكَ ها هنا قدامي. فقال الوزير: سمعًا وطاعة. فأحضر الطاجن، ورمى فيه السمك بعد أن نظَّفه، ثم قلَّبه، وإذا بالحائط قد انشقَّ وخرج منها عبد أسود كأنه ثور من الثيران، أو من قوم عاد، وفي يده فرع من شجرة خضراء، وقال بكلام فصيح مزعج: يا سمك يا سمك، هل أنت على العهد القديم مقيم؟ فرفع السمك رأسه من الطاجن وقال: نعم، نعم. وأنشد هذا البيت:

إِنْ عُدْتَ عُدْنَا وَإِنْ وَافَيْتَ وَافَيْنَا        وَإِنْ هَجَرْتَ فَإِنَّا قَدْ تَكَافَيْنَا

ثم أقبل العبد على الطاجن، وقلبه بالفرع إلى أن صار فحمًا أسود، ثم ذهب العبد من حيث أتى، فلما غاب العبد عن أعينهم قال الملك: هذا أمر لا يمكن السكوت عنه، ولا بد أن هذا السمك له شأن غريب. فأمر بإحضار الصياد، فلما حضر قال له: من أين هذا السمك؟ فقال له: من بركة بين أربع جبال وراء هذا الجبل الذي بظاهر مدينتك. فالتفت الملك إلى الصياد، وقال له: مسيرة كم يوم؟ قال له: يا مولانا السلطان، مسيرة نصف ساعة. فتعجَّبَ السلطان، وأمر بخروج العسكر من وقته مع الصياد، فصار الصياد يلعن العفريت، وساروا إلى أن طلعوا الجبل، ونزلوا منه إلى بَرِّيَّةٍ متسعة لم يروها مدةَ أعمارهم، والسلطان وجميع العسكر يتعجبون من تلك البَرِّيَّةِ التي نظروها بين أربع جبال، والسمك فيها على أربعة ألوان: أحمر، وأبيض، وأصفر، وأزرق، فوقف الملك متعجبًا، وقال للعسكر ولمَن حضر: هل أحد منكم رأى هذه البركة في هذا المكان؟ فقالوا كلهم: لا.

فقال الملك: واللهِ لا أدخل مدينتي، ولا أجلس على تخت ملكي حتى أعرف حقيقة هذه البركة وسمكها. ثم أمر الناس بالنزول حول هذه الجبال فنزلوا، ثم دعا بالوزير، وكان وزيرًا خبيرًا عاقلًا لبيبًا عالمًا بالأمور، فلما حضر بين يدَيْه قال له: إني أردتُ أن أعمل شيئًا فأخبرك به؛ ذلك أنه خطر ببالي أن أنفرد بنفسي في هذه الليلة، وأبحث عن خبر هذه البركة وسمكها، فاجلس على باب خيمتي، وقُلْ للأمراء والوزراء والحجاب إن السلطان متشوش، وأمرني أنْ لا آذَن لأحد في الدخول عليه، ولا تُعلِمْ أحدًا بقصدي. فلم يقدر الوزير على مخالفته، ثم إن الملك غيَّرَ حالته، وتقلَّدَ سيفه، وانسلَّ من بينهم، ومشى بقية ليله إلى الصباح، فلم يزل سائرًا حتى اشتد عليه الحر فاستراح، ثم مشى بقيةَ يومه وليلته الثانية إلى الصباح، فلاحَ له سوادٌ من بُعْد؛ ففرح وقال: لَعَلِّي أجد مَن يخبرني بقضية البركة وسمكها. فلما قرب من السواد وجده قصرًا مبنيًّا بالحجارة السود، مصفَّحًا بالحديد، وأحد شِقَّيْهِ مفتوح والآخر مغلوق، ففرح الملك، ووقف على الباب ودقَّ دقًّا لطيفًا، فلم يسمع جوابًا، فدقَّ ثانيًا وثالثًا، فلم يسمع جوابًا، فدقَّ رابعًا دقًّا مزعجًا فلم يُجِبْهُ أحدٌ، فقال: لا شكَّ أنه خالٍ. فشَجَّعَ نفسه ودخل من باب القصر إلى دهليزه، ثم صرخ وقال: يا أهل القصر، إني رجل غريب وعابر سبيل، هل عندكم شيء من الزاد؟ وأعاد القول ثانيًا وثالثًا فلم يسمع جوابًا؛ فقوَّى قلبه، وثبَّت نفسه، ودخل من الدهليز إلى وسط القصر، فلم يجد فيه أحدًا غير أنه مفروش، وفي وسطه فسقية عليها أربعة سباع من الذهب الأحمر، تُلقِي الماء من أفواهها كالدر والجواهر، وفي دائره طيور، وعلى ذلك القصر شبكة تمنعها من الطلوع، فتعجَّبَ من ذلك، وتأسَّفَ حيث لم يَرَ فيه أحدًا يستخبر منه عن تلك البركة والسمك والجبال والقصر، ثم جلس بين الأبواب يتفكَّر، وإذا هو بأنينٍ من كبد حزين، فسمعه يترنم بهذا الشعر:

لَمَّا خَفَيْتُ ضَنًى وَوَجْدِي قَدْ ظَهَرْ        وَالنَّوْمُ مِنْ عَيْنِي تَبَدَّلَ بِالسَّهَرْ

نَادَيْتُ وَجْدًا قَدْ تَزَايَدَ بِالْفِكَرْ        يَا وَجْدُ لَا تُبْقِي عَلَيَّ وَلَا تَذَرْ

هَا مُهْجَتِي بَيْنَ الْمَشَقَّةِ وَالْخَطَرْ

فلما سمع السلطان ذلك الأنين نهض قائمًا، وقصد جهته فوجد سترًا مسبولًا على باب مجلس، فرفعه فرأى خلف الستر شابًّا جالسًا على سرير مرتفع عن الأرض مقدار ذراع، وهو شاب مليح بقَدٍّ رجيح، ولسان فصيح، وجبين أزهر، وخَدٍّ أحمر، وشامة على كرسيِّ خدِّه كترس من عنبر، كما قال الشاعر:

وَمُهَفْهَفٍ مِنْ شِعْرِهِ وَجَبِينِهِ        مَشَتِ الْوَرَى فِي ظُلْمَةٍ وَضِيَاءِ

مَا أَبْصَرَتْ عَيْنَاكَ أَحْسَنَ مَنْظَرًا        فِيمَا يُرَى مِنْ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ

كَالشَّامَةِ الْخَضْرَاءِ فَوْقَ الْوَجْنَةِ        الْــحَمْرَاءِ تَحْتَ الْمُقْلَةِ السَّوْدَاءِ

ففرح به الملك وسلَّمَ عليه، والصبي جالس، وعليه قباء حرير بطراز من ذهب، لكن عليه أثر الحزن، فردَّ السلام على الملك، وقال له: يا سيدي، اعذرني في عدم القيام. فقال الملك: أيها الشاب، أخبرني عن هذه البِركة، وعن سمكها الملون، وعن هذا القصر، وسبب وحدتك فيه، وما سبب بكائك؟ فلما سمع الشاب هذا الكلام، نزلت دموعه على خده وبكى بكاءً شديدًا؛ فتعجَّبَ الملك وقال له: ما يُبكِيك أيها الشاب؟ فقال: كيف لا أبكي وهذه حالتي؟ ومدَّ يده إلى أذياله فرفعها، فإذا نصفه التحتاني إلى قدمَيْه حجر، ومن سُرَّتِهِ إلى شعر رأسه بَشَر، ثم قال الشاب: اعلم أيها الملك أنَّ لهذا السمك أمرًا عجيبًا، لو كُتِب بالإبر على آماق البصر لَكان عِبْرَةً لمَن اعتبر؛ وذلك يا سيدي أنه كان والدي ملك هذه المدينة، وكان اسمه محمود صاحب الجزائر السود، وصاحب هذه الجبال الأربعة، أقام في المُلك سبعين عامًا، ثم تُوُفِّيَ والدي وتسلطنتُ بعده، وتزوَّجْتُ بابنة عمي، وكانت تحبني محبة عظيمة بحيث إذا غبت عنها لا تأكل ولا تشرب حتى تراني، فمكثَتْ في عصمتي خمسَ سنين إلى أن ذهبتُ يومًا من الأيام إلى الحمَّام، فأمرت الطباخ أن يجهز لنا طعامًا لأجل العشاء، ثم دخلت هذا القصر ونمت في الموضع الذي أنام فيه، وأمرتُ جاريتَيْن أن يروِّحَا على وجهي، فجلسَتْ واحدة عند رأسي، والأخرى عند رجلي، وقد قلقت لغيابها ولم يأخذني نوم، غير أن عيني مغمضة ونفسي يقظانة، فسمعت التي عند رأسي تقول للتي عند رجلي: يا مسعودة، إن سيدنا مسكين شبابه، ويا خسارته مع سيدتنا الخبيثة الخاطئة. فقالت الأخرى: لعن الله النساء الزانيات، ولكن مثل سيدنا وأخلاقه لا يصلح لهذه الزانية التي كل ليلة تبيت في غير فراشه. فقالت التي عند رأسي: إن سيدنا مغفَّل؛ حيث لم يسأل عنها. فقالت الأخرى: ويلك، وهل عند سيدنا عِلْم بحالها، أو هي تخليه باختياره؟! بل تعمل له عملًا في قدح الشراب الذي يشربه كلَّ ليلة قبل المنام، فتضع فيه البنج فينام، ولم يشعر بما يجري، ولم يعلم أين تذهب، ولا بما تصنع؛ لأنها بعدما تسقيه الشرابَ تلبس ثيابها وتخرج من عنده فتغيب إلى الفجر، وتأتي إليه وتبخره عند أنفه بشيء فيستيقظ من منامه.

فلما سمعتُ كلامَ الجواري صار الضياء في وجهي ظلامًا، وما صدَّقتُ أن الليل أقبَلَ، وجاءت بنت عمي من الحمام، فمددنا السماط وأكلنا، وجلسنا ساعة زمانية نتنادم كالعادة، ثم دعوت بالشراب الذي أشربه عند المنام، فناولتني الكأس فتراوغت عنه، وجعلت أني أشربه مثل عادتي، ودلقته في عبي، ورقدت في الوقت والساعة، وإذا بها قالت: نَمْ ليتك لم تَقُمْ، واللهِ كرهتك وكرهت صورتك، وملَّتْ نفسي من عشرتك. ثم قامت ولبست أفخر ثيابها وتبخَّرَتْ وتقلَّدَتْ سيفًا، وفتحت بابَ القصر وخرجت، فقمتُ وتبعتها حتى خرجت من القصر، وشقت في أسواق المدينة إلى أن انتهت إلى أبواب المدينة، فتكلَّمَتْ بكلام لا أفهمه، فتساقطت الأقفال وانفتحت الأبواب، وخرجَتْ وأنا خلفها وهي لا تشعر، حتى انتهت إلى ما بين الكيمان، وأتَتْ حصنًا فيه قبة مبنية بطين لها باب، فدخلته هي وصعدتُ أنا على سطح القبة، وأشرفت عليها، وإذا بها قد دخلت على عبدٍ أسود إحدى شفتَيْه غطاء، وشفته الثانية وطاء، وشفاهه تلقط الرمل من الحصى، وهو مبتل وراقد على قليل من قش القصب، فقبَّلت الأرض بين يدَيْه، فرفع ذلك العبد رأسه إليها، وقال لها: ويلك! ما سبب قعودك إلى هذه الساعة؟! كان عندنا السودان، وشربوا الشراب، وصار كل واحد بعشيقته، وأنا ما رضيت أن أشرب من شأنك. فقالت: يا سيدي، وحبيب قلبي، أَمَا تعلم أني متزوجة بابن عمي، وأنا أكره الخلق في صورته، وأبغض نفسي في صحبته، ولولا أني أخشى على خاطرك لَكنتُ جعلتُ المدينةَ خرابًا يصيح فيها البوم والغراب، وأنقل حجارتها إلى خلف جبل قاف. فقال العبد: تكذبين يا عاهرة، وأنا أحلف وحق فتوَّة السودان، وإلا تكون مروءتنا مروءة البيضان، إن بقيتِ تقعدين إلى هذا الوقت من هذا اليوم، لا أصاحبك ولا أضع جسدي على جسدك يا خائنة، أتنقلبين عليَّ من أجل شهوتك يا منتنة يا أخس البيضان؟ قال الملك: فلما سمعتُ كلامها، وأنا أنظر بعيني ما جرى بينهما، صارت الدنيا في وجهي ظلامًا، ولم أعرف روحي في أي موضع، وصارت بنت عمي واقفةً تبكي إليه، وتتذلل بين يدَيْه، وتقول له: يا حبيبي وثمرة فؤادي، ما أحد غيرك بقي لي، فإن طردتَني يا ويلي يا حبيبي يا نور عيني. وما زالت تبكي وتتضرَّع له حتى رضي عليها، ففرحت وقامت قلعت ثيابها ولباسها، وقالت له: يا سيدي، هل عندك ما تأكله جاريتك؟ فقال لها: اكشفي اللقان؛ فإن تحتها عظام فئران مطبوخة، فكليها وقرقشيها، وقومي لهذه القوارة تجدي فيها بوضة فاشربيها. فقامت وأكلت وشربت وغسلت يديها، وجاءت مع العبد على قش القصب وتعَرَّتْ، ودخلت معه تحت الهدمة والشراميط. فلما نظرتُ إلى هذه الفعال التي فعلَتْها بنتُ عمي، غبتُ عن الوجود، فنزلت من فوق أعلى القبة، ودخلت وأخذت السيفَ من بنت عمي، وهممت أن أقتل الاثنين، فضربت العبد أولًا على رقبته فظننت أنه قد قضي عليه.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح. فلما أصبح الصباح دخل الملك إلى محل الحكم، واحتبك الديوان إلى آخر النهار، ثم طلع الملك قصره، فقالت لها أختها دنيازاد: أتممي لنا حديثك. قالت: حبًّا وكرامة.

﴿اللیلة 8﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب المسحور قال للملك: لما ضربتُ العبد لأقطع رأسه، قطعتُ الحلقوم والجلد واللحم، فظننت أني قتلته، فشخر شخيرًا عاليًا فتحركت بنت عمي، وقامت بعد ذهابي، فأخذَتِ السيفَ وردَّتْه إلى موضعه، وأتَتِ المدينة، ودخلَتِ القصر، ورقدَتْ في فراشي إلى الصباح. ورأيتُ بنتَ عمي في ذلك اليوم قد قطعت شعرها، ولبست ثياب الحزن، وقالت: يا ابن عمي، لا تلُمْني فيما أفعله؛ فإنه بلغني أن والدتي توفيت، وأن والدي قُتِلَ في الجهاد، وأن أخويَّ أحدهما مات ملسوعًا، والآخَر رديمًا، فيحقُّ لي أن أبكي وأحزن. فلما سمعت كلامها سكتُّ عنها، وقلتُ لها: افعلي ما بَدَا لك؛ فإني لا أخالفك. فمكثتْ في حزن وبكاء وعديد سنة كاملة من الحول إلى الحول، وبعد السنة قالت لي: أريد أن أبني لي في قصرك مدفنًا مثل القبة، وأنفرد فيه بالأحزان، وأسميه بيت الأحزان. فقلتُ لها: افعلي ما بَدَا لك. فبَنَتْ لها بيتًا للحزن، وبَنَتْ في وسطه قبة ومدفنًا مثل الضريح، ثم نقلت العبد وأنزلته فيه وهو ضعيف جدًّا، لا ينفعها بنافعة، لكنه يشرب الشراب، ومن اليوم الذي جرحتُه فيه ما تكلَّمَ، إلا أنه حي؛ لأن أجله لم يفرغ، فصارت كل يوم تدخل عليه القبة بكرة وعشيًّا، وتبكي عنده، وتعدد عليه، وتسقيه الشراب والمساليق، ولم تزل على هذه الحال صباحًا ومساءً إلى ثاني سنة، وأنا أطول بالي عليها إلى أن دخلتُ عليها يومًا من الأيام على غفلة، فوجدتها تبكي وتلطم وجهها، وتقول هذه الأبيات:

عَدِمْتَ وُجُودِي فِي الْوَرَى بَعْدَ بُعْدِكُمُ        فَإِنَّ فُؤَادِي لَا يُحِبُّ سِوَاكُمُ

خُذُوا كَرَمًا جِسْمِي إِلَى أَيْنَ تَرْتَمُوا        وَأَيْنَ حَلَلْتُمْ فَادْفِنُونِي حِذَاكُمُ

وَإِنْ تَذْكُرُوا اسْمِي عِنْدَ قَبْرِي يُجِبْكُمُ        أَنِينُ عِظَامِي عِنْدَ صَوْتِ نِدَاكُمُ

فلما فرغَتْ من شعرها قلتُ لها وسيفي مسلول في يدي: هذا كلام الخائنات اللاتي ينكرن العِشرة، ولا يحفظن الصحبة. وأردتُ أن أضربها، فرفعت يدي في الهواء، فقامت وقد علمت أني أنا الذي جرحتُ العبدَ، ثم وقفَتْ على قدمَيْها، وتكلَّمَتْ بكلامٍ لا أفهمه، وقالت: جعل الله بسحري نصفك حجرًا، ونصفك الآخر بشرًا. فصرتُ كما ترى، وبقيتُ لا أقوم ولا أقعد، ولا أنا ميت ولا أنا حي، فلما صرتُ هكذا سحرَتِ المدينة وما فيها من الأسواق والغيطان، وكانت مدينتنا أربعة أصناف: مسلمين، ونصارى، ويهودًا، ومجوسًا. فسحرتهم سمكًا، فالأبيض مسلمون، والأحمر مجوس، والأزرق نصارى، والأصفر يهود، وسحرَتِ الجزائرَ الأربعة أربعةَ جبال، وأحاطتها بالبِركة، ثم إنها كلَّ يوم تعذِّبني وتضربني بسوطٍ من الجلد مائةَ ضربة حتى يسيل الدم، ثم تلبسني من تحت هذه الثياب ثوبًا من الشعر على نصفي الفوقاني. ثم إن الشاب بكى، وأنشد هذا الشعر:

صَبْرًا لِحُكْمِكَ يَا إِلَهِي وَالْقَضَا        أَنَا صَابِرٌ إِنْ كَانَ فِيهِ لَكَ الرِّضَا

قَدْ ضِقْتُ بِالْأَمْرِ الَّذِي قَدْ نَابَنِي        فَوَسِيلَتِي آلُ النَّبِيِّ الْمُرْتَضَى

فعند ذلك التفت الملك إلى الشاب، وقال له: أيها الشاب، زدتني همًّا على همي. ثم قال له: وأين تلك المرأة؟ قال: في المدفن الذي فيه العبد راقد في القبة، وهي تجيء له كل يوم مرةً، وعند مجيئها تجيء إليَّ وتجرِّدني من ثيابي، وتضربني بالسوط مائةَ ضربة، وأنا أبكي وأصيح، ولم يكن فيَّ حركة حتى أدفعها عن نفسي، ثم بعد أن تعاقبني تذهب إلى العبد بالشراب والمسلوقة بكرة النهار. قال الملك: والله يا فتى لَأفعلن معك معروفًا أُذكَر به، وجميلًا يؤرِّخونه سِيَرًا من بعدي. ثم جلس الملك يتحدَّثَ معه إلى أن أقبل الليل، ثم قام الملك وصبر إلى أن جاء وقت السحر، فتجرَّدَ من ثيابه، وتقلَّدَ سيفه، ونهض إلى المحل الذي فيه العبد، فنظر إلى الشمع والقناديل، ورأى البخور والأدهان، ثم قصد العبد وضربه فقتله، ثم حمله على ظهره، ورماه في بئر كانت في القصر، ثم نزل ولبس ثياب العبد وهو داخل في القبة، والسيف معه مسلول في طوله، فبعد ساعة أتَتِ العاهرةُ الساحرة، وعند دخولها جرَّدت ابن عمها من ثيابه، وأخذت سوطًا وضربته، فقال: آه، يكفيني ما أنا فيه فارحميني. فقالت: هل كنت أنت رحمتني، وأبقيتَ لي معشوقي؟! ثم ألبسته اللباس الشعر والقماش من فوقه، ثم نزلت إلى العبد، ومعها قدح الشراب، وطاسة المسلوقة، ودخلت عليه القبة، وبكت وولولت، وقالت: يا سيدي كلِّمني، يا سيدي حدِّثني. وأنشدت تقول:

فَإِلَى مَتَى هَذَا التَّجَنُّبُ وَالْجَفَا        إِنَّ الَّذِي فَعَلَ الْغَرَامَ لَقَدْ كَفَا

كَمْ قَدْ تُطِيلُ الْهَجْرَ لِي مُتَعَمِّدًا        إِنْ كَانَ قَصْدُكَ حَاسِدِي فَقَدِ اشْتَفَى

ثم إنها بكت وقالت: يا سيدي، كلمني وحدثني. فخفض صوته، وعوج لسانه، وتكلم بكلام السودان وقال: آه، آه، لا حول ولا قوة إلا بالله. فلما سمعت كلامه صرخت من الفرح، وغشي عليها، ثم إنها استفاقت، وقالت: لعل سيدي صحيح. فخفض الملك صوته بضعف، وقال: يا عاهرة، أنت لا تستحقين أن أكلمك. قالت: ما سبب ذلك؟ قال: سببه أنك طول النهار تعاقبين زوجك، وهو يصرخ ويستغيث حتى أحرمتِني النومَ من العشاء إلى الصباح، ولم يزل زوجك يتضرع، ويدعو عليك حتى أقلقني صوته، ولولا هذا لكنتُ تعافيتُ، فهذا الذي منعني عن جوابك.

فقالت: عن إذنك أخلصه مما هو فيه. فقال لها الملك: خلِّصيه وأريحينا. فقالت: سمعًا وطاعة. ثم قامت وخرجت من القبة إلى القصر، وأخذت طاسة ملأتها ماء، ثم تكلمت عليها، فصار الماء يغلي كما يغلي القدر، ثم رشته منها وقالت: بحقِّ ما تلوته أن تخرج من هذه الصورة إلى صورتك الأولى. فانتفض الشاب وقام على قدمَيْه وفرح بخلاصه، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ﷺ. ثم قالت له: اخرج ولا ترجع إلى هنا وإلا قتلتك. وصرخت في وجهه، فخرج من بين يديها، وعادت إلى القبة، ونزلت وقالت: يا سيدي، اخرج إليَّ حتى أنظرك. قال لها بكلام ضعيف: أي شيء فعلتِه أرحتِني من الفرع ولم تريحيني من الأصل. فقالت: يا حبيبي، وما هو الأصل؟ قال: أهل هذه المدينة، والأربع جزائر، كل ليلة إذا انتصف الليل يرفع السمك رأسه ويدعو عليَّ وعليك، فهو سبب منع العافية عن جسمي، فخلِّصيهم وتعالي خذي بيدي وأقيميني، فقد توجَّهت إليَّ العافية. فلما سمعت كلام الملك وهي تظنه العبد، قالت له وهي فرحانة: يا سيدي، على رأسي وعيني، باسم الله. ثم نهضت وقامت وهي مسرورة تجري، وخرجت إلى البركة، أخذت من مائها قليلًا … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 9﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الصبية الساحرة لما أخذت شيئًا من ماء البركة، وتكلَّمت عليه بكلام لا يُفهم، تحرَّك السمك ورفع رأسه، وصار آدميًّا في الحال، وانفكَّ السحر عن أهل المدينة، وصارت المدينة عامرة، والأسواق منصوبة، وصار كل واحد في صناعته، وانقلبت الجبال جزائر كما كانت، ثم إن الصبية الساحرة رجعت إلى الملك في الحال، وهي تظن أنه العبد، وقالت: يا حبيبي، ناولني يدك الكريمة أقبِّلها. فقال الملك بكلام خفي: تقربي مني. فدَنَتْ منه، وقد أخذ صارمه وطعنها به في صدرها، حتى خرج من ظهرها، ثم ضربها فشقَّها نصفين، وخرج فوجد الشاب المسحور واقفًا في انتظاره، فهنَّأه بالسلامة، وقبَّل الشابُّ يدَه وشكره، فقال له الملك: أتقعد في مدينتك أم تجيء معي إلى مدينتي؟ فقال الشاب: يا ملك الزمان، أتدري ما بينك وبين مدينتك؟ فقال الملك: يومان ونصف. فعند ذلك قال له الشاب: أيها الملك، إن كنتَ نائمًا فاستيقظ، إن بينك وبين مدينتك سنة للمُجِدِّ، وما أتيتَ في يومين ونصف إلا لأن المدينة كانت مسحورة، وأنا أيها الملك لا أفارقك لحظة عين. ففرح الملك بقوله، ثم قال: الحمد لله الذي مَنَّ عليَّ بك، فأنت ولدي؛ لأني طول عمري لم أُرزَق ولدًا. ثم تعانَقَا وفرحَا فرحًا شديدًا، ثم مشيا حتى وصلا إلى القصر، وأخبر الملك الذي كان مسحورًا أربابَ دولته أنه مسافر إلى الحج الشريف، فهيَّئُوا له جميعَ ما يحتاج إليه، ثم توجَّه هو والسلطان، وقلب السلطان ملتهب على مدينته، حيث غاب عنها سنة، ثم سافر ومعه خمسون مملوكًا، ومعه الهدايا.

ولم يزالَا مسافرين ليلًا ونهارًا سنة كاملة حتى أقبلَا على مدينة السلطان، فخرج الوزير والعساكر لمقابلته بعدما قطعوا الرجاء منه، وأقبلت العساكر وقبَّلت الأرضَ بين يديه، وهنَّئُوه بالسلامة، فدخل وجلس على الكرسي، ثم أقبل على الوزير وأعلمه بكل ما جرى على الشاب، فلما سمع الوزير ما جرى على الشاب هنَّأه بالسلامة، ولما استقر الحال أنعم السلطان على أناس كثيرين، ثم قال للوزير: عليَّ بالصياد الذي أتى بالسمك. فأرسل إلى ذلك الصياد الذي كان سببًا لخلاص أهل المدينة، فأحضره وخلع عليه، وسأله عن حاله، وهل له أولاد؟ فأخبره أن له ابنًا وبنتين، فتزوَّجَ الملك بإحدى بنتيه، وتزوَّجَ الشاب بالأخرى، وأخذ الملك الابنَ عنده، وجعله خازندارًا، ثم أرسل الوزير إلى مدينة الشاب التي هي الجزائر السود، وقلَّده سلطنتها، وأرسل معه الخمسين مملوكًا الذين جاءوا معه، وأرسل معه كثيرًا من الخلع لسائر الأمراء، فقبَّلَ الوزير يدَيْه، وخرج مسافرًا، واستقر السلطان والشاب؛ وأما الصياد فإنه قد صار أغنى أهل زمانه، وبناته زوجات الملوك إلى أن أتاهم الممات.

 

حكاية الحمال مع البنات

وما هذا بأعجب ممَّا جرى للحمَّال؛ فإنه كان إنسانًا من مدينة بغداد، وكان أعزب، وكان حمَّالًا، فبينما هو في السوق يومًا من الأيام متكئًا على قفصه، إذ وقفَتْ عليه امرأة ملتفَّة بإزار موصلي من حرير مزركش بالذهب، وحاشيتاه من قصب، فرفعت قناعها، فبان من تحته عيون سود بأهداب وأجفان، وهي ناعمة الأطراف، كاملة الأوصاف، وبعد ذلك قالت بحلاوة لفظها: هاتِ قفصك واتبعني. فما صدق الحمَّال بذلك، وأخذ القفص وتبعها إلى أن وقفت على باب دار، فطرقت الباب فنزل لها رجل نصراني، فأعطته دينارًا، وأخذت منه مقدارًا من الزيتون، ووضعته في القفص، وقالت له: احمله واتبعني. فقال الحمَّال: هذا واللهِ نهارٌ مبارك. ثم حمل القفص وتبعها، فوقفت على دكان فكهاني، واشترت منه تفاحًا شاميًّا، وسفرجلًا عثمانيًّا، وخوخًا عمانيًّا، وياسمينًا حلبيًّا، ونينوفرًا دمشقيًّا وخيارًا نيليًّا، وليمونًا مصريًّا، وأترجًّا سلطانيًّا، ومرسينًا ريحانيًّا، وتمر حنا، وأقحوانًا، وشقائق النعمان، وبنفسجًا، وجلنارًا، ونسرينًا، ووضعت الجميع في قفص الحمَّال، وقالت له: احمل. فحمل وتبعها حتى وقفت على جزار، وقالت له: اقطع عشرة أرطال لحمًا. فقطع لها، ولفَّت اللحم في ورق موز، ووضعته في القفص، وقالت له: احمل يا حمَّال. فحمل وتبعها، ثم وقفت على النقلي، وأخذت من سائر النقل، وقالت للحمَّال: احمل واتبعني. فحمل القفص وتبعها إلى أن وقفت على دكان الحلواني، واشترت طبقًا، وملأته من جميع ما عنده من مشبك، وقطائف بالمسك محشية، وصابونية، وأقراص ليمونية، وميمونية، وأمشاط، وأصابع، ولقيمات القاضي، ووضعت جميع أنواع الحلاوة في الطبق، ووضعته في القفص، فقال الحمال: لو أعلمتِني لجئتُ معي ببغل نحمل عليه هذه الأمور. فتبسَّمَتْ ثم وقفت على العطَّار، واشترت منه عشرة مياه من ماء ورد، وماء زهر، وماء خلاف، وغير ذلك، وأخذت قدرًا من السكر، وأخذت مرش ماء ورد ممسك، وحصى لبان ذكر، وعودًا وعنبرًا ومسكًا، وأخذت شمعًا إسكندرانيًّا، وضعت الجميع في القفص، وقالت: احمل قفصك واتبعني.

فحمل القفص وتبعها به إلى أن أتت دارًا مليحة، وقدامها رحبة فسيحة، وهي عالية البنيان، مشيدة الأركان، بابها بشقتين من الأبنوس، مصفَّح بصفائح الذهب الأحمر، فوقفت الصبية على الباب ودقَّتْ دقًّا لطيفًا، وإذا بالباب انفتح بشقتيه، فنظر الحمَّال إلى مَن فتح لها الباب، فوجدها صبية رشيقة القد، قاعدة النهد، ذات حسن وجمال، وقَدٍّ واعتدال، وجبين كغرة الهلال، وعيون كعيون الغزلان، وحواجب كهلال رمضان، وخدود مثل شقائق النعمان، وفم كخاتم سليمان، ووجه كالبدر في الإشراق، ونهدَيْن كرمانيتين باتفاق، وبطن مطوي تحت الثياب كطيِّ السجل للكتاب؛ فلما نظر الحمال إليها سلبت عقله، وكاد القفص أن يقع من فوق رأسه، ثم قال: ما رأيت عمري أبرك من هذا النهار. فقالت الصبية البوابة للدلالة والحمَّال: مرحبًا. وهي من داخل الباب، ومشوا حتى انتهوا إلى قاعة فسيحة مزركشة مليحة، ذات تراكيب وشازروانات ومصاطب، وسدلات وخزائن عليها الستور مرخيَّات، وفي وسط القاعة سرير من المرمر مرصَّع بالدر والجوهر، منصوب عليه ناموسية من الأطلس الأحمر، ومن داخله صبية بعيون بابلية، وقامة ألفية، ووجه يُخجِل الشمسَ المضيَّة، فكأنها بعض الكواكب الدرية، أو عقيلة عربية، كما قال فيها الشاعر:

مَنْ قَاسَ قَدَّكَ بِالْغُصْنِ الرَّطِيبِ فَقَدْ        أَضْحَى الْقِيَاسُ بِهِ زُورًا وَبُهْتَانَا

الْغُصْنُ أَحْسَنُ مَا نَلْقَاهُ مُكْتَسِيًا        وَأَنْتَ أَحْسَنُ مَا نَلْقَاكَ عُرْيَانَا

فنهضت الصبية الثالثة من فوق السرير، وخطرت قليلًا إلى أن صارت في وسط القاعة عند أختَيْها، وقالت: ما وقوفكم؟ حطوا عن رأس هذا الحمال المسكين. فجاءت الدلالة من قدامه، والبوابة من خلفه، وساعدتهما الثالثة، وحططن عن الحمَّال، وفرَّغن ما في القفص، وصفوا كل شيء في محله، وأعطين الحمَّال دينارين، وقلن له: توجَّهْ يا حمَّال. فنظر إلى البنات، وما هن فيه من الحسن والطبائع الحسان، فلم يَرَ أحسن منهن، ولكن ليس عندهن رجال، ونظر ما عندهن من الشراب والفواكه والمشمومات، وغير ذلك؛ فتعجب غاية العجب، ووقف عن الخروج، فقالت له الصبية: ما لك لا تروح؟! هل أنت استقلَلْتَ الأجرة؟ والتفتت إلى أختها وقالت لها: أعطيه دينارًا آخر. فقال الحمال: والله يا سيداتي إن أجرتي نصفان، وما استقلَلْتُ الأجرة، وإنما اشتغل قلبي وسري بكن، وكيف حالكن وأنتن وحدكن، وما عندكن رجال، ولا أحد يؤانسكن؟ وأنتن تعرفن أن المنارة لا تثبت إلا على أربعة، وليس لكنَّ رابع، وما يكمل حظ النساء إلا بالرجال كما قال الشاعر:

انْظُرْ إِلَى أَرْبَعٍ عِنْدِي قَدِ اجْتَمَعَتْ        جُنْكٌ وَعُودٌ وَقَانُونٌ وَمِزْمَارُ

أنتن ثلاثة فتفتقرن إلى رابع يكون رجلًا لبيبًا حاذقًا وللأسرار كاتمًا، فقلن له: نحن بنات، ونخاف أن نودع السِّرَّ عند مَن لا يحفظه، وقد قرأنا في الأخبار شعرًا:

صُنْ عَنْ سِوَاكَ السِّرَّ لَا تُودِعْهُ        مَنْ أَوْدَعَ السِّرَّ فَقَدْ ضَيَّعَهُ

فلما سمع الحمال كلامهن قال: وحياتكن إني رجل عاقل أمين، قرأت الكتب، وطالعت التواريخ، أُظهِر الجميلَ، وأُخفِي القبيح، وأعمل بقول الشاعر:

لَا يَكْتُمُ السِّرَّ إِلَّا كُلُّ ذِي ثِقَةٍ        وَالسِّرُّ عِنْدَ خِيَارِ النَّاسِ مَكْتُومُ

السِّرُّ عِنْدِيَ فِي بَيْتٍ لَهُ عَلَقٌ        ضَاعَتْ مَفَاتِحُهُ وَالْبَابُ مَخْتُومُ

فلما سمعت البنات الشعرَ وما أبداه من الكلام، قلن له: أنت تعلم أننا غرمنا على هذا المقام جملة من المال، فهل معك شيء تجازينا به؟ فنحن لا ندعك تجلس عندنا حتى تغرم مبلغنا من المال؛ لأن خاطرك أن تجلس عندنا، وتصير نديمنا، وتطلع على وجوهنا الصِّباح الملاح. فقالت صاحبة الدار: إذا كانت بغير المال محبة فلا تساوي وزن حبة. وقالت البوابة: إن لم يكن معك شيء رُحْ بلا شيء. فقالت الدلالة: يا أختي، نكفُّ عنه، فواللهِ ما قصَّرَ اليومَ معنا، ولو كان غيره ما طوَّل روحه علينا، ومهما جاء عليه أغرمه عنه. ففرح الحمَّال، وقال: والله ما استفتحت بالدراهم إلا منكِ. فقلن له: اجلس على الرأس والعين. وقامت الدلالة وشدَّتْ وسطها، وصفت القناني، وروقت المدام، وعملت الحضرة على جانب البحر، وأحضرت ما يحتاجون إليه، ثم قدمت المُدام، وجلست هي وأختها، وجلس الحمال بينهن، وهو يظن أنه في المنام؛ ثم قدمت باطية المدام، وملأت أول قدح وشربته والثاني والثالث، ثم ملأت وناولت أختها الأخرى، ثم ملأت وناولت الحمَّال، فأخذ الحمَّال منها الكأس وأنشد هذا الشعر:

اشْرَبِ الرَّاحَ فَائِزًا بِالْعَوَافِي        إِنَّ هَذَا الشَّرَابَ لِلدَّاءِ شَافِ

وقال أيضًا هذا البيت:

لَا يَشْرَبُ الرَّاحَ إِلَّا مَنْ بِهِ طَرَبٌ        يَكُونُ بِالسُّكْرِ فِي أَفْرَاحِهِ رَاقِي

وبعد هذا الشعر قبَّل أيديهن وشرب معهن، ثم نزل عند صاحبة المحل وقال: يا سيدتي، أنا عبدك ومملوكك وخَدَّامك، وأنشد يقول:

عَلَى الْبَابِ عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِكِ وَاقِفٌ        بِجُودِكِ وَالْإِحْسَانِ وَالشُّكْرِ عَارِفُ

فقالت: اشرب هنيئًا وعافية في مجاري الصحة. فأخذ الكأس وقبَّلَ يدها وترنَّمَ بقول الشاعر:

نَاوَلْتُهَا شِبْهَ خَدَّيْهَا مُشَعْشَعَةً        حَمْرَاءَ يَحْكِي سَنَاهَا ضَوْءَ مِقْبَاسِ

فَقَبَّلْتُهَا وَقَالَتْ وَهْيَ ضَاحِكَةٌ:        فَكَيْفَ تَسْقِي خُدُودَ النَّاسِ لِلنَّاسِ؟

قُلْتُ: اشْرَبِي فَهْيَ مِنْ دَمْعِي وَحُمْرَتُهَا        دَمِي وَمَازَجَهَا فِي الْكَأْسِ أَنْفَاسِي

فأخذت الصبية القدح وشربته ونزلت عند أختها، ولا زلن والحمَّال بينهن في رقص وغناء ومشمومات، ولم يزل الحمال معهن في عناق وتقبيل، وهذه تكلمه وهذه تجذبه، وهذه بالمشموم تضربه، وهو معهنَّ حتى لعبت الخمرة بعقولهم، فلما تحكَّمَ الشرابُ معهم قامت البوابة، وتجرَّدت من ثيابها وصارت عريانة، ثم رمت نفسها في تلك البحيرة، ولعبت في الماء، وأخذت الماء في فمها وبخت الحمَّال، ثم غسلت أعضاءها وما بين فخذيها، ثم طلعت من الماء ورمت نفسها في حجر الحمَّال، وقالت له: يا حبيبي، ما اسم هذا؟ وأشارت إلى فرجها، فقال الحمَّال: رحمك الله. فقالت: يوه يوه، أما تستحي! ومسكته من رقبته، وصارت تصكه، فقال: فرجك. فقالت: غيره. فقال: كسك. فقالت: غيره. فقال: زنبورك. فلم تزل تصكه حتى ذاب قفاه ورقبته من الصك، ثم قال لها: وما اسمه؟ فقالت له: حبق الجسور. فقال الحمال: الحمد لله على السلامة يا حبق الجسور.

ثم إنهم أداروا الكأس والطاس، فقامت الثانية وخلعت ثيابها، ورمت نفسها في تلك البحيرة، وعملت مثل الأولى، وطلعت ورمت نفسها في حجر الحمَّال، وأشارت إلى فرجها وقالت: يا نور عيني، ما اسم هذا؟ قال: فرجك. قالت: أَمَا يقبح عليك هذا الكلام! وصكته كفًّا طَنَّ له سائر ما في القاعة، فقال: حبق الجسور. فقالت: لا. والضرب والصك على قفاه، فقال لها: وما اسمه؟ فقالت له: السمسم المقشور.

ثم قامت الثالثة وخلعت ثيابها، ونزلت تلك البحيرة، وفعلت مثل مَن قبلها، ثم لبست ثيابها، وألقت نفسها في حجر الحمَّال، وقالت له أيضًا: ما اسم هذا؟ وأشارت الى فرجها، فصار يقول لها كذا وكذا، إلى أن قال لها وهي تضربه: وما اسمه؟ فقالت: خان أبي منصور. فقال: الحمد لله على السلامة يا خان أبي منصور.

ثم بعد ساعة قام الحمَّال ونزع ثيابه ونزل في البحيرة، وذكره يسبح في الماء، وغسل مثل ما غسلن، ثم طلع ورمى نفسه في حجر سيدتهن، ورمى ذراعَيْه في حجر البوابة، ورمى رجلَيْه في حجر الدلَّالة، ثم أشار إلى أيره، وقال: يا سيدتي، ما اسم هذا؟ فضحك الكل على كلامه حتى انقلبن على ظهورهن، وقلن: زبك. قال: لا. وأخذ من كل واحدة عضة، قلن: أيرك. قال: لا. وأخذ من كل واحدة حضنًا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 10﴾

قالت لها أختها دنيازاد: يا أختي، أتممي لنا حديثك. قالت: حبًّا وكرامة. قد بلغني أيها الملك السعيد أنهن لم يزلن يقلن زبك أيرك، وهو يقبِّل ويعضُّ ويعانق، وهن يتضاحكن، إلى أنْ قلنَ له: وما اسمه؟ قال: اسمه البغل الجسور، الذي يرعى حبق الجسور، ويعلق بالسمسم المقشور، ويبيت في خان أبي منصور. فضحكن حتى استلقين على ظهورهن، ثم عادوا إلى منادمتهم، ولم يزالوا كذلك إلى أن أقبل الليل عليهم، فقلن للحمال: توجَّهْ وأرِنَا عرْضَ أكتافك. فقال الحمال: واللهِ خروج الروح أهون من الخروج من عندكن، دعونا نصل الليل بالنهار، وكلٌّ منَّا يروح إلى حال سبيله. فقالت الدلالة: بحياتي عندكن تدعنه ينام عندنا نضحك عليه؛ فإنه خليع ظريف. فقلن له: تبيت عندنا بشرط أن تدخل تحت الحكم، ومهما رأيته لا تسأل عنه، ولا عن سببه. فقال: نعم. فقلن: قُمْ، واقرأ ما على الباب مكتوبًا. فقام إلى الباب فوجد مكتوبًا عليه بماء الذهب: لا تتكلَّمْ فيما لا يعنيك، تسمع ما لا يرضيك. فقال الحمَّال: اشهدوا أني لا أتكلم فيما لا يعنيني.

ثم قامت الدلالة جهَّزَتْ لهم مأكولًا فأكلوا، ثم أوقدوا الشمع والعود، وقعدوا في أكل وشرب، وإذا هم سمعوا دقَّ الباب، فلم يختل نظامهم، فقامت واحدة منهن إلى الباب، ثم عادت وقالت: قد كمل صفانا في هذه الليلة؛ لأني وجدت بالباب ثلاثةَ أعاجم ذقونهم محلوقة، وهم الثلاثة عور بالعين الشمال، وهذا من أعجب الاتفاق، وهم ناس غرباء قد حضروا من أرض الروم، ولكل واحد منهم شكل وصورة مضحكة، فإن دخلوا نضحك عليهم. ولم تزل تتلطَّف بصاحبتَيْها حتى قالتَا لها: دعيهم يدخلون، واشرطي عليهم ألَّا يتكلموا فيما لا يعنيهم، فيسمعوا ما لا يرضيهم. ففرحت وراحت، ثم عادت ومعها الثلاثة العور، ذقونهم محلوقة، وشواربهم مبرومة ممشوقة، وهم صعاليك، فسلَّموا وتأخَّروا، فقامت لهم البنات وأقعدوهم، فنظر الثلاثة رجال إلى الحمَّال فوجدوه سكران، فلما عاينوه ظنوا أنه منهم، وقالوا: هو صعلوك مثلنا يؤانسنا. فلما سمع الحمال هذا الكلام قام وقلب عينيه، وقال لهم: اقعدوا بلا فضول، أما قرأتم ما على الباب؟ فضحك البنات وقلن لبعضهن: إننا نضحك بين الصعاليك والحمال.

ثم وضعن الأكل للصعاليك، فأكلوا ثم جلسوا يتنادمون، والبوابة تسقيهم، ولما دار الكأس بينهم قال الحمال للصعاليك: يا إخوتنا، هل معكم حكاية أو نادرة تسلوننا بها؟ فدبَّتْ فيهم الحرارة، وطلبوا آلات اللهو، فأحضرت لهم البوابة دفًّا موصليًّا، وعودًا عراقيًّا، وجنكًا عجميًّا، فقام الصعاليك واقفين، وأخذ واحدٌ منهم الدفَّ، وأخذ واحدٌ العودَ، وأخذ واحدٌ الجنكَ، وضربوا بها، وغنَّت البنات، وصار لهم صوت عالٍ، فبينما هم كذلك وإذا بطارق يطرق الباب، فقامت البوابة لتنظر مَن بالباب، وكان السبب في دقِّ الباب أن في تلك الليلة نزل الخليفة هارون الرشيد لينظر ويسمع ما يتجدَّد من الأخبار هو وجعفر وزيره، ومسرور سيَّاف نقمته، وكان من عادته أن يتنكَّرَ في صفة التجَّار، فلما نزل تلك الليلة ومشى في المدينة، جاءت طريقهم على تلك الدار فسمعوا آلات الملاهي، فقال الخليفة لجعفر: إني أريد أن ندخل هذه الدار، ونشاهد صاحب هذه الأصوات. فقال جعفر: هؤلاء قوم قد دخل السُّكْر فيهم، ونخشى أن يصيبنا منهم شر. فقال: لا بد من دخولنا، وأريد أن تتحيَّل حتى ندخل عليهم. فقال جعفر: سمعًا وطاعة. ثم تقدَّمَ جعفر وطرق الباب، فخرجت البوابة وفتحت الباب، فقال لها: يا سيدتي، نحن تجار من طبرية، ولنا في بغداد عشرة أيام، ومعنا تجارة ونحن نازلون في خان التجار، وعزم علينا تاجر في هذه الليلة فدخلنا عنده، وقدَّمَ لنا طعامًا فأكلنا، ثم تنادمنا عنده ساعة، ثم أذن لنا بالانصراف، فخرجنا بالليل ونحن غرباء، فتهنا عن الخان الذي نحن فيه، فنرجو من مكارمكم أن تدخلونا هذه الليلة نبيت عندكم، ولكم الثواب.

فنظرت البوابة إليهم فوجدتهم بهيئة التجار، وعليهم الوقار، فدخلت لصاحبتيها وشاورتهما، فقالتا لها: أدخليهم. فرجعت وفتحت لهم الباب، فقالوا: أندخل بإذنك؟ قالت: ادخلوا. فدخل الخليفة وجعفر ومسرور، فلما رأتهم البنات قمن لهم وخدمنهم، وقلنا: مرحبًا وأهلًا وسهلًا بأضيافنا، ولنا عليكم شرط ألَّا تتكلموا فيما لا يعنيكم، فتسمعوا ما لا يرضيكم. قالوا: نعم. وبعد ذلك جلسوا للشراب والمنادمة، فنظر الخليفة إلى الثلاثة الصعاليك، فوجدهم عور بالعين الشمال، فتعجَّبَ منهم، ونظر إلى البنات وما هم فيه من الحُسْن والجمال فتحيَّر وتعجَّب، واستمروا في المنادمة والحديث، وأتين للخليفة بشراب، فقال: أنا حاج. وانعزل عنهم، فقامت البوابة وقدَّمت له صفرة مزركشة، ووضعت عليها باطية من الصيني، وسكبت فيها ماء الخلاف، وأرخت فيه قطعة من الثلج، ومزجته بسكر، فشكرها الخليفة، وقال في نفسه: لا بد أن أجازيها في غَدٍ على فعلها من صنيع الخير.

ثم اشتغلوا بمنادمتهم، فلما تحكَّمَ الشراب قامت صاحبة البيت وخدمتهم، ثم أخذت بيد الدلالة وقالت: يا أختي، قومي لنقضي دَيننا. فقالت لها: نعم. فعند ذلك قامت البوابة، وأطلعت الصعاليك خلف الأبواب قدامهن، وذلك بعد أن أخلت وسط القاعة، ونادَيْنَ الحمَّالَ وقلن له: ما أقل مودتك! ما أنت غريب، بل أنت من أهل الدار. فقام الحمال وشدَّ وسطه وقال: ما تريدين؟ فقالت: قف مكانك. ثم قامت الدلالة وقالت للحمال: ساعدني. فرأى كلبتين من الكلاب السود في رقبتيهما جنازير. فأخذهما الحمَّال ودخل بهما إلى وسط القاعة، فقامت صاحبة المنزل، وشمَّرت عن معصمها، وأخذت سوطًا وقالت للحمال: قدِّمْ كلبةً منهما. فجرَّها في الجنزير وقدَّمَها، والكلبة تبكي وتحرِّك رأسها إلى الصبية، فنزلت الصبية عليها بالضرب على رأسها والكلبة تصرخ، ولا زالت تضربها حتى كلَّتْ سواعدها، فرمت السوط من يدها، ثم ضمَّت الكلبة إلى صدرها، ومسحت دموعها، وقبَّلَتْ رأسها، ثم قالت للحمَّال: رُدَّها وهات الثانية. فجاء بها، وفعلت بها مثل ما فعلت بالأولى، فعند ذلك اشتغل قلب الخليفة، وضاق صدره، وغمز جعفر أن يسألها، فقال له بالإشارة: اسكت.

ثم التفتت صاحبة البيت للبوابة، وقالت لها: قومي لقضاء ما عليك. قالت: نعم. ثم إن صاحبة البيت صعدت على سرير من المرمر مصفَّح بالذهب والفضة، وقالت للبوابة والدلالة: ائتيَا بما عندكما. فأما البوابة فإنها صعدت على سريرٍ بجانبها، وأما الدلالة فإنها دخلت مخدعًا، وأخرجت منه كيسًا من الأطلس بأهداب خضر، ووقفت قدام الصبية صاحبة المنزل، ونفضت الكيس، وأخرجت منه عودًا، وأصلحت أوتاره، وأنشدت هذه الأبيات:

رُدَّا عَلَى جَفْنِيَ النَّوْمَ الَّذِي سُلِبَا        وَخَبِّرَانِي بِعَقْلِي أَيَّةً ذَهَبَا

عَلِمْتُ لَمَّا رَضِيتُ الْحُبَّ مَنْزِلَةً        أَنَّ الْمَنَامَ عَلَى جَفْنَيَّ قَدْ غَضِبَا

قَالُوا عَهِدْنَاكَ مِنْ أَهْلِ الرَّشَادِ فَمَا        أَغْوَاكَ؟ قُلْتُ اطْلُبُوا مِنْ لَحْظِهِ السَّبَبَا

إِنِّي لَهُ عَنْ دَمِ الْمَسْفُوكِ مُعْتَذِرٌ        أَقُولُ حَمَّلْتُهُ فِي سَفْكِهِ تَعَبَا

أَلْقَى بِمِرْآةِ فِكْرِي شَمْسَ صُورَتِهِ        فعَكْسُهَا شَبَّ فِي أَحْشَائِيَ اللَّهَبَا

مَنْ صَاغَهُ اللهُ مِنْ مَاءِ الْحَيَاةِ وَقَدْ        أَجْرَى بَقِيَّتَهُ فِي ثَغْرِه شَنَبَا

مَاذَا تَرَى فِي مُحِبٍّ مَا ذُكِرْتَ لَهُ        إلَّا شَكَا أَوْ بَكَى أَوْ حَنَّ أَوْ طَرِبَا

يَرَى خَيَالَكَ فِي الْمَاءِ الزُّلَالِ إِذَا        رَامَ الشَّرَابَ فَيُرْوَى وَهْوَ مَا شَرِبَا

وأنشدت أيضًا:

سَكِرْتُ مِنْ لَحْظِهِ لَا مِنْ مُدَامَتِهِ        وَمَالَ بِالنَّوْمِ عَيْنِي عَنْ تَمَايُلِهِ

فَمَا السُّلَافُ سَلَتْني بَلْ سَوَالِفُهُ        وَمَا الشَّمُولُ شَلَتْنِي بَلْ شَمَائِلُهُ

لَوَى بِعَزْمِي أَصْدَاغٌ لَوَيْنَ لَهُ        وَغَالَ عَقْلِي بِمَا تَحْوِي غَلَائِلُهُ

فلما سمعت الصبية ذلك قالت: طيَّبَكِ الله. ثم شقَّتْ ثيابها، ووقعت على الأرض مغشيًّا عليها، فلما انكشف جسدها رأى الخليفة أثر ضرب المقارع والسياط، فتعجَّبَ من ذلك غاية العجب، فقامت البوابة ورشَّتِ الماءَ على وجهها، وأتَتْ إليها بحلة وألبستها إيَّاها، فقال الخليفة لجعفر: أَمَا تنظر إلى هذه المرأة، وما عليها من أثر الضرب، فأنا لا أقدر أن أسكت على هذا، ولا أستريح إلا إن وقفتُ على حقيقة خبر هذه الصبية، وحقيقة خبر هاتين الكلبتين. فقال جعفر: يا مولانا، قد شرطوا علينا شرطًا وهو ألَّا نتكلَّم فيما لا يعنينا، فنسمع ما لا يرضينا. ثم قامت الدلالة فأخذت العود، وأسندته إلى نهدها، وغمزته بأناملها، وأنشدت تقول:

إِنْ شَكَوْنا الْهَوَى فَمَاذَا تَقُولُ        أَوْ تَلِفْنَا شَوْقًا فَمَاذَا السَّبِيلُ

أَوْ بَعَثْنَا رُسْلًا تُتَرْجِمُ عَنَّا        مَا يُؤَدِّي شَكْوَى الْمُحِبِّ رَسُولُ

أَوْ صَبَرْنَا فَمَا لَنَا مِنْ بَقَاءٍ        بَعْدَ فَقْدِ الْأَحْبَابِ إِلَّا قَلِيلُ

لَيْسَ إِلَّا تَأَسُّفًا ثُمَّ حُزْنًا        وَدُمُوعًا عَلَى الْخُدُودِ تَسِيلُ

أَيُّهَا الْغَائِبُونَ عَنْ لَمْحِ عَيْنِي        أَنْتُمُ فِي الْفُؤَادِ مِنِّي حُلُولُ

هَلْ حَفَظْتُمْ فِي الْغَيْبِ عَهْدًا لِصَبٍّ        لَيْسَ عَنْهُ مَدَى الزَّمَانِ يَحُولُ

أَمْ نَسِيتُمْ عَلَى التَّبَاعُدِ صَبًّا        شَفَّهُ فِيكُمُ الضَّنَى وَالنُّحُولُ

وَإِذَا الْحَشْرُ ضَمَّنَا أَتَمَنَّى        مِنْ لَدُنْ رَبِّنَا حِسَابًا يَطُولُ

فلمَّا سمعتِ المرأةُ الثانية شِعرَ الدلالة، شقَّتْ ثيابها كما فعلت الأولى وصرخت، ثم ألقت نفسها على الأرض مغشيًّا عليها، فقامت الدلالة وألبستها حلة ثانية بعد أن رشَّت الماء على وجهها، ثم قامت المرأة الثالثة وجلست على سريرٍ، وقالت للدلالة: غنِّي لي لأوفي ديني، فما بقي غير هذا الصوت. فأصلحت الدلالةُ العودَ، وأنشدَتْ هذه الأبيات:

فَإِلَى مَتَى هَذَا الصُّدُودُ وَذَا الْجَفَا        فَلَقَدْ جَرَى مِنْ أَدْمُعِي مَا قَدْ كَفَى

كَمْ قَدْ أَطَلْتَ الْهَجْرَ لِي مُتَعَمِّدًا        إنْ كَانَ قَصْدُكَ حَاسِدِي فَقَدِ اشْتَفَى

لَوْ أَنْصَفَ الدَّهْرُ الْخَئُونُ لِعَاشِقٍ        مَا كَانَ يَوْمًا لِلْعَوَاذِلِ مُنْصِفَا

فَلِمَنْ أَبُوحُ بِصَبْوَتِي يَا قَاتِلِي        يَا خَيْبَةَ الشَّاكِي إِذَا فَقَدَ الْوَفَا

وَيَزِيدُ وَجْدِي فِي هَوَاكَ تَلَهُّفًا        فَمَتَى وَعَدْتَ وَلَا رَأَيْتُكَ مُخْلِفَا

يَا مُسْلِمُونَ خُذُوا بِثَأْرِ مُتَيَّمٍ        أَلِفَ السُّهَادَ لَدَيْهِ طَرْفٌ مَا غَفَا

أَيُحِلُّ فِي شَرْعِ الْغَرَامِ تَذَلُّلِي        وَيَكُونُ غَيْرِي بِالْوِصَالِ مُشَرَّفَا

وَلَقَدْ كَلِفْتُ بِحُبِّكُمْ مُتَلَذِّذًا        وَغَدَا عَذُوِلي فِي الهَوَى مُتَكَلِّفَا

فلما سمعَتِ المرأة الثالثة قصيدتها، صرخت وشقَّت ثيابها، وألقت نفسها على الأرض مغشيًّا عليها، فلما انكشف جسدها ظهر فيه ضرب المقارع مثل مَن قبلها، فقال الصعاليك: ليتنا ما دخلنا هذه الدار، وكُنَّا بِتْنَا على الكيمان؛ فقد تكدَّرَ مبيتنا هنا بشيء يقطع الصلب. فالتفت الخليفة إليهم وقال لهم: لِمَ ذلك؟ قالوا: قد اشتغل سرُّنا بهذا الأمر. فقال الخليفة: أَمَا أنتم من هذا البيت؟ قالوا: لا، ولا ظننا هذا الموضع إلا للرجل الذي عندكم. فقال الحمَّال: واللهِ ما رأيتُ هذا الموضع إلا هذه الليلة، وليتني بِتُّ على الكيمان، ولم أبت فيه. فقال الجميع: نحن سبعة رجال، وهن ثلاث نسوة، وليس لهن رابعة، فنسألهن عن حالهن، فإن لم يُجِبْنَنَا طوعًا أجبننا كرهًا. واتفق الجميع على ذلك، فقال جعفر: ما هذا رأي سديد، دعوهن فنحن ضيوف عندهن، وقد شرطن علينا شرطًا فنوفي به، ولم يَبْقَ من الليل إلا القليل، وكلٌّ منَّا يمضي إلى حال سبيله. ثم إنه غمز الخليفة وقال: ما بقي غير ساعة، وفي غدٍ تحضرهن بين يدَيْكَ فتسألهن عن قصتهن. فأبى الخليفة وقال: لم يَبْقَ لي صبر عن خبرهن، وقد كثر بينهن القيل والقال. ثم قالوا: ومَن يسألهن؟ فقال بعضهم: الحمَّال. ثم قال لهم النساء: يا جماعة، في أي شيء تتكلمون؟ فقام الحمال لصاحبة البيت، وقال لها: يا سيدتي، سألتك بالله، وأقسم عليك به أن تخبرينا عن حال الكلبتين، وأي سبب تعاقبينهما، ثم تعودين تبكين وتقبِّلينهما، وأن تخبرينا عن سبب ضرب أختك بالمقارع، وهذا سؤالنا والسلام.

فقالت صاحبة المكان للجماعة: أصحيح ما يقوله عندكم؟! فقال الجميع: نعم. إلا جعفر فإنه سكت، فلما سمعت الصبية كلامهم، قالت: واللهِ لقد آذيتمونا يا ضيوفنا الأذيةَ البالغة، وتقدَّمَ لنا أننا شرطنا عليكم أن مَن تكلَّمَ فيما لا يعنيه سمع ما لا يرضيه، أَمَا كفى أننا أدخلناكم منزلنا، وأطعمناكم زادنا، ولكن لا ذنب لكم، وإنما الذنب لمَن أوصلكم إلينا. ثم شمَّرت عن معصمها، وضربت الأرض ثلاثَ ضربات، وقالت: عجِّلوا. وإذا بباب خزانة قد فُتِح، وخرج منه سبعة عبيد، وبأيديهم سيوف مسلولة، فقالت: كتِّفوا هؤلاء الكثير كلامهم، واربطوا بعضهم ببعض. ففعلوا، وقالوا: أيتها المخدرة، ائذني لنا في ضرب رقابهم. فقالت: أمهلوهم ساعةً حتى أسألهم عن حالهم قبل ضرب رقابهم. فقال الحمال: بالله يا سيدتي لا تقتليني بذنب الغير، فإن الجميع أخطئوا، ودخلوا في الذنب إلا أنا، واللهِ لقد كانت ليلتنا طيبة لو سلمنا من هؤلاء الصعاليك الذين لو دخلوا مدينةً عامرةً لأخربوها، ثم أنشد يقول:

مَا أَحْسَنَ الْعَفْوَ عَنِ الْقَادِرِ        لَا سِيَّمَا عَنْ غَيْرِ ذِي نَاصِرِ

بِحُرْمَةِ الْوُدِّ الَّذِي بَيْنَنَا        لَا تَقْتُلِ الْأَوَّلَ بِالْآخِرِ

فلما فرغ الحمال من كلامه، ضحكت الصبية. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 11﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الصبية لما ضحكت بعد غيظها، أقبلت على الجماعة وقالت: أخبروني بخبركم، فما بقي من عمركم إلا ساعة، ولولا أنتم أعزاء وأكابر قومكم أو حكَّام لَعجَّلْتُ جزاءَكم. فقال الخليفة: ويلك يا جعفر، عرِّفها بنا وإلا تقتلنا. فقال جعفر: من بعض ما نستحق. فقال له الخليفة: لا ينبغي الهزل في وقت الجد، كلٌّ منهما له وقت. ثم إن الصبية أقبلت على الصعاليك، وقالت لهم: هل أنتم إخوة؟ فقالوا لها: لا والله، ما نحن إلا فقراء الحجام. فقالت لواحد منهم: هل أنت وُلِدت أعور؟ فقال: لا والله، وإنما قد جرى لي أمر عجيب حين تَلِفَتْ عيني، ولهذا الأمر حكاية لو كُتِبَتْ بالإبر على آماق البصر لَكانت عبرةً لمَن اعتبر. فسألت الثاني والثالث فقالا لها مثل الأول، ثم قالوا: إنَّ كلَّ واحد مِنَّا من بلد وإن حديثنا عجيب، وأمرنا غريب. فالتفتَتِ الصبية لهم، وقالت: كل واحد منكم يحكي حكايته، وما سبب مجيئه إلى مكاننا، ثم يملِّس على رأسه، ويروح إلى حال سبيله. فأوَّلُ مَن تقدَّمَ الحمَّالُ، فقال: يا سيدتي، أنا رجل حمَّال حملتني هذه الدلَّالة، وأتت بي إلى هنا، وجرى لي معكن ما جرى، وهذا حديثي والسلام. فقالت له: مَلِّسْ على رأسك ورُحْ. فقال: واللهِ ما أروح حتى أسمع حديث رفقائي.

 

حكاية الصعلوك الأول

فتقدَّمَ الصعلوك الأول، وقال لها: يا سيدتي، اعلمي أن سبب حلق ذقني وتلف عيني أن والدي كان ملكًا وله أخ، وكان أخوه ملكًا على مدينة أخرى، واتفق أن أمي ولدتني في اليوم الذي وُلِد فيه ابن عمي، ثم مضت سنون وأعوام وأيام حتى كبرنا، وكنت أزور عمي في بعض السنين، وأقعد عنده أشهُرًا عديدة، فزرته مرة فأكرمني ابن عمي غاية الإكرام، وذبح لي الأغنام، وروَّق لي المُدام، وجلسنا للشراب، فلما تحكَّم الشراب فينا قال ابن عمي: يا ابن عمي، إن لي عندك حاجة مهمة، وأريد ألَّا تخالفني فيما أريد أن أفعله. فقلتُ له: حبًّا وكرامة.

فاستوثق مني بالأيمان العِظَام، ونهض من وقته وساعته، وغاب قليلًا ثم عاد وخلفه امرأة مُزَيَّنَة مطيبة، وعليها من الحلل ما يساوي مبلغًا عظيمًا، فالتفت إليَّ والمرأة خلفه، وقال: خذ هذه المرأة واسبقني على الجبَّانة الفلانية. ووصفها لي فعرفتُها، وقال لي: ادخل بها التربة، وانتظرني هناك. فلم يمكنني المخالفة، ولم أقدر على ردِّ سؤاله لأجل اليمين الذي حلفته، فأخذت المرأة وسرت إلى أن دخلت التربة أنا وهي، فلما استقر بنا الجلوس جاء ابن عمي ومعه طاسة فيها ماء وكيس فيه جبس وقادوم، ثم إنه أخذ القادوم وجاء إلى قبر في وسط التربة ففَكَّه، ونقض أحجاره إلى ناحية التربة، ثم حفر بالقادوم في الأرض حتى كشف عن طابق قدر الباب الصغير، فبان من تحت الطابق سلَّمٌ معقود، ثم التفت إلى المرأة بالإشارة، وقال لها: دونك وما تختارين. فنزلت المرأة على ذلك السلَّمِ، ثم التفَتَ إليَّ وقال: يا ابن عمي تمِّمِ المعروفَ، إذا نزلتُ أنا في ذلك الموضع فرُدَّ الطابق، ورُدَّ عليه الترابَ كما كان، وهذا تمام المعروف، وهذا الجبس الذي في الكيس، وهذا الماء الذي في الطاسة أعجن منه الجبس وجبِّس القبر في دائر الأحجار كما كان أولًا حتى لا يعرفه أحد، ولا يقول هذا فتح جديد وبطنه عتيق؛ لأن لي سنة كاملة وأنا أعمل فيه، وما يعلم به إلا الله، وهذه حاجتي عندك. ثم قال لي: لا أوحش الله منك يا ابن عمي. ثم نزل على السلم.

فلما غاب عني قمتُ ورددت الطابق، وفعلت ما أمرني به، حتى صار القبر كما كان، ثم رجعت إلى قصر عمي، وكان عمي في الصيد والقنص، فنمتُ تلك الليلة، فلما أصبح الصباح تذكرتُ الليلةَ الماضية وما جرى فيها بيني وبين ابن عمي، وندمت على ما فعلت معه حيث لا ينفع الندم، ثم خرجت إلى المقابر وفتَّشْتُ على التربة فلم أعرفها، ولم أزل أفتش حتى أقبل الليل، ولم أهتَدِ إليها، فرجعتُ إلى القصر ولم آكل ولم أشرب، وقد اشتغل خاطري بابن عمي من حيث لا أعلم له حالًا، فاغتممتُ غمًّا شديدًا، وبِتُّ ليلتي مغمومًا إلى الصباح، فجئتُ ثانيًا إلى الجبانة، وأنا أفكِّر فيما فعله ابن عمي، وندمتُ على سماعي منه، وقد فتَّشْتُ في الترب جميعًا، فلم أعرف تلك التربة، ولازمتُ التفتيشَ سبعةَ أيام فلم أعرف له طريقًا، فزاد بي الوسواس حتى كدتُ أن أجن، فلم أجد فرجًا دون أن سافرت، ورجعت إلى أبي، فساعة وصولي إلى مدينة أبي نهض إليَّ جماعة على باب المدينة وكتَّفوني، فتعجَّبْتُ كلَّ العجب لأني ابن سلطان المدينة، وهم خدم أبي وغلماني، ولحقني منهم خوف زائد، فقلت في نفسي: يا ترى ما جرى على والدي؟! وصرتُ أسأل الذين كتَّفوني عن سبب ذلك، فلم يردُّوا عليَّ جوابًا، ثم بعد حين قال لي بعضهم، وكان خادمًا عندي: إن أباك قد غدر به الزمان، وخانته العساكر، وقتله الوزير، ونحن نترقَّب وقوعك.

فأخذوني، وأنا غائب عن الدنيا بسبب هذه الأخبار التي سمعتها عن أبي، فلما تمثَّلْتُ بين يدي الوزير الذي قتل أبي، وكان بيني وبينه عداوة قديمة، وسبب تلك العداوة أني كنت مولعًا بضرب البندق، فاتفق أني كنتُ واقفًا يومًا من الأيام على سطح قصري، وإذا بطائر نزل على سطح قصر الوزير، وكان واقفًا هناك، فأردتُ أن أضرب الطيرَ، وإذا بالبندقة أخطأَتْ وأصابت عين الوزير، فأتلفَتْها بالقضاء والقدر، كما قال الشاعر:

دَعِ الْأَقْدَارَ تَفْعَلُ مَا تَشَاءُ        وَطِبْ نَفْسًا بِمَا فَعَلَ الْقَضَاءُ

وَلَا تَفْرَحْ وَلَا تَحْزَنْ بِشَيْءٍ        فَإِنَّ الشَّيْءَ لَيْسَ لَهُ بَقَاءُ

وكما قال الآخر:

مَشَيْنَاهَا خُطًى كُتِبَتْ عَلَيْنَا        وَمَنْ كُتِبَتْ عَلَيْهِ خُطًى مَشَاهَا

وَمَنْ كَانَتْ مَنِيَّتُهُ بِأَرْضٍ        فَلَيْسَ يَمُوتُ فِي أَرْضٍ سِوَاهَا

ثم قال ذلك الصعلوك: فلما أتلَفْتُ عينَ الوزير لم يقدر أن يتكلم لأن والدي كان ملك المدينة؛ فهذا سبب العداوة التي بيني وبينه، فلما وقفتُ قدامه وأنا مكتَّف، أمر بضرب عنقي، فقلتُ: أتقتلني بغير ذنب؟! فقال: أي ذنب أعظم من هذا؟ وأشار إلى عينه المُتلَفة، فقلتُ له: فعلتُ ذلك خطأً. فقال: إن كنتَ فعلتَه خطأً، فأنا أفعله بك عمدًا. ثم قال: قدِّموه بين يدي. فقدَّموني بين يدَيْه، فمدَّ أصبعه في عيني الشمال فأتلفها؛ فصرتُ من ذلك الوقت أعور كما تروني، ثم كتَّفني ووضعني في صندوق، وقال للسياف: تسلَّمْ هذا، وأشهِرْ حسامَك وخُذْه واذهب به إلى خارج المدينة، واقتله ودَعْه للوحوش تأكله. فذهب بي السياف، وسار حتى خرج من المدينة، وأخرجني من الصندوق، وأنا مكتوف اليدين مقيَّد الرجلين، وأراد أن يغمض عينيَّ ويقتلني، فبكيتُ وأنشدت هذه الأبيات:

جَعَلْتُكُمُ الدِّرْعَ الْحَصِينَ لِتَمْنَعُوا        سِهَامَ الْعِدَى عَنِّي فَكُنْتُمْ نِصَالَهَا

وَكُنْتُ أُرَجِّي عِنْدَ كُلِّ مُلِمَّةٍ        تَخُصُّ يَمِينِي أَنْ تَكُونَ شِمَالَهَا

دَعُوا قِصَّةَ الْعُذَّالِ عَنِّي بِمَعْزِلٍ        وَخَلُّوا الْعِدَى تَرْمِي إِلَيَّ نِبَالَهَا

إِذَا لَمْ تُجِدْ نَفْسِي مُكَايَدَةَ الْعِدَى        فَكُونُوا سُكُوتًا لَا عَلَيْهَا وَلَا لَهَا

وأنشدتُ أيضًا هذه الأبيات:

وَإِخْوَانٍ تَخَذْتُهُمُ دُرُوعًا        فَكَانُوهَا وَلَكِنْ لِلْأَعَادِي

وَخِلْتُهُمُ سِهَامًا صَائِبَاتٍ        فَكَانُوهَا وَلَكِنْ فِي فُؤَادِي

وَقَالُوا قَدْ صَفَتْ مِنَّا قُلُوبٌ        لَقَدْ صَدَقُوا وَلَكِنْ عَنْ وِدَادِي

وَقَالُوا قَدْ سَعَيْنَا كُلَّ سَعْيٍ        لَقَدْ صَدَقُوا وَلَكِنْ فِي فَسَادِي

فلما سمع السياف شعري، وكان سيَّاف أبي، ولي عليه إحسان، قال: يا سيدي، كيف أفعل وأنا عبد مأمور؟! ثم قال لي: فُزْ بعمرك، ولا تَعُدْ إلى هذه الأرض فتهلك، وتهلكني معك، كما قال الشاعر:

وَنَفْسُكَ فُزْ بِهَا إِنْ خِفْتَ ضَيْمًا        وَخَلِّ الدَّارَ تَنْعِي مَنْ بَنَاهَا

فَإِنَّكَ وَاجِدٌ أَرْضًا بِأَرْضٍ        وَنَفْسُكَ لَمْ تَجِدْ نَفْسًا سِوَاهَا

عَجِبْتُ لِمَنْ يَعِيشُ بِدَارِ ذُلٍّ        وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ فَلَاهَا

وَمَنْ كَانَتْ مَنِيَّتُهُ بِأَرْضٍ        فَلَيْسَ يَمُوتُ فِي أَرْضٍ سِوَاهَا

وَمَا غَلُظَتْ رِقَابُ الْأُسْدِ حَتَّى        بِأَنْفُسِهَا تَوَلَّتْ مَا عَنَاهَا

فلما قال لي ذلك قبَّلت يدَيْه، وما صدقت بالنجاة حتى فررت، وهان عليَّ تلف عيني بنجاتي من القتل، وسافرتُ حتى وصلتُ إلى مدينة عمي، فدخلت عليه وأعلمته بما جرى لوالدي، وبما جرى لي من تلف عيني، فبكى بكاء شديدًا، وقال: لقد زدتَني همًّا على همي، وغمًّا على غمي؛ فإن ابن عمك قد فُقِدَ منذ أيام، ولم أعلم بما جرى له، ولم يخبرني أحد بخبره. وبكى حتى أغمي عليه، فلما استفاق قال: يا ولدي، لقد حزنت على ابن عمك حزنًا شديدًا، وأنت زدتني بما حصل لأبيك غمًّا على غمي، ولكن يا ولدي بعينك ولا بروحك.

ثم إني لم يمكني السكوت عن ابن عمي الذي هو ولده، فأعلمتُه بالذي جرى له كله، ففرح عمي بما قلته له فرحًا شديدًا عند سماع خبر ابنه، وقال: أرني التربة. فقلت: والله يا عمي لم أعرف مكانها؛ لأني رحت بعد ذلك مرات لأفتش عليها فلم أعرف مكانها. ثم ذهبتُ أنا وعمي إلى الجبانة، ونظرت يمينًا وشمالًا فعرفتها، ففرحت أنا وعمي فرحًا شديدًا، ودخلتُ أنا وإياه التربة، وأزحنا التراب، ورفعنا الطابق، ونزلت أنا وعمي مقدارَ خمسين درجة، فلما وصلنا إلى آخِر السلم، وإذا بدخان طلع علينا فغشي أبصارنا، فقال عمي الكلمةَ التي لا يخاف قائِلُها وهي: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ثم مشينا وإذا نحن بقاعة ممتلئة دقيقًا وحبوبًا ومأكولًا، وغير ذلك، ورأينا في وسط القاعة ستارةً مسبولة على سرير، فنظر عمي إلى السرير فوجد ابنه هو والمرأة التي قد نزلَتْ معه صارَا فحمًا أسودَ، وهما متعانقان كأنهما أُلْقِيَا في جبِّ نار، فلما نظر عمي ذلك بصق في وجهه، وقال: تستحق يا خبيث، فهذا عذاب الدنيا، وبقي عذاب الآخرة وهو أشد وأبقى. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 12﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الصعلوك قال للصبية، والجماعة والخليفة وجعفر يسمعون الكلام: ثم إن عمي ضرب ولده بالنعال وهو راقد كالفحم الأسود، فتعجَّبْتُ من ضربه، وحزنت على ابن عمي حيث صار هو والصبية فحمًا أسود، ثم قلتُ: بالله يا عمي، خفِّفِ الهمَّ عن قلبك، فقد اشتغل سري وخاطري بما قد جرى لولدك، وكيف صار هو والصبية فحمًا أسود، أَمَا يكفيك ما هو فيه حتى تضربه بالنعال؟! فقال: يا ابن أخي، ولدي هذا كان من صغره مولعًا بحب أخته، وكنتُ أنهاه عنها، وأقول في نفسي: إنهما صغيران، فلما كبرَا وقع بينهما القبيح، وسمعت بذلك ولم أصدِّق، ولكني زجرتُه زجرًا بليغًا، وقلت له: احذر من هذه الفعال القبيحة التي لم يفعلها أحدٌ قبلك، ولا يفعلها أحدٌ بعدك؛ وإلا نبقى بين الملوك بالعار والنقصان إلى الممات، وتشيع أخبارنا مع الركبان، وإياك أن تصدر منك هذه الفعال، فإني أسخط عليك وأقتلك. ثم حجبته عنها، وحجبتها عنه، وكانت الخبيثة تحبه محبةً عظيمة، وقد تمكَّنَ الشيطان فيهما، فلما رآني حجبتُه، فعل هذا المكان الذي تحت الأرض خفيةً، ونقل فيه المأكول كما تراه، واستغلني لما خرجتُ إلى الصيد، وأتى إلى هذا المكان فغار عليه وعليها الحقُّ - سبحانه وتعالى - وأحرقهما، ولَعذاب الآخرة أشدُّ وأبقى. ثم بكى وبكيتُ معه، وقال لي: أنت ولدي عوضًا عنه.

ثم إني تفكَّرْتُ ساعةً في الدنيا وحوادثها؛ مِن قتْلِ الوزير لوالدي، وأخذه مكانه، وتلَفِ عيني، وما جرى لابن عمي من الحوادث الغريبة؛ فبكيت، ثم إننا صعدنا ورددنا الطابق والتراب، وعملنا القبر كما كان، ثم رجعنا إلى منزلنا، فلم يستقر بيننا الجلوس حتى سمعنا دقَّ طبول وبوقات ورمحت الأبطال، وامتلأت الدنيا بالعجاج والغبار من حوافر الخيل، فحارت عقولنا ولم نعرف الخبر، فسأل الملك عن الخبر، فقيل: إن وزير أخيك قتله، وجمع العسكر والجنود، وجاء بعسكره ليهجموا على المدينة في غفلة، وأهل المدينة لم يكن لهم طاقة بهم، فسلَّمُوا إليه. فقلت في نفسي: متى وقعت أنا في يده قتلني. وتراكمت الأحزان، وتذكرت الحوادث التي حدثت لأبي وأمي، ولم أعرف كيف العمل، فإن ظهرتُ عرفني أهل المدينة وعسكر أبي فيسعون في قتلي وهلاكي، فلم أجد شيئًا أنجو به إلا حلق ذقني فحلقتها، وغيَّرْتُ ثيابي وخرجت من المدينة، وقصدت هذه المدينة والسلام؛ لعل أحدًا يوصلني إلى أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين؛ حتى أحكي له قصتي، وما جرى لي، فوصلت إلى هذه المدينة في هذه الليلة فوقفت حائرًا، ولم أدْرِ أين أمضي، وإذا بهذا الصعلوك واقف فسلَّمْتُ عليه، وقلت له: أنا غريب. فقال: وأنا غريب أيضًا. فبينما نحن كذلك، وإذا برفيقنا هذا الثالث جاءنا وسلَّمَ علينا، وقال: أنا غريب. فقلنا له: ونحن غريبان. فمشينا وقد هجم علينا الظلام، فساقنا القدر إليكم، وهذا سبب حلق ذقني، وتلف عيني.

فقالت الصبية: ملِّسْ على رأسك ورُحْ. فقال لها: لا أروح حتى أسمع خبر غيري. فتعجَّبوا من حديثه، فقال الخليفة لجعفر: واللهِ أنا ما رأيت مثل الذي جرى لهذا الصعلوك.

 

حكاية الصعلوك الثاني

ثم تقدَّمَ الصعلوك الثاني وقبَّل الأرض وقال: يا سيدتي، أنا ما وُلِدت أعور، وإنما لي حكاية عجيبة لو كُتِبت بالإبر على آماق البصر لَكانت عبرةً لمَن اعتبر؛ فأنا ملك ابن ملك، وقرأت القرآن على سبع روايات، وقرأت الكتب على أربابها من مشايخ العلم، وقرأت علمَ النجوم، وكلامَ الشعراء، واجتهدت في سائر العلوم حتى فُقْتُ أهلَ زماني، فعَظُم حظي عند سائر الكَتَبة، وشاع ذكري في سائر الأقاليم والبلدان، وشاع خبري عند سائر الملوك، فسمع بي ملك الهند، فأرسل يطلبني من أبي، وأرسل إليه هدايا وتحفًا تصلح للملوك، فجهَّزَني أبي في ست مراكب، وسرنا في البحر مدة شهر كامل حتى وصلنا إلى البر، وأخرجنا خيلًا كانت معنا في المركب، وحمَّلنا عشرة أحمال هدايا، ومشينا قليلًا، وإذا بغبار قد علا وثار حتى سدَّ الأقطار، واستمر ساعةً من النهار، ثم انكشف فبان من تحته ستون فارسًا وهم ليوث عبوس، فتأملناهم وإذا هم عرب قطَّاع طريق، فلما رأونا ونحن نفرُّ قليل، ومعنا عشرة أحمال هدايا لملك الهند، رمحوا علينا وشرعوا الرماح بين أيديهم نحونا، فأشرنا إليهم بالأصابع، وقلنا لهم: نحن رسل إلى ملك الهند المعظَّم، فلا تؤذونا. فقالوا: نحن لسنا في أرضه، ولا تحت حكمه.

ثم إنهم قتلوا بعض الغلمان، وهرب الباقون، وهربت أنا بعد أن جُرِحت جرحًا بليغًا، واشتغلت عنَّا العرب بالمال والهدايا التي كانت معنا، فسرتُ لا أدري أين أذهب، وكنت عزيزًا فصرتُ ذليلًا، وسرت إلى أن أتيت رأس الجبل، فدخلت مغارة حتى طلع النهار، ثم سرت منها حتى وصلت إلى مدينة عامرة بالخير قد ولَّى عنها الشتاء ببرده، وأقبل عليها الربيع بورده، ففرحت بوصولي إليها، وقد تعبت من المشي، وعلاني الهم والاصفرار؛ فتغيَّرَتْ حالتي، ولا أدري أين أسلك، فملت إلى خياط في دكان، وسلَّمتُ عليه فردَّ عليَّ السلامَ، ورحَّبَ بي وباسطني، وسألني عن سبب غربتي، فأخبرته بما جرى لي من أوله إلى آخره؛ فاغتمَّ لأجلي، وقال: يا فتى، لا تُظهِر ما عندك، فإني أخاف عليك من ملك هذه المدينة؛ لأنه أكبر أعداء أبيك، وله عنده ثأر.

ثم أحضر لي مأكولًا ومشروبًا، فأكلت وأكل معي، وتحادثت معه في الليل، وأخلى لي محلًّا في جانب حانوته، وأتاني بما أحتاج إليه من فراش وغطاء، فأقمتُ عنده ثلاثة أيام، ثم قال لي: أَمَا تعرف صنعةً تكتسب بها؟ فقلت له: إني فقيه طالب علم، كاتب حاسب. فقال: إن صنعتك كاسدة في بلادنا، وليس في مدينتنا مَن يعرف علمًا ولا كتابةً غير المال. فقلت: واللهِ لا أدري شيئًا غير الذي ذكرته لك. فقال: شد وسطك، وخُذْ فأسًا وحبلًا، واحتطب في البَرِّيَّةِ حطبًا تتقوَّت به إلى أن يفرج الله عليك، ولا تعرِّف أحدًا بنفسك فيقتلوك. ثم اشترى لي فأسًا وحبلًا، وأرسلني مع بعض الحطابين، وأوصاهم بي، فخرجت معهم واحتطبت، فأتيت بحمل على رأسي فبعته بنصف دينار، فأكلت ببعضه وأبقيت بعضه، ودمت على هذا الحال مدة سنة، ثم بعد السنة ذهبت يومًا على عادتي إلى البَرِّيَّةِ لأحتطب منها، ودخلتها فوجدت فيها خميلة أشجار فيها حطب كثير، فدخلت الخميلة وأتيت شجرةً وحفرتُ حولها وأزلت التراب عن جدارها، فاصطكت الفأس في حلقة نحاس، فنظفت التراب، وإذا هي في طابق من خشب، فكشفته فبان تحته سُلَّمٌ، فنزلت إلى أسفل السلم، فرأيت بابًا فدخلته، فرأيت قصرًا محكم البنيان، فوجدتُ فيه صبية كالدرة السنية، تنفي عن القلب كلَّ هَمٍّ وغَمٍّ وبَلِيَّة، فلما نظرت إليها سجدتُ لخالقها لما أبدع فيها من الحسن والجمال، فنظرت إليَّ وقالت لي: أنت إنسي أم جني؟ فقلت لها: إنسي. فقالت: ومَن أوصلك إلى هذا المكان الذي لي فيه خمسة وعشرون سنة، ما رأيت فيه إنسيًّا أبدًا؟ فلما سمعت كلامها وجدتُ له عذوبةً، وقلت لها: يا سيدتي، أوصلني الله إلى منزلك، ولعله يزيل همي وغمي.

وحكيتُ لها ما جرى لي من الأول إلى الآخر، فصعب عليها حالي، وبكت وقالت: أنا الأخرى أُعلِمُكَ بقصتي، فاعلم أني بنت ملك أقصى الهند صاحب جزيرة الأبنوس، وكان قد زوَّجني بابن عمي، فاختطفني ليلةَ زفافي عفريت اسمه جرجريس بن رجموس بن إبليس، فطار بي ونزل في هذا المكان، ونقل إليه كل ما أحتاج إليه من الحلي والحلل، والقماش والمتاع، والطعام والشراب، وفي كل عشرة أيام يجيئني مرةً فيبيت هنا ليلةً، وعاهدني إذا عرضَتْ لي حاجة ليلًا أو نهارًا أن ألمس بيدي هذين السطرين المكتوبين على القُبَّة، فما أرفع يدي حتى أراه عندي، ومنذ كان عندي له اليومَ أربعةُ أيام، وبقي له ستة أيام حتى يأتي، فهل لك أن تقيم عندي خمسة أيام، ثم تنصرف قبل مجيئه بيوم؟ فقلت: نعم. ففرحَتْ، ثم نهضت على أقدامها، وأخذت بيدي وأدخلتني من باب مقنطر، وانتهت بي إلى حمام لطيف ظريف، فلما رأيتُه خلعتُ ثيابي وخلعَتْ ثيابها، ودخلت فجلست على مرتبة، وأجلستني معها، وأتَتْ بسكر مُمَسَّك وسقتني، ثم قدَّمت لي مأكولًا، فأكلنا وتحادثنا، ثم قالت لي: نَمْ واسترِحْ، فإنك تعبان. فنمت يا سيدتي، وقد نسيت ما جرى لي وشكرتها، فلما استيقظتُ وجدتها تكبس رجلي فدعوت لها، وجلسنا نتحادث ساعةً، ثم قالت: واللهِ إني كنتُ ضيقةَ الصدر وأنا تحت الأرض وحدي، ولم أجد مَن يحدِّثني خمسة وعشرين سنةً، فالحمد لله الذي أرسلك إليَّ، ثم أنشدت:

لَوْ عَلِمْنَا مَجِيئَكُمْ لَفَرَشْنَا        مُهْجَةَ الْقَلْبِ أَوْ سَوَادَ الْعُيُونِ

وَفَرَشْنَا خُدُودَنَا وَالْتَقَيْنَا        لِيَكُونَ الْمَسِيرُ فَوْقَ الْجُفُونِ

فلما سمعتُ شعرها شكرتها، وقد تمكَّنَتْ محبتها في قلبي، وذهب عني همي وغمي، ثم جلسنا في منادمة إلى الليل، فبِتُّ معها ليلة ما رأيت مثلها في عمري، وأصبحنا مسرورين، فقلت لها: هل أطلعك من تحت الأرض، وأريحك من هذا الجني؟ فضحكت وقالت: اقنع واسكت، ففي كل عشرة أيام يومٌ للعفريت وتسعةٌ لك. فقلتُ وقد غلب عليَّ الغرام: فأنا في هذه الساعة أكسر هذه القبة التي عليها النقش المكتوب لعلَّ العفريت يجيء حتى أقتله، فإني موعود بقتل العفاريت. فلما سمعَتْ كلامي أنشدَتْ تقول:

يَا طَالِبًا لِلْفِرَاقِ مَهْلًا        بِحِيلَةٍ قَدْ كَفَى اشْتِيَاقُ

اصْبِرْ فَطَبْعُ الزَّمَانِ غَدْرٌ        وَآخِرُ الصُّحْبَةِ الْفِرَاقُ

فلما سمعتُ شعرها لم ألتفت لكلامها، بل رفست القبة رفسًا قويًّا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 13﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الصعلوك الثاني قال للصَّبِيَّةِ: يا سيدتي، لما رفست القبة رفسًا قويًّا، قالت لي المرأة: إن العفريت قد وصل إلينا، أَمَا حذَّرْتُك من هذا؟ والله لقد آذيتني، ولكن انجُ بنفسك، واطلع من المكان الذي جئتَ منه. فمن شدة خوفي نسيت نعلَي وفأسي، فلما طلعت درجتين التفتُّ لأنظرهما، فرأيت الأرض قد انشقَّت، وطلع منها عفريت ذو منظر بشع، وقال: ما هذه الزعجة التي أرعشتِني بها، فما مصيبتك؟ فقالت: ما أصابني شيء غير أن صدري ضاق، فأردتُ أن أشرب شرابًا يشرح صدري، فنهضتُ لأقضي أشغالي، فوقعْتُ على القبة. فقال لها العفريت: تكذبين يا فاجرة. ونظر في القصر يمينًا وشمالًا فرأى النعل والفاس، فقال لها: ما هذا إلا متاع الإنس، مَن جاء إليك؟ فقالت: ما نظرتهما إلا في هذه الساعة، ولعلَّهما تعلَّقَا معك. فقال العفريت: هذا كلام محال لا ينطلي عليَّ يا عاهرة. ثم إنه عرَّاها وصلبها بين أربعة أوتاد، وجعل يعاقبها، ويقررها بما كان؛ فلم يهن عليَّ أن أسمع بكاءها، فطلعت من السلم مذعورًا من الخوف، فلما وصلتُ إلى أعلى الموضع رددتُ الطابق كما كان، وسترته بالتراب، وندمت على ما فعلت غاية الندم، وتذكَّرْتُ الصبية وحُسْنها، وكيف يعاقبها هذا الملعون، وهي لها معه خمس وعشرون سنة وما عاقَبَها إلا بسببي، وتذكرت أبي ومملكته وكيف صرتُ حطَّابًا، فقلتُ هذا البيت:

إِذَا مَا أَتَاكَ الدَّهْرُ يَوْمًا بِنَكْبَةٍ        فَيَوْمٌ تَرَى يُسْرًا وَيَوْمٌ تَرَى عُسْرَا

ثم مشيتُ إلى أن أتيتُ رفيقي الخياط، فلقيته من أجلي على مقالي النار وهو لي في الانتظار، فقال: إني بتُّ البارحةَ وقلبي عندك، وخفتُ عليك من وحش أو غيره، فالحمد لله على سلامتك. فشكرته على شفقته عليَّ، ودخلت خلوتي، وجعلت أتفكَّر فيما جرى لي، وألوم نفسي على رفسي هذه القبة، وإذا بصديقي الخياط دخل عليَّ، وقال لي: في الدكان شخص أعجمي يطلبك، ومعه فأسك ونعلك، قد جاء بهما إلى الخياطين، وقال لهم: إني خرجت وقتَ أذان المؤذن لأجل صلاة الفجر فعثرتُ بهما، ولم أعلم لمَنْ هما، فدلُّوني على صاحبهما. فدلَّه الخياطون عليك، وها هو قاعد في دكاني، فاخرج إليه واشكره، وخُذْ فأسك ونعلك.

فلما سمعت هذا الكلام اصفرَّ لوني، وتغيَّرَ حالي، فبينما أنا كذلك وإذا بأرض محلي قد انشقَّت، وطلع منها الأعجمي، وإذا هو العفريت، وقد كان عاقَبَ الصَّبِيَّةَ غاية العقاب، فلم تُقِرَّ له بشيء، فأخذ الفأس والنعل، وقال لها: إن كنت جرجريس من ذرية إبليس فأنا أجيء بصاحب هذه الفأس والنعل. ثم جاء بهذه الحيلة إلى الخياطين، ودخل عليَّ ولم يمهلني، بل اختطفني وطار وعلا بي، ونزل بي، وغاص في الأرض وأنا لا أعلم بنفسي، ثم طلع بي القصر الذي كنتُ فيه، فرأيت الصبية عريانة، والدم يسيل من جوانبها، فقطرت عيناي بالدموع، فأخذها العفريت وقال لها: يا عاهرة، هذا عشيقك. فنظرَتْ إليَّ وقالت له: لا أعرفه ولا رأيته إلا في هذه الساعة. فقال لها العفريت: أهذه العقوبة ولم تقري؟! فقالت: ما رأيته عمري، وما يحل من الله أن أكذب عليه. فقال لها العفريت: إن كنتِ لا تعرفينه، فخذي هذا السيف واضربي عنقه. فأخذَتِ السيف وجاءتني ووقفت على رأسي، فأشرت لها بحاجبي، ودمعي يجري على وجنتي، فنهضت وغمزتني، وقالت: أنت الذي فعلتَ بنا هذا كله. فأشرت لها أن هذا وقت العفو ولسان حالي يقول:

يُتَرْجِمُ طَرْفِي عَنْ لِسَانِي لِتَعْلَمُوا        وَيَبْدُو لَكُمْ مَا كَانَ صَدْرِي يُكَتِّمُ

وَلَمَّا الْتَقَيْنَا وَالدُّمُوعُ سَوَاجِمُ        خَرِسْتُ وَطَرْفِي بِالْهَوَى يَتَكَلَّمُ

تُشِيرُ لَنَا عَمَّا تَقُولُ بِطَرْفِهَا        وَأُومِي إِلَيْهَا بِالْبَنَانِ فَتَفْهَمُ

حَوَاجِبُنَا تَقْضِي الْحَوَائِجَ بَيْنَنَا        فَنَحْنُ سُكُوتٌ وَالْهَوَى يَتَكَلَّمُ

فلما فهمت الصبية إشارتي رمت السيف من يدها يا سيدتي، فناولني العفريت السيف وقال لي: اضرب عنقها وأنا أطلقك ولا أنكِّد عليك. فقلت: نعم. وأخذت السيف، وتقدَّمت بنشاط، ورفعت يدي فقالت لي بحاجبها: أنا ما قصرتُ في حقك. فهملت عيناي بالدموع، ورميت السيف من يدي، وقلت: أيها العفريت الشديد والبطل الصنديد، إذا كانت امرأةٌ ناقصةُ عقل ودين لم تستحِلَّ ضرب عنقي، فكيف يحل لي أن أضرب عنقها، ولم أَرَها عمري؟ فلا أفعل ذلك أبدًا، ولو سُقِيتُ من الموت كأس الردى. فقال العفريت: أنتما بينكما مودة. أخذ السيف وضرب يد الصبية فقطعها، ثم ضرب الثانية فقطعها، ثم قطع رجلها اليمين، ثم قطع رجلها اليسار، حتى قطع أربعها بأربع ضربات، وأنا أنظر بعيني، فأيقنت بالموت، ثم أشارَتْ إليَّ بعينَيْها فرآها العفريت، فقال لها: قد زنيت بعينك. ثم ضربها فقطع رأسها، والتفت إليَّ، وقال: يا إنسي، نحن في شرعنا إذا زنَتِ الزوجةُ يحلُّ لنا قتلها، وهذه الصبية اختطفتُها ليلةَ عرسها وهي بنت اثنتي عشرة سنة، ولم تعرف أحدًا غيري، وكنت أجيئها في كل عشرة أيام ليلةً واحدة في زيِّ رجل أعجمي، فلما تحقَّقْتُ أنها خانتني قتلتها، وأمَّا أنت فلم أتحقَّق أنك خنتني فيها، ولكن لا بد أني ما أخليك في عافية، فتمنَّ عليَّ أيَّ ضرر.

ففرحتُ يا سيدتي غاية الفرح، وطمعت في العفو، وقلت له: وما أتمناه عليك؟ قال: تمنَّ عليَّ أي صورة أسحرك فيها، إما صورة كلب، وإما صورة حمار، وإما صورة قرد. فقلت له وقد طمعت أنه يعفو عني: والله إنْ عفوتَ عني يعفُ الله عنك بعفوك عن رجل مسلم لم يُؤذِكَ. وتضرَّعْتُ إليه غاية التضرع، وبقيت بين يديه، وقلت له: أنا مظلوم. فقال لي: لا تُطِلْ عليَّ الكلام، أما القتل فلا تخف منه، وأما العفو عنك فلا تطمع فيه، وأما سحرك فلا بد منه. ثم شق الأرض، وطار بي إلى الجو حتى نظرت إلى الدنيا تحتي كأنها قطعة ماء، ثم حطَّني على جبل، وأخذ قليلًا من التراب، وهَمْهَمَ عليه وتكلَّم ورشَّني، وقال: اخرج من هذه الصورة إلى صورة قرد. فمن ذلك الوقت صرتُ قردًا ابن مائة سنة، فلما رأيت نفسي في هذه الصورة القبيحة بكيتُ على روحي، وصبرت على جور الزمان، وعلمت أن الزمان ليس لأحد، وقد انحدرتُ من أعلى الجبل إلى أسفل، وقد سافرتُ مدةَ شهرٍ ثم ذهبت إلى شاطئ البحر المالح، فوقفت ساعةً، وإذا أنا بمركب في وسط البحر قد طاب ريحها وهي قاصدة البر، فاختفيت خلف صخرة على جانب البحر، وسرت إلى أن أتيت وسط المركب، فقال واحد منهم: أَخرِجوا هذا المشئومَ من المركب. وقال واحد منهم: نقتله. وقال آخَر: اقتله بهذا السيف. فأمسكت طرف السيف وبكيت وسالت دموعي، فحنَّ عليَّ الريس، وقال لهم: يا تجار، إن هذا القرد استجار بي وقد أجرتُه، وهو في جواري، فلا أحد يتعرَّض له، ولا يشوِّش عليه.

ثم إن الريس صار يُحسِن إليَّ، ومهما تكلَّمَ به أفهمه وأقضي حوائجه كلها، وأخدمه في المركب، وقد طاب لها الريح مدة خمسين يومًا، فرسينا على مدينة عظيمة، وفيها عالم كثير لا يحصي عددهم إلا الله تعالى، فساعة وصولنا أوقفنا مركبنا، فجاءتنا مماليك من طرف ملك المدينة، فنزلوا المركب وهنَّئُوا التجار بالسلامة، وقالوا: إن ملكنا يهنِّئكم بالسلامة، وقد أرسل إليكم هذا الدرج الورق، وقال: كل واحد يكتب فيه سطرًا. فقمتُ وأنا في صورة القرد، وخطفت الدرج من أيديهم، فخافوا أني أقطعه وأرميه في الماء، فنهروني وأرادوا قتلي، فأشرتُ لهم أني أكتب، فقال لهم الريس: دعوه يكتب، فإن لخبَط الكتابة طردناه عنَّا، وإن أحسنها اتخذتُه ولدًا، فإني ما رأيت قردًا أفهم منه. ثم أخذتُ القلم، واستمدَدْتُ الحبرَ، وكتبتُ سطرًا بقلم الرقاع، ورقمتُ هذا الشعر:

لَقَدْ كَتَبَ الدَّهْرُ فَضْلَ الْكِرَامِ        وَفَضْلُكَ لِلْآنَ لَا يُحْسَبُ

فَلَا أَيْتَمَ اللهُ مِنْكَ الْوَرَى        لِأَنَّكَ لِلْفَضْلِ نِعْمَ الْأَبُ

وكتبت بالقلم الريحاني هذا الشعر:

لَهُ قَلَمٌ عَمَّ الْأَقَالِيمَ نَفْعُهُ        وَعَمَّ جَمِيعَ الْعَالَمِينَ مَنَافِعُ

وَخَمْسَةُ أَنْهَارٍ أَنَامِلُكَ الَّتِي        تَسِيلُ عَلَى الْأَقْطَارِ خَمْسٌ أَصَابِعُ

وكتبت بقلم الثلث هذين البيتين:

وَمَا مِنْ كَاتِبٍ إِلَّا سَيَفْنَى        وَيُبْقِي الدَّهْرُ مَا كَتَبَتْ يَدَاهُ

فَلَا تَكْتُبْ بِخَطِّكَ غَيْرَ شَيْءٍ        يَسُرُّكَ فِي الْقِيَامَةِ أَنْ تَرَاهُ

وكتبت تحته بقلم المشق هذين البيتين:

إِذَا فَتَحْتَ دَوَاةَ الْعِزِّ وَالنِّعَمِ        فَاجْعَلْ مِدَادَكَ مِنْ جُودٍ وَمِنْ كَرَمِ

وَاكْتُبْ بِحِبْرٍ إِذَا مَا كُنْتَ مُعْتَذِرًا        بِذَاكَ شَرَّفْتَ فَضْلًا نِسْبَةَ الْقَلَمِ

ثم ناولتهم ذلك الدرج الورق، فطلعوا به إلى الملك، فلما تأمَّلَ الملكُ ما في ذلك الدرج لم يعجبه خطُّ أحدٍ إلا خطي، فقال لأصحابه: توجَّهوا إلى صاحب هذا الخط، وألبسوه هذه الحلة، وركِّبوه بغلة، وهاتوه بالنوبة، وأحضروه بين يديَّ. فلما سمعوا كلامَ الملك تبسَّموا، فغضب منهم، ثم قال: كيف آمركم بأمرٍ فتضحكون عليَّ؟! فقالوا: أيها الملك، ما نضحك على كلامك، بل الذي كتب هذا الخط قردٌ، وليس هو آدميًّا، وهو مع ريس المركب. فتعجَّبَ الملك من كلامهم، واهتزَّ من الطرب، وقال: أريد أن أشتري هذا القرد. ثم بعث رسلًا إلى المركب، ومعهم البغلة والحُلَّة، وقال: لا بد أن تُلبِسوه هذه الحلة، وتُركبوه البغلةَ، وتأتوا به. فساروا إلى المركب، وأخذوني من الريس، وألبسوني الحلة؛ فاندهش الخلائق، وصاروا يتفرجون عليَّ، فلما طلعوا بي إلى الملك ورأيته، قبَّلْتُ الأرض بين يدَيْه ثلاثَ مرات، فأمرني بالجلوس فجلست على ركبتيَّ، فتعجَّبَ الحاضرون من أدبي، وكان الملك أكثرهم تعجُّبًا، ثم إن الملك أمَرَ الخلقَ بالانصراف فانصرفوا، ولم يَبْقَ إلا الملك والطواشي ومملوك صغير وأنا، ثم أمر الملك بطعام فقدَّموا سفرةَ طعامٍ فيها ما تشتهي الأنفس وتلذُّ الأعين، فأشار إليَّ الملك أن آكل، فقمتُ وقبَّلْتُ الأرضَ بين يدَيْه سبع مرات، وجلست آكل معه، وقد ارتفعت السفرة، وذهبتُ فغسلتُ يديَّ، وأخذت الدواة والقلم والقرطاس، وكتبت هذين البيتين:

مَنَاحِرُ الضَّانِ تِرْيَاقٌ مِنَ الْعِلَلِ        وَأَصْحُنُ الْحَلْوَى فِيهَا مُنْتَهَى أَمَلِي

يَا لَهْفَ قَلْبِي عَلَى مَدِّ السِّمَاطِ إِذَا        مَاجَتْ كُنَافَتُهُ بِالسَّمْنِ وَالْعَسَلِ

وكتبت أيضًا هذين البيتين:

إِلَيْكِ اشْتِيَاقٌ يَا كُنَافَةَ زَائِدٍ        وَلَيْسَ غِنًى لِي عَنْكِ كَلَّا وَلَا صَبْرُ

فَلَا زِلْتِ أَكْلِي كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ        وَلَا زَالَ مُنْهَلًا بِجَرْعَائِكِ القَطْرُ

ثم قمتُ وجلست بعيدًا، فنظر الملك إلى ما كتبته وقرأه فتعجَّب، وقال: هل يكون عند قرد هذه الفصاحة وهذا الخط؟ واللهِ إن هذا من أعجب العجب! ثم قدم للملك شطرنج، فقال الملك: أتلعب؟ قلتُ برأسي: نعم. فتقدَّمت وصففت الشطرنج، ولعبت معه مرتين فغلبته، فحار عقل الملك، وقال: لو كان هذا آدميًّا لَفاق أهل زمانه. ثم قال لخادمه: اذهب إلى سيدتك، وقل لها: كلِّمي الملك، حتى تجيء فتتفرج على هذا القرد العجيب. فذهب الطواشي، وعاد ومعه سيدته بنت الملك، فلما نظرت لي غطَّتْ وجهها، وقالت: يا أبي، كيف طاب على خاطرك أن ترسل إليَّ فيراني الرجال الأجانب. فقال: يا بنتي، ما عندي سوى المملوك الصغير والطواشي الذي ربَّاك، وهذا القرد، وأنا أبوك، فممَّن تغطِّين وجههك؟ فقالت: إن هذا القرد ابن ملك، واسم أبيه إيمار صاحب جزائر الأبنوس الداخلة، وهو مسحور، سحره العفريت جرجريس الذي هو من ذرية إبليس، وقد قتل زوجته بنت ملك أقناموس، وهذا الذي تزعم أنه قرد إنما هو رجل عالم عاقل. فتعجَّبَ الملك من ابنته، ونظر إليَّ وقال: أحقٌّ ما تقول عنك؟ فقلت برأسي: نعم. وبكيتُ، فقال الملك لبنته: من أين عرفت أنه مسحور؟ فقالت: يا أبت، كان عندي وأنا صغيرة عجوزٌ ماكرة ساحرة، علَّمتني صناعة السحر، وقد حفظته وأتقنته، وعرفت مائة وسبعين بابًا من أبوابه، أقل باب منها أنقل به حجارة مدينتك خلف جبل قاف، وأجعلها لجة بحر، وأجعل أهلها سمكًا في وسطه. فقال أبوها: بحق اسم الله عليك أن تخلِّصي لنا هذا الشاب حتى أجعله وزيري، وهل فيك هذه الفضيلة ولم أعلم؟ فخلصيه حتى أجعله وزيري؛ لأنه شاب ظريف لبيب. فقالت له: حبًّا وكرامة. ثم أخذت بيدها سكينًا، وعملت دائرة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 14﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الصعلوك قال للصبية: يا سيدتي، ثم إن بنت الملك أخذت بيدها سكينًا مكتوبًا عليها أسماء عبرانية، وخطَّتْ بها دائرة في وسط القصر، وكتبَتْ فيها أسماء وطلاسم، وعزمَتْ بكلام، وقرأَتْ كلامًا لا يُفهَم، فبعد ساعة أظلمت علينا جهات القصر حتى ظننا أن الدنيا قد انطبقت علينا، وإذا بالعفريت قد تدلَّى علينا في أقبح صفة بأيدٍ كالمداري، ورجلين كالصواري، وعينَيْن كالمشعلين يوقدان نارًا، ففزعنا منه فقالت بنت الملك: لا أهلًا بك ولا سهلًا. فقال العفريت وهو في صورة أسد: يا خائنة، كيف خنتِ اليمين؟ أَمَا تحالفنا على أنه لا يتعرَّض أحدٌ للآخر؟ فقالت له: يا لعين، ومن أين لك يمين؟ فقال العفريت: خذي ما جاءك. ثم انقلب أسدًا، وفتح فاه، وهجم على الصبية، فأسرعَتْ وأخذت شعرة من شعرها بيدها، وهمهمت بشفتيها فصارت الشعرة سيفًا ماضيًا، وضربت ذلك الأسد فصار نصفين، فصارت رأسه عقربًا، وانقلبت الصبية حية عظيمة، وهمَّتْ على هذا اللعين وهو في صفة عقرب فتقاتَلَا قتالًا شديدًا، ثم انقلب العقرب عقابًا، فانقلبت الحية نسرًا وصارت وراء العقاب، واستمرت ساعةً زمانية، ثم انقلب العقاب قطًّا أسود، فانقلبت الصبية ذئبًا، فتشاحنا في القصر ساعةً زمانيةً، وتقاتَلَا قتالًا شديدًا، فرأى القط نفسه مغلوبًا، فانقلب وصار رمانة حمراء كبيرة، ووقعت تلك الرمانة في بركة، فقصدها الذئب، فارتفعت في الهواء ووقعت على بلاط القصر فانكسرت، وانتثر الحبُّ كلُّ حبة وحدها، وامتلأت أرض القصر حبًّا، فانقلب ذلك الذئب ديكًا لأجل أن يلتقط ذلك الحب حتى لا يترك منه حبة، فبالأمر المقدر تدارت حبة في جانب الفسقية، فصار الديك يصيح ويرفرف بأجنحته، ويشير إلينا بمنقاره ونحن لا نفهم ما يقول، ثم صرخ علينا صرخةً تخيل لنا منها أن القصر قد انقلب علينا، ودار في أرض القصر كلها حتى رأى الحبة التي تدارت في جانب الفسقية فانقضَّ عليها ليلتقطها، وإذا بالحبة سقطت في وسط الماء الذي في البركة فصارت سمكة، وقد غاصت في الماء، فانقلب الديك حوتًا كبيرًا، ونزل خلفها، وغاب ساعة وإذا بنا قد سمعنا صراخًا عاليًا فارتجفنا، فبعد ذلك طلع العفريت وهو شعلة نار فألقى من فمه نارًا، ومن عينيه ومنخريه نارًا ودخانًا، وانقلبت الصبية لُجَّة نار، فأردنا أن نغطس في ذلك الماء خوفًا على أنفسنا من الحريق والهلاك، فما نشعر إلا والعفريت قد صرخ من تحت النيران، وصار عندنا في الليوان، ونفخ في وجوهنا بالنار، فلحقته الصبية ونفخت في وجهه بالنار أيضًا، فأصابنا الشررُ منها ومنه؛ فأما شررها فلم يؤذينا، وأما شرره فلحقني منه شرارة في عيني، فأتلفتها في صورة القرد، ولحق الملك شرارة منه في وجهه، فأحرقت نصفه التحتاني بذقنه وحنكه، ووقعت أسنانه التحتانية، ووقعت شرارة في صدر الطواشي فاحترق ومات من وقته وساعته، فأيقنَّا بالهلاك، وقطعنا رجاءنا من الحياة.

فبينما نحن كذلك وإذا بقائل يقول: الله أكبر، الله أكبر، قد فتح ربي ونصر، وخذل مَن كفر، بدين محمد سيد البشر. وإذا بالقائل بنت الملك قد أحرقت العفريت؛ فنظرنا إليه فرأيناه قد صار كوم رماد، ثم جاءت الصبية إلينا، وقالت: الحقوني بطاسة ماء. فجاءوا بها إليها فتكلَّمَتْ عليها بكلامٍ لا نفهمه، ثم رشَّتني بالماء وقالت: اخلص بحق الحق، وبحق اسم الله الأعظم إلى صورتك الأولى. فصرتُ بشرًا كما كنتُ أولًا، ولكنْ تلفَتْ عيني، فقالت الصبية: النار النار يا والدي، أنا ما بقيت أعيش لأني موعودة بالقتل، ولو كان من الإنس لقتلته من أول الأمر، وما تعبت إلا وقت فرط الرمانة حين لقطت حبها ونسيت الحبة التي فيها روح الجني، فلو لقطتُها لَمَات من ساعته، ولكن ما رأيتها بالقضاء والقدر، ولم أشعر إلا وهو قد أتى وجرى لي منه حرب شديدة تحت الأرض وفي الهواء والماء، وكلما فتح عليَّ بابًا فتحتُ عليه بابًا أعظم منه، إلى أن فتح عليَّ بابَ النار، وقلَّ من فُتِح عليه بابُ النار ونجا منه، إنما ساعدني عليه القدرُ حتى أحرقتُه قبلي، وكنتُ أعهد منه التديُّن بدين الإسلام، وها أنا ميتة والله خليفتي عليكم.

ثم إنها لم تزل تستغيث من النار، وإذا بشرر أسود قد طلع إلى صدرها وطلع إلى وجهها، فلما وصل إلى وجهها بكت وقالت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله. ثم نظرنا إليها ورأيناها كوم رماد بجانب كوم العفريت، فحَزِنَّا عليها، وتمنيتُ لو كنتُ مكانها، ولا أرى ذلك الوجه المليح الذي عمل فيَّ هذا المعروف يصير رمادًا، لكن حكم الله لا يُرَدُّ، فلما رأى الملك ابنته صارت كوم رماد نتف بقية لحيته، ولطم على وجهه، وشقَّ ثيابه، وفعلتُ كما فعل، وبكينا عليها، ثم جاء الحُجَّاب وأرباب الدولة، فوجدوا السلطان في حالة العدم، وعنده كومان رمادًا، فتعجَّبوا وداروا حول الملك ساعةً، فلما أفاق أخبرهم بما جرى لابنته مع العفريت، فعظمت مصيبتهم، وصرخ النساء والجواري، وعملوا العزاء سبعة أيام.

ثم إن الملك أمَرَ أن يُبنَى على رماد ابنته قبة عظيمة، وأوقدوا فيها الشموع والقناديل، وأما رماد العفريت فإنهم ذروه في الهواء إلى لعنة الله. ثم مرض السلطان مرضًا أشرف منه على الموت، واستمر مرضه شهرًا، وعادت إليه العافية، فطلبني وقال لي: يا فتى، قد قضينا زماننا في أهنأ عيش آمنين من نوائب الزمان حتى جئتنا، فأقبلَتْ علينا الأكدارُ، فليتنا ما رأيناك ولا رأينا طلعتك القبيحة التي بسببها صرنا في حالة العدم؛ فأولًا عدمت ابنتي التي كانت تساوي مائة رجل، وثانيًا جرى لي من الحريق ما جرى، وعُدِمتُ أضراسي، ومات خادمي، ولكن ما بيدك حيلة، بل جرى قضاء الله علينا وعليك، والحمد لله حيث خلَّصَتْك ابنتي، وأهلكت نفسها، فاخرج يا ولدي من بلدي، وكفى ما جرى بسببك، وكلُّ ذلك مقدَّر علينا وعليك، فاخرج بسلام.

فخرجت يا سيدتي من عنده، وما صدقت بالنجاة، ولا أدري أين أتوجَّه، وخطر على قلبي ما جرى لي، وكيف خلُّوني في الطريق سالمًا منهم، ومشيتُ شهرًا، وتذكَّرْتُ دخولي في المدينة غريبًا، واجتماعي بالخياط، واجتماعي بالصبية تحت الأرض، وخلاصي من العفريت بعد أن كان عازمًا على قتلي، وتذكَّرْتُ ما حصل لي من المبتدأ إلى المنتهى، فحمدتُ الله، وقلتُ بعيني ولا بروحي؛ ودخلت الحمام قبل أن أخرج من المدينة، وحلقتُ ذقني، وجئتُ يا سيدتي، وفي كل يوم أبكي، وأتفكَّر المصائبَ التي عاقِبَتُها تلَفُ عيني، وكلما أتذكَّر ما جرى لي أبكي وأنشد هذه الأبيات:

تَحَيَّرْتُ وَالرَّحَمَنُ لَا شَكَّ فِي أَمْرِي        وَحَلَّتْ بِيَ الْأَحْزَانُ مِنْ حَيْثُ لَا أَدْرِي

سَأَصْبِرُ حَتَّى يَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّنِي        صَبَرْتُ عَلَى شَيْءٍ أَمَرَّ مِنَ الصَّبْرِ

وَمَا أَحْسَنَ الصَّبْرَ الْجَمِيلَ مَعَ التُّقَى        وَمَا قَدَّرَ الْمَوْلَى عَلَى خَلْقِه يَجْرِي

سَرَائِرُ سِرِّي تُرْجُمَانُ سَرِيرَتِي        إِذَا كَانَ سِرُّ السِّرِّ سِرُّكَ فِي سِرِّي

وَلَوْ أَنَّ مَا بِي بِالْجِبَالِ لَهُدِّمَتْ        وَبِالنَّارِ أَطْفَاهَا وَبِالرِّيحِ لَمْ يَسْرِ

وَمَنْ قَالَ إِنَّ الدَّهْرَ فِيهِ حَلاوَةٌ        فَلَا بُدَّ مِنْ يَوْمٍ أَمَرَّ مِنَ الْمُرِّ

ثم سافرتُ الأقطارَ، ووردت الأمصار، وقصدت دار السلام بغداد لعلي أتوصَّل إلى أمير المؤمنين، وأخبره بما جرى لي، فوصلتُ إلى بغداد هذه الليلة، فوجدتُ أخي هذا الأول واقفًا متحيِّرًا، فقلتُ: السلام عليك. وتحدَّثت معه، وإذا بأخينا الثالث قد أقبل علينا، وقال: السلام عليكم، أنا رجل غريب. فقلنا له: ونحن غريبان، وقد وصلنا هذه الليلة المباركة، فمشينا نحن الثلاثة وما فينا أحد يعرف حكايةَ أحدٍ، فساقتنا المقادير إلى هذا الباب، ودخلنا عليكم، وهذا سبب حلق ذقني، وتلَفِ عيني. فقالت له: إنَّ حكايتك غريبة، فمَلِّسْ على رأسك، واخرج إلى حال سبيلك. فقال: لا أخرج حتى أسمع حديث رفيقي.

 

حكاية الصعلوك الثالث

تقدَّمَ الصعلوك الثالث، وقال: أيتها السيدة الجليلة، ما قصتي مثل قصتهما، بل قصتي أعجب؛ وذلك أن هذين جاءهما القضاء والقدر، وأما أنا فسبب حلق ذقني وتلف عيني أنني جلبت القضاء لنفسي، والهم لقلبي؛ وذلك أني كنت ملكًا ابن ملك، ومات والدي، وأخذت الملك من بعده، وحكمت وعدلت، وأحسنت للرعية، وكان لي محبة في السفر في البحر، وكانت مدينتي على البحر، والبحر متسع وحولنا جزائر مُعَدَّة للقتال، فأردت أن أتفرج على الجزائر، فنزلت في عشرة مراكب، وأخذت معي مئونة شهر كامل، وسافرت عشرين يومًا؛ ففي ليلة من الليالي هبَّتْ علينا رياح مختلفة إلى أن لاح الفجر، فهدأ الريح وسكن البحر، حتى أشرقت الشمس.

ثم إننا أشرفنا على جزيرة، وطلعنا على البر، وطبخنا شيئًا نأكله، فأكلنا ثم أقمنا يومين، وسافرنا عشرين يومًا، فاختلفَتْ علينا المياه وعلى الريس، واستغرب الريس البحر، فقلنا للناظور: انظر البحر بتأمُّل. فطلع الصاري، ثم نزل ذلك الناظور وقال للريس: يا ريس، رأيت عن يميني سمكًا على وجه الماء، ونظرت إلى وسط البحر فرأيت سوادًا من بعيدٍ يلوح تارةً أسود، وتارةً أبيض. فلما سمع الريس كلام الناظور ضرب الأرض بعمامته، ونتف لحيته، وقال للناس: أبشروا بهلاكنا جميعًا، ولم يسلم منَّا أحد. وشرع يبكي، وكذلك نحن الجميع نبكي على أنفسنا، فقلت: أيها الريس، أخبرنا بما رأى الناظور. فقال: يا سيدي، اعلم أننا تهنا يومَ جاءت علينا الرياح المختلفة، ولم يهدأ الريح إلا بكرة النهار، ثم أقمنا يومين فتهنا في البحر، ولم نَزَلْ تائهين أحد عشر يومًا من تلك الليلة، وليس لنا ريح يُرجِعنا إلى ما نحن قاصدون آخِر النهار، وفي غدٍ نصل إلى جبل من حجر أسود يُسمَّى حجر المغناطيس، وتجرُّنا المياه غصبًا إلى جهته، فتتمزَّق المركب، ويروح كل مسمار في المركب إلى الجبل ويلتصق به؛ لأن الله وضع في حجر المغناطيس سرًّا، وهو أن جميع الحديد يذهب إليه، وفي ذلك الجبل حديد كثير لا يعلمه إلا الله تعالى، حتى إنه تكسَّرَ من قديم الزمان مراكب كثيرة بسبب ذلك الجبل، ويلي ذلك البحر قبة من النحاس الأصفر معمودة على عشرة أعمدة، وفوق القبة فارس على فرس من نحاس، وفي يد ذلك الفارس رمح من نحاس، ومعلَّق في صدر الفارس لوح من رصاص، منقوش عليه أسماء وطلاسم فيها أيها الملك، ما دام هذا الفارس راكبًا على هذا الفرس تنكسر المراكب التي تفوت من تحته، ويهلك ركابها جميعًا، ويلتصق جميع الحديد الذي في المركب بالجبل، وما الخلاص إلا إذا وقع هذا الفارس من فوق تلك الفرس.

ثم إن الريس يا سيدتي بكى بكاء شديدًا، فتحقَّقنا أننا هالكون لا محالة، وكلٌّ منَّا ودَّعَ صاحبه، فلما جاء الصباح قربنا من ذلك الجبل، وساقتنا المياه إليه غصبًا، فلما صارت المراكب تحته انفتحت وفرَّتِ المساميرُ منها وكلُّ حديد فيها نحو حجر المغناطيس، ونحن دائرون حوله في آخر النهار، وتمزَّقت المراكب، فمنَّا مَن غرق، ومنَّا مَن سلم، ولكن أكثرنا غرق، والذين سلموا لم يعلموا ببعضهم؛ لأن تلك الأمواج واختلاف الرياح أدهشتهم، وأما أنا يا سيدتي فنجَّاني الله تعالى لما أراده من مشقتي وعذابي وبلوتي، فطلعت على لوح من الألواح، فألقاه الريح والأمواج إلى جبل، فأصبْتُ طريقًا متطرقًا إلى أعلاه على هيئة السلالم منقورة في الجبل، فسميت الله تعالى. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 15﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الصعلوك الثالث قال للصبية، والجماعةُ مُكتَّفون، والعبيد واقفون بالسيوف على رءوسهم: ثم إني سميت الله ودعوته، وابتهلت إليه، وحاولت الطلوع على الجبل، وصرتُ أتمسك بالنقر التي فيه حتى أسكَنَ اللهُ الريحَ في تلك الساعة، وأعانني على الطلوع، فطلعت سالمًا على الجبل، وفرحت بسلامتي غاية الفرح، ولم يكن لي دأب إلا القبة، فدخلتها وصليتُ فيها ركعتين شكرًا لله على سلامتي، ثم إني نمتُ تحت القبة فسمعت قائلًا يقول: يا ابن خصيب، إذا انتبهْتَ من منامك، فاحفر تحت رجليك قد قوسًا من نحاس، وثلاث نشابات من رصاص، منقوشًا عليها طلاسم، فخذ القوس والنشابات، وارم الفارس الذي على القبة، وأَرِحِ الناسَ من هذا البلاء العظيم، فإذا رميتَ الفارس يقع في البحر، ويقع القوس، فخذ القوس من يدك وادفنه في موضعه، فإذا فعلتَ ذلك يطفو البحر ويعلو حتى يساوي الجبل، ويطلع عليه زورق فيه شخص غير الذي رميته، فيجيء إليك وفي يده مجداف، فاركب معه ولا تُسَمِّ الله تعالى، فإنه يحملك ويسافر بك مدة عشرة أيام إلى أن يُوصِلَك إلى بحر السلامة، فإذا وصلتَ هناك تجد مَن يوصلك إلى بلدك، وهذا إنما يتمُّ لك إذا لم تُسَمِّ الله.

ثم استيقظت من نومي، وقمت بنشاط وقصدتُ الماء كما قال الهاتف، وضربت الفارس، رميته فوقع في البحر، ووقع القوس من يدي، فأخذت القوس ودفنته، فهاج البحر وعلا حتى ساوى الجبل الذي أنا عليه، فلم ألبث غير ساعة حتى رأيت زورقًا في وسط البحر يقصدني، فحمدتُ الله تعالى، فلما وصل إليَّ الزورق وجدت فيه شخصًا من النحاس في صدره لوح من الرصاص، منقوش بأسماء وطلاسم، فنزلت في الزورق وأنا ساكت لا أتكلم، فحملني الشخص أول يوم والثاني والثالث إلى تمام عشرة أيام، حتى رأيت جزائر السلامة؛ ففرحتُ فرحًا عظيمًا، ومن شدة فرحي ذكرتُ اللهَ، وسمَّيْتُ، وهلَّلْتُ، وكبَّرْتُ، فلما فعلتُ ذلك قذفني من الزورق في البحر، ثم رجع إلى البحر، وكنت أعرف العوم، فعمت ذلك اليوم إلى الليل، حتى كَلَّتْ سواعدي، وتعبت أكتافي، وصرتُ في الهلكات، ثم تشهَّدْتُ وأيقنتُ بالموت، وهاج البحر من كثرة الرياح، فجاءت موجة كالقلعة العظيمة فحملتني وقذفتني قذفةً صرت بها فوق البر لما يريد الله، فطلعت البر، وعصرت ثيابي، ونشفتها على الأرض وبِتُّ، فلما أصبحت لبست ثيابي، وقمت أنظر أين أمشي، فوجدت غوطة، فجئتها ودرتُ حولها، فوجدتُ الموضع الذي أنا فيه جزيرة صغيرة، والبحر محيط بها، فقلت في نفسي: كلما أخلص من بلية أقع في أعظم منها!

فبينما أنا متفكر في أمري وأتمنى الموت، إذ نظرت مركبًا فيها ناس، فقمتُ وطلعتُ على شجرة، وإذا بالمركب التصقت بالبر، وطلع منها عشرة عبيد معهم مساحي، فمشوا حتى وصلوا إلى وسط الجزيرة، وحفروا في الأرض، وكشفوا عن طابق، فرفعوا الطابق وفتحوا بابه، ثم عادوا إلى المركب، ونقلوا منها خبزًا ودقيقًا وسمنًا وعسلًا وأغنامًا وجميع ما يحتاج إليه الساكن، وصار العبيد متردِّدين بين المركب، وباب الطابق، وهم يحولون من المركب وينزلون في الطابق، إلى أن نقلوا جميعَ ما في المركب، ثم بعد ذلك طلع العبيد ومعهم ثيابٌ أحسن ما يكون، وفي وسطهم شيخ كبير هَرِم قد عمَّرَ زمنًا طويلًا، وأضعفه الدهر حتى صار فانيًا، ويد ذلك الشيخ في يد صبي قد أُفرِغ في قالب الجمال، وأُلبِس من الحُسْن حلةَ الكمال، حتى إنه يُضرَب بحسنه الأمثال، وهو كالقضيب الرطب يسحر كلَّ قلب بجماله، ويسلب كل لب بكماله، فلم يزالوا يا سيدتي سائرين حتى أتوا إلى الطابق، ونزلوا فيه، وغابوا عن عيني.

فلما توجَّهوا قمتُ ونزلت من فوق الشجرة، ومشيت إلى موضع الردم، ونبشتُ الترابَ ونقلته، وصبَّرت نفسي حتى أزلتُ جميعَ التراب، فانكشف الطابق، فإذا هو خشب مقدار حجر الطاحون، فرفعته فبانَ من تحته سلم معقود من حجر، فتعجبت من ذلك، ونزلت في السلم حتى انتهيت إلى آخره، فوجدت شيئًا نظيفًا، ووجدت بستانًا وثانيًا وثالثًا إلى تمام تسعة وثلاثين، وكل بستان أرى فيه ما يكلُّ عنه الوصفُ من أشجارٍ وأنهارٍ وأثمارٍ وذخائر، ورأيت بابًا فقلت في نفسي: ما الذي في هذا المكان؟ فلا بد أن أفتحه وأنظر ما فيه. ثم فتحتُه فوجدتُ فيه فرسًا مسرجًا ملجمًا مربوطًا، ففككتُه وركبتُه، فطار بي إلى أن حطَّني على سطحٍ وأنزلني، وضربني بذيله فأَتْلَفَ عيني وفرَّ مني، فنزلت من فوق السطح فوجدتُ عشرة شباب عور، فلما رأوني قالوا: لا مرحبًا بك. فقلت لهم: أتقبلونني أجلس عندكم؟ فقالوا: والله لا تجلس عندنا. فخرجت من عندهم حزين القلب، باكي العين، وكتب الله لي السلامة حتى وصلْتُ إلى بغداد، فحلقت ذقني وصرت صعلوكًا، فوجدت هذين الاثنين الأعورين، فسلَّمْتُ عليهما وقلتُ لهما: أنا غريب. فقالا: ونحن غريبان. فهذا سبب تلف عيني وحلق ذقني. فقالت له: ملِّسْ على رأسك ورُح. فقال: والله لا أروح حتى أسمع قصة هؤلاء.

ثم إن الصبية التفتت إلى الخليفة وجعفر ومسرور، وقالت لهم: أخبروني بخبركم. فتقَدَّمَ جعفر، وحكى لها الحكاية التي قالها للبوابة عند دخولهم، فلما سمعت كلامه، قالت: وهبت بعضكم لبعض. فخرجوا إلى أن صاروا في الزقاق، فقال الخليفة للصعاليك: يا جماعة إلى أين تذهبون؟ فقالوا: وما ندري أين نذهب. فقال لهم الخليفة: سيروا وبيتوا عندنا. وقال لجعفر: خذهم وأحضرهم لي غدًا حتى ننظر ما يكون. فامتثَلَ جعفر ما أمره به الخليفة، ثم إن الخليفة طلع إلى قصره، ولم يجئه نوم في تلك الليلة، فلما أصبح جلس على كرسي المملكة، ودخلت عليه أرباب الدولة، فالتفَتَ إلى جعفر بعد أن طلعت أرباب الدولة، وقال: ائتني بالثلاث صبايا والكلبتين والصعاليك. فنهض جعفر، وأحضرهم بين يدَيْه، فأدخل الصبايا تحت الأستار، والتفَتَ لهن جعفر، وقال لهن: قد عفونا عنكن لما أسلفتن من الإحسان إلينا ولم تعرفننا، فها أنا أعرفكن وأنتن بين يدي الخامس من بني العباس هارون الرشيد، فلا تخبرْنَه إلا حقًّا. فلما سمع الصبايا كلام جعفر عن لسان أمير المؤمنين تقدَّمَتِ الكبيرة، وقالت: يا أمير المؤمنين، إن لي حديثًا لو كُتِب بالإبر على آماق البصر لَكان عبرةً لمَن اعتبر. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 16﴾

حكاية البنت الأولى زبيدة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن كبيرة الصبايا لما تقدَّمت بين يدي أمير المؤمنين قالت: إن لي حديثًا عجيبًا، وهو أن هاتين الصبيتين أختاي من أبي من غير أمي، فمات والدنا، وخلف خمسة آلاف دينار، وكنت أنا أصغرهن سنًّا، فتجهَّزَتْ أختاي وتزوَّجت كل واحدة برجل ومكثتا مدة، ثم إن كل واحد من أزواجهما هيَّأ متجرًا وأخذ من زوجته ألف دينار، وسافرا مع بعضهما وتركاهما، فغابَا أربع سنين، وضيَّع زوجاهما المالَ وخسرَا، وتركاهما في بلاد الناس، فجاءتاني في هيئة الشحاذين، فلما رأيتهما ذُهِلت عنهما ولم أعرفهما، ثم إني لما عرفتهما قلت لهما: ما هذه الحال؟ فقالتا: يا أختنا، إن الكلام لا يفيد الآن، وقد جرى القلم بما حكم الله. فأرسلتهما إلى الحمام، وألبست كل واحدة حُلَّةً، وقلت لهما: يا أختَيَّ، أنتما الكبيرتان وأنا الصغيرة، وأنتما عوض عن أبي وأمي، والإرث الذي نابني معكما قد جعل الله فيه البركة، فكُلَا من زكاته، وأحوالي جليلة، وأنا وأنتما سواء. وأحسنتُ إليهما غاية الإحسان، فمكثتا عندي مدة سنة كاملة، وصار لهما مال من مالي، فقالتا: إن الزواج خير لنا، وليس لنا صبر عنه. فقلت لهما: يا أختَيَّ، لم تَرَيَا في الزواج خيرًا، فإن الرجل الجيد قليل في هذا الزمان، وقد جرَّبتما الزواج. فلم يقبلَا كلامي وتزوَّجَا بغير رضاي، فزوجتهما من مالي وسترتهما، ومضتا مع زوجَيْهما، فأقاموا مدة يسيرة، ولعب عليهما زوجاهما، وأخذَا ما كان معهما، وسافرَا وتركاهما، فجاءتا عندي وهما عريانتان واعتذرتا، وقالتَا: لا تؤاخذينا، فأنت أصغر منَّا سنًّا وأكمل عقلًا، وما بقينا نذكر الزواج أبدًا. فقلت: مرحبًا بكما يا أختَيَّ، ما عندي أعز منكما. وقبَّلتهما، وزِدتهما إكرامًا.

ولم نَزَلْ على هذه الحالة سنة كاملة، فأردت أن أجهِّز لي مركبًا إلى البصرة، فجهزت مركبًا كبيرة، وحملت فيها البضائع والمتاجر، وما أحتاج إليه في المركب، وقلت: يا أختَيَّ، هل لكما أن تقعدا في المنزل حتى أسافر وأرجع، أو تسافرَا معي؟ فقالتا: نسافر معك، فإنَّا لا نطيق فراقك. فأخذتهما وسافرنا، وكنتُ قسمت مالي نصفين، فأخذتُ النصف، وخبَّأتُ النصفَ الثاني، وقلت: ربما يصيب المركب شيء، ويكون في العمر مدة، فإذا رجعنا نجد شيئًا ينفعنا. ولم نزل مسافرين أيامًا وليالي، فتاهت بنا المركب، وغفل الريس عن الطريق، ودخلت المركب بحرًا غير البحر الذي نريده، ولم نعلم بذلك مدة، وطاب لنا الريح عشرة أيام، فلاحت لنا مدينة على بُعْدٍ، فقلنا للريس: ما اسم هذه المدينة التي أشرفنا عليها؟ فقال: والله لا أعلم، ولا رأيتها قط، ولا سلكت عمري هذا البحر، ولكن جاء الأمر بسلامة، فما بقي إلا أن تدخلوا هذه المدينة وتُخرِجوا بضائعكم، فإن حصل لكم بيع فبيعوا وتصرَّفوا فيها، وإن لم يحصل لكم بيع، نرتاح يومين ونتزوَّد ونسافر. فدخلنا المدينة وطلع الريس إليها، وغاب ساعةً ثم جاءنا، وقال: قوموا إلى المدينة، وتعجَّبوا من صنع الله في خلقه، واستعيذوا من سخطه. فطلعنا المدينة فوجدنا كلَّ مَن فيها ممسخوًا حجارة سودًا، فاندهشنا من ذلك، ومشينا في الأسواق فوجدنا البضائع باقية، والذهب والفضة باقيين على حالهما، ففرحنا وقلنا: لعل هذا يكون له أمر عجيب، وتفرقنا في شوارع المدينة، وكل واحد اشتغل عن رفيقه بما فيها من المال والقماش.

وأما أنا فطلعت إلى القلعة فوجدتها محكمة، فدخلت قصر الملك فوجدت جميع الأواني من الذهب والفضة، ثم رأيت الملك جالسًا وعنده حجابه، ونوابه، ووزراؤه، وعليه من الملابس شيء يتحير فيه الفكر، فلمَّا قربت من الملك وجدته جالسًا على كرسي مرصَّع بالدر والجوهر، فيه كل درة تضيء كالنجمة، وعليه حلة مزركشة بالذهب، وواقفًا حوله خمسون مملوكًا لابسين أنواع الحرير، وفي أيديهم السيوف مجردة، فلما نظرت لذلك دهش عقلي، ثم مشيت ودخلت قاعة الحريم، فوجدت في حيطانها ستائر من الحرير، ووجدت الملكة عليها حلة مزركشة باللؤلؤ الرطب، وعلى رأسها تاج مكلل بأنواع الجواهر، وفي عنقها قلائد وعقود، وجميع ما عليها من الملبوس والمصاغ باقٍ على حاله، وهي ممسوخة حجرًا أسودَ، ووجدت بابًا مفتوحًا فدخلته، ووجدت فيه سلمًا بسبع درجات فصعدته، فرأيت مكانًا مرخمًا مفروشًا بالبسط المذهبة، ووجدت فيه سريرًا من المرمر مرصعًا بالدر والجوهر، ونظرت نورًا لامعًا في جهةٍ فقصدتها فوجدت فيها جوهرة مضيئة قدر بيضة النعامة على كرسي صغير وهو يضيء كالشمعة، ونورهما ساطع، ومفروش على ذلك السرير من أنواع الحرير ما يحيِّر الناظر، فلما نظرت إلى ذلك تعجبت، ورأيت في ذلك المكان شموعًا موقدةً، فقلت في نفسي: لا بد أن أحدًا أوقد هذه الشموع.

ثم إني مشيت حتى دخلت موضعًا غيره، وصرت أفتش في الأماكن، ونسيت نفسي ممَّا أدهشني من التعجُّب من تلك الأحوال، واستغرق فكري إلى أن دخل الليل، فأردت الخروج فلم أعرف الباب، وتهت عنه، فعدت إلى الجهة التي فيها الشموع الموقدة، وجلست على السرير، وتغطيت بلحاف بعد أن قرأت شيئًا من القرآن، وأردت النوم فلم أستطع، ولحقني القلق، فلما انتصف الليل سمعت تلاوة القرآن بصوت حسن رقيق، فالتفتُّ إلى مخدعٍ فرأيت بابه مفتوحًا، فدخلت الباب ونظرت المكان فإذا هو معبد، وفيه قناديل معلقة موقدة، وفيه سجادة مفروشة جالس عليها شاب حسن المنظر، فتعجبت كيف هو سالم دون أهل المدينة، فدخلت وسلَّمت عليه، فرفع بصره ورد عليَّ السلام، فقلت له: أسألك بحق ما تتلوه من كتاب الله أن تجيبني عن سؤالي. فتبسَّم وقال: أخبريني أنتِ عن سبب دخولك هذا المكان، وأنا أخبرك بجواب ما تسألينني عنه. فأخبرته بخبري، فتعجَّب من ذلك، ثم إنني سألته عن هذه المدينة، فقال: أمهليني. ثم طبق المصحف، وأدخله في كيس من الأطلس، وأجلسني بجنبه، فنظرت إليه فإذا هو كالبدر حسن الأوصاف، لين الأعطاف، بهي المنظر، رشيق القد، أسيل الخدر، زهي الوجنات كأنه المقصود من هذه الأبيات:

رَصَدَ المُنَجِّمُ لَيْلَه فَبَدَا لَهُ        قَدُّ الْمَلِيحِ يَمِيسُ فِي بُرْدَيْهِ

وَأَمَدَّهُ زُحَلٌ سَوَادَ ذَوَائِبٍ        وَالْمِسْكُ هَادِي الْخَالِ فِي خَدَّيْهِ

وَغَدَتْ مِنَ الْمَرِّيخِ حُمْرَةُ خَدِّهِ        وَالْقَوْسُ يَرْمِي النَّبْلَ مِنْ جَفْنَيْهِ

وَعُطَارِدُ أَعْطَاهُ فَرْطَ ذَكَائِهِ        وَأَبَى السُّهَا نَظَرَ الْوُشَاةِ إِلَيْهِ

فَغَدَا الْمُنَجِّمُ حَائِرًا مِمَّا رَأَى        وَالْبَدْرُ بَاسَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ

فنظرتُ إليه نظرةً أعقبتني ألف حسرة، وأوقدَتْ بقلبي كلَّ جمرة، فقلت له: يا مولاي، أخبرني عمَّا سألتك. فقال: سمعًا وطاعةً، اعلمي أن هذه المدينة مدينة والدي وجميع أهله وقومه، وهو الملك الذي رأيتِه على الكرسي ممسوخًا حجرًا، وأما الملكة التي رأيتِها فهي أمي، وقد كانوا مجوسًا يعبدون النار دون الملك الجبار، وكانوا يقسمون بالنار والنور، والظل والحرور، والفلك الذي يدور، وكان أبي ليس له ولد فرُزِقَ بي في آخِر عمره، فربَّاني حتى نشأت، وقد سبقت لي السعادة، وكان عندنا عجوز طاعنة في السن مسلمة تؤمن بالله ورسوله في الباطن، وتُوافق أهلي في الظاهر، وكان أبي يقدرها لاتصافها بالأمانة والعفة، وكان يكرمها ويزيد في إكرامها، وكان يعتقد أنها على دينه، فلما كبرتُ سلَّمني أبي إليها، وقال: خذيه وربِّيه، وعلِّميه أحوالَ ديننا، وأحسني تربيته، وقومي بخدمته.

فأخذتني العجوز، وعلَّمتني دينَ الإسلام من الطهارة وفرائض الوضوء والصلاة، وحفَّظتني القرآن، فلما أتممتُ ذلك قالت لي: يا ولدي، اكتم هذا الأمر عن أبيك، ولا تُعلِمه به لئلا يقتلك. فكتمته عنه، ولم أزل كاتمًا عن أبي الخبر حتى ماتت تلك العجوز بعد أيام قلائل، فازداد أهل المدينة كفرًا وعتوًّا وضلالًا، فبينما هم على ما هم فيه إذ سمعوا مناديًا ينادي بصوت عالٍ شبيه بصوت الرعد القاصف، سمعه القريب والبعيد يقول: يا أهل هذه المدينة، ارجعوا عن عبادة النار، واعبدوا الملك الجبار. فحصل عند أهل المدينة فزع، واجتمعوا عند أبي وهو ملك المدينة، وقالوا له: ما هذا الصوت المزعج الذي سمعناه فاندهشنا من شدَّة هوله؟ فقال لهم: لا يهولنكم الصوت، ولا يفزعكم، ولا يردكم عن دينكم. فمالت قلوبهم إلى قول أبي، ولم يزالوا منكبين على عبادة النار، واستمروا على طغيانهم مدة سنة، حتى جاء ميعاد ما سمعوا الصوت الأول فظهر لهم ثانيًا، فسمعوه ثلاث مرات على ثلاث سنين في كل سنة مرة، فلم يزالوا عاكفين على ما هم عليه حتى نزل عليهم المقت والسخط من السماء بعد طلوع الفجر، فمُسِخوا حجارة سودًا، وكذلك دوابهم وأنعامهم، ولم يسلم من أهل هذه المدينة غيري، ومن يوم جرَتْ هذه الحادثةُ وأنا على هذه الحالة في صلاة وصيام وتلاوة قرآن، وقد سئمت من الوحدة، وما عندي مَن يؤانسني.

فعند ذلك قلت له: أيها الشاب، هل لك أن تروح معي إلى مدينة بغداد، وتنظر إلى العلماء، وإلى الفقهاء، فتزداد علمًا وفقهًا، وأكون أنا جاريتك مع أني سيدة قومي، وحاكمة على رجال وخدم وغلمان، وعندي مركب مشحونة بالمتجر، وقد رمتنا المقادير على هذه المدينة حتى كان ذلك سببًا في اطِّلَاعنا على هذه الأمور، وكان النصيب في اجتماعنا. ولم أزل أرغِّبه في التوجُّه حتى أجابني إليه. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 17﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الصبية ما زالت تحسِّن للشاب التوجُّه معها حتى غلب عليها النوم، فنامت تلك الليلة تحت رجليه، وهي لا تصدق بما هي فيه من الفرح، ثم قالت: فلما أصبح الصباح قمنا ودخلنا إلى الخزائن، وأخذنا ما خفَّ حمله وغلا ثمنه، ونزلنا من القلعة إلى المدينة، فقابلنا العبيد والريس وهم يفتشون عليَّ، فلما رأوني فرحوا بي، وسألوني عن سبب غيابي، فأخبرتهم بما رأيت، وحكيت لهم قصة الشاب، وسبب مسخ أهل هذه المدينة، وما جرى لهم؛ فتعجبوا من ذلك، فلما رأتني أختاي ومعي ذلك الشاب حسدتاني عليه، وصارتا في غيظ، وأضمرتا المكر لي، ثم نزلنا المركب وأنا بغاية الفرح، وأكثر فرحي بصحبة هذا الشاب، وأقمنا ننتظر الريح حتى طاب لنا الريح، فنشرنا القلوع وسافرنا، فقعدت أختاي عندنا وصارتا تتحدثان، فقالتا لي: يا أختنا، ما تصنعين بهذا الشاب الحسن؟ فقلتُ لهما: قصدي أن أتخذه بعلًا. ثم التفتُّ إليه وأقبلتُ عليه، وقلت: يا سيدي، قصدي أن أقول لك شيئًا فلا تخالفني فيه. فقال: سمعًا وطاعةً.

ثم التفتُّ إلى أختيَّ وقلت لهما: يكفيني هذا الشاب، وجميع هذه الأموال لكما. فقالتَا: نِعْمَ ما فعلتِ. ولكنهما أضمرتا لي الشرَّ، ولم نزل سائرين مع اعتدال الريح حتى خرجنا من بحر الخوف، ودخلنا بحر الأمان، وسافرنا أيامًا قلائل إلى أن قربنا من مدينة البصرة، ولاحت لنا أبنيتها فأدركنا المساء، فلما أخَذَنا النومُ قامَتْ أختاي وحملتاني أنا والغلام بفرشنا ورمتانا في البحر، فأما الشاب فإنه كان لا يحسن العومَ فغرق، وكتبه الله من الشهداء، وأما أنا فكُتِبت من السالمين.

فلما سقطتُ في البحر رزقني الله بقطعة خشب فركبتها، وضربتني الأمواج إلى أن رمتني على ساحل جزيرة، فلم أزل أمشي في الجزيرة باقي ليلتي، فلما أصبح الصباح رأيت طريقًا فيه أثر مشي على قدر قدم ابن آدم، وتلك الطريق متصلة من الجزيرة إلى البر، وقد طلعت الشمس، فنشفت ثيابي فيها وسرت في الطريق، ولم أزل سائرة إلى أن قربت من البر الذي فيه المدينة، وإذا أنا بحية تقصدني، وخلفها ثعبان يريد هلاكها، وقد تدلَّى لسانها من شدة التعب، فأخذتني الشفقة عليها، فعمدتُ إلى حجرٍ وألقيتُه على رأس الثعبان، فمات من وقته، فنشرت الحية جناحين وطارت في الجو، فتعجَّبْتُ من ذلك، وقد تعبت فنمت في موضعي ساعة، فلما أفقت وجدت تحت رجلي جارية وهي تكبس رجلي، فجلست واستحَيْتُ منها، وقلت لها: مَن أنت، وما شأنك؟ فقالت: ما أسرع ما نسيتِني! أنتِ التي فعلتِ معي الجميل، وقتلتِ عدوي، فأنا الحية التي خلصتِني من الثعبان، فإني جنية، وهذا الثعبان جني، وهو عدوي، وما نجاني منه إلا أنت، فلما نجيتِني منه طرت في الريح، وذهبت إلى المركب التي رماك منها أختاك، ونقلتُ جميعَ ما فيها إلى بيتك وأغرقتها، وأما أختاكِ فإني سحرتهما كلبتين من الكلاب السود، فإني عرفتُ جميعَ ما جرى لك معهما، وأما الشاب فإنه غرق.

ثم حَمَلَتْنِي أنا والكلبتين، وألقتنا فوق سطح داري؛ فرأيتُ جميعَ ما كان في المركب من الأموال في وسط بيتي، ولم يَضِعْ منه شيء، ثم إن الحية قالت لي: وحق النقش الذي على خاتم سليمان، إذا لم تضربي كلَّ واحدة منهما في كل يوم ثلاثمائة سوط، لَجئتُ وجعلتُكِ مثلهما. فقلت: سمعًا وطاعةً. فلم أزل يا أمير المؤمنين أضربهما ذلك الضرب، وأشفق عليهما.

فتعجَّبَ الخليفة من ذلك، ثم قال للصبية الثانية: وأنتِ ما سبب الضرب الذي على جسدك؟

 

حكاية البنت الثانية أمينة

فقالت: يا أمير المؤمنين، إني كان لي والد فمات وخلف مالًا كثيرًا، فأقمتُ بعده مدة يسيرة، وتزوَّجْتُ برجل أسعد أهل زمانه، فأقمتُ معه سنة كاملة ومات، فورثت منه ثمانين ألف دينار بمقتضى ما خصني بالفريضة الشرعية، فعملت عشر بدلات، كل بدلة بألف دينار، فبينما أنا جالسة في يوم من الأيام إذ دخلت عليَّ عجوز بوجه مسعوط وحاجب ممعوط، وعيونها مفجرة وأسنانها مكسرة، ومخاطها سائل وعنقها مائل، كما قال فيها الشاعر:

عَجُوزُ النَّحْسِ إِبْلِيسٌ يَرَاهَا        تُعَلِّمُهُ الْخَدِيعَةَ مِنْ سُكُوتِ

تَقُودُ مِنَ السِّيَاسَةِ أَلْفَ بَغْلٍ        إِذَا نَفَرُوا بِخَيْطِ الْعَنْكَبُوتِ

وكما قال الآخَر:

وَعَجُوزٌ لَهَا الْكَهَانَةُ طَبْعٌ        حَلَّلَتْ فِي الْحَرَامِ مَا لَا يَجُوزُ

بُعْبِصَتْ طِفْلَةً وَلِيطَتْ فَتَاةً        وَزَنَتْ كَهْلَةً وَقَادَتْ عَجُوْزُ

فلما دخلت العجوز سلَّمت علي، وقالت: إن عندي بنتًا يتيمة، والليلة عملت عرسها، وأنا قصدي لك الأجر والثواب، فاحضري عرسها؛ فإنها مكسورة الخاطر، ليس لها إلا الله تعالى. ثم بكت وقبَّلَتْ رجلي، فأخذتني الرحمة والرأفة، فقلت: سمعًا وطاعةً. فقالت: جهِّزي نفسك، فإني وقت العشاء أجيء وآخذك. ثم قبَّلَتْ يديَّ وذهبت، فقمت وهيَّأت نفسي وجهزت حالي، وإذا بالعجوز قد أقبلت وقالت: يا سيدتي، إن سيدات البلد قد حضرن، وأخبرتهن بحضورك؛ ففرحن وهن في انتظارك. فقمتُ وتهيَّأْتُ، وأخذت جواري معي، وسرت حتى أتينا إلى زقاق هبَّ فيه النسيم ورَاقَ، فرأينا بوابة مقنطرة بقبة من الرخام مشيدة البنيان، وفي داخلها قصر قد قام من التراب وتعلَّقَ بالسحاب، فلما وصلنا إلى الباب طرقته العجوز ففُتِح لنا ودخلنا، فوجدنا دهليزًا مفروشًا بالبسط، معلقًا فيه قناديل موقدة وشموع مضيئة، وفيه الجواهر والمعادن معلقة، فمشينا في الدهليز إلى أن دخلنا قاعة لا يوجد لها نظير، مفروشة بالفراش الحرير، معلَّقًا فيها القناديل الموقدة والشموع المضيئة، وفي صدر القاعة سرير من المرمر مرصَّع بالدر والجواهر، وعليه ناموسية من الأطلس، وإذا بصبية خرجت من الناموسية مثل القمر، فقالت لي: مرحبًا وأهلًا وسهلًا يا أختي، آنستِني وجبرتِ خاطري، وأنشدت تقول:

لَوْ تَعْلَمُ الدَّارُ مَنْ قَدْ زَارَهَا فَرِحَتْ        وَاسْتَبَشْرَتْ ثُمَّ بَاسَتْ مَوْضِعَ القَدَمِ

وَأَعْلَنَتْ بِلِسَانِ الْحَالِ قَائِلَةً        أَهْلًا وَسَهْلًا بِأَهْلِ الْجُودِ وَالْكَرَمِ

ثم جلست وقالت: يا أختي، إن لي أخًا، وقد رآك في بعض الأفراح، وهو شاب أحسن مني، وقد أحَبَّكِ قلبُه حبًّا شديدًا، وأعطى هذه العجوز دراهم حتى أتَتْكِ، وعملت هذه الحيلة لأجل اجتماعي بك، ويريد أخي أن يتزوَّجَكِ بسنة الله ورسوله، وما في الحلال من عيب. فلما سمعت كلامها، ورأيت نفسي قد انحزت في الدار، قلتُ للصبية: سمعًا وطاعةً. ففرحت وصفَّقَتْ بيدَيْها، وفتحت بابًا فخرج منه شاب مثل القمر كما قال الشاعر:

قَدْ زَادَ حُسْنًا تَبَارَكَ اللهُ        جَلَّ الَّذِي صَاغَهُ وَسَوَّاهُ

قَدْ حَازَ كُلَّ الْجَمَالِ مُنْفَرِدًا        كُلُّ الْوَرَى فِي جَمَالِهِ تَاهُوا

قَدْ كَتَبَ الْحُسْنُ فَوْقَ وُجْنَتِهِ        أَشْهَدُ أَنَّ لَا مَلِيحَ إِلَّا هُو

فلما نظرتُ إليه مالَ قلبي له، ثم جاء وجلس، وإذا بالقاضي قد دخل ومعه أربعة شهود، فسلَّموا وجلسوا، ثم إنهم كتبوا كتابي على ذلك الشاب وانصرفوا، فالتفَتَ الشاب إليَّ، وقال: ليلتنا مباركة. ثم قال: يا سيدتي، إني أشرط عليك شرطًا. فقلتُ: يا سيدي، وما الشرط؟ فقام وأحضر لي مصحفًا وقال: احلفي لي أنك لا تختارين أحدًا غيري ولا تميلين إليه. فحلفتُ له على ذلك، ففرح فرحًا شديدًا وعانقني، فأخذت محبته بمجامع قلبي، وقدَّموا لنا السماط، فأكلنا وشربنا حتى اكتفينا، ودخل علينا الليل، فأخذني ونام معي على الفراش، وبتنا في عناق إلى الصباح، ولم نزل على هذه الحالة مدة شهر، ونحن في هناء وسرور، وبعد الشهر استأذنته في أني أسير إلى السوق، وأشتري بعض قماش، فأذن لي في الرواح، فلبست ثيابي وأخذت العجوز معي، ونزلت إلى السوق، فجلست في دكان شاب تاجر تعرفه العجوز، وقالت لي: هذا ولد صغير مات أبوه، وخلف له مالًا كثيرًا. ثم قالت له: هاتِ أعزَّ ما عندك من القماش لهذه الصبية. فقال لها: سمعًا وطاعةً. فصارت العجوز تثني عليه، فقلتُ: ما لنا حاجة بثنائك عليه؛ لأن مرادنا أن نأخذ حاجتنا منه ونعود إلى منزلنا. فأخرج لنا ما طلبناه وأعطيناه الدراهم، فأبى أن يأخذ شيئًا وقال: هذه ضيافتكم اليومَ عندي. فقلت للعجوز: إن لم يأخذ الدراهم أعطيه قماشه. فقال: والله لا آخذ منك شيئًا، والجميع هدية من عندي في قبلة واحدة، فإنها عندي أحسن من جميع ما في دكاني. فقالت العجوز: ما الذي يفيدك من القبلة؟ ثم قالت: يا بنتي، قد سمعتِ هذا هذا الشاب، وما يصيبك شيء إذا أخذ منك قبلة، وتأخذين ما تطلبينه. فقلتُ لها: أَمَا تعرفين أني حالفة؟! فقالت: خليه يقبِّلك، وأنت ساكتة، ولا عليك شيء، وتأخذين هذه الدراهم. ولا زالت تُحَسِّنُ لي الأمر حتى أدخلت رأسي في الجراب ورضيت بذلك، ثم إني غطيت عيني، وداريت بطرف إزاري من الناس، وحط فمه تحت إزاري على خدي، فلمَّا قبَّلني عضَّني عضةً قوية حتى قطع اللحم من خدي، فغُشِي عليَّ، ثم أخذتني العجوز في حضنها، فلما أفقتُ وجدتُ الدكان مقفولة، والعجوز تُظهِر لي الحزن، وتقول: ما دفع الله كان أعظم. ثم قالت لي: قومي بنا إلى البيت، واعملي نفسك ضعيفة، وأنا أجيء إليك بدواء تداوين به هذه العضة فتبرأ سريعًا. فبعد ساعة قمتُ من مكاني وأنا في غاية الفكر، واشتد بي الخوف، فمشيت حتى وصلتُ إلى البيت، وأظهرتُ حالةَ المرض، وإذا بزوجي داخل، وقال: ما الذي أصابك يا سيدتي في هذا الخروج؟ فقلت له: ما أنا طيبة. فنظر إليَّ وقال لي: ما هذا الجرح الذي بخدك، وهو في المكان الناعم؟ فقلت: إني لما استأذنتك وخرجت في هذا النهار لأشتري القماش، زاحمني جمل حامل حطبًا، فشرمط نقابي، وجرح خدي كما ترى، فإن الطريق ضيق في هذه المدينة. فقال: غدًا أروح للحاكم، وأشكو له فيشنق كلَّ حطابٍ في المدينة. فقلت: بالله عليك لا تتحمَّل خطيئةَ أحد؛ فإني ركبت حمارًا نفر بي فوقعت على الأرض، فصادفني عود فخدش خدي وجرحني. فقال: غدًا أطلع لجعفر البرمكي، وأحكي له الحكاية، فيقتل كلَّ حمَّار في هذه المدينة. فقلت: هل أنت تقتل الناس كلهم بسببي، وهذا الذي جرى لي بقضاء الله وقدره! فقال: لا بد من ذلك. وشدَّدَ عليَّ ونهض قائمًا، وصاح صيحة عظيمة، فانفتح الباب وطلع منه سبعة عبيد سود، فسحبوني من فراشي ورموني في وسط الدار، ثم أمر عبدًا منهم أن يمسكني من أكتافي ويجلس على رأسي، وأمر الثاني أن يجلس على ركبتي ويمسك رجلي، وجاء الثالث وفي يده سيف فقال: يا سيدي، أأضربها بالسيف فأقسمها نصفين، وكل واحد يأخذ قطعة يرميها في بحر الدجلة فيأكلها السمك؟ وهذا جزاء مَن يخون الأيمان والمودة، وأنشد هذا الشعر:

إِذَا كَانَ لِي فِيمَنْ أُحِبُّ مُشَارِكٌ        مَنَعْتُ الْهَوَى رُوحِي لِيُتْلِفَنِي وَجْدِي

وَقُلْتُ لَهَا يَا نَفْسُ مُوتِي كَرِيمَةً        فَلَا خَيْرَ فِي حُبٍّ يَكُونُ مَعَ الضِّدِّ

ثم قال للعبد: اضربها يا سعد. فجرَّدَ السيف وقال: اذكري الشهادة، وتذكَّرِي ما كان لك من الحوائج وأوصي، فإن هذا آخِر حياتك. فقلتُ له: يا عبدَ الخير، تمهَّلْ عليَّ قليلًا حتى أتشهَّد وأوصي. ثم رفعتُ رأسي ونظرتُ إلى حالي، وكيف صرتُ في الذلِّ بعد العزِّ؛ فجرَتْ عَبرتي وبكيتُ، وأنشدت هذه الأبيات:

أَقَمْتُمْ فِرَاقِي فِي الْهَوَى وَقَعَدْتُمْ        وَأَسْهَرْتُمْ جَفْنِي الْقَرِيحَ وَنِمْتُمُ

وَمَنْزِلُكُمْ بَيْنَ الْفُؤَادِ وَنَاظِرِي        فَلَا الْقَلْبُ يَسْلَاكُمْ وَلَا الدَّمْعُ يُكْتَمُ

وَعَاهَدْتُمُونِي أَنْ تُقِيمُوا عَلَى الْوَفَا        فَلَمَّا تَمَلَّكْتُمْ فُؤَادِي غَدَرْتُمُ

وَلَمْ تَرْحَمُوا وَجْدِي بِكُمْ وَتَلَهُّفِي        أَأَنْتُمْ صُدُوفَ الْحَادِثَاتِ أَمِنْتُمُ

سَأَلْتُكُمُ بِاللهِ إِنْ مُتُّ فَاكْتُبُوا        عَلَى لَوْحِ قَبْرِي إِنَّ هَذَا مُتَيَّمُ

لَعَلَّ شَجِيًّا عَارِفًا لَوْعَةَ الْهَوَى        يَمُرُّ عَلَى قَبْرِ الْمُحِبِّ فَيَرْحَمُ

فلما فرغتُ من شعري بكيتُ، فلما سمع الشعر ونظر إلى بكائي، ازداد غيظًا على غيظه، وأنشد هذين البيتين:

تَرَكْتُ حَبِيبَ الْقَلْبِ لَا عَنْ مَلَالَةٍ        وَلَكِنْ جَنَى ذَنْبًا يُؤَدِّي إِلَى التَّرْكِ

أَرَادَ شَرِيكًا فِي الْمَحَبَّةِ بَيْنَنَا        وَإِيمَانُ قَلْبِي لَا يَمِيلُ إِلَى الشِّرْكِ

فلما فرغ من شعره بكيت واستعطفته، وقلت في نفسي: أتواضع له وألين له الكلام؛ لعله يعفو عني من القتل، ولو كان يأخذ جميعَ ما أملك، ثم شكوتُ إليه ما أجده، وأنشدته هذه الأبيات:

وَحَقِّكَ لَوْ أَنْصَفْتَنِي مَا قَتَلْتَنِي        وَلَكِنَّ حُكْمَ الْبَيْنِ مَا فِيهِ مُنْصِفُ

وَحَمَّلْتَنِي ثِقْلَ الْغَرَامِ وَإِنَّنِي        لَأَعْجَزُ عَنْ حَمْلِ الْقَمِيصِ وَأَضْعُفُ

وَمَا عَجَبٌ إِتَلَافُ رُوحِي وَإِنَّمَا        عَجِبْتُ لِجِسْمِي بَعْدَكُمْ كَيْفَ يَصْرِفُ

فلما فرغتُ من شعري بكيتُ، فنظرني ونهرني وشتمني، وأنشد هذه الأبيات:

تَشَاغَلْتُمُ عَنَّا بِصُحْبَةِ غَيْرِنَا        وَأَظْهَرْتُمُ الْهِجَرَانَ مَا هَكَذَا كُنَّا

سَنَتْرُكُكُمْ لَمَّا تَرَكْتُمْ مَرَامَنَا        وَنَصْبِرُ عَنْكُمْ مِثْلَ صَبْرِكُمُ عَنَّا

وَنَهْوَى سِوَاكُمْ مُذْ جَنَحْتُمْ لِغَيْرِنَا        وَنَجْعَلُ قَطْعَ الْوَصْلِ مِنْكُمْ وَلَا مِنَّا

فلما فرغ من شعره صرخ على العبد، وقال له: اشطرها نصفين، فليس لنا فيها فائدة. فلما تقدَّمَ العبد إليَّ، أيقنتُ بالموت ويئست من الحياة، وسلمت أمري لله تعالى، وإذا بالعجوز قد دخلت ورمت نفسها على أقدام الشاب وقبَّلتها، وقالت: يا ولدي، بحق تربيتي لك تعفو عن هذه الصبية، فإنها ما فعلَتْ ذنبًا يوجب ذلك، وأنت شاب صغير فأخاف عليك من دعائها. ثم بكت العجوز، ولم تزل تلحُّ عليه حتى قال: قد عفوت عنها، ولكن لا بد أن أعمل فيها أثرًا يظهر عليها بقية عمرها، ثم أمر العبيد فجذبوني من ثيابي، وأحضر قضيبًا من سفرجل، ونزل به على جسدي بالضرب، ولم يزل يضربني ذلك الشاب على ظهري وجنبيَّ حتى غبتُ عن الدنيا من شدة الضرب، وقد يئست من حياتي، ثم أمَرَ العبيدَ أنه إذا دخل الليل يحملونني ويأخذون العجوز معهم، ويرمونني في بيتي الذي كنتُ فيه سابقًا، ففعلوا ما أمرهم به سيدهم، ورموني في بيتي، فتعاهدت نفسي وداويت جسمي، فلما شفيت بقيت أضلاعي كأنها مضروبة بالمقارع كما ترى، فاستمررت في مداواة نفسي أربعة أشهر حتى شُفِيت، ثم جئتُ إلى الدار التي جرى لي فيها ذلك الأمر، فوجدتُها خربة، ووجدت الزقاق مهدومًا من أوله إلى آخِره، ووجدت في موضع الدار كيمانًا، ولم أعلم سبب ذلك، فجئت إلى أختي هذه التي من أبي، فوجدتُ عندها هاتين الكلبتين، فسلَّمت عليها وأخبرتها بخبري، وبجميع ما جرى لي، فقالت لي: مَن ذا الذي من نكبات الزمان سليم؟ الحمد لله الذي جعل الأمر بالسلامة. ثم أخبرتني بخبرها، وبجميع ما جرى لها مع أختَيْها، وقعدتُ أنا وهي لا نذكر خبر الزواج على ألسنتنا، ثم صاحبتنا هذه الصبية الدلَّالة، وفي كل يومٍ تخرج فتشتري لنا ما نحتاج إليه من المصالح، واستمررنا على هذه الحالة إلى هذه الليلة التي مضت، فخرجَتْ أختنا تشتري لنا ما نحتاج إليه من المصالح على جري عادتها، فوقع لنا ما وقع من مجيء الحمال والصعاليك، ومن مجيئكم في صفة تجار، فلما صرنا في هذا اليوم لم نشعر إلا ونحن بين يدَيْك، وهذه حكايتنا. فتعجَّبَ الخليفة من هذه الحكاية، وجعلها تاريخًا مثبتًا في خزانته. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 18﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخليفة أمر أن تُكتَب هذه القصة في الدواوين، ويجعلوها في خزانة الملك، ثم إنه قال للصبية الأولى: هل عندكم خبرٌ بالعفريتة التي سحرت أختَيْك؟ قالت: يا أمير المؤمنين، إنها أعطتني شيئًا من شعرها، وقالت: متى أردتِ حضوري فأحرقي من هذا الشعر شيئًا، فأحضر إليك عاجلًا، ولو كنتُ خلفَ جبل قاف. فقال الخليفة: أحضري لي الشعر. فأحضرته الصبية فأخذه الخليفة، وأحرق منه شيئًا، فلما فاحت رائحته اهتز القصر، وسمعوا دويًّا وصلصلة، وإذا بالجنية حضرت وكانت مسلمةً، فقالت: السلام عليك يا خليفة الله. فقال: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. فقالت: اعلم أن هذه الصبية زرعت معي جميلًا ولا أقدر أن أكافِئَها عليه؛ فهي أنقذتني من الموت، وقتلت عدوي، ورأيت ما فعله معها أختاها، فما رأيت إلا أني أنتقم منهما فسحرتهما كلبتين بعد أن أردتُ قتلهما، فخشيت أن يصعبَا عليها، وإنْ أردتَ خلاصهما يا أمير المؤمنين أخلِّصهما كرامةً لك ولها، فإني من المسلمين. فقال لها: خلِّصيهما، وبعد ذلك نشرع في أمر الصبية المضروبة، ونفحص عن حالها، فإذا ظهر لي صدقها أخذت ثأرها ممَّن ظلمها. فقالت العفريتة: يا أمير المؤمنين، أنا أدلك على مَن فعل بهذه الصبية هذا الفعل وظلمها وأخذ مالها، وهو أقرب الناس إليك. ثم إن العفريتة أخذت طاسة من الماء وعزمت عليها، ورشَّت وجه الكلبتين، وقالت لهما: عودَا إلى صورتكما الأولى البشرية. فعادتا صبيتين سبحان خالقهما، ثم قالت: يا أمير المؤمنين، إن الذي ضرب الصبية ولدك الأمين، فإنه كان يسمع بحسنها وجمالها. وحكت له العفريتة جميع ما جرى للصبية، فتعجب وقال: الحمد لله على خلاص هاتين الكلبتين على يدي. ثم إن الخليفة أحضر ولده الأمين بين يديه، وسأله عن قصة الصبية الأولى، فأخبره على وجه الحق، فأحضر الخليفة القضاة والشهود، والصعاليك الثلاثة، وأحضر الصبية الأولى وأختيها اللتين كانتا مسحورتين في صورة كلبتين، وزوَّجَ الثلاث للثلاثة الصعاليك الذين أخبروهم أنهم كانوا ملوكًا، وعملهم حجابًا عنده، وأعطاهم ما يحتاجون إليه، وأنزلهم في قصر بغداد، وردَّ الصبيةَ المضروبة لولده الأمين، وأعطاها مالًا كثيرًا، وأمر أن تُبنَى الدار أحسن ما كانت، ثم إن الخليفة تزوَّجَ بالدلالة، ورقد في تلك الليلة معها، فلما أصبح أفرد لها بيتًا وجواري يخدمنها، ورتَّبَ لها راتبًا، وشيَّد لها قصرًا.

 

حكاية الصبية والتفاح وريحان العبد

ثم قال لجعفر ليلةً من الليالي: إني أريد أن ننزل في هذه الليلة إلى المدينة، ونسأل عن أحوال الحكام المتولِّين، وكل مَن شكا منه أحدٌ عزلناه. فقال جعفر: سمعًا وطاعةً. فلما نزل الخليفة وجعفر ومسرور وساروا في المدينة، ومشوا في الأسواق، مروا بزقاق فرأوا شيخًا كبيرًا على رأسه شبكة وقفة، وفي يده عصًا، وهو ماشٍ على مهله، وينشد هذه الأبيات:

يَقُولُونَ لِي أَنْتَ بَيْنَ الْوَرَى        بِعِلْمِكَ كَاللَّيْلَةِ الْمُقْمِرَهْ

فَقُلْتُ دَعُونِيَ مِنْ قَوْلِكُمْ        فَلَا عِلْمَ إِلَّا مَعَ الْمَقْدِرَهْ

فَلَوْ رَهَنُونِي وَعِلْمِي مَعِي        وَكُلَّ الدَّفَاتِرِ وَالْمَحْبَرَهْ

عَلَى فَوْتِ يَوْمٍ لمَا أَدْرَكُوا        قَبُولَ الرَّهَانِ إِلَى الْآخِرَهْ

فَأَمَّا الْفَقِيرُ وَحَالُ الْفَقِيرِ        وَعَيْشُ الْفَقِيرِ فَمَا أَكْدَرَهْ

وَفِي الصَّيْفِ يَعْجَزُ عَنْ قُوتِهِ        وَفِي الْبَرْدِ يَدْفَأُ عَلَى الْمِجْمَرَهْ

تَلِيهِ الْكِلَابُ إِذَا مَا مَشَى        فَكُلُّ لَئِيمٍ غَدَا يَنْهَرَهْ

إِذَا مَا شَكَا حَالَهُ لِامْرِئٍ        وَبَيَّنَ عُذْرًا فَلَنْ يَعْذِرَهْ

فَكُلُّ فَقِيرٍ غَدَا مَسْخَرَهْ        فَقُودُوا الْفَقِيرَ إِلَى الْمَقْبَرَهْ

فلما سمع الخليفة إنشادَه قال لجعفر: انظر هذا الرجل الفقير وانظر هذا الشعر؛ فإنه يدل على احتياجه. ثم إن الخليفة تقدَّمَ إليه وقال له: يا شيخ، ما حرفتك؟ قال: يا سيدي، صياد وعندي عائلة، وخرجت من بيتي من نصف النهار إلى هذا الوقت ولم يقسم الله لي شيئًا أقوت به عيالي، وقد كرهت نفسي وتمنَّيْتُ الموتَ. فقال له الخليفة: هل لك أن ترجع معنا إلى البحر، وتقف على شاطئ دجلة، وترمي شبكتك على بختي، وكل ما طلع أشتريه منك بمائة دينار؟ ففرح الرجل لما سمع هذا الكلام، وقال: على رأسي أرجع معكم. ثم إن الصياد رجع إلى البحر، ورمى شبكته، وصبر عليها، ثم إنه جذب الخيط وجر الشبكة إليه، فطلع في الشبكة صندوق مقفول ثقيل الوزن، فلما نظره الخليفة جسَّه، فوجده ثقيلًا، فأعطى الصياد مائة دينار وانصرف، وحمل الصندوق مسرور هو وجعفر، وطلعَا به مع الخليفة إلى القصر، وأوقد الشموع والصندوق بين يدي الخليفة، فتقدَّمَ جعفر ومسرور وكسروا الصندوق، فوجدوا فيه قفة خوص مخيطة بصوف أحمر، فقطعوا الخياطة فرأوا فيها قطعة بساط، فرفعوها فوجدوا تحتها إزارًا، فرفعوا الإزار فوجدوا تحته صبية كأنها سبيكة فضة، مقتولة ومقطَّعة، فلما نظرها الخليفة جرَتْ دموعه على خده، والتفت إلى جعفر وقال: يا كلب الوزراء، أتُقتَل القتلى في زمني، ويُرمَوْنَ في البحر، ويصيرون متعلِّقين بذمتي؟ والله لا بُدَّ أن أقتصَّ لهذه الصبية ممَّن قتلها وأقتله. وقال لجعفر: وحق اتِّصال نسبي بالخلفاء من بني العباس، إن لم تأتني بالذي قتل هذه لأنصفها منه، لَأصلبنَّك على باب قصري أنت وأربعين من بني عمك. واغتاظ الخليفة، فقال جعفر: أمهلني ثلاثة أيام. قال: أمهلتك. ثم خرج جعفر من بين يدَيْه، ومشى في المدينة وهو حزين، وقال في نفسه: من أين أعرف مَنْ قَتَلَ هذه الصبية حتى أحضره للخليفة؟! وإنْ أحضرْتُ له غيره يصير معلَّقًا بذمتي، ولا أدري ما أصنع!

ثم إن جعفر جلس في بيته ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع أرسل إليه الخليفة يطلبه، فلما تمثَّلَ بين يدَيْه قال له: أين قاتل الصبية؟ قال جعفر: يا أمير المؤمنين، هل أنا أعلم الغيب حتى أعرف قاتِلَها؟! فاغتاظ الخليفة، وأمر بصلبه على باب قصره، وأمر مناديًا أن ينادي في شوارع بغداد: مَن أراد الفرجة على صلب جعفر البرمكي وزير الخليفة، وصلب أولاد عمه على باب قصر الخليفة فَلْيخرج ليتفرج. فخرجت الناس من جميع الحارات ليتفرجوا على صلب جعفر، وصلب أولاد عمه، ولم يعلموا سبب ذلك، ثم أمر بنصب الخشب فنصبوه، وأوقفوهم تحته لأجل الصلب، وصاروا ينتظرون الإذن من الخليفة، وصار الخلق يتباكَوْن على جعفر، وعلى أولاد عمه، فبينما هم كذلك وإذا بشاب حسن نقي الأثواب يمشي بين الناس مسرعًا إلى أن وقف بين يدَيِ الوزير، وقال له: سلامتك من هذه الوقفة يا سيد الأمراء، وكهف الفقراء، أنا الذي قتلتُ القتيلةَ التي وجدتموها في الصندوق، فاقتلني فيها واقتصَّ لها مني. فلما سمع جعفر كلام الشاب وما أبداه من الخطاب، فرح بخلاص نفسه وحزن على الشاب.

فبينما هم في الكلام وإذا بشيخ كبير يفسح الناس، ويمشي بينهم بسرعة إلى أن وصل إلى جعفر والشاب، فسلَّمَ عليهما ثم قال: أيها الوزير، لا تصدِّق كلامَ هذا الشاب، فإنه ما قتل هذه الصبية إلا أنا، فاقتص لها مني. فقال الشاب: أيها الوزير، إن هذا شيخ كبير خرفان لا يدري ما يقول، وأنا الذي قتلتها، فاقتصَّ لها مني. فقال الشيخ: يا ولدي، أنت صغير تشتهي الدنيا، وأنا كبير شبعت من الدنيا، وأنا أفديك وأفدي الوزير وبني عمه، وما قتل الصبية إلا أنا، فبالله عليك أن تعجِّل بالاقتصاص مني.

فلما نظر إلى ذلك الأمر تعجَّبَ منه، وأخذ الشاب والشيخ وطلع بهما عند الخليفة، وقال: يا أمير المؤمنين، قد حضر قاتل الصبية. فقال الخليفة: أين هو؟ فقال: إن هذا الشاب يقول أنا القاتل، وهذا الشيخ يكذِّبه ويقول: لا، بل أنا القاتل. فنظر الخليفة إلى الشيخ والشاب وقال: مَن منكما قتل هذه الصبية؟ فقال الشاب: ما قتلها إلا أنا. وقال الشيخ: ما قتلها إلا أنا. فقال الخليفة لجعفر: خذ الاثنين واصلبهما. فقال جعفر: إذا كان القاتل واحدًا فقتل الثاني ظلم. فقال الشاب: وحق مَن رفع السماء وبسط الأرض إني أنا الذي قتلتُ الصبية، وهذه أمارة قتلها. ووصف ما وجده الخليفة، فتحقَّقَ عند الخليفة أن الشاب هو الذي قتل الصبية؛ فتعجَّبَ الخليفة وقال: ما سبب قتلك هذه الصبية بغير حق، وما سبب إقرارك بالقتل من غير ضرب، وقولك اقتصوا لها مني؟

فقال الشاب: اعلم يا أمير المؤمنين أن هذه الصبية زوجتي وبنت عمي، وهذا الشيخ أبوها وهو عمي، وتزوَّجْتُ بها وهي بِكْر، فرزقني الله منها ثلاثةَ أولاد ذكور، وكانت تحبني وتخدمني، ولم أرَ عليها شيئًا، فلما كان أول هذا الشهر مرضت مرضًا شديدًا، فأحضرت لها الأطباء حتى حصلت لها العافية، فأردتُ أن أُدخِلها الحمام، فقالت: إني أريد شيئًا قبل دخول الحمام لأني اشتهيته. فقلتُ لها: وما هو؟ فقالت: إني أشتهي تفاحةً أشمها، وأعضُّ منها عضة. فطلعت من ساعتي إلى المدينة، وفتَّشْتُ على التفاح ولو كانت الواحدة بدينار فلم أجده، فبِتُّ تلك الليلة وأنا متفكِّر، فلما أصبح الصباح خرجت من بيتي ودرتُ على البساتين واحدًا واحدًا، فلم أجد فيها، فصادفني خولي كبير فسألته عن التفاح، فقال: يا ولدي، هذا شيء قَلَّ أن يوجد لأنه معدوم، ولا يوجد إلا في بستان أمير المؤمنين الذي في البصرة، وهو عند الخولي يدَّخره للخليفة. فجئت إلى زوجتي وقد حملتني محبتي إياها على أن هيَّأْتُ نفسي، وسافرت خمسة عشر يومًا ليلًا ونهارًا في الذهاب والإياب، وجئت لها بثلاث تفاحات اشتريتها من خولي البصرة بثلاثة دنانير، ثم إني دخلتُ وناولتُها إياها فلم تفرح بها، بل تركتها إلى جانبها، وكان مرض الحمى قد اشتدَّ عليها، ولم تَزَل في ضعفها إلى أن مضى لها عشرة أيام، وبعد ذلك عوفيت، فخرجتُ من البيت، وذهبت إلى دكاني، وجلست في بيعي وشرائي، فبينما أنا جالس في وسط النهار، وإذا بعبدٍ أسود مَرَّ عليَّ وفي يده تفاحة يلعب بها، فقلت له: من أين أخذتَ هذه التفاحة حتى آخذ مثلها؟ فضحك وقال: أخذتها من حبيبتي، وأنا كنتُ غائبًا، وجئتُ فوجدتها ضعيفة، وعندها ثلاث تفاحات، فقالت: إن زوجي الديوث سافَرَ من شأنها إلى البصرة، فاشتراها بثلاثة دنانير. فأخذت منها هذه التفاحة.

فلما سمعتُ كلامَ العبد يا أمير المؤمنين اسوَدَّتِ الدنيا في وجهي، وقفلت دكاني، وجئت إلى البيت وأنا فاقد العقل من شدة الغيظ، فلم أجد التفاحة الثالثة، فقلت لها: أين الثالثة؟ فقالت: لا أدري، ولا أعرف أين ذهبت. فتحقَّقْتُ قولَ العبد، وقمتُ أخذت سكينًا وركبت على صدرها ونحرتها بالسكين، وقطعت رأسها وأعضاءها، وحطَطْتُها في القفة بسرعة، وغطيتها بالإزار، وحططْتُ عليها شقة بساط، وأنزلتها في الصندوق وقفلته، وحملتها على بغلتي، ورميتها في الدجلة بيدي، فبالله عليك يا أمير المؤمنين أن تعجِّل بقتلي قصاصًا لها، فإني خائف من مطالبتها يومَ القيامة، فإني لما رميتها في بحر الدجلة، ولم يعلم بها أحدٌ، رجعت إلى البيت فوجدتُ ولدي الكبير يبكي، ولم يكن له علم بما فعلتُ في أمه، فقلت له: ما يُبكِيك؟

فقال: إني أخذت تفاحةً من التفاح الذي عند أمي، ونزلتُ بها إلى الزقاق ألعب مع إخواني، وإذا بعبدٍ أسود طويل خطفها مني، وقال لي: من أين جاءتك هذه؟ فقلتُ له: هذه سافر أبي وجاء بها من البصرة من أجل أمي وهي ضعيفة، واشترى ثلاثَ تفاحات بثلاثة دنانير. فأخذها مني وضربني وراح بها، فخفت من أمي أن تضربني من شأن التفاحة.

فلما سمعتُ كلامَ الولد علمتُ أن العبد هو الذي افترى الكلام الكذب على بنت عمي، وتحقَّقْتُ أنها قُتِلَتْ ظلمًا، ثم إني بكيتُ بكاءً شديدًا، وإذا بهذا الشيخ وهو عمي والدها قد أقبَلَ، فأخبرته بما كان، فجلس بجانبي وبكى، ولم نزل نبكي إلى نصف الليل، وأقمنا العزاء خمسة أيام، ولم نزل إلى هذا اليوم ونحن نتأسَّف على قتلها، فبحرمة أجدادك أن تعجِّلَ بقتلي، وتقتصَّ لها مني. فلما سمع الخليفة كلام الشاب تعجَّبَ، وقال: واللهِ لا أقتل إلا العبدَ الخبيث. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 19﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخليفة أقسم أنه لا يقتل إلا العبد؛ لأن الشاب معذور، ثم إن الخليفة التفَتَ إلى جعفر، وقال له: أحضر لي هذا العبد الخبيث الذي كان سببًا في هذه القضية، وإن لم تحضره فأنت تُقْتَلُ عوضًا عنه. فنزل يبكي ويقول: من أين أحضره؟ ولا كل مرة تسلم الجرَّة، وليس لي في هذا الأمر حيلة، والذي يسلِّمني في الأول يسلِّمني في الثاني، والله ما بقيتُ أخرج من بيتي ثلاثة أيام، والحق سبحانه يفعل ما يشاء. ثم أقام في بيته ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع أحضر القاضي وأوصى وودَّعَ أولاده وبكى، وإذا برسول الخليفة أتى إليه، وقال له: إن أمير المؤمنين في أشد ما يكون من الغضب، وأرسلني إليك وحلف أنه لا يمر هذا النهار إلا وأنت مقتول إن لم تحضر له العبد.

فلما سمع جعفر هذا الكلام بكى وبكت أولاده، فلما فرغ من التوديع تقدَّمَ إلى بنته الصغيرة ليودِّعها، وكان يحبها أكثر من أولاده جميعًا، فضمها إلى صدره، وبكى على فراقها، فوجد في جيبها شيئًا مكببًا، فقال لها: ما الذي في جيبك؟ فقالت له: يا أبت، تفاحة جاء بها عبدنا ريحان، ولها معي أربعة أيام، وما أعطاها لي حتى أخذ مني دينارَيْن. فلما سمع جعفر بذلك العبد والتفاحة، فَرِحَ وقال: يا قريب الفرج! ثم إنه أمر بإحضار العبد فحضر، فقال له: من أين هذه التفاحة؟ فقال: يا سيدي، من مدة خمسة أيام كنتُ ماشيًا فدخلتُ في بعض أزقة المدينة، فنظرت صغارًا يلعبون، ومع واحد منهم هذه التفاحة، فخطفتها منه وضربته فبكى، وقال: هذه لأمي وهي مريضة، واشتهَتْ على أبي تفاحًا، فسافر إلى البصرة وجاء لها بثلاث تفاحات بثلاثة دنانير، فأخذتُ هذه ألعب بها، ثم بكى فلم ألتفت إليه، وأخذتها وجئت بها إلى هنا، فأخذتها سيدتي الصغيرة بدينارين. فلما سمع جعفر هذه القصة تعجَّبَ لكوْنِ الفتنة وقتْلِ الصبية من عبده، وأمر بسجن العبد وفرح بخلاص نفسه، ثم أنشد هذين البيتين:

وَمَنْ كَانَتْ رَزِيَّتُهُ بِعَبْدٍ        فَقَتْلُ النَّفْسِ أَنْ تُعْطَى مُنَاهَا

فَإِنَّكَ وَاجِدٌ خَدَمًا كَثِيرًا        وَنَفْسُكَ لَمْ تَجِدْ نَفْسًا سِوَاهَا

ثم إنه قبض على العبد وطلع به إلى الخليفة، فأمر أن تُؤرَّخَ هذه الحكاية، وتُجعَل سِيَرًا بين الناس، فقال له جعفر: لا تعجب يا أمير المؤمنين من هذه القصة، فما هي بأعجب من حديث الوزير نور الدين مع شمس الدين أخيه. فقال الخليفة: وأي حكاية أعجب من هذه الحكاية؟ فقال جعفر: يا أمير المؤمنين، لا أحدِّثك إلا بشرط أن تعتق عبدي من القتل. فقال: قد وهبتُ لك دمه.

 

حكاية نورالدين مع أخيه شمس الدين

فقال جعفر: اعلم يا أمير المؤمنين أنه كان في مصر سلطان صاحب عدل وإحسان، وله وزير عاقل خبير له علم بالأمور والتدبير، وكان شيخًا كبيرًا، وله ولدان كأنهما قمران، وكان اسم الكبير شمس الدين، واسم الصغير نور الدين، وكان الصغير أميز من الكبير في الحسن والجمال، وليس في زمانه أحسن منه، حتى إنه شاع ذكره في البلاد، فكان بعض أهلها يسافر من بلاده إلى بلده لأجل رؤية جماله؛ فاتفق أن والدهما مات، فحزن عليه السلطان وأقبل على الولدين وقرَّبهما، وخلع عليهما، وقال لهما: أنتما في مرتبة أبيكما. ففرحا وقبَّلَا الأرض بين يديه، وعَمِلَا العزاء لأبيهما شهرًا كاملًا، ودخلا في الوزارة، وكل منهما يتولاها جمعة، وإذا أراد السلطان السفر يسافر مع واحد منهما، فاتفق في ليلة من الليالي أن السلطان كان عازمًا على السفر في الصباح، وكانت النوبة للكبير، فبينما الأخوان يتحدثان في تلك الليلة إذ قال الكبير: يا أخي، قصدي أن أتزوج أنا وأنت في ليلة واحدة. فقال الصغير: افعل يا أخي ما تريد، فإني موافقك على ما تقول. واتفقا على ذلك، ثم إن الكبير قال لأخيه: إنْ قدَّرَ الله وخطبنا بنتين، ودخلنا في ليلة واحدة، ووضعتا في يوم واحد، وأراد الله وجاءت زوجتك بغلام وجاءت زوجتي ببنت، نزوِّجهما لبعضهما؛ لأنهما أولاد عم. فقال نور الدين: يا أخي، ما تأخذ من ولدي في مهر بنتك؟ قال: آخذ من ولدك في مهر بنتي ثلاثة آلاف دينار، وثلاثة بساتين، وثلاث ضياع، فإن عقَدَ الشاب عقدةً بغير هذا لا يصح.

فلما سمع نور الدين هذا الكلام، قال: ما هذا المهر الذي شرطتَه على ولدي؟ أَمَا تعلم أننا أخوان، ونحن الاثنان وزيران في مقام واحد، وكان الواجب عليك أن تقدِّمَ ابنتك لولدي هدية من غير مهر! فإنك تعلم أن الذكر أفضل من الأنثى، وولدي ذكر ونُذْكَر به خلاف ابنتك. فقال: وما لها؟ قال: لا نُذْكَر بها بين الأمراء، ولكن أنت تريد أن تفعل معي على رأي الذي قال: إن أردتَ تطرده فاجعل الثمن غاليًا. وقيل: إن بعض الناس قدم على بعض أصحابه فقصده في حاجة، فغلَّى عليه الثمن.

فقال له شمس الدين: أراك قد قصَّرت لأنك تعمل ابنك أفضل من بنتي، ولا شك أنك ناقص عقل، وليس لك أخلاق حيث تذكر شركة الوزراء، وأنا ما أدخلتك معي في الوزارة إلا شفقةً عليك، ولأجل أن تساعدني، وتكون لي معينًا، ولكن قُلْ ما شئتَ، وحيث صدر منك هذا القولُ؛ والله لا أزوِّج بنتي لولدك، ولو وزنْتَ ثقلها ذهبًا. فلما سمع نور الدين كلام أخيه اغتاظ، وقال: وأنا لا أزوِّج ابني ابنتك. فقال شمس الدين: أنا لا أرضاه لها بعلًا، ولولا أنني أريد السفر لَكنتُ عملت معك العِبَر، ولكن لما أرجع من السفر يفعل الله ما يريد.

فلما سمع نور الدين من أخيه ذلك الكلام امتلأ غيظًا، وغاب عن الدنيا، وكتم ما به، وبات كل واحد في ناحية، فلما أصبح الصباح برز السلطان للسفر، وعدى إلى الجزيرة وقصد الأهرام وصُحْبتُه الوزيرُ شمس الدين، وأما أخوه نور الدين فبات في تلك الليلة في أشد ما يكون من الغيظ، فلما أصبح الصباح قام وصلى الصبح، وعمد إلى خزانته، وأخذ منها خرجًا صغيرًا وملأه ذهبًا، وتذكَّرَ قول أخيه واحتقاره إياه وافتخاره عليه، فأنشد:

سَافِرْ تَجِدْ عِوَضًا عَمَّنْ تُفَارِقُهُ        وَانْصَبْ فَإِنَّ لَذِيذَ الْعَيْشِ فِي النَّصَبِ

مَا فِي الْمَقَامِ لِذِي لُبٍّ وَذِي أَدَبٍ        مَعَرَّةٌ فَاتْرُكِ الْأَوْطَانَ وَاغْتَرِبِ

إِنِّي رَأَيْتُ وُقُوفَ الْمَاءِ يُفْسِدُهُ        فَإِنْ جَرَى طَابَ أَوْ لَمْ يَجْرِ لَمْ يَطِبِ

وَالْبَدْرُ لَوْلَا أَفُولٌ مِنْهُ مَا نَظَرَتْ        إِلَيْهِ فِي كُلِّ حِينٍ عَيْنُ مُرْتَقِبِ

وَالْأُسْدُ لَوْلَا فِرَاقُ الْغَابِ مَا قَنَصَتْ        وَالسَّهْمُ لَوْلَا فِرَاقُ الْقَوْسِ لَمْ يَصِبِ

وَالتِّبْرُ كَالتُّرْبِ مُلْقًى فِي أمَاكِنِهِ        وَالْعُودُ فِي أَرْضِهِ نَوْعٌ مِنَ الْحَطَبِ

فَإِنْ تَغَرَّبَ هَذَا عَزَّ مَطْلَبُهُ        وَإِنْ أَقَامَ فَلَا يَعْلُو إِلَى رُتَبِ

فلما فرغ من شعره أمر بعض غلمانه أن يشد له بغلة زرزورية غالية سريعة المشي، فشدها ووضع عليها سرجًا مذهبًا بركابات هندية، وعباءات من القطيفة الأصبهانية، فصارت كأنها عروس مجلية، وأمر أن يُجعَل عليها بساط حرير وسجادة، وأن يوضع الخرج من تحت السجادة، ثم قال للغلام والعبيد: قصدي أن أتفرَّج خارج المدينة، وأروح نواحي القليوبية، وأبيت ثلاث ليالٍ، فلا يتبعني منكم أحدٌ؛ فإن عندي ضيق صدر. ثم أسرع وركب البغلة، وأخذ معه شيئًا قليلًا من الزاد، وخرج من مصر، واستقبل البر، فما جاء عليه الظهر حتى دخل مدينة بلبيس، فنزل عن بغلته، واستراح وأراح البغلة وأكل شيئًا، وأخذ من بلبيس ما يحتاج إليه، وما يعلق به على بغلته، ثم استقبل البر، فما جاء عليه الظهر بعد يومين حتى دخل مدينة القدس فنزل عن بغلته واستراح وأراح بغلته، وأخرج شيئًا أكله، ثم حطَّ الخرج تحت رأسه، وفرش البساط، ونام في مكانٍ والغيظ غالب عليه.

ثم إنه بات في ذلك المكان، فلما أصبح الصباح ركب وسار يسوق البغلة إلى أن وصل إلى مدينة حلب، فنزل في بعض الخانات، وأقام ثلاثة أيام حتى استراح وأراح البغلة وشَمَّ الهواء، ثم عزم على السفر، وركب بغلته وخرج مسافرًا ولا يدري أين يذهب، ولم يزل سائرًا إلى أن وصل إلى مدينة البصرة ليلًا، ولم يشعر بذلك حتى نزل في الخان، ونزَّل الخرج عن البغلة، وفرش السجادة، وأودع البغلة بعدتها عند البواب وأمره أن يسيِّرها، فأخذها وسيَّرَها، فاتفق أن وزير البصرة جالس في شباك قصره، فنظر البغلة ونظر ما عليها من العدة المثمنة، فظنها بغلة وزير من الوزراء، أو ملك من الملوك، فتأمَّلَ في ذلك وحار عقله، وقال لبعض غلمانه: ائتني بهذا البواب. فذهب الغلام وأتي به إلى الوزير، فتقدَّمَ البواب وقبَّلَ الأرضَ بين يدَيْه، وكان الوزير شيخًا كبيرًا، فقال للبواب: مَن صاحب هذه البغلة، وما صفاته؟ فقال البواب: يا سيدي، إن صاحب هذه البغلة شاب صغير ظريف الشمائل من أولاد التجار، عليه هيبة ووقار. فلما سمع الوزير كلامَ البواب قام على قدمَيْه، وركب وسار إلى الخان، ودخل على الشاب، فلما رآه نور الدين قادمًا عليه، قام على قدميه ولاقاه واحتضنه، ونزل الوزير من فوق جواده وسلَّم عليه، فرحَّبَ به وأجلسه عنده، وقال له: يا ولدي، من أين أقبلتَ، وماذا تريد؟ فقال نور الدين: يا مولاي، إني قدمت من مدينة مصر، وكان أبي وزيرًا فيها، وقد انتقل إلى رحمة الله. وأخبره بما جرى من المبتدأ إلى المنتهى، ثم قال: وقد عزمت على نفسي أني لا أعود أبدًا حتى أنظر جميع المدن والبلدان. فلما سمع الوزير كلامَه قال له: يا ولدي، لا تطاوِعِ النفسَ فترميك في الهلاك، فإن البلاد خراب، وأنا أخاف عليك من عواقب الزمان.

ثم إنه أمر بوضع الخرج على البغلة والبساط والسجادة، وأخذ نور الدين معه إلى بيته، وأنزله في مكان ظريف وأكرمه وأحسن إليه، وحبَّه حبًّا شديدًا، وقال له: يا ولدي، أنا بقيت رجلًا كبيرًا، ولم يكن لي ولد ذكر، وقد رزقني الله بنتًا تُقارِبُك في الحُسْن، ومنعت عنها خُطَّابًا كثيرين، وقد وقع حبك في قلبي، فهل لك أن تأخذ ابنتي جاريةً لخدمتك، وتكون لها بعلًا؟ فإنْ كنتَ تقبل ذلك أطلع إلى سلطان البصرة، وأقول له إنك ولد أخي، وأوصلك إليه حتى أجعلك وزيرًا مكاني، وألزم أنا بيتي، فإني بقيت رجلًا كبيرًا. فلما سمع نور الدين كلام وزير البصرة أطرق برأسه، ثم قال: سمعًا وطاعةً. ففرح الوزير بذلك، وأمر غلمانه أن يصنعوا له طعامًا، وأن يزيِّنوا قاعةَ الجلوس الكبيرة المُعَدَّة لحضور أكابر الأمراء، ثم جمع أصحابه، ودعا أكابر الدولة وتجار البصرة، فحضروا بين يدَيْه، وقال لهم: إنه كان لي أخ وزير بالديار المصرية، ورزقه الله ولدين، وأنا كما تعلمون رزقني الله بنتًا، وكان أخي أوصاني أن أزوِّج بنتي لأحد أولاده، فأجبتُه إلى ذلك، فلما استحقَّ الزواجَ أرسل إليَّ أحدَ أولاده وهو هذا الشاب الحاضر، فلما جاءني أحببتُ أن أكتب كتابَه على بنتي، ويدخل بها عندي. فقالوا: نِعْمَ ما فعلتَ، ثم شربوا السكر، ورشوا ماء الورد وانصرفوا، وأما الوزير فإنه أمر غلمانه أن يأخذوا نور الدين ويدخلوا به الحمام، وأعطاه الوزير بدلة من خاص ملبوسه، وأرسل إليه الفوط والطاسات ومجامر البخور وما يحتاج إليه، فلما خرج من الحمام لبس البدلة فصار كالبدر ليلة تمامه، ثم ركب بغلته، ولم يزل سائرًا حتى وصل إلى قصر الوزير، فنزل عن البغلة، ودخل على الوزير فقبَّلَ يدَه، ورحَّبَ به الوزير. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 20﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير قام له ورحَّبَ به، وقال له: قُمِ ادخل هذه الليلة على زوجتك، وفي غدٍ أطلع بك إلى السلطان، وأرجو لك من الله كلَّ خير. فقام نور الدين، ودخل على زوجته بنت الوزير.

هذا ما كان من أمر نور الدين، وأما ما كان من أمر أخيه، فإنه غاب مع السلطان مدةً في السفر، ثم رجع فلم يَجِدْ أخاه، فسأل عنه الخدم، فقالوا له: من يوم سافرتَ مع السلطان ركب بغلته بعدة الموكب، وقال: أنا متوجِّه إلى جهة القليوبية، فأغيب يومًا أو يومين؛ فإن صدري ضاق، ولا يتبعني منكم أحد. ومن يوم خروجه إلى هذا اليوم لم نسمع له خبرًا، فتشوَّشَ خاطر شمس الدين على فراق أخيه، واغتمَّ غمًّا شديدًا لفقده، وقال في نفسه: ما سبب ذلك إلا أني أغلظت عليه في الحديث ليلةَ سفري مع السلطان، فلعله تغيَّرَ خاطره وخرج مسافرًا، فلا بد أن أرسل خلفه. ثم طلع وأعلَمَ السلطان بذلك، فكتب بطاقات، وأرسل بها إلى نوَّابه في جميع البلاد، ونور الدين قطع بلادًا بعيدة في مدة غياب أخيه مع السلطان. فذهبت الرسل بالمكاتيب، ثم عادوا ولم يقفوا له على خبر، ويئس شمس الدين من أخيه، وقال: لقد أغظتُ أخي بكلامي من جهة زواج الأولاد، فليت ذلك لم يكن، وما حصل ذلك إلا من قِلَّةِ عقلي وعدم تدبيري. ثم بعد مدة يسيرة خطب بنتَ رجل من تجار مصر، وكتب كتابه عليها ودخل بها، وقد اتفق أن ليلة دخول شمس الدين على زوجته كانت ليلة دخول نور الدين على زوجته بنت وزير البصرة، وذلك بإرادة الله تعالى حتى ينفذ حكمه في خلقه، وكان الأمر كما قالاه، فاتفق أن الزوجتين حملتا منهما، وقد وضعَتْ زوجةُ شمس الدين وزيرُ مصر بنتًا لا يُرَى في مصر أحسن منها، ووضعت زوجةُ نور الدين ولدًا ذكرًا لا يُرَى في زمانه أحسن منه كما قال الشاعر:

وَمُهَفْهَف يُغْنِي النَّدِيمَ بِرِيقِهِ        عَنْ كَأْسِهِ الْمَلْأَى وَعَنْ إِبْرِيقِهِ

فَعَلَ الْمُدَامُ وَلَوْنُهَا وَمَذَاقُهَا        فِي مُقْلَتَيْهِ وَوَجْنَتَيْهِ وَرِيقِهِ

وقال آخر:

إِنْ جَاءَهُ الْحُسْنُ كَيْ يُقَاسَ بِهِ        يُنَكِّسُ الْحُسْنُ رَأْسَهُ خَجَلَا

أَوْ قِيلَ يَا حُسْنُ هَلْ رَأَيْتَ كَذَا        يَقُولُ: أَمَّا نَظِيرُ ذَاكَ فَلَا

فسمَّوْه حسنًا، وفي سابع ولادته صنعوا الولائم، وعملوا أسمطة تصلح لأولاد الملوك، ثم إن وزير البصرة أخذ معه نور الدين، وطلع به إلى السلطان، فلما صار قُدَّامَه قبَّلَ الأرض بين يدَيْه، وكان نور الدين فصيحَ اللسان، ثابتَ الجَنان، صاحبَ حُسْن وإحسان، فأنشد قول الشاعر:

هَذَا الَّذِي عَمَّ الْأَنَامَ بِعَدْلِهِ        وَسَطَا فَمَهَّدَ سَائِرَ الْآفَاقِ

اشْكُرْ صَنَائِعَهُ فَلَسْنَ صَنَائِعًا        لَكِنَّهُنَّ قَلَائِدُ الْأَعْنَاقِ

وَالْثِمْ أَنَامِلَهُ فَلَسْنَ أَنَامِلًا        لَكِنَّهُنَّ مَفَاتِحُ الْأَرْزَاقِ

فأكرمهما السلطان، وشكر نور الدين على ما قال، وقال لوزيره: مَن هذا الشاب؟ فحكى له الوزير قصته من أولها إلى آخِرها، وقال له: هذا ابن أخي، فقال: وكيف يكون ابن أخيك ولم نسمع به؟ فقال: يا مولانا السلطان، إنه كان لي أخ وزير بالديار المصرية، وقد مات وخلف ولدين، فالكبير جلس في مرتبة والده وزيرًا، وهذا ولده الصغير جاء عندي، وحلفت أني لا أزوِّج ابنتي إلا له، فلما جاء زوَّجتُه بها، وهو شاب وأنا صرتُ شيخًا، وقلَّ سمعي وعجز تدبيري، والقصد من مولانا السلطان أن يجعله في مرتبتي، فإنه ابن أخي وزوج ابنتي، وهو أهل للوزارة؛ لأنه صاحب رأي وتدبير. فنظر السلطان إليه فأعجبه، واستحسن رأي الوزير بما أشار عليه من تقديمه في رتبة الوزارة، فأنعَمَ عليه بها، وأمر له بخلعة عظيمة، وبغلة من خاص مركوبه، وعيَّنَ له الرواتب والجوامك. فقبَّلَ نور الدين يدَ السلطان ونزل هو وصهره إلى منزلهما وهما في غاية الفرح، وقالا: إنَّ قدَمَ هذا المولود مبارك. ثم إن نور الدين توجَّهَ ثاني يوم إلى الملك وقبَّل الأرض، وأنشد هذين البيتين:

سَعَادَاتٌ تُجَدَّدُ كُلَّ يَوْمٍ        وَإِقْبَالٌ وَقَدْ رَغِمَ الْحَسُودُ

فَمَا زَالَتْ لَكَ الْأَيَّامُ بِيضًا        وَأَيَّامُ الَّذِي عَادَاكَ سُودُ

فأمره السلطان بالجلوس في مرتبة الوزارة، فجلس وتعاطى أمور خدمته ونظر بين الناس في أمورهم ومحاكماتهم كما جرَتْ به عادة الوزراء، وصار السلطان ينظر إليه ويتعجَّب من أمره وذكاء عقله وحسن تدبيره، وتبصَّرَ في أحواله فحبَّه وقرَّبه إليه، ولما انفضَّ الديوان نزل نور الدين إلى بيته وحكى لصهره ما وقع، ففرح. ولم يزل الوزير يربي المولود المسمَّى حَسَنًا، إلى أن مضَتْ عليه أيام، ولم يزل نور الدين في الوزارة حتى إنه لا يفارق السلطان في ليل ولا في نهار، وزاد له الجوامك والجرايات إلى أن اتسع عليه الحال، وصار له مراكب تسافر من تحت يده بالمتاجر وغيرها، وعمَّرَ أملاكًا كثيرة، ودواليب، وبساتين إلى أن بلغ عمر ولده حسَنٍ أربعَ سنين، فتوفي الوزير الكبير والد زوجة نور الدين، فأخرجه خرجة عظيمة، وواراه في التراب، ثم اشتغل بعد ذلك بتربية ولده، فلما بلغ أشده أحضر له فقيهًا يُقرِئه في بيته، وأوصاه بتعليمه وحُسْن تربيته، فأقرأه وعلَّمه فوائدَ في العلم بعد أن حفظ القرآن في مدة سنوات، وما زال حسنٌ يزداد جمالًا وحُسْنًا واعتدالًا كما قال الشاعر:

قَمَرٌ تَكَامَلَ فِي الْمَحَاسِنِ وَانْتَهَى        فَالشَّمْسُ تُشْرِقُ مِنْ شَقَائِقِ خَدِّهِ

مَلَكَ الْجَمَالَ بِأَسْرِهِ فَكَأَنَّمَا        حُسْنُ الْبَرِيَّةِ كُلِّهَا مِنْ عِنْدِهِ

وقد ربَّاه الفقيه في قصر أبيه، ومن حين نشأته لم يخرج من قصر الوزارة إلى أن أخذه والده الوزير نور الدين يومًا من الأيام، وألبسه بدلة من أفخر ملبوسه، وأركبه بغلة من خيار بغاله، وطلع به لعند السلطان وأدخله عليه، فنظر الملك حسن بدر الدين ابن الوزير نور الدين فانبهر من حُسْنه، وأما أهل المملكة فإنه لمَّا مرَّ عليهم أوَّل مرة وهو طالع مع أبيه لعند الملك، قد تحيَّروا من فرط حُسْنه وجماله ورشاقة قَدِّه واعتداله، وتحقَّقوا فيه معنى قول الشاعر:

رَصَدَ المُنَجِّمُ لَيْلَه فَبَدَا لَهُ        قَدُّ الْمَلِيحِ يَمِيسُ فِي بُرْدَيْهِ

وَتَأَمَّلَ الْجَوْزَاءَ إِذْ نَثَرَتْ بِهِ        حَبَّ الْجُمَانِ يَلُوحُ فِي عِطْفَيْهِ

وَأَمَدَّهُ زُحَلٌ سَوَادَ ذَوَائِبٍ        وَالْمِسْكُ هَادِي الْخَالِ فِي خَدَّيْهِ

وَغَدَتْ مِنَ الْمَرِّيخِ حُمْرَةُ خَدِّهِ        وَالْقَوْسُ يَرْمِي النَّبْلَ مِنْ جَفْنَيْهِ

وَعُطَارِدُ أَعْطَاهُ فَرْطَ ذَكَائِهِ        وَأَبَى السُّهَا نَظَرَ الْوُشَاةِ إِلَيْهِ

فَغَدَا الْمُنَجِّمُ حَائِرًا مِمَّا رَأَى        وَالْبَدْرُ بَاسَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ

فلما رآه السلطان أحبَّه وأنعم عليه، وقال لأبيه: يا وزير، لا بد أنك تحضره معك في كل يوم. فقال: سمعًا وطاعةً. ثم عاد الوزير بولده إلى منزله، وما زال يطلع به إلى السلطان في كل يوم إلى أن بلغ الولد من العمر خمسة عشر عامًا، ثم ضعف والده الوزير نور الدين، فأحضره وقال: يا ولدي، اعلم أن الدنيا دار فناء، والآخِرة دار بقاء، وأريد أن أوصيك وصايا، فافهم ما أقول لك، وأصغِ قلبك إليه. وصار يوصيه بحُسْن عِشْرة الناس، وحُسْن التدبير، ثم إن نور الدين تذكَّرَ أخاه وأوطانه وبلاده، وبكى على فرقة الأحباب وساحت دموعه، وقال: يا ولدي، اسمع قولي، فإن لي أخًا يُسمَّى شمس الدين وهو عمُّك، ولكنه وزير بمصر قد فارقتُه، وخرجتُ على غير رضاه، والقصد أنك تأخذ درجًا من الورق، وتكتب ما أمليه عليك. فأحضَرَ قرطاسًا وصار يكتب فيه كلَّ ما قاله أبوه، فأملى عليه جميعَ ما جرى له من أوله إلى آخِره، وكتب له تاريخ زواجه ودخوله على بنت الوزير، وتاريخ وصوله إلى البصرة، واجتماعه بوزيرها، وكتب وصيةً موثَّقة، ثم قال لولده: احفظ هذه الوصية، فإن ورقتها فيها أصلك وحسبك ونسبك، فإن أصابك شيء من الأمور فاقصد مصر، واستدلَّ على عمك وسلِّم عليه، وأعلِمْه أني متُّ غريبًا مشتاقًا إليه. فأخذ حسن بدر الدين الرقعةَ وطواها، ولفَّ عليها خرقةً مشمعة، وخيَّطها بين البطانة والظهارة، وصار يبكي على أبيه من أجل فراقه وهو صغير.

وما زال نور الدين يوصي ولده حسن بدر الدين حتى طلعت روحه، فأقام الحزن في بيته، وحزن عليه السلطان وجميع الأمراء ودفنوه، ولم يزالوا في حزن مدةَ شهرين، وولده لم يركب ولم يطلع الديوان، ولم يقابل السلطان، وأقام مكانه بعض الحجَّاب، وولَّى السلطان وزيرًا جديدًا مكانه، وأمره أن يختم على أماكن نور الدين، وعلى ماله، وعلى عماراته، وعلى أملاكه، فنزل الوزير الجديد وأخذ الحجَّاب، وتوجَّهوا إلى بيت الوزير نور يختمون عليه، ويقبضون على ولده حسن بدر الدين، ويطلعون به إلى السلطان ليعمل فيه ما يقتضي رأيه، وكان بين العسكر مملوك من مماليك الوزير نور الدين المتوفى، فلم يَهُن عليه ولدُ سيده، فذهب ذلك المملوك إلى حسن بدر الدين، فوجده منكس الرأس حزين القلب على فراق والده، فأعلمه بما جرى، فقال له: هل في الأمر مهلة حتى أدخل بيتي فآخذ معي شيئًا من الدنيا لأستعين به على الغربة؟ فقال له المملوك: انجُ بنفسك.

فلما سمع كلام المملوك غطَّى رأسه بذيله، وخرج ماشيًا إلى أن صار خارج المدينة، فسمع الناس يقولون: إن السلطان أرسَلَ الوزيرَ الجديد إلى بيت وزيره المتوفى ليختم على ماله وأماكنه، ويقبض على ولده حسن بدر الدين ويطلع به إليه فيقتله، وصارت الناس تتأسَّف على حُسْنه وجماله، فلما سمع كلامَ الناس خرج إلى غير مقصد، ولم يعلم أين يذهب، فلم يزل سائرًا إلى أن ساقَتْه المقادير إلى تربة والده، فدخل المقبرة ومشى بين القبور إلى أن جلس عند قبر أبيه، وأزال ذيله من فوق رأسه، فبينما هو جالس عند تربة أبيه إذ قدم عليه يهودي من البصرة، وقال: يا سيدي، ما لي أراك متغيِّرًا؟ فقال له: إني كنتُ نائمًا في هذه الساعة، فرأيتُ أبي يُعاتِبني على عدم زيارتي قبره، فقمتُ وأنا مرعوب، وخفتُ أن يفوت النهار ولم أَزُرْه فيصعب عليَّ الأمر. فقال له اليهودي: يا سيدي، إن أباك كان أرسل مراكب بحارة، وقدِمَ منها البعض، ومرادي أن أشتري منك وسق كلَّ مركب قدمت بألف دينار. ثم أخرج اليهودي كيسًا ممتلئًا من الذهب، وعدَّ منه ألف دينار، ودفعه إلى حسن ابن الوزير، ثم قال له اليهودي: اكتب لي ورقة واختمها. فأخذ حسن ابن الوزير ورقةً وكتب فيها: كاتب هذه الورقة حسن بدر الدين ابن الوزير نور الدين، قد باع لليهودي فلان جميعَ وسق كل مركب وردت من مراكب أبيه المسافرة بألف دينار، وقبض الثمنَ على سبيل التعجيل، فأخذ اليهودي الورقة، وصار حسن يبكي ويتذكَّر ما كان فيه من العز والإقبال.

ثم دخَلَ عليه الليل وأدركه النوم، فنام عند قبر أبيه، ولم يَزَل نائمًا حتى طلع القمر، فتدحرجت رأسه عن القبر، ونام على ظهره، وصار وجهه يلمع في القمر، وكانت المقابر عامرةً بالجن بالمؤمنين، فخرجت جنية فنظرت وجهَ حسن وهو نائم، فلمَّا رأته تعجَّبَتْ من حُسْنه وجماله وقالت: سبحان الله! ما هذا الشاب إلا كأنه من الحور العين. ثم طارت إلى الجو تطوف على عادتها، فرأت عفريتًا طائرًا، فسلَّمَتْ عليه وسلَّمَ عليها، فقالت له: من أين أقبلت؟ قال: من مصر. فقالت له: هل لك أن تروح معي حتى تنظر إلى حُسْن هذا الشاب النائم في المقبرة؟ فقال لها: نعم. فسارَا حتى نزلَا في المقبرة، فقالت له: هل رأيت في عمرك مثل هذا؟ فنظر العفريت إليه وقال: سبحان مَن لا شبيهَ له! ولكن يا أختي إن أردتِ حدَّثْتُكِ بما رأيتُ. فقالت له: حدثني. فقال لها: إني رأيتُ مثل هذا الشاب في إقليم مصر، وهي بنت الوزير، وقد علم بها الملك فخطبها من أبيها الوزير شمس الدين، فقال له: يا مولانا السلطان، اقبل عذري وارحم عَبرتي؛ فإنك تعرف أن أخي نور الدين خرج من عندنا ولا نعلم أين هو، وكان شريكي في الوزارة، وسبب خروجه أني جلستُ أتحدَّث معه في شأن الزواج، فغضب مني فخرج مغضبًا. وحكى للملك جميعَ ما جرى بينهما، ثم قال للملك: فكان ذلك سببًا لغيظه، وأنا حالف ألَّا أزوِّج بنتي إلا لابن أخي من يومِ ولدَتْها أمُّها، وذلك نحو ثماني عشرة سنة، ومن مدة قريبة سمعت أن أخي تزوَّجَ بنت وزير البصرة وجاء منها بولد، وأنا لا أزوِّج بنتي إلا له كرامةً لأخي، ثم إني أرَّخْتُ وقتَ زواجي، وحمْلِ زوجتي، وولادة هذه البنت وهي باسم ابن عمها، والبنات كثير.

فلما سمع السلطان كلام الوزير غضب غضبًا شديدًا، وقال له: كيف يخطب مثلي من مثلك بنتًا فتمنعها منه، وتحتجُّ بحجةٍ باردة؟! وحياة رأسي لا أزوِّجها إلا لأقل مني برغم أنفك. وكان عند الملك سائس أحدب بحدبة من قدام وحدبة من وراء، فأمر السلطان بإحضاره، وكتب كتابه على بنت الوزير بالقهر، وأمر أن يدخل عليها في هذه الليلة، ويعمل له زفافًا، وقد تركتُه وهو بين مماليك السلطان، وهم حوله في أيديهم الشموع موقدة، يضحكون عليه ويسخرون به على باب الحمام، وأما بنت الوزير فإنها جالسة تبكي بين المنقشات والمواشط، وهي أشبه الناس بهذا الشاب، وقد حجروا على أبيها، ومنعوه أن يحضرها، وما رأيت يا أختي أقبح من هذا الأحدب، وأما الصبية فهي أحسن من هذا الشاب. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 21﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجني لما حكى للجنية حكايةَ بنتِ وزير مصر، وأن الملك كتب كتابها على السايس الأحدب وهي في غاية الحزن، وأنه لا أحدَ يشبهها في الجمال إلا هذا الشاب، قالت له الجنية: تكذب، فإن هذا الشاب أحسن أهل زمانه. فردَّ عليها العفريت وقال: واللهِ يا أختي إن الصبية أحسن من هذا، ولكن لا يصلح لها إلا هو، فإنهما مثل بعضهما، ولعلَّهما أخوان أو ولدَا عم، فيا خسارتها مع هذا الأحدب! فقالت له: يا أخي، دعنا ندخل تحته ونحمله، ونروح به إلى الصبية التي تقول عليها، وننظر أيهما أحسن. فقال العفريت: سمعًا وطاعةً، هذا كلام صواب، وليس هناك أحسن من هذا الرأي الذي اخترتِه، فأنا أحمله.

ثم إنه حمله وطار به إلى الجو، وصارت العفريتة في كل ركابه تحاذيه إلى أن نزل به في مدينة مصر، وحطَّه على مصطبة، ونبَّهَه فاستيقظ من النوم، فلم يجد نفسه على قبر أبيه في أرض البصرة، والتفَتَ يمينًا وشمالًا فلم يجد نفسه إلا في مدينة غير مدينة البصرة، فأراد أن يصيح فغمزه العفريت، وقاد له شمعة، وقال له: اعلم أني جئتُ بك وأنا أريد أن أعمل معك شيئًا لله، فخذ هذه الشمعة وامشِ بها إلى ذلك الحمَّام، واختلِطْ بالناس، ولا تزل ماشيًا معهم حتى تصل إلى قاعة العروس، فاسبق وادخل القاعة، ولا تخشَ أحدًا، وإذا دخلتَ فقف على يمين العريس الأحدب، وكلما جاءك المواشط والمغنيات والمنقشات فحطَّ يدك في جيبك تجده ممتلئًا ذهبًا، فاكبس وارمِ لهم ولا تتوهَّم أنك تُدخِل يدك ولا تجده ممتلئًا بالذهب، فأعطِ كلَّ مَن جاءك بالحفنة، ولا تخشَ من شيء وتوكَّلْ على الذي خلقك، فما هذا بحولك وقوتك، بل بحول الله وقوته.

فلما سمع حسن بدر الدين من العفريت هذا الكلام قال: يا تُرَى أي شيء هذه القضية، وما وجه الإحسان؟ ثم مشى وأوقد الشمعة وتوجَّهَ إلى الحمام، فوجد الأحدب راكب الفرس، فدخل حسن بدر الدين بين الناس وهو على تلك الحالة مع الصورة الحسنة، وكان عليه الطربوش والعمامة والفرجية المنسوجة بالذهب، وما زال ماشيًا في الزينة، وكلما وقفَتِ المغنيات للناس ينقِّطهنَّ، يضع يده في جيبه فيلقاه ممتلئًا بالذهب، فيكبش ويرمي في الطار للمغنيات والمواشط، فيملأ الطار دنانير؛ فاندهشَتْ عقول المغنيات، وتعجَّبَ الناس من حُسْنه وجماله، ولم يزل على هذا الحال حتى وصلوا إلى بيت الوزير، فردَّتِ الحجَّابُ الناسَ ومنعوهم، فقالت المغنيات والمواشط: واللهِ لا ندخل إلا إنْ دخل هذا الشاب معنا؛ لأنه غمرنا بإحسانه، ولا تُجلى العروس إلا وهو حاضر. فعند ذلك دخلوا به إلى قاعة الفرح، وأجلسوه برغم أنف العريس الأحدب، واصطفَّتْ جميع نساء الأمراء والوزراء والحجَّاب صفين، وكل امرأة معها شمعة كبيرة موقدة مضيئة، وكلهن ملثَّمات، وصرن صفوفًا يمينًا وشمالًا من تحت المنصة إلى صدر الليوان الذي عند المجلس الذي تخرج منه العروس.

فلما نظر النساء حسن بدر الدين، وما هو فيه من الحُسْن والجمال، ووجهه يضيء كأنَّه هلال، مالت جميع النساء إليه، فقالت المغنيات للنساء الحاضرات: اعلموا أن هذا المليح ما نقطنا إلا بالذهب الأحمر، فلا تقصِّرن في خدمته، وأَطِعْنَه فيما يقول. فازدحم النساء عليه بالشمع، ونظرن إلى جماله؛ فانبهرت عقولهن من حُسْنه، وصارت كلُّ واحدة منهن تودُّ أن تكون في حضنه سنةً أو شهرًا أو ساعةً، ورفعن ما كان على وجوههن من النقاب، وتحيَّرت منهن الألباب، وقلن: هنيئًا لمَن كان هذا الشاب له أو عليه. ثم دعون على ذلك السايس الأحدب، ومَن كان سببًا في زواجه هذه المليحةَ، وكلما دَعَوْنَ لحسن بدر الدين دَعَوْنَ على ذلك الأحدب، ثم إن المغنيات ضربْنَ بالدفوف، وأقبلت المواشط وبنت الوزير بينهن وقد طيَّبْنَها وعطَّرْنَها وألبسْنَها، وحُسِّنَّ شعرها ونحرها بالحلي والحلل من لباس الملوك الأكاسرة، ومن جملة ما عليها ثوبٌ منقوش بالذهب الأحمر، وفيه صور الوحوش والطيور، وهو مسبول عليها من فوق حوائجها، وفي عنقها عقد يساوي الألوف، قد حوى كلُّ فصٍّ من الجوهر ما حاز مثله تُبَّعٌ ولا قيصر، وصارت العروسة كأنها البدر إذا أقمر في ليلة أربع عشرة، ولما أقبلَتْ كانت كأنها حورية، فسبحان مَن خلقها بهية، وأحدق بها النساء فصارت كالنجوم وهي بينهن كالقمر إذا انجلى عنه الغيم.

وكان حسن بدر الدين البصري جالسًا والناس ينظرون إليه، فحضرت العروسة وأقبلت وتمايلت، فقام إليها السايس الأحدب ليقبِّلَها فأعرضَتْ عنه، وانقلبت حتى صارت قدام حسن ابن عمها، فضحك الناس، فلما رأوها مالَتْ إلى نحو حسن بدر الدين، وحطَّ يده في جيبه وكبش الذهب ورمى في طار المغنيات، فرحوا وقالوا: كنا نشتهي أن تكون هذه العروسة لك. فتبسَّمَ؛ هذا كله والسايس الأحدب وحده كأنه قرد، وكلما قادوا له الشمعة طُفِئت، فبُهِت وصار قاعدًا في الظلام يمقت في نفسه، وهؤلاء الناس محدقون به، وتلك الشموع الموقدة بهجتها من عجب العجاب يتحيَّر من شعاعها أولو الألباب.

وأما العروسة فإنها رفعت كفَّيْها إلى السماء وقالت: اللهم اجعل هذا بعلي، وأَرِحْني من هذا السايس الأحدب. وصارت المواشط تجلي العروسةَ إلى آخِر السبع، خلع على حسن بدر الدين البصري والسايس الأحدب وحده، فلما فرغوا من ذلك أذنوا للناس بالانصراف، فخرج جميع مَن كان في الفرح من النساء والأولاد، ولم يَبْقَ إلا حسن بدر الدين والسايس الأحدب، ثم إن المواشط أدخلن العروسة ليكشفن ما عليها من الحلي والحلل، ويهيِّئنها للعريس؛ فعند ذلك تقدَّمَ السايس الأحدب إلي حسن بدر الدين وقال: يا سيدي، آنَسْتَنا في هذه الليلة، وغمرتنا بإحسانك، فلِمَ لا تقوم تروح بيتك بلا مطرود؟! فقال: باسم الله. ثم قام وخرج من الباب، فلقيه العفريت فقال له: قِفْ يا بدر الدين، فإذا خرج الأحدب إلى بيت الراحة فادخل أنت، واجلس في المخدع، فإذا أقبلَتِ العروسة فقُلْ لها: أنا زوجك، والملك ما عمل تلك الحيلة إلا لأنه يخاف عليك من العين، وهذا الذي رأيتِه سايس من سُيَّاسنا. ثم أقبل عليها واكشف وجهها، ولا تخشَ بأسًا من أحد.

فبينما بدر الدين يتحدَّث مع العفريت، وإذا بالسايس دخل بيت الراحة، وقعد على الكرسي، فطلع له العفريت من الحوض الذي فيه الماء في صورة فأر، وقال: زيق. فقال الأحدب: ما جاء بك هنا؟ فكبر الفأر وصار كالقط، ثم كبر حتى صار كلبًا، وقال: عوه عوه. فلما نظر السايس ذلك فزع وقال: اخسأ يا مشئوم. فكبر الكلب وانتفخ حتى صار جحشًا، ونهق وصرخ في وجهه: هاق هاق؛ فانزعج السايس وقال: الحقوني يا أهل البيت. وإذا بالجحش قد كبر وصار قدر الجاموسة وسدَّ عليه المكان، وتكلَّمَ بكلام ابن آدم وقال: ويلك يا أحدب، يا أنتن السُّيَّاس. فلحق السايس البطن، وقعد على الملاقي بأثوابه، واشتبكت أسنانه ببعضها، فقال له العفريت: هل ضاقت عليك الأرض فلا تتزوج إلا بمعشوقتي؟ فسكت السايس، فقال له: ردَّ الجوابَ، وإلا أسكنك التراب. فقال له: والله ما لي ذنب إلا أنهم غصبوني، وما عرفتُ أنَّ لها عشَّاقًا من الجواميس، ولكن أنا تائب إلى الله ثم إليك. فقال له العفريت: أقسم بالله إنْ خرجتَ في هذا الوقت من هذا الموضع أو تكلَّمْتَ قبل أن تطلع الشمس لَأقتلنَّكَ، فإذا طلعت الشمس فاخرج إلى حال سبيلك، ولا تَعُدْ إلى هذا البيت أبدًا. ثم إن العفريت قبض على السايس الأحدب، وقلب في رأسه الملاقي وجعلها إلى أسفل، وجعل رجلَيْه إلى فوق، وقال له: استمر هنا وأنا أحرسك إلى طلوع الشمس.

هذا ما كان من قصة الأحدب، وأما ما كان من قصة حسن بدر الدين البصري، فإنه خلَّى الأحدب والعفريت يتخاصمان، ودخل البيت وجلس في داخل المخدع، وإذا بالعروسة أقبلت ومعها عجوز، فوقفت العجوز في باب المخدع، وقالت: يا أبا شهاب، قُمْ وخذ عروستك، وقد استودعتك الله. ثم ولَّتِ العجوز ودخلت العروسة في صدر المخدع، وكان اسمها ست الحُسْن، وقلبها مكسور، وقالت في قلبها: واللهِ ما أمكِّنه من نفسي ولو طلعَتْ روحي. فلما دخلت إلى صدر المخدع نظرت بدر الدين، فقالت: حبيبي، وإلى هذا الوقت أنت قاعد؟ لقد قلتُ في نفسي: لعلك أنت والسايس الأحدب مشتركان فيَّ. فقال حسن بدر الدين: وأيُّ شيء أوصَلَ السايسَ إليك، ومن أين له أن يكون شريكي فيك؟ فقالت: ومَن زوجي؟ أأنت أمْ هو؟ قال بدر الدين: يا سيدتي، نحن ما عملنا هذا إلا سخرية به فنضحك عليه؛ فلما نظرت المواشط والمغنيات وأهلك حُسْنَكِ البديع خافوا علينا من العين، فاكتراه أبوك بعشرة دنانير حتى يصرف عنا العين وقد راح. فلما سمعت ست الحسن من بدر الدين ذلك الكلام، فرحت وتبسَّمت وضحكت ضحكًا لطيفًا، وقالت: والله لقد أطفأت ناري، فبالله خذني عندك، وضمَّني إلى حضنك. وكانت بلا لباس، فكشفت ثوبها إلى نحرها، فبان قدامُها ووراؤها، فلما نظر بدر الدين صفاءَ جسمها تحرَّكت فيه الشهوة، فقام وحلَّ لباسه، ثم حلَّ الكيس الذهب الذي كان أخذه من اليهودي، ووضع فيه ألف دينار، ولفَّه في سرواله، وحطه تحت ذيله الطراحة، وقلع عمامته ووضعها على الكرسي، وبقي بالقميص الرفيع، وكان القميص مطرزًا بالذهب، فعند ذلك قامت إليه ست الحسن، وجذبته إليها، وجذبها بدر الدين وعانَقَها، وأخذ رجلَيْها في وسطه، ثم ركب المدفع وحرَّره على القلعة وأطلقه، فهدم البرج فوجدها درَّةً ما ثُقِبت، ومطيَّةً لغيره ما رُكِبت، فأزال بكارتها، وتملى بشبابها، ولم يَزَلْ يركب المدفع، ويردُّ إلى غاية خمس عشرة مرة، فعلقت منه. فلما فرغ حسن بدر الدين وضع يده تحت رأسها، وكذلك الأخرى وضعت يدها تحت رأسه، ثم إنهما تعانَقَا ونامَا متعانقَيْن، وشرحَا بعناقهما مضمونَ هذه الأبيات:

زُرْ مَنْ تُحِبُّ وَدَعْ كَلَامَ الْحَاسِدِ        لَيْسَ الْحَسُودُ عَلَى الْهَوَى بِمُسَاعِدِ

لَمْ يَخْلُقِ الرَّحْمَنُ أَحْسَنَ مَنْظَرًا        مِنْ عَاشِقَيْنِ عَلَى فِرَاشٍ وَاحِدِ

مُتَعَانِقَيْنِ عَلَيْهِمَا حُلَلُ الرِّضَى        مُتَوَسِّدَيْنِ بِمِعْصَمٍ وَبِسَاعِدِ

وَإِذَا تَآلَفَتِ الْقُلُوبُ مَعَ الْهَوَى        فَالنَّاسُ تَضْرِبُ فِي حَدِيدٍ بَارِدِ

وَإِذَا صَفَا لَكَ مِنْ زَمَانِكَ وَاحِدٌ        فَهُوَ الْمُرَادُ وَعِشْ بِذَاكَ الْوَاحِدِ

هذا ما كان من أمر حسن بدر الدين وستِّ الحسن بنت عمه، وأما ما كان من أمر العفريت، فإنه قال للعفريتة: قومي وادخلي تحت الشاب، ودعينا نوديه مكانه لئلَّا يدركنا الصبح، فإن الوقت قريب. فعند ذلك تقدَّمت العفريتة، ودخلت تحت ذيله وهو نائم، وأخذته وطارت به وهو على حاله بالقميص، وهو بلا لباس، وما زالت العفريتة طائرة به، والعفريت يحاذيها، فأذن الله للملائكة أن ترمي العفريت بشهاب من نار فاحترق، وسلِمت العفريتة، فنزَّلت بدر الدين في موضع ما أحرق الشهاب العفريت، ولم تتجاوزه به خوفًا عليه، وكان بالأمر المقدر ذلك الموضع في دمشق الشام، فوضعَتْه العفريتة على بابٍ من أبوابها وطارت، فلما طلع النهار وفتحت أبواب المدينة خرج الناس، فنظروا شابًّا مليحًا بالقميص والطاقية بلا عمامة ولا لباس، وهو مما قاسى من السهر غرقان في النوم، فلما رآه الناس قالوا: يا بخت مَن كان هذا عنده في هذه الليلة، ويا ليته صبر حتى لبس حوائجه. وقال الآخر: مساكين أولاد الناس، لعل هذا يكون في هذه الساعة خرج من المسكرة لبعض شغله، فقوي عليه السكر فتَاهَ عن المكان الذي كان قصده، حتى وصل إلى باب المدينة فوجده مغلقًا فنام ها هنا.

وقد خاض الناس فيه بالكلام، وإذا بالهواء هبَّ على بدر الدين، فرفع ذيله من فوق بطنه، فبان من تحته بطن وسُرَّة محققة، وسيقان وأفخاذ مثل البلور، فصار الناس يتعجَّبون، فانتبه بدر الدين فوجَدَ روحه على باب مدينة وعليها ناس، فتعجَّبَ وقال: أين أنا يا جماعة الخير؟ وما سبب اجتماعكم عليَّ؟ وما حكايتي معكم؟ فقالوا: نحن رأيناك عند أذان الصبح ملقًى على هذا الباب نائمًا، ولا نعلم من أمرك غير هذا، فأين كنت نائمًا هذه الليلة؟ فقال حسن بدر الدين: والله يا جماعة إني كنتُ نائمًا هذه الليلة في مصر. فقال واحد: هل أنت تأكل حشيشًا؟ وقال بعضهم: أأنت مجنون؟ كيف تكون بائتًا في مصر، وتصبح نائمًا في مدينة دمشق؟ فقال لهم: والله يا جماعة الخير لم أكذب عليكم أبدًا، وأنا كنتُ البارحة بالليل في ديار مصر، وقبل البارحة كنت بالبصرة. فقال واحد: هذا شيء عجيب! وقال الآخر: هذا الشاب مجنون. وصفقوا عليه بالكفوف، وتحدَّث الناس مع بعضهم وقالوا: يا خسارة شبابه، والله ما في جنونه خلاف. ثم إنهم قالوا له: ارجع لعقلك. فقال حسن بدر الدين: كنت البارحة عريسًا في ديار مصر. فقالوا: لعلك حلمت، ورأيت هذا الذي تقول في المنام. فتحيَّرَ حسن في نفسه، وقال لهم: واللهِ ما هذا منام، وأين السايس الأحدب الذي كان قاعدًا عندنا، والكيس الذهب الذي كان معي؟ وأين ثيابي ولباسي؟ ثم قام ودخل المدينة ومشى في شوارعها وأسواقها، فازدحم عليه الناس وزفُّوه، فدخل دكان طباخ، وكان ذلك الطباخ رجلًا مسرفًا فتابَ الله عليه من الحرام وفتح له دكان طباخ، وكان أهل دمشق كلهم يخافون منه بسبب شدَّة بأسه، فلما نظر الناس إلى الشاب وقد دخل دكان الطباخ افترقوا وخافوا منه، فلما نظر الطباخ إلى حسن بدر الدين، وشاهد حُسْنَه وجماله، وقعَتْ في قلبه محبته، فقال: من أين أنت يا فتى؟ احكِ لي حكايتك؛ فإنك صرتَ عندي أعزَّ من روحي.

فحكى له ما جرى من المبتدأ إلى المنتهى، فقال له الطباخ: يا سيدي بدر الدين، اعلم أن هذا أمر عجيب، وحديث غريب، ولكن يا ولدي اكتم ما معك حتى يفرج الله ما بك، واقعد عندي في هذا المكان، وأنا ما لي ولد فأتخذك ولدي. فقال له بدر الدين: الأمر كما تريد يا عم. فعند ذلك نزل الطباخ إلى السوق، واشترى لبدر الدين أقمشة مفتخرة، وألبسه إياها وتوجَّهَ به إلى القاضي، وأشهد على نفسه أنه ولده، وقد اشتهر حسن بدر الدين في مدينة دمشق أنه ولد الطباخ، وقعد عنده في الدكان يقبض الدراهم، وقد استقرَّ أمره عند الطباخ على هذه الحال.

هذا ما كان من أمر حسن بدر الدين، وأما ما كان من أمر ست الحُسْن بنت عمه، فإنها لما طلع الفجر وانتبهت من النوم لم تجد حسن بدر الدين قاعدًا عندها؛ فاعتقدت أنه دخل المرحاض، فجلست تنتظره ساعةً، وإذا بأبيها قد دخل عليها وهو مهموم ممَّا جرى له مع السلطان، وكيف غصبه وزوَّجَ ابنته غصبًا لأحد غلمانه الذي هو السايس الأحدب، وقال في نفسه: أقتل هذه البنت إن كانت مكَّنت هذا الخبيث من نفسها. فمشى إلى أن وصل إلى المخدع، ووقف على بابه وقال: يا ست الحسن. فقالت له: نعم يا سيدي. ثم إنها خرجت وهي تتمايل من الفرح، وقبَّلت الأرض بين يدَيْه، وازداد وجهها نورًا وجمالًا لعناقها لذلك الغزال، فلما نظرها أبوها وهي بتلك الحالة قال لها: يا خبيثة، هل أنت فرحانة بهذا السايس؟ فلما سمعت ست الحُسْن كلام والدها تبسَّمَتْ، وقالت: بالله يكفي ما جرى منك، والناس يضحكون عليَّ ويعايرونني بهذا السايس الذي ما يجيء في إصبعي قلامة ظفر، إن زوجي واللهِ ما بتُّ طول عمري ليلةً أحسن من ليلة البارحة التي بتُّها معه، فلا تهزأ بي وتذكر لي ذلك الأحدب.

فلما سمع والدها كلامها، امتزج بالغضب وازْرَقَّتْ عيناه وقال لها: ويلك! أي شيء هذا الكلام الذي تقولينه؟ إن السايس الأحدب قد بات عندك؟ فقالت: بالله عليك لا تذكره لي، قبَّحَه الله وقبَّحَ أباه، فلا تُكثِر المزاح بذكره، فما كان السايس إلا مُكترًى بعشرة دنانير، وأخذ أجرته وراح، وجئتُ أنا ودخلت المخدع فنظرتُ زوجي قاعدًا بعدما جلتني عليه المغنيات، ونقَّطَ بالذهب الأحمر حتى أغنى الفقراء الحاضرين، وقد بِتُّ في حضن زوجي الخفيف الروح، صاحب العيون السود، والحواجب المقرونة. فلما سمع والدها هذا الكلام صار الضياء في وجهه ظلامًا، وقال لها: يا فاجرة، ما هذا الذي تقولينه؟ أين عقلك؟ فقالت له: يا أبت، لقد فتَّتَّ كبدي لأي شيء، فهذا زوجي الذي أخذ وجهي قد دخل بيت الراحة، وإني قد علقت منه. فقام والدها وهو متعجِّب ودخل بيت الخلاء فوجد السايس الأحدب ورأسه مغروزة الملاقي، ورجلاه مرتفعة إلى فوق؛ فبُهِت فيه الوزير، وقال: أَمَا هذا هو الأحدب؟ فخاطَبَه فلم يردَّ عليه، وظنَّ الأحدبُ أنه العفريت. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 22﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السايس الأحدب لما كلَّمه الوزيرُ ظنَّ أنه العفريت، فلم يردَّ عليه؛ لأنه ظنَّ أنه لا يكلمه إلا العفريت. فصرخ عليه الوزير وقال له: تكلَّمْ وإلا أقطع رأسك بهذا السيف. فعند ذلك قال الأحدب: والله يا شيخ العفاريت من حين جعلتني في هذا الموضع ما رفعتُ رأسي، فبالله عليك أن ترفق بي. فلما سمع الوزير كلام الأحدب قال له: ما تقول؟ فإني أبو العروسة، ما أنا عفريت. فقال: ليس عمري في يدك، ولا تقدر أن تأخذ روحي، فرُحْ إلى حال سبيلك قبل أن يأتيك الذي فعل بي هذه الفعال، فأنتم لا تزوِّجونني إلا بمعشوقة الجواميس ومعشوقة العفاريت، فلعن الله مَن زوَّجَني بها، ولعن مَن كان السبب في ذلك. ثم إن السايس الأحدب صار يحدِّث الوزير والد العروسة ويقول: لعن الله مَن كان السبب في ذلك. فقال له الوزير: قُمْ واخرج من هذا المكان. فقال له: هل أنا مجنون حتى أروح معك بغير إذن العفريت؟ فإنه قال لي: إذا طلعَتِ الشمسُ فاخرج ورُحْ إلى حال سبيلك. فهل طلعت الشمس أو لا؟ فإني لا أقدر أن أطلع من موضعي إلا إنْ طلعت الشمس. فعند ذلك قال له الوزير: مَن أتى بك إلى هذا المكان؟ فقال: إني جئتُ البارحة إلى هنا لأقضي حاجتي وأزيل ضرورتي، وإذا بغبار طلع من وسط الماء وصاح وصار يكبر حتى بقي قدر الجاموسة، وقال لي كلامًا دخل في أذني، فخَلِّنِي ورُحْ لعن الله العروسة ومَن زوَّجني بها. فتقدَّمَ إليه الوزير وأخرجه من المرحاض، فخرج وهو يجري، وما صدق أن الشمس طلعت، وطلع إلى السلطان وأخبره بما اتفق له مع العفريت.

وأما الوزير أبو العروسة فإنه دخل البيت وهو حائر العقل في أمر بنته، فقال: يا بنتي، اكشفي لي عن خبرك؟ فقالت: إن الظريف الذي كنتُ أنجلي عليه بات عندي البارحة، وأزال بكارتي، وعلقت منه، وإنْ كنتَ لم تصدِّقني فهذه عمامته بلفَّتها على الكرسي، ولباسه تحت الفرش، وفيه شيء ملفوف لم أعرف ما هو، فلما سمع والدها هذا الكلام دخل المخدع، فوجد عمامة حسن بدر الدين ابن أخيه، ففي الحال أخذها في يده وقلبها، وقال: هذه عمامة وزراء إلا أنها موصلية. ثم نظر إلى حرز مخيط في طربوشه، فأخذه وفتقه، وأخذ اللباس فوجد الكيس الذي فيه ألف دينار، ففتحه فوجد فيه ورقة، فقرأها فوجد مبايعة اليهودي، واسم حسن بدر الدين بن نور الدين المصري، ووجد الألف دينار. فلما قرأ شمس الدين الورقةَ صرخ صرخةً، وخرَّ مغشيًّا عليه، فلما أفاق وعلم مضمون القصة تعجَّبَ، وقال: لا إله إلا الله القادر على كل شيء. وقال: يا بنتي، هل تعرفين مَن الذي أخذ وجهك؟ قالت: لا. قال: إنه ابن أخي، وهو ابن عمك، وهذه الألف دينار مهرك، فسبحان الله! فليت شعري كيف اتفقت هذه القضية؟! ثم فتح الحرز المخيط فوجد فيه ورقة مكتوبًا فيها بخط أخيه نور الدين المصري أبي حسن بدر الدين، فلما نظر خط أخيه أنشد هذين البيتين:

أَرَى آثَارَهُمْ فَأَذُوبُ شَوْقًا        وَأَسْكُبُ فِي مَوَاطِنِهِمْ دُمُوعِي

وَأَسْأَلُ مَنْ بِفُرْقَتِهِمْ رَمَانِي        يَمُنُّ عَلَيَّ يَوْمًا بِالرُّجُوعِ

فلما فرغ من الشعر قرأ الحرز، فوجد فيه تاريخ زواجه بنت وزير البصرة، وتاريخ دخوله بها، وتاريخ عمره إلى حين وفاته، وتاريخ ولادة ولده حسن بدر الدين، فتعجَّبَ واهتزَّ من الطرب، وقابَلَ ما جرى لأخيه على ما جرى له، فوجده سواء بسواء، وزواجه وزواج الآخَر موافقَيْن تاريخًا، ودخولهما بزوجتَيْهما متوافقًا، وولادة حسن بدر الدين ابن أخيه وولادة بنته ست الحسن متوافقين؛ فأخذ الورقتين وطلع بهما إلى السلطان، وأعلَمَه بما جرى من أول الأمر إلى آخِره، فتعجَّبَ الملك وأمر أن يُؤرَّخ هذا الأمر في الحال، ثم أقام الوزير ينتظر ابن أخيه، فما وقع له على خبر، فقال: والله لَأعملنَّ عملًا ما سبقني إليه أحدٌ. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 23﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير قال: والله لَأعملنَّ عملًا ما سبقني إليه أحدٌ. ثم أخذ دواة وقلمًا، وكتب أمتعة البيت، وأن الخشخانة في موضع كذا، والستارة الفلانية في موضع كذا؛ كتب جميع ما في البيت، ثم طوى الكتاب، وأمر بخزن جميع الأمتعة، وأخذ العمامة والطربوش، وأخذ معه الفرجية والكيس وحفظهما عنده، وأما بنت الوزير فإنها لما كملت أشهرها ولدت ولدًا مثل القمر يشبه والِدَه من الحُسْن والكمال والبهاء والجمال، فقطعوا سرَّته، وكحَّلوا مقلته، وسلَّموه إلى المرضعات، وسمَّوْه عجيبًا؛ فصار يومه بشهر، وشهره بسنة، فلمَّا مرَّ عليه سبع سنين أعطاه جده لفقيه، ووصَّاه أن يربِّيه ويُحسِن تربيته، فأقام في المكتب أربع سنوات، فصار يقاتل أهل المكتب ويسبُّهم ويقول لهم: مَن فيكم مثلي، أنا ابن وزير مصر؟ فقامت الأولاد، واجتمعوا يشكون إلى العريف ممَّا قاسَوْه من عجيب، فقال لهم العريف: أنا أعلِّمكم شيئًا تقولون له لما يجيء فيتوب عن المجيء للمكتب، وذلك أنه إذا جاء غدًا فاقعدوا حوله، وقولوا لبعضكم: والله ما يلعب معنا هذه اللعبة إلا مَن يقول لنا ما اسم أمه واسم أبيه، ومَن لم يعرف اسم أمَّه واسم أبيه فهو ابن حرام، فلا يلعب معنا.

فلما أصبح الصباح أتوا إلى المكتب، وحضر عجيب، فاحتاطت به الأولاد وقالوا: نحن نلعب لعبة، ولكن ما يلعب معنا إلا مَن يقول لنا على اسم أمه واسم أبيه. واتفقوا على ذلك، فقال واحد منهم: اسمي ماجد وأمي علوى وأبي عز الدين. وقال الآخَر مثل قوله، وقال الآخَر كذلك، إلى أن جاء الدور إلى عجيب، فقال: أنا اسمي عجيب، وأمي ست الحسن، وأبي شمس الدين الوزير بمصر. فقالوا له: والله إن الوزير ما هو أبوك. فقال عجيب: الوزير أبي حقيقة. فعند ذلك ضحكت عليه الأولاد، وصفقوا عليه وقالوا: أنت ما تعرف لك أبًا، فقُمْ من عندنا فلا يلعب معنا إلا مَن يعرف اسمَ أبيه. وفي الحال تفرَّقَ الأولاد من حوله وتضاحكوا عليه؛ فضاق صدره وانخنق بالبكاء، فقال له العريف: هل تعتقد أن أباك جدك الوزير أبو أمك ست الحسن؟ إن أباك ما تعرفه أنت ولا نحن؛ لأن السلطان كان زوَّجها للسايس الأحدب، وجاءت الجن فناموا عندها، فإن لم تعرف لك أبًا يجعلوك بينهم ولد زنا، أَلَا ترى أن ابن البائع يعرف أباه، فوزير مصر إنما هو جدك، وأما أبوك فلا نعرفه نحن ولا أنت، فارجع لعقلك. فلما سمع ذلك الكلام قام من ساعته ودخل على والدته ست الحسن، وصار يشكي لها وهو يبكي، ومنعه البكاء من الكلام، فلما سمعت أمه كلامه وبكاءه التهَبَ قلبها عليه، وقالت له: يا ولدي، ما الذي أبكاك؟ فاحكِ لي قصتك. فحكى لها ما سمعه من الأولاد ومن العريف، وقال لها: يا والدتي مَن هو أبي؟ قالت له: أبوك وزير مصر. فقال لها: ليس هو أبي، فلا تكذبي عليَّ؛ فإن الوزير أبوكِ أنتِ لا أبي أنا، فمَن هو أبي؟ فإن لم تخبريني بالصحيح قتلتُ روحي بهذا الخنجر. فلما سمعت والدته ذِكْرَ أبيه بكَتْ لذِكْر ولد عمها، وتذكَّرت محاسنَ حسن بدر الدين البصري، وما جرى لها معه، وأنشدت هذه الأبيات:

أَهَاجُوا الْحُبَّ فِي قَلْبِي وَسَارُوا        وَقَدْ شَطَّتْ بِهِمْ تِلْكَ الدِّيَارُ

وَبَانَ الْعَقْلُ مِنِّي حَيْثُ بَانُوا        وَفَارَقَنِي هُجُوعٌ وَاصْطِبَارُ

وَقَدْ سَارُوا فَفَارَقَنِي سُرُورِي        وَقَدْ عُدِمَ الْقَرَارُ فَلَا قَرَارُ

وَأَجْرَوْا بِالْفِرَاقِ دُمُوعَ عَيْنِي        فَأَدْمُعُهَا تُجَارِيهَا الْبِحَارُ

إِذَا مَا اشْتَقْتُ يَوْمًا أَنْ أَرَاهُمْ        وَزَادَ بِهِمْ حَنِينِي وَانْتِظَارُ

يُمَثِّلُ شَخْصُهُمْ فِي وَسْطِ قَلْبِي        غَرَامٌ وَاشْتِيَاقٌ وَادِّكَارُ

أَيَا مَنْ ذِكْرُهُمْ أَضْحَى دِثَارِي        وَمَا لِي غَيْرُ حُبِّهِمِ شِعَارُ

أَحِبَّتَنَا إِلَى كَمْ ذَا التَّمَادِي        وَكَمْ هَذَا التَّبَاعُدُ وَالنِّفَارُ

ثم بكت وصرخت وكذلك ولدها، وإذا بالوزير دخل، فلما نظر إلى بكائهما احترق قلبه، وقال: ما يبكيكما؟ فأخبرته بما اتفق لولدها مع صغار المكتب، فبكى الآخر، ثم تذكَّرَ أخاه وما اتفق له معه، وما اتفق لابنته، ولم يعلم بما في باطن الأمر. ثم قام الوزير في الحال، ومشى حتى طلع إلى الديوان، ودخل على الملك وأخبره بالقصة، وطلب منه الإذن بالسفر إلى الشرق ليقصد مدينة البصرة، ويسأل عن ابن أخيه، وطلب من السلطان أن يكتب له مراسيم لسائر البلاد إذا وجد ابن أخيه في أي موضع يأخذه، ثم بكى بين يدي السلطان؛ فرَقَّ له قلبُه، وكتب مراسيم لسائر الأقاليم والبلاد، ففرح بذلك ودعا للسلطان، وودَّعه ونزل في الحال وتجهَّز للسفر، وأخذ ما يحتاج إليه، وأخذ ابنته وولدها عجيبًا، وسافر أول يوم وثاني يوم وثالث يوم حتى وصل إلى مدينة دمشق، فوجدها ذات أشجار وأنهار كما قال فيها الشاعر:

مِنْ بَعْدِ يَوْمِي فِي دِمَشْقَ وَلَيْلَتِي        حَلَفَ الزَّمَانُ بِمِثْلِهَا لَا يَغْلَطُ

بِتْنَا وَجَنْحُ اللَّيْلِ فِي غَفَلَاتِهِ        وَمِنَ الصَّبَاحِ عَلَيْهِ فَرْعٌ أَشْمَطُ

وَالطَّلُّ فِي تِلْكَ الْغُصُونِ كَأَنَّهُ        دُرٌّ يُصَافِحُهُ النَّسِيمُ فَيَسْقُطُ

وَالطَّيْرُ يَقْرَأُ وَالْغَدِيرَ صَحِيفَةً        وَالرِّيحُ تَكْتُبُ وَالْغَمَامُ يُنَقِّطُ

فنزل الوزير من ميدان الحصبا، ونصب خيامه، وقال لغلمانه: نأخذ الراحة هنا يومين. فدخل الغلمان المدينة لقضاء حوائجهم، هذا يبيع وهذا يشتري، وهذا يدخل الحمام، وهذا يدخل جامع بني أمية الذي ما في الدنيا مثله، ودخل المدينة عجيب هو وخادمه يتفرجان، والخادم يمشي خلف عجيب، وفي يده سوط لو ضرب به جملًا لسقط لم يثر، فلما نظر أهل دمشق إلى عجيب وقده واعتداله، وبهائه وكماله، بديع الجمال، رخيم الدلال، ألطف من نسيم الشمال، وأحلى للظمآن من الماء الزلال، وألذ من العافية لصاحب الاعتلال. فلما رآه أهل دمشق تبعوه، وصارت الخلق تجري وراء وتتبعه، وتقعد في الطريق حتى يجيء عليهم وينظرونه إلى أن وقف العبد بالأمر المقدر على دكان أبيه حسن بدر الدين، الذي أجلسه فيه الطباخ الذي اعترف عند القضاة والشهود أنه ولده. فلما وقف عليه العبد في ذلك اليوم وقف معه الخدام، فنظر حسن بدر الدين إلى ولده فأعجبه حين وجده في غاية الحُسْن، فحنَّ إليه فؤاده وتعلَّق به قلبه، وكان قد طبخ حَبَّ رمان محلًّى، واشتدت به المحبة الإلهية فنادى من الوَجْد وقال: يا سيدي، يا مَن ملك قلبي وفؤادي وحنَّ إليه كبدي، هل لك أن تدخل عندي وتجبر قلبي وتأكل من طعامي؟ ثم فاضت عيناه بالدموع من غير اختياره، وتذكَّر ما كان فيه فيما مضى وما هو في تلك الساعة.

فلما سمع عجيب كلام أبيه، حنَّ إليه قلبه والتفت إلى الخادم وقال له: إن هذا الطباخ حنَّ قلبي إليه وكأنه قد فارَقَ ولدًا له، فادخل بنا عنده لنجبر قلبه ونأكل ضيافته؛ لعل الله يجمع شملنا بأبينا بجبرنا خاطره. فلما سمع الخادم كلام سيده عجيب قال: والله يا سيدي لا ينبغي، كيف نكون أولاد الوزير ونأكل في دكان الطباخ؟ ولكن أنا أحجب الناس عنك بهذه العصا خوفًا من أن ينظروا إليك، وإلا فما يمكنك أن تدخل الدكان أبدًا. فلما سمع حسن بدر الدين كلام الخادم تعجَّبَ والتفَتَ إلى الخادم وقد سالت دموعه على خدوده، وقال له: إن قلبي حبه. فقال له الخادم: دعنا من هذا الكلام ولا تدخل. فعند ذلك التفت أبو عجيب للخادم وقال له: يا كبير، لأي شيء لا تجبر خاطري وتدخل عندي، يا مَن كأنه قصطل أسود وقلبه أبيض، يا مَن قال فيه بعض واصفيه كذا من المدح. حتى ضحك الخادم، وقال: أي شيء تقول؟ فبالله قُلْ وأوجز. فأنشد في الحال هذين البيتين:

لَوْلَا تَأَدُّبُهُ وَحُسْنُ ثِقَاتِهِ        مَا كَانَ فِي دَارِ الْمُلُوكِ مُحَكَّمَا

وَعَلَى الْحَرِيمِ فَيَا لَهُ مِنْ خَادِمٍ        مِنْ حُسْنِهِ خَدَمَتْهُ أَمْلَاكُ السَّمَا

فتعجَّبَ الخادم من هذا الكلام، وأخذ عجيبًا ودخل دكان الطباخ، فغرف حسن بدر الدين زبدية من حب الرمان، وكانت بلَوْزٍ وسكرٍ، فأكلوا سواء، فقال لهم حسن بدر الدين: آنستونا، كلوا هنيئًا مريًّا. ثم إن عجيب قال لوالده: اقعد كُلْ معنا لعل الله يجمعنا بمَن نريد. فقال حسن بدر الدين: يا ولدي، هل بُلِيتَ على صِغَر سنِّكَ بفرقة الأحباب؟ فقال عجيب: نعم يا عم، أُحرِق قلبي بفراق الأحباب، والحبيب الذي فارقني هو والدي، وقد خرجتُ أنا وجَدِّي نطوف عليه البلاد، فوا حسرتاه على جمع شملي به. وبكى بكاءً شديدًا، وبكى والده لبكائه، وتذكَّرَ فرقة الأحباب، وبُعْده عن والده ووالدته، فحنَّ له الخادم وأكلوا جميعًا إلى أن اكتفوا، ثم بعد ذلك قامَا وخرجَا من دكان حسن بدر الدين، فأحسَّ أن روحه فارقَتْ جسده وراحت معهم، فما قدر أن يصبر عنهم لحظةً واحدة، فقفل الدكان وتبعهم وهو لا يعلم أنه ولده، وأسرع في مشيه حتى لحقهم قبل أن يخرجوا من الباب الكبير، فالتفت الطواشي وقال له: ما لك يا طباخ؟ فقال حسن بدر الدين: لما نزلتم من عندي كأن روحي خرجَتْ من جسمي، ولي حاجة في المدينة خارج الباب، فأردتُ أن أرافقكم حتى أقضي حاجتي وأرجع. فغضب الطواشي وقال لعجيب: إن هذه أكلة مشئومة، وصارت علينا مكرمة، وها هو تابعنا من موضع إلى موضع. فالتفت عجيب فرأى الطباخ، فاغتاظ واحمرَّ وجهه، ثم قال للخادم: دَعْه يمشي في طريق المسلمين، فإذا خرجنا إلى خيامنا وخرج معنا وعرفنا أنه يتبعنا نطرده. فأطرق رأسَه ومشى والخادم وراءه، فتبعهم حسن بدر الدين إلى ميدان الحصبا، وقد قربوا من الخيام، فالتفتوا ورأوه خلفهم، فغضب عجيب، وخاف من الطواشي أن يخبر جده، فامتزج بالغضب مخافة أن يقولوا إنه دخل دكان الطباخ، وأن الطباخ تبعه، فالتفت حتى صارت عيناه في عين أبيه وقد بقي جسدًا بلا روح، ورأى عجيب عينه كأنها عين خائن، وربما كان ولد زنا، فازداد غضبًا، فأخذ حجرًا وضرب به والده، فوقع الحجر على جبينه فبطحه، فوقع حسن بدر الدين مغشيًّا عليه، وسال الدم على وجهه، وسار عجيب هو والخادم إلى الخيام. وأما حسن بدر الدين فإنه لما أفاق مسح دمه، وقطع قطعة من عمامته وعصب بها رأسه، ولامَ نفسه وقال: أنا ظلمت الصبي حيث غلقت دكاني، وتبعته حتى ظنَّ أني خائن. ثم رجع إلى الدكان، واشتغل ببيع طعامه، وصار مشتاقًا إلى والدته التي في البصرة ويبكي عليها، وأنشد هذين البيتين:

لَا تَسْأَلِ الدِّهْرَ إِنْصَافًا فَتَظْلِمَهُ        وَلَا تَلُمْهُ فَلَمْ يُخْلَقْ لِإِنْصَافِ

خُذْ مَا تَيَسَّرَ وَازْوِ الْهَمَّ نَاحِيَةً        لَا بُدَّ مِنْ كَدَرٍ فِيهِ وَإِنْصَافِ

ثم إن بدر الدين استمر مشتغلًا يبيع في طعامه، وأما الوزير عمه فإنه أقام في دمشق ثلاثة أيام، ثم رحل متوجِّهًا إلى حمص، فدخلها ثم رحل عنها، وصار يفتِّش في طريقه أينما حلَّ وجهه في سيره إلى أن وصل إلى ماردين والموصل وديار بكر، ولم يزل سائرًا إلى مدينة البصرة، فدخلها فلما استقر به المنزل دخل إلى سلطانها، واجتمع به فاحترمه وأكرم منزله، وسأله عن سبب مجيئه، فأخبره بقصته، وأن أخاه الوزير علي نور الدين، فترحَّمَ عليه السلطان وقال له: أيها الصاحب، إنه كان وزيري، وكنت أحبه كثيرًا، وقد مات من مدة خمسة عشر عامًا، وخلف ولدًا وقد فقدناه، ولم نطَّلِعْ له على خبر، غير أن أمه عندنا؛ لأنها بنت وزيري الكبير. فلما سمع الوزير شمس الدين من الملك أن أم ابن أخيه طيبة، فَرِح وقال: يا ملك، إني أريد أن أجتمع بها. فأذِنَ له في الحال أن ينزل عندها في دار أخيه، فنزل شمس الدين ودخل عندها في دار أخيه، وجال بطرفه في نواحيها وقبَّلَ أعتابها، وتذكَّرَ أخاه نور الدين علي وكيف مات غريبًا وهو مشتاق إليه، فبكى وأنشد هذه الأبيات:

أَمُرُّ عَلَى الدِّيَارِ دِيَارِ لَيْلَى        أُقَبِّلُ ذَا الْجِدَارَ وَذَا الْجِدَارَا

فَمَا حُبُّ الدِّيَارِ شَغَفْنَ قَلْبِي        وَلَكِنْ حُبُّ مَنْ سَكَنَ الدِّيَارَا

ثم دخل من الباب إلى فسحة عظيمة فوجد بابًا مقوصرًا بالحجر الصوان، مجزَّعًا بأنواع الرخام من سائر الألوان، فمشى في نواحي الديار ونظرها وجال بطرفه فيها، فوجد اسم أخيه نور الدين مكتوبًا بالذهب على جدرانها، فأتى إلى الاسم وقبَّله وبكى وأحرقه فراقه، فأنشد هذه الأبيات:

أَسْتَخْبِرُ الشَّمْسَ عَنْكُمْ كُلَّمَا طَلَعَتْ        وَأَسْأَلُ الْبَرْقَ عَنْكُمْ كُلَّمَا لَمَعَا

أَبِيتُ وَالشَّوْقُ يَطْوِينِي وَيَنْشُرُنِي        فِي رَاحَتَيْهِ، وَلَا أَشْكُو لَهُ وَجَعَا

أَحْبَابَنَا إِنْ يَكُنْ طَالَ الْمَدَى فَلَكُمْ        قَدْ قُطِّعَ الْقَلْبُ مِنِّي بَعْدَكُمْ قِطَعَا

فَلَوْ مَنَنْتُمْ عَلَى طَرْفِي بِرُؤْيَتِكُمْ        لَكَانَ أَحْسَنُ شَيْءٍ بَيْنَنَا وَقَعَا

لَا تَحْسَبُوا أَنَّنِي بِالْغَيْرِ مُشْتَغِلٌ        إِنَّ الْفُؤَادَ لِحُبِّ الْغَيْرِ مَا وَسِعَا

ثم إنه صار يمشي إلى أن وصل إلى قاعة زوجة أخيه أم حسن بدر الدين البصري، وكانت في مدة غيبة ولدها قد لزمت البكاء والنحيب بالليل والنهار، فلما طالت عليها المدة عملت لولدها قبرًا من الرخام في وسط القاعة، وصارت تبكي عليه ليلًا ونهارًا، ولا تنام إلا عند ذلك القبر، فلما وصل إلى مسكنها سمع حسَّها، فوقف خلف الباب فسمعها تنشد على القبر هذين البيتين:

بِاللهِ يَا قَبْرُ هَلْ زَالَتْ مَحَاسِنُهُ        وَهَلْ تَغَيَّرَ ذَاكَ الْمَنْظَرُ النَّضِرُ

يَا قَبْرُ لَا أَنْتَ بُسْتَانٌ وَلَا فَلَكٌ        فَكَيْفَ يُجْمَعُ فِيكَ الْغُصْنُ وَالْقَمَرُ

فبينما هي كذلك وإذا بالوزير شمس الدين قد دخل عليها، وسلَّم عليها، وأعلمها أنه أخو زوجها، ثم أخبرها بما جرى، وكشف لها عن القصة، وأن ابنها حسن بدر الدين بات عند ابنته ليلةً كاملةً، ثم فُقِد عند الصباح، وقال لها: إن ابنتي حملت من ولدك وولدت ولدًا، وهو معي، وإنه ولدُكِ وولدُ ولدِكِ من ابنتي. فلما سمعت خبر ولدها وأنه حي، ورأت أخا زوجها، قامت إليه ووقعت على قدمَيْه وقبَّلَتْهما، وأنشدته هذين البيتين:

للهِ دَرُّ مُبَشِّرِي بِقُدُومِهِمْ        فَلَقَدْ أَتَى بِأَطَايِبِ الْمَسْمُوعِ

لَوْ كَانَ يَقْنَعُ بِالْخَلِيعِ وَهَبْتُهُ        قَلْبًا تَقَطَّعَ سَاعَةَ التَّوْدِيعِ

ثم إن الوزير أرسل إلى عجيب ليحضره، فلما حضر قامت له جدته واعتنقته وبكت، فقال لها شمس الدين: ما هذا وقت بكاء، بل هذا وقت تجهيزك للسفر معنا إلى ديار مصر، عسى الله أن يجمع شملنا وشملك بولدك ابن أخي. فقالت: سمعًا وطاعةً. ثم قامت من وقتها، وجمعت جميع أمتعتها وذخائرها وجواريها، وتجهَّزَتْ في الحال، ثم طلع الوزير شمس الدين إلى سلطان البصرة وودَّعه، فبعث معه هدايا وتحفًا إلى سلطان مصر، وسافَرَ من وقته هو وزوجة أخيه، ولم يزل سائرًا حتى وصل إلى مدينة دمشق، فنزل على القانون وضرب الخيام، وقال لمَنْ معه: إننا نقيم بدمشق جمعةً إلى أن نشتري للسلطان هدايا وتحفًا. ثم قال عجيب للطواشي: يا غلام، إني اشتقتُ إلى الفرجة، فقُمْ بنا ننزل إلى سوق دمشق، ونعتبر أحوالها، وننظر ما جرى لذلك الطباخ الذي قد كنَّا أكلنا طعامه وشججنا رأسه، مع أنه قد كان أحسن إلينا، ونحن أسأناه. فقال الطواشي: سمعًا وطاعةً. ثم إن عجيبًا خرج من الخيام هو والطواشي، وحرَّكته القرابة إلى التوجُّه لوالده، ودخلَا مدينة دمشق، وما زالَا سائرين إلى أن وصلَا إلى دكان الطباخ، فوجداه واقفًا في الدكان، وكان ذلك قبل العصر، وقد وافَقَ الأمر أنه طبخ حب رمَّان، فلما قربَا منه ونظره عجيبٌ، حنَّ إليه قلبه، ونظر إلى أثر الضربة بالحجر في جبينه، فقال: السلام عليك يا هذا، اعلم أن خاطري عندك، فلما نظر إليه بدر الدين تعلَّقَتْ أحشاؤه به، وخفق فؤاده إليه، وأطرق برأسه إلى الأرض، وأراد أن يدير لسانه في فمه فما قدر على ذلك، ثم رفع رأسه إلى ولده خاضعًا متذلِّلًا، وأنشد هذه الأبيات:

تَمَنَّيْتُ مَنْ أَهْوَى فَلَمَّا رَأَيْتُهُ        ذَهِلْتُ فَلَمْ أَمْلُكْ لِسَانًا وَلَا طَرْفَا

وَأَطْرَقْتُ إِجْلَالًا لَهُ وَمَهَابَةً        وَحَاوَلْتُ إِخْفَاءَ الَّذِي بِي فَلَمْ يَخْفَ

وَكُنْتُ مُعِدًّا لِلْعِتَابِ صَحَائِفًا        فَلَمَّا اجْتَمَعْنَا مَا وَجَدْتُ وَلَا حَرْفَا

ثم قال لهما: اجبرَا قلبي، وكُلَا من طعامي، فوالله ما نظرتُ إليك أيها الغلام إلا حنَّ قلبي إليك، وما كنتُ اتَّبَعْتُك إلا وأنا بغير عقل. فقال عجيب: والله إنك محبُّ لنا ونحن أكلنا عندك لقمة، فلازمتنا عَقِبَها وأردتَ إن تهتكنا، ونحن لا نأكل لك أكلًا إلا بشرط أن تحلف أنك لا تخرج وراءنا ولا تتبعنا، وإلا لا نعود إليك من وقتنا هذا، فنحن مقيمون في هذه المدينة جمعةً حتى يأخذ جدي هدايا للملك. فقال بدر الدين: لكم عليَّ ذلك. فدخل عجيب هو والخادم في الدكان، فقدَّمَ لهما زبديةً ممتلئةً حب رمان، فقال عجيب: كُلْ معنا لعل الله يفرج عنَّا. ففَرِح حسن بدر الدين، وأكل معهم وهو لم يغضَّ طرْفَه عن النظر في وجهه، وقد تعلَّقَ به قلبه وصارت كل جوارحه معه. فقال له عجيب: أَلَمْ تعلم أني قلتُ لك إنك عاشق ثقيل؟ فحسبك لا تُطِلِ النظرَ إلى وجهي. فلما سمع بدر الدين كلامَه أنشد هذه الأبيات:

لَكَ فِي الْقُلُوبِ سَرِيرَةٌ لَا تَظْهَرُ        مَطْوِيَّةٌ وَحَدِيثُهَا لَا يُنْشَرُ

يَا فَاضِحَ الْقَمَرِ الْمُنِيرِ بِحُسْنِهِ        وَبِوَجْهِهِ افْتُضِحَ الصَّبَاحُ الْمُسْفِرُ

لِي فِي سَنَاكَ أَمَارَةٌ لَا تَنْقَضِي        وَمَعَاهِدُ أَبَدًا تَزِيدُ وَتَكْثُرُ

فَأَذُوبُ مِنْ حُرُقِي وَوَجْهُكَ جَنَّتِي        وَأَمُوتُ مِنْ ظَمَئِي وَرِيقُكَ كَوْثَرُ

فصار بدر الدين يلقِّم عجيبًا ساعةً ويلقم الطواشي ساعةً، وكَبَّ على أيديهما الماء حتى غسلَا، وحلَّ فوطة حرير من وسطه فمسح أيديهم بها ورشَّ عليهما ماء الورد من قمقم كان عنده، وخرج من الدكان ثم عاد بقلتين من شربات ممزوجة بماء الورد الممسَّك، وقدَّمَها بين أيديهما وقال: تمِّمَا إحسانكما. فأخذ عجيب وشرب وناوَلَ الخادم، ولم يزالَا يشربان حتى امتلأت بطونهما، وشبعَا شبعًا على خلاف عادتهما، ثم انصرفَا وأسرعَا في مشيهما حتى وصلَا إلى خيامهما، ودخل عجيب على جدته أم والده حسن بدر الدين فقبَّلَتْه، وتذكَّرَتْ ولدَها بدر الدين، فتنهَّدَتْ وبكَتْ، ثم إنها أنشدت هذين البيتين:

لَوْ لَمْ أُرَجَّ بِأَنَّ الشَّمْلَ يَجْتَمِعُ        مَا كَانَ لِي فِي حَيَاتِي بَعْدَكُمْ طَمَعُ

أَقْسَمْتُ مَا فِي فُؤَادِي غَيْرُ حُبِّكُمُ        وَاللهُ رَبِّي عَلَى الْأَسْرَارِ مُطَّلِعُ

ثم قالت لعجيب: يا ولدي، أين كنتَ؟ قال: في مدينة دمشق. فعند ذلك قامت وقدَّمت له زبدية طعام من حب الرمان، وكان قليل الحلاوة، وقالت للخادم: اقعد مع سيدك. فقال الخادم في نفسه: والله ما لنا شهية في الأكل. ثم جلس الخادم، وأما عجيب فإنه لما جلس كان بطنه ممتلئًا بما أكل وشرب، فأخذ لقمةً وغمسها في حب الرمان وأكلها، فوجده قليل الحلاوة؛ لأنه كان شبعانًا، فتضجَّرَ وقال: أي شيء هذا الطعام الوحش! فقالت جدته: يا ولدي، أتعيب طبيخي وأنا طبخته، ولا أحدَ يُحْسِنُ الطبيخَ مثلي إلا والدك حسن بدر الدين؟! فقال عجيب: والله يا سيدتي، إن طبيخك هذا غير مُتقَن، نحن في هذه الساعة رأينا في المدينة طباخًا طبخ حب رمان، ولكن رائحته ينفتح لها القلب، وأما طعامه فإنه يشهِّي نفسَ المتخوم أن تأكل، وأما طعامك بالنسبة إليه فإنه لا يساوي كثيرًا ولا قليلًا، فلما سمعت جدته كلامه اغتاظت غيظًا شديدًا، ونظرت إلى الخادم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 24﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن جدة عجيب لما سمعت كلامه اغتاظت ونظرت إلى الخادم، وقالت له: ويلك! هل أنت أفسدتَ ولدي؟ لأنك دخلتَ به إلى دكاكين الطباخين. خاف الطواشي وأنكر وقال: ما دخلنا الدكان، ولكن جزنا جوازًا. فقال عجيب: واللهِ لقد دخلنا وأكلنا وهو أحسن من طعامك. فقامت جدته وأخبرت أخا زوجها وأغرته على الخادم، فحضر الخادم قدام الوزير، فقال له: لِمَ دخلتَ بولدي دكان الطباخ؟ فخاف الخادم وقال: ما دخلنا. فقال عجيب: بل دخلنا وأكلنا من حب الرمان حتى شبعنا، وأسقانا الطباخ شرابًا بثلج وسكر. فازداد غضب الوزير على الخادم، وسأله فأنكر، فقال له الوزير: إن كان كلامك صحيحًا فاقعد وكُلْ قدَّامنا. فعند ذلك تقدَّمَ الخادم، وأراد أن يأكل فلم يقدر ورمى اللقمة، وقال: يا سيدي، إني شبعان من البارحة. فعرف الوزير أنه أكل عند الطباخ، فأمر الجواري أن يطرحنه، فطرحنه ونزل عليه بالضرب الوجيع، فاستغاث وقال: يا سيدي، إني شبعان من البارحة. ثم منع عنه الضرب، وقال له: انطق بالحق. فقال: اعلم أننا دخلنا دكان الطباخ وهو يطبخ حب الرمان، فغرف لنا منه، والله ما أكلتُ عمري مثله، ولا رأيت أقبح من هذا الذي قدامنا.

فغضبت أم حسن بدر الدين، وقالت: لا بد أن تذهب إلى هذا الطباخ وتجيء لنا بزبدية حب رمان من الذي عنده، وتريه لسيدك حتى يقول أيهما أحسن وأطيب. فقال الخادم: نعم. ففي الحال أعطته زبدية ونصف دينار، فمضى الخادم حتى وصل إلى الدكان، وقال للطباخ: نحن تراهنَّا على طعامك في بيت سيدنا؛ لأن هناك حب رمان طبخه أهل البيت، فهات لنا بهذا النصف دينار، وأَدِرْ بالك في طهيه وأتقنه، فقد أكلنا الضرب الموجع على طبيخك. فضحك حسن بدر الدين وقال: والله إن هذا الطعام لا يُحسِنه أحدٌ إلا أنا ووالدتي، وهي الآن في بلاد بعيدة. ثم إنه غرف الزبدية، وأخذها وختمها بالمسك وماء الورد، فأخذها الخادم وأسرع بها حتى وصل إليهم، فأخذتها والدة حسن وذاقتها، ونظرت حُسْن طعمها وجودته فعرفَتْ طبَّاخها، فصرخَتْ ثم وقعت مغشيًّا عليها؛ فبُهِت الوزير من ذلك، ثم رشُّوا عليها ماء الورد، بعد ساعة أفاقت وقالت: إنْ كان ولدي في الدنيا فما طبخ حب الرمان هذا إلا هو، وهو ولدي حسن بدر الدين لا شكَّ فيه ولا محالة؛ لأن هذا طعامه، وما أحد يطبخه غيره إلا أنا؛ لأني علَّمته طبخه.

فلما سمع الوزير كلامها فرح فرحًا شديدًا، وقال: وا شوقاه إلى رؤية ابن أخي! أَتُرَى تجمع الأيام شملنا؟! وما نطلب الاجتماع به إلا من الله تعالى. ثم إن الوزير قام من وقته وساعته وصاح على الرجال الذين معه، وقال: يمضي منكم عشرون رجلًا إلى دكان الطباخ، ويهدمونها ويكتفونه بعمامته، ويجرونه غصبًا إلى مكاني من غير إيذاء يحصل له. فقالوا له: نعم. ثم إن الوزير ركب من وقته وساعته إلى دار السعادة، واجتمع بنائب دمشق، وأطلعه على الكتب التي معه من السلطان، فوضعها على رأسه بعد تقبيلها، وقال: ومَن هو غريمك؟ قال: رجل طباخ. ففي الحال أمر حجابه أن يذهبوا إلى دكانه، فذهبوا فرأوها مهدومة، وكل شيء فيها مكسور؛ لأنه لما توجَّهَ إلى دار السعادة فعلت جماعته ما أمرهم به، وصاروا منتظرين مجيء الوزير من دار السعادة، وحسن بدر الدين يقول في نفسه: يا تُرَى أي شيء رأوا في حب الرمان حتى صار لي هذا الأمر؟ فلما حضر الوزير من عند نائب دمشق، وقد أذِنَ له في أخذ غريمه وسفره به، فلما دخل الخيام طلب الطباخ فأحضروه مُكتَّفًا بعمامته، فلما نظر حسن بدر الدين إلى عمِّه بكى بكاء شديدًا، وقال: يا مولاي، ما ذنبي عندكم؟ فقال له: أنت الذي طبخت حب الرمان؟ قال: نعم، فهل وجدتم فيه شيئًا يُوجِب ضربَ الرقبة؟ فقال له: هذا أقلُّ جزائك. فقال له: يا سيدي، أَمَا توقفني على ذنبي؟ فقال له الوزير: نعم، في هذه الساعة.

ثم إن الوزير صرخ على الغلمان، وقال: هاتوا الجمال، وأخذوا حسن بدر الدين معهم، وأدخلوه في صندوق، وقفلوا عليه وساروا، ولم يزالوا سائرين إلى أن أقبل الليل، فحطوا وأكلوا شيئًا من الطعام، وأخرجوا حسن بدر الدين فأطعموه، وأعادوه إلى الصندوق، ولم يزالوا كذلك حتى وصلوا إلى مكانٍ فأخرجوا حسن بدر الدين من الصندوق، وقال له: هل أنت الذي طبختَ حب الرمان؟ قال: نعم يا سيدي. فقال الوزير: قيِّدوه. فقيَّدوه وأعادوه إلى الصندوق، وساروا إلى أن وصلوا إلى مصر، وقد نزلوا في الزبدانية، فأمر بإخراج حسن بدر الدين من الصندوق، وأمر بإحضار نجار وقال: اصنع لهذا لعبة خشب. فقال حسن بدر الدين: وما تصنع بها؟ فقال: أصلبك عليها وأسمرك فيها، ثم أدور بك المدينة كلها. فقال: على أي شيء تفعل بي ذلك؟ فقال الوزير: على عدم إتقان طبيخك حب الرمان، كيف طبخته وهو ناقص فلفلًا؟ فقال له: وهل لكونه ناقصًا فلفلًا تصنع معي هذا كله؟ أَمَا كفاك حبسي وكل يوم تطعموني أكلةً واحدة؟ فقال له الوزير: من أجل كونه ناقصًا فلفلًا ما جزاؤك إلا القتل. فتعجَّبَ حسن بدر الدين، وحزن على روحه، وصار يتفكَّر في نفسه، فقال له الوزير: في أي شيء تتفكَّر؟ فقال له: في العقول السخيفة التي مثل عقلك، فإنه لو كان عندك عقل ما كنتَ فعلتَ معي هذه الأفعال لأجل نقص الفلفل. فقال له الوزير: يجب علينا أن نؤذيك حتى لا تعود لمثله. فقال حسن بدر الدين: إن الذي فعلتَه معي أقل شيء فيه أذيتي. فقال: لا بد من صلبك. وكل هذا والنجار يصلح الخشب، وهو ينظر إليه، ولم يزالوا كذلك إلى أن أقبل الليل، فأخذه عمه ووضعه في الصندوق، وقال: في غدٍ يكون صلبك.

ثم صبر عليه حتى عرف أنه نام، فقام وركب وأخذ الصندوق قدامه، ودخل المدينة، وسار إلى أن دخل بيته، ثم قال لابنته ست الحسن: الحمد لله الذي جمع شملك بابن عمك، قومي وافرشي البيت مثل فرشه ليلةَ الجلاء. فأمرَتِ الجواري بذلك، فقمن وأوقدن الشمع، وقد أخرج الوزير الورقة التي كتب فيها أمتعة البيت، ثم قرأها، وأمر أن يضعوا كل شيء في مكانه، حتى إن الرائي إذا رأى ذلك لا يشك في أنها ليلة الجلاء بعينها، ثم إن الوزير أمر أن يحطَّ عمامة حسن بدر الدين في مكانها الذي حطَّها فيه بيده، وكذلك السروال، والكيس الذي تحت الطراحة، ثم إن الوزير أمر ابنته أن تتحف نفسها كما كانت ليلة الجلاء، وتدخل المخدع، وقال لها: إذا دخل عليك ابن عمك فقولي له: قد أبطأتَ عليَّ في دخولك بيت الخلاء، ودَعِيه يبيت عندك، وتحدَّثي معه إلى النهار، وكتب هذا التاريخ.

ثم إن الوزير أخرج بدر الدين من الصندوق، بعد أن فكَّ القيدَ من رجلَيْه، وخلع ما عليه من الثياب، وصار بقميص النوم، وهو رفيع من غير سروال، كل هذا وهو نائم لا يعلم بذلك، ثم انتبه بدر الدين من النوم فوجد نفسه في دهليز نيِّر، فقال في نفسه: هل أنا في أضغاث أحلام أم في اليقظة؟ ثم قام بدر الدين فمشى قليلًا إلى باب ثانٍ ونظر، وإذا هو في البيت الذي انجلت فيه العروسة، ورأى المخدع والسرير، ورأى عمامته وحوائجه، فلما نظر ذلك بُهِتَ، وصار يقدِّم رجلًا ويؤخِّر رجلًا وقال في نفسه: هل هذا في المنام أم في اليقظة؟ وصار يمسح جبينه ويقول وهو متعجب: والله إن هذا مكان العروسة التي انجلَتْ فيه عليَّ، فإني أنا قد كنتُ في صندوق.

فبينما هو يخاطب نفسه، وإذا بستِّ الحُسْن رفعت طرف الناموسية، وقالت له: يا سيدي، أَمَا تدخل؟ فإنك أبطأتَ عني في بيت الخلاء. فلما سمع كلامها ونظر إلى وجهها، ضحك وقال: إن هذا أضغاث أحلام. ثم دخل وتنهَّدَ وتفكَّرَ فيما جرى له، وتحيَّرَ في أمره، وأشكلت عليه قضيته، ولما رأى عمامته وسرواله والكيس الذي فيه الألف دينار، قال: الله أعلم أني في أضغاث أحلام. وصار من فرط التعجُّب متحيرًا، فعند ذلك قالت له ست الحسن: ما لي أراكَ متعجِّبًا متحيِّرًا، ما كنتَ هكذا في أول الليل؟ فضحك وقال: كم عامًا لي غائبًا عنك؟ فقالت له: سلامتك اسم الله حواليك، أنت إنما خرجتَ إلى الكنيف لتقضي حاجةً وترجع، فأي شيء جرى في عقلك؟ فلما سمع بدر الدين ذلك ضحك، وقال لها: صدقتِ، ولكنني لمَّا خرجتُ من عندك غلبني النوم في بيت الراحة، فحلمتُ أني كنتُ طباخًا في دمشق، وأقمتُ بها عشر سنين، وكأنه جاءني صغير من أولاد الأكابر، ومعه خادم وحصل من أمره كذا وكذا.

ثم إن حسن بدر الدين مسح بيده على جبينه، فرأى أثر الضرب عليه، فقال: والله يا سيدتي كأنه حق؛ لأنه ضربني على جبيني فشجَّه، فكأنه في اليقظة. ثم قال: لعل هذا المنام حصل حين تعانقتُ أنا وأنت ونمنا، فرأيتُ في المنام كأني سافرت إلى دمشق بلا طربوش ولا عمامة ولا سروال، وعملت طباخًا. ثم بُهِتَ ساعةً وقال: والله كأني رأيتُ أني طبخت حب رمان وفلفله قليل، والله ما كأني إلا نمتُ في بيت الراحة، فرأيت هذا كله في المنام. فقالت له ست الحسن: بالله عليك، أي شيء رأيتَه زيادةً على ذلك؟ فحكى لها جميع ما رآه، ثم قال: والله لولا أني انتبهتُ لَكانوا صلبوني على لعبة خشب. فقالت له: على أي شيء؟ فقال: على قلة الفلفل في حب الرمان، ورأيتُ كأنهم أخرجوا دكاني، وكسروا مواعيني، وحطوني في صندوق، وجاءوا بالنجار ليصنع لي لعبةً من خشب؛ لأنهم أرادوا صلبي عليها، فالحمد لله الذي جعل لي ذلك كله في المنام ولم يجعله في اليقظة. فضحكَتْ ست الحسن وضمَّتْه إلى صدرها، وضمَّها إلى صدره، ثم تذكَّرَ وقال: والله ما كأنه إلا في اليقظة، فأنا ما عرفتُ أي شيء الخبر، ولا حقيقة الحال. ثم إنه نام وهو متحير في أمره، فتارةً يقول: رأيتُه في المنام. وتارةً يقول: رأيته في اليقظة. ولم يزل كذلك إلى الصباح، ثم دخل عليه عمُّه الوزير شمس الدين فسلَّم عليه، فنظر له حسن بدر الدين وقال: بالله عليك أَمَا أنتَ الذي أمرتَ بتكتيفي وتسمير دكاني من شأن حب الرمان لكونه قليلَ الفلفل؟

فعند ذلك قال الوزير: اعلم يا ولدي أنه ظهر الحق وبان ما كان مختفيًا، أنت ابن أخي، وما فعلتُ ذلك حتى تحقَّقْتُ أنك الذي دخلتَ على ابنتي تلك الليلة، وما تحقَّقْتُ ذلك حتى رأيتُكَ عرفتَ البيتَ، وعرفتَ عمامتَك وسروالَك وذهبَك والورقتين؛ التي كتبتها بخطك، والتي كتبها والدك أخي، فإني ما رأيتُكَ قبل ذلك، وما كنتُ أعرفك. وأما أمك فإني جئتُ بها معي من البصرة. ثم رمى نفسه عليه وبكى. فلما سمع حسن بدر الدين كلامَ عمه، تعجَّبَ غايةَ العجب، وعانَقَ عمه وبكى من شدة الفرح، ثم قال له الوزير: يا ولدي، إن سبب ذلك كله ما جرى بيني وبين والدك. وحكى له جميع ما جرى بينه وبين أخيه، وأخبره بسبب سفر والده إلى البصرة، ثم إن الوزير أرسل إلى عجيب، فلما رآه والده قال: هذا هذا الذي ضربني بالحجر. فقال الوزير: هذا ولدك. فعند ذلك رمى نفسه عليه، وأنشد هذه الأبيات:

وَلَقَدْ بَكَيْتُ عَلَى تَفَرُّقِ شَمْلِنَا        زَمَنًا وَفَاضَ الدَّمْعُ مِنْ أَجْفَانِي

وَنَذَرْتُ إِنْ جَمَعَ الْمُهَيْمِنُ شَمْلَنَا        مَا عُدْتُ أَذْكُرُ فُرْقَةً بِلِسَانِي

هَجَمَ السُّرُورُ عَلَيَّ حَتَّى إِنَّهُ        مِنْ فَرْطِ مَا قَدْ سَرَّنِي أَبْكَانِي

فلما فرغ من شعره التفتَتْ إليه والدتُه، وألقَتْ روحَها عليه، وأنشدَتْ هذين البيتين:

الدَّهْرُ أَقْسَمَ لَا يَزَالُ مُكَدِّرِي        حَنَثَتْ يَمِينُكَ يَا زَمَانُ فَكَفِّرِي

السَّعْدُ وَافَى وَالْحَبِيبُ مُسَاعِدِي        فَانْهَضْ إِلَى دَاعِي السُّرُورِ وَشَمِّرِي

ثم إن والدته حكت له جميعَ ما وقع لها بعده، وحكى لها جميعَ ما قاساه، فشكروا الله على جمْعِ شملهم ببعضهم، ثم إن الوزير طلع إلى السلطان، وأخبره بما جرى له، فتعجَّبَ وأمر أن يُؤرَّخ ذلك في السجلات ليكون حكايةً على مَمَرِّ الأوقات، ثم إن الوزير أقام مع ابن أخيه وابنته وابنهما وزوجة أخيه في ألذ عيشٍ إلى أن أتاهم هادم اللذات، ومفرِّق الجماعات.

وهذا يا أمير المؤمنين ما جرى للوزير شمس الدين وأخيه نور الدين. فقال الخليفة هارون الرشيد: واللهِ إن هذا لَشيءٌ عجاب. ووهب للشاب سرية من عنده، ورتَّبَ له ما يعيش به، وصار ممَّن ينادمه.

ثم إن البنت قالت: وما هذا بأعجب من حكاية الخياط والأحدب واليهودي والمباشر والنصراني فيما وقع لهم. قال الملك: وما حكايتهم؟

 

حكاية الأحدب والنصراني والمباشر واليهودي والخياط

 

حكاية الأحدب

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنه كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان في مدينة الصين رجل خياط مبسوط الرزق، يحب اللهو والطرب، وكان يخرج هو وزوجته في بعض الأحيان يتفرجان على غرائب المنتزهات، فخرجَا يومًا من أول النهار، ورجعا آخِرَه إلى منزلهما عند المساء، فوجدَا في طريقهما رجلًا أحدبَ رؤيتُه تُضحِك الغضبان، وتُزِيل الهمَّ والأحزان، فعند ذلك تقدَّمَ الخياطُ هو وزوجته يتفرجان عليه، ثم إنهما عزمَا عليه أن يروح معهما إلى بيتهما لينادمهما تلك الليلة، فأجابهما إلى ذلك ومشى معهما إلى البيت، فخرج الخياط إلى السوق، وكان الليل قد أقبل فاشترى سمكًا مقليًّا وخبزًا وليمونًا، وحلاوةً يتحلُّون بها، ثم رجع وحطَّ السمك قدام الأحدب وجلسوا يأكلون، فأخذت امرأة الخياط جزلة سمك كبيرة ولقمتها للأحدب، وسدت فمه بكفها، وقالت: والله ما تأكلها إلا دفعةً واحدة في نفَسٍ واحد، ولا أمهلك حتى تمضغها. فابتلعها وكان فيها شوكة قوية فتصلَّبَتْ في حلْقِه لأجل انقضاء أجله، فمات. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 25﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن امرأة الخياط لما لقمتِ الأحدبَ جزلة السمك فمات لانقضاء أجله في وقته، فقال الخياط: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، هذا المسكين ما كان موته إلا هكذا على أيدينا! فقالت المرأة: وما هذا التواني، أَمَا سمعتَ قول الشاعر:

مَا لِي أُعَلِّلُ نَفْسِي بِالْمُحَالِ عَلَى        أَمْرٍ يَكُونُ بِهِ هَمٌّ وَأَحْزَانُ

مَاذَا الْقُعُودُ عَلَى نَارٍ وَمَا خَمَدَتْ        إِنَّ الْقُعُودَ عَلَى النِّيرَانِ خُسْرَانُ

فقال لها زوجها: وما أفعله؟ قالت: قُمْ واحمله في حضنك، وانشر عليه فوطة حرير، وأخرج أنا قدامك وأنت ورائي في هذه الليلة، وقُلْ: هذا ولدي وهذه أمه، ومرادنا أن نؤديه إلى الطبيب ليداويه. فلما سمع الخياط هذا الكلامَ، قام وحمل الأحدب في حضنه، وزوجته تقول: يا ولدي، سلامتك، أين محل وجعك؟ وهذا الجدري كان لك في أي مكان؟ فكلُّ مَن رآهما يقول: معهما طفل مصاب بالجدري. ولم يزالَا سائرين وهما يسألان عن منزل الطبيب حتى دلُّوهما على بيت طبيب يهودي، فقرعَا الباب فنزلَتْ لهما جاريةٌ سوداء، وفتحتِ البابَ ونظرَتْ، وإذا بإنسان حاملٍ صغيرًا وأمه معه، فقالت الجارية: ما خبركم؟ فقالت امرأة الخياط: معنا صغير مرادنا أن ينظره الطبيب، فخذي هذا الربع دينار، وأعطيه لسيدك ودعيه ينزل ليرى ولدي، فقد لحقه ضعف. فطلعت الجارية، ودخلت زوجة الخياط داخل العتبة وقالت لزوجها: دَعِ الأحدب هنا ونفوز بأنفسنا. فأوقفه الخياط، وأسنده إلى الحائط، وخرج هو وزوجته، وأما الجارية فإنها دخلت على اليهودي وقالت له: في أسفل البيت ضعيف مع امرأة ورجل، وقد أعطياني ربع دينار لك، وتصف لهما ما يوافقه.

فلما رأى اليهودي الربعَ دينار فرح، وقام عاجلًا، ونزل في الظلام، فأول ما نزل عثرت رجله في الأحدب وهو ميت، فقال: يا للعزيز، يا للمولى، والعشر كلمات! يا لهارون ويوشع بن نون! كأني عثرتُ في هذا المريض، فوقع إلى أسفل فمات، فكيف أخرج بقتيلي من بيتي؟ فحمله وطلع به من حوش البيت إلى زوجته، وأعلمها بذلك، فقالت له: وما قعودك ها هنا؟! فإنْ قعدتَ هنا إلى طلوع النهار راحت أرواحنا، فأنا وأنت نطلع به السطح ونرميه في بيت جارنا المسلم؛ فإنه رجل مباشر على مطبخ السلطان، وكثيرًا ما تأتي القطط في بيته وتأكل ممَّا فيه من الأطعمة والفئران، وإنِ استمر فيه ليلة تنزل عليه الكلاب من السطوح وتأكله جميعه. فطلع اليهودي وزوجته وهما حاملان الأحدب، وأنزلاه بيدَيْه ورجلَيْه إلى الأرض، وجعلاه ملاصقًا للحائط، ثم نزلَا وانصرفَا، ولم يستقر نزول الأحدب إلا والمباشِر قد جاء إلى البيت وفتحه وطلع البيت ومعه شمعة مضيئة، فوجد ابن آدم واقفًا في الزاوية في جانب المطبخ، فقال ذلك المباشر: ما هذا؟ والله إن الذي يسرق حوائجنا، ما هو إلا ابن آدم فيأخذ ما وجده من لحم أو دهن، ولو خبأته من القطط والكلاب؛ وإنْ قتلتُ قطط الحارة وكلابها جميعًا لا يفيد؛ لأنه ينزل من السطوح. ثم أخذ مطرقة عظيمة ووكزه بها فصار عنده، ثم ضربه بها على صدره فوقع، فوجده ميتًا، فحزن وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وخاف على نفسه وقال: لعن الله الدهن واللحم وهذه الليلة، كيف فرغَتْ منية ذلك الرجل على يدي؟ ثم نظر إليه فإذا هو أحدب، فقال: أَمَا يكفي أنك أحدب حتى تكون حراميًّا، وتسرق اللحم والدهن؟! يا ستَّار، استرني بسترك الجميل.

ثم حمله على أكتافه، ونزل به من بيته في آخر الليل، وما زال سائرًا به إلى أول السوق، فأوقفه بجانب دكان في رأس عطفة وتركه وانصرف، وإذا بنصراني وهو سمسار السلطان، وكان سكرانَ، فخرج يريد الحمام فقال له سكره: إن المسبح قريب. فما زال يمشي ويتمايل حتى قرب من الأحدب، وجعل يريق الماء قباله، فلاحت منه التفاته فوجد واحدًا واقفًا، وكان النصراني قد خطفوا عمامته في أول الليل، فلما رأى الأحدب واقفًا اعتقد أنه يريد خطف عمامته، فطبق كفه ولكم الأحدب على رقبته، فوقع في الأرض، وصاح النصراني على حارس السوق، ثم نزل على الأحدب من شدة سكره ضربًا، وصار يخنقه خنقًا، فجاء الحارس فوجد النصراني باركًا على المسلم وهو يضربه، فقال الحارس: قُمْ عنه. فقام فتقدَّمَ إليه الحارس فوجده ميتًا، فقال: كيف يقتل النصراني مسلمًا؟ ثم قبض على النصراني وكتَّفَه، وجاء به إلى بيت الوالي، والنصراني يقول في نفسه: يا مسيح، يا عذراء، كيف قتلتُ هذا؟ وما أسرع ما مات في لكمة، قد راحت السكرة وجاءت الفكرة.

ثم إن الأحدب والنصراني باتا في بيت الوالي، وأمر الوالي أن يُنادَى على السياف، ونصب للنصراني خشبة وأوقفه تحتها، وجاء السياف ورمى في رقبة النصراني الحبل، وأراد أن يعلقه، وإذا بالمباشر قد شَقَّ الناس، فرأى النصراني وهو واقف تحت المشنقة، ففسح الناس وقال للسياف: لا تفعل، أنا الذي قتلتُه. فقال له الوالي: لأي شيء قتلتَه؟ قال: إني دخلتُ الليلةَ بيتي فرأيته نزل من السطح، وسرق مصالحي فضربته بمطرقة على صدره فمات، فحملته وجئتُ به إلى السوق، وأوقفته في موضع كذا في عطفة كذا. ثم قال المباشِر: ما كفاني أني قتلتُ مسلمًا حتى يُقتَل بسببي نصراني! فلا تشنق غيري. فلما سمع الوالي كلامَ المباشِر أطلق النصراني السمسار، وقال للسياف: اشنق هذا باعترافه. فأخذ الحبل من رقبة النصراني، ووضعه في رقبة المباشِر، وأوقفه تحت الخشبة، وأراد أن يعلِّقه، وإذا باليهودي الطبيب قد شقَّ الناس، وصاح على السياف وقال له: لا تفعل، فما قتله إلا أنا؛ وذلك أنه جاءني في بيتي ليتداوى، فنزلتُ إليه فعثرتُ فيه برجلي فمات، فلا تقتل المباشِرَ، واقتلني.

فأمر الوالي بقتل اليهودي الطبيب، فأخذ السيافُ الحبلَ من رقبة المباشِر، ووضعه في رقبة اليهودي الطبيب، وإذا بالخياط جاء وشقَّ الناس، وقال للسياف: لا تفعل، فما قتله إلا أنا، وذلك أني كنت بالنهار أتفرج، وجئت وقت العشاء فلقيتُ هذا الأحدب سكران ومعه دف وهو يغني بفرحة، فوقفت أتفرج عليه، وجئت به إلى بيتي واشتريت سمكًا وقعدنا نأكل، فأخذَتْ زوجتي قطعةَ سمك ولقمةً ودستهما في فمه، فزور فمات لوقته، فأخذته أنا وزوجتي وجئنا به لبيت اليهودي، فنزلت الجارية وفتحت لنا الباب، فقلت لها: قولي لسيدك إن بالباب امرأة ورجلًا ومعهما ضعيف تعال انظره وصِفْ له دواءً. وأعطيتها ربع دينار، فطلعتْ لسيدها، وأسندتُ الأحدبَ إلى جهة السلم، ومضيت أنا وزوجتي، فنزل اليهودي فعثر فيه فظن أنه قتله. ثم قال الخياط لليهودي: أصحيح هذا؟ قال: نعم. والتفت الخياط للوالي، وقال له: أطلق اليهودي واشنقني. فلما سمع الوالي كلامه تعجَّبَ من أمر الأحدب، وقال: إن هذا أمر يُؤرَّخ في الكتب. ثم قال للسياف: أطلق اليهودي، واشنق الخياط باعترافه. فقدَّمَه السياف وقال: هل نقدِّم هذا ونؤخِّر هذا، ولا نشنق واحدًا؟ ثم وضع الحبل في رقبة الخياط.

فهذا ما كان من أمر هؤلاء، وأما ما كان من أمر الأحدب، فقيل إنه كان مسخرة للسلطان، وكان السلطان لا يقدر أن يفارقه، فلما سكر الأحدب غاب عنه تلك الليلة، وثاني يوم إلى نصف النهار، فسأل عنه بعض الحاضرين فقالوا له: يا مولانا، طلع به الوالي وهو ميت، وأمر بشنق قاتله، فنزل الوالي ليشنق القاتل، فحضر له ثانٍ وثالث، وكلٌّ يقول: ما قتله إلا أنا، وكل واحد يذكر للوالي سببَ قتله له. فلما سمع الملك هذا الكلامَ صرخ على الحاجب وقال له: انزل إلى الوالي، وَأْتِني بهم جميعًا. فنزل الحاجب فوجد السياف كاد أن يقتل الخياط، فصرخ عليه الحاجب وقال: لا تفعل، وأَعْلِمِ الواليَ أن القضية بلغت الملك. ثم أخذه وأخذ الأحدب معه محمولًا، والخياط واليهودي والنصراني والمباشِر، وطلع بالجميع إلى الملك، فلما تمثَّلَ الوالي بين يديه قبَّلَ الأرض، وحكى له جميع ما جرى من الجميع، وليس في الإعادة إفادة، فلما سمع الملك هذه الحكاية تعجَّبَ وأخذه الطرب، وأمر أن يُكتَب ذلك بماء الذهب، وقال للحاضرين: هل سمعتم مثل قصة هذا الأحدب؟ فعند ذلك تقدَّمَ النصراني، وقال: يا ملك الزمان، إن أذنتَ لي حدَّثْتُكَ بشيء جرى لي، وهو أعجب وأغرب وأطرب من قصة الأحدب. فقال الملك: حدِّثنا بما عندك.

 

حكاية النصراني

فقال النصراني: اعلم يا ملك الزمان أني لما دخلتُ تلك الديار أتيتُ بمتجر، وأوقفني المقدور عندكم، وكان مولدي بمصر، وأنا من قبطها، وتربَّيْتُ بها، وكان والدي سمسارًا، فلما بلغتُ مبلغَ الرجال توفي والدي، فعملت سمسارًا مكانه، فبينما أنا قاعد يومًا من الأيام، وإذا بشاب أحسن ما يكون، وعليه أفخر ملبوس، وهو راكب حمارًا، فلما رآني سلَّم عليَّ، فقمتُ إليه تعظيمًا له، فأخرج منديلًا وفيه قدر من السمسم، وقال: كَمْ يساوي الإردبُّ من هذا؟ فقلت له: مائة درهم. فقال لي: خذ التراسين والكيالين، واعمد إلى خان الجوالي في باب النصر تجدني فيه. وتركني ومضى، وأعطاني السمسم بمنديله الذي فيه العينة، فدرتُ على المشترين، فبلغ ثمن كل أردبٍّ مائةً وعشرين درهمًا، فأخذت معي أربعة تراسين، ومضيت إليه فوجدتُه في انتظاري، فلما رآني قام إلى المخزن وفتحه، فكيَّلناه فجاء جميع ما فيه خمسين إردبًّا، فقال الشاب: لك في كل إردبٍّ عشرة دراهم سمسرة، واقبض الثمن واحفظه عندك، وقدر الثمن خمسة آلاف، لك منها خمسمائة، ويبقى لي أربعة آلاف وخمسمائة، فإذا فرغ بيع حواصلي جئتُ إليك وأخذتها. فقلت له: الأمر كما تريد. ثم قبَّلْتُ يديه، ومضيتُ من عنده، فحصل لي في ذلك اليوم ألف درهم، وغاب عني شهرًا، ثم جاء وقال لي: أين الدراهم؟ فقلتُ: ها هي حاضرة. فقال: احفظها حتى أجيء إليك فآخذها. فقعدت أنتظره فغاب عني شهرًا، ثم جاء وقال لي: أين الدراهم؟ فقمتُ وسلَّمْتُ عليه وقلت له: هل لك أن تأكل عندنا شيئًا؟ فأبى وقال لي: احفظ الدراهم حتى أمضي وأجيء فآخذها منك. ثم ولَّى فقمتُ وأحضرتُ له الدراهم، وقعدتُ أنتظره، فغاب عني شهرًا، ثم جاء وقال: بعد هذا اليوم آخذها منك. ثم ولَّى فقمتُ وأحضرت له الدراهم، وقعدت أنتظره، فغاب عني شهرًا، فقلت في نفسي: إن هذا الشاب كامل السماحة. ثم بعد الشهر جاء وعليه ثياب فاخرة، وهو كالقمر ليلة البدر وكأنه قد خرج من الحمام، ووجهه كالقمر، وهو بخد أحمر وجبين أزهر وشامة كأنها قرص عنبر، وفي مثل ذلك قال الشاعر:

الْبَدْرُ وَالشَّمْسُ فِي بُرْجٍ قَدِ اجْتَمَعَا        فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالْإِقْبَالِ قَدْ طَلَعَا

وَزَادَ حُسْنَهُمَا لِلنَّاظِرِينَ هَوًى        فَيَا لَهُ عِنْدَمَا دَاعِي السُّرُورِ دَعَا

فِي الْحُسْنِ وَالظَّرْفِ قَدْ زَادَا وَقَدْ كَمُلَا        إِلَيْهِمَا الرُّوحُ رَاحَتْ وَالْفُؤَادُ سَعَى

تَبَارَكَ اللهُ مَخْلُوقَاتُهُ عَجَبٌ        مَا شَاءَ رَبُّ الْعُلَا فِي خَلْقِهِ صَنَعَا

فلما رأيتُه قبَّلتُ يدَيْه ودعوت له، وقلتُ له: يا سيدي، أَمَا تقبض دراهمك؟ فقال: مهلًا عليَّ حتى أفرغ من قضاء مصالحي، وآخذها منك. ثم ولَّى فقلتُ في نفسي: والله إذا جاء لَأضيِّفنه لكوني انتفعتُ بدراهمه، وحصل لي منها مال الكثير، فلما كان آخِر السنة جاء وعليه بدلة أفخر من الأولى، فحلفتُ عليه أن ينزل عندي ويضيفني، فقال لي: بشرط أن ما تنفقه من مالي الذي عندك. قلتُ: نعم. وأجلستُه ونزلتُ هيَّأتُ ما ينبغي من الأطعمة والأشربة وغير ذلك، وأحضرتُه بين يدَيْه، وقلت له: باسم الله. فتقدَّمَ إلى المائدة، ومد يده الشمال، وأكل معي، فتعجَّبْتُ منه، فلما فرغنا غسل يده وناولتُه ما يمسحها به، وجلسنا للحديث فقلت: يا سيدي، فرِّجْ عني كربةً، لأيِّ شيء أكلتَ بيدك الشمال، لعل في يدك اليمين شيئًا يؤلمك؟ فلما سمع كلامي أنشد هذين البيتين:

خَلِيلِيَ لَا تَسْأَلْ عَلَى مَا بِمُهْجَتِي        مِنَ اللَّوْعَةِ الْحَرَّى فَتَظْهَرَ أَسْقَامُ

وَمَا عَنْ رِضًا فَارَقْتُ سَلْمَى مُعَوِّضًا        بَدِيلًا وَلَكِنْ لِلضَّرُورَةِ أَحْكَامُ

ثم أخرج يده من كمه، وإذا هي مقطوعة زندًا بلا كف، فتعجبت من ذلك، فقال لي: لا تعجب، ولا تقل في خاطرك إني أكلتُ معك بيدي الشمال عجبًا، ولكن لقطع يدي اليمين سبب من العجب. فقلت له: وما سبب ذلك؟ فقال: اعلم أني من بغداد، ووالدي من أكابرها، فلما بلغت مبلغ الرجال سمعت السياحين والمسافرين والتجار يتحدثون بالديار المصرية، فبقي ذلك في خاطري حتى مات والدي، فأخذت أموالًا كثيرًا، وهيَّأت متجرًا من قماش بغدادي وموصلي، ونحو ذلك من البضائع النفيسة، وحزمت ذلك وسافرت من بغداد، وكتب الله السلامة لي حتى دخلت مدينتكم هذه، ثم بكى وأنشد هذه الأبيات:

قَدْ يَسْلَمُ الْأَكْمَهُ مِنْ حُفْرَةٍ        يَقَعُ فِيهَا الْبَاصِرُ النَّاظِرُ

وَيَسْلَمُ الْجَاهِلُ مِنْ لَفْظَةٍ        يَهْلَكُ فِيهَا الْعَالِمُ الْمَاهِرُ

وَيُعْسِرُ الْمُؤْمِنُ فِي رِزْقِهِ        وَيُرْزَقُ الْكَافِرُ الْفَاجِرُ

لَا حِيلَةٌ لِلْمَرْءِ فِي فِعْلِهِ        فَفِعْلُهُ قَدَّرَهُ الْقَادِرُ

فلما فرغ من شعره قال: فدخلت مصر، ونزَّلت القماش في خان سرور، وفككت أحمالي وأدخلتها، وأعطيت الخادم دراهم ليشتري لنا بها شيئًا نأكله، ونِمت قليلًا، فلما قمت ذهبت بين القصرين، ثم رجعت وبت ليلتي، فلما أصبحت فتحت رزمة من القماش، وقلت في نفسي: أقوم لأشق في بعض الأسواق، وأنظر الحال. فأخذتُ بعضَ القماش، وحملتُه لبعض غلماني، وسرتُ حتى وصلت قيسرية جرجس، فاستقبلني السماسرة، وكانوا علموا بمجيئي، فأخذوا مني القماش، ونادوا عليه فلم يبلغ ثمنُه رأسَ ماله، فقال لي شيخ الدلَّالين: يا سيدي، أنا أعرف لك شيئًا تستفيد به، وهو أن تعمل مثل ما يعمل التجار، فتبيع متجرك إلى مدة معلومة بكاتب وشاهد وصيرفي، وتأخذ ما تحصَّل من ذلك في كل يوم خميس وإثنين قدرًا، فتكسب الدراهم كل درهم اثنين، وزيادة على ذلك تتفرج على مصر ونيلها. فقلت: هذا رأي سديد.

فأخذت معي الدلالين، وذهبت إلى الخان، فأخذوا القماش إلى القيسرية، فبعته إلى التجار، وكتبت عليهم وثيقة ودفعت الوثيقة إلى الصيرفي، وأخذت عليه وثيقة بذلك، ورجعت إلى الخان، وأقمت أيامًا كل يوم أفطر على قدح من الشراب، وأحضر اللحم الضاني والحلويات، حتى دخل الشهر الذي استُحِقَّت فيه الجباية، فبقيت كل خميس وإثنين أقعد على دكاكين التجار، ويمضي الصيرفي والكاتب فيجيئان بالدراهم من التجار ويأتياني بها، إلى أن دخلت الحمام يومًا من الأيام، وخرجت إلى الخان، ودخلت موضعي، وأفطرت على قدح من الشراب، ثم نمت وانتبهت، فأكلت دجاجةً وتعطَّرْتُ، وذهبت إلى دكان رجل تاجر يقال له بدر الدين البستاني، فلما رآني رحَّب بي، وتحدث معي ساعة في دكانه، فبينما نحن كذلك وإذا بامرأة جاءت وقعدت بجانبي، وعليها عصابة مائلة، وتفوح منها روائح الطيب، فسلبت عقلي بحسنها وجمالها، ورفعَتِ الإزارَ فنظرتُ إلى أحداق سود، ثم سلَّمَتْ على بدر الدين فردَّ عليها السلام، ووقف وتحدَّث معها، فلما سمعت كلامها تمكَّنَ حبُّها من قلبي، فقالت لبدر الدين: هل عندك تفصيلة من القماش المنسوج من خالص الذهب؟ فأخرج لها تفصيلة، فقالت للتاجر: هل آخذها وأذهب، ثم أرسل إليك ثمنها؟ فقال لها التاجر: لا يمكن يا سيدتي؛ لأن هذا صاحب القماش، وله عليَّ قسط. فقالت: ويلك! إن عادتي أن آخذ منك كل قطعة قماش بجملة دراهم، وأُربِحك فيها فوق ما تريد، ثم أرسل إليك ثمنها. فقال: نعم، ولكني مضطر إلى الثمن في هذا اليوم. فأخذت التفصيلة ورمته بها في صدره، وقالت: إن طائفتكم لا تعرف لأحد قدرًا. ثم قامت مولية، فظننتُ أن روحي راحت معها، فقمت ووقفت، وقلت لها: يا سيدتي، تصدَّقي عليَّ بالالتفات، وارجعي بخطواتك الكريمة. فرجعت وتبسَّمت وقالت: لأجلك رجعت. وقعدَتْ قصادي على الدكان، فقلت لبدر الدين: هذه التفصيلة كم ثمنها عليك؟ قال: ألف ومائة درهم. فقلت له: ولك مائة درهم فائدة. فهات ورقة فأكتب لك فيها ثمنها. فأخذتُ التفصيلة منه، وكتبتُ له ورقة بخطي، وأعطيتها التفصيلة، وقلتُ لها: خذي أنت وروحي، وإن شئتِ هاتي ثمنها إليَّ في السوق، وإن شئتِ هي ضيافتك مني. فقالت: جزاك الله خيرًا، ورزقك مالي، وجعلك بعلي.

فتقبَّلَ الله الدعوة، وقلتُ لها: يا سيدتي، اجعلي هذه التفصيلة لك، ولك أيضًا مثلها، ودعيني أنظر وجهكِ. فكشفَتِ القناعَ عن وجهها، فلما نظرت وجهها نظرة أعقبتني ألف حسرة، وتعلق قلبي بمحبتها، فصرت لا أملك عقلي، ثم أرخت القناع وأخذت التفصيلة، وقالت: يا سيدي، لا توحشني. وقد ولتْ وقعدتُ في السوق إلى بعد العصر، وأنا غائب العقل، وقد تحكَّمَ الحبُّ عندي، فمن شدة ما حصل لي من الحب سألت التاجر عنها حين أردتُ القيام، فقال لي: إن هذه صاحبة مال، وهي بنت أمير، مات والدها وخلَّف لها مالًا كثيرًا. فودَّعتُه وانصرفتُ، وجئتُ إلى الخان فقدَّمَ إليَّ العشاء، فتذكرتُها فلم آكل شيئًا، ونمت فلم يأتني نوم، فسهرت إلى الصباح، ثم قمتُ فلبست بدلةً غير التي كانَتْ عليَّ، وشربتُ قدحًا من الشراب، وفطرتُ على شيء قليل، وجئتُ إلى دكان التاجر فسلَّمتُ عليه وجلست عنده، فجاءت الصبية وعليها بدلة أفخر من الأولى، ومعها جارية، فجلسَتْ وسلَّمَتْ عليَّ دون بدر الدين، وقالت لي بلسان فصيح ما سمعتُ أعذب ولا أحلى منه: أرسِلْ معي مَن يقبض الألف والمائتي درهم ثمنَ التفصيلة. فقلتُ لها: ولأي شيء العجلة؟ فقالت: لا عدمناك. وناولتني الثمن، وقعدت أتحدَّث معها، فأومأت إليها بالإشارة، ففهمت أني أريد وصالها، فقامت على عجل منها، واستوحشت مني وقلبي متعلق بها.

وخرجت أنا خارج السوق في إثرها، وإذا بجارية أتتني وقالت: يا سيدي، كلِّمْ سيدتي. فتعجبتُ وقلت: ما يعرفني هنا أحدٌ. فقالت الجارية: ما أسرع ما نسيتَها! سيدتي التي كانت اليومَ على دكان التاجر فلان. فمشيت معها إلى الصيارف، فلما رأتني أزوتني لجانبها، وقالت: يا حبيبي، وقعت بخاطري وتمكَّنَ حبك من قلبي، ومن ساعة رأيتُكَ لم يَطِبْ لي نوم ولا أكل ولا شرب. فقلت لها: عندي أضعاف ذلك، والحال يُغنِي عن الشكوى. فقالت: يا حبيبي، أجيء عندك أو تجيء عندي؟ فقلتُ لها: أنا رجل غريب، وما لي مكان يأويني إلا الخان، فإن تصدَّقْتِ عليَّ بأن أكون عندك يكمل الحظ. قالت: نعم، لكن الليلة ليلة الجمعة ما فيها شيء، إلا إن كان في غدٍ بعد الصلاة، فصَلِّ واركب حمارك، واسأل عن الحبَّانية، فإن وصلتَ فاسأل عن قاعة بركات النقيب المعروف بأبي شامة، فإني ساكنة هناك، ولا تبطئ فإني في انتظارك.

ففرحت فرحًا زائدًا، ثم افترقنا، وجئتُ للخان الذي أنا فيه، وبتُّ طول الليل سهرانَ، فما صدقت أن الفجر لاحَ حتى قمتُ وغيَّرتُ ملبوسي، وتعطَّرْتُ وتطيَّبْتُ، وأخذت معي خمسين دينارًا في منديل، ومشيت من خان مسرور إلى باب زويلة، فركبت حمارًا وقلت لصاحبه: امض بي إلى الحبانية. فمضى في أقل من لحظة، فما أسرع ما وقف على درب يقال له درب المنقري، فقلت له: ادخل الدرب، واسأل عن قاعة النقيب. فغاب قليلًا وقال: انزل. فقلت: امشِ قدامي إلى القاعة. فمشى حتى أوصلني إلى المنزل، فقلت له: في غدٍ تجيئني هنا وتوديني. فقال الحَمَّار: باسم الله. فناولته ربع دينار ذهبًا، فأخذه وانصرف، فطرقتُ البابَ فخرج لي بنتان صغيرتان، وبكران منهدتان كأنهما قمران، فقالتا: ادخل إن سيدتنا في انتظارك، لم تَنَمِ الليلةَ لولعها بك. فدخلت قاعة مغلقة بسبعة أبواب، وفي دائرها شبابيك مطلة على بستان فيه من الفواكه جميع الألوان، وبه أنهار دافقة، وطيور ناطقة، وهي مبيضة بياضًا سلطانيًّا، يرى الإنسان وجهه فيها، وسقفها مقربص بذهب، وفي دائرها طرازات مكتوبة باللازورد، قد حوت أوصافًا حسنة، وأضاءت للناظرين، وأرضها مفروشة بالرخام المجزَّع، وفي وسطها فسقية، وفي أركان تلك الفسقية الدر والجوهر مفروشة بالبسط الحرير الملونة والمراتب، فلما دخلتُ جلستُ. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 26﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب التاجر قال للنصراني: فلما دخلت وجلست لم أشعر إلا والصبية قد أقبلَتْ وعليها تاج مكلَّل بالدر والجوهر، وهي منقشة مكتبة، فلما رأتني تبسمت في وجهي، وحضنتني، ووضعتني على صدرها، وجعلت فمها على فمي، وجعلت تمص لساني، وأنا كذلك، وقالت: أصحيح أتيتَ عندي أم هذا منام؟ فقلت لها: أنا عبدك. فقالت: أهلًا ومرحبًا، واللهِ من يوم رأيتُكَ ما لذَّ لي نوم، ولا طاب لي طعام. فقلتُ: وأنا كذلك. ثم جلسنا نتحدث وأنا مطرق برأسي إلى الأرض حياءً، ولم أمكث إلا قليلًا حتى قدَّمت لي سفرةً من أفخر الألوان، من محمَّر ومرقَّق ودجاج محشي، فأكلت معها حتى اكتفينا، ثم قدَّموا إليَّ الطشت والإبريق، فغسلت يدي، ثم تطيَّبنا بماء الورد الممَسَّك، وجلسنا نتحدَّث فأنشدت هذين البيتين:

لَوْ عَلِمْنَا قُدُومَكُمْ لَفَرَشْنَا        مُهْجَةَ الْقَلْبِ مَعْ سَوَادِ الْعُيُونِ

وَوَضَعْنَا خُدُودَنَا لِلِقَاكُمْ        وَجَعَلْنَا الْمَسِيرَ فَوْقَ الْجُفُونِ

وهي تشكو إليَّ ما لاقت، وأنا أشكو إليها ما لاقيت، وتمكن حبها عندي، وهان عليَّ جميع المال، ثم أخذنا نلعب ونتهارش مع العناق والتقبيل إلى أن أقبل الليل، فقدمت لنا الجواري الطعام والمُدام، فإذا هي حضرة كاملة، فشربنا إلى نصف الليل، ثم اضطجعنا ونمنا، فنمت معها إلى الصباح، فما رأيت عمري مثل هذه الليلة، فلما أصبح الصباح قمت ورميت لها تحت الفراش المنديل الذي فيه الدنانير، وودَّعتُها وخرجتُ. فبكَتْ وقالت: يا سيدي، متى أرى هذا الوجه المليح؟ فقلتُ لها: أكون عندك وقت العشاء. فلما خرجتُ أصبتُ الحمَّار الذي جاء بي بالأمس على الباب ينتظرني، فركبتُ معه حتى وصلت خان مسرور، فنزلت وأعطيت الحمَّار نصف دينار، وقلت له: تعالَ في وقت الغروب. قال: على الرأس. فدخلت الخان وفطرت، ثم خرجت أطالب بثمن القماش، ثم رجعت وقد عملت لها خروفًا مشويًّا، وأخذت حلاوة، ثم دعوتُ الحمَّالَ، ووصفتُ له المحل، وأعطيته أجرته، ورجعت في أشغالي إلى الغروب، فجاءني الحمَّار، فأخذت خمسين دينارًا وجعلتها في منديل ودخلت، فوجدتهم مسحوا الرخام، وحلوا النحاس، وعمروا القناديل، وأوقدوا الشموع، وغرفوا الطعام، وروَّقوا الشراب، فلما رأتني رمت يديها على رقبتي، وقالت: أوحشتني. ثم قدمت الموائد، فأكلنا حتى اكتفينا، ورفعت الجواري المائدة، وقدمت المدام، فلم نَزَل في شراب وتقبيل وحظ إلى نصف الليل، فنمنا إلى الصباح، ثم قمتُ وناولتها الخمسين دينارًا على العادة، وخرجتُ من عندها، فوجدت الحمَّار فركبت إلى الخان، فنمت ساعةً ثم قمت جهزت العشاء، فعملت جوزًا ولوزًا، وتحتهم أرز مفلفل، وعملت قلقاسًا مقليًّا، ونحو ذلك، وأخذت فاكهة ونُقلًا ومشمومًا، وأرسلتها وسرت إلى البيت، وأخذت خمسين دينارًا في منديل، وخرجت ركبت مع الحمار على العادة إلى القاعة، فدخلت ثم أكلنا وشربنا ونمنا إلى الصباح، ولما قمتُ رميت لها المنديل، وركبت إلى الخان على العادة، ولم أزل على تلك الحالة مدةً إلى أن بتُّ وأصبحتُ لا أملك درهمًا ولا دينارًا، فقلت في نفسي: هذا من فعل الشيطان. وأنشدت هذه الأبيات:

فَقْرُ الْفَتَى يُذْهِبُ أَنْوَارَهُ        كَاصْفِرَارِ الشَّمْسِ عِنْدَ الْمَغِيبْ

إِنْ غَابَ لَا يُذْكَرُ بَيْنَ الْوَرَى        وَإِنْ أَتَى فَمَا لَهُ مِنْ نَصِيبْ

يَمُرُّ فِي الْأَسْوَاقِ مُسْتَخْفِيًا        وَفِي الْفَلَا يَبْكِي بِدَمْعٍ صَبِيبْ

وَاللهِ مَا الْإِنْسَانُ فِي أَهْلِهِ        إِذَا ابْتَلَى بِالْفَقْرِ إِلَّا غَرِيبْ

ثم تمشَّيْتُ إلى أن وصلتُ بين القصرين، ولا زلت أمشي حتى وصلت إلى باب زويلة، فوجدت الخلق في ازدحام، والباب مسندًا من كثرة الخلق، فرأيت بالأمر المقدر جنديًّا فزاحمته بغير اختياري، فجاءت يدي على جيبه فجسَسْتُه، فوجدت فيه صرة من داخل الجيب الذي يدي عليه، فعمدت إلى تلك الصرة فأخذتها من جيبه، فأحسَّ الجندي بأن جيبه خفَّ، فحطَّ يده في جيبه، فلم يجد شيئًا والتفَتَ نحوي ورفع يده بالدبوس، وضربني على رأسي، فسقطت على الأرض، فاحتاط بنا الناس بنا وأمسكوا لجام فرس الجندي، وقالوا: أمن أجل الزحمة تضرب هذا الشاب هذه الضربة. فصرخ عليهم الجندي وقال: هذا حرامي سارق. فعند ذلك أفقت ورأيت الناس يقولون: هذا الشاب مليح لم يأخذ شيئًا. فبعضهم يصدِّق، وبعضهم يكذِّب، وكثر القيل والقال، وجذبني الناس وأرادوا خلاصي منه، فبالأمر المقدر جاء الوالي هو وبعض الحكام في هذا الوقت، ودخلوا من الباب، فوجدوا الخلق مجتمعين عليَّ وعلى الجندي، فقال الوالي: ما الخبر؟ فقال الجندي: والله يا أمير إن هذا حرامي، وكان في جيبي كيس أزرق فيه عشرون دينارًا فأخذه وأنا في الزحام. فقال الوالي للجندي: هل كان معك أحد؟ فقال الجندي: لا. فصرخ الوالي على المقدم، وقال: أمسكه، وفتِّشْه. فأمسكني وقد زال الستر عني، فقال له الوالي: أَعْرِه من جميع ما عليه. فلما أعراني وجدوا الكيس في ثيابي، فلما وجدوا الكيس أخذه الوالي وفتحه وعَدَّه، فرأى فيه عشرين دينارًا كما قال الجندي، فغضب الوالي وصاح بأتباعه، وقال: قدِّموه. فقدَّموني بين يديه، فقال لي: يا صبي، قُلِ الحقَّ هل أنت سرقتَ هذا الكيس؟ فأطرقتُ برأسي إلى الأرض، وقلت في نفسي: إنْ قلتُ ما سرقتُه، فقد أخرجه من ثيابي، وإن قلتُ سرقتُه وقعتُ في العناء. ثم رفعت رأسي وقلتُ: نعم أخذته. فلما سمع مني الوالي هذا الكلام تعجَّبَ، ودعا الشهود فحضروا وشهدوا على منطقي هذا كله في باب زويلة، فأمر الوالي السيَّاف بقطع يدي، فقطع يدي اليمين، فرقَّ قلب الجندي، وشفع في عدم قتلي، وتركني الوالي ومضى، وصارت الناس حولي وسقوني قدح شراب، وأما الجندي فإنه أعطاني الكيس وقال: أنت شاب مليح، ولا ينبغي أن تكون لصًّا. فأخذته منه، وأنشدت هذه الأبيات:

وَاللهِ مَا كُنْتُ لِصًّا يَا أَخَا ثِقَةٍ        وَلَمْ أَكُنْ سَارِقًا يَا أَحْسَنَ النَّاسِ

لَكِنْ رَمَتْنِي صُرُوفُ الدَّهْرِ عَنْ عَجَلٍ        فَزَادَ هَمِّي وَوَسْوَاسِي وَإِفْلَاسِي

وَمَا رَمَيْتُ وَلَكِنَّ الْإِلَهَ رَمَى        سَهْمًا فَطَيَّرَ تَاجَ الْمُلْكِ عَنْ رَاسِي

فتركني الجندي وانصرف بعد أن أعطاني الكيس، وانصرفت أنا ولففت يدي في خرقة وأدخلتُها عبِّي، وقد تغيَّرت حالتي واصفرَّ لوني ممَّا جرى لي، فتمشيتُ إلى القاعة وأنا على غير استواءٍ، ورميتُ روحي على الفراش، فنظرتني الصبية متغير اللون، فقالت لي: ما وجعك وما لي أرى حالتَكَ تغيَّرَتْ؟ فقلتُ لها: رأسي توجعني، وما أنا طيب. فعند ذلك اغتاظت وتشوَّشت لأجلي، وقالت: لا تحرق قلبي يا سيدي، اقعد وارفع رأسك، وحدِّثني بما حصل لك اليوم، فقد بان لي في وجهك كلام. فقلت: دعيني من الكلام. فبكَتْ وقالت: كأنك قد فرغ غرضك مِنَّا، فإني أراك على خلاف العادة. فبكَتْ وصارت تحدِّثني وأنا لا أجيبها حتى أقبل الليل، فقدَّمت لي الطعام فامتنعتُ، وخشيت أن تراني آكل بيدي الشمال، فقلت: لا أشتهي أن آكل في هذه الساعة. فقالت: حدِّثني بما جرى لك في هذا اليوم، ولأي شيء أراك مهمومًا مكسورَ الخاطر والقلب؟ فقلتُ: في هذه الساعة أحدِّثك على مهلي. فقدَّمت لي الشراب وقالت: دونك؛ فإنه يزيل همك، فلا بد أن تشرب وتحدِّثني بخبرك. فقلت لها: إن كان ولا بد فاسقيني بيدكِ. فملأت القدح وشربته وملأَتْه وناولتني إياه، فتناولتُه منها بيدي الشمال، وفرَّتِ الدمعةُ من جفني، فأنشدتُ هذه الأبيات:

إِذَا أَرَادَ اللهُ أَمْرًا لِامْرِئٍ        وَكَانَ ذَا عَقْلٍ وَسَمْعٍ وَبَصَرْ

أَصَمَّ أُذْنَيْهِ وَأَعْمَى قَلْبَهُ        وَسَلَّ مِنْهُ عَقْلَهُ سَلَّ الشَّعَرْ

حَتَّى إِذَا أَنْفَذَ فِيهِ حُكْمَهُ        رَدَّ إِلَيْهِ عَقْلَهُ مَعَ النَّظَرْ

فلما فرغتُ من شعري تناولت القدح بيدي الشمال وبكيت، فلما رأتني أبكي صرخت صرخة قوية، وقالت: ما سبب بكائك؟ قد أحرقت قلبي، ومالك تناولت القدح بيدك الشمال؟ فقلت لها: إن بيدي حبة. فقالت: أخرجها حتى أفقعها لك. فقلت: ما هو وقت فقعها، لا تطيلي عليَّ، فما أخرجها في تلك الساعة. ثم شربتُ القدح، ولم تزل تسقيني حتى غلب السكر عليَّ، فنمتُ مكاني، فأبصرَتْ يدي بلا كفٍّ، ففتَّشَتْنِي فرأت معي الكيس الذي فيه الذهب، فدخل عليها الحزن ما لا يدخل على أحد، ولا زالت تتألَّمُ بسببي إلى الصباح، فلما أفقتُ من النوم وجدتها هيَّأَت لي مسلوقة وقدَّمَتْها، فإذا هي أربعة طيور من الدجاج، وأسقتني قدحَ شرابٍ، فأكلت وشربت، وحططْتُ الكيس وأردتُ الخروجَ، فقالت: أين تروح؟ فقلت: إلى مكان كذا لأزحزح بعض الهم عن قلبي. فقالت: لا ترحل، بل اجلس. فجلستُ، فقالت لي: وهل بلغَتْ محبتك إياي إلى أن صرفت جميع مالك عليَّ، وعدمت كفَّك؟ فأُشهِدُكَ عليَّ، والشاهد الله، أني لا أفارقك، وسترى صحةَ قولي، ولعل الله استجاب دعوتي بزواجك. وأرسلت خلف الشهود فحضروا، فقالت لهم: اكتبوا كتابي على هذا الشاب، واشهدوا أني قبضتُ المهرَ. فكتبوا كتابي عليها، ثم قالت: اشهدوا أن جميع مالي الذي في هذا الصندوق، وجميع ما عندي من المماليك والجواري لهذا الشاب. فشهدوا عليها وقبلتُ أنا التمليك، وانصرفوا بعدما أخذوا الأجرة.

ثم أخذتني من يدي، وأوقفتني على خزانةٍ، وفتحَتْ صندوقًا كبيرًا، وقالت لي: انظر هذا الذي في الصندوق. فنظرتُ فإذا هو ملآن مناديل، فقالت: هذا مالك الذي أخذتُه منك، فكلما أعطيتني منديلًا فيه خمسون دينارًا، ألفُّه وأرميه في هذا الصندوق، فخُذْ مالَك، فقد ردَّه الله عليك، وأنت اليومَ عزيزٌ، فقد جرى عليك القضاء بسببي حتى عدمت يمينك، وأنا لا أقدر على مكافأتك، ولو بذلتُ روحي لَكان ذلك قليلًا، ولك الفضل. ثم قالت لي: تسلَّمْ مالك. فتسلمتُه، ثم نقلتُ ما في صندوقها إلى صندوقي، وضممتُ مالها إلى مالي الذي كنتُ أعطيتُها إياه، وفرح قلبي وزال همي، فقمتُ قبَّلتها وسكرت معها، فقالت: لقد بذلتَ جميع مالك ويدك في محبتي، فكيف أقدر على مكافأتك؟ والله لو بذلتُ روحي في محبتِكَ لَكان ذلك قليلًا، وما أقوم بواجب حقك عليَّ.

ثم إنها كتبَتْ لي جميعَ ما تملك من ثياب بدنها وصيغتها وأملاكها بحجة، وما نامت تلك الليلة إلا مهمومة من أجلي حين حكيت لها ما وقع لي، وبتُّ معها، ثم أقمنا على ذلك أقل من شهر، وقوي بها الضعف وزاد بها المرض، وما مكثَتْ غير خمسين يومًا، ثم صارت من أهل الآخرة، فجهَّزْتُها وواريتُها في التراب، وعملتُ لها ختمات، وتصدَّقتُ عليها بجملة من المال، ثم نزلت من التربة، فرأيت لها مالًا جزيلًا وأملاكًا وعقارات، ومن جملة ذلك تلك المخازن السمسم التي بعتُ لك منها ذلك المخزن، وما كان اشتغالي عنك هذه المدة إلا لأني بعتُ بقية الحواصل، وإلى الآن لم أفرغ من قبض الثمن، فأرجو منك أنك لا تخالفني فيما أقوله لك؛ لأني أكلت زادك، فقد وهبتُكَ ثمن السمسم الذي عندك، فهذا سبب أكلي بيدي الشمال. فقلت له: لقد أحسنتَ إليَّ، وتفضَّلْتَ عليَّ. فقال لي: لا بد أن تسافر معي إلى بلادي، فإني اشتريت متجرًا مصريًّا وإسكندرانيًّا، فهل لك في مصاحبتي؟ فقلتُ: نعم. وواعدته على رأس الشهر، ثم بعت جميع ما أملك، واشتريت به متجرًا، وسافرت أنا وذلك الشاب على هذه البلاد التي هي بلادكم، فباع الشاب متجره، واشترى متجرًا عوضه من بلادكم، ومضى إلى الديار المصرية، فكان نصيبي في قعودي هذه الليلة حتى حصل ما حصل في غربتي. فهذا يا ملك الزمان ما هو أعجب من حديث الأحدب. فقال الملك: لا بد من شنقكم كلكم. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 27﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن ملك الصين لما قال: لا بد من شنقكم. فعند ذلك تقدَّمَ المباشِر إلى ملك الصين، وقال: إنْ أذنتَ لي حكيتُ لك حكايةً اتفقت لي في تلك المدة قبل أن أجد هذا الأحدب، وإن كانت أعجب من حديثه تهب لنا أرواحنا. فقال الملك: هات ما عندك.

 

حكاية المباشر

فقال: اعلم أني كنتُ تلك الليلة الماضية عند جماعة عملوا ختمة، وجمعوا الفقهاء، فلما قرأ المقرئون وفرغوا، مدوا السماط، فمن جملة ما قدَّموا زرباجة، فتقدَّمْنا لنأكل من الزرباجة، فتأخَّرَ واحد منَّا، وامتنع من الأكل منها، فحلفنا عليه فأقسم أنه لا يأكل منها، فشددنا عليه فقال: لا تشددوا عليَّ، فكفاني ما جرى لي من أكلها، ثم أنشد هذا البيت:

رَاعِ الصَّدِيقَ فَإِنْ لَمْ تَرْعَ خَاطِرَهُ        فَلَنْ تُعِينَ عَلَى إِرْجَاعِهِ الْحِيَلُ

فلما فرغنا قلنا له: بالله ما سبب امتناعك عن الأكل من هذه الزرباجة؟ فقال: لأني لا آكل منها إلا إنْ غسلتُ يدي أربعين مرة بالأشنان، وأربعين مرةً بالسعد، وأربعين مرةً بالصابون، فجملتها مائة وعشرون مرةً. فعند ذلك أمر صاحب الدعوة غلمانه، فأتوا بالماء وبالذي طلبه، فغسل يدَيْه كما ذكر، ثم تقدَّمَ وهو متكرِّه، وجلس ومد يده وهو مثل الخائف، ووضع يده في الزرباجة، وصار يأكل وهو متغصِّب، ونحن نتعجَّب منه غاية التعجب، ويده ترتعد، فنصب إبهام يده فإذا هو مقطوع، وهو يأكل بأربعة أصابع، فقلنا له: بالله عليك ما لإبهامك هكذا؟ أهو خلقة الله أم أصابه حادث؟ فقال: يا إخواني، ما هو هذا الإبهام وحده، ولكن إبهام الأخرى، وكذلك رجلاي الاثنان، ولكن انظروا. ثم كشف إبهام يده الأخرى، فوجدناها مثل اليمين، وكذلك رجلاه بلا إبهامين، فلما رأيناه كذلك ازددنا عجبًا، وقلنا له: ما بقي لنا صبر على حديثك وأخبار سبب قطع إبهامَيْ يدَيْك وإبهامَيْ رجلَيْك، وسبب غسل يدَيْك مائةً وعشرين مرة.

فقال: اعلموا أن والدي كان تاجرًا من التجار الكبار، وكان أكبر تجار مدينة بغداد في أيام الخليفة هارون الرشيد، وكان مولعًا بشرب الخمر، وسماع العود، فلما مات لم يترك شيئًا، فجهَّزته وقد عملت له ختمات، وحزنتُ عليه أيامًا وليالي، ثم فتحتُ دكانه، فما وجدتُه خلف إلا يسيرًا، ووجدتُ عليه ديونًا كثيرة، فصبَّرْتُ أصحابَ الديون، وطيَّبْتُ خواطرهم، وصرتُ أبيع وأشتري من الجمعة إلى الجمعة، وأعطي أصحاب الديون، ولا زلت على هذه الحالة مدةً إلى أن وفَّيْتُ الديون، وزدتُ على رأس مالي، فبينما أنا جالس يومًا من الأيام إذا بي رأيت صبية لم تَرَ عيني أحسنَ منها، عليها حلي وحلل فاخرة، وهي راكبة بغلة، وقدامها عبد ووراءها عبد، فأوقفَتِ البغلةَ على رأس السوق، ودخلَتْ ودخل وراءها خادم، وقال: يا سيدتي، اخرجي ولا تعلمي أحدًا، فتطلقي فينا النار. ثم حجبها الخادم، فلما نظرَتْ إلى دكاكين التجار لم تجد أفخر من دكاني، فلما وصلَتْ إلى جهتي والخادم خلفها، جلسَتْ على دكاني وسلَّمَتْ عليَّ، فما سمعتُ أحسنَ من حديثها، ولا أعذب من كلامها، ثم كشفَتْ عن وجهها، فنظرتها نظرةً أعقبتني حسرةً، وتعلَّق قلبي بمحبتها، وجعلتُ أكرِّر النظرَ إلى وجهها، وأنشدتُ هذين البيتين:

قُلْ لِلْمَلِيحَةِ فِي الْخِمَارِ الْفَاخِتِي        الْمَوْتُ حَقًّا مِنْ عَذَابِكِ رَاحَتِي

جُودِي إِلَيَّ بِزَوْرَةٍ أَحْيَا بِهَا        هَا قَدْ مَدَدْتُ إِلَى نَوَالِكِ رَاحَتِي

فلما سمعَتْ إنشادهما أجابتني بهذه الأبيات:

عَدِمْتُ فُؤَادِي فِي الْهَوَى إِنْ سَلَاكُمُ        فَإِنَّ فُؤَادِي لَا يُحِبُّ سِوَاكُمُ

وَإِنْ نَظَرَتْ عَيْنِي إِلَى غَيْرِ حُسْنِكُمُ        فَلَا سَرَّهَا بَعْدَ الْبِعَادِ لِقَاكُمُ

حَلَفْتُ يَمِينًا لَسْتُ أَسْلِي هَوَاكُمُ        وَقَلْبِي حَزِينٌ مُغْرَمٌ بِهَوَاكُمُ

سَقَانِي الْهَوَى كَأْسًا مِنَ الْحُبِّ صَافِيًا        فَيَا لَيْتَهُ لَمَّا سَقَانِي سَقَاكُمُ

خُذُوا رَمَقِي حَيْثُ اسْتَقَرَّتْ بِكُمْ نَوًى        وَأَيْنَ حَلَلْتُمْ فَادْفِنُونِي حِذَاكُمُ

وَإِنْ تَذْكُرُوا اسْمِي عِنْدَ قَبْرِي يُجِيبُكُمْ        أَنِينُ عِظَامِي عِنْدَ رَفْعِ نِدَاكُمُ

فَلَوْ قِيلَ لِي مَاذَا عَلَى اللهِ تَشْتَهِي        لَقُلْتُ رِضَا الرَّحْمَنِ ثُمَّ رِضَاكُمُ

فلما فرغَتْ من شعرها قالت: يا فتى، أعندك تفاصيل ملاح؟ فقلت: يا سيدتي، مملوكك فقير، ولكن اصبري حتى تفتح التجار دكاكينهم، وأجيء لك بما تريدينه. ثم تحدَّثْتُ أنا وإياها، وأنا غارق في بحر محبتها، تائه في عشقها، حتى فتحت التجار دكاكينهم، فقمت وأخذت لها جميع ما طلبته، وكان ثمن ذلك خمسة آلاف درهم، وناولت الخادم جميع ذلك، فأخذه الخادم وذهبَا إلى خارج السوق، فقدَّموا لها البغلة، فركبت ولم تذكر لي من أين هي، واستحيت أن أذكر لها ذلك، والتزمت الثمن للتجار وتكلَّفْتُ خمسةَ آلاف درهم، وجئتُ البيتَ وأنا سكران من محبتها، فقدَّموا لي العشاء، فأكلت لقمة، وتذكرت حُسْنَها وجمالها، فأشغلني عن الأكل، وأردتُ أن أنام فلم يجئني نوم.

ولم أزل على هذه الحالة أسبوعًا، وطالبتني التجار بأموالهم فصبَّرتهم أسبوعًا آخَر، فبعد الأسبوع أقبلَتْ وهي راكبة على البغلة ومعها خادم وعبدان، فسلَّمَتْ عليَّ وقالت: يا سيدي، أبطأنا عليك بثمن القماش، فهات الصيرفي واقبض الثمن. فجاء الصيرفي وأخرج له الطواشي الثمن فقبضته، وصرت أتحدث أنا وإياها إلى أن عمر السوق وفتحت التجار، فقالت: خذ لي كذا وكذا. فأخذتُ لها من التجار ما أرادَتْ وأخذَتْه ومضَتْ ولم تخاطبني في ثمن، فلما مضَتْ ندمتُ على ذلك، وكنتُ أخذتُ الذي طلبته بألف دينار، فلما غابت عن عيني قلت في نفسي: أي شيء هذه المحبة؟ أعطتني خمسة آلاف درهم وأخذت شيئًا بألف دينار. فخفتُ الإفلاس وضياع مال الناس، وقلت: إن التجار لم يعرفوا إلا أنا. فما كانت هذه المرأة إلا محتالةً خدعتني بحُسْنها وجمالها، ورأتني صغيرًا فضحكَتْ عليَّ ولم أسألها عن منزلها.

ولم أزل في وسواس، وطالت غيبتها أكثر من شهر، فطالبني التجار وشدَّدوا عليَّ، فعرضتُ عقاري للبيع وأشرفتُ على الهلاك، ثم قعدتُ وأنا متفكِّر، فلم أشعر إلا وهي نازلة على باب السوق ودخلت عليَّ. فلما رأيتها زالت الفكرة، ونسيت ما كنت فيه، وأقبلت تحدِّثني بحديثها الحسن، ثم قالت: هات الميزان وزن مالك. فأعطَتْني ثمنَ ما أخذته بزيادة، ثم انبسطَتْ معي في الكلام، فكدتُ أن أموت فرحًا وسرورًا، ثم قالت لي: هل أنت لك زوجة؟ فقلت: لا، إني لا أعرف امرأة. ثم بكيت، فقالت لي: ما لك تبكي؟ فقلت: من شيء خطر ببالي. ثم إني أخذت بعض دنانير، وأعطيتها للخادم، وسألته أن يتوسط في الأمر، فضحك وقال: هي عاشقة لك أكثر منك، وما لها بالقماش حاجة، وإنما هو لأجل محبتها لك، فخاطِبْها بما تريد، فإنها لا تخالفك فيما تقول. فرأتني وأنا أعطي الخادم الدنانير، فرجعت وجلست، ثم قلتُ لها: تصدَّقي على مملوك واسمحي له فيما يقول.

ثم حدَّثْتُها بما في خاطري، فأعجبها ذلك وأجابتني وقالت: هذا الخادم يأتي برسالتي، واعمل أنت بما يقوله لك الخادم. ثم قامَتْ ومضَتْ، وقمتُ سلَّمْتُ التجارَ أموالَهم، وحصل لهم الربح إلا أنا، فإنها حين ذهبَتْ حصل لي الندم من انقطاع خبرها عني، ولم أَنَمْ طولَ ليلي، فما كان إلا أيام قلائل، وجاءني خادمها، فأكرمته وسألته عنها فقال: إنها مريضة. فقلت للخادم: اشرح لي أمرها. قال: إن هذه الصبية ربَّتْها السيدة زبيدة زوجة هارون الرشيد، وهي من جواريها، وقد اشتهت على سيدتها الخروج والدخول، فأذنت لها في ذلك، فصارت تدخل وتخرج حتى صارت قهرمانة، ثم إنها حدَّثت بك سيدتها، وسألتها أن تزوِّجها بك، فقالت سيدتها: لا أفعل حتى أنظر هذا الشاب، فإن كان يشتهيك زوَّجْتُك به. ونحن نريد في هذه الساعة أن تدخل بك الدار، فإنْ دخلتَ ولم يشعر بك أحد، وصلَتْ إلى تزويجك إياها، وإن انكشَفَ أمرُكَ ضربَتْ رقبتك، فماذا تقول؟ فقلت: نعم أروح معك، وأصبر على الأمر الذي حدثتني به. فقال لي الخادم: إذا كانت هذه الليلة، فامضِ إلى المسجد الذي بنَتْه السيدةُ زبيدة على الدجلة، فصَلِّ فيه، وبِتْ هناك. فقلت: حبًّا وكرامة.

فلما جاء وقت العشاء مضيت إلى المسجد، وصليت فيه، وبِتُّ هناك، فلما كان وقت السحر رأيت الخادمين قد أقبلَا في زورق، ومعهما صناديق فارغة، فأدخلاها في المسجد وانصرفَا، وتأخَّرَ واحد منهما فتأمَّلتُه، وإذا هو الذي كان واسطة بيني وبينها، فبعد ساعة صعدت إلينا الجارية صاحبتي، فلما أقبلت قمت إليها وعانقتها، فقبَّلتني وبكت، وتحدثنا ساعة، فأخذتني ووضعتني في صندوق وأغلقَتْه عليَّ، ولم أشعر إلا وأنا في دار الخليفة، وجاء إليَّ بشيء كثير من الأمتعة بحيث يساوي خمسين ألف درهم، ثم رأيت عشرين جارية أخرى وهُنَّ نهد أبكار، وبينهن الست زبيدة، وهي لم تقدر على المشي ممَّا عليها من الحلي والحلل، فلما أقبلَتْ تفرَّقت الجواري من حواليها، فأتيتُ إليها وقبَّلْتُ الأرض بين يدَيْها، فأشارَتْ لي بالجلوس، فجلست بين يدَيْها، ثم شرعَتْ تسألني عن حالي وعن نسبي، فأجبتُها عن كل ما سألتني عنه، ففرحَتْ وقالت: والله ما خابت تربيتنا في هذه الجارية. ثم قالت لي: اعلم أن هذه الجارية عندنا بمنزلة ولد الصلب، وهي وديعة الله عندك.

فقبَّلت الأرض قدامها، ورضيَتْ بزواجي إياها، ثم أمرتني أن أقيم عندهم عشرة أيام، فأقمت عندهم هذه المدة وأنا لا أدري مَن هي الجارية، إلا أن بعض الوصائف تأتيني بالغداء والعشاء لأجل الخدمة، وبعد هذه المدة استأذنتِ السيدة زبيدة زوجَها أمير المؤمنين في زواج جاريتها، فأذن لها، وأمر لها بعشرة آلاف دينار، فأرسلت السيدة زبيدة إلى القاضي والشهود، وكتبوا كتابي عليها، وبعد ذلك عملوا الحلويات والأطعمة الفاخرة، وفرَّقوا على سائر البيوت، ومكثوا على هذه الحال عشرة أيام أُخَر، وبعد العشرين يومًا أدخلوا الجارية الحمام لأجل الدخول بها، ثم إنهم قدموا بسفرة فيها طعام من جملته خافقية زرباجة محشيَّة بالسكر، وعليها ماء ورد ممسك، وفيها أصناف الدجاج المحمرة، وغيره من سائر الألوان مما يدهش العقول، فوالله حين حضرَتِ المائدة ما أمهلت نفسي حتى نزلت على زرباجة وأكلت منها بحسب الكفاية، ومسحت يدي ونسيت أن أغسلها، ومكثت جالسًا إلى أن دخل الظلام، وأوقدت الشموع، وأقبلت المغنيات بالدفوف، ولم يزالوا يجلون العروسة، وينقطون بالذهب حتى طافت القصر كله، وبعد ذلك أقبلوا بها عليَّ ونزعوا ما عليها من الملبوس، فلما خلوت بها في الفراش وعانقتها، وأنا لم أصدق بوصالها، شمَّت في يدي رائحة الزرباجة، فلما شمت الرائحة صرخت صرخة، فنزل لها الجواري من كل جانب، فارتجفتُ ولم أعلم ما الخبر، فقالت الجواري: ما لك يا أختنا؟ فقالت لهم: أخرجوا عني هذا المجنون، فأنا أحسب أنه عاقل. فقلت لها: وما الذي ظهر لك من جنوني؟ فقالت: يا مجنون، لأي شيء أكلت من الزرباجة ولم تغسل يدك؟ فو الله لا أقبلك على عدم عقلك وسوء فعلك. ثم تناولَتْ من جانبها سوطًا، ونزلت به على ظهري، ثم على مقاعدي حتى غبت عن الوجود من كثرة الضرب، ثم إنها قالت للجواري: خذوه وامضوا به إلى متولي المدينة ليقطع يده التي أكل بها الزرباجة ولم يغسلها. فلما سمعتُ ذلك قلت: لا حول ولا قوة إلا بالله، أتُقطَع يدي من أجل أكل الزرباجة، وعدم غسلي إياها؟ فدخلت عليها الجواري، وقلن لها: يا أختنا لا تؤاخذيه بفعله هذه المرة. فقالت: والله لا بد أن أقطع شيئًا من أطرافه.

ثم راحت وغابت عني عشرة أيام، ولم أرها إلا بعد العشرة أيام، أقبلت عليَّ وقالت لي: يا أسود الوجه، أنا لا أصلح لك، فكيف تأكل الزرباجة ولم تغسل يدك؟ ثم صاحت على الجواري فكتفوني، وأخذت موسًا ماضيًا، وقطعت إبهام يدي وإبهام رجلي كما ترون يا جماعة؛ فغُشِي عليَّ، ثم ذرت علي بالذرور، فانقطع الدم. وقلتُ في نفسي: لا آكل الزرباجة ما بقيتُ حتى أغسل يدي أربعين مرة بالأشنان، وأربعين مرة بالسعد، وأربعين مرة بالصابون. فأخذَتْ عليَّ ميثاقًا أني لا آكل الزرباجة حتى أغسل يدي كما ذكرتُ لكم، فلما جئتم بهذه الزرباجة تغيَّرَ لوني، وقلتُ في نفسي: هذا سبب قطع إبهام يديَّ ورجليَّ، فلما غصبتم عليَّ قلت: لا بد أن أوفي بما حلفت.

فقلتُ له والجماعة حاضرون: ما حصل لك بعد ذلك؟ قال: فلما حلفت لها طاب قلبها ونمت وإياها، وأقمنا مدةً على هذا الحال، وبعد تلك المدة قالت: إن أهل دار الخلافة لم يعلموا بما حصل بيني وبينك فيها، وما دخلها أجنبي غيرك، وما دخلت فيها إلا بعناية السيدة زبيدة. ثم أعطتني خمسين ألف دينار، وقالت: خذ هذه الدنانير، واخرج واشترِ لنا بها دارًا فسيحة. فخرجتُ واشتريت دارًا مليحة فسيحة، ونقلت جميع ما عندها من النِّعَم، وما ادَّخرتُه من الأموال والقماش والتحف إلى هذه الدار التي اشتريتها، فهذا سبب قطع إبهامي. فأكلنا وانصرفنا، وبعد ذلك جرى لي مع الأحدب ما جرى، وهذا جميع حديثي، والسلام.

فقال الملك: ما هذا بأعذب من حديث الأحدب، بل حديث الأحدب أعذب من ذلك، ولا بد من صلبكم جميعًا. ثم إن اليهودي، تقدَّمَ وقبَّلَ الأرض، وقال: يا ملك الزمان، أنا أحدِّثك بحديث أعجب من حديث الأحدب. فقال له ملك الصين: هات ما عندك.

 

حكاية الطبيب اليهودي

فقال: أعجب ما جرى لي في زمن شبابي أني كنت في دمشق الشام، وتعلمت صنعة فعملت فيها، فبينما أنا أعمل في صنعتي يومًا من الأيام إذا أتاني مملوك من بيت الصاحب بدمشق، فخرجت له وتوجَّهت معه إلى منزل الصاحب، فدخلت فرأيت في صدر الإيوان سريرًا من المرمر بصفائح الذهب، وعليه آدمي مريض راقد، وهو شاب لم يُرَ أحسن منه في زمانه، فقعدتُ عند رأسه ودعوتُ له بالشفاء، فأشار إليَّ بعينه، فقلت له: يا سيدي، ناولني يدك. فأخرج لي يده اليسرى؛ فتعجبت من ذلك، وقلت في نفسي: يا لله العجب! إن هذا الشاب مليح، ومن بيت كبير، وليس عنده أدب، إن هذا هو العجب. ثم جسستُ مفاصله وكتبتُ له ورقةً، ومكثتُ أتردَّد عليه مدة عشرة أيام، حتى تعافى ودخل الحمام واغتسل وخرج، فخلع عليَّ الصاحب خلعة مليحة وجعلني مباشِرًا عنده في المارستان الذي بدمشق، فلما دخلت معه الحمام وقد أخلوه لنا من جميع الناس، ودخل الخادم بالثياب وأخذ ثيابه التي كانت عليه من داخل الحمام بعد أن تعرَّى، رأيت بيده اليمين قطعًا صعبًا، فلما رأيته أخذت أتعجَّب وحزنت عليه، ونظرت إلى جسده فوجدتُ عليه آثارَ ضرب مقارع، فصرت أتعجب من أجل ذلك. فنظر إليَّ الشاب وقال لي: يا حكيم الزمان لا تعجب من أمري، فسوف أحدِّثك بحديثي حين تخرج من الحمام.

فلما خرجنا من الحمام ووصلت إلى الدار، وأكلنا الطعام واسترحنا، قال الشاب: هل لك أن تتفرج في الغرفة؟ فقلت: نعم. فأمر العبيد أن يطلعوا الفراش إلى فوق، وأمرهم أن يشووا خروفًا، وأن يأتوا إلينا بفاكهة، ففعل العبيد ما أمرهم به، وأتوا بالفاكهة فأكلنا، وأكل هو بيده الشمال، فقلت له: حدِّثني بحديثك. فقال لي: يا حكيم الزمان، اسمع حكاية ما جرى لي، اعلم أنني من أولاد الموصل، وكان لي والد قد توفي أبوه، وخلف عشرة أولاد ذكور من جملتهم والدي، وكان أكبرَهم، فكبروا كلهم وتزوَّجوا، ورُزِق والدي بي، وأما إخوته التسعة فلم يُرزَقوا بأولاد، فكبرتُ أنا وصرتُ بين أعمامي وهم فَرِحون بي فرحًا شديدًا، فلما كبرت وبلغت مبلغ الرجال، وكنتُ ذات يوم مع والدي في جامع الموصل، وكان اليوم يوم جمعة، فصلينا الجمعة وخرج الناس جميعًا، وأما والدي وأعمامي فإنهم قعدوا يتحدَّثون في عجائب البلاد وغرائب المدن إلى أن ذكروا مصر، فقال بعض أعمامي: إن المسافرين يقولون ما على وجه الأرض أحسن من مصر ونيلها، ولقد أحسن مَن قال فيها وفي نيلها هذين البيتين:

بِاللهِ قُلْ لِلنِّيلِ عَنِّي إِنَّنِي        لَمْ أَشْفِ مِنْ مَاءِ الْفُرَاتِ غَلِيلَا

يَا قَلْبُ كَمْ خَلَّفْتَ ثَمَّ بُثَيْنَةَ        وَأَظُنُّ صَبْرُكَ أَنْ يَكُونَ جَمِيلَا

ثم إنهم أخذوا يصفون مصر ونيلها، فلما فرغوا من كلامهم، وسمعت أنا هذه الأوصاف التي في مصر، صار خاطري مشغولًا بها، ثم انصرفوا وتوجه كل واحد منهم إلى منزله، فبِتُّ تلك الليلة لم يأتني نوم من شغفي بها، ولم يطِب لي أكل ولا شرب، فلما كان بعد أيام قلائل تجهَّزَ أعمامي إلى مصر، فبكيت على والدي لأجل الذهاب معهم، حتى جهَّز لي متجرًا، ومضيت معهم وقال لهم: لا تدعوه يدخل مصر، بل اتركوه في دمشق ليبيع متجره فيها. ثم سافرنا، وودعت والدي، وخرجنا من الموصل، وما زلنا مسافرين حتى وصلنا إلى حلب، فأقمنا بها أيامًا ثم سافرنا إلى أن وصلنا دمشق، فرأينا مدينة ذات أشجار وأنهار وأثمار وأطيار كأنها جنة، فيها من كل فاكهة، فنزلنا في بعض الخانات، واستمر بها أعمامي حتى باعوا واشتروا، وباعوا بضاعتي، فربح الدرهم خمسة دراهم، ففرحت بالربح، ثم تركني أعمامي وتوجهوا إلى مصر. فمكثت بعدهم، وسكنت في قاعة مليحة البنيان، يعجز عن وصفها اللسان، أجرتها كل شهر ديناران، فصرت أتلذذ بالمآكل والمشارب، حتى صرفت المال الذي كان معي، فبينما أنا قاعد على باب القاعة يومًا من الأيام، وإذا بصبية أقبلت عليَّ وهي لابسة أفخر الملابس ما رأت عيني أفخر منها، فعزمت عليها فما قصرت، بل صارت داخل الباب، فلما دخلت ظفرت بها وفرحت بدخولها، فردَّتِ البابَ عليَّ وعليها، وكشفَتْ عن وجهها وقلعت إزارها، فوجدتها بديعة الجمال، فتمكَّنَ حبها من قلبي، فقمت وجئت بسفرة من أطيب المأكول والفاكهة، وما يحتاج إليه المقام، وأكلنا ولعبنا، وبعد اللعب شربنا حتى سكرنا، ثم نمت معها في أطيب ليلة إلى الصباح، وبعد ذلك أعطيتها عشرة دنانير، فحلفَتْ أنها لا تأخذ الدنانير مني، ثم قالت: يا حبيبي، انتظرني بعد ثلاثة أيام وقت المغرب أكون عندك، وهيِّئ لنا بهذه الدنانير مثل هذا. وأعطتني هي عشرة دنانير، وودَّعتني وانصرفت، فأخذت عقلي معها.

فلما مضَتِ الأيام الثلاثة، أتَتْ وعليها من المزركش والحلي والحلل أعظم مما كان عليها أولًا، وكنتُ هيَّأتُ لها ما يليق بالمقام قبل أن تحضر، ثم أكلنا وشربنا ونمنا مثل العادة إلى الصباح، ثم أعطتني عشرة دنانير وواعدتني بعد ثلاثة أيام أنها تحضر عندي، فهيأت لها ما يليق بالمقام، وبعد ثلاثة أيام حضرت في قماش أعظم من الأول والثاني، ثم قالت لي: يا سيدي، هل أنا مليحة؟ فقلت: إيْ والله. فقالت: هل تأذن لي أن أجيء معي بصبية أحسن مني وأصغر سنًّا مني، حتى تلعب معنا ونضحك وإياها؟ فإنها سألتني أن تخرج معي، وتبيت معنا لنضحك وإياها. ثم أعطتني عشرين دينارًا، وقالت لي: زِدْ لنا المقام لأجل الصبية التي تأتي معي. ثم ودعتني وانصرفت.

فلما كان اليوم الرابع جهَّزتُ لها ما يليق بالمقام على العادة، فلما كان بعد المغرب، وإذا بها قد أتت ومعها واحدة ملفوفة بإزار، فدخلتا وجلستا، ففرحتُ وأوقدت الشموع، واستقبلتني بالفرح والسرور، فقامتا ونزعتا ما عليهما من القماش، وكشفت الصبية الجديدة عن وجهها، فرأيتها كالبدر في تمامه، فلم أَرَ أحسن منها، فقمتُ وقدَّمت لهما الأكل والشرب، فأكلنا وشربنا، وصرت أقبِّل الصبية الجديدة، وأملأ لها القدح وأشرب معها، فغارت الصبية الأولى في الباطن، ثم قالت: بالله إن هذه الصبية مليحة، أَمَا هي أظرف مني؟ قلت: إيْ والله. قالت: خاطري أن تنام معها. قلت: على رأسي وعيني. ثم قامت وفرشت لنا، فقمت ونمت مع الصبية الجديدة إلى وقت الصبح، فلما أصبحت وجدت يدي ملوَّثة بدم، ففتحت عيني فوجدت الشمس قد طلعت، فنبهت الصبية فتدحرجت رأسها عن بدنها. فظننتُ أنها فعلت ذلك من غيرتها منها.

ففكرتُ ساعةً ثم قمت قلعت ثيابي وحفرت في القاعة، ووضعتُ الصبية ورددتُ عليها التراب، وأعدت الرخام كما كان، ثم لبست وأخذت بقية مالي وخرجت، وجئت إلى صاحب القاعة ودفعت له أجرة سنة، وقلت له: أنا مسافر إلى أعمامي بمصر. ثم سافرتُ إلى مصر واجتمعت بأعمامي، ففرحوا بي ووجدتهم قد فرغوا من بيع متجرهم ثم قالوا لي: ما سبب مجيئك؟ فقلت لهم: اشتقت إليكم وخفت ألَّا يبقى معي شيء من مالي. فأقمت عندهم سنة وأنا أتفرج على مصر ونيلها، ووضعت يدي في بقية مالي وصرت أصرف منه وآكل وأشرب حتى قرب سفر أعمامي فهربت منهم. فقالوا: لعله سبقنا ورجع إلى دمشق. فسافروا وخرجت أنا فأقمت بمصر ثلاث سنين وصرتُ أصرف حتى لم يَبْقَ معي من المال شيء، وأنا في كل سنة أرسل إلى صاحب القاعة أجرتها. وبعد الثلاث سنين، ضاق صدري ولم يَبْقَ معي إلا أجرة السنة فقط، فسافرت حتى وصلت إلى دمشق ونزلت في القاعة، ففرح بي صاحبها، فدخلت القاعة ومسحتها من دم الصبية المذبوحة، ورفعت المخدة فوجدتُ تحتها العقد الذي كان في عنق تلك الصبية، فأخذته وتأملته وبكيت ساعة، ثم أقمت يومين، وفي اليوم الثالث دخلت الحمام وغيَّرتُ أثوابي، وأنا ما معي شيء من الدراهم، فجئتُ يومًا إلى السوق فوسوس لي الشيطان لأجل إنفاذ القدر، فأخذت العقد الجوهر، وتوجَّهتُ به إلى السوق، وناولته للدلال، فقام لي وأجلسني بجانبه، وصبر حتى عمر السوق، وأخذ ذلك الدلال ونادى عليه خفية وأنا لا أعلم، وإذا بالعقد مثمن بلغ ثمنه ألفَيْ دينار. فجاءني الدلال وقال لي: إن هذا العقد نحاس مصنوع بصنعة الإفرنج، وقد وصل ثمنه إلى ألف درهم. فقلت له: نعم، هذا كنا صنعناه لواحدة نضحك عليها به، وورثتها زوجتي فأردنا بيعه، فرُحْ واقبض الألف درهم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 28﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب لما قال للدلال: اقبض الألف درهم. وسمع الدلال ذلك، عرف أن قضيته مشكلة، فتوجَّهَ بالعقد إلى كبير السوق وأعطاه إياه، فأخذه وتوجَّهَ به إلى الوالي وقال له: إن هذا العقد سُرِق من عندي، ووجدنا الحرامي لابسًا لباس أولاد التجار. فلم أشعر إلا والظَّلَمة قد أحاطوا بي، وأخذوني وذهبوا بي إلى الوالي، فسألني الوالي عن ذلك العقد، فقلتُ له ما قلتُه للدلال؛ فضحك الوالي وقال: ما هذا كلام الحق، فلم أدرِ إلا وحواشيه جرَّدوني من ثيابي، وضربوني بالمقارع على جميع بدني، فأحرقني الضرب، فقلت: أنا سرقتُه. وقلت في نفسي: إن الأحسن أني أقول أنا سرقته، ولا أقول إن صاحبته مقتولة عندي فيقتلوني فيها. فلما قلت إني سرقته قطعوا يدي، وقلوها في الزيت؛ فغُشِي عليَّ فسقوني الشراب حتى أفقتُ، فأخذتُ يدي وجئتُ إلى القاعة، فقال صاحب القاعة: حيث ما جرى لك هذا فأخلِ القاعة، وانظر لك موضعًا آخر؛ لأنك متَّهم بالحرام. فقلت له: يا سيدي، اصبر عليَّ يومين أو ثلاثة حتى أنظر لي موضعًا. قال: نعم. ومضى وتركني، فبقيت قاعدًا أبكي وأقول: كيف أرجع إلى أهلي، وأنا مقطوع اليد؟ والذي قطع يدي لم يعلم أني بريء، فلعل الله يُحدِث بعد ذلك أمرًا.

وصرت أبكي بكاء شديدًا، فلما مضى صاحب القاعة عني لحقني غمٌّ شديد، فتشوشت يومين، وفي اليوم الثالث ما أدري إلا وصاحب القاعة جاءني، ومعه بعض الظَّلَمة وكبير السوق الذي ادَّعى عليَّ أني سرقتُ العقد، فخرجت لهم وقلت: ما الخبر؟ فلم يمهلوني، بل كتفوني، ووضعوا في رقبتي جنزيرًا، وقالوا لي: إن العقد الذي كان معك طلع لصاحب دمشق ووزيرها وحاكمها. وقالوا: إن هذا العقد قد ضاع من بيت الصاحب من مدة ثلاث سنين، ومعه ابنته. فلما سمعت هذا الكلام منهم، ارتعدَتْ مفاصلي وقلتُ في نفسي: هم يقتلونني ولا محالة، والله لا بد أنني أحكي للصاحب حكايتي، فإن شاء قتلني، وإن شاء عفا عني. فلما وصلنا إلى الصاحب أوقفني بين يدَيْه، فلما رآني قال: أهذا الذي سرق العقد ونزل به ليبيعه؟ إنكم قطعتم يده ظلمًا. ثم أمر بسجَّان كبير السوق، وقال له: أعطِ هذا دية يده، وإلا أشنقك وآخذ جميع مالك. ثم صاح على أتباعه فأخذوه وجرُّوه، وبقيت أنا والصاحب وحدنا بعد أن فكوا الغل من عنقي بإذنه، وحلوا وثاقي.

ثم نظر إليَّ الصاحب وقال لي: يا ولدي، حدِّثني واصدقني كيف وصل إليك هذا العقد؟ قلت: يا مولاي، إني أقول لك الحق. ثم حدَّثتُه بجميع ما جرى لي مع الصبية الأولى، وكيف جاءتني بالثانية، وكيف ذبحَتْها من الغيرة، وذكرتُ له الحديثَ بتمامه، فلما سمع كلامي هزَّ رأسه، وحط منديله على وجهه وبكى ساعة، ثم أقبل عليَّ وقال لي: اعلم يا ولدي أن الصبية الكبيرة بنتي، وكنتُ أحجر عليها، فلما بلغَتْ أرسلتُها إلى ولد عمها بمصر فمات، فجاءتني وقد تعلَّمَتِ العهرَ من أولاد مصر، وجاءتك أربع مرات، ثم جاءتك بأختها الصغيرة، والاثنتان شقيقتان، وكانتا مُحِبَّتين لبعضهما، فلما جرى للكبيرة ما جرى، أخرجَتْ سرَّها على أختها، فطلبت مني الذهاب معها ثم رجعت وحدها، فسألتها عنها فوجدتها تبكي عليها، وقالت: لا أعلم لها خبرًا. ثم قالت لأمها سرًّا جميع ما جرى من ذبحها أختها، فأخبرتني أمها سرًّا، ولم تزل تبكي وتقول: والله لا أزال أبكي عليها حتى أموت. وكلامك يا ولدي صحيح، فإني أعلم بذلك قبل أن تخبرني به، فانظر يا ولدي ما جرى، وأنا أشتهي منك ألَّا تخالفني فيما أقول لك، وهو أني أريد أن أزوِّجك ابنتي الصغيرة، فإنها ليسَتْ شقيقة لهما وهي بِكْر، ولا آخذ منك مهرًا، وأجعل لكما راتبًا من عندي، وتبقى عندي بمنزلة ولدي. فقلتُ له: الأمر كما تريد يا سيدي، ومن أين لي أن أصل إلى ذلك؟ فأرسل الصاحب في الحال من عنده بريدًا، وأتاني بمالي الذي خلفه والدي، وأنا اليوم في أرغد عيش. فتعجَّبْتُ منه، وأقمتُ عنده ثلاثة أيام، وأعطاني مالًا كثيرًا، وسافرت من عنده فوصلت إلى بلدكم هذه، فطابت لي فيها المعيشة، وجرى لي مع الأحدب ما جرى.

فقال ملك الصين: ما هذا بأعجب من حديث الأحدب، ولا بد لي من شنقكم جميعًا، وخصوصًا الخياط الذي هو رأس كل خطيئة. ثم قال: يا خياط، إنْ حدَّثْتَني بشيء أعجب من حديث الأحدب، وهبتُ لكم ذنوبكم.

 

حكاية الخياط

فعند ذلك تقدَّمَ الخياط وقال: اعلم يا ملك الزمان أن الذي جرى لي أعجب ممَّا جرى للجميع؛ لأني كنتُ قبل أن أجتمع بالأحدب أول النهار في وليمةٍ لبعض أصحابي أرباب الصنائع من خياطين وبزازين ونجارين وغير ذلك، فلما طلعت الشمس حضر الطعام لنأكل، وإذا بصاحب الدار قد دخل علينا ومعه شاب غريب مليح من أهل بغداد، وعلى ذلك الشاب أحسن ما يكون من الثياب، وهو أحسن ما يكون من الجمال، غير أنه أعرج، فدخل علينا وسلَّم، فقمنا له، فلما أراد الجلوس رأى فينا إنسانًا مزينًا، فامتنع من الجلوس وأراد أن يخرج من عندنا، فمنعناه نحن وصاحب المنزل، وشددنا عليه، وحلف عليه صاحب المنزل وقال له: ما سبب دخولك وخروجك؟ فقال: بالله يا مولاي لا تتعرض لي بشيء، فإن سبب خروجي هذا المزين الذي هو قاعد. فلما سمع منه صاحب الدعوة هذا الكلام تعجَّبَ غايةَ العجب وقال: كيف يكون هذا الشاب من بغداد وتشوَّش خاطره من هذا المزين؟ ثم التفتنا إليه وقلنا له: احكِ لنا ما سبب غيظك من هذا المزين. فقال الشاب: يا جماعة، إنه جرى لي مع هذا المزين أمر عجيب في بغداد بلدي، وكان هو سبب عرجي وكسر رجلي، وحلفت أني ما بقيت أقاعده في مكان، ولا أسكن في بلد هو ساكن فيها، وقد سافرتُ من بغداد ورحلت منها وسكنت في هذه المدينة، وأنا الليلة لا أبيت إلا مسافرًا، فقلنا له: بالله عليك أن تحكي لنا حكايتك معه.

 

حكاية الأعرج مع مزين بغداد

فاصفرَّ لونُ المزين حين سألنا الشاب، ثم قال الشاب: اعلموا يا جماعة الخير أن والدي من أكابر تجار بغداد، ولم يرزقه الله تعالى بولد غيري، فلما كبرت وبلغت مبلغ الرجال توفي والدي إلى رحمة الله تعالى، وخلف لي مالًا وخدمًا وحشمًا، فصرتُ ألبس أحسن الملابس، وآكل أحسن المآكل، وكان الله سبحانه بغَّضني في النساء، إلى أن كنت ماشيًا يومًا من الأيام في أَزِقَّة بغداد، وإذا بجماعة تعرَّضوا لي في الطريق، فهربت ودخلت زقاقًا لا ينفذ، وارتكنت في آخره على مصطبة، فلم أقعد غير ساعة، وإذا بطاقة قصاد المكان الذي أنا فيه فتحت، وطلَّتْ منها صبية كالبدر في تمامه، لم أَرَ في عمري مثلها، ولها زرع تسقيه، وذلك الزرع تحت الطاقة، فالتفتَتْ يمينًا وشمالًا ثم قفلت الطاقة وغابت عني، فانطلقت في قلبي النار، واشتغل خاطري بها، وانقلب بغضي للنساء محبة، فما زلت جالسًا في هذا المكان إلى المغرب، وأنا غائب عن الدنيا من شدة الغرام، وإذا بقاضي المدينة راكب وقدامه عبيد ووراءه خدم، فنزل ودخل البيت الذي طلَّتْ منه تلك الصبية، فعرفت أنه أبوها، ثم إني جئت منزلي وأنا مكروب، ووقعت على الفراش مهمومًا، فدخلت عليَّ جواريَّ وقعدن حولي، ولم يعرفن ما بي، وأنا لم أُبْدِ لهن أمرًا، ولم أردَّ لخطابهن جوابًا، وعظم مرضي، فصارت الناس تعودني، فدخلت عليَّ عجوز، فلما رأتني لم يخفَ عليها حالي، فقعدت عند رأسي ولاطفتني، وقالت لي: يا ولدي، قل لي خبرك. فحكيت لها حكايتي، فقالت: يا ولدي، إن هذه بنت قاضي بغداد، وعليها الحجر، والموضع الذي رأيتها فيه هو طبقتها، وأبوها له قاعة كبيرة أسفل، وهي وحدها وأنا كثيرًا ما أدخل عندهم، ولا تعرف وصالها إلا مني، فشد حيلك. فتجلَّدْتُ وقوَّيتُ نفسي حين سمعت حديثها، وفرح أهلي في ذلك اليوم، وأصبحت متماسك الأعضاء، مترجِّيًا تمامَ الصحة.

ثم مضت العجوز، ورجعت ووجهها متغير، فقالت: يا ولدي، لا تسأل عمَّا جرى منها لما قلتُ لها ذلك، فإنها قالت لي: إن لم تسكتي يا عجوز النحس عن هذا الكلام لَأفعلنَّ بك ما تستحقينه. ولا بد أن أرجع إليها ثاني مرة. فلما سمعتُ ذلك منها ازددتُ مرضًا على مرضي، فلما كان بعد أيام أتت العجوز وقالت: يا ولدي، أريد منك البشارة. فلما سمعتُ ذلك منها رُدَّتْ روحي إلى جسمي، وقلت لها: لك عندي كل خير. فقالت: إني ذهبت بالأمس إلى تلك الصبية، فلما نظرتني وأنا منكسرة الخاطر باكية العين، قالت: يا خالتي، ما لي أراكِ ضيقةَ الصدر؟ فلما قالت لي ذلك بكيتُ وقلت لها: يا بنتي وسيدتي، إني أتيتك الأمس من عند فتًى يهواكِ، وهو مشرف على الموت من أجلك. فقالت وقد رقَّ قلبها: ومن أين يكون هذا الفتى الذي تذكرينه؟ قلت: هو ولدي وثمرة فؤادي، ورآكِ من الطاقة من أيامٍ مضَتْ وأنت تسقين زرعك، ورأى وجهك، فهام بك عشقًا، وأنا أول مرة أعلمته بما جرى لي معك، فزاد مرضه ولزم الوساد، وما هو إلا ميت ولا محالة. فقالت وقد اصفرَّ لونها: هل هذا كله من أجلي؟ قلت: إيْ والله، فماذا تأمرين؟ قالت: امضي إليه، وأقرئيه مني السلام، وأخبريه أن عندي أضعافَ ما عنده، فإذا كان يوم الجمعة قبل الصلاة يجيء إلى الدار وأنا أقول افتحوا له الباب، وأطلعه عندي، وأجتمع أنا وإياه ساعة، ويرجع قبل مجيء أبي من الصلاة.

فلما سمعتُ كلامَ العجوز زال ما كنتُ أجده من الألم، واستراح قلبي، ودفعتُ إليها ما كان عليَّ من الثياب وانصرفت، وقالت لي: طيِّبْ قلبك. فقلت لها: لم يَبْقَ فيَّ شيء من الألم، وتباشر أهل بيتي وأصحابي بعافيتي، ولم أزل كذلك إلى يوم الجمعة، وإذا بالعجوز دخلت عليَّ وسألتني عن حالي، فأخبرتها أني بخير وعافية، ثم لبست ثيابي وتعطَّرتُ، ومكثت أنتظر الناس يذهبون إلى الصلاة حتى أمضي إليها، فقالت العجوز: إن معك في الوقت اتساعًا زائدًا، فلو مضيتَ إلى الحمام وأزلتَ شعرَك، لا سيما من أثر المرض، لَكان في ذلك صلاحك. فقلتُ لها: إن هذا هو الرأي الصواب، لكن أحلق رأسي أولًا، ثم أدخل الحمام. فأرسلتُ خلف المزين ليحلق لي رأسي، وقلت للغلام: امض على السوق وائتني بمزين يكون عاقلًا قليلَ الفضول، لا يصدع رأسي بكثرة كلامه. فمضى الغلام وأتى بهذا الشيخ، فلما دخل سلَّم عليَّ فردَدْتُ عليه السلام، فقال: أذهَبَ اللهُ غمَّكَ وهمَّكَ، والبؤس والأحزان. فقلت: تقبَّلَ الله منك. فقال: أبشِرْ يا سيدي، فقد جاءتك العافية، تريد تقصير شعرك وإخراج دم؟ فإنه ورد عن ابن عباس أنه قال: مَن قصَّرَ شعره يوم الجمعة، صرف الله عنه سبعين داءً. ورُوِي عنه أيضًا أنه قال: مَن احتجم يومَ الجمعة، لا يأمن ذهاب البصر وكثرة المرض. فقلت له: دَعْ عنك هذا الهذيان، وقُمْ في هذه الساعة احلق لي رأسي، فإني رجل ضعيف.

فقام ومد يده، وأخرج منديلًا وفتحه، وإذا فيه أصطرلاب، وهو سبع صفائح، فأخذه ومضى على وسط الدار، ورفع رأسه إلى شعاع الشمس، ونظر مليًّا وقال لي: اعلم أنه مضى من يومنا هذا، وهو يوم الجمعة، وهو عاشر صفر سنة ثلاث وستين وسبعمائة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وطالعه بمقتضى ما أوجبه علم الحساب المريخ سبع درج وستة دقائق، واتفق أنه قارنه عطارد، وذلك يدل على أن حلق الشعر جيد جدًّا، ودلَّ عندي على أنك تريد الإفضال على شخص وهو مسعود، لكنْ بعده كلام يقع وشيء لا أذكره لك. فقلتُ له: والله لقد أضجرتَني، وأزهقتَ روحي، وفوَّلتَ عليَّ، وأنا ما طلبتُكَ إلا لتحلق رأسي، فقم واحلق رأسي ولا تُطِلْ عليَّ الكلام. فقال: والله لو علمتَ حقيقةَ الأمر لَطلبتَ مني زيادة البيان، وأنا أشير عليك أنك تعمل اليوم بالذي آمرك به بمقتضى حساب الكواكب، وكان سبيلك أن تحمد الله ولا تخالفني؛ فإني ناصح لك، وشفيق عليك، وأود أن أكون في خدمتك سنة كاملة، وتقوم بحقي، ولا أريد منك أجرة على ذلك. فلما سمعتُ ذلك منه قلتُ له: إنك قاتلي في هذا اليوم ولا محالة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 29﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال له: إنك قاتلي في هذا اليوم يا سيدي، أنا الذي تسميني الناس الصامت لقلة الكلام دون إخوتي؛ لأن أخي الكبير اسمه البقبوق، والثاني الحدار، والثالث بقبق، والرابع اسمه الكوز الأصواني، والخامس اسمه العشار، والسادس اسمه شقالق، والسابع اسمه الصامت، وهو أنا. فلما زاد عليَّ هذا المزين بالكلام، رأيت أن مرارتي انفطرَتْ، وقلتُ للغلام: أعطه ربع دينار وخلِّه ينصرف عني لوجه الله، فلا حاجة لي في حلاقة رأسي. فقال هذا المزين حين سمع كلامي مع الغلام: أي شيء هذا المقال يا مولاي؟ والله لا آخذ منك أجرة حتى أخدمك، ولا بد من خدمتك؛ فإنه واجب عليَّ خدمتك وقضاء حاجتك، ولا أبالي إذا لم آخذ منك دراهم؛ فإنْ كنتَ لا تعرف قدري فأنا أعرف قدرك، وكان والدك رحمه الله تعالى له علينا الإحسان لأنه كان كريمًا، واللهِ لقد أرسل والدك خلفي يومًا مثل هذا اليوم المبارك، فدخلت عليه وكان عنده جماعة من أصحابه، فقال لي: أخرِجْ لي دمًا. فأخذت الأصطرلاب وأخذت له الارتفاع، فوجدت طالع الساعة نحسًا، وإخراج الدم فيها صعبًا، فأعلمتُه بذلك، فامتثل وصبر إلى أن أتت الساعة الحميدة وأخرجت له فيها الدم، ولم يخالفي بل شكرني وكذلك الجماعة الحاضرون، وأعطاني والدك مائة دينار في نظير إخراج الدم.

فقلت له: لا رحم الله أبي الذي عرف مثلك. فضحك هذا المزين وقال: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، سبحان مَن يغيِّر ولا يتغيَّر، ما كنتُ أظنك إلا عاقلًا لكنك خرفتَ من المرض، وقال الله في كتابه العزيزوَالْكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ، وأنت معذور على كل حال وما أدري سبب عجلتك، وأنت تعلم أن والدك ما كان يفعل شيئًا إلا بمشورتي، وقد قيل إن المستشار مؤتمن، وما تجد أحدًا أعرف مني بالأمور؛ فأنا واقف على أقدامي أخدمك وما ضجرتُ منك، فكيف ضجرتَ أنت مني؟ وأنا أصبر عليك لأجل ما لأبيك عليَّ من الفضل. فقلت له: والله لقد أطلت عليَّ الخطابَ، وزدتَ عليَّ في المقال، وأنا قصدي أن تحلق رأسي وتنصرف عني. وأظهرتُ الغضبَ وأردتُ أن أقوم وإنْ كان قد بَلَّ رأسي. فقال: قد علمت أنه غلب عليك الضجر مني، لكن لا أؤاخذك لأن عقلك ضعيف وأنت صبي، ومن زمن قريب كنتُ أحملك على كتفي وأمضي بك إلى المكتب. فقلت له: يا أخي، بحق الله عليك انصرف عني حتى أقضي شغلي وقُمْ إلى حال سبيلك. ثم مزَّقتُ أثوابي، فلما رآني فعلت ذلك أخذ الموس وسنَّه، ولا زال يسنُّه حتى كادَتْ روحي أن تفارق جسمي، ثم تقدَّمَ إلى رأسي وحلق منها بعضًا ثم رفع يده وقال: يا مولاي، العجلة من الشيطان. ثم إنه أنشد هذين البيتين:

تَأَنَّ وَلَا تَعْجَلْ لِأَمْرٍ تُرِيدُهُ        وَكُنْ رَاحِمًا لِلنَّاسِ تُبْلَ بِرَاحِمِ

فَمَا مِنْ يَدٍ إِلَّا يَدُ اللهِ فَوْقَهَا        وَلَا ظَالِمٍ إِلَّا سَيُبْلَى بِظَالِمِ

ثم قال: يا مولاي، ما أظنك تعرف بمنزلتي، فإن يدي تقع على رأس الملوك والأمراء والوزراء، والحكماء والفضلاء، وفي مثلي قال الشاعر:

جَمِيعُ الصَّنَائِعِ مِثْلُ الْعُقُودِ        وَهَذَا الْمُزَيِّنُ دُرُّ السُّلُوكِ

فَيَعْلُو عَلَى كُلِّ ذِي حِكْمَةٍ        وَتَحْتَ يَدَيْهِ رُءُوسُ الْمُلُوكِ

فقلتُ: دَعْ ما لا يعنيك فقد ضيَّقت صدري، وأشغلت خاطري. فقال: أظنك مستعجلًا. فقلتُ له: نعم، نعم، نعم. فقال: تمهَّلْ على نفسك؛ فإن العجلة من الشيطان، وهي تُورِث الندامة والحرمان، وقد قال عليه الصلاة والسلام: خير الأمور ما كان فيه تأنٍّ. وأنا واللهِ رابَنِي أمرُكَ، فأشتهي أن تعرِّفني ما الذي أنت مستعجل من أجله، ولعله خير؛ فإني أخشى أن يكون شيئًا غير ذلك، وقد بقي من الوقت ثلاثُ ساعات. ثم غضب ورمى الموسى من يديه، وأخذ الأصطرلاب، ومضى إلى الشمس، ووقف حصة مديدة، وعاد وقال: قد بقي لوقت الصلاة ثلاث ساعات لا تزيد ولا تنقص. فقلتُ له: بالله عليك اسكت عني، فقد فتَّتَّ كبدي. فأخذ الموسى، وسنَّه كما فعل أولًا، وحلق بعض رأسي، وقال: أنا مهموم من عجلتك، فلو أطلعتَني على سببها لَكان خيرًا لك؛ لأنك تعلم أن والدك ما كان يفعل شيئًا إلَّا بمشورتي. فلما علمتُ أن ما لي منه خلاص، قلتُ في نفسي: قد جاء وقت الصلاة، وأريد أن أمضي قبل أن تخرج الناس من الصلاة، فإنْ تأخَّرْتُ ساعةً لا أدري أين السبيل إلى الدخول إليها. فقلتُ: أوجز ودَعْ عنك هذا الكلام والفضول، فإني أريد أن أمضي إلى دعوة عند أصحابي.

فلما سمع ذكر الدعوة قال: يومك يوم مبارك عليَّ؛ لقد كنت البارحة حلفت على جماعة من أصدقائي، ونسيت أن أجهِّز لهم شيئًا يأكلونه، وفي هذه الساعة تذكرت ذلك، وا فضيحتاه منهم! فقلت له: لا تهتم بهذا الأمر بعد تعريفك أنني اليومَ في دعوة، فكل ما في داري من طعام وشراب لك إنْ أنجزتَ أمري، وعجَّلتَ حلاقةَ رأسي. فقال: جزاك الله خيرًا، صِفْ لي ما عندك لأضيافي حتى أعرفه. فقلت: عندي خمسة أوانٍ من الطعام، وعشر دجاجات محمَّرات، وخروف مشوي. فقال: أحضرها لي حتى أنظر. فأحضرت إليه جميع ذلك، فلما عاينه قال: بقي الشراب. فقلت له: عندي. قال: أحضره. فأحضرته له، قال: لله درك، ما أكرم نفسك! لكن بقي البخور الطيب. فأحضرت له درجًا فيه ندٌّ وعود وعنبر ومسك يساوي خمسين دينارًا، وكان الوقت قد ضاق حتى صار مثل صدري، فقلت له: خذ هذا، واحلق لي جميع رأسي بحياة محمد ﷺ. فقال المزين: واللهِ ما آخذه حتى أرى جميع ما فيه.

فأمرت الغلامَ ففتح له الدرج، فرمى المزين الأصطرلاب من يده، وجلس على الأرض يقلب الطيب والبخور والعود الذي في الدرج حتى كادت روجي أن تفارق جسمي، ثم تقدَّمَ وأخذ الموسى وحلق من رأسي شيئًا يسيرًا، وقال: واللهِ يا ولدي ما أدري أأشكرك أم أشكر والدك؟ لأن دعوتي اليومَ كلها من بعض فضلك وإحسانك، وليس عندي مَن يستحق ذلك، وإنما عندي زيتون الحمامي، وصليع الفاني، وعوكل الفوال، وعكرشة البقال، وحميد الزبال، وعكارش اللبان، ولكلٍّ من هؤلاء رقصة يرقصها، وأبيات ينشدها، وأحسن ما فيهم أنهم مثل الملوك، وعبدك أنا لا أعرف كثرة كلام لا فضول. أما الحمامي فإنها يقول: إن لم أذهب إليها تجئني بيتي. وأما الزبال فإنه ظريف خليع، كثيرًا ما يرقص ويقول: الخير عند زوجتي ما صار في صندوقٍ. وكل واحد من أصحابي له لطائفُ لا توجد في الآخَر، وليس الخبر كالعيان، فإن اخترتَ أن تحضر عندنا كان ذلك أحبَّ إليك وإلينا، واترك رواحك إلى أصدقائك الذين قلتَ لي إنك تريد الذهاب إليهم؛ فإن عليك أثر المرض، وربما تمضي إلى أقوام كثيري الكلام يتكلمون فيما لا يعنيهم، وربما يكون فيهم واحد فضولي وأنت قلقت روحك من المرض. فقلت: إن شاء الله يكون ذلك في غير هذا اليوم. فقال لي: الأنسب أن تقدم حضورك عند أصحابي لتغتنم مؤانستهم وتفوز بحملهم وتعمل بقول الشاعر:

لَا تُؤَخِّرْ لَذَّةً إِنْ أَمْكَنَتْ        إِنَّ الزَّمَانَ كَثِيرُ الْعَطَبْ

فضحكتُ عن قلب مشحون بالغيظ، وقلتُ له: أقضِ شغلي وأسير أنا في أمان الله تعالى، وتمضي أنت إلى أصحابك فإنهم منتظرون قدومك. فقال: ما طلبتُ إلا أن أعاشرك بهؤلاء الأقوام، فإنهم من أولاد الناس الذين ما فيهم فضولي، ولو رأيتهم مرة واحدة لَتركتَ جميعَ أصحابك. فقلتُ له: نعَّمَ الله سرورَك بهم، ولا بد أن أحضرهم عندي يومًا. فقال: إذا أردتَ ذلك وقدمت، دعوت أصحابك في هذا اليوم، فاصبر حتى أمضي بهذا الإكرام الذي أكرمتني به، وأدعه عند أصحابي يأكلون ويشربون ولا ينتظرون، ثم أعود إليك وأمضي معك إلى أصدقائك؛ فليس بيني وبين أصدقائي حشمة تمنعني عن تركهم والعود إليك عاجلًا، وأمضي معك أينما توجَّهْتَ. فقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. امضِ أنت إلى أصدقائك وانشرح معهم، ودعني أمضي إلى أصدقائي وأكون معهم في هذا اليوم؛ فإنهم ينتظرون قدومي. فقال المزين: لا أدعك تمضي وحدك. فقلت له: إن الموضع الذي أمضي إليه لا يقدر أحد أن يدخله غيري. فقال: أظنك اليوم في ميعاد واحدة، وإلا كنتَ تأخذني معك، وأنا أحق من جميع الناس، وأساعدك على ما تريد، فإني أخاف أن تدخل على امرأة أجنبية فتروح روحك؛ فإن هذه مدينة بغداد لا يقدر أحد أن يعمل فيها شيئًا من هذه الأشياء، لا سيما في مثل هذا اليوم، وهذا والي بغداد صارم عظيم. فقلتُ: ويلك يا شيخ الشر! أي شيء هذا الكلام الذي تقابلني به؟!

فسكتَ سكوتًا طويلًا، وأدركنا وقت الصلاة وجاء وقت الخطبة، وقد فرغ من حلق رأسي، فقلت له: امضِ إلى أصحابك بهذا الطعام والشراب، وأنا أنتظرك حتى تعود وتمضي معي. ولم أزل أخادعه لعله يمضي، فقال لي: إنك تخادعني وتمضي وحدك، وترمي نفسك في مصيبةٍ لا خلاصَ لك منها، فالله الله، لا تبرح حتى أعود إليك وأمضي معك حتى أعلم ما يتم من أمرك. فقلت له: نعم، لا تُبطِئْ عليَّ. فأخذ ما أعطيته من الطعام والشراب وغيره وخرج من عندي، فسلَّمه إلى الحمال ليوصله إلى منزله، وأخفى نفسه في بعض الأزِقَّة، ثم قمتُ من ساعتي وقد أعلنوا على المنارات بسلام الجمعة، فلبستُ ثيابي وخرجت وحدي، وأتيتُ إلى الزقاق ووقفتُ على البيت الذي رأيتُ فيه تلك الصبية، وإذا بالمزين خلفي ولا أعلم به، فوجدتُ الباب مفتوحًا فدخلتُ، وإذا بصاحب الدار عاد إلى منزله من الصلاة، ودخل القاعة وغلَّق الباب، فقلت: من أين علم هذا الشيطان بي؟ فاتفق في هذه الساعة لأمرٍ يريده الله من هتك ستري، أن صاحب الدار أذنبَتْ جاريةٌ عنده فضربها فصاحَتْ، فدخل عنده عبد ليخلصها فضربه فصاح الآخَر، فاعتقد المزين أنه يضربني، فصاح ومزَّقَ أثوابه، وحثا الترابَ على رأسه، وصار يصرخ ويستغيث والناس حوله وهو يقول: قُتِلَ سيدي في بيت القاضي. ثم مضى إلى داري، وهو يصيح والناس خلفه، وأعلَمَ أهلَ بيتي وغلماني، فما دريتُ إلا وهم قد أقبلوا يصيحون: وا سيداه! كل هذا والمزين قدامهم وهو ممزَّق الثياب والناس معهم، ولم يزالوا يصرخون وهو في أوائلهم يصرخ، وهم يقولون: وا قتيلاه! وقد أقبلوا نحو الدار التي أنا فيها. فلما سمع القاضي ذلك عظُم عليه الأمر، وقام وفتح الباب، فرأى جمعًا عظيمًا، فبُهِتَ وقال: يا قوم، ما القصة؟ فقال له الغلمان: إنك قتلتَ سيدنا. فقال: يا قوم، وما الذي فعله سيدكم حتى أقتله؟ وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 30﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن القاضي قال للغلمان: ما الذي فعله سيدكم حتى أقتله؟ وما لي لا أرى هذا المزين بين أيديكم؟ فقال له المزين: أنت ضربته في هذه الساعة بالمقارع، وأنا أسمع صياحَه. فقال القاضي: وما الذي فعله حتى أقتله؟ ومَن أدخَلَه داري؟ ومن أين جاء؟ وإلى أين يقصد؟ فقال له المزين: لا تكن شيخًا نحسًا، فأنا أعلم الحكايةَ وسببَ دخوله دارَك، وحقيقةَ الأمرِ كله؛ فبنتك تعشقه وهو يعشقها، فعلمتَ أنه قد دخل دارك وأمرتَ غلمانك فضربوه، واللهِ ما بيننا وبينك إلَّا الخليفة، أو تُخرِج لنا سيدَنا ليأخذه أهله، ولا تحوجني إلى أن أدخل وأُخرِجه من عندكم، وعجِّلْ أنت بإخراجه. فالتجم القاضي عن الكلام، وصار في غاية الخجل من الناس، وقال للمزين: إنْ كنتَ صادقًا فادخل أنت وأُخرِجْه. فنهض المزين ودخل الدار، فلما رأيتُ المزين أردتُ أن أهرب، فلم أجد لي مهربًا، غير أني رأيت في الطبقة التي أنا فيها صندوقًا كبيرًا، فدخلتُ فيه ورددتُ الغطاء عليه وقطعت النفس، فدخل القاعة ولم يلتفت إلى غير الجهة التي أنا فيها، بل قصد الموضع الذي أنا فيه، والتفَتَ يمينًا وشمالًا فلم يجد إلا الصندوق الذي أنا فيه، فحمله على رأسه، فلما رأيته فعل ذلك غاب رشدي، ثم مَرَّ مسرعًا، فلما علمتُ أنه ما يتركني، فتحتُ الصندوق وخرجت منه بسرعة، ورميتُ نفسي على الأرض، فانكسرَتْ رجلي.

فلما توجَّهْتُ إلى الباب وجدتُ خلقًا كثيرًا لم أَرَ في عمري مثل هذا الازدحام الذي حصل في ذلك اليوم. فجعلت أنثر الذهب على الناس ليشتغلوا به، فاشتغل الناس به وصرت أجري في أَزِقَّة بغداد، وهذا المزين خلفي، وأي مكان دخلتُ فيه يدخل خلفي وهو يقول: أرادوا أن يفجعوني في سيدي، الحمد لله الذي نصرني عليهم وخلَّصَ سيدي من أيديهم، فما زلتَ يا سيدي مولعًا بالعجلة لسوء تدبيرك حتى فعلتَ بنفسك هذه الأفعال، فلولا مَنَّ الله عليك بي ما كنتَ خلصتَ من هذه المصيبة التي وقعتَ فيها، وربما كانوا يرمونك في مصيبةٍ لا تخلص منها أبدًا، فأطلب من الله أن أعيش لك حتى أخلصك، والله لقد أهلكتَني بسوء تدبيرك، وكنتَ تريد أنك تروح وحدك، ولكن ما نؤاخذك على جهلك لأنك قليل العقل عجول. فقلت له: أَمَا كفاك ما جرى منك حتى تجري ورائي في الأسواق؟ وصرتُ أتمنى الموت لأجل خلاصي منه، فلا أجد موتًا ينقذني منه، فمن شدة الغيظ فررتُ منه ودخلتُ دكانًا في وسط السوق، واستجرت بصاحبها فمنعه عني، وجلستُ في مخزن وقلت في نفسي: ما بقيتُ أقدر أن أفترق من هذا المزين، بل يقيم عندي ليلًا ونهارًا، ولم يَبْقَ فيَّ قدرة على النظر إلى وجهه. فأرسلتُ في الوقت أحضرتُ الشهود، وكتبتُ وصيةً لأهلي، وفرَّقتُ مالي وجعلت إنسانًا ناظرًا عليهم، وأمرته أن يبيع الدار والعقارات، وأوصيته بالكبار والصغار، وخرجت مسافرًا من ذلك الوقت حتى أتخلص من هذا القوَّاد، ثم جئتُ إلى بلادكم فسكنتها ولي فيها مدة، فلما عزمتم عليَّ وجئتُ إليكم، رأيت هذا القبيح القوَّاد عندكم في صدر المكان، فكيف يستريح قلبي ويطيب مقامي عندكم مع هذا وقد فعل معي هذه الفعال، وانكسرت رجلي بسببه؟

ثم إن الشاب امتنع من الجلوس، فلما سمعنا حكايته مع المزين قلنا للمزين: أَحَقٌّ ما قاله هذا الشاب عنك؟ فقال: والله أنا فعلتُ معه ذلك بمعرفتي، ولولا أني فعلتُ ذلك لَهلك، وما سبب نجاته إلا أنا، ومن فضل الله عليه بسببي أنه أُصِيبَ برجله ولم يُصَبْ بروحه، ولو كنتُ كثيرَ الكلام ما فعلتُ معه ذلك الجميل، وها أنا أقول لكم حديثًا جرى لي حتى تصدِّقوا أني قليل الكلام، وما عندي فضول من دون إخوتي.

 

حكاية مزين بغداد مع إخوته الستة

وذلك أني كنت ببغداد في أيام خلافة أمير المؤمنين المنتصر بالله، وكان يحب الفقراء والمساكين، ويجالس العلماء والصالحين، فاتفق له يومًا أنه غضب على عشرة أشخاص، فأمر المتولي ببغداد أن يأتيه بهم في زورق، فنظرتهم أنا، فقلت: ما اجتمع هؤلاء إلا لعزومة، وأظنهم يقطعون يومهم في هذا الزورق في أكل وشرب، ولا يكون نديمهم غيري. فقمت ونزلت معهم واختلطت بهم، فقعدوا في الجانب الآخَر، فجاء لهم أعوان الوالي بالأغلال ووضعوها في رقابهم، ووضعوا في رقبتي غلًّا من جملتهم، فهذا يا جماعة ما هو إلا من مروءتي وقلة كلامي؛ لأني ما رضيتُ أن أتكلَّم، فأخذونا جميعًا في الأغلال، وقدَّمونا بين يدي المنتصر بالله أمير المؤمنين، فأمر بضرب رقاب العشرة، فضرب السياف رقاب العشرة، وقد بقيت أنا، فالتفت الخليفة فرآني، فقال للسياف: ما بالك لا تضرب رقابَ جميع العشرة؟ فقال: ضربتُ رقابَ العشرة كلهم. فقال له الخليفة: ما أظنك ضربتَ رقابَ غير تسعة، وهذا الذي بين يديَّ هو العاشر. فقال السياف: وحقِّ نعمتك إنهم عشرة. قال: عُدُّوهم. فعدوهم فإذا هم عشرة، فنظر إليَّ الخليفة وقال: ما حملك على سكوتك في هذا الوقت؟ وكيف صرتَ مع أصحاب الدم؟

فلما سمعتُ خطابَ أمير المؤمنين قلت له: اعلم يا أمير المؤمنين أني أنا الشيخ الصامت، وعندي من الحكمة شيء كثير، وأما رزانة عقلي وجودة فهمي وقلة كلامي، فإنها لا نهاية لها، وصنعتي الزيانة، فلما كان أمس بكرة النهار نظرت هؤلاء العشرة قاصدين الزورق فاختلطت بهم ونزلت معهم، وظننت أنهم في عزومة، فما كان غير ساعة وإذا هم أصحاب جرائم، فحضرت إليهم الأعوان، ووضعوا في رقابهم الأغلال، ووضعوا في رقبتي غلًّا من جملتهم، فمن فرط مروءتي سكتُّ ولم أتكلم، فعدم كلامي في ذلك الوقت من فرط مروءتي؛ فساروا بنا حتى أوقفونا بين يديك، فأمرتَ بضرب رقاب العشرة، وبقيت أنا بين يدي السَّيَّاف ولم أعرِّفكم بنفسي، أَمَا هذه مروءةٌ عظيمة التي أحوجتني إلى أن أشاركهم في القتل؟ ولكن طول دهري هكذا أفعل الجميل. فلما سمع الخليفة كلامي، وعلم أني كثير المروءة قليل الكلام، ما عندي فضول كما يزعم هذا الشاب الذي خلَّصتُه من الأهوال، قال الخليفة: وإخوتك الستة مثلك، فيهم الحكمة والعلم وقلة الكلام؟ قلتُ: لا عاشوا ولا بقُوا إن كانوا مثلي، ولكن ذممتني يا أمير المؤمنين، ولا ينبغي لك أن تقرن إخوتي بي؛ لأنهم من كثرة كلامهم وقلة مروءتهم، صار كل واحد منهم بعاهة؛ فمنهم واحد أعرج، وواحد أعور، وواحد أفلج، وواحد أعمى، وواحد مقطوع الأذنين والأنف، وواحد مقطوع الشفتين، وواحد أحول العينين، ولا تحسب يا أمير المؤمنين أني كثير الكلام، ولا بد أن أبين لك أني أعظم مروءةً منهم، ولكل واحد حكاية اتفقت له حتى صار فيه عاهة، وإنْ شئتَ أحكِ لك.

 

حكاية الأخ الأكبر

فاعلم يا أمير المؤمنين أن الأول وهو الأعرج كان صنعته الخياطة ببغداد، فكان يخيط في دكان استأجرها من رجل كثير المال، كان ذلك الرجل ساكنًا على الدكان، وكان في أسفل دار الرجل طاحون، فبينما أخي الأعرج جالس في الدكان في بعض الأيام يخيط، إذ رفع رأسه فرأى امرأة كالبدر الطالع في روشن الدار، وهي تنظر إلى الناس، فلما رآها أخي تعلَّق قلبه بحبها، وصار يومه ذلك ينظر إليها، وترك اشتغاله بالخياطة إلى وقت المساء. فلما كان وقت الصباح فتح دكانه وقعد يخيط، وهو كلما غرز غرزة ينظر إلى الروشن، فمكث على ذلك مدة لم يخِطْ شيئًا يساوي درهمًا؛ فاتفق أن صاحب الدار جاء إلى أخي يومًا من الأيام ومعه قماش، وقال له: فصِّلْ لي هذا، وخيِّطه أقمصة. فقال أخي: سمعًا وطاعة. ولم يزل يفصِّل حتى فصَّل عشرين قميصًا إلى وقت العشاء، وهو لم يَذُقْ طعامًا. ثم قال له: كم أجرة ذلك؟ فلم يتكلَّمْ أخي، فأشارَتْ إليه الصبيَّة بعينها لا تأخذ منه شيئًا. وكان محتاجًا إلى فلس، واستمر ثلاثة أيام لا يأكل ولا يشرب إلا القليل بسبب اجتهاده في تلك الخياطة، فلما فرغ من الخياطة التي لهم أتى إليهم بالأقمصة، وكانت الصبية قد عرَّفت زوجَها بحال أخي، وأخي لا يعلم ذلك، واتفقت هي وزوجها على استعمال أخي في الخياطة بلا أجرة، بل يضحكون عليه.

فلما فرغ أخي من جميع أشغالهما، عمِلَا عليه حيلةً، وزوَّجاه بجاريتهما، وليلةَ أراد أن يدخل عليها قالَا له: بِتِ الليلةَ في الطاحون إلى غدٍ يكون خيرًا. فاعتقد أخي أن لهما قصدًا صحيحًا، فبات في الطاحون وحده، وراح زوج الصبية غمز الطحان عليه حتى إنه يدوِّره في الطاحون، فدخل عليه الطحان في نصف الليل، وجعل يقول: إن هذا الثور بطال مع أن القمح كثير، وأصحاب الطحين يطلبونه، فأنا أعلقه في الطاحون حتى يخلص طحين القمح. فعلَّقه في الطاحون إلى قريب الصبح، فجاء صاحب الدار فرأى أخي معلَّقًا في الطاحون، والطحان يضربه بالسوط، فتركه ومضى، وبعد ذلك جاءت الجارية التي عقد عليها، وكان مجيئها في بكرة النهار، فحَلَّتْه من الطاحون وقالت: قد شَقَّ عليَّ وعلى سيدتي ما جرى لك، وقد حملنا همك. فلم يكن له لسان يرد جوابًا من شدة الضرب، ثم إن أخي رجع إلى منزله، وإذا بالشيخ الذي كتب الكتاب قد جاء وسلَّمَ عليه، وقال له: حيَّاك الله، زواجك مبارك، إنك بِتَّ الليلةَ في النعيم والدلال، والعناق من العشاء إلى الصباح. فقال له أخي: لا سلَّمَ الله الكاذبَ يا ألف قوَّاد، واللهِ ما جئت إلا لأطحن في موضع الثور إلى الصباح. فقال له: حدِّثني بحديثك. فحدَّثه أخي بما وقع له، فقال له: ما وافق نجمك نجمها، ولكن إذا شئتَ أن أغيِّر لك عقدَ العقد أغيِّره لك بأحسن منه، لأجل أن يوافق نجمُك نجمَها. فقال له: انظر إنْ بقي لك حيلة أخرى.

ثم إن أخي تركه، وأتى إلى دكانه ينتظر أحدًا يأتي إليه بشغل يتقوَّت من أجرته، وإذا هو بالجارية قد أتت إليه، وكانت اتفقت مع سيدتها على تلك الحيلة، فقالت له: إن سيدتي مشتاقة إليك، وقد طلعت السطح لترى وجهك من الروشن. فلم يشعر أخي إلا وهي قد طلعت له من الروشن، وصارت تبكي وتقول: لأي شيء قطعتَ المعاملة بيننا وبينك؟! فلم يردَّ عليها جوابًا، فحلفت له أن جميع ما وقع له في الطاحون لم يكن باختيارها؛ فلما نظر أخي إلى حسنها وجمالها، ذهب عنه ما حصل له، وقبل عذرها وفرح برؤيتها، ثم سلَّم عليها وتحدَّث معها، وجلس في خياطته مدةً، وبعد ذلك ذهبت إليه الجارية وقالت له: تسلِّمُ عليك سيدتي، وتقول لك إن زوجها قد عزم على أنه يبيت عند بعض أصدقائه في هذه الليلة، فإذا مضى عندهم تكون أنت عندنا، وتبيت مع سيدتي في ألذ عيش إلى الصباح. وكان زوجها قد قال لها: ما يكون العمل في مجيئه عندك حتى آخذه وأجرَّه إلى الوالي. فقالت: دعني أحتال عليه بحيلة، وأفضحه فضيحة يشتهر بها في هذه المدينة. وأخي لا يعلم شيئًا من كيد النساء.

فلما أقبل المساء جاءت الجارية إلى أخي وأخذته، ورجعت به إلى سيدتها، فقالت له: واللهِ يا سيدي إني مشتاقة إليك كثيرًا. فقال: بالله عجِّلي بقبلة قبل كل شيء. فلم يتم كلامه إلا وقد حضر زوجُ الصبية من بيت جاره، فقبض على أخي وقال له: واللهِ لا أفارقك إلا عند صاحب الشرطة. فتضرَّع إليه أخي فلم يسمعه، بل حمله إلى دار الوالي، فضربه بالسياط، وأركبه جملًا، ودوَّره في شوارع المدينة، والناس ينادون عليه: هذا جزاء مَن يتهجَّم على حريم الناس. ووقع من فوق الجمل فانكسرَتْ رجله، فصار أعرج، ثم نفاه الوالي من المدينة، فخرج لا يدري أين يقصد، فاغتظتُ أنا فلحقتُه، وأتيت به والتزمت بأكله وشربه إلى الآن.

فضحك الخليفة من كلامي، وقال: أحسنتَ. فقلت: لا أقبل هذا التعظيم منك دون أن تصغي إليَّ حتى أحكي لك ما وقع لبقية إخوتي، ولا تحسب أني كثير الكلام. فقال الخليفة: حدِّثني بما وقع لجميع إخوتك، وشنِّفْ مسامعي بهذه الرقائق، واسلك سبيلَ الإطناب في ذكر هذه اللطائف.

 

حكاية الحدار الأخ الثاني

فقلت: اعلم يا أمير المؤمنين أن أخي الثاني كان اسمه الحدَّار، وقد وقع له أنه كان ماشيًا يومًا من الأيام ومتوجِّهًا إلى حاجة له، وإذا بعجوز قد استقبلته وقالت له: أيها الرجل، قف قليلًا حتى أعرض عليك أمرًا، فإن أعجبك فاقْضِه لي. فوقف أخي فقالت له: أدلُّك على شيء، وأرشدك إليه بشرط ألَّا يكون كلامُك كثيرًا. فقال لها أخي: هاتي كلامك. قالت له: ما قولك في دار حسنة، وماؤها يجري، وفاكهة ومُدام، ووجه مليح تشاهده، وخدٍّ أسيل تقبِّله، وقَدٍّ رشيق تعانقه؟ ولم تزل كذلك من العشاء إلى الصباح، فإنْ فعلتَ ما أشترط عليك رأيت الخير. فلما سمع أخي كلامها قال لها: يا سيدتي، وكيف قصدتِني بهذا الأمر من دون الخلق أجمعين، فأي شيء أعجبك مني؟ فقالت لأخي: ما قلت لك لا تكن كثيرَ الكلام، واسكت وامضِ معي. ثم ولَّتِ العجوز، وسار أخي تابعًا لها؛ طمعًا فيما وصفَتْه له، حتى دخلَا دارًا فسيحة، وصعدت به من أدنى إلى أعلى، فرأى قصرًا ظريفًا، فنظر أخي فرأى فيه أربع بنات ما رأى الراءون أحسن منهن، وهُنَّ يغنين بأصوات تطرب الحجر الأصم، ثم إن بنتًا منهن شربت قدحًا، فقال لها أخي: بالصحة والعافية. وقام ليخدمها فمنعته من الخدمة، ثم سقَتْه قدحًا فشرب، وصفعَتْه على رقبته، فلما رأى أخي ذلك منها خرج مغضبًا ومكثرًا للكلام، فتبعته العجوز وجعلت تغمزه بعينها يعني ارجع، فرجع وجلس ولم ينطق، فأعادت الصفع على قفاه إلى أن أغمي عليه، ثم قام أخي لقضاء حاجته، فلحقته العجوز وقالت له: اصبر قليلًا حتى تبلغ ما تريد. فقال لها أخي: إلى كم أصبر قليلًا ولا أبلغ ما أريد؟ فقالت له العجوز: إذا سكرتَ بلغتَ مرادك.

فرجع أخي إلى مكانه وجلس، فقامت البنات كلهن وأمرتهن العجوز أن يجرِّدْنَه من ثيابه، وأن يرششن على وجهه ماء ورد، ففعلن ذلك، فقالت الصبية البارعة الجمال منهن: أعزك الله، قد دخلتَ منزلي، فإن صبرتَ على شرطي بلغتَ مرادك. فقال لها أخي: يا سيدتي، أنا عبدك، وفي طبقة يدك. فقالت له: اعلم أن الله قد أشغفني بحب الطرب، فمَن أطاعني نال ما يريد. ثم أمرت الجواري أن يغنِّين فغنَّيْنَ حتى طرب المجلس، ثم قالت للجارية: خذي سيدك واقضي حاجته، وائتيني به في الحال. فأخذت الجارية أخي وهو لا يدري ما تصنع به، فلحقته العجوز وقالت له: اصبر ما بقي إلا القليل. فأقبل أخي على الصبية والعجوز تقول: اصبر؛ فقد بلغتَ ما تريد، وإنما بقي شيء واحد وهو أن تحلق ذقنك. فقال لها أخي: وكيف أعمل في فضيحتي بين الناس؟ فقالت له العجوز: إنها ما أرادت أن تفعل بك ذلك إلا لأجل أن تصير أمردَ بلا ذقن، ولا يبقى في وجهك شيء يشكلها، فإنها صار في قلبها لك محبة عظيمة، فاصبر فقد بلغتَ المُنَى.

فصبر أخي، وطاوع الجارية، وحلق ذقنه، وجاءت به إلى الصبية، وإذا هو محلوق الحاجبين والشاربين والذقن، محمرَّ الوجه، ففزعت منه، ثم ضحكت حتى استلقت على قفاها، وقالت: يا سيدي، لقد ملكتني بهذه الأخلاق الحسنة. ثم حلَّفَتْه بحياتها أن يقوم ويرقص، فقام ورقص، فلم تدع في البيت مخدة حتى ضربته بها، وكذلك جميع الجواري صرن يضربنه بمثل نارنجة وليمونة وأترجة إلى أن سقط مغشيًّا عليه من الضرب، ولم يزل الصفع على قفاه، والرجم في وجهه، إلى أن قالت له العجوز: الآن بلغتَ مرادك، واعلم أنه ما بقي عليك من الضرب شيء، وما بقي إلا شيء واحد، وذلك أن من عادتها أنها إذا سكرَتْ لا تمكِّن أحدًا من نفسها حتى تقلع ثيابها وسراويلها وتبقى عريانةً من جميع ثيابها، وأنت الآخَر تقلع ثيابك، وتجري وراءها وهي تجري قدامك كأنها هاربة منك، ولم تزل تابعها من مكان إلى مكان حتى يقوم أَيْرُك، فتمكِّنك من نفسها. ثم قالت له: قم اقلع ثيابك. فقام وهو غائب عن الوجود، وقلع ثيابه جميعًا وبقي عريانًا. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 31﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أخا المزين لما قالت له العجوز: قم اقلع ثيابك. قام وهو غائب عن الوجود وقلع ثيابه وصار عريانًا، قالت الجارية لأخي: قُمِ الآن، واجرِ ورائي، وأجري أنا قدامك، وإذا أردتَ شيئًا فاتبعني. فجرت قدامه وتبعها، ثم جعلت تدخل من محل إلى محل، وتخرج من محل إلى آخَر، وأخي وراءها، وقد غلب عليه الشبق، وأيره قائم كأنه مجنون، ولم تزل تجري قدامه وهو يجري وراءها، حتى سمع منها صوتًا رقيقًا، فبينما هو كذلك إذ رأى نفسه في وسط زقاق، وذلك الزقاق في سوق الجلَّادين، وهم ينادون على الجلود، فرآه الناس على تلك الحالة وهو عريان، قائم الأير، محلوق الذقن والحواجب والشوارب، محمرَّ الوجه، فصاحوا عليه وصاروا يضحكون ويقهقهون، وصار بعضهم يصفعه بالجلود وهو عريان حتى غشي عليه، وحملوه على حمار حتى وصَّلوه إلى الوالي، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا وقع لنا من بيت الوزير، وهو على هذه الحالة. فضربه الوالي مائة سوط، وخرجتُ أنا خلفه، وجئتُ به وأدخلته المدينة سرًّا، ثم رتَّبْتُ له ما يقتات به، فلولا مروءتي ما كنتُ أحتمل مثله.

 

حكاية الأخ الثالث

وأما أخي الثالث فاسمه بقبق، ساقه القضاء والقدر إلى دار كبيرة، فدَقَّ الباب طمعًا أن يكلمه صاحبها فيسأله شيئًا، فقال صاحب الدار: مَن بالباب؟ فلم يكلمه أحدٌ، فسمعه أخي يقول بصوت عالٍ: مَن هذا؟ فلم يكلمه أخي، وسمع مشيه حتى وصل إلى الباب وفتحه، فقال: ما تريد؟ قال له أخي: شيئًا لله تعالى. فقال له: هل أنت ضرير؟ قال له أخي: نعم. فقال له: ناولني يدك. فناوله يده فأدخله الدار، ولم يزل يصعد به من سلم إلى سلم حتى وصل إلى أعلى السطوح، وأخي يظن أنه يُطعِمه شيئًا، أو يعطيه شيئًا، فلما انتهى إلى أعلى مكان قال لأخي: ما تريد يا ضرير؟ قال: أريد شيئًا لله تعالى. فقال له: يفتح الله عليك. فقال له أخي: يا هذا، أَمَا كنت تقول لي ذلك وأنا في الأسفل؟ فقال له: يا أسفل السَّفَلة، لم تسألني شيئًا لله حين سمعتَ كلامي أول مرة وأنت تدقُّ الباب. فقال أخي: وفي هذه الساعة ما تريد أن تصنع بي؟ فقال له: ما عندي شيء حتى أعطيك إياه. قال له: انزل بي إلى السلالم. فقال له: الطريق بين يديك. فقام أخي واستقبل السلالم، وما زال نازلًا حتى بقي بينه وبين الباب عشرون درجة، فزلقت رجله فوقع، ولم يزل واقعًا منحدرًا في السلالم حتى انشجَّتْ رأسه، فخرج وهو لا يدري أين يذهب، فلحقه بعض رفقائه العميان، فقالوا له: أي شيء حصل لك في هذا اليوم؟ فحدَّثهم بما وقع له، ثم قال لهم: يا إخواني، أريد أن آخذ شيئًا من الدراهم التي بقيت معنا، وأنفق منه على نفسي.

وكان صاحب الدار مشى خلفه ليعرف حاله فسمع كلامه، وأخي لا يدري بأن الرجل يسعى خلفه، إلى أن دخل أخي مكانه، ودخل الرجل خلفه، وهو لا يشعر به وقعد أخي ينتظر رفقاءه، فلما دخلوا عليه قال لهم: أغلقوا الباب، وفتِّشوا البيت كي لا يكون أحدٌ غريب تبعنا. فلما سمع الرجل كلام أخي، قام وتعلَّق بحبل كان في السقف، فطافوا البيت جميعه فلم يجدوا أحدًا، ثم رجعوا وجلسوا إلى جانب أخي، وأخرجوا الدراهم التي معهم وعدُّوها، فإذا هي عشرة آلاف درهم، فتركوها في زاوية البيت، وأخذ كل واحد ممَّا زاد عنها ما يحتاج إليه، ودفنوا العشرة آلاف درهم في التراب، ثم قدموا بين أيديهم شيئًا من الأكل، وقعدوا يأكلون، فأحسَّ أخي بصوت غريب في جهته، فقال لأصحابه: هل معنا غريب؟ ثم مدَّ يده فتعلَّقت بيد الرجل صاحب الدار، فصاح على رفقائه، وقال: هذا غريب. فوقعوا فيه ضربًا، فلما طال عليهم ذلك صاحوا: يا مسلمون! دخل علينا لص يريد أن يأخذ مالنا. فاجتمع عليهم خلق كثير، فتعامى الرجل الغريب صاحب الدار الذي ادَّعَوْا عليه أنه لص، وأغمض عينَيْه، وأظهر أنه أعمى مثلهم بحيث لا يشكُّ فيه أحدٌ، وصاح: يا مسلمون، أنا بالله والسلطان، أنا بالله والوالي، أنا بالله والأمير، فإن عندي نصيحة للأمير. فلم يشعروا إلا وقد احتاط بهم جماعة الوالي، فأخذوهم وأخي معهم، وأحضروهم بين يديه، فقال الوالي: ما خبركم؟ فقال ذلك الرجل: اسمع كلامي أيها الوالي، لا يظهر لك حقيقة حالنا إلا بالعقوبة، وإن شئتَ فابدأ بعقوبتي قبل رفقائي. فقال الوالي: اطرحوا هذا الرجل واضربوه بالسياط. فطرحوه وضربوه، فلما أوجعه الضرب فتح إحدى عينَيْه، فلما ازداد عليه الضرب فتح عينه الأخرى، فقال له الوالي: ما هذه الفعال يا فاجر؟ فقال: أعطني الأمان وأنا أخبرك. فأعطاه الأمان فقال: نحن أربعة نعمل أرواحنا عميانًا، ونمر على الناس، وندخل البيوت وننظر النساء، ونحتال في فسادهن واكتساب الأموال من طرفهن، وقد حصلنا من ذلك مكسبًا عظيمًا وهو عشرة آلاف درهم، فقلت لرفقائي: أعطوني حقي ألفين وخمسمائة. فقاموا وضربوني وأخذوا مالي، وأنا مستجير بالله وبك، وأنت أحق بحصتي من رفقائي، وإنْ شئتَ أن تعرف صِدْقَ قولي، فاضرب كلَّ واحد أكثر ممَّا ضربتني فإنه يفتح عينيه.

فعند ذلك أمر الوالي بعقوبتهم، وأول ما بدأ بأخي، ولا زالوا يضربونه حتى كاد أن يموت، ثم قال لهم الوالي: يا فَسَقَة! أتجحدون نعمة الله، وتدعون أنكم عميان؟! فقال أخي: الله الله الله، ما فينا بصير. فطرحوه إلى الضرب ثانيًا، ولم يزالوا يضربونه حتى غُشِي عليه، فقال الوالي: دعوه حتى يفيق، وأعيدوا عليه الضرب ثالث مرة. ثم أمر بضرب أصحابه كل واحد أكثر من ثلاثمائة عصًا، والبصير يقول لهم: افتحوا عيونَكم، وإلا جدَّدوا عليكم الضرب. ثم قال للوالي: ابعث معي مَن يأتيك بالمال، فإن هؤلاء ما يفتحون أعينهم، ويخافون من فضيحتهم بين الناس. فبعث الوالي معه مَن أتاه بالمال فأخذه، وأعطى الرجل منه ألفين وخمسمائة درهم على قدر حصته رغمًا عنهم، ونفى أخي وباقي الثلاثة خارج المدينة، فخرجتُ أنا يا أمير المؤمنين ولحقت أخي، وسألتُه عن حاله، فأخبرني بما ذكرته لك، فأدخلته المدينة سرًّا ورتَّبْتُ له ما يأكل وما يشرب طول عمره.

فضحك الخليفة من حكايتي، وقال: صلوه بجائزة، ودعوه ينصرف. فقلت له: واللهِ ما آخذ شيئًا حتى أبيِّنَ لأمير المؤمنين ما جرى لبقية إخوتي، وأوضِّح له أني قليل الكلام. فقال الخليفة: اصدع آذاننا بخرافة خبرك، وزِدْنا من عجرك وبجرك.

 

حكاية الأعور الأخ الرابع

فقلت: وأمَّا أخي الرابع يا أمير المؤمنين وهو الأعور، فإنه كان جزَّارًا ببغداد يبيع اللحم ويربي الخرفان، وكانت الكبار وأصحاب الأموال يقصدونه ويشترون منه اللحم، فاكتسب من ذلك مالًا عظيمًا، واقتنى الدوابَّ والدُّورَ، ثم أقام على ذلك زمنًا طويلًا، فبينما هو في دكانه يومًا من الأيام إذ وقف عليه شيخ كبير اللحية، فدفع له دراهم وقال: أعطني بها لحمًا. فأخذ منه الدراهم، وأعطاه اللحم وانصرف. فتأمَّلَ أخي في فضة الشيخ، فرأى دراهمه بيضًا بياضها ساطع، فعزلها وحدها في ناحية، وأقام الشيخ يتردَّد عليه خمسة أشهر، وأخي يطرح دراهمه في صندوق وحدها، ثم أراد أن يخرجها ويشتري غنمًا، فلما فتح الصندوق رأى جميع ما فيه ورقًا أبيض مقصوصًا، فلطم وجهه وصاح، فاجتمع الناس عليه، فحدَّثهم بحديثه فتعجَّبوا منه، ثم رجع أخي إلى الدكان على عادته، فذبح كبشًا وعلَّقه داخل الدكان، وقطع لحمًا وعلقه خارج الدكان، وصار يقول في نفسه: لعلَّ ذلك الشيخ يجيء فأقبض عليه. فما كان إلا ساعة وقد أقبل الشيخ ومعه الفضة، فقام أخي وتعلَّقَ به، وصار يصيح: يا مسلمون! الحقوني واسمعوا قصتي مع هذا الفاجر.

فلما سمع الشيخ كلامه قال له: أي شيء أحبُّ إليك: أن تُعرِض عن فضيحتي، أم أفضحك بين الناس؟ فقال له أخي: بأي شيء تفضحني؟ قال: بأنك تبيع لحم الناس في صورة لحم الغنم. فقال له أخي: كذبت يا ملعون. فقال الشيخ: ما ملعون إلا الذي عنده رجل معلَّق في الدكان. فقال له أخي: إنْ كان الأمر كما ذكرتَ، فمالي ودمي حلال لك. فقال الشيخ: يا معاشر الناس، إن هذا الجزار يذبح الآدميين، ويبيع لحمهم في صورة لحم الغنم، وإنْ أردتم أن تعلموا صدْقَ قولي فادخلوا دكانه. فهجم الناس على دكان أخي، فرأوا ذلك الكبش صار إنسانًا معلَّقًا، فلما رأوا ذلك تعلَّقوا بأخي، وصاحوا عليه: يا كافر! يا فاجر! وصار أعز الناس إليه يضربه، ولطمه الشيخ على عينه فقلعها، وحمل الناس ذلك المذبوح إلى صاحب الشرطة، فقال له الشيخ: أيها الأمير، إن هذا الرجل يذبح الناس، ويبيع لحمهم على أنه لحم غنم، وقد أتينا به فقُمْ واقْضِ حقَّ الله عز وجل. فدافَعَ أخي عن نفسه، فلم يسمع منه صاحب الشرطة، بل أمر بضربه خمسمائة عصًا، وأخذوا جميع ماله، ولولا كثرة ماله لقتلوه، ثم نفوا أخي من المدينة، فخرج هائمًا لا يدري أين يتوجَّه، حتى دخل مدينة كبيرة، واستحسن أن يعمل إسكافيًّا، ففتح دكانًا، وقعد يعمل شيئًا يتقوَّت منه، فخرج ذات يوم في حاجة فسمع صهيل خيل، فبحث عن سبب ذلك، فقيل له: إن الملك خارج إلى الصيد والقنص. فخرج أخي ليتفرج على الموكب وهو يتعجب من حسن رأيه، حيث انتقل إلى صنعة الأساكفة، فالتفَتَ الملك فوقعت عينه على عين أخي، فأطرق الملك رأسه وقال: أعوذ بالله من شرِّ هذا اليوم. وثنى عِنان فرسه، وانصرف راجعًا، فرجع جميع العسكر، وأمر الملك غلمانه أن يلحقوا أخي ويضربوه، فلحقوا به وضربوه ضربًا موجعًا حتى كاد أن يموت، ولم يَدْرِ أخي ما السبب، فرجع إلى موضعه وهو في حالة العدم، ثم مضى إلى إنسان من حاشية الملك، وقصَّ عليه ما وقع له، فضحك حتى استلقى على قفاه، وقال له: يا أخي، اعلم أن الملك لا يطيق أن ينظر إلى أعور، لا سيما إن كان العَوَر شمالًا، فإنه لا يرجع عن قتله.

فلما سمع أخي ذلك الكلام عزم على الهروب من تلك المدينة، ثم ارتحل منها وتحوَّلَ إلى مدينة أخرى لم يكن فيها ملك، وأقام بها زمنًا طويلًا، ثم بعد ذلك تفكَّرَ في أمره، وخرج يومًا ليتفرج، فسمع صهيل خيل خلفه، فقال: جاء أمر الله. وفرَّ يطلب موضعًا ليستتر فيه، فلم يجد، ثم نظر فرأى بابًا منصوبًا، فدفع ذلك الباب فدخل فرأى دهليزًا طويلًا، فاستمر داخلًا فيه، فلم يشعر إلا ورجلان قد تعلَّقَا به، وقالَا له: الحمد لله الذي مكَّنَنا منك يا عدو الله، هذه ثلاث ليالٍ ما أرحتنا، ولا تركتنا ننام، ولا يستقر لنا مضجع، بل أذقْتَنا طعْمَ الموت. فقال أخي: يا قوم، ما أمركم؟ فقالوا: أنت تراقبنا، وتريد أن تفضحنا، وتفضح صاحب البيت، أَمَا يكفيك أنك أفقرتَه وأفقرتَ أصحابك؟ ولكن أَخْرِجْ لنا السكين التي تهدِّدنا بها كلَّ ليلة. وفتَّشوه فوجدوا في وسطه السكينَ التي يقطع بها النعال، فقال: يا قوم، اتقوا الله في أمري، واعلموا أن حديثي عجيب. فقالوا: وما حديثك؟ فحدَّثهم بحديثه طمعًا أن يُطلِقوه، فلم يسمعوا منه ما قاله، ولم يلتفتوا إليه، بل ضربوه ومزَّقوا ثوبه، فلما تمزَّقَتْ أثوابه وانكشف بدنه، وجدوا أثر الضرب بالمقارع على جنبَيْه، فقالوا له: يا ملعون، هذا أثر الضرب يشهد على جرمك. ثم أحضروا أخي بين يدي الوالي، فقال في نفسه: قد وقعتُ بذنوبي، وما يخلِّصني إلا الله تعالى. فلما حضر بين يدي الوالي قال له: يا فاجر، ما حملك على أن ضُرِبت بالمقارع إلا جرم عظيم. ثم ضرب أخي مائة سوط، ثم حملوه على جمل ونادوا عليه: هذا جزاء مَن يهجم على بيوت الناس. فلما سمعتُ به أنا خرجتُ إليه، ولا زلت دائرًا معه وهم ينادون عليه حتى تركوه، فأتيتُ إليه وأخذته، وأدخلته المدينة سرًّا، ورتَّبْتُ له ما يأكل وما يشرب.

 

حكاية الأخ الخامس

وأما أخي الخامس، فإنه كان مقطوع الأذنين يا أمير المؤمنين، وكان رجلًا فقيرًا يسأل الناس ليلًا، وينفق ما يحصِّله بالسؤال نهارًا، وكان والدنا شيخًا كبيرًا طاعنًا في السن، فخلف لنا سبعمائة درهم، فأخذ كل واحد منَّا مائة درهم، وأما أخي الخامس هذا فإنه لما أخذ حصته تحيَّر ولم يدرِ ما يصنع بها، فبينما هو كذلك إذ وقع في خاطره أنه يأخذ بها زجاجًا من كل نوع ليتَّجِرَ به ويربح، فاشترى بالمائة درهم زجاجًا، وجعله في طبق كبير، وقعد في موضع ليبيع ذلك الزجاج، وبجانبه حائط، فأسند ظهره إليها، وقعد متفكرًا في نفسه، وقال: إن رأس مالي في هذا الزجاج مائة درهم، وأنا أبيعه بمائتَيْ درهم، ثم أشتري بالمائتَيْ درهم زجاجًا، وأبيعه بأربعمائة درهم، ولا أزال أبيع وأشتري إلى أن يبقى معي مال كثير، فأشتري به من جميع المتاجر والعطريات؛ حتى يربح ربحًا عظيمًا، وبعد ذلك أشتري دارًا حسنة، وأشتري المماليك والخيل والسروج المذهبة، وآكل وأشرب، ولا أخلي مغنية في المدينة حتى أجيء بها إلى بيتي، وأسمع مغانيها.

هذا كله وهو يحسب في نفسه، وقفص الزجاج قدَّامه، ثم قال: وأبعث جميع الخاطبات في خطبة بنات الملوك والوزراء، وأخطب بنت الوزير، فقد بلغني أنها كاملة الحسن، بديعة الجمال، وأمهرها بألف دينار، فإن رضي أبوها حصل المراد، وإن لم يرضَ أخذتُها قهرًا على رغم أنفه، فإن حصلت في داري أشتري عشرة خُدَّام صغار، ثم أشتري لي كسوة الملوك والسلاطين، وأصوغ لي سرجًا من الذهب مرصعًا بالجواهر، ثم أركب ومعي المماليك يمشون حولي، وقدامي وخلفي، حتى إذا رآني الوزير قام إجلالًا لي، وأقعدني مكانه، ويقعد هو دوني؛ لأنه صهري، ويكون معي خادمان بكيسين في كل كيس ألف دينار، فأعطيه ألفَ دينار مهرَ بنته، وأهدي إليه الألفَ الثاني إنعامًا؛ حتى أُظهِرَ له مروءتي وكرمي وصِغَر الدنيا في عيني، ثم أنصرف إلى داري، فإذا جاء أحد من جهة امرأتي، وهبتُ له دراهم، وخلعت عليه خلعة، وإنْ أرسَلَ إليَّ الوزير هديةً رددْتُها عليه، ولو كانت نفيسةً، ولم أقبلها منه حتى يعلموا أني عزيز النفس، ولا أخلي نفسي إلا في أعلى مكانة، ثم أقدم إليهم في إصلاح شأني وتعظيمي، فإذا فعلوا ذلك أمرتهم بزفافها. ثم أصلح داري إصلاحًا بيِّنًا، فإذا جاء وقت الجلاء لبست أفخر ثيابي، وقعدت على مرتبة من الديباج لا ألتفت يمينًا ولا شمالًا لكبر عقلي ورزانة فهمي، وتجيء امرأتي وهي كالبدر في حليها وحللها، وأنا لا أنظر إليها عجبًا وتيهًا حتى يقول جميع مَن حضر: يا سيدي، امرأتك وجاريتك قائمة بين يديك، فأنعِمْ عليها بالنظر، فقد أضرَّ بها القيام. ثم يقبِّلون الأرض قدامي مرارًا، فعند ذلك أرفع رأسي، وأنظر إليها نظرة واحدة، ثم أُطرِقُ برأسي إلى الأرض، فيمضون بها، وأقوم أنا وأغيِّر ثيابي، وألبس أحسن ممَّا كان عليَّ، فإذا جاءوا بالعروسة المرة الثانية لا أنظر إليها حتى يسألوني مرارًا، فأنظر إليها، ثم أطرق إلى الأرض، ولم أزل كذلك حتى يتم جلاؤها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 32﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أخا المزين الخامسَ قال: ثم أطرق إلى الأرض، ولم أزل كذلك حتى يتم جلاؤها، ثم إني آمر بعض الخدام أن يرمي كيسًا فيه خمسمائة دينار للمواشط، فإذا أخذته المواشط آمرهن أن يدخلنني عليها، فإذا أدخلنني عليها لا أنظر إليها ولا أكلمها احتقارًا لها؛ لأجل أن يقال إني عزيز النفس، حتى تجيء أمها تقبِّل رأسي ويدي، وتقول لي: يا سيدي، انظر جاريتك فإنها تشتهي قُرْبَك، فاجبر خاطرها بكلمة. فلا أردُّ عليها جوابًا، ولم تزل كذلك تستعطفني حتى تقوم وتقبِّل يدي ورجلي مرارًا، ثم تقول: يا سيدي، إن بنتي صبية مليحة ما رأت رجلًا، فإذا رأَتْ منك هذا الانقباض انكسَرَ خاطرها، فمِلْ إليها وكلِّمْها. ثم إنها تقوم وتحضر لي قدحًا فيه شراب، ثم إن ابنتها تأخذ القدح لتعطيني، فإذا جاءتني تركتها قائمة بين يدي وأنا متكئ على مخدة مزركشة بالذهب، لا أنظر إليها من كبر نفسي وجلالة قدري، حتى تظن في نفسها أني سلطان عظيم الشأن، فتقول: يا سيدي، بحق الله عليك لا تردَّ القدحَ من يد جاريتك، فإني جاريتك. فلا أكلمها، فتلحُّ عليَّ وتقول: لا بد من شربه. وتقدِّمه إلى فمي، فأنفض يدي في وجهها وأرفسها، وأعمل هكذا. ثم رفس أخي برجله فجاءت في قفص الزجاج، وكان في مكان مرتفع، فنزل إلى الأرض فتكسر كلُّ ما فيه، ثم قال أخو الخياط: هذا كله من كبر نفسي. ولو كان أمره إليَّ يا أمير المؤمنين لضربتُه ألف سوط وأشهرتُه في البلد.

ثم بعد ذلك صار أخي يلطم على وجهه، ومزَّقَ ثيابه، وجعل يبكي ويلطم، والناس ينظرون إليه، وهم رائحون إلى صلاة الجمعة، فمنهم مَن يرمقه، ومنهم مَن لم يفكر فيه وهو على تلك الحالة، وراح منه رأس المال والربح، ولم يزل جالسًا يبكي، وإذا بامرأة مقبلة إلى صلاة الجمعة، وهي بديعة الجمال تفوح منها رائحة المسك، وتحتها بغلةٌ برذعتُها من الديباج، مزركشة بالذهب، ومعها عدد من الخدم، فلما نظرَتْ إلى الزجاج وحال أخي وبكائه، أخذتها الشفقةُ عليه، ورقَّ قلبها له، وسألت عن حاله، فقيل لها: إنه كان معه طبق زجاج يتعيَّش منه، فانكسَرَ منه، فأصابه ما تنظرينه. فنادت بعض الخدام وقالت له: ادفع الذي معك إلى هذا المسكين. فدفع له صرة فأخذها، فلما فتحها وجد فيها خمسمائة دينار، فكاد أن يموت مع شدة الفرح، وأقبل أخي بالدعاء لها، ثم عاد إلى منزله غنيًّا، وقعد متفكرًا، وإذا بداقٍّ يدقُّ الباب، فقام وفتح، وإذا بعجوز لا يعرفها، فقالت له: يا ولدي، اعلم أن الصلاة قد قرب زوال وقتها، وأنا بغير وضوء، وأطلب منك أن تدخلني منزلك حتى أتوضأ. فقال لها: سمعًا وطاعةً. ثم دخل أخي، وأذن لها بالدخول، وهو طائر من الفرح بالدنانير، فلما فرغت أقبلَتْ إلى الموضع الذي هو جالس فيه، وصلَّتْ هناك ركعتين، ثم دعت لأخي دعاءً حسنًا، فشكرها على ذلك وأعطاها دينارين، فلما رأت ذلك قالت: سبحان الله، إني لَأعجب ممَّنْ أحَبَّكَ وأنت بسِمَةِ الصعاليك، فخُذْ مالك عني، وإنْ كنتَ غيرَ محتاج إليه، فارددْه إلى التي أعطَتْكَ إياه لما انكسَرَ الزجاج منك. فقال لها أخي: يا أمي، كيف الحيلة في الوصول إليها؟ قالت: يا ولدي، إنها تميل إليك، لكنها زوجة رجل موسر، فخذ جميع مالك معك، فإذا اجتمعْتَ بها فلا تترك شيئًا من الملاطفة والكلام الحسن إلا وتفعله معها، فإنك تنال من جمالها ومن مالها جميعَ ما تريده.

فأخذ أخي جميع الذهب، وقام ومشى مع العجوز وهو لا يصدِّق بذلك، فلم تزل تمشي وأخي يمشي وراءها حتى وصلَا إلى باب كبير فدقَّتْه، فخرجَتْ جارية رومية فتحت الباب، فدخلت العجوز وأمرت أخي بالدخول، فدخل دارًا كبيرة، فلما دخلها رأى فيها مجلسًا كبيرًا مفروشًا، وستائرَ مسبلة، فجلس أخي، ووضع الذهب بين يديه، ووضع عمامته على ركبته، فلم يشعر إلا وجارية أقبلت ما رأى مثلها الراءون، وهي لابسة أفخر القماش، فقام أخي على قدميه، فلما رأته ضحكت في وجهه وفرحت به، ثم ذهبت إلى الباب وأغلقَتْه، ثم أقبلَتْ على أخي وأخذت يده، ومضيَا جميعًا إلى أن أتيَا إلى حجرة منفردة فدخلاها، وإذا هي مفروشة بأنواع الديباج، فجلس أخي وجلسَتْ بجانبه، ولاعبَتْه ساعة زمانية، ثم قامت وقالت له: لا تبرح حتى أجيء إليك. وغابت عن أخي ساعة، فبينما هو كذلك إذ دخل عليه عبد أسود عظيم الخلقة، ومعه سيف مجرَّد يأخذ لمعانه بالبصر، وقال لأخي: يا ويلك! مَن جاء بك إلى هذا المكان يا أخسَّ الإنس، يا ابن الزانية وتربية الخنا؟ فلم يقدر أخي أن يردَّ عليه جوابًا، بل انعقد لسانه في تلك الساعة، فأخذه العبد وأعراه، ولم يزل يضربه بالسيف صفحًا ضربات متعددة أكثر من ثمانين ضربة إلى أن سقط من طوله على الأرض، فرجع العبد عنه واعتقد أنه مات، وصاح صيحة عظيمة بحيث ارتجَّتِ الأرضُ من صوته، ودوَّى له المكان، وقال: أين المليحة؟ فأقبلت إليه جارية في يدها طبق مليح فيه ملح أبيض، فصارت الجارية تأخذ من ذلك الملح، وتحشو الجراحات التي في جلد أخي حتى تهورت، وأخي لا يتحرك خيفةَ أن يعلموا أنه حي فيقتلوه، ثم مضت الجارية، وصاح العبد صيحة مثل الأولى، فجاءت العجوز إلى أخي وجرَّتْه من رجله إلى سرداب طويل مظلم، ورمته فيه على جماعة مقتولين، فاستقر في مكانه يومين كاملين، وكان الله سبحانه جعل الملح سببًا لحياته؛ لأنه قطع عروق الدم.

فلما رأى أخي في نفسه القوة على الحركة قام من السرداب، وفتح طاقة في الحائط، وخرج من مكان القتلى، وأعطاه الله عز وجل الستر، فمشى في الظلام واختفى في ذلك الدهليز إلى الصبح، فلما كان وقت الصبح خرجت العجوز في طلب صيد آخَر، فخرج أخي في إثرها وهي لا تعلم به، حتى أتى إلى منزله، ولم يزل يعالج نفسه حتى برئ، ولم يزل يتعهد العجوز وينظر إليها كلَّ وقت وهي تأخذ الناس واحدًا بعد واحد، وتوصلهم إلى تلك الدار وأخي لا ينطق بشيء، ثم لما رجعت إليه صحته وكملت قوته، عمد إلى خرقة وعمل منها كيسًا، وملأه زجاجًا، وشده في وسطه، وتنكَّرَ حتى لا يعرفه أحد، ولبس ثياب العجم، وأخذ سيفًا، وجعله تحت ثيابه، فلما رأى العجوز قال لها بكلام العجم: يا عجوز، هل عندك ميزان يسع تسعمائة دينار؟ فقالت العجوز: لي ولد صغير صيرفي عنده سائر الموازين، فامضِ معي إليه قبل أن يخرج من مكانه حتى يزن لك ذهبك. فقال أخي: امشي قدامي. فسارت وسار أخي خلفها، حتى أتت البابَ فدَقَّتْه فخرجت الجارية، وضحكت في وجهه. فقالت العجوز: أتيتكم بلحمة سمينة. فأخذت الجارية بيد أخي، وأدخلته الدار التي دخلها سابقًا، وقعدت عنده ساعة، وقامت وقالت لأخي: لا تبرح حتى أرجع إليك. وراحت، فلم يستقر أخي إلا والعبد قد أقبل ومعه السيف المجرد، فقال لأخي: قم يا مشئوم. فقام أخي وتقدَّمَ العبد أمامه، وأخي وراءه، ومد يده إلى سيفه الذي تحت ثيابه، وضرب به العبد فرمى رأسه، وسحبه من رجله إلى السرداب، ونادى: أين المليحة؟ فجاءت الجارية وبيدها الطبق الذي فيه الملح، فلما رأت أخي والسيف بيده، ولَّتْ هاربةً، فتبعها أخي وضربها فرمى رأسها، ثم نادى: أين العجوز؟ فجاءت فقال لها: أتعرفينني يا عجوز النحس؟ فقالت: لا يا مولاي. فقال لها: أنا صاحب الدنانير الذي جئتِ وتوضأتِ عندي وصليتِ، ثم تحيَّلتِ عليَّ حتى أوقعتني هنا. فقالت: اتقِ الله في أمري. فالتفَتَ إليها وضربها بالسيف فصيَّرَها قطعتين.

ثم خرج في طلب الجارية، فلما رأته طار عقلها، وطلبت منه الأمان فأمَّنَها، ثم قال لها: ما الذي أوقعك عند هذا الأسود؟ فقالت: إني كنت جاريةً لبعض التجار، وكانت هذه العجوز تتردَّد عليَّ، فقالت لي يومًا من الأيام: إن عندنا فرحًا ما رأى أحدٌ مثلَه، فأحبُّ أن تنظري إليه. فقلت لها: سمعًا وطاعةً. ثم قمتُ ولبست أحسنَ ثيابي، وأخذتُ معي صرة فيها مائة دينار، ومضيت معها حتى أدخلتني هذه الدار، فلما دخلت ما شعرت إلا وهذا الأسود أخذني، ولم أزل عنده على هذا الحال ثلاث سنين بحيلة العجوز الكاهنة. فقال لها أخي: هل له في الدار شيء؟ فقالت: عنده شيء كثير، فإن كنتَ تقدر على نقله فانقله. فقام أخي ومشى معها، ففتحت له صناديق فيها أكياس، فبقي أخي متحيِّرًا، فقالت له الجارية: امضِ الآن، ودَعْني هنا، وهات مَن ينقل المال. فخرج واكترى عشرة رجال وجاء، فلما وصل إلى الباب وجده مفتوحًا، ولم يَرَ الجارية ولا الأكياس، وإنما رأى شيئًا يسيرًا من المال ورأى القماش، فعلم أنها خدعته. فعند ذلك أخذ المال الذي بقي، وفتح الخزائن، وأخذ جميع ما فيها من القماش، ولم يترك في الدار شيئًا، وبات تلك الليلة مسرورًا، فلما أصبح الصباح وجد بالباب عشرين جنديًّا، فلما خرج إليهم تعلَّقوا به وقالوا له: إن الوالي يطلبك. فأخذوه وراحوا إلى الوالي، فلما رأى أخي قال له: من أين لك هذا القماش؟ فقال أخي: أعطني الأمان. فأعطاه منديل الأمان، فحدَّثَه بجميع ما وقع له مع العجوز من الأول إلى الآخِر، ومن هروب الجارية، ثم قال للوالي: والذي أخذته خذ منه ما شئتَ، ودَعْ لي ما أتقوَّتُ به. فطلب الوالي جميعَ المال والقماش، وخاف أن يعلم به السلطان، فأخذ البعض وأعطى أخي البعض، وقال له: اخرج من هذه المدينة وإلا أشنقك. فقال: السمع والطاعة. فخرج إلى بعض البلدان، فخرجت عليه اللصوص فعرَّوْه وضربوه وقطعوا أذنَيْه، فسمعت بخبره فخرجت إليه، وأخذت إليه ثيابًا، وجئتُ به إلى المدينة مسرورًا، ورتَّبْتُ له ما يأكله وما يشربه.

 

حكاية الأخ السادس

وأما أخي السادس يا أمير المؤمنين وهو مقطوع الشفتين، فإنه كان فقيرًا جدًّا لا يملك شيئًا من حطام الدنيا الفانية، فخرج يومًا من الأيام يطلب شيئًا يسدُّ به رمقه، فبينما هو في بعض الطرق إذ رأى دارًا حسنة ولها دهليز واسع مرتفع، وعلى الباب خَدَمٌ، وأمر ونهي، فسأل بعض الواقفين هناك، فقال: هي لإنسان من أولاد الملوك. فتقدَّمَ أخي إلى البوابين وسألهم شيئًا، فقالوا: ادخل باب الدار تجد ما تحب مِن صاحِبِها. فدخل الدهليز ومشى فيه ساعةً حتى وصل إلى دارٍ في غاية ما يكون من الملاحة والظرف، وفي وسطها بستان ما رأى الراءون أحسن منه، وأرضها مفروشة بالرخام، وستورها مسبولة؛ فصار أخي لا يعرف أين يقصد، فمضى نحو صدر المكان، فرأى إنسانًا حسن الوجه واللحية، فلما رأى أخي قام إليه ورحَّب به وسأله عن حاله، فأخبره أنه محتاج، فلما سمع كلام أخي أظهر غمًّا شديدًا، ومدَّ يده إلى ثياب نفسه ومزَّقَها، وقال: هل أكون أنا ببلد وأنت بها جاد؟ لا صبرَ لي على ذلك. ووعده بكل خير، ثم قال: لا بد أن تمالحني. فقال: يا سيدي، ليس لي صبر، وإني شديد الجوع. فصاح: يا غلام، هات الطشت والإبريق. ثم قال له: يا ضيفي تقدَّمْ واغسلْ يدَيْكَ. ثم أومأ كأنه يغسل يدَيْه، ثم صاح على أتباعه أن قدموا المائدة، فجعلت أتباعه تغدو وترجع كأنها تهيِّئ السفرةَ، ثم أخذ أخي وجلس معه على تلك السفرة الموهومة، وصار صاحب المنزل يُومِئ ويحرِّك شفتَيْه كأنه يأكل، ويقول لأخي: كُلْ، ولا تستحِ؛ فإنك جائع، وأنا أعلم ما أنت فيه من شدة الجوع. فجعل أخي يُومِئ كأنه يأكل، وهو يقول لأخي: كُلْ وانظر هذا الخبز وبياضه. وأخي لا يبدي شيئًا.

ثم إن أخي قال في نفسه: إن هذا رجل يحب أن يهزأ بالناس. فقال له: يا سيدي، عمري ما رأيت أحسن من بياض هذا الخبز، ولا ألذ من طعمه. فقال: هذا خبزَتْه جاريةٌ لي كنت اشتريتها بخمسمائة دينار. ثم صاح صاحب الدار: يا غلام، قدِّمْ لنا السكباج الذي لا يوجد مثله في طعام الملوك. ثم قال لأخي: كُلْ يا ضيفي، فإنك جائع شديد الجوع، ومحتاج إلى الأكل. فصار أخي يدور حنكه ويمضغ كأنه يأكل، وأقبل الرجل يستدعي لونًا بعد لون من الطعام، ولا يُحضِر شيئًا إلا ويأمر أخي بالأكل، ثم صاح: يا غلام، قدِّمْ لنا الفراريج المحشوَّة بالفستق، فكل ما لم تأكل مثله قط. فقال: يا سيدي، إن هذا الأكل لا نظيرَ له في اللذة. وأقبل يومئ بيده إلى فم أخي حتى كأنه يلقمه بيده، وكان يعدِّد هذه الألوان، ويصفها لأخي بهذه الأوصاف وهو جائع، فاشتدَّ جوعه وصار بشهوة رغيف من شعير، ثم قال له صاحب الدار: هل رأيت أطيب من أبازير هذه الأطعمة؟ فقال له أخي: لا يا سيدي. فقال: أكثِرِ الأكلَ ولا تستحِ. فقال: قد اكتفيتُ من الطعام. فصاح الرجل على أتباعه أن قدموا الحلويات، فحركوا أيديهم في الهواء كأنهم قدموا الحلويات، ثم قال صاحب المنزل لأخي: كُلْ من هذا النوع فإنه جيد، وكُلْ من هذه القطائف بحياتي، وخذ هذه القطيفة قبل أن ينزل منها الجلاب. فقال له أخي: لا عدمتك يا سيدي. وأقبَلَ أخي يسأله عن كثرة المسك الذي في القطائف، فقال له: إن هذه عادتي في بيتي، فدائمًا يضعون لي في كل قطيفة مثقالًا من المسك، ونصف مثقال من العنبر، هذا كله وأخي يحرِّك رأسه وفمه يلعب بين شدقَيْه كأنه يتلذَّذ بأكل الحلويات، ثم صاح صاحب الدار على أتباعه أن أحضروا النُّقَل، فحرَّكوا أيديهم في الهواء كأنهم أحضروا النقل، وقال لأخي: كُلْ من هذا اللوز، ومن هذا الجوز، ومن الزبيب. ونحو ذلك، وصار يعدِّد له أنواع النقل، ويقول له: كُلْ ولا تستحِ. فقال له أخي: يا سيدي، قد اكتفيتُ ولم يَبْقَ لي قدرة على أكل شيء. فقال: يا ضيفي، إن أردتَ أن تأكل وتتفرَّج على غرائب المأكولات، فالله الله لا تكن جائعًا.

ثم فكَّرَ أخي في نفسه، وفي استهزاء ذلك الرجل به، وقال: واللهِ لَأعملَنَّ فيه عملًا يتوب بسببه إلى الله عن هذه الفعال. ثم قال الرجل لأتباعه: قدِّموا لنا الشراب. فحركوا أيديهم في الهواء حتى كأنهم قدَّموا الشراب، ثم أومأ صاحب المنزل كأنه ناوَلَ أخي قدحًا، وقال: خذ هذا القدح، فإنه أعجبك. فقال له: يا سيدي، هذا من إحسانك. وأومأ أخي بيده كأنه يشربه، فقال له: هل أعجبك؟ فقال له: يا سيدي، ما رأيتُ ألذَّ من هذا الشراب. فقال له: اشرب هنيئًا وصحة.

ثم إن صاحب البيت أومأ وشرب، ثم ناول أخي قدحًا ثانيًا، فخيَّل أنه شربه، وأظهر أنه سكران، ثم إن أخي غافله ورفع يده حتى بان بياض إبطه، وصفعه على رقبته صفعةً رنَّ لها المكان، ثم ثنى عليه بصفعة ثانية، فقال له الرجل: ما هذا يا أسفل العالمين؟ فقال: يا سيدي، أنا عبدك الذي أنعمتَ عليه، وأدخلتَه منزلك، وأطعمتَه الزاد، وأسقيتَه الخمرَ العتيق، فسكر وعربَدَ عليك، ومقامك أعلى من أن تؤاخذه بجهله. فلما سمع صاحب المنزل كلامَ أخي ضحك ضحكًا عاليًا، ثم قال له: إن لي زمانًا طويلًا أسخر بالناس، وأهزأ بجميع أصحاب المزاح والمجون، ما رأيت منهم مَن له طاقة على أن أفعل به هذه السخرية، ولا مَن له فطنة يدخل بها في جميع أموري غيرك، والآن عفوت عنك، فكن نديمي على الحقيقة ولا تفارقني.

ثم أمر بإخراج عدة من أنواع الطعام المذكورة أولًا، فأكل هو وأخي حتى اكتفيا، ثم انتقلا إلى مجلس الشراب، فإذا فيه جَوارٍ كأنهن الأقمار، فغنَّيْنَ بجميع الألحان، واشتغلن بجميع الملاهي، ثم شربَا حتى غلب عليهما السكر، وأنس الرجل بأخي حتى كأنه أخوه، وحبَّه محبة عظيمة، وخلع عليه خلعة سنية، فلما أصبح الصباح عادَا لما كانا عليه من الأكل والشرب، ولم يزالَا كذلك مدة عشرين سنة، ثم إن الرجل مات وقبض السلطان على ماله واحتوى عليه، فخرج أخي من البلد هاربًا، فلما وصل إلى نصف الطريق خرج عليه العرب فأسروه، وصار الذي أسره يعذِّبه ويقول له: لله اشترِ روحك مني بالأموال، وإلا أقتلك. فجعل أخي يبكي ويقول: أنا واللهِ لا أملك شيئًا يا شيخ العرب، ولا أعرف طريق شيء من المال، وأنا أسيرك، وصرت في يدك فافعل بي ما شئتَ. فأخرَجَ البدوي الجبار من حزامه سكينًا عريضة لو نزلت على رقبة جمل لقطعتها من الوريد إلى الوريد، وأخذها في يده اليمين، وتقدَّمَ إلى أخي المسكين وقطع بها شفتَيْه، وشدَّدَ عليه بالمطالبة، وكان للبدوي زوجة حسنة، وكان إذا خرج البدوي تتعرَّض لأخي، وتراوده عن نفسه، وهو يمتنع حياءً من الله تعالى، فاتفق أن راودَتْ أخي يومًا من الأيام، فقام ولاعَبَها وأجلسها في حجره، فبينما هما بذلك وإذا بزوجها داخل عليهما، فلما نظر إلى أخي، قال له: ويلك يا خبيث! أتريد الآن أن تفسد عليَّ زوجتي؟ وأخرَجَ سكينًا وقطع بها ذَكَرَه، وحمله على جمل وطرحه فوق جبل، وتركه وسار إلى حال سبيله، فجاز عليه المسافرون فعرفوه، فأطعموه وأسقوه، وأعلموني بخبره، فذهبت إليه وحملته، ودخلت به المدينة، ورتَّبْتُ له ما يكفيه. وها أنا جئتُ عندك يا أمير المؤمنين، وخفت أن أرجع إلى بيتي قبل إخبارك، فيكون ذلك غلطًا، وورائي ستة إخوة وأنا أقوم بهم.

فلما سمع أمير المؤمنين قصتي، وما أخبرته عن إخوتي، ضحك وقال: صدقتَ يا صامت، أنت قليل الكلام ما عندك فضول، ولكن الآن اخرج من هذه المدينة واسكن غيرها. ثم نفاني من بغداد، فلم أزل سائر في البلاد حتى طفتُ الأقاليم إلى أن سمعت بموته وخلافة غيره، فرجعت إلى المدينة فوجدتُه مات، ووقعت عند هذا الشاب، وفعلت معه أحسن الفعال، ولولا أنا لقُتِلَ، وقد اتهمني بشيء ما هو فِيَّ، وجميع ما نقله عني من الفضول، وكثرة الكلام، وكثافة الطبع، وعدم الذوق؛ باطلٌ يا جماعة.

ثم قال الخياط لملك الصين: فلما سمعنا قصةَ المزين وتحقَّقنا فضوله وكثرة كلامه، وأن الشاب مظلوم معه، أخذنا المزين وقبضنا عليه وحبسناه وجلسنا حوله آمنين، ثم أكلنا وشربنا، وتمت الوليمة على أحسن حالة، ولم نزل جالسين إلى أن أذَّنَ العصر، فخرجتُ وجئتُ منزلي وغشيتُ زوجتي، فقالت: أنت طول النهار في حظك، وأنا قاعدة في البيت حزينة، فإن لم تخرج بي وتفرجني بقيةَ النهار كان ذلك سبب فراقي منك. فأخذتها وخرجتُ بها، وتفرَّجنا إلى العشاء، ثم رجعنا فلقينا هذ الأحدب والسُّكْرُ طافح منه، وهو ينشد هذين البيتين:

رَقَّ الزُّجَاجُ وَرَاقَتِ الْخُمْرُ        فَتَشَابَهَا وَتَشَاكَلَ الْأَمْرُ

فَكَأَنَّمَا خَمْرٌ وَلَا قَدَحٌ        وَكَأَنَّمَا قَدَحٌ وَلَا خَمْرُ

فعزمتُ عليه فأجابني، وخرجت لأشتري سمكًا مقليًّا، فاشتريت ورجعت، ثم جلسنا نأكل، فأخذت زوجتي لقمةً وقطعةَ سمك، وأدخلَتْهما فمه وسدَّتْه فمات، فحملته وتحايلتُ حتى رميته في بيت هذا الطبيب، وتحايَلَ الطبيب حتى رماه في بيت المباشِر، وتحايَلَ المباشِر حتى رماه في طريق السمسار. وهذه قصة ما لقيته البارحة، أَمَا هي أعجب من قصة الأحدب؟ فلما سمع ملك الصين هذه القصة أمر بعض حُجَّابه أن يمضوا مع الخياط، ويحضروا المزين، وقال لهم: لا بد من حضوره لأسمع كلامه، ويكون ذلك سببًا في خلاصكم جميعًا، وندفن هذا الأحدب ونواريه في التراب، فإنه ميت من أمس، ثم نعمل له ضريحًا؛ لأنه كان سببًا في اطلاعنا على هذه الأخبار العجيبة. فما كان إلا ساعة حتى جاء الحُجَّاب هم والخياط بعد أن مضوا إلى الحبس، وأخرجوا منه المزين، وساروا به إلى أن أوقفوه بين يدَيْ هذا الملك، فلما رآه تأمَّلَه، فإذا هو شيخ كبير جاوَزَ التسعين، أسود الوجه، أبيض اللحية والحواجب، مقرطم الأذنين، طويل الأنف، في نفسه كبر، فضحك الملك من رؤيته وقال: يا صامت، أريد أن تحكي لي شيئًا من حكاياتك. فقال المزين: يا ملك الزمان، ما شأن هذا النصراني، وهذا اليهودي، وهذا المسلم، وهذا الأحدب بينكم ميت؟ وما سبب هذا الجمع؟ فقال له ملك الصين: وما سؤالك عن هذا؟ فقال: سؤالي عنهم حتى يعلم الملك أني غير فضولي، ولا أشتغل إلا بما يعنيني، وأنني بريء ممَّا اتهموني به من كثرة الكلام، وأن لي نصيبًا من اسمي، حيث لقَّبوني بالصامت، كما قال الشاعر:

وَقَلَّمَا أَبْصَرَتْ عَيْنَاكَ ذَا لَقَبٍ        إِلَّا وَمَعْنَاهُ إِنْ فَتَّشْتَ فِي لَقَبِهْ

فقال الملك: اشرحوا للمزين حال هذا الأحدب، وما جرى له في وقت العشاء، واشرحوا له ما حكى النصراني، وما حكى اليهودي، وما حكى المباشِر، وما حكى الخياط. فحكوا له حكايات الجميع، وليس في الإعادة إفادة، فحرَّكَ المزين رأسه وقال: واللهِ إن هذا الشيء عجاب، اكشفوا لي عن هذا الأحدب، فكشفوا له عنه، فجلس عند رأسه وأخذ رأسَه في حجره، ونظر في وجهه، وضحك ضحكًا عاليًا، حتى انقلَبَ على قفاه من شدة الضحك، وقال: لكل موتة سبب من الأسباب، وموتة هذا الأحدب من عجب العجاب، يجب أن تُؤرَّخ في السجلات ليعتبر بما مضى مَن هو آتٍ. فتعجَّبَ الملك من كلامه، وقال: يا صامت، احكِ لنا سبب كلامك هذا. فقال: يا ملك، وحقِّ نعمتك إن الأحدب فيه الروح. ثم إن المزين أخرَجَ من وسطه مكحلة فيها دهن، ودهن رقبة الأحدب وغطاها حتى عرقت، ثم أخرج كلابتين من حديد، ونزل بهما في حلقه، فالتقطت قطعةَ السمك بعظمها، فلما أخرجها رآها الناس بعيونهم، ثم نهض الأحدب واقفًا على قدمَيْه، وعطس عطسة، واستفاق في نفسه، وملَّسَ بيديه على وجهه، وقال: لا إله إلا الله، محمد رسول الله ﷺ. فتعجَّبَ الحاضرون مِن الذي رأوه وعاينوه؛ فضحك ملك الصين حتى غُشِي عليه، وكذلك الحاضرون، وقال السلطان: واللهِ إن هذه قصة عجيبة، ما رأيت أغرب منها! ثم إن السلطان قال: يا مسلمون، يا جماعة العسكر، هل رأيتم في عمركم أحدًا يموت ثم يحيا بعد ذلك؟ ولولا رزَقَه الله بهذا المزين لَكان اليومَ من أهل الآخِرة؛ فإنه كان سببًا لحياته. فقالوا: واللهِ إن هذا من عجب العجاب!

ثم إن ملك الصين أمر أن تُسطَّر هذه القصة فسطَّروها، ثم جعلوها في خزانة الملك، ثم خلع على اليهودي والنصراني والمباشِر، وخلع على كل واحد خلعة سنية، وجعل الخياط خياطَه، ورتَّب له الرواتب، وأصلَحَ بينه وبين الأحدب، وخلع على الأحدب خلعة سنيَّة مليحة، ورتَّبَ له الرواتب وجعله نديمه، وأنعَمَ على المزين وخلع عليه خلعة سنية، ورتَّبَ له الرواتب، وجعل له جامكية، وجعله مزينَ المملكة ونديمه. ولم يزالوا في ألذ عيش وأهناه إلى أن أتاهم هادم اللذات، ومفرِّق الجماعات. وليس هذا بأعجب من قصة الوزيرين التي فيها ذِكْرُ أنيس الجليس. قال الملك: وما حكاية الوزيرين؟

 

حكاية أنيس الجليس وعلي نور

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنه كان بالبصرة ملك من الملوك يحب الفقراء والصعاليك، ويرفق بالرعية، ويَهِبُ من ماله لمَن يؤمن بمحمد ﷺ، وهو كما قال فيه بعضُ واصفيه:

جَعَلَ الْقَنَا أَقْلَامَهُ وَطُرُوسَهُ        مُهَجَ الْعِدَى وَرَأَى الْمِدَادَ دَمَاءَهَا

وَأَظُنُّ أَنَّ الْأَقْدَمِينَ لِذَا رَأَوْا        أَنْ يَجْعَلُوا خَطِّيَّةً أَسْمَاءَهَا

وكان يقال لهذا الملك محمد بن سليمان الزيني، وكان له وزيران، أحدهما يقال له المعين بن ساوى، والثاني يقال له الفضل بن خاقان، وكان الفضل بن خاقان أكرمَ أهل زمانه، حسَنَ السيرةِ، أجمعت القلوب على محبته، واتفقت العقلاء على مشورته، وكل الناس يدعون له بطول مدَّته؛ لأنه محضر خير، مزيل للشر والضير. وكان الوزير المعين بن ساوى يكره الناس ولا يحب الخير، وكان محضر سوء، كما قال فيه بعض واصفيه:

تَجَمَّعَتْ مِنْ نُطَفٍ ذَاتُهُ        فَرُكِّبَتْ مِنْ عُنْصُرٍ فَاسِدِ

لَيْسَ عَلَى اللهِ بِمُسْتَنْكَرٍ        أَنْ يَجْمَعَ الْعَالَمَ فِي وَاحِدِ

فلكلٍّ من هذين الوزيرين نصيب من قول الشاعر:

لُذْ بِالْكِرَامِ بَنِي الْكِرَامِ فَإِنَّمَا        تَلِدُ الْكِرَامَ بَنُو الْكِرَامِ كِرَامَا

وَدَعِ اللِّئَامَ بَنِي اللِّئَامِ فَإِنَّمَا        تَلِدُ اللِّئَامَ بَنُو اللِّئَامِ لِئَامَا

وكان الناس على قدر محبتهم لفضل الدين بن خاقان يبغضون المعين بن ساوى بقدرة القادر، ثم إن الملك محمد بن سليمان الزيني كان قاعدًا يومًا من الأيام على كرسي مملكته وحوله أرباب دولته، إذ نادى وزيره الفضل بن خاقان وقال له: إني أريد جاريةً لا يكون في زمانها أحسن منها بحيث تكون كاملةً في الجمال، فائقةً في الاعتدال، حميدةَ الخصال. فقال أرباب الدولة: وهذه لا توجد إلا بعشرة آلاف دينار. فعند ذلك صاح السلطان على الخازندار وقال: احمل عشرة آلاف دينار إلى دار الفضل بن خاقان. فامتثل الخازندار أمر السلطان، ونزل الوزير بعدما أمره السلطان أن يعمد إلى السوق في كل يوم، ويوصي السماسرة على ما ذكره، وأنه لا تُباع جاريةٌ ثمنُها فوق الألف دينار حتى تُعرَض على الوزير، فلم تَبِعِ السماسرةُ جاريةً حتى يعرضوها عليه، فامتثل الوزير أمره، واستمر على هذه الحال مدةً من الزمان، ولم تُعجِبْه جارية، فاتفق يومًا من الأيام أن بعض السماسرة أقبَلَ على دار الوزير الفضل بن خاقان، فوجده راكبًا متوجِّهًا إلى قصر الملك، فقبض على ركابه وأنشد هذين البيتين:

يَا مَنْ أَعَادَ رَمِيمَ الْمُلْكِ مَنْشُورًا        أَنْتَ الْوَزِيرُ الَّذِي لَا زَالَ مَنْصُورًا

أَحْيَيْتَ مَا مَاتَ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ كَرَمٍ        لَا زَالَ سَعْيُكَ عِنْدَ اللهِ مَشْكُورًا

ثم قال: يا سيدي، إن الجارية التي صدر بطلبها المرسوم الكريم قد حضرت. فقال له الوزير: عليَّ بها. فغاب ساعة، ثم حضر ومعه جارية رشيقة القد، قاعدة النهد، بطرفٍ كحيل، وخدٍّ أسيل، وخصر نحيل، وردف ثقيل، وعليها أحسن ما يكون من الثياب، ورُضابها أحلى من الجلَّاب، وقامتها تفضح غصونَ البان، وكلامُها أرقُّ من النسيم إذا مرَّ على زهرِ البستان، كما قال فيها بعض واصفيها هذه الأبيات:

لَهَا بَشَرٌ مِثْلُ الْحَرِيرِ وَمَنْطِقٌ        رَخِيمُ الْحَوَاشِي لَا هُرَاءٌ وَلَا نَذْرُ

وَعَيْنَانِ قَالَ اللهُ كُونَا فَكَانَتَا        فَعُولَانِ بِالْأَلْبَابِ مَا تَفْعَلُ الْخَمْرُ

فَيَا حُبَّهَا زِدْنِي جَوًى كُلَّ لَيْلَةٍ        وَيَا سَلْوَةَ الْأَيَّامِ مَوْعِدُكِ الْحَشْرُ

ذَوَائِبُهَا لَيْلٌ وَلَكِنْ جَبِينُهَا        إِذَا أَسْفَرَتْ يَوْمًا يَلُوحُ بِهِ الْفَجْرُ

فلما رآها الوزير أعجبَتْه غايةَ الإعجاب، فالتفَتَ إلى السمسار وقال له: كم ثمن هذه الجارية؟ فقال: وقف سعرُها عليَّ عشرة آلاف دينار، وحلف صاحبها أن العشرة آلاف دينار لم تجئ ثمنَ الفراريج التي أكلَتْها، ولا ثمن الخِلع التي خلعتها على معلميها؛ فإنها تعلَّمَتِ الخطَّ والنحوَ واللغةَ والتفسير وأصول الفقه والدين والطب والتقويم والضرب بالآلات المطرِبة. فقال الوزير: عليَّ بسيدها. فأحضره السمسار في الوقت والساعة، فإذا هو رجل أعجمي عاشَ زمنًا طويلًا حتى صيَّرَه الدهرُ عظمًا في جلد، كما قال الشاعر:

أَرْعَشَنِي الدَّهْرُ أَيَّ رَعْشٍ        وَالدَّهْرُ ذُو قُوَّةٍ وَبَطْشِ

قَدْ كُنْتُ أَمْشِي وَلَسْتُ أَعْيَا        وَالْيَوْمَ أَعْيَا وَلَسْتُ أَمْشِي

فقال له الوزير: أرضيت أن تأخذ في هذه الجارية عشرة آلاف دينار من السلطان محمد بن سليمان الزيني؟ فقال العجمي: حيث كانت للسلطان، فالواجب عليَّ أن أقدِّمها إليه هديةً بلا ثمن. فعند ذلك أمر الوزير بإحضار الأموال، فلما حضرَتْ وزَنَ الدنانيرَ للعجمي، ثم أقبَلَ النخَّاسُ على الوزير وقال: عن إذن مولانا الوزير أتكلم. فقال الوزير: هات ما عندك. فقال: عندي من الرأي ألَّا تطلع بهذه الجارية إلى السلطان في هذا اليوم، فإنها قادمة من السفر، واختلَفَ عليها الهواء وأتعَبَها السفرُ، ولكن خلِّها عندك في القصر عشرةَ أيام حتى تستريح، فيزداد جمالها، ثم أَدْخِلْها الحمامَ، وألبسها أحسنَ الثياب، واطلعْ بها إلى السلطان، فيكون لك في ذلك الحظ الأوفر. فتأمَّلَ الوزيرُ كلامَ النخاس فوجده صوابًا، فأتى بها إلى قصره، وأخلى لها مقصورةً، ورتَّبَ لها كلَّ يوم ما تحتاج إليه من طعام وشراب وغيره، فمكثَتْ مدةً على تلك الرفاهية، وكان للوزير الفضل بن خاقان ولدٌ كأنه البدر إذا أشرَقَ بوجه أقمر، وخد أحمر، عليه خال كنقطة عنبر، وفيه عذار أخضر، كما قال الشاعر في مثله هذه الأبيات:

وَرْدُ الْخُدُودِ وَدُونَهُ شَوْكُ الْقَنَا        فَمَنِ الْمُحَدِّثُ نَفْسَهُ أَنْ يُجْتَنَى

لَا تَمْدُدِ الْأَيْدِي إِلَيْهِ فَطَالَمَا        شَنُّوا الْحُرُوبَ لِأَنْ مَدَدْنَا الْأَعْيُنَا

يَا قَلْبَهُ الْقَاسِي وَرِقَّةَ خَصْرِهِ        هَلَّا نَقَلْتَ إِلَى هُنَا مِنْ هَا هُنَا

لَوْ كَانَ رِقَّةُ خَصْرِهِ فِي قَلْبِهِ        مَا جَارَ قَطُّ عَلَى الْمُحِبِّ وَلَا جَنَى

يَا عَاذِلِي فِي حُبِّهِ كُنْ عَاذِرِي        مَنْ لِي بِجِسْمٍ قَدْ تَمَلَّكَهُ الضَّنَى

مَا الذَّنْبُ إِلَّا لِلْفُؤَادِ وَنَاظِرِي        لَوْلَاهُمَا مَا كُنْتُ فِي هَذَا الْعَنَا

وكان الصبي لم يعرف قضية هذه الجارية، وكان والده أوصاها وقال لها: يا بنتي، اعلمي أني ما اشتريتك إلا سرية للملك محمد بن سليمان الزيني، وأن لي ولدًا ما خلا بصبية في الحارة إلا فعل بها، فاحفظي نفسك منه، واحذري أن تريه وجهك أو تسمعيه كلامك. فقالت الجارية: السمع والطاعة. ثم تركها وانصرف، واتفق بالأمر المقدر أن الجارية دخلت يومًا من الأيام الحمام الذي في المنزل، وقد حماها بعض الجواري، ولبست الثياب الفاخرة، فتزايد حسنها وجمالها، ودخلت على زوجة الوزير، فقبَّلَتْ يدها، فقالت لها: نعيمًا يا أنيس الجليس، كيف حالك في هذا الحمام؟ فقالت: يا سيدتي، ما كنتُ محتاجةً إلا حضورك فيه. فعند ذلك قالت سيدة البيت للجواري: قوموا بنا ندخل الحمام. فامتثلن أمرها، ومضين وسيدتهن بينهن، وقد وكَّلَتْ بباب المقصورة التي فيها أنيس الجليس جاريتين صغيرتين، وقالت لها: لا تمكِّنا أحدًا من الدخول على الجارية. فقالتا: السمع والطاعة. فبينما أنيس الجليس قاعدة في المقصورة، وإذا بابن الوزير الذي اسمه علي نور الدين قد دخل وسأل عن أمه وعن العائلة، فقالت له الجاريتان: دخلوا الحمام. وقد سمعت الجارية أنيس الجليس كلامَ علي نور الدين ابن الوزير، وهي من داخل المقصورة، فقالت في نفسها: يا ترى، ما شأن هذا الصبي الذي قال لي الوزير عنه إنه ما خلا بصبية في الحارة إلا واقَعَها؟ والله إني أشتهي أن أنظره. ثم إنها نهضت على قدمَيْها وهي من أثر الحمام، وتقدَّمَتْ جهةَ باب المقصورة، ونظرت إلى علي نور الدين، فإذا هو صبي كالبدر في تمامه، فأورثَتْها النظرةُ ألفَ حسرة، ولاحت من الصبي التفاتة إليها، فنظرها نظرةً أورثَتْه ألفَ حسرة، ووقع كلٌّ منهما في شَرَك هوى الآخَر.

فتقدَّمَ الصبي إلى الجاريتين وصاح عليهما، فهربتا من بين يديه ووقفتا من بعيدٍ تنتظرانه وتنظران ما يفعل، وإذا به تقدَّمَ إلى باب المقصورة، وفتحه ودخل على الجارية، وقال لها: أنت التي اشتَرَاكِ إليَّ أبي؟ فقالت له: نعم. فعند ذلك تقدَّمَ الصبي إليها وكان في حال السُّكر، وأخذ رجلَيْها وجعلهما في وسطه، وهي شبكت يدَيْها في عنقه واستقبلته بتقبيل وشهيق وغنج، فمصَّ لسانها ومصَّتْ لسانه فأزال بكارتها. فلما رأت الجاريتان سيدهما الصغير دخل على الجارية أنيس الجليس، صرختا وكان قد قضى الصبي حاجته وخرج هاربًا وللنجاة طالبًا، وفرَّ من الخوف عقب الفعل الذي فعله. فلما سمعت سيدة البيت صراخَ الجاريتين مضَتْ وخرجت من الحمام والعرق يقطر منها وقالت: ما سبب هذا الصراخ الذي في الدار؟ فلما قربت من الجاريتين اللتين أقعدتهما على باب المقصورة قالت لهما: ويلكما ما الخبر؟ فلما رأيتاها قالتا: إن سيدي علي نور الدين جاء إلينا وضربنا فهربنا منه، ودخل على أنيس الجليس وعانَقَها، وما ندري أي شيء عمل بعد ذلك، فلما صحنا لك هرب. فعند ذلك تقدَّمَتْ سيدةُ البيت إلى أنيس الجليس، وقالت لها: ما الخبر؟ فقالت لها: يا سيدتي، أنا قاعدة، وإذا بصبي جميل الصورة دخل عليَّ، وقال لي: أنت التي اشتَرَاكِ أبي إليَّ؟ فقلت: نعم، واللهِ يا سيدتي اعتقدتُ أن كلامه صحيح، فعند ذلك أتى إليَّ وعانقني. فقالت لها: هل فعل بك شيئًا غير ذلك؟ قالت: نعم، وأخذ مني ثلاث قبلات. فقالت: ما تركَكِ من غير افتضاض؟ ثم بكت ولطمت وجهها هي والجواري؛ خوفًا على نور الدين أن يذبحه أبوه.

فبينما هم كذلك، وإذا بالوزير دخل وسأل عن الخبر، فقالت له زوجته: احلف أن ما قلته لك تسمعه. قال: نعم. فأخبرَتْه بما فعله ولده، فحزن ومزَّق ثيابه، ولطم على وجهه، ونتف لحيته، فقالت له زوجته: لا تقتل نفسك، أنا أعطيك من مالي عشرة آلاف دينار ثمنها. فعند ذلك رفع رأسه إليها، وقال لها: ويلك، أنا ما لي حاجة بثمنها، ولكن خوفي أن تروح روحي ومالي. فقالت له: يا سيدي، ما سبب ذلك؟ قال لها: أَمَا تعلمين أن وراءنا هذا العدو الذي يقال له المعين بن ساوى؟ ومتى سمع هذا الأمر تقدَّمَ إلى السلطان، وقال له: … وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 33﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير قال لزوجته: أَمَا تعلمين أن وراءنا عدوًّا يقال له المعين بن ساوى؟ ومتى سمع بهذا الأمر تقدَّمَ إلى السلطان وقال له: إن وزيرك الذي تزعم أنه يحبك أخذ منك عشرة آلاف دينار، واشترى بها جارية ما رأى أحد مثلها، فلما أعجبته قال لابنه: خذها أنت أحقُّ بها من السلطان، فأخذها وأزال بكارتها، وها هي الجارية عنده. فيقول الملك: تكذب. فيقول للملك: عن إذنك أهجم عليه، وآتيكَ بها. فيأذن له في ذلك، فيهجم على الدار، ويأخذ الجارية ويحضرها بين يدي السلطان، ثم يسألها فما تقدر أن تنكر، فيقول له: يا سيدي، أنت تعلم أني ناصح لك، ولكن ما لي عندكم حظ. فيمثل بي السلطان، والناس كلهم يتفرجون عليَّ، وتروح روحي. فقالت له زوجته: لا تُعلِم أحدًا، وهذا الأمر حصل خفية، وسَلِّمْ أمرَكَ إلى الله في هذه القضية. فعند ذلك سكن قلب الوزير، وطاب خاطره.

هذا ما كان من أمر الوزير، وأما ما كان من أمر علي نور الدين، فإنه خاف عاقبة الأمر، فكان يقضي نهاره في البساتين، ولا يأتي إلا في آخِر الليل لأمه، فينام عندها ويقوم قبل الصبح، ولا يراه أحد، ولم يزل كذلك شهرًا، وهو لم يَرَ وجْهَ أبيه، فقالت أمه لأبيه: يا سيدي، هل تعدم الجارية وتعدم الولد؟ فإن طال هذا الأمر على الولد هَجَّ. قال لها: وكيف العمل؟ قالت له: اسهر هذه الليلة، فإذا جاء أمسِكْه، واصطلح أنت وإياه، وأعْطِه الجاريةَ، فإنها تحبه وهو يحبها، وأعطيك ثمنها. فسهر الوزير طول الليل، فلما أتى ولده أمسكه وأراد نحره، فأدركته أمه وقالت له: أي شيء تريد أن تفعل معه؟ فقال لها: أريد أن أذبحه. فقال الولد لأبيه: هل أهون عليك؟ فتغرغرت عيناه بالدموع وقال له: يا ولدي، كيف هان عليك ذهاب مالي وروحي؟! فقال الصبي: اسمع يا والدي ما قال الشاعر:

هَبْنِي جَنَيْتُ فَلَمْ تَزَلْ أَهْل النُّهَى        يَهِبُونَ لِلْجَانِي سَمَاحًا شَامِلَا

مَاذَا عَسَى يَرْجُو عَدُوُّكَ وَهْوَ فِي        دَرَكِ الْحَضِيضِ وَأَنْتَ أَعْلَى مَنْزِلَا

فعند ذلك قام الوزير من على صدر ولده وأشفق عليه، وقام الصبي وقبَّلَ يد والده، فقال: يا ولدي، لو علمتُ أنك تنصف أنيس الجليس كنتُ وهبتُها لك. فقال: يا والدي كيف لا أنصفها؟ قال: أوصيك يا ولدي أنك لا تتزوج عليها، ولا تضارها، ولا تبيعها. قال له: يا والدي، أنا أحلف لك إني لا أتزوج عليها، ولا أبيعها. ثم حلف له أيمانًا على ما ذكر، ودخل على الجارية فأقام معها سنة، وأنسى الله تعالى الملكَ قصةَ الجارية.

وأما المعين بن ساوى، فإنه بلغه الخبر، ولكنه لم يقدر أن يتكلم لعظم منزلة الوزير عند السلطان، فلما مضت السنة دخل الوزير فضل الدين بن خاقان الحمام، وخرج وهو عرقان، فأصابه الهواء، فلزم الوساد، وطال به السهاد، وتسلسل به الضعف، فعند ذلك نادَى ولدَه عليًّا نور الدين، فلما حضر بين يديه قال له: يا ولدي، إن الرزق مقسوم، والأجل محتوم، ولا بد لكل نسمة من شرب كأس المنون، وأنشد هذه الأبيات:

مَنْ فَاتَهُ الْمَوْتُ يَوْمًا لَمْ يَفُتْهُ غَدًا        وَالْكُلُّ مِنَّا عَلَى حَوْضِ الرَّدَى وَرَدَا

سَوَّى الْعَظِيمَ بِمَنْ قَدْ كَانَ مُحْتَقَرًا        وَلَمْ يَدَعْ هَيْبُهُ بَيْنَ الْوَرَى أَحَدَا

لَمْ يُبْقِ مِنْ مَلَكٍ كَلَّا وَلَا مَلِكٍ        وَلَا نُبَقَّى بِعَيْشٍ دَائِمٍ أَبَدَا

ثم قال: يا ولدي، ما لي عندك وصية إلا تقوى الله والنظر في العواقب، وأن تستوصي بالجارية أنيس الجليس. فقال له: يا أبتِ، ومَن مثلك، وقد كنت معروفًا بفعل الخير، ودعاء الخطباء لك على المنابر؟ فقال: يا ولدي، أرجو من الله تعالى القبول. ثم نطق بالشهادتين، وشهق شهقة، فكُتِب من أهل السعادة، فعند ذلك امتلأ القصر بالصراخ، ووصل الخبر إلى السلطان، وسمعت أهل المدينة بوفاة الفضل بن خاقان، فبكت عليه الصبيان في مكاتبها، ونهض ولده علي نور الدين وجهَّزَه، وحضرت الأمراء والوزراء وأرباب الدولة وأهل المدينة مشهده، وكان ممَّن حضر الجنازةَ الوزيرُ المعين بن ساوى، وأنشد بعضهم عند خروج جنازته من الدار هذه الأبيات:

قَدْ قُلْتُ لِلرَّجُلِ الْمَوَلَّى غَسْلُهُ        هَلَّا أَطَاعَ وَكُنْتَ مِنْ نُصَحَائِهِ

جَنِّبْهُ مَاءَكَ ثُمَّ غَسِّلْهُ بِمَا        أَزَرَتْ عُيُونَ الْمَجْدِ عِنْدَ بُكَائِهِ

وَأَزِلْ مَجَامِيعَ الْحَنُوطِ وَنَحِّهَا        عَنْهُ وَحَنِّطْهُ بِطِيبِ ثَنَائِهِ

وَمُرِ الْمَلَائِكَةَ الْكِرَامَ بِحَمْلِهِ        شَرَفًا أَلَسْتَ تَرَاهُمُو بِإِزَائِهِ

لَا تُوهِ أَعْنَاقَ الرِّجَالِ بِحَمْلِهِ        يَكْفِي الَّذِي حَمَلُوهُ مِنْ نَعْمَائِهِ

ثم مكث علي نور الدين شديدَ الحزن على والده مدةً مديدةً، فبينما هو جالس يومًا من الأيام في بيت والده إذ طرق الباب طارق، فنهض علي نور الدين وفتح الباب، وإذا برجل من ندماء والده وأصحابه، فقبَّلَ يدَ علي نور الدين، وقال: يا سيدي، مَن خلف مثلك ما مات، وهذا مصير سيد الأولين والآخِرين، يا سيدي، طِبْ نفسًا، ودَعِ الحزنَ. فعند ذلك نهض علي نور الدين إلى قاعة الجلوس، ونقل إليها ما يحتاج إليه، واجتمع عليه أصحابه، وأخذ جاريته، واجتمع عليه عشرة من أولاد التجار، ثم إنه أكل الطعام، وشرب الشراب، وجدَّدَ مقامًا بعد مقام، وصار يعطي ويتكرَّم، فعند ذلك دخل عليه وكيله، وقال له: يا سيدي نور الدين، أَمَا سمعتَ قوْلَ بعضهم: مَن ينفق ولم يحسب افتقر؟ ولقد أحسن مَن قال هذه الأبيات:

أَصُونُ دَرَاهِمِي وَأَذُبُّ عَنْهَا        لِعِلْمِي أَنَّهَا سَيْفِي وَتُرْسِي

أَأَبْذُلُهَا إِلَى أَعْدَى الْأَعَادِي        وَأُبْدِلُ فِي الْوَرَى سَعْدِي بِنَحْسِي

فَيَأْكُلَهَا وَيَشْرَبَهَا هَنِيئًا        وَلَا يَسْخُو إِلَى أَحَدٍ بِفَلْسِ

وَأَحْفَظُ دِرْهَمِي عَنْ كُلِّ شَخْصٍ        لَئِيمِ الطَّبْعِ لَا يَصْفُو لِأُنْسِي

أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ قَوْلِي لِنَذْلٍ        أَنِلْنِي دِرْهَمًا لِغَدٍ بِخَمْسِ

فَيَعْرِضَ وَجْهَهُ وَيَصُدُّ عَنِّي        فَتَبْقَى مِثْلَ نَفْسِ الْكَلْبِ نَفْسِي

فَيَا ذُلَّ الرِّجَالِ بِغَيْرِ مَالٍ        وَلَوْ كَانَتْ فَضَائِلُهُمْ كَشَمْسِ

ثم قال: يا سيدي، هذه النفقة الجزيلة والمواهب العظيمة تُفني المال. فلما سمع علي نور الدين من وكيله هذا الكلام، نظر إليه وقال له: جميع ما قلتُه لا أسمع منه كلمة، فما أحسن قول الشاعر:

إِذَا مَا مَلَكْتُ الْمَالَ يَوْمًا وَلَمْ أَجِدْ        فَلَا بَسَطَتْ كَفِّي وَلَا نَهَضَتْ رِجْلِي

فَهَاتُوا بَخِيلًا نَالَ مَجْدًا بِبُخْلِهِ        وَهَاتُوا أَرُونِي بَاذِلًا مَاتَ مِنْ بَذْلِ

ثم قال: اعلم أيها الوكيل أني أريد إذا فضل عندك ما يكفيني لغدائي ألَّا تحمِّلني همَّ عشائي. فانصرف الوكيل من عنده إلى حال سبيله، وأقبل علي نور الدين على ما هو فيه من مكارم الأخلاق، وكل مَن يقول له من ندمائه: إن هذا الشيء مليح. يقول: هو لك هبة. أو يقول: يا سيدي، إن الدار الفلانية مليحة. يقول: هي لك هبة. ولم يزل علي نور الدين يعقد لندمائه وأصحابه في أول النهار مجلسًا، وفي آخِره مجلسًا، إلى أنْ مكث على هذه الحال سنةً كاملة، وبعد السنة فبينما هو جالس يومًا وإذا بالجارية تنشد هذين البيتين:

أَحْسَنْتَ ظَنَّكَ بِالْأَيَّامِ إِذْ حَسُنَتْ        وَلَمْ تَخَفْ سُوءَ مَا يَأْتِي بِهِ الْقَدَرُ

وَسَالَمَتْكَ اللَّيَالِي فَاغْتَرَرْتَ بِهَا        وَعِنْدَ صَفْوِ اللَّيَالِي يَحْدُثُ الْكَدَرُ

فلما فرغَتْ من شعرها إذا بطارق يطرق الباب، فقام نور الدين فتبعه بعض جلسائه من غير أن يعلم به، فلما فتح الباب رآه وكيله، فقال له علي نور الدين: ما الخبر؟ فقال له: يا سيدي، الذي كنتُ أخاف عليك منه قد وقع لك. قال: وكيف ذلك؟ قال: اعلم أنه ما بقي لك تحت يدي شيء يساوي درهمًا، ولا أقل من درهم، وهذه دفاتر المصروف الذي صرفته، ودفاتر أصل مالك. فلما سمع علي نور الدين هذا الكلام أطرق برأسه إلى الأرض، وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله. فلما سمع الرجل - الذي تبعه خفيةً وخرج ليتسلَّلَ عليه - ما قاله الوكيل، رجع إلى أصحابه وقال لهم: انظروا أي شيء تعملون، فإن عليًّا نور الدين قد أفلس. فلما رجع إليهم علي نور الدين ظهر لهم الغمُّ في وجهه، فعند ذلك نهض واحد من الندماء على قدمَيْه، ونظر إلى علي نور الدين، وقال له: يا سيدي، إني أريد أن تأذن لي بالانصراف. فقال علي نور الدين: لماذا الانصراف في هذا اليوم؟ فقال: إن زوجتي تلد في هذه الليلة، ولا يمكنني أن أتخلف عنها، وأريد أن أذهب إليها وأنظرها. فأذن له، ونهض آخَر وقال له: يا سيدي نور الدين، أريد اليوم أن أحضر عند أخي، فإنه يطاهِرُ ولده. وكل واحد يستأذنه بحيلةٍ، ويذهب إلى حال سبيله حتى انصرفوا كلهم، وبقي علي نور الدين وحده، فعند ذلك دعا جاريته، وقال لها: يا أنيس الجليس، أَمَا تنظرين ما حلَّ بي؟ وحكى لها ما قاله الوكيل، فقالت: يا سيدي، من منذ ليالٍ هممتُ أن أقول لك على هذه الحال، فسمعتُك تنشد هذين البيتين:

إِذَا جَادَتِ الدُّنْيَا عَلَيْكَ فَجُدْ بِهَا        عَلَى النَّاسِ طُرًّا قَبْلَ أَنْ تَتَفَلَّتْ

فَلَا الْجُودُ يُفْنِيهَا إِذَا هِيَ أَقْبَلَتْ        وَلَا الشُّحُّ يُبْقِيهَا إِذَا هِيَ وَلَّتْ

فلما سمعتُكَ تنشدهما سكتُّ، ولم أُبْدِ لك خطابًا، فقال لها علي نور الدين: يا أنيس الجليس، أنت تعرفين أني ما صرفت مالي إلا على أصحابي، وأظنهم لا يتركونني من غير مواساة. فقالت أنيس الجليس: واللهِ ما ينفعونك بنافعة. فقال علي نور الدين: فأنا في هذه الساعة أقوم وأروح إليهم، وأطرق أبوابهم؛ لعلي أنال منهم شيئًا، فأجعله في يدي رأس مال، وأتَّجِر فيه وأترك اللهو واللعب. ثم إنه نهض من وقته وساعته، ولا زال سائرًا حتى أقبل على الزقاق الذي فيه أصحابه العشرة، وكانوا كلهم ساكنين في ذلك الزقاق، فتقدَّمَ إلى أول باب وطرَقَه، فخرجت له جارية وقالت له: مَن أنت؟ فقال لها: قولي لسيدك، عليٌّ نور الدين واقفٌ على الباب ويقول لك: مملوكك يقبِّل أياديك وينتظر فضلك. فدخلت الجارية وأعلمت سيدها، فصاح عليها وقال لها: ارجعي وقولي له ما هو هنا. فرجعت الجارية إلى نور الدين وقالت له: يا سيدي، إن سيدي ما هو هنا. فتوجَّهَ علي نور الدين وقال في نفسه: إن كان هذا ولد زنا وأنكر نفسه، فغيره ما هو ولد زنا. ثم تقدَّمَ إلى الباب الثاني وقال كما قال أولًا، فأنكر الآخَرُ نفسه، فعند ذلك أنشد هذا البيت:

ذَهَبَ الَّذِينَ إِذَا وَقَفْتَ بِبَابِهِمْ        مَنُّوا عَلَيْكَ بِمَا تُرِيدُ مِنَ النَّدَى

فلما فرغ من شعره قال: واللهِ لا بد أن أمتحنهم كلهم، عسى أن يكون فيهم واحد يقوم مقام الجميع. فدار على العشرة فلم يجد أحدًا منهم فتح الباب، ولا أراه نفسه، ولا أمر له برغيف، فأنشد هذه الأبيات:

الْمَرْءُ فِي زَمْنِ الْإِقْبَالِ كَالشَّجَرَةْ        فَالنَّاسُ مِنْ حَوْلِهَا مَا دَامَتِ الثَّمَرَةْ

حَتَّى إِذَا عَرِيَتْ مِنْ كُلِّ مَا حَمَلَتْ        تَفَرَّقُوا أَوْ أَرَادُوا غَيْرَهَا شَجَرَةْ

تَبًّا لِأَبْنَاءِ هَذَا الدَّهْرِ كُلِّهِمِ        فَلَمْ أَجِدْ وَاحِدًا يَصْفُو مِنَ الْعَشَرَةْ

ثم إنه رجع إلى جاريته، وقد تزايَدَ همه، فقالت له: يا سيدي، أَمَا قلتُ لك إنهم لا ينفعونك بنافعة؟ فقال: والله ما فيهم مَن أراني وجهه. فقالت له: يا سيدي، بِعْ من أثاث البيت شيئًا فشيئًا، وأنفق. فباع إلى أن باع جميعَ ما في البيت، ولم يَبْقَ عنده شيء، فعند ذلك نظر إلى أنيس الجليس، وقال لها: ما نفعل الآن؟ فقالت له: يا سيدي، عندي من الرأي أن تقوم في هذه الساعة، وتنزل بي السوقَ فتبيعني، وأنت تعلم أن والدك كان اشتراني بعشرة آلاف دينار، فلعل الله يفتح عليك ببعض هذا الثمن، وإذا قدر الله باجتماعنا نجتمع. فقال لها: يا أنيس الجليس، ما يهون عليَّ فراقك ساعةً واحدةً. فقالت له: ولا أنا، لكن للضرورة أحكام كما قال الشاعر:

تُلْجِي الضَّرُورَاتُ فِي الْأُمُورِ إِلَى        سُلُوكِ مَا لَا يَلِيقُ بِالْأَدَبِ

مَا حَامِلٌ نَفْسَهُ عَلَى سَبَبٍ        إِلَّا لِأَمْرٍ يَلِيقُ بِالسَّبَبِ

فعند ذلك أخذ أنيس الجليس ودموعُه تسيل على خدَّيْه، ثم أنشد هذين البيتين:

قِفُوا زَوِّدُونِي نَظْرَةً قَبْلَ بَيْنِكُمْ        أُعَلِّلُ قَلْبًا كَادَ بِالْبَيْنِ يَتْلَفُ

فَإِنْ كَانَ تَزْوِيدِي بِذَلِكَ كُلْفَةً        دَعَوْنِيَ فِي وَجْدِي وَلَا تَتَكَلَّفُوا

ثم مضى وسلَّمَها إلى الدَّلَّال، وقال له: اعرف مقدار ما تنادي عليه. فقال الدلال: يا سيدي نور الدين، الأصول محفوظة. ثم قال له: أَمَا هي أنيس الجليس الذي كان اشتراها والدك مني بعشرة آلاف دينار؟ قال: نعم. فعند ذلك طلع الدلال إلى التجار، فوجدهم لم يجتمعوا كلهم، فصبر حتى اجتمع سائر التجار، وامتلأ السوق بسائر أجناس الجواري من تركية ورومية وشركسية وجرجية وحبشية، فلما نظر الدلال إلى ازدحام السوق نهض قائمًا وقال: يا تجار، يا أرباب الأموال، ما كل مدور جوزة، ولا كل مستطيلة موزة، ولا كل حمراء لحمة، ولا كل بيضاء شحمة، ولا كل صهباء خمرة، ولا كل سمراء تمرة، يا تجار، هذه الدرة اليتيمة التي لا تفي الأموال لها بقيمة، بكم تفتحون باب الثمن؟ فقال واحد من التجار: بأربعة آلاف دينار وخمسمائة. وإذا بالوزير المعين بن ساوى في السوق، فنظر عليًّا نور الدين واقفًا، فقال في نفسه: ما باله واقفًا، فإنه ما بقي عنده شيء يشتري به جواري. ثم نظر بعينه فسمع المنادي وهو واقف ينادي في السوق والتجار حوله، فقال الوزير في نفسه: ما أظنه إلا أفلس، ونزل بالجارية ليبيعها. ثم قال في نفسه: إنْ صحَّ ذلك فما أبرده على قلبي! ثم دعا المنادي فأقبل عليه، وقبَّلَ الأرضَ بين يديه، فقال: إني أريد هذه الجارية التي تنادي عليها. فلم يمكنه المخالفة، فجاء بالجارية وقدَّمَها بين يدَيْه، فلما نظر إليها وتأمَّلَ محاسنها من قامتها الرشيقة وألفاظها الرقيقة، أعجبته، فقال له: إلى كم وصل ثمنها؟ فقال له: أربعة آلاف وخمسمائة دينار. فلما سمع ذلك التجار ما قدر واحد منهم أن يزيد درهمًا ولا دينارًا، بل تأخروا جميعًا لما يعلمون من ظلم ذلك الوزير.

ثم نظر الوزير المعين بن ساوى إلى الدلال، وقال له: ما سبب وقوفك، رح والجارية عليَّ بأربعة آلاف دينار ولك خمسمائة دينار. فراح الدلال إلى علي نور الدين، وقال له: يا سيدي، راحت الجارية عليك بلا ثمن. فقال له: وما سبب ذلك؟ قال له: نحن فتحنا باب سعرها بأربعة آلاف دينار وخمسمائة، فجاء هذا الظالم المعين بن ساوى ودخل السوق، فلما نظر الجارية أعجبته، وقال لي: شاوِرْ على أربعة آلاف دينار ولك خمسمائة، وما أظنه إلا عرف أن الجارية لك، فإن كان يعطيك ثمنها في هذه الساعة يكون ذلك من فضل الله، لكن أنا أعرف من ظلمه أنه يكتب لك ورقة حوالة على بعض عملائه، ثم يرسل إليهم، ويقول لهم: لا تعطوه شيئًا، فكلما ذهبْتَ إليهم لتطالبهم يقولون في غدٍ نعطيك. ولا يزالون يَعِدُونك ويُخلِفون يومًا بعد يوم وأنت عزيز النفس، وبعد أن يضجوا من مطالبتك إياهم يقولون: أعطنا ورقة الحوالة. فإذا أخذوا الورقةَ منك قطعوها وراح عليك ثمن الجارية.

فلما سمع علي نور الدين من الدلال هذا الكلام، نظر إليه وقال له: كيف يكون العمل؟ فقال له: أنا أشير عليك بمشورة، فإن قبلتها مني كان لك الحظ الأوفر. وقال: وما هي؟ قال: تجيء في هذه الساعة عندي، وأنا واقف في وسط السوق، وتأخذ الجارية من يدي وتلكمها وتقول لها: ويلك، قد فديتُ يميني التي حلفتُها، ونزلتُ بك السوق حيث حلفتُ عليك أنه لا بد من إخراجك إلى السوق ومناداة الدلال عليك. فإن فعلتَ ذلك ربما تدخل عليه الحيلة وعلى الناس، ويعتقدون أنك ما نزلتَ بها إلا لأجل إبرار اليمين. فقال: هذا هو الرأي الصواب. ثم إن الدلال فارَقَه، وجاء إلى وسط السوق، وأمسك يد الجارية وأشار إلى الوزير المعين بن ساوى، وقال: يا مولاي، هذا مالِكُها قد أقبَلَ. ثم جاء علي نور الدين إلى الدلال، ونزع الجارية من يده ولكمها وقال لها: ويلكِ، قد نزلتُ بكِ إلى السوق لأجل إبرار يميني، روحي إلى البيت، وبعد ذلك لا تخالفيني، فلستُ محتاجًا إلى ثمنك حتى أبيعَكِ، وأنا لو بعتُ أثاثَ البيت وأمثالَه مراتٍ عديدةً ما بلغ قدر ثمنك.

فلما نظر المعين بن ساوى إلى علي نور الدين قال له: ويلك! وهل بقي عندك شيء يباع أو يُشترَى؟ ثم إن المعين بن ساوى أراد أن يبطش به، فعند ذلك نظر التجار إلى علي نور الدين، وكانوا كلهم يحبونه، فقال لهم: ها أنا بين أيديكم وقد عرفتم ظلمه. فقال الوزير: والله لولا أنتم. ثم رمزوا كلهم لبعضهم بعين الإشارة، وقالوا: ما أحد منَّا يدخل بيتك وبيته. فعند ذلك تقدَّمَ علي نور الدين إلى الوزير ابن ساوى، وكان نور الدين شجاعًا، فجذَبَ الوزير من فوق سرجه فرماه على الأرض، وكان هناك معجنة طين فوقع الوزير في وسطها، وجعل علي نور الدين يلكمه، فجاءت لكمة على أسنانه فاختضبت لحيته بدمه، وكان مع الوزير عشرة مماليك، فلما رأوا نور الدين فعل بسيدهم هذه الأفعال، وضعوا أيديهم على مقابض سيوفهم، وأرادوا أن يهجموا على نور الدين ويقطعوه، وإذا بالناس قالوا للمماليك: هذا وزير، وهذا ابن وزير، وربما اصطلحَا مع بعضهما، وتكونون مبغوضين عند كلٍّ منهما، وربما جاءت فيه ضربة فتموتون جميعًا أقبحَ الميتات، ومن الرأي ألَّا تدخلوا بينهما. فلما فرغ عليَّ نور الدين من ضرب الوزير، أخذ جاريته ومضى إلى داره، وأما الوزير ابن ساوى فإنه قام من ساعته، وكان قماش ثيابه أبيض، فصار ملوَّنًا بثلاثة ألوان: لون الطين، ولون الدم، ولون الرماد، فلما رأى نفسه على هذه الحالة أخذ برشًا، وجعله في رقبته، وأخذ في يده حزمتين من حلفة، وسار إلى أن وقف تحت القصر الذي فيه السلطان، وصاح: يا ملك الزمان، مظلوم. فأحضروه بين يدَيْه، فتأمَّلَه فرآه وزيرَه المعين بن ساوى، فقال له: مَن فعل بك هذه الفعال؟ فبكى وانتحب، وأنشد هذين البيتين:

أَيَظْلِمُنِي الزَّمَانُ وَأَنْتَ فِيهِ        وَتَأْكُلُنِي الْكِلَابُ وَأَنْتَ لَيْثُ

وَيُرْوَى مِنْ حِيَاضِكَ كُلُّ صَادٍ        وَأَعْطَشُ فِي حِمَاكَ وَأَنْتَ غَيْثُ

ثم قال: يا سيدي، أهكذا كلُّ مَن يحبك ويخدمك تجري له هذه المشاق؟ قال له: ومَن فعل بك هذه الفعال؟ فقال الوزير: اعلم أني خرجت اليومَ إلى سوق الجواري لعَلِّي أشتري جاريةً طبَّاخة، فرأيتُ في السوق جاريةً ما رأيت في طول عمري مثلها، فقال الدلال: إنها لعلي بن خاقان. وكان مولانا السلطان أعطى إياه سابقًا عشرة آلاف دينار ليشتري له بها جارية مليحة، فاشترى تلك الجارية، فأعجبته فأعطى ولده إياها، فلما مات أبوه سلك طريقَ الإسراف حتى باع جميعَ ما عنده من الأملاك والبساتين والأواني، فلما أفلَسَ ولم يَبْقَ عنده شيء، نزل بالجارية إلى السوق على أن يبيعها، ثم سلَّمَها إلى الدلال، فنادَى عليها، وتزايَدَتْ فيها التجارُ حتى بلغ ثمنها أربعةَ آلاف دينار. فقلتُ لعقلي: أشتري هذه لمولانا السلطان، فإنَّ أصلَ ثمنها كان من عنده، فقلت: يا ولدي، خذ ثمنها أربعة آلاف دينار. فلما سمع كلامي نظر إليَّ وقال: يا شيخ النحس، أبيعها لليهود والنصارى ولا أبيعها لك. فقلت: أنا ما أشتريها لنفسي، وإنما أشتريها لمولانا السلطان الذي هو وليُّ نعمتنا. فلما سمع مني هذا الكلام اغتاظ وجذبني، ورماني عن الجواد، وأنا شيخ كبير، وضربني، ولم يزل يضربني حتى تركني كما تراني، وأنا ما أوقعني في هذا كله إلا أنني جئتُ لأشتري هذه الجارية لسعادتك.

ثم إن الوزير رمى نفسه على الأرض، وجعل يبكي ويرتعد، فلما نظر السلطان حالته وسمع مقالته، قام عِرق الغضب بين عينَيْه، ثم التفَتَ إلى مَن بحضرته من أرباب الدولة، وإذا بأربعين ضاربَ سيفٍ وقفوا بين يديه، فقال لهم السلطان: انزلوا في هذه الساعة إلى دار علي بن خاقان، وانهبوها واهدموها، وائتوني به وبالجارية مكتَّفَيْنِ، واسحبوهما على وجوههما، وائتوا بهما بين يدي. فقالوا له: السمع والطاعة. ثم إنهم نزلوا وقصدوا المسير إلى علي نور الدين، وكان عند السلطان حاجب يقال له علم الدين سنجر، وكان أولًا من مماليك الفضل بن خاقان والد علي نور الدين، فلما سمع أمر السلطان، ورأى الأعداء تهيَّئوا إلى قتل ابن سيده، لم يهن عليه ذلك، فركب جواده وسار إلى أن أتى بيت علي نور الدين، فطرق الباب فخرج له نور الدين، فلما رآه عرفه وأراد أن يسلِّم عليه، فقال: يا سيدي، ما هذا وقت سلام ولا كلام، واسمع ما قال الشاعر:

وَنَفْسُكَ فُزْ بِهَا إِنْ خِفْتَ ضَيْمًا        وَخَلِّ الدَّارَ تَنْعِي مَنْ بَنَاهَا

فَإِنَّكَ وَاجِدٌ أَرْضًا بِأَرْضٍ        وَنَفْسُكَ لَمْ تَجِدْ نَفْسًا سِوَاهَا

فقال نور الدين: يا علم الدين، ما الخبر؟ فقال: انهض، وفُزْ بنفسك أنت والجارية؛ فإن المعين بن ساوى نصب لكما شَرَكًا، ومتى وقعتما في يده قتلكما، وقد أرسل إليكما السلطان أربعين ضاربًا بالسيف، والرأي عندي أن تهربا قبل أن يحل الضرر بكما. ثم إن سنجر مد يده إلى نور الدين بدنانير، فعَدَّها فوجدها أربعين دينار، وقال له: يا سيدي، خذ هذه، ولو كان معي أكثر من ذلك لَأعطيتك إياه، لكن ما هذا وقت معاتبة. فعند ذلك دخل نور الدين على الجارية، وأعلَمَها بذلك فتخبَّلت، ثم خرج الاثنان في الوقت إلى ظاهر المدينة، وأسبَلَ الله عليهما ستْرَه، ومشَيَا إلى ساحل البحر، فوجدَا مركبًا تجهَّزَتْ للسفر، والريس واقف في وسط المركب، يقول: مَن بقي له حاجة من وداع أو زوادة أو نسي حاجة فَلْيأتِ بها، فإننا متوجهون. فقالوا كلهم: لم يَبْقَ لنا حاجة يا ريس. فعند ذلك قال الريس لجماعته: هيا حلُّوا الطرفَ وأقلعوا الأوتاد. فقال علي نور الدين: إلى أين يا ريس؟ فقال: إلى دار السلام بغداد. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 34﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الريس لما قال لعلي نور الدين: إلى دار السلام مدينة بغداد. طلع علي نور الدين، وطلعت معه الجارية، وعوموا ونشروا القلوع، فاندفعت المركب كأنها طير بجناحيه، كما قال فيها بعضهم هذين البيتين:

انْظُرْ إِلَى مَرْكَبٍ يُسْبِيكَ مَنْظَرُهُ        تُسَابِقُ الرِّيحَ فِي سَيْرٍ بِسَرَّاءِ

كَأَنَّهُ طَائِرٌ قَدْ مَدَّ أَجْنِحَةً        أَتَى مِنَ الْجَوِّ مُنْقَضًّا عَلَى الْمَاءِ

فسارت بهم المركب، وطاب لهم الريح؛ هذا ما جرى لهؤلاء، وأما ما جرى للأربعين الذين أرسلهم السلطان، فإنهم جاءوا إلى بيت علي نور الدين فكسروا الأبواب، ودخلوا وطافوا جميع الأماكن، فلم يقعوا لهما على خبر، فهدموا الدار ورجعوا وأعلموا السلطان، فقال: اطلبوهما من أي مكان كانَا فيه. فقالوا: السمع والطاعة. ثم نزل الوزير المعين بن ساوى إلى بيته بعد أن خلع عليه السلطان خلعة، وقال له: لا يأخذ بثأرك إلا أنا. فدعا له بطول البقاء، واطمأن قلبه، ثم إن السلطان أمر أن يُنادَى في المدينة: يا معاشر الناس كافة، قد أمر السلطان أن مَن عثر بعلي نور الدين ابن خاقان، وجاء به إلى السلطان، خلع عليه خلعة، وأعطاه ألف دينار، ومَن أخفاه أو عرف مكانه ولم يخبر به، فإنه يستحق ما يجري له من النكال، فصار جميع الناس في التفتيش على نور الدين، فلم يعرفوا له أثرًا.

هذا ما كان من هؤلاء، وأما ما كان من أمر علي نور الدين وجاريته، فإنهما وصلَا بالسلامة إلى بغداد، فقال الريس: هذه بغداد، وهي مدينة أمينة، قد ولَّى عنها الشتاء ببرده، وأقبَلَ عليها فصلُ الربيع بورده، وأزهرت أشجارها، وجرَتْ أنهارها. فعند ذلك طلع علي نور الدين هو وجاريته من المركب، وأعطى الريِّس خمسةَ دنانير، ثم سارَا قليلًا فرمتهما المقادير بين البساتين، فجاءَا إلى مكانٍ فوجداه مكنوسًا مرشوشًا بمساطب مستطيلة، وقواديس معلقة ملآنة بالماء، وفوقه مكعب من القصب بطول الزقاق، وفي صدر الزقاق باب بستان إلا أنه مغلوق، فقال نور الدين للجارية: والله إن هذا محل مليح. فقالت: يا سيدي، اقعد بنا ساعة على هذه المساطب. فطلعَا وجلسَا على المساطب، ثم غسلَا وجهَيْهما وأيديهما، واستلذَّا بمرور النسيم، فنامَا وجلَّ مَن لا ينام. وكان هذا البستان يُسمَّى بستان النزهة، وهناك قصر يقال له قصر الفرجة، وهو للخليفة هارون الرشيد، وكان الخليفة إذا ضاق صدره يأتي إلى هذا البستان، ويدخل ذلك القصر فيقعد فيه، وكان القصر له ثمانون شباكًا، ومعلَّق فيه ثمانون قنديلًا، وفي وسطه شمعدان كبير من الذهب. فإذا دخله الخليفة أمر الجواري أن تفتح الشبابيك، وأمر إسحاق النديم والجواري أن يغنوا، فينشرح صدره ويزول همه، وكان للبستان خولي شيخ كبير يقال له الشيخ إبراهيم، واتفق أنه خرج ليقضي حاجةً من أشغاله، فوجد المتفرِّجين معهم النساء أهل الريبة، فغضب غضبًا شديدًا، فصبر الشيخ إبراهيم حتى جاء عنده الخليفة في بعض الأيام، فأعلمه بذلك، فقال الخليفة: كلُّ مَن وجدْتَه على باب البستان فافعل به ما أردتَ.

فلما كان ذلك اليوم، خرج الشيخ إبراهيم الخولي لقضاء حاجةٍ عرضَتْ له، فوجد الاثنين نائمين على باب البستان مغطَّيَيْن بإزار واحد، فقال: أَمَا عرفَا أن الخليفة أعطاني إذنًا أن كلَّ مَن لقيتُه هنا أقتله؟ ولكن أنا أضرب هذين ضربًا خفيفًا حتى لا يقترب أحد من باب البستان. ثم قطع جريدة خضراء، وخرج إليهما، ورفع يده فبان بياضُ إبطه، وأراد ضربهما فتفكَّرَ في نفسه وقال: يا إبراهيم، كيف تضربهما ولم تعرف حالهما، وقد يكونان غريبَيْن، أو من أبناء السبيل، ورمَتْهما المقادير هنا؟ فأنا أكشف وجوههما وأنظر إليهما. فرفع الإزار عن وجوههما وقال: هذان حسنان لا ينبغي أن أضربهما. ثم غطَّى وجهَيْهما وتقدَّمَ إلى رِجْل علي نور الدين وجعل يكبسها، ففتح عينه فوجده شيخًا كبيرًا، فاستحى علي نور الدين ولمَّ رجلَيْه واستوى قاعدًا، وأخذ يد الشيخ فقبَّلَها، فقال له: يا ولدي، من أين أنتم؟ فقال له: يا سيدي، نحن غرباء. وفَرَّتِ الدمعة من عينه، فقال الشيخ إبراهيم: يا ولدي، اعلم أن النبي ﷺ أوصى بإكرام الغريب. ثم قال له: يا ولدي، أَمَا تقوم وتدخل البستان وتتفرَّج فيه فينشرح صدرك؟ فقال له نور الدين: يا سيدي، هذا البستان لمَنْ؟ قال: يا ولدي، هذا البستان ورثتُه من أهلي. وما كان قصد الشيخ إبراهيم بهذا الكلام إلا أن يَطْمَئِنَّا ويدخلَا البستان.

فلما سمع نور الدين كلامه شكره، وقام هو وجاريته، والشيخ إبراهيم قدَّامهما، فدخلوا البستان، فإذا هو بستان بابه مقنطر عليه كروم، وأعنابه مختلفة الألوان، الأحمر كأنه ياقوت، والأسود كأنه أبنوس، فدخلوا تحت عريشة فوجدوا فيها الأثمار صنوانًا وغير صنوان، والأطيار تغرِّد بالألحان على الأغصان، والهَزار يترنم، والقمري ملأ بصوته المكانَ، والشحرور كأنه في تغريده إنسان، والفاخت كأنه شاربٌ نشوان، والأشجار قد أينعت أثمارُها من كل مأكول، ومن كل فاكهة زوجان، والمشمش ما بين كافوري ولوزي ومشمش خراسان، والبرقوق كأنه لون الحسان، والقراصية تذهل عقل كل إنسان، والتين ما بين أحمر وأبيض وأخضر من أحسن الألوان، والزهر كأنه اللؤلؤ والمرجان، والورد يفضح بحمرته خدودَ الحسان، والبنفسج كأنه كبريت دنَا من النيران، والآس والمنشور والخذامة مع شقائق النعمان، وتكلَّلَتْ تلك الأوراق بمدامع الغمام، وضحك ثغر الأقحوان، وصار النرجس ناظرًا إلى الورد بعيون السودان، والأترج كأنه أكواب، والليمون كبنادق من ذهب، وفُرِشت الأرض بالزهر من سائر الألوان، وأقبَلَ الربيعُ فأشرَقَ ببهجته المكان، والنهر في خرير، والطير في هدير، والريح في صفير، والزمان في اعتدال، والنسيم في اعتلال.

ثم دخل بهما الشيخ إبراهيم القاعة المعلَّقة؛ فابتهجوا بحسن تلك القاعة، وما فيها من اللطائف الغريبة، وجلسوا في بعض الشبابيك، فتذكَّرَ علي نور الدين المقامات التي مضت له، فقال: واللهِ إن هذا المكان في غاية الحسن، لقد ذكَّرني بما مضى، وأطفأ من كربي جمر الغضا. ثم إن الشيخ إبراهيم قدَّمَ لهما الأكل فأكلَا كفايتهما، ثم غسلَا أيديهما، وجلس نور الدين في شباك من تلك الشبابيك، وصاح على جاريته فأتَتْ إليه، فصارَا ينظران إلى الأشجار وقد حملت سائر الأثمار، ثم التفت علي نور الدين إلى الشيخ إبراهيم، وقال له: يا شيخ إبراهيم، أَمَا عندك شيء من الشراب؟ لأن الناس يشربون بعد أن يأكلوا. فجاءه الشيخ إبراهيم بماء حلو بارد، فقال له نور الدين: ما هذا الشراب الذي أريده. فقال له: أتريد الخمر؟ فقال له نور الدين: نعم. فقال: أعوذ بالله منها، إن لي ثلاثة عشر عامًا ما فعلتُ ذلك؛ لأن النبي ﷺ لعن شارِبَه وعاصِرَه وحامِلَه. فقال له نور الدين: اسمع مني كلمتين. قال: قُلْ ما شئتَ. قال: إذا لم تكن عاصِرَ الخمر ولا شارِبَه ولا حامِلَه، فهل يصيبك من لعنهم شيء؟ قال: لا. قال: خذ هذا الدينار وهذين الدرهمين، واركب هذا الحمار وقف بعيدًا، وأي إنسان وجدته يشتري فصِحْ عليه وقُلْ له: خذ هذين الدرهمين، واشترِ بهذين الدينارين خمرًا، واحمله على الحمار، وحينئذٍ لا تكون حاملًا ولا عاصرًا ولا مشتريًا، ولا يصيبك شيء مما أصاب الجميع. فقال الشيخ إبراهيم وقد ضحك من كلامه: والله ما رأيتُ أظرف منك، ولا أحلى من كلامك. فقال له نور الدين: نحن صرنا محسوبين عليك، وما عليك إلا الموافقة، فأتِ لنا بجميع ما نحتاج إليه. فقال له الشيخ إبراهيم: يا ولدي، هذا كراري قدامك، وهو الحاصل المُعَدُّ لأمير المؤمنين، فادخله وخذ منه ما شئتَ، فإن فيه فوق ما تريد.

فدخل علي نور الدين الحاصل، فرأى فيه أواني من الذهب والفضة والبللور مرصَّعة بأصناف الجواهر، فأخرج منها ما أراد، وسكب الخمر في البواطي والقناني، وصار هو وجاريته يتعاطيان، واندهشَا من حُسْن ما رأيا، ثم إن الشيخ إبراهيم جاء لهما بالمشموم، وقعد بعيدًا عنهما، فلم يزالَا يشربان وهما في غاية الفرح حتى تحكَّمَ معهما الشراب واحمَرَّت خدودهما، وتغازلت عيونهما، واسترخت شعورهما، فقال الشيخ إبراهيم: ما لي قاعدًا بعيدًا عنهما؟ كيف لا أقعد عندهما؟ وأي وقت اجتمع في قصرنا مثل هذين الاثنين اللذين كأنهما قمران؟ ثم إن الشيخ إبراهيم تقدَّمَ وقعد في طرف الإيوان، فقال له علي نور الدين: يا سيدي، بحياتي عليك أن تتقدَّمَ عندنا. فتقدَّمَ الشيخ إبراهيم عندهما، فملأ نور الدين قدحًا، ونظر إلى الشيخ إبراهيم وقال له: اشرب حتى تعرف ما لذة طعمه. فقال الشيخ إبراهيم: أعوذ بالله، إن لي ثلاث عشرة سنة ما فعلتُ شيئًا من ذلك. فتغافَلَ عنه نور الدين وشرب القدح، ورمى نفسه في الأرض، وأظهر أنه غلب عليه السكر، فعند ذلك نظرَتْ إليه أنيس الجليس، وقالت له: يا شيخ إبراهيم، انظر هذا كيف عمل معي؟ قال لها: يا سيدتي، ما له؟ قالت: دائمًا يعمل معي هكذا، فيشرب ساعة وينام، وأبقى أنا وحدي لا أجد لي نديمًا ينادمني على قدحي، فإذا شربتُ فمَن يعاطيني؟ وإذا غنَّيْتُ فمَن يسمعني؟ فقال لها الشيخ إبراهيم وقد حنَّتْ أعضاؤه، ومالت نفسه إليها من كلامها: لا ينبغي من النديم أن يكون هكذا. ثم إن الجارية ملأَتْ قدحًا، ونظرت إلى الشيخ إبراهيم، وقالت: بحياتي أن تأخذه وتشربه ولا ترده، فاقبله واجبر خاطري. فمَدَّ الشيخ إبراهيم يده، وأخذ القدح وشربه، وملأت له ثانيًا ومدت إليه يدها به، وقالت له: يا سيدي، بقي لك هذا. فقال لها: والله لا أقدر أن أشربه، فقد كفاني الذي شربته. فقالت له: واللهِ لا بد منه. فأخذ القدح وشربه، ثم أعطته الثالث فأخذه وأراد أن يشربه، وإذا بنور الدين هَمَّ قاعدًا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 35﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن عليًّا نور الدين هَمَّ قاعدًا، فقال له: يا شيخ إبراهيم، أي شيء هذا؟ أَمَا حلفتُ عليك من ساعة فأبيتَ وقلتَ: إن لي ثلاثة عشر عامًا ما فعلتُه؟ فقال الشيخ إبراهيم وقد استحى: والله ما لي ذنب، فإنما هي شدَّدَتْ عليَّ. فضحك نور الدين، وقعدوا للمنادمة، فالتفتَتِ الجارية وقالت لسيدها سرًّا: يا سيدي، اشرب ولا تحلف على الشيخ إبراهيم حتى أفرجك عليه. فجعلت الجارية تملأ وتسقي سيدها، وسيدها يملأ ويسقيها، ولم يزالا كذلك مرةً بعد مرة، فنظر لهما الشيخ إبراهيم وقال لهما: أي شيء هذا، وما هذه المنادمة؟ لِمَ لا تسقياني وقد صرتُ نديمكما؟ فضحكَا من كلامه إلى أن أُغمِيَ عليهما، ثم شربا وسقياه، وما زالوا في المنادمة إلى ثلث الليل، فعند ذلك قالت الجارية: يا شيخ إبراهيم، عن إذنك هل أقوم وأوقد شمعةً من هذا الشمع المصفوف؟ فقال لها: قومي، ولا توقدي إلا شمعة واحدة. فنهضت على قدميها وابتدأت من أول الشمع إلى أن أوقدت ثمانين شمعة، ثم قعدت، وبعد ذلك قال نور الدين: يا شيخ إبراهيم، وأنا أي شيء حظي عندك؟ أَمَا تخليني أوقد قنديلًا من القناديل؟ فقال له الشيخ إبراهيم: قُمْ وأوقد قنديلًا واحدًا، ولا تتثاقل أنت الآخَر. فقام وابتدأ من أولها إلى أن أوقد ثمانين قنديلًا، فعند ذلك رقص المكان، فقال لهما الشيخ إبراهيم وقد غلب عليه السكر: أنتما أخرع مني.

ثم إنه نهض على قدميه، وفتح الشبابيك جميعًا، وجلس معهما يتنادمون ويتناشدون الأشعار، وابتهج بهم المكان، فقدَّرَ الله السميع العليم الذي جعل لكل شيء سببًا أن الخليفة كان في تلك الساعة جالسًا في الشبابيك المطلة على ناحية الدجلة في ضوء القمر، فنظر إلى تلك الجهة فرأى ضوء القناديل والشموع في البحر ساطعًا، فلاحت من الخليفة التفاتة إلى القصر الذي في البستان، فرآه يرهج من تلك الشموع والقناديل، فقال: عليَّ بجعفر البرمكي. فما كان إلا لحظة وقد حضر جعفر بين يدي أمير المؤمنين، فقال له: يا كلب الوزراء، أتخدعني ولم تُعلِمني بما يحصل في مدينة بغداد؟ فقال له جعفر: وما سبب هذا الكلام؟ فقال: لولا أن مدينة بغداد أُخِذَتْ مني ما كان قصر الفرجة مبتهجًا بضوء القناديل والشموع، وانفتحت شبابيكه! ويلك مَن الذي يكون له قدرة على هذه الفعال إلا إذا كانت الخلافة أُخِذَت مني؟ فقال جعفر وقد ارتعدت فرائصه: ومَن أخبرك بأن قصر الفرجة أُوقِدت فيه القناديل والشموع وفُتِحت شبابيكه؟ فقال له: تقدَّمْ عندي وانظر. فتقدَّمَ جعفر عند الخليفة، ونظر ناحية البستان، فوجد القصر كأنه شعلة نار، نورها غلب على نور القمر، فأراد جعفر أن يعتذر عن الشيخ إبراهيم الخولي، ربما يكون هذا الأمر بإذنه لما رأى فيه من المصلحة، فقال: يا أمير المؤمنين، كان الشيخ إبراهيم في الجمعة التي مضت قال لي: يا سيدي جعفر، إني أريد أن أفرح أولادي في حياتك وحياة أمير المؤمنين. فقلت له: وما مرادك بهذا الكلام؟ فقال لي: مرادي أن تأخذ إذنًا من الخليفة بأني أطاهر أولادي في البصرة. فقلتُ له: افعل ما شئتَ من فرح أولادك، وإن شاء الله أجتمع بالخليفة وأُعلِمه بذلك. فراح من عندي على هذه الحال، ونسيت أن أعلمك.

فقال الخليفة: يا جعفر، كان لك عندي ذنب واحد، فصار لك عندي ذنبان؛ لأنك أخطأتَ من وجهين: الوجه الأول أنك أعلمتَني بذلك، والوجه الثاني أنك ما بلغتَ الشيخ إبراهيم مقصوده، فإنه ما جاء إليك وقال لك هذا الكلام إلا تعريضًا بطلب شيء من المال يستعين به على مقصوده، فلم تعطه شيئًا، ولم تُعلِمني حتى أعطيه. فقال جعفر: يا أمير المؤمنين، نسيت. فقال الخليفة: وحق آبائي وأجدادي، ما أتم بقية ليلتي إلا عنده، فإنه رجل صالح يتردَّد إلى المشايخ، ويحتفل بالفقراء، ويواسي المساكين، وأظن أن الجميع عنده في هذه الليلة، فلا بد من الذهاب إليه لعل واحدًا منهم يدعو لنا دعوة يحصل لنا بها خير في الدنيا والآخرة، وربما يحصل له نفع في هذا الأمر بحضوري، ويفرح بذلك هو وأحبابه. فقال جعفر: يا أمير المؤمنين، إن معظم الليل قد مضى، وهم في هذه الساعة على وجه الانفضاض. فقال الخليفة: لا بد من الرواح عنده.

فسكت جعفر، وتحيَّرَ في نفسه، وصار لا يدري ما يفعل، فنهض الخليفة على قدميه، وقام جعفر بين يديه، ومعهما مسرور الخادم، ومشوا الثلاثة متنكِّرين ونزلوا من القصر، وجعلوا يشقون في الأزقة وهم في زيِّ التجار إلى أن وصلوا إلى باب البستان المذكور، فتقدَّمَ الخليفة فرأى البستان مفتوحًا، فتعجَّبَ وقال: انظر يا جعفر الشيخ إبراهيم كيف خلى الباب مفتوحًا إلى هذا الوقت، وما هي عادته؟ ثم إنهم دخلوا إلى أن انتهوا إلى آخِر البستان ووقفوا تحت القصر، فقال الخليفة: يا جعفر، أريد أن أتسلَّل عليهم قبل أن أطلع عندهم، حتى أنظر ما على المشايخ من النفحات وواردات الكرامات، فإن لهم شئونًا في الخلوات والجلوات؛ لأننا الآن لم نسمع لهم صوتًا، ولم نَرَ لهم أثرًا. ثم إن الخليفة نظر فرأى شجرةَ جوز عالية، فقال: يا جعفر، أريد أن أطلع على هذه الشجرة، فإن فروعها قريبة من الشبابيك، وأنظر إليهم. ثم إن الخليفة طلع فوق الشجرة، ولم يزل يتعلَّق من فرع إلى فرع حتى وصل إلى الفرع الذي يقابل الشباك وقعد فوقه، ونظر من شباك القصر فرأي صبية وصبيًّا كأنهما قمران سبحان مَن خلقهما، ورأى الشيخ إبراهيم قاعدًا وفي يده قدح وهو يقول: يا سيدة الملاح، الشرب بلا طرب غير فلاح، أَلَم تسمعي قول الشاعر:

أَدِرْهَا بِالْكَبِيرِ وَبِالصَّغِيرِ        وَخُذْهَا مِنْ يَدِ الْقَمَرِ الْمُنِيرِ

وَلَا تَشْرَبْ بِلَا طَرَبٍ فَإِنِّي        رَأَيْتُ الْخَيْلَ تَشْرَبُ بِالصَّفِيرِ

فلما عايَنَ الخليفة من الشيخ إبراهيم هذه الفِعَالَ، قام عِرْقُ الغضب بين عينيه، ونزل وقال: يا جعفر، أنا ما رأيتُ شيئًا من كرامات الصالحين مثل ما رأيتُ في هذه الليلة، فاطلع أنت الآخَر على هذه الشجرة، وانظر لئلا تفوتُكَ بركاتُ الصالحين. فلما سمع جعفر كلامَ أمير المؤمنين صار متحيِّرًا في أمره، وصعد إلى أعلى الشجرة، وإذا به نظر فرأى نور الدين والشيخ إبراهيم والجارية، وكان الشيخ إبراهيم في يده القدح، فلما عايَنَ جعفر تلك الحالة أيقَنَ بالهلاك، ثم نزل فوقف بين يدي أمير المؤمنين، فقال الخليفة: يا جعفر، الحمد لله الذي جعلنا من المتبعين لظاهر الشريعة المطهرة، وكفانا شرَّ تلبيسات الطريقة المزوَّرة. فلم يقدر جعفر أن يتكلَّمَ من شدة الخجل، ثم نظر الخليفة إلى جعفر، وقال: يا تُرَى مَن أوصَلَ هؤلاء إلى هذا المكان؟ ومَن أدخَلَهم قصري؟ ولكن مثل هذا الصبي وهذه الصبية ما رأت عيني حسنًا وجمالًا، وقدًّا واعتدالًا. فقال جعفر وقد استرجى رضاء الخليفة: صدقتَ يا أمير المؤمنين. فقال: يا جعفر، اطلع بنا على هذا الفرع الذي هو مقابلهم لنتفرج عليهم. فطلع الاثنان على الشجرة ونظراهما، فسمعَا الشيخَ إبراهيم يقول: يا سيدتي، قد تركتُ الوقارَ بشرب العقار، ولا يلذُّ ذلك إلا بنغمات الأوتار. فقالت له أنيس الجليس: يا شيخ إبراهيم، والله لو كان عندنا شيء من آلات الطرب لَكان سرورنا كاملًا. فلما سمع الشيخ إبراهيم كلام الجارية نهض قائمًا على قدميه، فقال الخليفة لجعفر: يا تُرَى ماذا يريد أن يعمل؟ فقال جعفر: لا أدري. فغاب الشيخ إبراهيم وعاد ومعه عود، فتأمَّلَه الخليفة، فإذا هو عود إسحاق النديم، فقال الخليفة: والله إنْ غنَّتِ الجارية ولم تُحسِن الغناء صلبتُكم كلكم، وإن غنَّتْ وأحسنَتِ الغناءَ، فإني أعفو عنهم وأصلبك أنت. فقال جعفر: اللهم اجعلها لا تُحسِن الغناءَ. فقال الخليفة: لأي شيء؟ فقال: لأجل أن تصلبنا كلنا، فيؤانس بعضنا بعضًا. فضحك الخليفة، وإذا بالجارية أخذَتِ العود، وأصلحَتْ أوتاره، وضربَتْ ضربًا يذيب الحديد، ويفطن البليد، وجعلت تنشد هذه الأبيات:

أَضْحَى التَّنَائِي بَدِيلًا مِنْ تَدَانِينَا        وُمُذْ دَنَا طِيبُ لُقْيَانَا تُجَافِينَا

بِنْتُمْ وَبِنَّا فَمَا ابْتَلَّتْ جَوَانِحُنَا        شَوْقًا إِلَيْكُمْ وَلَا جَفَّتْ مَآقِينَا

غِيظَ الْعِدَى مِنْ تَسَاقِينَا الْهَوَى فَدَعُوا        بِأَنْ نَغَصَّ فَقَالَ الدَّهْرُ آمِينَا

وَاللهِ مَا الْخَوْفُ أَنْ تَقْتُلُونَا فِي مَنَازِلِكُمْ        وَإِنَّمَا خَوْفَنَا أَنْ تَأْثَمُوا فِينَا

فقال الخليفة: والله يا جعفر عمري ما سمعتُ صوتًا مطربًا مثل هذا. فقال جعفر: لعل الخليفة ذهب ما عنده من الغيظ. قال: نعم، ذهب. ثم نزل من على الشجرة هو وجعفر، ثم التفت إلى جعفر وقال: أريد أن أطلع وأجلس عندهم، وأسمع الصبية تغني قدامي. فقال: يا أمير المؤمنين، إذا طلعت عليهم ربما تكدَّروا، وأما الشيخ إبراهيم فإنه يموت من الخوف. فقال الخليفة: يا جعفر، لا بد أن تعرِّفني حيلةً أحتال بها على معرفة حقيقة هذا الأمر من غير أن يشعروا باطِّلاعنا عليهم. ثم إن الخليفة وجعفر ذهبا إلى ناحية الدجلة، وهما متفكران في هذا الأمر، وإذا بصياد واقف يصطاد، وكان الصياد تحت شبابيك القصر، فرمى شبكته ليصطاد ما يقتات به، وكان الخليفة سابقًا صاح على الشيخ إبراهيم وقال له: ما هذا الصوت الذي سمعتُه تحت شبابيك القصر؟ فقال له الشيخ إبراهيم: صوت الصيادين الذين يصطادون السمك. فقال: انزل وامنعهم من ذلك الموضع. فامتنع الصيادون من ذلك الموضع، فلما كانت تلك الليلة جاء صياد يُسمَّى كريمًا، ورأى بابَ البستان مفتوحًا، فقال في نفسه: هذا وقت غفلة، لعلي أستغنم في هذا الوقت صيدًا. ثم أخذ شبكته وطرحها في البحر، وصار ينشد هذه الأبيات:

يَا رَاكِبَ الْبَحْرِ فِي الْأَهْوَالِ وَالْهَلَكَةْ        أَقْصِرْ عَنَاكَ فَلَيْسَ الرِّزْقُ بِالْحَرَكَةْ

أَمَا تَرَى الْبَحْرَ وَالصَّيَّادَ مُنْتَصِبٌ        فِي لَيْلِهِ وَنُجُومُ اللَّيْلِ مُحْتَبِكَةْ

قَدْ مَدَّ أَطْنَابَهُ وَالْمَوْجُ يَلْطِمُهُ        وَعَيْنُهُ لَمْ تَزَلْ فِي كَلْكَلِ الشَّبَكَةْ

حَتَّى إِذَا بَاتَ مَسْرُورًا بِهَا فَرِحًا        وَالْحُوتُ قَدْ حَطَّ فِي فَخِّ الرَّدَى حَنَكَهْ

وَصَاحِبُ الْقَصْرِ أَمْسَى فِيهِ لَيْلَتَهُ        مُنَعَّمَ الْبَالِ فِي خَيْرٍ مِنَ الْبَرَكَةْ

وَصَارَ مُسْتَيْقِظًا مِنْ بَعْدِ رَقْدَتِهِ        لَكِنَّ فِي مُلْكِهِ ظَبْيًا وَقَدْ مَلَكَهْ

سُبْحَانَ رَبِّيَ يُعْطِي ذَا وَيَمْنَعُ ذَا        بَعْضٌ يَصِيدُ وَبَعْضٌ يَأْكُلُ السَّمَكَةْ

فلما فرغ من شعره، وإذا بالخليفة وحده واقف على رأسه، فعرفه الخليفة فقال له: كريم! فالتفَتَ إليه لما سمعه سمَّاه باسمه، فلما رأى الخليفة ارتعدَتْ فرائصُه، وقال: والله يا أمير المؤمنين ما فعلتُه استهزاءً بالمرسوم، ولكن الفقر والعيلة قد حملاني على ما ترى. فقال الخليفة: اصطَدْ على بختي. فتقدَّمَ الصيادُ، وقد فرح فرحًا شديدًا، وطرح الشبكة وصبر إلى أن أخذت حدَّها، وثبتَتْ في القرار، ثم جذبها إليه، فطلع فيها من أنواع السمك ما لا يُحصَى، ففَرِح بذلك الخليفةُ، فقال: يا كريم، اقلع ثيابك. فقلع ثيابه، وكانت عليه جبَّةٌ فيها مائة رقعة من الصوف الخشن، وفيها من القمل الذي له أذناب، ومن البراغيث ما يكاد أن يسير بها على وجه الأرض، وقلع عمامته من فوق رأسه، وكان له ثلاث سنين ما حَلَّها، وإنما كان إذا رأى خرقة لفَّها عليها، فلما قلع الجبة والعمامة، خلع الخليفة من فوق جسمه ثوبَيْن من الحرير الإسكندراني والبعلبكي وملوطة وفرجية، ثم قال للصياد: خذ هذه والبسها. ثم لبس الخليفة جبة الصياد وعمامته، ووضع على وجهه لثامًا، ثم قال للصياد: رُحْ أنت إلى شغلك. فقبَّلَ رِجْلَ الخليفة وشكره، وأنشد هذين البيتين:

أَوْلَيْتَنِي مَا لَا أَقُومُ بِشُكْرِهِ        وَكَفَيْتَنِي كُلَّ الْأُمُورِ بِأَسْرِهَا

فَلَأَشْكُرَنَّكَ مَا حَيِيتُ وَإِنْ أَمُتْ        شَكَرَتْكَ مِنِّي أَعْظُمِي فِي قَبْرِهَا

فما فرغ الصياد من شعره حتى جال القمل على جلد الخليفة، فصار يقبض بيده اليمين والشمال من على رقبته ويرمي، ثم قال: يا صياد، ويلك ما هذا القمل الكثير في هذه الجبة؟ فقال: يا سيدي، إنه في هذه الساعة يؤلمك، فإذا مضَتْ عليك جمعة فإنك لا تحس به، ولا تفكر فيه. فضحك الخليفة، وقال له: ويلك! كيف أخلي هذه الجبة على جسدي؟ فقال الخليفة: إني أشتهي أن أقول لك كلامًا، ولكني أستحي من هيبة الخليفة. فقال له: قُلْ ما عندك. فقال له: قد خطر ببالي يا أمير المؤمنين أنك إنْ أردتَ أن تتعلَّمَ الصيدَ لأجل أن تكون في يدك صنعة تنفعك، فإنْ أردتَ ذلك يا أمير المؤمنين فإن هذه الجبة تناسبك. فضحك الخليفة من كلام الصياد، ثم ولى الصياد إلى حال سبيله، وأخذ الخليفة السمك، ووضع فوقه قليلًا من الحشيش، وأتى به إلى جعفر، ووقف بين يديه، فاعتقد جعفر أنه كريم الصياد، فخاف عليه وقال: يا كريم، ما جاء بك هنا؟ انجُ بنفسك، فإن الخليفة هنا في هذه الليلة. فلما سمع الخليفة كلامَ جعفر، ضحك حتى استلقى على قفاه، فقال له جعفر: لعلك مولانا أمير المؤمنين؟ فقال الخليفة: نعم يا جعفر، وأنت وزيري، وجئتُ أنا وإياك هنا وما عرفتني! فكيف يعرفني الشيخ إبراهيم وهو سكران؟ فكُنْ مكانك حتى أرجع إليك. فقال جعفر: سمعًا وطاعةً.

ثم إن الخليفة تقدَّمَ إلى باب القصر ودقَّه، فقام الشيخ إبراهيم وقال: مَن بالباب؟ فقال له: أنا يا شيخ إبراهيم. قال له: مَن أنت؟ قال له: أنا كريم الصياد، وسمعتُ أن عندك أضيافًا، فجئتُ إليك بشيءٍ من السمك، فإنه مليح. وكان نور الدين هو والجارية يحبان السمك، فلما سمعَا ذِكْرَ السمك فرحَا به فرحًا شديدًا، وقالَا: يا سيدي، افتح له ودَعْه يدخل لنا بالسمك الذي معه. ففتح الشيخ إبراهيم الباب، فدخل الخليفة وهو في صورة الصياد، وابتدأ بالسلام، فقال له الشيخ إبراهيم: أهلًا باللص السارق المقامر؟ تعالَ أَرِنا السمكَ الذي معك. فأراهم إياه، فلما نظروه فإذا هو حيٌّ يتحرَّك، فقالت الجارية: والله يا سيدي إن هذا السمك مليح، يا ليته مقلي. فقال الشيخ إبراهيم: والله صدقَتْ. ثم قال للخليفة: يا صياد، ليتك جئتَ بهذا السمك مقليًّا، قُمْ فاقْلِهِ لنا وهاته. فقال الخليفة: على الرأس، أقليه وأجيء به. فقال له: عجِّلْ بقليه والإتيان به. فقام الخليفة يجري حتى وصل إلى جعفر، وقال: يا جعفر، طلبوا السمك مقليًّا. فقال: يا أمير المؤمنين، هاته وأنا أقليه. فقال الخليفة: وتربة آبائي وأجدادي ما يقليه إلا أنا بيدي.

ثم إن الخليفة ذهب إلى خص الخولي وفتَّشَ فيه، فوجد فيه كل شيء يحتاج إليه من آلة القلي، حتى الملح والزعتر وغير ذلك، فتقدَّمَ للكانون، وعلَّق الطاجن وقلاه قليًا مليحًا، فلما استوى جعله على ورق الموز، وأخذ من البستان ليمونًا، وطلع بالسمك ووضعه بين أيديهم، فتقدَّمَ الصبي والصبية والشيخ إبراهيم وأكلوا، فلما فرغوا غسلوا أيديهم، فقال نور الدين: والله يا صياد إنك صنعتَ معنا معروفًا هذه الليلة. ثم وضع يده في جيبه، وأخرج له ثلاثةَ دنانير من الدنانير التي أعطاه إياها سنجر وقتَ خروجه للسفر، وقال: يا صياد، اعذرني فوالله لو عرفتُكَ قبل الذي حصل لي سابقًا، لَكنتُ نزعتُ مرارةَ الفقر من قلبك، لكن خُذْ هذا بحسب الحال. ثم رمى الدنانير للخليفة، فأخذها الخليفة وقبَّلها، ووضعها في جيبه، وما كان مراد الخليفة بذلك إلا السماع من الجارية وهي تغني، فقال الخليفة: أحسنتَ وتفضَّلْتَ، لكنَّ مرادي من تصدُّقاتك العميمة أن هذه الجارية تغنِّي لنا صوتًا حتى أسمعها. فقال علي نور الدين: يا أنيس الجليس. قالت: نعم. قال لها: وحياتي أن تغني لنا شيئًا من شأن خاطر هذا الصياد؛ لأنه يريد أن يسمعك. فلما سمعَتْ كلامَ سيدها أخذت العود وغمزته بعد أن عركَتْ أذنَه، وأنشدت هذين البيتين:

وَغَادَةٌ لَعِبَتْ بِالْعُودِ أَنْمُلُهَا        فَعَادَتِ النَّفْسُ عِنْدَ الْجَسِّ تَخْتَلِسُ

قَدْ أَسْمَعَتْ بِالْأَغَانِي مَنْ بِهِ صَمَمُ        وَقَالَ أَحْسَنْتِ مُغْنَى مَنْ بِهِ خَرَسُ

ثم إنها ضربَتْ ضربًا غريبًا إلى أن أذهلَتِ العقول، وأنشدت تقول هذين البيتين:

وَلَقَدْ شَرُفْنَا إِذْ نَزَلْتُمْ أَرْضَنَا        وَمَحَا سَنَاكُمْ ظُلْمَةَ الدَّيْجُورِ

فَيَحِقُّ لِي أَنِّي أُخَلِّقُ مَنْزِلِي        بِالْمِسْكِ وَالْمَاوَرْدِ وَالْكَافُورِ

فعند ذلك اضطرب الخليفة عليه الوَجْد، فلم يملك نفسه من شدة الطرب وصار يقول: طيَّبَك الله، طيَّبَك الله، طيَّبَك الله. فقال نور الدين: يا صياد، هل أعجبَتْك الجارية وتحريكها الأوتار؟ فقال الخليفة: إي والله. فقال نور الدين: هي هبة مني إليك، هبة كريم لا يرجع في عطائه. ثم إن نور الدين نهض قائمًا على قدميه، وأخذ ملوطة ورماها على الخليفة وهو في صورة الصياد، وأمره أن يخرج ويروح بالجارية. فنظرَتِ الجاريةُ إليه وقالت: يا سيدي، هل أنت رائح بلا وداع؟ إنْ كان ولا بدَّ فقِفْ حتى أودِّعَك. وأنشدَتْ هذين البيتين:

لَئِنْ غِبْتُمُ عَنِّي فَإِنَّ مَحَلَّكُمْ        لَفِي مُهْجَتِي بَيْنَ الْجَوَانِحِ وَالْحَشَا

وَأَرْجُو مِنَ الرَّحْمَنِ جَمْعًا لِشَمْلِنَا        وَذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَا

فلما فرغَتْ من شعرها أجابها نور الدين وهو يقول:

وَدَّعَتْنِي يَوْمَ الْفِرَاقِ وَقَالَتْ        وَهْيَ تَبْكِي مِنْ لَوْعَةٍ وَفِرَاقِ

مَا الَّذِي أَنْتَ صَانِعٌ بَعْدَ بُعْدِي        قُلْتُ قُولِي هَذَا لِمَنْ هُوَ بَاقِ

ثم إن الخليفة لما سمع ذلك، صعب عليه التفريق بينهما، والتفت إلى الصبي وقال له: يا سيدي، هل أنت خائف من جناية أو لأحد عليك دَيْن؟ فقال نور الدين: واللهِ يا صياد إنه جرى لي ولهذه الجارية حديثٌ عجيب وأمرٌ غريب، لو كُتِبَ بالإبر على آماق البصر لَكان عِبرةً لمَنِ اعتبر. فقال الخليفة: أَمَا تحدِّثنا بحديثك وتعرِّفنا بخبرك؛ عسى أن يكون لك فيه فرج، فإن فرجَ الله قريب. فقال نور الدين: يا صياد، هل تسمع حديثَنا نظمًا أم نثرًا؟ فقال الخليفة: النثر كلام والشعر نظام. فعند ذلك أطرق نور الدين رأسَه إلى الأرض وأنشأ يقول هذه الأبيات:

يَا خَلِيلِي إِنِّي هَجَرْتُ رُقَادِي        وَهُمُومِي نَمَتْ لِبُعْدِ بِلَادِي

كَانَ لِي وَالِدٌ عَلَيَّ شَفُوقًا        غَابَ عَنِّي مُجَاوِرَ الْأَلْحَادِ

وَجَرَتْ لِي مِنْ بَعْدِ ذَاكَ أُمُورٌ        صِرْتُ مِنْهَا مُفَتَّتَ الْأَكْبَادِ

اشْتَرَى لِي مِنَ الْحِسَانِ فَتَاةً        مِثْلَ غُصْنٍ بِقَدَّهَا الْمَيَّادِ

فَصَرَفْتُ الَّذِي وَرِثْتُ عَلَيْهَا        وَتَخَيَّرَتْهُا عَلَى الْأَجْوَادِ

سِمْتُهَا الْبَيْعَ إِذْ تَزَايَدَ هَمِّي        وَجَوَى الْبَيْنِ لَمْ يَكُنْ بِمُرَادِي

وَإِذَا مَا دَعَا إِلَيْهَا مُنَادٍ        زَادَ فِيهَا شَيْخٌ كَثِيرُ الْفَسَادِ

فَلِهَذَا اغْتَظْتُ غَيْظًا شَدِيدًا        وَلِمُلْكِي جَذَبْتُهَا بِأَيَادِ

فَتَرَدَّى ذَاكَ اللَّئِيمُ بِقُبْحٍ        ثُمَّ قَادَتْ فِيهِ لَظَى الْأَلْحَادِ

مِنْ غَرَامِي لَكَمْتُهُ بِيَمِينِي        وَشِمَالِي حَتَّى شَفَيْتُ فُؤَادِي

وَمِنَ الْخَوْفِ قَدْ أَتَيْتُ لِدَارِي        وَتَيَقَّنْتُ سَطْوَةَ الْأَضْدَادِ

فَهُدِي مَالِكُ الْبِلَادِ لِحَبْسِي        فَأَتَى الْحَاجِبُ الرَّشِيدُ السَّدَادِ

رَامِزًا كَيْ أَسِيرَ سَيْرًا بَعِيدًا        عَنْ ذُرَاهُمْ مُكَمِّدًا حُسَّادِي

فَطَلَعْنَا مِنْ دَارِنَا جُنْحَ لَيْلٍ        طَالِبِينَ الْمُقَامَ فِي بَغْدَادِ

لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الذَّخَائِرِ عِنْدِي        دُونَهَا مِنْحَةٌ إِلَى الصَّيَّادِ

غَيْرَ أَنِّي أُعْطِيكَ مَحْبُوبَ قَلْبِي        فَتَيَقَّنْ أَنِّي وَهَبْتُ فُؤَادِي

فلما فرغ من شعره، قال الخليفة: يا سيدي نور الدين، اشرح لي أمرك. فأخبره نور الدين بحاله من أوله إلى آخِره، فلما فهم الخليفة هذه الحال، قال له: أين تقصد في هذه الساعة؟ قال له: بلاد الله فسيحة. فقال له الخليفة: أنا أكتب لك ورقةً توصلها إلى السلطان محمد بن سليمان الزيني، فإذا قرأها لا يضرُّكَ بشيء. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 36﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخليفة لما قال لعلي نور الدين: أنا أكتب لك ورقةً توصلها إلى السلطان محمد بن سليمان الزيني، فإذا قرأها لا يضرُّكَ بشيء. فقال له علي نور الدين: وهل في الدنيا صيَّاد يكاتب الملوك? إن هذا شيء لا يكون أبدًا. فقال له الخليفة: صدقتَ، ولكن أنا أخبرك بالسبب؛ اعلم أني قرأتُ أنا وإياه في مكتب واحد عند فقيه، وكنت أنا عريفه، ثم أدركَتْه السعادة وصار سلطانًا، وجعلني الله صيادًا، ولكن لم أرسل إليه في حاجة إلا قضاها، ولو أرسلتُ إليه في كل يومٍ من شأن ألف حاجة لَقضاها. فلما سمع نور الدين كلامه قال له: اكتب حتى أنظر. فأخذ دواةً وقلمًا وكتب بعد البسملة: أما بعدُ، فإن هذا الكتاب من هارون الرشيد بن المهدي إلى حضرة محمد بن سليمان الزيني، المشمول بنعمتي الذي جعلتُه نائبًا عني في بعض مملكتي، وأعرِّفك أن الواصل إليك هذا الكتاب صحبة نور الدين بن خاقان الوزير، فساعةَ وصوله عندكم تنزع نفسك من الملك، وتُجلِسه مكانك، فإني قد ولَّيْتُه على ما كنتُ ولَّيْتُكَ عليه سابقًا، فلا تخالف أمري، والسلام. ثم أعطى علي نور الدين بن خاقان الكتاب، فأخذه نور الدين وقبَّلَه وحطَّه في عمامته، ونزل في الوقت مسافرًا.

هذا ما كان من أمره، وأما ما كان من أمر الخليفة، فإن الشيخ إبراهيم نظر إليه وهو في صورة الصياد، وقال له: يا أحقر الصيادين، قد جئتَ لنا بسمكتين تساويان عشرين نصفًا، فأخذتَ ثلاثةَ دنانير، وتريد أن تأخذ الجارية أيضًا؟ فلما سمع كلامه صاح عليه وأومأ إلى مسرور، فأشهر نفسه وهجم عليه. وكان جعفر قد أرسَلَ رجلًا من صبيان البستان إلى بوَّاب القصر يطلب منه بدلةً لأمير المؤمنين، فذهب الرجل وطلع بالبدلة وقبَّلَ الأرض بين يدي الخليفة، فخلع عليه الخليفة ما كان عليه ولبس تلك البدلة. وكان الشيخ إبراهيم جالسًا على كرسي، والخليفة واقف ينظر ما يجري، فعند ذلك بُهِت الشيخُ إبراهيم وصار يعضُّ في أنامله من الخجل، ويقول: يا تُرَى هل أنا نائم أم يقظان؟ فنظر إليه الخليفة وقال: يا شيخ إبراهيم، ما هذا الحال الذي أنت فيه؟ فعند ذلك أفاقَ من سُكْره ورمى نفسه على الأرض، وأنشد هذين البيتين:

هَبْ لِي جِنَايَةَ مَنْ زَلَّتْ بِهِ الْقَدَمُ        فَإِنَّ لِلْعَبْدِ مِنْ سَادَاتِهِ كَرَمُ

فَعَلْتُ مَا يَقْتَضِيهِ الذَّنْبُ مُعْتَرِفًا        فَأَيْنَ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَفْوُ وَالْكَرَمُ

فعفا عنه الخليفة وأمر الجارية أن تُحمَل إلى القصر، فلما وصلَتْ إلى القصر أفرد لها الخليفة منزلًا وحدها، ووكَّل بها مَن يخدمها، وقال لها: اعلمي أني أرسلتُ سيدك سلطانًا على البصرة، فإن شاء نرسل إليه خلعة ونرسلك إليه صحبتها.

هذا ما جرى لهؤلاء، وأما ما جرى لنور الدين علي بن خاقان، فإنه ما زال مسافرًا حتى دخل البصرة وطلع قصر السلطان، ثم صرخ صرخة عظيمة، فسمعه السلطان فطلبه، فلما حضر بين يدَيْه قبَّلَ الأرضَ قدَّامه، ثم أخرَجَ الورقةَ وأعطاه إياها، فلما رأى عنوانَ الكتاب بخطِّ أمير المؤمنين، قام واقفًا على قدميه وقبَّلَها ثلاثَ مرات، وقال: السمع والطاعة لله تعالى ولأمير المؤمنين. ثم أحضر القضاة الأربعة والأمراء، وأراد أن يخلع نفسه من الملك، وإذا بالوزير المعين بن ساوى قد حضر، فأعطاه السلطان ورقةَ أمير المؤمنين، فلما قرَأَها قطَّعَها عن آخِرها، وأخذها في فمه ومضغها ورماها، فقال له السلطان وقد غضب: ويلك! ما الذي حملك على هذه الفعال؟ قال له: هذا ما اجتمع بالخليفة ولا بوزيره، وإنما هو علق شيطان مكَّار، وقع بورقة فيها خطُّ الخليفة فزوَّرَها، وكتب فيها ما أراد؛ فلأيِّ شيء تعزل نفسك من السلطنة، مع أن الخليفة لم يرسل إليك رسولًا بخط شريف؟ ولو كان هذا الأمر صحيحًا لَأرسَلَ معه حاجبًا أو وزيرًا، لكنه جاء وحده. فقال له: وكيف العمل؟ قال له: أرسِلْ معي هذا الشاب، وأنا آخذه وأتسلَّمه منك، وأُرسِلُه صحبة حاجبٍ إلى مدينة بغداد، فإن كان كلامه صحيحًا يأتينا بخط شريف وتقليد، وإن كان غير صحيح يرسلوه إلينا مع الحاجب، وأنا آخذ حقي من غريمي.

فلما سمع السلطان كلامَ الوزير ودخل عقله، صاح على الغلمان فطرحوه وضربوه إلى أن أغمي عليه، ثم أمر أن يضعوا في رجلَيْه قيدًا، وصاح على السجَّان، فلما حضر قبَّلَ الأرضَ بين يدَيْه، وكان هذا السجان يقال له قطيط، فقال له: يا قطيط، أريد أن تأخذ هذا وترميه في مطمورة من المطامير التي عندك في السجن، وتعاقبه بالليل والنهار. فقال له السجَّان: سمعًا وطاعةً. ثم إن السجان أدخَلَ نور الدين في السجن، وقفل عليه الباب، ثم أمر بكنس مصطبة وراء الباب وفرشها بسجادة أو مخدة، وأقعد نور الدين عليها، وفكَّ قيده وأحسَنَ إليه، وكان كلَّ يوم يرسل إلى السجَّان ويأمره بضربه، والسجان يُظهِر أنه يعاقبه وهو يلاطفه، ولم يزل كذلك مدةَ أربعين يومًا، فلما كان اليوم الحادي والأربعون، جاءت هدية من عند الخليفة، فلما رآها السلطان أعجبَتْه، فشاوَرَ الوزراء في أمرها، فقال بعضٌ: لعل هذه الهدية كانَتْ للسلطان الجديد. فقال الوزير المعين بن ساوى: إنما كان المناسِب قتله وقتَ قدومه. فقال السلطان: والله لقد ذكَّرْتَني به، انزل هاته واضرب عنقه. فقال الوزير: سمعًا وطاعةً. فقام وقال له: إن قصدي أن أنادي في المدينة مَن أراد أن يتفرج على ضرب رقبة نور الدين علي بن خاقان فَلْيَأْتِ إلى القصر، فيأتي جميع الناس ليتفرَّجوا عليه لأشفي فؤادي، وأكمد حسادي. فقال له السلطان: افعل ما تريد. فنزل الوزير وهو فرحان مسرور، وأقبَلَ على الوالي وأمره أن ينادي بما ذكره، فلما سمع الناس المنادي حزنوا وبكوا جمعًا حتى الصغار في المكاتب والسوقة في دكاكينهم، وتسابَقَ الناسُ يأخذون لهم أماكنَ ليتفرجوا فيها، وذهب بعض الناس إلى السجن حتى يأتون معه، ونزل الوزير ومعه عشرة مماليك إلى السجن، فقال قطيط السجان: ما تطلب يا مولانا الوزير؟ فقال: أحضر لي هذا العلق. فقال السجَّان: إنه في أقبح حالٍ من كثرة ما ضربتُه. ثم دخل السجَّان فوجده ينشد هذه الأبيات:

مَنْ لِي يُسَاعِدُنِي عَلَى بَلْوَائِي        فَقَدِ اعْتَلَى دَائِي وَعَزَّ دَوَائِي

وَالْهَجْرُ أَضْنَى مُهْجَتِي وَحُشَاشَتِي        وَالدَّهْرُ رَدَّ أَحِبَّتِي أَعْدَائِي

يَا قَوْمُ هَلْ فِيكُمْ رَفِيقٌ مُشْفِقٌ        يَرْثِي لِحَالِي أَوْ يُجِيبُ نِدَائِي

فَالْمَوْتُ هَانَ عَلَيَّ مَعْ سَكَرَاتِهِ        وَقَطَعْتُ مِنْ طِيبِ الْحَيَاةِ رَجَائِي

يَا رَبُّ بِالْهَادِي الْبَشِيرِ الْمُصْطَفَى        بَحْرِ الْمَكَارِمِ سَيِّدِ الشُّفَعَاءِ

أَدْعُوكَ تُنْقِذُنِي وَتَغْفِرُ زَلَّتِي        وَتَزِيلُ عَنِّي شَقْوَتِي وَعَنَائِي

فعند ذلك نزع عنه السجَّان ثيابَه النظاف، وألبَسَه ثوبين وَسِخين، ونزل به إلى الوزير، فنظره نور الدين فرآه عدوَّه الذي لا زال يطلب قتله؛ فلما رآه بكى وقال له: هل آمنتَ الدهرَ؟ أَمَا سمعتَ قولَ الشاعر:

تَحَكَّمُوا فَاسْتَطَالُوا فِي تَحَكُّمِهِمْ        وَعَنْ قَرِيبٍ كَأَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَكُنْ

ثم قال: يا وزير، اعلم أن الله - سبحانه وتعالى - هو الفعَّال لما يريد. فقال له: يا علي، أتخوِّفني بهذا الكلام؟! فأنا في هذا اليوم أضرب رقبتَكَ على رغم أنف أهل البصرة، ولا ألتفت إلى نصحك، وإنما ألتفتُ إلى قول الشاعر:

دَعِ الْأَيَّامَ تَفْعَلُ مَا تَشَاءُ        وَطِبْ نَفْسًا بِمَا فَعَلَ الْقَضَاءُ

وما أحسن قول الآخَر:

مَنْ عَاشَ بَعْدَ عَدُوِّهِ        يَوْمًا فَقَدْ بَلَغَ الْمُنَى

ثم إن الوزير أمر غلماه أن يحملوه على ظهر بغل، فقال الغلمان لعلي نور الدين وقد صعب عليهم: دَعْنا نرجمه ونقطِّعه ولو تروح أرواحنا. فقال لهم علي نور الدين: لا تفعلوا ذلك أبدًا، أَمَا سمعتم قول الشاعر:

لَا بُدَّ لِي مِنْ مُدَّةٍ مَحْتُومَةٍ        فَإِذَا انْقَضَتْ أَيَّامُهَا مُتُّ

لَوْ أَدْخَلَتْنِي الْأُسْدُ فِي غَابَاتِهَا        لَمْ تُفْنِهَا مَا دَامَ لِي وَقْتُ

ثم إنهم نادوا علي نور الدين: هذا أقل جزاء مَن يزوِّرُ مكتوبًا على الخليفة إلى السلطان. وما زالوا يطوفون به في البصرة إلى أن أوقفوه تحت شباك القصر، وجعلوه في منقع الدم، وتقدَّمَ إليه السياف وقال له: أنا عبد مأمور، فإن كان لك حاجة فأخبرني بها حتى أقضيها لك؛ فإنه ما بقي من عمرك إلا قدر ما يُخرِج السلطانُ وجهَه من الشباك. فعند ذلك نظر يمينًا وشمالًا، وأنشد هذه الأبيات:

فَهَلْ فِيكُمُ الْخِلُّ الشَّفُوقُ يُعِينُنِي        أُحَلِّفُكُمْ بِاللهِ رُدَّ جَوَابِي

مَضَى الْوَقْتُ مِنْ عُمْرِي وَحَانَتْ مَنِيَّتِي        فَهَلْ رَاحِمٌ لِي كَيْ يَنَالَ ثَوَابِي

وَيَنْظُرَ فِي حَالِي وَيَكْشِفَ كُرْبَتِي        بِشُرْبَةِ مَاءٍ كَيْ يَهُونَ عَذَابِي

فتباكت الناس عليه، وقام السيَّاف وأخذ شربة ماء يناوله إياها، فنهض الوزير من مكانه وضرب قلَّةَ الماء بيده فكسرها، وصاح على السياف وأمره بضرب عنقه، فعند ذلك عصب عيني علي نور الدين، فصاح الناس على الوزير وأقاموا عليه الصراخ، وكثر بينهم القيل والقال. فبينما هم كذلك وإذا بغبارٍ قد عَلَا، وعجاج ملأ الجو والخلَا، فلما نظر إليه السلطان وهو قاعد في القصر قال لهم: انظروا ما الخبر! فقال الوزير: حتى نضرب عنق هذا قبلُ. فقال له السلطان: اصبر أنت حتى ننظر الخبر. وكان ذلك الغبار غبار جعفر وزير الخليفة ومَن معه، وكان السبب في مجيئهم أن الخليفة مكث ثلاثين يومًا لم يتذكَّرْ قصةَ علي بن خاقان، ولم يذكرها له أحدٌ، إلى أن جاء ليلةً من الليالي إلى مقصورة أنيس الجليس فسمع بكاءَها، وهي تنشد بصوت رقيق قوْلَ الشاعر:

خَيَالُكَ فِي التَّبَاعُدِ وَالتَّدَانِي        وَذِكْرُكَ لَا يُفَارِقُهُ لِسَانِي

وتزايد بكاؤها، وإذا بالخليفة قد فتح الباب ودخل المقصورة، فرأى أنيس الجليس وهي تبكي، فلما رأت الخليفة وقعَتْ على قدمَيْه، وقبَّلَتْهما ثلاثَ مرات، ثم أنشدَتْ هذين البيتين:

أَيَا مَنْ زَكَا أَصْلًا وَطَابَ وِلَادَةً        وَأَثْمَرَ غُصْنًا يَانِعًا وَزَكَا جِنْسَا

أُذَكِّرُكَ الْوَعْدَ الَّذِي سَمَحَتْ بِهِ        مَحَاسِنُكَ الْحُسْنَى وَحَاشَاكَ أَنْ تَنْسَى

فقال الخليفة: مَن أنتِ؟ قالت: أنا هدية علي بن خاقان إليك، وأريد إنجاز الوعد الذي وعدتَني به من أنك ترسلني إليه مع التشريف، والآن لي هنا ثلاثون يومًا لم أَذُقْ طعمَ النوم. فعند ذلك طلب الخليفة جعفر البرمكي وقال: من منذ ثلاثين يومًا لم أسمع بخبر علي بن خاقان، وما أظن إلا أن السلطان قتله، ولكن وحياة رأسي وتربة آبائي وأجدادي إنْ كان جرى له أمرٌ مكروه، لَأُهْلِكَنَّ مَن كان سببًا فيه، ولو كان أعزَّ الناس عندي، وأريد أن تسافر أنت في هذه الساعة إلى البصرة، وتأتي بأخبار الملك محمد بن سليمان الزيني مع علي بن خاقان. فامتثل أمره وسافَرَ، فلما أقبل جعفر نظر ذلك الهرج والمرج والازدحام، فقال الوزير جعفر: ما هذا الازدحام؟ فذكروا له ما هم فيه من أمر علي نور الدين بن خاقان، فلما سمع جعفر كلامهم أسرع بالطلوع إلى السلطان، وسلَّمَ عليه، وأعلمه بما جاء فيه، وأنه إذا كان وقع لعلي نور الدين أمرٌ مكروه، فإن السلطان يُهلِك مَن كان السببَ في ذلك، ثم إنه قبض على السلطان والوزير المعين بن ساوى، وأمر بإطلاق علي نور الدين بن خاقان، وأجلَسَه سلطانًا في مكان السلطان محمد بن سليمان الزيني، وقعد ثلاثةَ أيامٍ في البصرة مدةَ الضيافة، فلما كان صبح اليوم الرابع التفَتَ علي بن خاقان إلى جعفر، وقال: إني اشتقتُ إلى رؤية أمير المؤمنين. فقال جعفر للملك محمد بن سليمان: تجهَّزْ للسفر، فإننا نصلي ونتوجَّه إلى بغداد. فقال: السمع والطاعة.

ثم إنهم صلوا الصبح، وركبوا جميعهم ومعهم الوزير المعين بن ساوى، وصار يتندَّمَ على فعله؛ وأما علي نور الدين ابن خاقان فإنه ركب بجانب جعفر، وما زالوا سائرين إلى أن وصلوا إلى بغداد دار السلام، وبعد ذلك دخلوا على الخليفة، فلما دخلوا عليه حكوا له قصةَ نور الدين، فعند ذلك أقبَلَ الخليفة على علي بن خاقان وقال له: خذ هذا السيف واضرب به رقبة عدوك. فأخذه وتقدَّمَ إلى المعين بن ساوى، فنظر إليه وقال له: أنا عملتُ بمقتضى طبيعتي، فاعمل أنت بمقتضى طبيعتك. فرمى السيف من يده، ونظر إلى الخليفة وقال: يا أمير المؤمنين، إنه خدعني. وأنشَدَ قوْلَ الشاعر:

فَخَدَعْتُهُ بِخَدِيعَةٍ لَمَّا أَتَى        وَالْحُرُّ يَخْدَعُهُ الْكَلَامُ الطَّيِّبُ

فقال له الخليفة: اتركه أنت. ثم قال لمسرور: يا مسرور، قُمْ أنت واضرب رقبته. فقام مسرور ورمى رقبته، فعند ذلك قال الخليفة لعلي بن خاقان: تَمَنَّ عليَّ. فقال له: يا سيدي، أنا ما لي حاجة بمُلْك البصرة، وما أريد إلا مشاهدة وجه خدمتك. فقال الخليفة: حبًّا وكرامةً. ثم إن الخليفة دعا بالجارية فحضرت بين يديه، فأنعم عليهما، وأعطاهما قصرًا من قصور بغداد، ورتَّبَ لهما مرتبات، وجعله من ندمائه، وما زال مقيمًا عنده إلى أن أدركه الممات.

 

حكاية التاجر أيوب وابنه غانم وابنته فتنة

وليس هذا بأعجب من حكاية التاجر وأولاده، قال الملك: وكيف ذلك؟

 

حكاية غانم المتيم المسلوب

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنه كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان، تاجرٌ من التجار له مال، وله ولد كأنه البدر ليلة تمامه، فصيح اللسان، يُسمَّى غانم بن أيوب المتيَّم المسلوب، وله أخت اسمها فتنة من فرط حُسْنها وجمالها؛ فتوفي والدهما وخلف لهما مالًا جزيلًا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 37﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن ذلك التاجر خلَّف لهما مالًا جزيلًا، ومن جملة ذلك مائة حِمل من القز والديباج ونوافح المسك، ومكتوب على الأحمال: هذا بقصد بغداد. وكان مراده أن يسافر إلى بغداد، فلما توفَّاه الله تعالى ومضَتْ مدة، أخذ ولده هذه الأحمالَ وسافَرَ بها إلى بغداد، وكان ذلك في زمن هارون الرشيد، وودَّع أمه وأقاربه، وأهل بلدته قبل سيره، وخرج متوكلًا على الله تعالى، وكتب الله له السلامة حتى وصل إلى بغداد، وكان مسافرًا صحبة جماعة من التجار، فاستأجر له دارًا حسنة، وفرشها بالبسط والوسائد، وأرخى عليها الستور، ونزَّل فيها تلك الأحمال والبغال والجمال، وجلس حتى استراح، وسلَّمَ عليه تجارُ بغداد وأكابرها، ثم أخذ بقجة فيها عشرة تفاصيل من القماش النفيس، مكتوب عليها أثمانها، ونزل بها إلى سوق التجار، فلاقوه وسلَّموا عليه وأكرموه، وتلقَّوه بالترحيب، وأنزلوه على دكان شيخ السوق، وباع التفاصيل، فربح في كل دينار دينارين، ففرح غانم، وصار يبيع القماش والتفاصيل شيئًا فشيئًا، ولم يزل كذلك سنةً كاملة، وفي أول السنة الثانية جاء إلى ذلك السوق، فرأى بابه مقفولًا، فسأل عن سبب ذلك، فقيل له: إنه توفي واحد من التجار، وذهب التجار كلهم يمشون في جنازته، فهل لك أن تكسب أجرًا وتمشي معهم؟ قال: نعم. ثم سأل عن محل الجنازة، فدلوه عن المحل، فتوضأ ثم مشى مع التجار إلى أن وصلوا المصلى وصلوا على الميت، ثم مشى التجار جميعهم قدام الجنازة إلى المقبرة، فتبعهم غانم إلى أن وصلوا بالجنازة إلى المقبرة خارج المدينة، ومشوا بين المقابر حتى وصلوا إلى المدفن، فوجدوا أهل الميت نصبوا على القبر خيمة، وأحضروا الشموع والقناديل، ثم دفنوا الميت، وجلس القراء يقرءون القرآن على ذلك القبر، فجلس التجار ومعهم غانم بن أيوب وهو غالب عليه الحياء، فقال في نفسه: أنا لم أقدر أن أفارقهم حتى أنصرف معهم.

ثم إنهم جلسوا يسمعون القرآن إلى وقت العشاء، فقدَّموا لهم العشاء والحلوى، فأكلوا حتى اكتفوا، وغسلوا أيديهم، ثم جلسوا مكانهم، فاشتغل خاطر غانم ببضاعته وخاف من اللصوص، فقال في نفسه: أنا رجل غريب ومتهم بالمال، فإن بتُّ الليلةَ بعيدًا عن منزلي سرق اللصوصُ ما فيه من المال والأحمال. وخاف على متاعه، فقام وخرج من بين الجماعة، واستأذنهم على أنه يقضي حاجة، فسار يمشي ويتتبع آثار الطريق حتى جاء إلى باب المدينة، وكان ذلك الوقت نصف الليل، فوجد باب المدينة مغلوقًا، ولم يَرَ أحدًا غاديًا ولا رائحًا، ولم يسمع صوتًا سوى نبيح الكلاب وعواء الذئاب، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، كنتُ خائفًا على مالي وجئتُ من أجله، فوجدتُ الباب مغلوقًا، فصرتُ الآن خائفًا على روحي.

ثم رجع ينظر له محلًّا ينام فيه إلى الصباح، فوجد تربة محوطة بأربعة حيطان، وفيها نخلة، ولها باب من الصوَّان مفتوح، فدخلها وأراد أن ينام فلم يَجِئْه نوم، وأخذته رجفة ووحشة وهو بين القبور، فقام واقفًا على قدميه وفتح باب المكان، ونظر فرأى نورًا يلوح على بُعْدٍ في ناحية باب المدينة، فمشى قليلًا فرأى النور مُقبِلًا في الطريق التي توصل إلى التربة التي هو فيها، فخاف غانم على نفسه وأسرع بِرَدِّ الباب، وتعلَّقَ حتى طلع فوق النخلة وتدارى في قلبها، فصار النور يقترب من التربة شيئًا فشيئًا حتى قرب من التربة، فتأمَّل النورَ فرأى ثلاثة عبيد؛ اثنان حاملان صندوقًا، وواحد في يده فاس وفانوس، فلما قربوا من التربة قال أحد العبدين الحاملين الصندوق: ما لك يا صواب؟ فقال العبد الآخر منهما: ما لك يا كافور؟ فقال: أَمَا كُنَّا هنا وقتَ العشاء وخلينا البابَ مفتوحًا؟ فقال: نعم، هذا الكلام صحيح. فقال: ها هو مغلق متربس. فقال لهما الثالث وهو حامل الفاس والنور، وكان اسمه بخيتًا: ما أقل عقلكما! أَمَا تعرفان أن أصحاب الغيطان يخرجون من بغداد، ويتردَّدون هنا، فيمسي عليهم المساء فيدخلون هنا، ويغلقون عليهم الباب خوفًا من السودان الذين هم مثلنا أن يأخذوهم ويأكلوهم؟ فقالوا له: صدقتَ، وما فينا أقل عقلًا منك. فقال لهم: إنكم لم تصدِّقوني حتى ندخل التربة ونجد فيها أحدًا، وأظن أنه إذا كان فيها أحد ورأى النور هرب فوق النخلة.

فلما سمع غانم كلام العبد، قال في نفسه: ما أمكر هذا العبد! فقبَّحَ الله السودانَ لما فيهم من الخبث واللؤم. ثم قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وما الذي يخلصني من هذه الورطة؟ ثم إن الاثنين الحاملين للصندوق قالَا لمَن معه الفأس: تعلَّقْ على الحائط وافتح لنا الباب يا صواب؛ لأننا تعبنا من حمل الصندوق على رقابنا، فإذا فتحتَ لنا الباب، فلك علينا واحد من الذين نمسكهم، ونقليه لك قليًا جيدًا بحيث لا يضيع من دهنه نقطة. فقال صواب: أنا خائف من شيء تذكَّرْتُه من قلة عقلي، وهو أننا نرمي الصندوق وراء الباب لأنه ذخيرتنا. فقالَا له: إنْ رميناه ينكسر. فقال: أنا خائف أن يكون في داخل التربة الحرامية الذين يقتلون الناس، ويسرقون الأشياء؛ لأنهم إذا أمسى عليهم الوقت يدخلون في هذه الأماكن، ويقسِّمون ما يكون معهم. فقال له الاثنان الحاملان للصندوق: يا قليل العقل، هل يقدرون أن يدخلوا هنا؟ ثم حملَا الصندوق، وتعلَّقَا على الحائط، ونزلَا وفتحَا الباب، والعبد الثالث الذي هو بخيت واقف لهما بالنور والمقطف الذي فيه بعض من الجبس. ثم إنهم جلسوا وقفلوا الباب، فقال واحد منهم: يا إخوتي، نحن تعبنا من المشي والشيل والحط وفتح الباب وقفله، وهذا الوقت نصف الليل، ولم يَبْقَ فينا قوة لفتح التربة ودفْنِ الصندوق، ولكننا نجلس هنا ثلاث ساعات لنستريح، ثم نقوم ونقضي حاجتنا، ولكن كل واحد منَّا يحكي لنا سببَ تطويشه، وجميعَ ما وقع له من المبتدأ إلى المنتهى لأجل فوات هذه الليلة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 38﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العبيد الثلاثة قالوا لبعضهم: كل واحد يحكي جميعَ ما وقع له. قال الأول وهو الذي كان حامِلَ النور: أنا أحكي لكم حكايتي. فقالوا له: تكلَّمْ.

 

حكاية العبد الأول صواب

قال لهم: اعلموا يا إخواني أني لما كنتُ صغيرًا جاء بي الجلاب من بلدي وعمري خمس سنين، فباعني لواحد جاويش، وكان له بنت عمرها ثلاث سنين، فتربيت معها، وكانوا يضحكون عليَّ وأنا ألاعب البنت وأرقص لها وأغني لها، إلى أن صار عمري اثنتي عشرة سنة، وهي بنت عشر سنين، ولا يمنعونني عنها، إلى أن دخلتُ عليها يومًا من الأيام وهي جالسة في محل خلوة، وكأنها خرجت من الحمام الذي في البيت؛ لأنها كانت معطرة مبخرة، ووجهها مثل القمر في ليلة أربع عشرة، فلاعبَتْني ولاعبْتُها، فنفر إحليلي حتى صار مثل المفتاح الكبير، فدفعتني على الأرض فوقعت على ظهري، وركبت فوق صدري وصارت تتمرغ عليَّ، فانكشف إحليلي، فلما رأَتْه وهو نافر أخذته بيدها، وصارت تحكُّ به على أشفار فرجها من فوق لباسها، فهاجت الحرارة عندي، وحضنتها فشبكت يديها في عنقي، وقرطت عليَّ بجهدها، فما أشعر إلا وإحليلي فتق لباسها ودخل فرجها، فأزال بكارتها، فلما عاينتُ ذلك هربتُ عند بعض أصحابي، فدخلَتْ عليها أمها، فلما رأت حالها غابت عن الدنيا، ثم تداركت أمرها وأخفت حالها عن أبيها، وكتمَتْه وصبرت عليها مدة شهرين، كل هذا وهم ينادونني ويلاطفونني حتى أخذوني من المكان الذي كنت فيه، ولم يذكروا شيئًا من هذا الأمر لأبيها؛ لأنهم كانوا يحبونني كثيرًا، ثم إن أمها خطبت لها شابًّا مزينًا، كان يزيِّن أباها، وأمهرتها من عندها وجهَّزَتْها له، كل هذا وأبوها لا يعلم بحالها، وصاروا يجتهدون في تحصيل جهازها، ثم إنهم أمسكوني على غفلة وخصوني، ولما زفوها للعروس جعلوني طواشيًّا لها أمشي قدامها أينما راحت، سواء كان رواحها إلى الحمام أو إلى بيت أبيها، وقد ستروا أمرها، وليلة الدخلة ذبحوا على قميصها حمامة، ومكثتُ عندها مدة طويلة، وأنا أتملَّى بحُسْنها وجمالها على قدر ما أمكنني من تقبيل وعناق إلى أن ماتت هي وزوجها وأمها وأبوها، ثم أخذت بيت المال، وصرتُ في هذا المكان، وقد ارتفقتُ بكم، وهذا سبب قطع إحليلي والسلام.

 

حكاية العبد الثاني كافور

فقال العبد الثاني: اعلموا يا إخوتي أني كنت في ابتداء أمري ابن ثماني سنين، ولكن كنت أكذب على الجلابة في كل سنة كذبة؛ حتى يقعوا في بعضهم، فقلق مني الجلاب، وأنزلني في يد الدلال، وأمره أن ينادي: مَن يشتري هذا العبد على عيب؟ فقيل له: وما عيبه؟ قال: يكذب في كل سنة كذبة واحدة. فتقدَّمَ رجل تاجر إلى الدلال، وقال له: كَمْ أعطوا في هذا العبد من الثمن على عيبه؟ قال: أعطوا ستمائة درهم. قال: ولك عشرون. فجمع بينه وبين الجلاب، وقبض منه الدراهم، وأوصلني الدلال إلى منزل ذلك التاجر، وأخذ دلالته، فكساني التاجر ما يناسبني، ومكثتُ عنده باقي سنتي إلى أن هلَّت السنة الجديدة بالخير، وكانت سنة مباركة مخصبة بالنبات، فصار التجار يعملون العزومات، وكل يوم على واحد منهم إلى أن جاءت العزومة على سيدي في بستان خارج البلد، فراح هو والتجار وأخذ لهم ما يحتاجون إليه من أكل وغيره، فجلسوا يأكلون ويشربون ويتنادمون إلى وقت الظهر، فاحتاج سيدي إلى مصلحة من البيت، فقال: يا عبد، اركب البغلة، ورُحْ إلى المنزل، وهات من سيدتك الحاجةَ الفلانية وارجع سريعًا. فامتثلتُ أمرَه ورحتُ إلى المنزل، فلما قربت من المنزل صرختُ وأرخيتُ الدموع، فاجتمع أهل الحارة كبارًا وصغارًا، وسمعَتْ صوتي زوجةُ سيدي وبناته، ففتحوا لي الباب وسألوني عن الخبر، فقلت لهم: إن سيدي كان جالسًا تحت حائط قديم هو وأصحابه فوقع عليهم، فلما رأيت ما جرى لهم ركبت البغلة، وجئت مسرعًا لأخبركم.

فلما سمع أولاده وزوجته ذلك الكلام صرخوا وشقُّوا ثيابهم، ولطموا على وجوههم، فأتَتْ إليهم الجيران، وأمَّا زوجة سيدي فإنها قلبت متاع البيت بعضه على بعض، وخلعت رفوفه، وكسرت طبقاته وشبابيكه، وسخمت حيطانه بطين ونيلة، وقالت: ويلك يا كافور، تعال ساعدني، واخرب هذه الدواليب، وكسِّرْ هذه الأواني والصيني. فجئت إليها وأخربت معها رفوفَ البيت، وأتلفتُ ما عليها ودواليبه، وأتلفتُ ما فيها ودرتُ على السقوف وعلى كل محل حتى أخرجتُ الجميع، وأنا أصيح: وا سيداه! ثم خرجَتْ سيدتي مكشوفةَ الوجه بغطاء رأسها لا غير، وخرج معها البنات والأولاد وقالوا: يا كافور، امشِ قدامنا وأَرِنا مكانَ سيدك الذي هو ميت فيه تحت الحائط حتى نُخرِجه من تحت الردم، ونحمله في تابوت ونجيء به إلى البيت فنخرجه خرجةً مليحة. فمشيت قدامهم وأنا أصيح: وا سيداه! وهم خلفي مكشوفو الوجوه والرءوس، يصيحون: وا مصيبتاه! وا نكبتاه! فلم يَبْقَ أحدٌ من الرجال ولا من النساء ولا من الصبيان ولا صبية ولا عجوزة إلا جاء معنا، وصاروا كلهم يلطمون وهم في شدة البكاء، فمشيتُ بهم في المدينة، فسأل الناس عن الخبر فأخبروهم بما سمعوا مني، فقال الناس: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إننا نمضي للوالي ونخبره. فلما وصلوا إلى الوالي أخبروه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 39﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنهم لما وصلوا إلى الوالي وأخبروه، قام الوالي وركب وأخذ معه الفَعَلة بالمساحي والقفف، ومشوا تابعين أثري، معهم كثير من الناس، وأنا قدامهم أبكي وأصيح، وأحثوا التراب على رأسي وألطم على وجهي، فلما دخلت عليهم ورآني سيدي وأنا ألطم وأقول: وا سيدتاه! مَن يحنُّ عليَّ بعد سيدتي، يا ليتني كنتُ فداءَها! فلما رآني سيدي بُهِتَ واصفرَّ لونه، وقال: ما لك يا كافور؟ وما هذه الحال وما الخبر؟ فقلتُ له: إنك لمَّا أرسلتَني إلى البيت لأجيء لك بالذي طلبتَه، رحتُ إلى البيت ودخلته، فرأيت الحائط الذي في القاعة وقع، فانهدمت القاعة كلها على سيدتي وأولادها. فقال لي: وهل سيدتك لم تسلَم؟ فقال: لا، ما سلم منهم أحد، وأول مَن مات منهم سيدتي الكبيرة. فقال: وهل سلمَتْ بنتي الصغيرة؟ فقلتُ له: لا. فقال لي: وما حال البغلة التي أركبها هل هي سالمة؟ فقلتُ له: لا يا سيدي؛ فإن حيطان البيت وحيطان الإصطبل انطبقَتْ على جميع ما في البيت، حتى على الغنم والإوز والدجاج، وصاروا كلهم كوم لحم، وصاروا تحت الردم، ولم يَبْقَ منهم أحد. فقال لي: ولا سيدك الكبير؟ فقلت له: لا، فلم يسلم منهم أحد، وفي هذه الساعة لم يَبْقَ دارٌ ولا سكان، ولم يَبْقَ من ذلك كله أثر، وأما الغنم والإوز والدجاج فإن الجميع أكلها القطط والكلاب.

فلما سمع سيدي كلامي صار الضياء في وجهه ظلامًا، ولم يقدر أن يتمالك نفسه ولا عقله، ولم يقدر أن يقف على قدميه، بل جاءه الكساح، وانكسر ظهره، ومزَّقَ أثوابه، ونتف لحيته، ولطم على وجهه، ورمى عمامته من فوق رأسه، وما زال يلطم على وجهه حتى سال منه الدم، وصار يصيح: آه وا أولاداه! وا زوجتاه! آه وا مصيبتاه! مَن جرى له مثل ما جرى لي؟ فصاحت التجار رفقاؤه لصياحه، وبكوا معه، ورثوا لحاله، وشقُّوا أثوابهم، وخرج سيدي من ذلك البستان وهو يلطم من شدة ما جرى له، وأكثر اللطم على وجهه، وصار كأنه سكران، فبينما الجماعة خارجون من باب البستان، وإذا هم نظروا غبرة عظيمة، وصياحًا بأصوات مزعجة، فنظروا إلى تلك الجهة فرأوا الجماعة المقبلين، وهم الوالي وجماعته، والخلق والعالم الذين يتفرجون، وأهل التاجر وراءهم يصرخون ويصيحون، وهم في بكاء شديد وحزن زائد، فأول مَن لاقى سيدي زوجته وأولادها، فلما رآهم بُهِت وضحك وقال لهم: ما حالكم أنتم وما حصل لكم في الدار، وما جرى لكم؟ فلما رأوه قالوا: الحمد لله على سلامتك أنت. ورموا أنفسهم عليه، وتعلَّقَتْ أولاده به، وصاحوا: وا أبتاه! الحمد لله على سلامتك يا أبانا. وقالت له زوجته: الحمد لله الذي أرانا وجهك بسلامة. وقد اندهشت وطار عقلها لما رأته، وقالت له: كيف كانت سلامتك أنت وأصحابك؟ فقال لها: وكيف كان حالكم في الدار؟ فقالوا: نحن طيبون بخير وعافية، وما أصاب دارنا شيء من الشر، غير أن عبدك كافورًا جاء إلينا مكشوف الرأس ممزق الأثواب، وهو يصيح: وا سيداه، وا سيداه! فقلنا له: ما الخبر يا كافور؟ فقال: إن سيدي جلس تحت حائط في البستان ليقضي حاجة فوقعت عليه فمات. فقال لهم سيدي: والله إنه أتاني في هذه الساعة وهو يصيح وا سيدتاه، وا أولاد سيدتاه! وقال: إن سيدتي وأولادها ماتوا جميعًا.

ثم نظر إلى جانبه فرآني وعمامتي ساقطة عن رأسي، وأنا أصيح وأبكي بكاءً شديدًا وأحثو التراب على رأسي، فصرخ عليَّ، فأقبلتُ عليه، فقال لي: ويلك يا عبد النحس، يا ابن الزانية، يا ملعون الجنس! ما هذه الوقائع التي عملتَها؟ ولكن والله لأسلخنَّ جلدك عن لحمك، وأقطعنَّ لحمك عن عظمك. فقلت له: والله ما تقدر أن تعمل معي شيئًا؛ لأنك قد اشتريتني على عيبي بهذا الشرط، والشهود يشهدون عليك حين اشتريتني على عيبي، وأنت عالم به، وهو أني أكذب في كل سنة كذبة واحدة، وهذه نصف كذبة، فإذا كملَتِ السنةُ كذبت نصفها الآخَر، فتبقى كذبة كاملة. فصاح عليَّ: يا ألعن العبيد، هل هذا كله نصف كذبة؟ وإنما هو داهية كبيرة، اذهب عني فأنت حر. فقلت: والله إن أعتقتَني أنت ما أعتقك أنا حتى تكمل السنة، وأكذب نصفَ الكذبة الباقي، وبعد أن أتمَّها فانزل بي السوق، وبعني بما اشتريتني به على عيبي ولا تعتقني، فإنني ما لي صنعة أقتات منها، وهذه المسألة التي ذكرتُها لك شرعيةٌ، ذكرها الفقهاء في باب العتق.

فبينما نحن في الكلام، وإذا بالخلائق والناس وأهل الحارة، نساءً ورجالًا قد جاءوا يعملون العزاء، وجاء الوالي وجماعته، فراح سيدي والتجار إلى الوالي، وأعلموه بالقضية، وأن هذه نصف كذبة، فلما سمع الحاضرون ذلك منه استعظموا تلك الكذبة، وتعجبوا غاية العجب، فلعنوني وشتموني، فبقيت واقفًا أضحك، وأقول كيف يقتلني سيدي، وقد اشتراني على هذا العيب؟! فلما مضى سيدي إلى البيت وجده خرابًا، وأنا الذي أخربتُ معظمه، وكسرت فيه شيئًا يساوي جملة من المال، فقالت له زوجته: إن كافورًا هو الذي كسر الأواني والصيني. فازداد غيظه وقال: والله عمري ما رأيت ولد زنا مثل هذا العبد، ويقول إنها نصف كذبة! فكيف لو كانت كذبة كاملة؟ فحينئذٍ كان خرَّب مدينة أو مدينتين. ثم ذهب من شدة غيظه إلى الوالي، فضربني علقة شديدة حتى غبت عن الدنيا وغُشِي عليَّ، فأتاني بالمزيِّن في حال غشيتي، فخصاني وكواني، فلما استفقتُ وجدتُ نفسي خصيًّا، وقال لي سيدي: مثلما أحرقتَ قلبي على أعز شيء عندي، أحرقتُ قلبك على أعز شيء عندك. ثم أخذني فباعني بأغلى ثمن؛ لأني صرتُ طواشيًّا، وما زلتُ ألقي الفتن في الأماكن التي أُباع فيها، وأنتقل من أمير إلى أمير، ومن كبير إلى أكبر بالبيع والشراء، حتى دخلتُ قصرَ أمير المؤمنين، وقد انكسرَتْ نفسي وضعفَتْ قوتي، وعدمت خصاي. فلما سمع العبدان كلامه ضحكَا عليه، وقالَا له: إنك خبيث ابن خبيث، قد كذبتَ كذبًا شنيعًا. ثم قالوا للعبد الثالث: احكِ لنا حكايتك.

 

حكاية العبد الثالث بخيت

قال لهم: يا أولاد عمي، كل ما حكى هذا بطال، فأنا أحكي لكم سبب قطع خصاي، وقد كنت أستحق أكثر من ذلك؛ لأني كنت نكت سيدتي وابن سيدي، والحكاية معي طويلة، وما هذا وقت حكايتها لأن الصباح يا أولاد عمي قريب، وربما يطلع علينا الصباح ومعنا هذا الصندوق فنفتضح بين الناس وتروح أرواحنا، فدونكم فتح الباب، فإذا فتحناه ودخلنا محلنا، قلتُ لكم على سبب قطع خصاي. ثم تعلَّقَ ونزل من الحيط وفتح الباب، فدخلوا وحطوا الشمع، وحفروا حفرةً على قدر الصندوق بين أربعة قبور، وصار كافور يحفر، وصواب ينقل التراب بالقفف إلى أن حفروا نصف قامة، ثم حطوا الصندوق في الحفرة، وردوا عليه التراب، وخرجوا من التربة وردوا الباب، وغابوا عن عين غانم بن أيوب.

فلما خلا لغانم المكان وعلم أنه وحده، اشتغل سره بما في الصندوق، وقال في نفسه: يا تُرَى أي شيء في الصندوق؟ ثم صبر حتى برق الفجر ولاح وبان ضياؤه، فنزل من فوق النخلة، وأزال التراب بيده حتى كشف الصندوق وخلصه، ثم أخذ حجرًا وضرب القفل فكسره وكشف الغطاء، ونظر فيه فرأى صبيةً نائمة مبنَّجة، ونفسها طالع ونازل، إلا أنها ذات حسن وجمال، وعليها حلي ومصاغ من الذهب وقلائد من الجوهر تساوي مُلْك السلطان ما بقي بثمنها مال. فلما رآها غانم بن أيوب عرف أنهم تغامزوا عليها، فلما تحقَّقَ ذلك الأمر عالَجَ فيها حتى أخرجها من الصندوق ورقَّدها على قفاها، فلما استنشقت الأرياح ودخل الهواء في مناخرها ومنافسها، عطست ثم شرقت وسعلت، فوقع من حلقها قرص بنج لو شمَّه الفيلُ لَرقد من الليل إلى الليل، ففتحَتْ عينَيْها وأدارَتْ طرفها، وقالت بكلام فصيح: ويلك يا ريح، ما فيك ري للعطشان، ولا أنس للريان، أين زهر البستان؟ فلم يجاوبها أحد، فالتفتَتْ وقالت صبيحة شجرة الدر نور الهدى نجمة الصبح: أنت في شهر نزهة حلوة ظريفة تكلموا. فلم يُجِبْها أحد، فجالت بطرفها وقالت: ويلي عند إنزالي في القبور، يا مَن يعلم ما في الصدور، ويجازي يومَ البعث والنشور مَن جاء بي من بين الستور والخدور، ووضعني بين أربعة قبور.

هذا كله وغانم واقف على قدمَيْه، فقال لها: يا سيدتي، لا خدور ولا قصور ولا قبور، ما هذا إلا عبدك غانم بن أيوب، ساقه إليك الملك علَّام الغيوب حتى ينجِّيك من هذه الكروب، ويحصل لك غاية المطلوب. وسكت، فلما تحقَّقَتِ الأمرَ قالت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله. والتفتَتْ إلى غانم، وقد وضعَتْ يديها على صدرها، وقالت له بكلام عذب: أيها الشاب المبارك، مَن جاء بي إلى هذا المكان، فها أنا قد أفقتُ؟ فقال: يا سيدتي، ثلاثة عبيد مخصيون أتوا وهم حاملون هذا الصندوق. ثم حكى لها جميع ما جرى، وكيف أمسى عليه المساء حتى كان سبب سلامتها، وإلا كانت ماتَتْ بغُصَّتها، ثم سألها عن حكايتها وخبرها، فقالت له: أيها الشاب، الحمد لله الذي رماني عند مثلك، فقُمِ الآنَ وحطني في الصندوق واخرج إلى الطريق، فإذا وجدتَ مكاريًا وبغالًا، فاكتره لحمل هذا الصندوق ووصِّلني إلى بيتك، فإذا صرتُ في دارك يكون خيرًا، وأحكي لك حكايتي وأخبرك بقصتي، ويحصل لك الخير من جهتي. ففرح وخرج إلى البرية، وقد شعشع النهار، وطلعت الشمس بالأنوار، وخرجت الناس ومشوا، فاكترى رجلًا ببغل وأتى به إلى التربة، فحمل الصندوق بعدما حط فيه الصبية، ووقعَتْ محبتها في قلبه، وسار بها وهو فرحان؛ لأنها جارية تساوي عشرة آلاف دينار، وعليها حلي وحلل تساوي مالًا جزيلًا، وما صدق أن يصل إلى داره، وأنزل الصندوق وفتحه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 40﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن غانم بن أيوب وصل إلى داره بالصندوق، وفتحه وأخرج الصبية منه، ونظرت فرأت هذا المكان محلًّا مليحًا، مفروشًا بالبسط الملونة، والألوان المفرحة، وغير ذلك، ورأت قماشًا محزومًا وأحمالًا، وغير ذلك، فعلمت أنه تاجر كبير صاحب أموال، ثم إنها كشفت وجهها ونظرت إليه، فإذا هو شاب مليح، فلما رأته أحَبَّتْه وقالت له: هاتِ لنا شيئًا نأكله. فقال لها غانم: على الرأس والعين. ثم نزل السوق واشترى خروفًا مشويًّا وصحن حلاوة، وأخذ معه نُقلًا وشمعًا، وأخذ معه نبيذًا، وما يحتاج إليه الأمر من آلة المشموم، وأتى إلى البيت ودخل بالحوائج، فلما رأَتْه الجارية ضحكت وقبَّلَتْه وعانقَتْه، وصارت تلاطفه، فازدادت عنده المحبة واحتوت على قلبه، ثم أكلَا وشربَا إلى أن أقبل الليل، وقد حبَّ بعضهما بعضًا؛ لأنهما كانا في سن واحد وحُسْن واحد.

فلما أقبَلَ الليل قام المتيم المسلوب غانم بن أيوب، وأوقد الشموع والقناديل، فأضاء المكان، وأحضر آلة المُدام، ثم نصب الحضرة، وجلس هو وإياها، وكان يملأ ويسقيها وهي تملأ وتسقيه، وهما يلعبان ويضحكان وينشدان الأشعار، وزاد بهما الفرح وتعلَّقَا بحب بعضهما، فسبحان مؤلف القلوب. ولم يزالا كذلك إلى قريب الصبح، فغلب عليهما النوم، فنام كل منهما في موضعه إلى أن أصبح الصباح، فقام غانم بن أيوب، وخرج إلى السوق، واشترى ما يحتاج إليه من خضرة ولحم وخمر وغيره، وأتى إلى الدار، وجلس هو وإياها يأكلان، فأكلَا حتى اكتفيا، وبعد ذلك أحضَرَا الشراب وشربَا ولعبا مع بعضهما حتى احمرت وجناتهما واسودَّتْ أعينهما، واشتاقت نفس غانم بن أيوب إلى تقبيل الجارية والنوم معها، فقال لها: يا سيدتي، ائذني لي بقبلة من فيك لعلها تبرد نار قلبي. فقالت: يا غانم، اصبر حتى أسكر وأغيب، وأسمح لك سرًّا بحيث لم أشعر أنك قبَّلْتَني. ثم إنها قامت على قدمَيْها، وخلعت بعض ثيابها، وقعدت في قميص رفيع وكوفيه، فعند ذلك تحرَّكَتِ الشهوة عند غانم، وقال: يا سيدتي، أَمَا تسمحين لي بما طلبتُه منك؟ فقالت: والله لا يصحُّ لك ذلك؛ لأنه مكتوب على دكة لباسي قول صعب. فانكسر خاطر غانم بن أيوب، وزاد عنده الغرام لما عزَّ المطلوب، فأنشد هذه الأبيات:

سَأَلْتُ مَنْ أَمْرَضَنِي        فِي قُبْلَةٍ تَشْفِي السَّقَمْ

فَقَالَ: لَا لَا أَبَدًا        قُلْتُ لَهُ: نَعَمْ نَعَمْ

فَقَالَ: خُذْهَا بِالرِّضَا        مِنَ الْحَلَالِ وَابْتَسَمْ

فَقُلْتُ: غَصْبًا قَالَ: لَا        إِلَّا عَلَى رَأْسِ عَلَمْ

فَلَا تَسَلْ عَمَّا جَرَى        وَاسْتَغْفِرِ اللهَ وَنَمْ

فَاظْنُنْ بِمَا شِئْتَ بِنَا        فَالْحُبُّ يَحْلُو بِالتُّهَمْ

وَلَا أُبَالِي بَعْدَ ذَا        إِنْ بَاحَ يَوْمًا أَوْ كَتَمْ

ثم زادت محبته، وانطلقت النيران في مهجته، هذا وهي تتمنَّع منه وتقول: ما لك وصول. ولم يزالَا في عشقهما ومنادمتهما، وغانم بن أيوب غريق في الهيام، وأما هي فإنها قد ازدادَتْ قسوةً وامتناعًا إلى أن دخل الليل بالظلام، وأرخى عليها ذيل المنام، فقام غانم وأشعل القناديل، وأوقد الشموع، وزاد بهجة المقام، وأخذ رجلَيْها وقبَّلَهما، فوجدهما مثل الزبد الطري، فمرَّغ وجهه عليهما، وقال: يا سيدتي، ارحمي أسير هواكِ، ومَن قتلَتْ عيناكِ، كنتُ سليمَ القلب لولاك. ثم بكى قليلًا، فقالت: يا سيدي ونور عيني، أنا والله لك عاشقة، وبك واثقة، ولكن أنا أعرف أنك لا تصل إليَّ. فقال لها: وما المانع؟ فقالت له: سأحكي لك في هذه الليلة قصتي حتى تقبل عذري.

ثم إنها ترامَتْ عليه، وطوَّقَتْ على رقبته بيديها، وصارت تقبِّله وتلاطفه، ثم وعدته بالوصال، ولم يزالا يلعبان ويضحكان حتى تمكَّنَ حب بعضهما من بعض، ولم يزالا على ذلك الحال وهما في كل ليلة ينامان على فراش واحد، وكلما طلب منها الوصال تتعزَّز عنه مدة شهر كامل، وتمكَّنَ حبُّ كل واحد منهما من قلب الآخَر، ولم يَبْقَ لهما صبر عن بعضهما إلى إن كانَتْ ليلة من الليالي وهو راقد معها، والاثنان سكرانان، فمدَّ يده على جسدها وملَّسَ، ثم مرَّ بيده على بطنها، ونزل إلى سرتها فانتبهت وقعدت، وتعهَّدَتِ اللباس فوجدته مربوطًا، فنامت ثانيًا، فملَّسَ عليها بيده ونزل بها إلى سروالها ودكتها وجذبها فانتبهت وقعدت، وقعد غانم إلى جانبها، فقالت له: ما الذي تريد؟ قال: أريد أن أنام معك، وأتصافى أنا وأنت. فعند ذلك قالت له: أنا الآن أوضِّح لك أمري حتى تعرف قدري، وينكشف لك سري، ويظهر لك عذري. قال: نعم. فعند ذلك شقَّتْ ذيلَ قميصها ومدَّتْ يدها إلى دكة لباسها، وقالت: يا سيدي، اقرأ الذي على هذا الطرف. فأخذ طرف الدكة في يده ونظره، فوجده مرقومًا عليه بالذهب: أنا لك وأنت لي يا ابن عم النبي.

فلما قرأه نثر يده وقال لها: اكشفي لي عن خبرك؟ قالت: نعم، اعلم أنني محظية أمير المؤمنين، واسمي قوت القلوب، وأن أمير المؤمنين لما ربَّاني في قصره وكبرت، نظر إلى صفاتي وما أعطاني ربي من الحسن والجمال، فأحَبَّني محبةً زائدة، وأخذني وأسكنني في مقصورة، وأمر لي بعشر جوارٍ يخدمنني، ثم إنه أعطاني ذلك المصاغ الذي تراه معي، ثم إن الخليفة سافَرَ يومًا من الأيام إلى بعض البلاد، فجاءت السيدة زبيدة إلى بعض الجواري التي في خدمتي وقالت: إذا نامت سيدتك قوت القلوب فحطِّي هذه القطعة البنج في أنفها أو في شرابها، ولك عليَّ من المال ما يكفيك. فقالت لها الجارية: حبًّا وكرامة. ثم إن الجارية أخذت البنج منها وهي فرحانة لأجل المال، ولكونها كانت في الأصل جاريتها، فجاءت إليَّ ووضعَتِ البنجَ في جوفي، فوقعتُ على الأرض وصارت رأسي عند رجلي، ورأيت نفسي في دنيا أخرى، ولما تمَّتْ حيلتها حطَّتْني في ذلك الصندوق، وأحضرت العبيد سرًّا، وأنعمت عليهم وعلى البوابين، وأرسلتني مع العبيد في الليلة التي كنتَ نائمًا فيها فوق النخلة، وفعلوا معي ما رأيت، وكانت نجاتي على يدَيْكَ، وأنت أتيتَ بي إلى هذا المكان وأحسنتَ إليَّ غاية الإحسان، وهذه قصتي وما أعرف الذي جرى للخليفة في غيبتي، فاعرف قدري ولا تشهر أمري. فلما سمع غانم بن أيوب كلامَ قوت القلوب، وتحقَّقَ أنها محظية الخليفة، تأخَّرَ إلى ورائه خيفةً من هيبة الخليفة، وجلس وحده في ناحية من المكان يعاتب نفسه، ويتفكر في أمره، وصار متحيرًا في عشق التي ليس له إليها وصول؛ فبكى من شدة الغرام ولوعة الوَجْد والهيام، وصار يشكو الزمان، وما له من العدوان، فسبحان مَن أشغل قلوبَ الكرام بالمحبة، ولم يُعْطِ الأنذالَ منها وزنَ حبة، وأنشد هذين البيتين:

قَلْبُ الْمُحِبِّ عَلَى الْأَحْبَابِ مَتْعُوبُ        وَعَقْلُهُ مَعْ بَدِيعِ الْحُسْنِ مَنْهُوبُ

وَقَائِلٌ قَالَ لِي: مَا الْحُبُّ؟ قُلْتُ لَهُ        الْحُبُّ عَذْبٌ وَلَكِنْ فِيهِ تَعْذِيبُ

فعند ذلك قامت إليه قوت القلوب واحتضنَتْه وقبَّلته، وتمكَّن حبه في قلبها، وباحت له بسرها، وما عندها من المحبة، وطوَّقت على رقبته بيديها وقبَّلته، وهو يتمنَّع عنها خوفًا من الخليفة، ثم تحدَّثَا ساعةً من الزمان وهما غريقان في بحر محبة بعضهما إلى أن طلع النهار، فقام غانم ولبس أثوابه، وخرج إلى السوق على عادته، وأخذ ما يحتاج إليه الأمر، وجاء إلى البيت، فوجد قوت القلوب تبكي، فلما رأته سكتَتْ عن البكاء وتبسَّمَتْ وقالت له: أوحشتني يا محبوب قلبي، والله إن هذه الساعة التي غبتَها عني كَسَنَةٍ، فإني لا أقدر على فراقك، وها أنا قد بيَّنْتُ لك حالي من شدة ولعي بك، فقُمِ بنا الآنَ ودَعْ ما كان، واقضِ إربك مني. قال: أعوذ بالله، إن هذا شيء لا يكون، كيف يجلس الكلب في موضع السبع؟ والذي لمولاي يحرم عليَّ أن أقربه. ثم جذب نفسه منها، وجلس في ناحية، وزادت هي محبة بامتناعه عنها، ثم جلسَتْ إلى جانبه ونادمته ولاعبته، فسكرَا وهامت بالافتضاح به، فغنَّتْ منشدةً هذه الأبيات:

قَلْبُ الْمُتَيَّمِ كَادَ أَنْ يَتَفَتَّتَا        فَإِلَى مَتَى هَذَا الصُّدُودُ إِلَى مَتَى

يَا مُعْرِضًا عَنِّي بِغَيْرِ جِنَايَةٍ        فَعَوَائِدُ الْغِزْلَانِ أَنْ تَتَلَفَّتَا

صَدٌّ وَهَجْرٌ زَائِدٌ وَصَبَابَةٌ        مَا كُلُّ هَذَا الْأَمْرِ يَحْمِلُهُ الْفَتَى

فبكى غانم بن أيوب، وبكت هي لبكائه، ولم يزالا يشربان إلى الليل، ثم قام غانم وفرش فرشين، كل فرش في مكان وحده، فقالت له قوت القلوب: لمَن هذا الفرش الثاني؟ فقال لها: هذا لي والآخَر لك، ومن الليلة لا ننام إلا على هذا النمط، وكل شيء للسيد حرام على العبد. فقالت: يا سيدي، دعنا من هذا، وكل شيء يجري بقضاء وقدر. فأبى، فانطلقت النار في قلبها، وزاد غرامها فيه وقالت: والله ما ننام إلا سوية. فقال: معاذ الله. وغلب عليها، ونام وحده إلى الصباح، فزاد بها العشق والغرام، واشتدَّ بها الوَجْد والهيام، وأقامَا على ذلك ثلاثةَ أشهر طوال، وهي كلما تقرب منه يمتنع عنها، ويقول: كل ما هو مخصوص بالسيد حرام على العبد. فلما طال بها المطال مع غانم بن أيوب المتَيَّم المسلوب، وزادت بها الشجون والكروب، أنشدَتْ هذه الأبيات:

بَدِيعَ الْحُسْنِ كَمْ هَذَا التَّجَنِّي        وَمَنْ أَغْرَاكَ بِالْإِعْرَاضِ عَنِّي

حَوَيْتَ مِنَ الرَّشَاقَةِ كُلَّ مَعْنًى        وَحُزْتَ مِنَ الْمَلَاحَةِ كُلَّ فَنِّ

وَأَجْرَيْتَ الْغَرَامَ لِكُلِّ قَلْبٍ        وَوَكَّلْتَ السُّهَادَ بِكُلِّ جَفْنِ

وَأَعْرِفُ قَبْلَكَ الْأَغْصَانَ تُجْنَى        فَيَا غُصْنَ الْأَرَاكِ أَرَاكَ تَجْنِي

وَعَهْدِي بِالظِّبَا صَيْدٌ فَمَا لِي        أَرَاكَ تَصِيدُ أَرْبَابَ الْمُجَنِّ

وَأَعْجَبُ مَا أُحَدِّثُ عَنْكَ أَنِّي        فُتِنْتُ وَأَنْتَ لَمْ تَعْلَمْ بِأَنِّي

فَلَا تَسْمَحْ بِوَصْلِكَ لِي فَإِنِّي        أَغَارُ عَلَيْكَ مِنْكَ فَكَيْفَ مِنِّي

وَلَسْتُ بِقَائِلٍ مَا دُمْتُ حَيًّا        بَدِيعَ الْحُسْنِ كَمْ هَذَا التَّجَنِّي

وأقاموا على هذه الحال مدةً، والخوف يمنع غانمًا عنها. فهذا ما كان من أمر المتيَّم المسلوب غانم أيوب. وأما ما كان من أمر زبيدة، فإنها في غيبة الخليفة فعلَتْ بقوت القلوب ذلك الأمر، ثم صارت متحيِّرة تقول في نفسها: ما أقول للخليفة إذا جاء وسأل عنها؟ وما يكون جوابي له؟ فدعَتْ بعجوز كانت عندها وأطلعَتْها على سِرِّها، وقالت لها: كيف أفعل وقوت القلوب قد فرط فيها الفرط؟ فقالت لها العجوز لما فهمت الحال: اعلمي يا سيدتي أنه قَرُبَ مجيءُ الخليفة، ولكن أرسلي أي نجار وَأْمريه أن يعمل صورة ميت من خشب، ويحفروا له قبرًا، وتُوقَد حوله الشموع والقناديل، وَأْمري كلَّ مَن في القصر أن يلبسوا الأسود، وَأْمري جواريك والخدام إذا علموا أن الخليفة أتى من سفره أن يشيعوا الحزن في الدهليز، فإذا دخل وسأل عن الخبر يقولون له إن قوت القلوب ماتَتْ، ويعظم الله أجرَكَ فيها، ومن معزتها عند سيدتنا دفنَتْها في قصرها. فإذا سمع ذلك يبكي، ويعزُّ عليه، ثم يسهر القرَّاء على قبرها لقراءة الختمات، فإن قال في نفسه: إن بنت عمي زبيدة من غيرتها سعت في هلاك قوت القلوب. أو غلب عليه الهيام فأمر بإخراجها من القبر، فلا تفزعي من ذلك، ولو حفروا على تلك الصورة التي على هيئة ابن آدم وأخرجوها وهي مكفَّنة بالأكفان الفاخرة، فإن أراد الخليفة إزالة الأكفان عنها لينظرها فامنعيه أنتِ من ذلك، والأخرى تمنعه وتقول له: رؤية عورتها حرام. فيصدِّق حينئذٍ أنها ماتت، ويردُّها إلى مكانها، ويشكرك على فعلك، وتخلصين إن شاء الله تعالى من هذه الورطة.

فلما سمعت السيدة زبيدة كلامها رأته صوابًا، فخلعت عليها خلعة، وأمرتها أن تفعل ذلك بعدما أعطتها جملةً من المال، فشرعَتِ العجوزُ في ذلك الأمر، وأمرَتِ النجار أن يعمل لها صورة كما ذكرنا، وبعد تمام الصورة جاءت بها إلى السيدة زبيدة فكفنتها وأوقدت الشموع والقناديل، وفرشَتِ البُسُط حول القبر، ولبست السواد، وأمرت الجواري أن يلبسن السواد، واشتهر الأمر في القصر أن قوت القلوب ماتت. ثم بعد مدة أقبَلَ الخليفة من غيبته، وطلع إلى قصره، ولكن ما له شغل إلا قوت القلوب، فرأى الغلمان والخدام والجواري كلهم لابسين السواد فارتجف فؤاده، فلما دخل القصر على السيدة زبيدة رآها لابسة الأسود، فسأل عن ذلك فأخبروه بموت قوت القلوب؛ فوقع مغشيًّا عليه، فلما أفاق سأل عن قبرها، فقالت له السيدة زبيدة: اعلم يا أمير المؤمنين، أنني من معزتها عندي دفنتُها في قصري. فدخل الخليفة بثياب السفر إلى القصر ليزور قوت القلوب، فوجد البُسُط مفروشة والشموع والقناديل موقدة، فلما رأى ذلك شكرها على فعلها، ثم إنه صار حائرًا في أمره، ولم يزل ما بين مصدِّق ومكذِّب، فلما غلب عليه الوسواس أمر بحفر القبر وأخرجها منه، فلما رأى الكفن وأراد أن يزيله عنها ليراها، خاف من الله تعالى، فقالت العجوز: رُدُّوها إلى مكانها. ثم إن الخليفة أمر في الحال بإحضار الفقهاء والمقرئين، وقرءوا الختمات على قبرها، وجلس بجانب القبر يبكي إلى أن غُشِي عليه، ولم يزل قاعدًا على قبرها شهرًا كاملًا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 41﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخليفة لم يزل يتردَّد على قبرها مدة شهر، فاتفق أن الخليفة دخل على الحريم بعد انفضاض الأمراء والوزراء من بين يديه إلى بيوتهم ونام ساعة، فجلست عند رأسه جارية وعند رجليه جارية، وبعد أن غلب عليه النوم تنبَّهَ وفتح عينيه، فسمع الجارية التي عند رأسه تقول للتي عند رجليه: ويلك يا خيزران! قالت لها: لأي شيء يا قضيب؟ قالت لها: إن سيدنا ليس عنده علم بما جرى، حتى إنه يسهر على قبر لم يكن فيه إلا خشبة منجَّرة صنعة النجار. فقالت لها الأخرى: وقوت القلوب أي شيء أصابها؟ فقالت: اعلمي أن السيدة زبيدة أرسلت مع جارية بنجًا وبنَّجتها، فلما تحكَّمَ البنج منها وضعتها في صندوق وأرسلتها مع صواب وكافور، وأمرتهما أن يرمياها في التربة. فقالت خيزران: ويلك يا قضيب! هل السيدة قوت القلوب لم تَمُتْ؟ فقالت: سلامة شبابها من الموت، ولكن أنا سمعت السيدة زبيدة تقول: إن قوت القلوب عند شاب تاجر اسمه غانم الدمشقي، وإن لها عنده بهذا اليوم أربعة أشهر، وسيدنا هذا يبكي ويسهر الليالي على قبرٍ لم يكن فيه ميت.

وصارتا تتحدثان بهذا الحديث والخليفة يسمع كلامهما، فلما فرغ الجاريتان من الحديث وعرف القضية، وأن هذا القبر زور، وأن قوت القلوب عند غانم بن أيوب مدة أربعة أشهر، غضب غضبًا شديدًا، وقام وأحضر أمراء دولته، فعند ذلك أقبَلَ الوزيرُ جعفر البرمكي، وقبَّلَ الأرضَ بين يديه، فقال له الخليفة بغيظ: انزل يا جعفر بجماعة واسأل عن بيت غانم بن أيوب، واهجموا على داره وائتوني بجاريتي قوت القلوب، ولا بد لي أن أعذِّبه. فأجابه جعفر بالسمع والطاعة. فعند ذلك نزل جعفر هو وأتباعه والوالي صحبته، ولم يزالوا سائرين إلى أن وصلوا إلى دار غانم، وكان غانم خرج في ذلك الوقت وجاء بقدرة لحم، وأراد أن يمد يده ليأكل منها هو وقوت القلوب، فلاحت التفاتة منها، فوجدَتِ البلاء أحاط بالدار، والوزير والوالي والظَّلَمَة والمماليك بسيوف مجردة، وداروا به كما يدور بالعين السواد، فعند ذلك عرفت أن خبرها وصل إلى الخليفة سيدها، فأيقنت بالهلاك، واصفرَّ لونها، وتغيَّرَتْ محاسنها. ثم إنها نظرت إلى غانم وقالت له: يا حبيبي، فِرَّ بنفسك. فقال لها: كيف أعمل وإلى أين أذهب، ومالي ورزقي في هذه الدار؟ فقالت له: لا تمكث لئلَّا تهلك ويذهب مالك. فقال لها: يا حبيبتي ونور عيني، كيف أصنع في الخروج وقد أحاطوا بالدار؟ فقالت له: لا تَخَفْ. ثم إنها نزعت ما عليه من الثياب، وألبسَتْه خلقانًا بالية، وأخذت القدر التي كان فيها اللحم ووضعَتْها فوق رأسه، وحطَّتْ فيها بعض خبز وزبدية طعام، وقالت له: اخرج بهذه الحيلة ولا عليك مني؛ فأنا أعرف أي شيء في يدي من الخليفة.

فلما سمع غانم كلام قوت القلوب وما أشارَتْ به عليه، خرج من بينهم وهو حامل القدر، وستر عليه الستار، ونجا من المكائد والأضرار ببركة نيته. فلما وصل الوزير جعفر إلى ناحية الدار ترجَّلَ عن حصانه ودخل البيت، ونظر إلى قوت القلوب وقد تزيَّنَتْ وتبهرَجَتْ وملأت صندوقًا من ذهب ومصاغ وجواهر وتحف ممَّا خَفَّ حمله وغلا ثمنه، فلما دخل عليها جعفر قامت على قدميها، وقبَّلَتِ الأرض بين يديه، وقالت له: يا سيدي، جرى القلم بما حكم الله. فلما رأى ذلك جعفر قال لها: والله يا سيدتي إنه ما أوصاني إلا بقبض غانم بن أيوب. فقالت: اعلم أنه حزم تجاراته، وذهب بها إلى دمشق، ولا علمَ لي بغير ذلك، وأريد أن تحفظ لي هذا الصندوق وتحمله إلى قصر أمير المؤمنين. فقال جعفر: السمع والطاعة. ثم أخذ الصندوق وأمر بحمله وقوت القلوب معهم إلى دار الخلافة وهي مكرَّمة معزَّزة.

وكان هذا بعد أن نهبوا دار غانم، توجَّهوا إلى الخليفة وحكى له جعفر جميع ما جرى، فأمر الخليفة لقوت القلوب بمكان مظلم وأسكنها فيه، وألزم بها عجوزًا لقضاء حاجتها؛ لأنه ظنَّ أن غانمًا فحش بها، ثم كتب مكتوبًا للأمير محمد بن سليمان الزيني وكان نائبًا في دمشق، ومضمونه: ساعة وصول المكتوب إلى يديك تقبض على غانم بن أيوب وترسله إليَّ. فلما وصل المرسوم إليه قبَّلَه ووضعه على رأسه، ونادى في الأسواق: مَن أراد أن ينهب فعليه بدار غانم بن أيوب. فجاءوا إلى الدار، فوجدوا أم غانم وأخته قد صنعتَا لهما قبرًا، وقعدتا عنده تبكيان، فقبضوا عليهما ونهبوا الدار، ولم يعلمَا ما الخبر. فلما أحضروهما عند السلطان سألهما عن غانم بن أيوب، فقالتا له: من مدة سنة ما وقفنا له على خبر. فردوهما إلى مكانهما.

هذا ما كان من أمرهما، وأما ما كان من أمر غانم بن أيوب المتيَّم المسلوب، فإنه لما سلبت نعمته تحيَّرَ في أمره، وصار يبكي على نفسه حتى انفطر قلبه، وسار ولم يزل سائرًا إلى آخِر النهار، وقد ازداد به الجوع، وأضَرَّ به المشي حتى وصل إلى بلد، فدخل المسجد وجلس على فرش، وأسند ظهره إلى حائط المسجد وارتمى وهو في غاية الجوع والتعب، ولم يزل مقيمًا هناك إلى الصباح، وقد خفق قلبه من الجوع، وركب جلده القمل، وصارت رائحته مُنْتِنَةً، وتغيَّرَتْ أحواله، فأتى أهل تلك البلدة يصلُّون الصبح، فوجدوه مطروحًا ضعيفًا من الجوع، وعليه آثار النعمة لائحة، فلما أقبلوا عليه وجدوه بردانَ جائعًا، فألبسوه ثوبًا عتيقًا قد بَلِيَتْ أكمامه، وقالوا له: من أين أنت يا غريب وما سبب ضعفك؟ ففتح عينه ونظر إليهم وبكى ولم يردَّ عليهم جوابًا. ثم إن بعضهم عرف شدة جوعه، فذهب وجاء له بسكرجة عسل ورغيفين فأكل، وقعدوا عنده حتى طلعت الشمس، ثم انصرفوا لأشغالهم.

ولم يزل على هذه الحالة شهرًا، وهو عندهم وقد تزايد عليه الضعف والمرض، فتعطَّفوا عليه وتشاوروا مع بعضهم في أمره، ثم اتفقوا على أن يوصلوه إلى المارستان الذي ببغداد، فبينما هم كذلك وإذا بامرأتين سائلتين قد دخلتَا عليه، وهما أمه وأخته، فلما رآهما أعطاهما الخبز الذي عند رأسه، ونامتا عنده تلك الليلة، ولم يعرفهما، فلما كان ثاني يوم أتاه أهل القرية وأحضروا جملًا، وقالوا لصاحبه: احمل هذا الضعيف فوق الجمل، فإذا وصلت إلى بغداد، فأنزَلَه على باب المارستان لعله يتعافى فيحصل لك الأجر. فقال لهم: السمع والطاعة. ثم إنهم أخرجوا غانم بن أيوب من المسجد، وحملوه بالفرش الذي هو نائم عليه فوق الجمل، وجاءت أمه وأخته يتفرجان عليه من جملة الناس، ولم يعلمَا به، ثم نظرتا إليه وتأمَّلَتْاه وقالتا: إنه يشبه غانمًا ابننا، فيا تُرَى هل هو هذا الضعيف أم لا؟ وأما غانم فإنه لم يُفِقْ إلا وهو محمول فوق الجمل، فصار يبكي وينوح، وأهل القرية ينظرون أمه وأخته تبكيان عليه ولم تعرفانه، ثم سافرت أمه وأخته إلى أن وصلتا إلى بغداد. وأما الجَمَّال فإنه لم يزل سائرًا به حتى أنزله على باب المارستان وأخذ جمله ورجع، فمكث غانم راقدًا هناك إلى الصباح، فلما درجت الناس في الطريق نظروا إليه وقد صار رِق الخلال، ولم يزل الناس يتفرجون عليه حتى جاء شيخ السوق ومنع الناس عنه، وقال: أنا أكسب الجنة بهذا المسكين؛ لأنهم متى أدخلوه المارستان قتلوه في يوم واحد. ثم أمر صبيانه بحمله فحملوه إلى بيته، وفرش له فرشًا جديدًا، ووضع له مخدة جديدة، وقال لزوجته: اخدميه بنصح. فقالت: على الرأس. ثم تشمَّرت وسخنت له ماء وغسلت يديه ورجليه وبدنه، وألبسته ثوبًا من لبس جواريها، وسقته قدح شراب، ورشَّت عليه ماء ورد، فأفاق وتذكَّرَ محبوبته قوت القلوب، فزادت به الكروب. هذا ما كان من أمره، وأما ما كان من أمر قوت القلوب، فإنه لما غضب عليها الخليفة … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 42﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قوت القلوب لما غضب عليها الخليفة وأسكنها في مكان مظلم، استمرت فيه على هذا الحال ثمانين يومًا، فاتفق أن الخليفة مَرَّ يومًا من الأيام على ذلك المكان، فسمع قوت القلوب تنشد الأشعار، فلما فرغت من إنشادها، قالت: يا حبيبي يا غانم، ما أحسنك، وما أعف نفسك! قد أحسنتَ لمَن أساءك، وحفظتَ حرمةَ مَن انتهَكَ حرمتك، وسترْتَ حريمه، وهو سَبَاك وسَبَى أهلك، ولا بد أن تقف أنت وأمير المؤمنين بين يدَيْ حاكم عادل، وتنتصف عليه في يوم يكون القاضي هو الله والشهود هم الملائكة.

فلما سمع الخليفة كلامها وفهم شكواها، علم أنها مظلومة، فدخل قصره وأرسل الخادم لها، فلما حضرت بين يديه طرقت وهي باكية العين حزينة القلب، فقال: يا قوت القلوب، أراكِ تتظلَّمين مني، وتنسبينني إلى الظلم، وتزعمين أني أسأتُ إلى مَن أحسَنَ إليَّ، فمَن هو الذي حفظ حرمتي وانتهكتُ حرمته، وستَرَ حريمي وسَبَيْتُ حريمه؟ فقالت له: غانم بن أيوب؛ فإنه لم يقربني بفاحشة وحقِّ نعمتك يا أمير المؤمنين. فقال الخليفة: لا حول ولا قوة إلا بالله، يا قوت القلوب تمني عليَّ، فأنا أبلغك مرادك. قالت: تمنَّيْتُ عليك محبوبي غانم بن أيوب. فلما سمع كلامها قال: أحضره إن شاء الله مكرَّمًا. فقالت: يا أمير المؤمنين، إن أحضرته تهبني له؟ فقال: إنْ أحضرتُه وهبتُكِ هبةَ كريمٍ لا يردُّ في عطائه. فقالت: يا أمير المؤمنين، ائذن لي أن أدوِّر عليه لعل الله يجمعني به. فقال لها: افعلي ما بدا لك.

ففرحت وخرجت ومعها ألف دينار، فزارت المشايخ وتصدَّقت عنه، وطلعت ثاني يوم إلى سوق التجار، وأعطت عريف السوق دراهم، وقالت له: تصدَّقْ بها على الغرباء. ثم طلعت ثاني جمعة ومعها ألف دينار، ودخلت سوق الصاغة وسوق الجوهرجية، فطلبت عريف السوق فحضر، فدفعت له ألف دينار وقالت له: تصدَّقْ بها على الغرباء. فنظر إليها العريف وهو شيخ السوق، وقال لها: هل لك أن تذهبي إلى داري وتنظري إلى هذا الشاب الغريب ما أظرفه وما أكمله! وكان هو غانم بن أيوب المتيَّم المسلوب، ولكن العريف ليس له به معرفة، وكان يظن أنه رجل مسكين مديون سُلِبَتْ نعمته، أو عاشق فارَقَ أحِبَّتَه. فلما سمعت كلامه خفق قلبها، وتعلَّقت به أحشاؤها، فقالت له: أرسل معي مَن يوصلني إلى دارك. فأرسل معها صبيًّا صغيرًا، فأوصلها إلى الدار التي فيها الغريب فشكرته على ذلك، فلما دخلت تلك الدار وسلمت على زوجة العريف، قامت زوجة العريف وقبَّلَتِ الأرضَ بين يديها لأنها عرفتها، فقالت لها قوت القلوب: أين الضعيف الذي عندكم؟ فبكت وقالت: ها هو يا سيدتي، إلا أنه ابن ناس وعليه أثر النعمة. فالتفتَتْ إلى الفرش الذي هو راقد عليه وتأمَّلَتْه، فرأته كأنه هو بذاته، ولكنه قد تغيَّرتْ حاله وزاد نحوله، ورق إلى أن صار كالخلال، وانبهَمَ عليها أمْرُه فلم تتحقَّقْ أنه هو، ولكن أخذتها الشفقة عليه، فصارت تبكي وتقول: إن الغرباء مساكين وإن كانوا أمراء في بلادهم. ورتبت له الشراب والأدوية، ثم جلست عند رأسه ساعة، وركبت وطلعت إلى قصرها، وصارت تطلع في كل سوق لأجل التفتيش على غانم.

ثم إن العريف أتى بأمه وأخته فتنة، ودخل بهما على قوت القلوب وقال: يا سيدة المحسنات، قد دخل مدينتنا في هذا اليوم امرأة وبنت، وهما من وجوه الناس، وعليهما أثر النعمة لائح، لكنهما لابستان ثيابًا من الشعر، وكل واحدة منهما معلقة في رقبتها مخلاة، وعيونهما باكية، وقلوبهما حزينة. وها أنا أتيتُ بهما إليك لتأويهما وتصونيهما عن ذلِّ السؤال؛ لأنهما ليستا أهلًا لسؤال اللئام، وإن شاء الله ندخل بسببهما الجنة. فقالت: والله يا سيدي لقد شوَّقْتَني إليهما، وأين هما؟ فأمرهما بالدخول، فعند ذلك دخلت فتنة وأمها على قوت القلوب، فلما نظرتهما قوت القلوب وهما ذاتا جمال بكت عليهما وقالت: والله إنهما أولاد نعمة، ويلوح عليهما أثر الغنى. فقال العريف: يا سيدتي، إننا نحب الفقراء والمساكين لأجل الثواب، وهؤلاء ربما جارَ عليهم الظَّلَمَةُ وسلبوا نعمتهم وأخربوا ديارهم. ثم إن المرأتين بكتا بكاءً شديدًا، وتفكرتا غانم بن أيوب المتيَّم المسلوب، فزاد نحيبهما، فلما بكتا بكَتْ قوت القلوب لبكائهما، ثم إن أمه قالت: نسأل الله أن يجمعنا بمَن نريده، وهو ولدي غانم بن أيوب. فلما سمعت قوت القلوب هذا الكلام علمت أن هذه المرأة أم معشوقها، وأن الأخرى أخته، فبكت هي حتى غُشِي عليها، فلما أفاقت أقبلت عليهما وقالت لهما: لا بأس عليكما، فهذا اليوم أول سعادتكما وآخِر شقاوتكما، فلا تحزنَا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 43﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قوت القلوب قالت لهما: لا تحزنَا. ثم أمرت العريف أن يأخذهما إلى بيته، ويخلِّي زوجته تُدخِلهما الحمام، وتُلبِسهما ثيابًا حَسَنة، وتتوصى بهما وتُكرِمهما غاية الإكرام، وأعطته جملة من المال. وفي ثاني يوم ركبت قوت القلوب، وذهبت إلى بيت العريف، ودخلت عند زوجته، فقامت إليها وقبَّلت يديها، وشكرت إحسانها، ورأت أم غانم وأخته وقد أدخلَتْهما زوجة العريف الحمام، ونزعت ما عليهما من الثياب، فظهرت عليهما آثار النعمة، فجلست تحادِثهما ساعةً، ثم سألَتْ زوجةَ العريف عن المريض الذي عندها، فقالت: هو بحاله. فقالت: قوموا بنا نطلُّ عليه ونعوده. فقامت هي وزوجة العريف وأم غانم وأخته، ودخلن عليه، وجلسن عنده، فلما سمعهن غانم بن أيوب المتيَّم المسلوب يذكرون قوت القلوب - وكان قد انتحل جسمه ورقَّ عظمه - رُدَّتْ له روحه، ورفع رأسه من فوق المخدة ونادى: يا قوت القلوب! فنظرت إليه وتحقَّقَتْه فعرفته وصاحت بقولها: نعم يا حبيبي. فقال لها: اقربي مني. فقالت له: لعلك غانم بن أيوب المتيَّم المسلوب. فقال لها: نعم أنا هو. فعند ذلك وقعَتْ مغشيًّا عليها، فلما سمعت أخته وأمه كلامَهما صاحتا بقولهما: وا فرحتاه! ووقعتَا مغشيًّا عليهما، وبعد ذلك استفاقوا، فقالت له قوت القلوب: الحمد لله الذي جمع شملنا بك وبأمك وأختك. وتقدَّمت إليه وحكَتْ له جميع ما جرى لها مع الخليفة، وقالت: إني قلتُ له قد أظهرتُ لك الحقَّ يا أمير المؤمنين. فصدَّقَ كلامي ورضي عنك، وهو اليوم يتمنَّى أن يراك. ثم قالت لغانم: إن الخليفة وهبني لك. ففرح بذلك غايةَ الفرح، فقالت لهم قوت القلوب: لا تبرحوا حتى أحضر.

ثم إنها قامت من وقتها وساعتها، وانطلقت لي قصرها، وحملت الصندوق الذي أخذته من داره، وأخرجت منه دنانير، وأعطت العريف إياها، وقالت له: خذ هذه الدنانير واشترِ لكل شخص منهم أربع بدلات كوامل من أحسن القماش، وعشرين منديلًا، وغير ذلك مما يحتاجون إليه. ثم إنها دخلت بهما وبغانم الحمام، وأمرت بغسلهم، وعملت لهم المساليق وماء الخولنجان وماء التفاح، بعد أن خرجوا من الحمام ولبسوا الثياب، وأقامت عندهم ثلاثةَ أيام وهي تُطعِمهم لحمَ الدجاج والمساليق، وتسقيهم السكر المكرر، وبعد ثلاثة أيام رُدَّتْ لهم أرواحهم، وأدخلتهم الحمام ثانيًا وخرجوا وغيَّرت عليهم الثياب، وخلتهم في بيت العريف، وذهبت إلى الخليفة وقبَّلَتِ الأرضَ بين يدَيْه وأعلمَتْه بالقصة، وأنه قد حضر سيدها غانم بن أيوب المتيَّم المسلوب، وأن أمه وأخته قد حضرتَا. فلما سمع الخليفة كلام قوت القلوب قال للخدام: عليَّ بغانم. فنزل جعفر إليه، وكانت قوت القلوب قد سبقته ودخلت على غانم وقالت له: إن الخليفة قد أرسَلَ إليك ليُحضِرك بين يديه، فعليك بفصاحة اللسان وثَبات الجَنان وعذوبة الكلام. وألبسته حلة فاخرة، وأعطته دنانير بكثرة، وقالت له: أَكْثِرَ البذلَ إلى حاشية الخليفة وأنت داخل عليه. وإذا بجعفر أقبَلَ عليه وهو على بغلته، فقام غانم وقابَلَه وحيَّاه، وقبِّل الأرض بين يديه، وقد ظهر كوكب سعده، وارتفع طالع مجده، فأخذه جعفر ولم يزالَا سائرَيْن حتى دخلَا على أمير المؤمنين، فلما حضر بين يديه نظر إلى الوزراء والأمراء والحجاب والنواب وأرباب الدولة وأصحاب الصولة، وكان غانم فصيح اللسان، ثابت الجنان، رقيق العبارة، أنيق الإشارة، فأطرق برأسه إلى الأرض، ثم نظر إلى الخليفة وأنشد هذه الأبيات:

أَفْدِيكَ مِنْ مَلِكٍ عَظِيمِ الشَّانِ        مُتَتَابِعِ الْحَسَنَاتِ وَالْإِحْسَانِ

مُتَوَقِّدِ الْعَزَمَاتِ فَيَّاضِ النَّدَى        حَدِّثْ عَنِ الطُّوفَانِ وَالنِّيرَانِ

لَا يَلْهَجُونَ بِغَيْرِهِ مِنْ قَيْصَرَ        فِي ذَا الْمَقَامِ وَصَاحِبِ الْإِيوَانِ

تَضَعُ الْمُلُوكُ عَلَى ثَرَى أَعْتَابِهِ        عِنْدَ السَّلَامِ جَوَاهِرَ التِّيجَانِ

حَتَّى إِذَا شَخَصَتْ لَهُ أَبْصَارُهُمْ        خَرُّوا لِهَيْبَتِهِ عَلَى الْأَذْقَانِ

وَيُفِيدُهُمْ ذَاكَ الْمُقَامُ مَعَ الرِّضَا        رُتَبَ الْعُلَا وَجَلَالَةَ السُّلْطَانِ

ضَاقَتْ بِعَسْكَرِكَ الْفَيَافِي وَالْفَلَا        فَاضْرِبْ خِيَامَكَ فِي ذُرَى كِيوَانِ

وَاقْرِ الْكَوَاكِبَ مُحْسِنًا مُتَفَضِّلًا        سَعْدُ السَّعِيدِ سَعَادَةُ الْإِنْسَانِ

وَمَلَكْتَ شَامِخَةَ الصَّيَاصِي عَنْوَةً        مِنْ حُسْنِ تَدْبِيرٍ وَثَبْتِ جَنَانِ

وَنَشَرْتَ عَدْلَكَ فِي الْبَسِيطَةِ كُلِّهَا        حَتَّى اسْتَوَى الْقَاصِي بِهَا وَالدَّانِي

فلما فرغ من شعره طرب الخليفة من محاسن رونقه، وأعجبه فصاحة لسانه، وعذوبة منطقه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 44﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن غانم بن أيوب لما أعجَبَ الخليفة بفصاحته ونظمه وعذوبة منطقه، قال له: ادنُ مني. فدنا منه، ثم قال له: اشرح لي قصتك، وأطلعني على حقيقة خبرك. فقعد وحدَّث الخليفة بما جرى له من المبتدأ إلى المنتهى، وليس في الإعادة إفادة، فلما علم الخليفة أنه صادق خلع عليه وقرَّبه إليه، وقال: أبرئ ذمتي. فأبرأ ذمته، وقال له: يا أمير المؤمنين، إن العبد وما ملكت يداه لسيده. ففرح الخليفة بذلك، ثم أمر أن يُفرَد له قصرٌ، ورتَّب له من الجوامك والجرايات شيئًا كثيرًا، فنقل أمه وأخته إليه، وسمع الخليفة بأن أخته فتنة في الحُسْن فتنة، فخطبها منه، فقال له غانم: إنها جاريتك، وأنا مملوكك. فشكره وأعطاه مائة ألف دينار، وأتى بالقاضي والشهود وكتبوا الكتاب، ودخل هو وغانم في نهار واحد؛ فدخل الخليفة على فتنة، وغانم بن أيوب على قوت القلوب. فلما أصبح الصباح أمر الخليفة أن يُؤرَّخ جميع ما جرى لغانم من أوله إلى آخره، وأن يُدوَّن في السجلات لأجل أن يطَّلع عليه مَن يأتي بعده، فيتعجَّب من تصرفات الأقدار، ويفوِّض الأمر إلى خالق الليل والنهار.

وليس هذا بأعجب من حكاية عمر النعمان وولده شركان وولده ضوء المكان، وما جرى لهم من العجائب والغرائب. قال الملك: وما حكايتهم؟

 

حكاية الملك عمر النعمان مع ولديه شركان وضوء المكان

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنه كان بمدينة دمشق قبل خلافة عبد الملك بن مروان ملكٌ يقال له عمر النعمان، وكان من الجبابرة الكبار، قد قهر الملوك الأكاسرة والقياصرة، وكان لا يُصطلى له بنار، ولا يجاريه أحد في مضمار، وإذا غضب يخرج من منخريه لهيب النار، وكان قد ملك جميع الأقطار، ونفذ حكمه في سائر القرى والأمصار، وأطاع اللهُ له جميعَ العباد، ووصلت عساكره إلى أقصى البلاد، ودخل في حكمه المشرق والمغرب، وما بينهما من الهند والسند والصين، واليمن والحجاز والحبشة والسودان، والشام والروم وديار بكر وجزائر البحار، وما في الأرض من مشاهير الأنهار، كسيحون وجيحون والنيل والفرات، وأرسل رُسُلَه إلى أقصى العمار ليأتوه بحقيقة الأخبار، فرجعوا وأخبروه بأن سائر الناس أذعنت لطاعته، وجميع الجبابرة خضعت لهيبته، وقد عَمَّهُم بالفضل والامتنان، وأشاع بينهم العدل والأمان؛ لأنه كان عظيم الشأن، وحُمِلَتْ إليه الهدايا من كل مكان، وجُبِيَ إليه خراج الأرض في طولها والعرض.

وكان له ولد قد سمَّاه شركان؛ لأنه نشأ آفةً من آفات الزمان، وقهر الشجعان، وأباد الأقران؛ فأحبه والده حبًّا شديدًا ما عليه من مزيد، وأوصى له بالمُلْك من بعده. ثم إن شركان هذا حين بلغ مبلغ الرجال، وصار له من العمر عشرون سنة أطاع اللهُ له جميعَ العباد؛ لما به من شدة البأس والعناد، وكان والده عمر النعمان له أربع نساء بالكتاب والسُّنَّة، لكنه لم يُرزَق منهن بغير شركان، وهو من إحداهن، والباقي عواقر لم يُرزَق من واحدة منهن بولد، ومع ذلك كان له ثلاثمائة وستون سريَّة على عدد أيام السنة القبطيَّة، وتلك السراري من سائر الأجناس، وكان قد بنى لكل واحدة منهن مقصورة، وكانت المقاصير من داخل القصر، فإنه بنى اثني عشر قصرًا على عدد شهور السنة، وجعل في كل قصر ثلاثين مقصورة، فكانت جملة المقاصير ثلاثمائة وستين مقصورة، وأسكَنَ تلك الجواري في هذه المقاصير، وفرَضَ لكل سريَّة منهن ليلة يبيت عندها، وما يأتيها إلا بعد سنة كاملة؛ فأقام على ذلك مدةً من الزمان، ثم إن ولده شركان اشتهر في سائر الآفاق، ففرح به والده وازداد قوةً، فطغى وتجبَّرَ وفتح الحصون والبلاد، واتفق بالأمر المقدر أن جارية من جواري عمر النعمان قد حملت واشتهر حملها، وعلم الملك بذلك، ففرح فرحًا شديدًا وقال: لعل ذريتي ونسلي تكون كلها ذكورًا. فأرَّخَ يوم حملها، وصار يُحسِن إليها، فعلم شركان بذلك فاغتمَّ وعظم عليه الأمر. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 45﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن شركان لما علم أن جارية أبيه قد حملت اغتمَّ وعظم عليه ذلك، وقال: قد جاءني مَن ينازعني في المملكة. فأضمر في نفسه: إن هذه الجارية إن ولدت ولدًا ذكرًا قتلتُه. وكتم ذلك في نفسه.

هذا ما كان من أمر شركان، وأما ما كان من أمر الجارية، فإنها كانت رومية، وكان قد بعثها إليه هديةً ملكُ الروم صاحب قيسارية، وأرسل معها تحفًا كثيرة، وكان اسمها صفية، وكانت أحسن الجواري وأجملهن وجهًا، وأصونهن عِرْضًا، وكانت ذات عقل وافر وجمال باهر، وكانت تخدم الملك ليلة مبيته عندها، وتقول له: أيها الملك، كنت أشتهي من إله السماء أن يرزقك مني ولدًا ذكرًا حتى أُحسِن تربيته لك، وأبالِغ في أدبه وصيانته. فيفرح الملك، ويعجبه ذلك الكلام، فلا زالت كذلك حتى كملت أَشْهُرها، فجلست على كرسي الطلق، وكانت على صلاح، تُحسِن العبادةَ فتصلِّي، وتدعو الله أن يرزقها بولد صالح، ويسهل عليها ولادته، فتقبَّلَ الله منها دعاءها. وكان الملك قد وكَّل بها خادمًا يخبره بما تضعه هل هو ذكر أم أنثى؟ وكذلك ولده شركان أرسَلَ مَن يعرِّفه بذلك، فلما وضعت صفية ذلك المولود تأمَّلته القوابل، فوجدنه بنتًا بوجه أبهى من القمر، فأعلمنَ الحاضرين ذلك، فرجع رسول الملك وأخبره بذلك، وكذلك رسول شركان أخبره بذلك، ففرح فرحًا شديدًا.

فلما انصرف الخدام قالت صفية للقوابل: أمهلوا عليَّ ساعةً، فإني أحسُّ بأن أحشائي فيها شيء آخَر. ثم تأوَّهَتْ وجاءها الطلق ثانيًا، وسهَّل الله عليها فوضعت مولودًا ثانيًا، فنظرت إليه القوابل فوجدنه ولدًا ذكرًا يشبه البدر، بجبين أزهر وخَدٍّ أحمر مورَّد، ففرحت به الجارية والخدام والحشم وكل مَن حضر، ورمت صفية الخلاص، وقد أطلقوا الزغاريد في القصر، فسمع بقية الجواري بذلك فحسدنها، وبلغ عمر النعمان الخبر ففرح واستبشر، وقام ودخل عليها وقبَّلَ رأسها، ونظر إلى المولود، ثم انحنى عليه وقبَّلَه، وضربت الجواري بالدفوف ولعبت بالآلات، وأمر الملك أن يسموا المولود ضوء المكان وأخته نزهة الزمان، فامتثلوا أمره وأجابوا بالسمع والطاعة، وأفرَدَ لهم الملك مَن يخدمهم من المراضع والخُدَّام والحشم والدايات، ورتب لهم الرواتب من السكر والأشربة والأدهان، وغير ذلك مما يكلُّ عن وصفه اللسان. وسمع أهل دمشق بما رزق الله الملك من الأولاد، فزُيِّنت المدينة وأظهرت الفرح والسرور، وأقبل الأمراء والوزراء وأرباب الدولة، وهَنَّوْا الملك عمر النعمان بولده ضوء المكان وبنته نزهة الزمان، فشكرهم الملك على ذلك، وخلع عليهم وزاد في إكرامهم من الإنعام، وأحسن إلى الحاضرين من الخاص والعام. وما زال على تلك الحالة إلى أن مضى أربعة أعوام، وهو بعد كل قليل من الأيام يسأل عن صفية وأولادها، وبعد الأربعة أعوام أمر أن يُنقَل إليها من المصاغ والحلي والحلل والأموال شيء كثير، وأوصاها بتربيتهما وحُسْن أدبهما.

كل هذا وابن الملك شركان لا يعلم أن والده عمر النعمان رُزِقَ ولدًا ذكرًا، ولم يعلم أنه رُزِق سوى نزهة الزمان، وأخفوا عليه خبر ضوء المكان إلى أن مضت أيام وأعوام وهو مشغول بمقارعة الشجعان ومبارزة الفرسان، فبينما عمر النعمان جالس يومًا من الأيام إذ دخل عليه الحُجَّاب، وقبَّلوا الأرض بين يديه، وقالوا: أيها الملك، قد وصل إلينا رسل من ملك الروم صاحب القسطنطينية العظمى، وإنهم يريدون الدخول عليك والتمثل بين يديك، فإنْ أذِنَ لهم الملك بذلك نُدخِلهم، وإلا فلا مَرَدَّ لأمره. فعند ذلك أذن لهم بالدخول، فلما دخلوا عليه مال إليهم وأقبل عليهم، وسألهم عن حالهم وما سبب إقبالهم، فقبَّلوا الأرض بين يديه، وقالوا: أيها الملك الجليل، صاحب الباع الطويل، اعلم أن الذي أرسلنا إليك الملك أفريدون صاحب البلاد اليونانية والعساكر النصرانية، المقيم بمملكة القسطنطينية، يُعلِمك أنه اليومَ في حرب شديد مع جبار عنيد وهو صاحب قيسارية، والسبب في ذلك أن أحد ملوك العرب اتفق أنه وجد في بعض الفتوحات كنزًا من قديم الزمان من عهد إسكندر، فنقل منه أموالًا لا تُحصَى، ومن جملة ما وجد فيه ثلاث خرزات مدورات على قدر بيض النعام، وتلك الخرزات من أغلى الجوهر الأبيض الخالص الذي لا يوجد له نظير، وكل خرزة منقوش عليها بالقلم اليوناني أمور من الأسرار، ولهن منافع وخواص كثيرة، ومن خواصهن أن كل مولود عُلِّقت عليه خرزة منهن لم يصبه ألم ما دامت الخرزة معلَّقة عليه، ولا يُحَمُّ ولا يسخن.

فلما وضع يده عليها، ووقع بها وعرف ما فيها من الأسرار، أرسل إلى الملك أفريدون هدايا من التحف والمال، ومن جملتها الثلاث خرزات، وجهَّز مركبين: واحدة فيها مال، والأخرى فيها رجال تحفظ تلك الهدايا ممَّنْ يتعرَّض لها في البحر، وكان يعرف من نفسه أنه لا أحد يقدر أن يتعدَّى على مراكبه لكونه ملك العرب، لا سيما وطريق المراكب التي فيها الهدايا في البحر الذي في مملكة ملك القسطنطينية، وهي متوجِّهة إليه، وليس في سواحل ذلك البحر إلا رعاياه، فلما جهَّزَ المركبين سافرا إلى أن قربا من بلادنا، فخرج عليهما بعض قُطَّاع الطرُق من تلك الأرض، وفيهم عساكر من عند صاحب قيسارية، فأخذوا جميع ما في المركبين من التحف والأموال والذخائر، والثلاث خرزات، وقتلوا الرجال، فبلغ ذلك ملكنا، فأرسل إليهم عسكرًا فهزموه، فأرسل إليهم عسكرًا أقوى من الأول فهزموه أيضًا، فعند ذلك اغتاظ الملك، وأقسم أنه لا يخرج إليهم إلا بنفسه في جميع عسكره، وأنه لا يرجع عنهم حتى يخرب قيسارية، ويترك أرضها وجميع البلاد التي يحكم عليها ملكها خرابًا، والمراد من صاحب القوة والسلطان الملك عمر النعمان أن يمدنا بعسكر من عنده حتى يصير له الفخر، وقد أرسل إليك ملكنا معنا شيئًا من أنواع الهدايا، ويرجو من إنعامك قبولها، والتفضُّل عليه بالإسعاف. ثم إن الرسل قبَّلوا الأرض بين يدي الملك عمر النعمان. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 46﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن رسل ملك القسطنطينية قبَّلوا الأرض بين يدي الملك عمر النعمان بعد أن حكوا له، ثم أعلموه بالهدية، وكانت الهدية خمسين جارية من خواص بلاد الروم، وخمسين مملوكًا عليهم أقبية من الديباج بمناطق من الذهب والفضة، وكل مملوك في أذنه حلقة من الذهب فيها لؤلؤة تساوي ألف مثقال من الذهب، والجواري كذلك، وعليهم من القماش ما يساوي مالًا جزيلًا. فلما رآهم الملك قَبِلهم وفرِح بهم، وأمر بإكرام الرسل، وأقبل على وزرائه يشاورهم فيما يفعل، فنهض من بينهم وزيرٌ وكان شيخًا كبيرًا يقال له دندان، فقبَّل الأرض بين يدي الملك عمر النعمان، وقال: أيها الملك، ما في الأمر أحسن من أنك تجهِّز عسكرًا جرارًا، وتجعل قائدهم ولدك شركان، ونحن بين يديه غلمان، وهذا الرأي أحسن لوجهين؛ الأول أن ملك الروم قد استجار بك وأرسل إليك هدية فقبلتها، والوجه الثاني أن العدو لا يجسر على بلادنا، فإذا منع عسكرك عن ملك الروم وهزم عدوَّه ينسب هذا الأمر إليك، ويشيع ذلك في سائر الأقطار والبلاد، ولا سيما إذا وصل الخبر إلى جزائر البحر، وسمع بذلك أهل المغرب؛ فإنهم يحملون إليك الهدايا والتحف والأموال.

فلما سمع الملك هذا الكلام من وزيره دندان، أعجبه واستصوبه وخلع عليه، وقال له: مثلك مَن تستشيره الملوك، وينبغي أن تكون أنت في مقدم العسكر، وولدي شركان في ساقة العسكر. ثم إن الملك أمر بإحضار ولده، فلما حضر قَصَّ عليه القصة، وأخبره بما قاله الرسل، وبما قاله الوزير دندان، وأوصاه بأخذ الأهبة والتجهيز للسفر، وأنه لا يخالف الوزيرَ دندان فيما يشور به عليه، وأمره أن ينتخب من عسكره عشرة آلاف فارس كاملين العدَّة، صابرين على الشدة. فامتثل شركان ما قاله والده عمر النعمان، وقام في الوقت واختار من عسكره عشرة آلاف فارس، ثم دخل قصره وأخرج مالًا عظيمًا وأنفق عليهم المال، وقال لهم: قد أمهلتكم ثلاثة أيام. فقبَّلوا الأرض بين يديه مطيعين لأمره، ثم خرجوا من عنده وأخذوا في الأهبة وإصلاح الشأن، ثم إن شركان دخل خزائن السلاح، وأخذ ما يحتاج إليه من العدد والسلاح، ثم دخل الإصطبل واختار منه الخيل المسوَّمة، وأخذ غير ذلك. وبعد ذلك أقاموا ثلاثة أيام، ثم خرجت العساكر إلى ظاهر المدينة، وخرج عمر النعمان لوداع ولده شركان، فقبَّل الأرض بين يديه، وأهدى له سبع خزائن من المال، وأقبل على الوزير دندان، وأوصاه بعسكر ولده شركان، فقبَّلَ الأرضَ بين يديه وأجابه بالسمع والطاعة، وأقبل الملك على ولده شركان وأوصاه بمشاورة الوزير دندان في سائر الأمور، فقَبِل ذلك ورجع والده إلى أن دخل المدينة، ثم إن شركان أمر كبار العسكر بعرضهم عليه، وكانت عدَّتهم عشرةَ آلاف فارس غير ما يتبعهم.

ثم إن القوم حملوا، ودُقَّتِ الطبول، وصاح النفير، وانتشرت الأعلام والرايات، وركب ابن الملك شركان وإلى جانبه وزيره دندان والأعلام تخفق على رءوسهم، ولم يزالوا سائرين والرسل تقدمهم إلى أن ولَّى النهار وأقبل الليل، فنزلوا واستراحوا، وباتوا تلك الليلة. فلما أصبح الصباح ركبوا وساروا، ولم يزالوا سائرين والرسل يدلونهم على الطريق مدة عشرين يومًا، ثم أشرفوا في اليوم الحادي والعشرين على وادٍ واسع الجهات، كثير الأشجار والنبات، وكان وصولهم إلى ذلك الوادي ليلًا، فأمرهم شركان بالنزول والإقامة فيه ثلاثة أيام، فنزل العساكر وضربوا الخيام، وافترق العسكر يمينًا وشمالًا، ونزل الوزير دندان وصحبته رسل أفريدون صاحب القسطنطينية في وسط ذلك الوادي.

وأما الملك شركان، فإنه كان في وقت وصول العسكر وقف بعدهم ساعةً حتى نزلوا جميعهم، وتفرقوا في جوانب الوادي، ثم إنه أرخى عِنان جواده، وأراد أن يكشف ذلك الوادي ويتولى الحرس بنفسه لأجل وصية والده إياه؛ فإنهم في أول بلاد الروم وأرض العدو، فسار وحده بعد أن أمر مماليكه وخواصه بالنزول عند الوزير دندان، ثم إنه لم يزل سائرًا على ظهر جواده في جوانب الوادي إلى أن مضى من الليل ربعه، فتعب وغلب عليه النوم، فصار لا يقدر أن يُركِض الجوادَ، وكان له عادة أنه ينام على ظهر جواده، فلما هجم عليه النوم نام ولم يزل الجواد سائرًا به إلى نصف الليل، فدخل به في بعض الغابات، وكانت تلك الغابة كثيرة الأشجار، فلم ينتبه شركان حتى دَقَّ الجواد بحافره في الأرض، فاستيقظ فوجد نفسه بين الأشجار وقد طلع عليه القمر وأضاء في الخافقين؛ فاندهش شركان لمَّا رأى نفسه في ذلك المكان، وقال كلمة لا يخجل قائلها وهي: لا حول ولا قوة إلا بالله. فبينما هو كذلك خائف من الوحوش متحيِّر لا يدري أين يتوجَّه، رأى القمر أشرف على مرج كأنه من مروج الجنة، فسمع كلامًا مليحًا وصوتًا عاليًا، وضحكًا يسبي عقول الرجال، فنزل الملك شركان عن جواده في الأشجار، ومشى حتى أشرف على نهرٍ فرأى فيه الماء يجري، وسمع كلام امرأة تتكلم بالعربية وهي تقول: وحَقِّ المسيح، إن هذا مكان غير مليح، ولكن كلُّ مَن تكلَّمَتْ بكلمة صرعتُها وكتفتها بزنارها. كل هذا وشركان يمشي إلى جهة الصوت حتى انتهى إلى طرف المكان، ثم نظر فإذا هو بنهر يسبح، وطيور تمرح، وغزلان تسنح، ووحوش ترتع، والطيور بلغاتها المعاني الحظ تشرح، وذلك المكان مزركش بأنواع النبات، كما قيل في أوصاف مثله هذان البيتان:

مَا تَحْسُنُ الْأَرْضُ إِلَّا عِنْدَ زَهْرَتِهَا        وَالْمَاءُ مِنْ فَوْقِهَا يَجْرِي بِإِرْسَالِ

صُنْعُ الْإِلَهِ الْعَظِيمِ الشَّأْنِ مُقْتَدِرًا        مُعْطِي الْعَطَايَا وَمُعْطِي كُلِّ مِفْضَالِ

فنظر شركان إلى ذلك المكان فرأى فيه ديرًا، ومن داخل الدير قلعة شاهقة في الهواء في ضوء القمر، وفي وسطها نهر يجري الماء منه إلى تلك الرياض، وهناك امرأة بين يديها عشر جوارٍ كأنهن الأقمار، وعليهن من أنواع الحلي والحلل ما يدهش الأبصار، وكلهن أبكار بديعات، كما قيل فيهن هذه الأبيات:

يُشْرِقُ الْمَرْجُ بِمَا فِيــهِ        مِنَ الْبِيضِ الْعَوَالِي

زَادَ حُسْنًا وَجَمَالًا        مِنْ بَدِيعَاتِ الْخِلَالِ

كُلُّ هَيْفَاءَ قَوَامًا        ذَاتِ غُنْجٍ وَدَلَالِ

رَاخِياتٍ لِشُعُورٍ        كَعَنَاقِيدِ الدَّوَالِي

فَاتِنَاتٍ بِعُيُونٍ        رَامِياتٍ بِالنِّبَالِ

مَائِساتٍ قَاتِلَاتٍ        لِصَنَادِيدِ الرِّجَالِ

فنظر شركان إلى هؤلاء الجواري العشر، فوجد بينهن جارية كأنها البدر عند تمامه، بحاجب مزجَّج، وجبين أبلج، وطرف أهدب، وصدغ معقرب، كاملة في الذات والصفات، كما قال الشاعر في مثلها هذه الأبيات:

تَزْهُو عَلَيَّ بِأَلْحَاظٍ بَدِيعَاتٍ        وَقَدُّهَا مُخْجِلٌ لِلسَّمْهَرِيَّاتِ

تَبْدُو إِلَيْنَا وَوَرْدُ الْحَقْلِ خَدَّاهَا        فِيهَا مِنَ الظَّرْفِ أَنْوَاعُ الْمَلَاحَاتِ

كَأَنَّ طُرَّتَهَا فِي نُورِ طَلْعَتِهَا        لَيْلٌ يَلُوحُ عَلَى صُبْحِ الْمَسَرَّاتِ

فسمعها شركان وهي تقول للجواري: تقدَّموا حتى أصارعكم قبل أن يغيب القمر ويأتي الصباح. فصارت كل واحدة منهن تتقدَّم إليها فتصرعها في الحال، وتكتفها بزنارها، فلم تزل تصارعهن وتصرعهن حتى صرعت الجميع، ثم التفتت إلى جارية عجوز كانت بين يديها، وقالت لها وهي كالمغضبة عليها: يا فاجرة، أتفرحين بصرعك للجواري؟ فها أنا عجوز وقد صرعتهن أربعين مرة، فكيف تعجبين بنفسك؟ ولكن إنْ كان لك قوة على مصارعتي فصارعيني، فإن أردتِ ذلك وقمتِ لمصارعتي أقوم لك، وأجعل رأسك بين رجليك. فتبسَّمَتِ الجارية ظاهرًا، وقد امتلأت غيظًا منها باطنًا، وقامت إليها وقالت لها: يا سيدتي ذات الدواهي، بحق المسيح أتصارعينني حقيقةً، أم تمزحين معي؟ قالت لها: بل أصارعك حقيقةً. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 47﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية لما قالت لذات الدواهي: بحق المسيح أتصارعينني حقيقة؟ قالت لها: أصارعك حقيقة. قالت لها: قومي للصراع إن كان لك قوة. فلما سمعت العجوز منها ذلك، اغتاظت غيظًا شديدًا، وقام شعر بدنها كأنه شعر قنفذ، وقامت لها الجارية، فقالت لها العجوز: وحقِّ المسيح لن أصارعك إلا وأنا عريانة يا فاجرة. ثم إن العجوز أخذت منديلًا حريرًا بعد أن فكت لباسها، وأدخلت يديها تحت ثيابها، ونزعتها من فوق جسدها، ولمت المنديل وشدته في وسطها، فصارت كأنها عفريتة معطاء أو حية رقطاء، ثم انحنت على الجارية، وقالت لها: افعلي كفعلي. كل هذا وشركان ينظر إليهما، ثم إن شركان صار يتأمل في تشويه صورة العجوز ويضحك، ثم إن العجوز لما فعلت ذلك، قامت الجارية على مهل، وأخذت فوطة يمانية وثنتها مرتين، وشمرت سراويلها فبان لها ساقان من المرمر، وفوقهما كثيب من البلور ناعم مربرب، وبطن يفوح المسك من أعكانه، كأنه مصفح بشقائق النعمان، وصدر فيه نهدان كفحلي رمان، ثم انحنَتْ عليها العجوز وتماسَكَا ببعضهما، فرفع شركان رأسه إلى السماء ودعا الله أن الجارية تغلب العجوز، فدخلت الجارية تحت العجوز، ووضعت يدها الشمال في شقتها، ويدها اليمين في رقبتها مع حلقها، ورفعتها على يديها، فانفلتت العجوز من يديها، وأرادت الخلاص فوقعت على ظهرها، فارتفعت رجلاها إلى فوق، فبانت شعرتها في القمر، ثم ضرطت ضرطتين عفرت إحداهما في الأرض، ودخنت الأخرى في السماء؛ فضحك شركان منهما حتى وقع على الأرض، ثم قام وسلَّ حسامه، والتفت يمينًا وشمالًا، فلم يَرَ أحدًا غير العجوز مرمية على ظهرها، فقال في نفسه: ما كذب مَن سمَّاكِ ذات الدواهي.

ثم تقرَّبَ منهما ليسمع ما يجري بينهما، فأقبلت الجارية ورمت على العجوز ملاءة من حرير رفيعة، وألبستها ثيابها واعتذرت إليها، وقالت لها: يا سيدتي ذات الدواهي، ما أردتُ إلا صرعك لا جميع ما حصل لك، ولكن أنت انفلتِّ من بين يدي، فالحمد لله على السلامة. فلم تردَّ عليها جوابًا، فقامت تمشي من خجلها، ولم تزل ماشيةً إلى أن غابت عن البصر، وصارت الجواري مكتَّفات مرميات، والجارية واقفة وحدها، فقال شركان في نفسه: لكل رزق سبب، ما غلب عليَّ النوم، وسار بي الجواد إلى هذا المكان إلا لبختي، فلعل هذه الجارية وما معها تكون غنيمة لي. ثم ركب جواده، ولكزه ففرَّ به كالسهم إذا فرَّ من القوس، وبيده حسامه مجرَّد من غلافه، ثم صاح: الله أكبر. فلما رأته الجارية نهضَتْ قائمةً، وحطَّتْ قدمَيْها على جانب النهر، وكان عرضه ستة أذرع، ووثبَتْ فصارت على جانبه الآخَر، ثم قامت على رجليها ونادت برفيع صوتها: مَن أنت يا هذا؟ لأنك قطعت سرورنا، وحين جرَّدْتَ حسامك صرْتَ كأنك قد حملت في عساكر. من أين أنت؟ وإلى أين تذهب؟ فاصدق في مقالك فإن الصدق أنفع لك، ولا تكذب فإن الكذب من أخلاق اللئام، ولا شك أنك تهتَ في هذه الليلة عن الطريق حتى جئتَ إلى هذا المكان الذي خلاصك فيه أكبر الغنيمات. واعلم أنك في مرج، لو صرخنا فيه صرخة واحدة لجاء إلينا أربعة آلاف بطريق، فقُلْ لنا ما الذي تريد؟ فإن أردتَ أن نرشدك إلى الطريق أرشدناك، وإنْ أردتَ الرِّفْد أرفدناك.

فلما سمع شركان كلامها قال لها: أنا رجل غريب من المسلمين، وقد سرت في هذه الليلة منفردًا بنفسي أطلب غنيمةً أغتنمها، فلم أجد غنيمةً أحسن من هؤلاء الجواري العشر في هذه الليلة المقمرة، فآخذهن وأرجع بهنَّ إلى أصحابي. فقالت له الجارية: اعلم أن الغنيمة ما وصلتَ إليها، والجواري واللهِ ما هنَّ غنيمتك، أَمَا قلتُ لك إن الكذب شين؟ فقال لها: إن السعيد الذي يكتفي بالله عن غيره؟ فقالت له: وحقِّ المسيح، لولا أني أخاف أن يكون هلاكك على يديَّ، لَكنتُ صحتُ صيحة ملأت عليك الأرض خيلًا ورجالًا، ولكن أنا أشفق على الغرباء، وإن أردتَ الغنيمة فأنا أطلب منك أن تنزل عن جوادك وتحلف لي بدينك أنك لا تتقرب إليَّ بشيء من السلاح وأتصارع أنا وأنت، فإن صرعتَني فضعني على جوادك وخذنا كلنا غنيمةً، وإن صرعتُك أتحكَّم فيك؛ فاحلف لي، فإني أخاف من غدرك، وقد ورد في الأخبار: إذا كان الغدر طباعًا فإن الثقة بكل أحد عجز. فإن حلفتَ لي عديتُ إليك وأتيتك وجئت عندك. فطمع شركان في أخذها وقال في نفسه: إنها تعرف أني بطل من الأبطال. ثم ناداها وقال لها: حلِّفيني بما تثقين به إني لا أقربك بشيء حتى تأخذي أهبتك وتقولي ادنُ مني لأصارعك، فحينئذٍ أتقرَّب منكِ، فإن صرعتِني فإن لي من المال ما أشتري به نفسي، وإنْ صرعتُكِ أنا فهي الغنيمة الكبرى. فقالت الجارية: أنا رضيت بذلك.

فتحيَّر شركان في ذلك وقال: وحقِّ النبي ﷺ رضيت أنا الآخَر. فقالت له: احلف الآن بمَن ركَّب الأرواح في الأجساد وشرَّع لنا الشرائع. فحلف لها بما وثقَتْ به من الأيمان، فرضيت بذلك، ثم إنها وثبت فصارت في الجانب الآخَر من جانبي النهر وقالت لشركان وهي تضحك: يعزُّ عليَّ فراقُك يا مولاي، اذهب إلى أصحابك قبل الصباح لئلا يأتيك البطارقة فيأخذوك على أسنة الرماح، وأنت ما فيك قوة لدفع النسوان، فكيف تدافع الرجال الفرسان؟! فتحيَّرَ شركان في نفسه، وقال لها وقد ولَّتْ عنه مُعرِضةً تقصد الدير: يا سيدتي، أتذهبين وتتركين المتيَّم الغريب المسكين الكسير القلب؟ فالتفتَتْ إليه وهي تضحك، ثم قالت له: ما حاجتك؟ فإني أجيب دعوتك. فقال: كيف أطأ أرضك، وأتحلى بحلاوة لطفك، وارجع بلا أكل من طعامك، وقد صرت من بعض خَدَمك؟ فقالت: لا يأبى الكرامة إلا لئيم، تفضَّلْ باسم الله على الرأس والعين، واركب جوادك وسِرْ على جانب النهر مقابلي فأنت في ضيافتي.

ففرح شركان، وبادر إلى جواده وركب وما زال ماشيًا مقابلها، وهي سائرة قبالته إلى أن وصل إلى جسر معمول بأخشاب من الحور، وفيه بكر بسلاسل من البولاد، وعليها أقفال في كلاليب، فنظر شركان إلى ذلك الجسر، وإذا بالجواري اللاتي كن معها في المصارعة قائمات ينظرن إليها. فلما أقبلت عليهن كلَّمَتْ جارية منهن بلسان الرومية، وقالت لها: قومي إليه وأمسكي عنان جواده، ثم سيري به إلى الدير. فسار شركان وهي قدامه إلى أن عدَّى الجسر، وقد اندهش عقله مما رأى، وقال في نفسه: يا ليت الوزير دندان كان معي في هذا المكان، وتنظر عيناه إلى تلك الجواري الحسان. ثم التفت إلى تلك الجارية وقال لها: يا بديعة الجمال، قد صار لي عليك الآن حرمتان: حرمة الصحبة، وحرمة سيري إلى منزلك وقبول ضيافتك، وقد صرت تحت حكمك وفي عهدك، فلو أنك تنعمين عليَّ بالمسير إلى بلاد الإسلام، وتتفرجين على كل أسد ضرغام، وتعرفين مَن أنا. فلما سمعت كلامه اغتاظت وقالت له: وحق المسيح لقد كنتَ عندي ذا عقل ورأي، ولكني اطَّلعت الآن على ما في قلبك من الفساد، وكيف يجوز لك أن تتكلم بكلمة تنسب بها إلى الخداع؟ كيف أصنع هذا وأنا أعلم متى حصلت عند ملككم عمر النعمان لا أخلص منه؛ لأنه في صورة مثلي؟ ولو كان صاحب بغداد وخراسان، وبنى له اثني عشر قصرًا، في كل قصر ثلاثمائة وستون جارية على عدد أيام السنة، والقصور عدد أشهر السنة، فإن حصل عنده فزع مني؛ لأن اعتقادكم أنه يحل لكم التمتع بمثلي كما في كتبكم حيث قيل فيهاأَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، فكيف تكلمني بهذا الكلام؟

وأما قولك: وتتفرجين على شجعان المسلمين. فوَحَقِّ المسيح إنك قلت قولًا غير صحيح، فإني رأيت عسكركم لما استقبلتم أرضنا وبلادنا في هذين اليومين، فلما أقبلتم لم أَرَ تربيتكم تربية ملوك، وإنما رأيتكم طوائف مجتمعة.

وأما قولك: تعرفين مَن أنا؟ فأنا لا أصنع معك جميلًا لأجل إجلالك، وإنما أفعل ذلك لأجل الفخر، ومثلك لا يقول لمثلي ذلك، ولو كنت شركان بن الملك عمر النعمان الذي ظهر في هذا الزمان. فقال شركان في نفسه: لعلها عرفَتْ قدومَ العساكر وعرفت عدتهم، وأنهم عشرة آلاف فارس، وعرفت أن والدي أرسلهم معي لنصرة ملك القسطنطينية. ثم قال شركان: يا سيدتي، أقسمت عليك بمَن تعتقدين من دينك أن تحدِّثيني بسبب ذلك، حتى يظهر لي الصدق من الكذب، ومَن يكون عليه وَبَالُ ذلك؟ فقالت له: وحَقِّ ديني لولا أني خفتُ أن يشيع خبري من أني بنات الروم، لَكنتُ خاطرتُ بنفسي، وبارزتُ العشرة آلاف فارس، وقتلتُ مقدمهم الوزير دندان، وظفرت بفارسهم شركان، وما كان عليَّ من ذلك عار، ولكني قرأت الكتب وتعلَّمْتُ الأدب من كلام العرب، ولست أصف لك نفسي بالشجاعة مع أنك رأيت مني العلامة والصناعة، والقوة في الصراع والبراعة، ولو حضر شركان مكانك في هذه الليلة وقيل له: نط هذا النهر. لَأذعن واعترف بالعجز، وإني أسأل المسيح أن يرميه بين يدي في هذا الدير حتى أخرج له في صفة الرجال وآسره، وأجعله في الأغلال. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 48﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الصبية النصرانية لما قالت هذا الكلام لشركان وهو يسمعه، أخذته النخوة والحمِيَّة وغيرة الأبطال، وأراد أن يُظهِر لها نفسه، ويبطش بها، ولكن ردَّه عنها فرْطُ جمالها، وبديع حُسْنها، فأنشد هذا البيت:

وَإِذَا الْمَلِيحُ أَتَى بِذَنْبٍ وَاحِدٍ        جَاءَتْ مَحَاسِنُهُ بِأَلْفِ شَفِيعِ

ثم صعدت وهو في إثرها، فنظر شركان إلى ظهر الجارية، فرأى أردافها تتلاطم كالأمواج في البحر الرجراج، فأنشد هذه الأبيات:

فِي وَجْهِهَا شَافِعٌ يَمْحُو إِسَاءَتَهَا        مِنَ الْقُلُوبِ وَجِيهٌ حَيْثُمَا شَفَعَا

إِذَا تَأَمَّلْتَهَا نَادَيْتَ مِنْ عَجَبٍ        الْبَدْرُ فِي لَيْلَةِ الْإِكْمَالِ قَدْ طَلَعَا

لَوْ أَنْ عِفْرِيتَ بَلْقِيسَ يُصَارِعُهَا        مَعْ وَصْفِ قُوَّتِهِ فِي سَاعَةٍ صَرَعَا

ولم يزالا سائرَيْن حتى وصلا إلى باب مقنطر، وكانت قنطرته من رخام، ففتحت الجارية الباب ودخلت ومعها شركان، وسار إلى دهليز طويل مقبَّى على عشر قناطر معقودة، على كل قنطرة قنديل من البللور يشتعل كاشتعال الشمس، فلقيتها الجواري في آخر الدهليز بالشموع المطيَّبة، وعلى رءوسهن العصائب المزركشة بالفصوص من أصناف الجواهر، وسارت وهن أمامها وشركان وراءها إلى أن وصلوا إلى الدير، فوجد بدائر ذلك الدير أسِرَّة مقابلة لبعضها، وعليها ستور مكللة بالذهب، وأرض الدير مفروشة بأنواع الرخام المجزَّع، وفي وسطه بركة ماء عليها أربع وعشرون قارورة من الذهب، والماء يخرج منها كاللُّجَيْنِ، ورأى في الصدر سريرًا مفروشًا بالحرير الملوكي، فقالت له الجارية: اصعد يا مولاي على هذا السرير. فصعد شركان فوق السرير، وذهبت الجارية وغابت عنه، فسأل عنها بعض الخدام، فقالوا له: إنها ذهبت إلى مرقدها، ونحن نخدمك كما أمرَتْ. ثم إنها قدَّمت إليه من غرائب الألوان، فأكل حتى اكتفى، ثم بعد ذلك قدمت إليه طشتًا وإبريقًا من الذهب، فغسل يديه، وخاطره مشغول بعسكره لكونه لا يعلم ما جرى لهم بعده، ويتذكَّر أيضًا كيف نسي وصية أبيه، فصار متحيرًا في أمره، نادمًا على ما فعل إلى أن طلع الفجر وبان النهار، وهو يتحسَّر على ما فعل، وصار مستغرقًا في الفكر، وأنشد هذه الأبيات:

لَمْ أَعْدَمِ الْحَزْمَ وَلَكِنَّنِي        دُهِيتُ فِي الْأَمْرِ فَمَا حِيلَتِي

لَوْ كَانَ مَنْ يَكْشِفُ عَنِّي الْهَوَى        بَرِئْتُ مِنْ حَوْلِي وَمِنْ قُوَّتِي

وَإِنَّ قَلْبِي فِي ضَلَالِ الْهَوَى        صَبٌّ وَأَرْجُو اللهَ فِي شِدَّتِي

فلما فرغ من شعره رأى بهجة عظيمة قد أقبلت، فنظر فإذا هو بأكثر من عشرين جارية كالأقمار حول تلك الجارية، وهي بينهنَّ كالبدر بين الكواكب، وعليها ديباج ملوكي، وفي وسطها زنار مرصَّع بأنواع الجواهر، وقد ضمَّ خصرها وأبرز ردفها، فصارَا كأنهما كثيب بلور تحت قضيب من فضة، ونهداها كفحلي رمان؛ فلما نظر شركان ذلك كاد عقله أن يطير من الفرح، ونسي عسكره ووزيره، وتأمل رأسها فرأى عليه شبكةً من اللؤلؤ مفصَّلة بأنواع الجواهر، والجواري عن يمينها ويسارها يرفعن أذيالها وهي تتمايل عُجْبًا، فعند ذلك وثب شركان قائمًا على قدميه من هيبة حُسْنها وجمالها، فصاح: وا حيرتاه من هذا الزنار! وأنشد هذه الأبيات:

ثَقِيلَةُ الْأَرْدَافِ مَائِلَةٌ        خَرْعُوبَةٌ نَاعِمَةُ النَّهْدِ

تَكَتَّمَتْ مَا عِنْدَهَا مِنْ جَوًى        وَلَسْتُ أَكْتُمُ الَّذِي عِنْدِي

خُدَّامُهَا يَمْشِينَ مِنْ خَلْفِهَا        كَالْقَيْلِ فِي حَلْيٍ وَفِي عِقْدِ

ثم إن الجارية جعلت تنظر إليه زمانًا طويلًا، وتكرر فيه النظر إلى أن تحققته وعرفته، فقالت له بعد أن أقبلت عليه: قد أشرق بك المكان يا شركان، كيف كانت ليلتك يا همام بعدما مضينا وتركناك؟ ثم قالت له: إن الكذب عند الملوك منقصة وعار، ولا سيما عند أكابر الملوك، وأنت شركان بن عمر النعمان، فلا تنكر نفسك وحسبك، ولا تكتم أمرك عني، ولا تُسمِعني بعد ذلك غير الصدق؛ فإن الكذب يورث البغض والعداوة، فقد نفذ فيك سهم القضاء، فعليك بالتسليم والرضاء. فلما سمع كلامها لم يمكنه الإنكار، فأخبرها بالصدق وقال لها: أنا شركان بن عمر النعمان الذي عذَّبني الزمان، وأوقعني في هذا المكان، فمهما شئتِ فافعليه الآن. فأطرقت برأسها إلى الأرض زمانًا طويلًا، ثم التفتت إليه وقالت له: طِبْ نفسًا وقَرَّ عينًا، فإنك ضيفي، وصار بيننا وبينك خبز وملح، وحديث ومؤانسة؛ فأنت في ذمتي وفي عهدي، فكُنْ آمنًا، وحقِّ المسيح لو أراد أهل الأرض أن يؤذوك لما وصلوا إليك إلا إن خرجت روحي من أجلك، فأنت في أمان المسيح وأماني. وجلست إلى جانبه فصارت تلاعبه إلى أن زال ما عنده من الخوف، وعلم أنها لو كان لها أرب في قتله لقتلته في الليلة الماضية.

ثم إنها كلمت جارية بلسان الرومية فغابت ساعة ثم رجعت إليها ومعها آلة مُدام ومائدة طعام، فتوقف شركان عن الأكل وقال في نفسه: ربما وضعَتْ شيئًا في ذلك الطعام. فعرفت ما في ضميره فالتفتت إليه وقالت: وحقِّ المسيح، ليس الأمر كذلك، وهذا الطعام ليس فيه شيء من الذي تتوهمه، ولو كان خاطري في قتلك لقتلتك في هذا الوقت. ثم تقدَّمَتْ إلى المائدة، وأكلت من كل لون لقمة، فعند ذلك أكل شركان، ففرحت الجارية وأكلت معه إلى أن اكتفيا، وبعد أن غسلَا أيديهما قامت وأمرت جارية أن تأتي بالرياحين وآلات الشراب من أواني الذهب والفضة والبلور، وأن يكون الشراب من سائر الألوان المختلفة والأنواع النفيسة، فأتتها بجميع ما طلبته. ثم إن الجارية ملأت أول قدح وشربته قبله كما فعلت في الطعام، ثم ملأت ثانيًا وأعطته إياه فشرب، فقالت له: يا مسلم، انظر كيف أنت في ألذ عيش ومسرة. ولم تزل تشرب معه إلى أن غاب عن رشده. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 49﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية ما زالت تشرب وتسقي شركان إلى أن غاب عن رشده من الشراب، ومن سكر محبتها، ثم إنها قالت لجارية: يا مرجانة، هات لنا شيئًا من آلات الطرب. فقالت: سمعًا وطاعة. ثم غابت لحظةً وأتت بعود جلقي، وجنك عجمي، وناي تتري، وقانون مصري، فأخذت الجارية العود وأصلحته، وشدت أوتاره، وغنت عليه بصوت رخيم أرق من النسيم، وأعذب من ماء التسنيم، وأنشدت مطربة بهذه الأبيات:

عَفَا اللهُ عَنْ عَيْنَيْكَ كَمْ سَفَكَتْ دَمًا        وَكَمْ فَوَّقَتْ مِنْكَ اللَّوَاحِظُ أسْهُمَا

أُجِلُّ حَبِيبًا جَائِرًا فِي حَبِيبِهِ        حَرَامٌ عَلَيْهِ أَنْ يَرِقَّ وَيَرْحَمَا

هَنِيئًا لِطَرْفٍ بَاتَ فِيكَ مُسَهَّدًا        وَطُوبَى لِقَلْبٍ ظَلَّ فِيكَ مُتَيَّمَا

تَحَكَّمْتَ فِي قَتْلِي فَإِنَّكَ مَالِكِي        بِرُوحِي أَفْدِي الْحَاكِمَ الْمُتَحَكِّمَا

ثم قامت كل واحدة من الجواري، ومعها آلتها، وأنشدت تقول عليها أبياتًا بلسان الرومية؛ فطرب شركان، ثم غنت الجارية سيدتهن أيضًا، وقالت: يا مسلم، أَمَا فهمتَ ما أقول؟ قال: لا، ولكن ما طربت إلا على حُسْن أناملك. فضحكت وقالت له: إن غنيتُ لك بالعربية ماذا تصنع؟ فقال: ما كنت أتمالك عقلي. فأخذت آلة الطرب وغيَّرَتِ الضربَ، وأنشدت هذه الأبيات:

طَعْمُ التَّفْرِيقِ مُرٌّ        فَهَلْ لِذَلِكَ صَبْرُ

تَعَرَّضَتْ لِي ثَلَاثٌ        صَدٌّ وَبَيْنٌ وَهَجْرُ

أَهْوَى ظَرِيفًا سَبَانِي        بِالْحُسْنِ فَالْهَجْرُ مُرُّ

فلما فرغت من شعرها نظرت إلى شركان فوجدته قد غاب عن وجوده، ولم يزل مطروحًا بينهن ممدودًا ساعة، ثم أفاق وتذكَّر الغناء، فمال طربًا. ثم إن الجارية أقبلت هي وشركان على الشراب، ولم يزالا في لعب ولَهْوٍ إلى أن ولى النهار بالرواح، ونشر الليل الجناح، فقامت إلى مرقدها فسأل شركان عنها، فقالوا له: إنها مضت إلى مرقدها. فقال: في رعاية الله وحفظه. فلما أصبح الصباح أقبلَتْ عليه الجارية، وقالت له: إن سيدتي تدعوك إليها. فقام معها وسار خلفها، فلما قرُب من مكانها زفَّته الجواري بالدفوف والمغاني إلى أن وصل إلى باب كبير من العاج مرصَّع بالدرِّ والجوهر، فلما دخلوا منه وجد دارًا كبيرة أيضًا، وفي صدرها إيوان كبير مفروش بأنواع الحرير، وبدائر ذلك الإيوان شبابيك مفتحة مطلَّة على أشجار وأنهار، وفي البيت صور مجسَّمة يدخل فيها الهواء، فتتحرك في جوفها آلات، فيتخيَّل للناظر أنها تتكلم، والجارية جالسة تنظر إليهم، فلما نظرته الجارية نهضت قائمة إليه، وأخذت يده وأجلسته بجانبها، وسألته عن مبيته، فدعا لها، ثم جلسا يتحدثان. فقالت له: أتعرف شيئًا ممَّا يتعلق بالعاشقين والمتيَّمين؟ فقال: نعم، أعرف شيئًا من الأشعار. فقالت: أَسْمِعني. فأنشد هذه الأبيات:

لَا لَا أَبُوحُ بِحُبِّ عَزَّةَ إِنَّهَا        أَخَذَتْ عَلَيَّ مَوَاثِقًا وَعُهُودَا

رُهْبَانُ مَدْيَنَ وَالَّذِينَ عَهِدْتُهُمْ        يَبْكُونَ مِنْ حَذَرِ الْفِرَاقِ قُعُودَا

لَوْ يَسْمَعُونَ كَمَا سَمِعْتُ حَدِيثَهَا        خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعًا وَسُجُودَا

فلما سمعته قالت: لقد كان كثيِّر باهر الفصاحة، بارع البلاغة؛ لأنه بالَغَ في وصفه لعزة حيث قال - وأنشدَتْ هذين البيتين:

لَوْ أَنَّ عَزَّةَ حَاكَمَتْ شَمْسَ الضُّحَى        فِي الْحُسْنِ عِنْدَ مُوَفِّقٍ لَقَضَى لَهَا

وَسَعَى إِلَيَّ بِعَيْبِ عَزَّةَ نِسْوَةٌ        جَعَلَ الْإِلَهُ خُدُودَهُنَّ نِعَالَهَا

ثم قالت: وقيل إن عزة كانت في نهاية الحسن والجمال. ثم قالت له: يا ابن الملك، إن كنت تعرف شيئًا من كلام جميل فأنشدنا منه. قال: إني أَعْرَفُ به من كل واحد. ثم أنشد من شعر جميل هذا البيت:

تُرِيدِينَ قَتْلِي لَا تُرِيدِينَ غَيْرَهُ        وَلَسْتُ أَرَى قَصْدًا سِوَاكِ أُرِيدُ

فلما سمعت ذلك قالت له: أحسنت يا ابن الملك. ما الذي أرادته عزة بجميل حتى قال هذا الشطر؛ أي تريدين قتلي لا تريدين غيره. فقال لها شركان: يا سيدتي، لقد أرادت به ما تريدين مني ولا يرضيك. فضحكت لما قال لها شركان هذا الكلام، ولم يزالا يشربان إلى أن ولَّى النهار، وأقبل الليل بالاعتكار، فقامت الجارية وذهبت إلى مرقدها، ونامت ونام شركان في مرقده إلى أن أصبح الصبح. فلما أفاق أقبلت عليه الجواري بالدفوف، وآلات الطرب على العادة، وقبَّلن الأرض بين يديه، وقلن له: تفضَّلْ، فإن سيدتنا تدعوك إلى الحضور عندها. فقام شركان ومشى والجواري حوله يضربن بالدفوف والآلات، إلى أن خرج من تلك الدار ودخل دارًا غيرها أعظم من الدار الأولى، وفيها من التماثيل وصور الطيور ما لا يُوصَف؛ فتعجَّبَ شركان ممَّا رأى من صنع ذلك المكان، فأنشد هذه الأبيات:

أَجَنَى رَقِيبِي مِنْ ثِمَارِ قَلَائِدِ        دُرَّ النُّحُورِ مُنَضَّدًا بِالْعَسْجَدِ

وَعُيُونَ مَاءٍ مِنْ سَبَائِكِ فِصَّةٍ        وَخُدُودَ وُرْدٍ فِي وُجُوهِ زَبَرْجَدِ

فَكَأَنَّمَا لَوْنُ الْبَنَفْسَجِ قَدْ حَكَى        زُرْقَ الْعُيُونِ وَكُحِّلَتْ بِالْإِثْمِدِ

فلما رأت الجارية شركان قامت له، وأخذت يده وأجلسته إلى جانبها، وقالت له: أنت ابن الملك عمر النعمان، فهل تُحسِن لعب الشطرنج؟ فقال: نعم، ولكن لا تكوني كما قال الشاعر:

أَقُولُ وَالْوَجْدُ يَطْوِينِي وَيَنْشُرُنِي        وَنَهْلَةٌ مِنْ رُضَابِ الْحُبِّ تَرْوِينِي

حَضَرْتُ شَطْرَنْجَ مَنْ أَهْوَى فَلَاعَبَنِي        بِالْبِيضِ وَالسُّودِ لَكِنْ لَيْسَ يُرْضِينِي

كَأَنَّمَا الشَّاةُ عِنْدَ الرُّخِّ مَوْضِعُهُ        وَقَدْ تَفَقَّدَ دَسْتًا بِالْفَرَازِينِي

فَإِنْ نَظَرْتُ إِلَى مَعْنَى لَوَاحِظِهَا        فَإِنَّ أَلْحَاظَهَا يَا قَوْمُ تُرْدِينِي

ثم قدَّمَتْ له الشطرنج ولعبت معه، فصار شركان كلما أراد أن ينظر إلى نقلها نظر إلى وجهها، فيضع الفرس موضع الفيل، ويضع الفيل موضع الفرس؛ فضحكت وقالت: إن كان لعبك هكذا فأنت لا تعرف شيئًا. فقال: هذا أول دست لا تحسبيه. فلما غلبته رجع وصَفَّ القِطَع، ولعب معها فغلبته ثانيًا وثالثًا ورابعًا وخامسًا، ثم التفتت إليه وقالت له: أنت في كل شيء مغلوب. فقال: يا سيدتي، مع مثلك يحسن أن أكون مغلوبًا. ثم أمرت بإحضار الطعام فأكلا وغسلا أيديهما، وأمرت بإحضار الشراب فشَرِبَا، وبعد ذلك أخذت القانون، وكان لها بضرب القانون معرفة جيدة، فأنشدت هذه الأبيات:

الدَّهْرُ مَا بَيْنَ مَطْوِيٍّ وَمَبْسُوطِ        وَمِثْلُهُ مِثْلُ مَجْرُورٍ وَمَخْرُوطِ

فَاشْرَبْ عَلَى حُسْنِهِ إِنْ كُنْتَ مُقْتَدِرًا        أَنْ لَا تُفَارِقَنِي فِي وَجْهِ تَفْرِيطِ

ثم إنهما لم يزالا على ذلك إلى أن دخل الليل، فكان ذلك اليوم أحسن من اليوم الذي قبله، فلما أقبل الليل مضت الجارية إلى مرقدها، وانصرف شركان إلى موضعه، فنام إلى الصباح، ثم أقبلت عليه الجواري بالدفوف وآلات الطرب، وأخذوه على العادة إلى أن وصلوا إلى الجارية، فلما رأته نهضت قائمة، وأمسكته من يده وأجلسته بجانبها، وسألته عن مبيته، فدعا لها بطول البقاء، ثم أخذت العود وأنشدت هذين البيتين:

لَا تَهْرُبَنَّ مِنَ الْعِنَاقِ        فَإِنَّهُ حُلْوُ الْمَذَاقِ

الشَّمْسُ عِنْدَ غُرُوبِهَا        تَصْفَرُّ مِنْ أَلَمِ الْفِرَاقِ

فبينما هما على هذه الحالة، وإذا هما بضجة؛ فالتفتا فرأيا رجالًا وشبانًا مُقبِلين وغالبهم بطارقة، وبأيديهم السيوف مسلولة تلمع، وهم يقولون بلسان الرومية: وقعت عندنا يا شركان، فأيقن بالهلاك. فلما سمع شركان هذا الكلام قال في نفسه: لعل هذه الجارية الجميلة خدعتني، وأمهلتني إلى أن جاء رجالها، وهم البطارقة الذين خوَّفتني بهم، ولكن أنا الذي جنيتُ على نفسي، وألقيتُها في الهلاك. ثم التفَتَ إلى الجارية ليعاتبها، فوجد وجهها قد تغيَّرَ بالاصفرار، ثم وثبت على قدمَيْها وهي تقول لهم: مَنْ أنتم؟ فقال لها البطريق المقدَّم عليهم: أيتها الملكة الكريمة والدرة اليتيمة، أَمَا تعرفين الذي عندك مَن هو؟ قالت له: لا أعرفه، فمَن هو؟ فقال لها: هذا مخرِّب البلدان وسيد الفرسان، هذا شركان ابن الملك عمر النعمان، هذا الذي فتح القلاع، وملك كل حصن مناع، وقد وصل خبره إلى الملك حردوب والدك من العجوز ذات الدواهي، وتحقَّقَ ذلك والدك ملكنا نقلًا عن العجوز، وها أنت قد نصرت عسكر الروم بأخذ هذا الأسد المشئوم.

فلما سمعَتْ كلامَ البطريق نظرت إليه، وقالت له: ما اسمك؟ قال لها: اسمي ماسورة ابن عبدك موسورة بن كاشرده بطريق البطارقة. قالت له: كيف دخلت عليَّ بغير إذني؟ فقال لها: يا مولاتي، إني لما وصلت إلى الباب ما منعني حاجب ولا بوَّاب، بل قام جميع البوابين ومشوا بين أيدينا، كما جرت به العادة أنه إذا جاء أحد غيرنا يتركونه واقفًا على الباب حتى يستأذنوا عليه بالدخول، وليس هذا وقت إطالة الكلام، والملك منتظر رجوعنا إليه بهذا الملك الذي هو شرارة جمرة عسكر الإسلام؛ لأجل أن يقتله، ويرحل عسكره إلى الموضع الذي جاءوا منه من غير أن يحصل لنا تعب في قتالهم. فلما سمعت الجارية منه هذا الكلام قالت له: إن هذا الكلام غير حسن، ولكن قد كذبت العجوز ذات الدواهي، فإنها قد تكلَّمت بكلام باطل لا تعلم حقيقته، وحقِّ المسيح إن الذي عندي ما هو شركان ولا أسرته، ولكنه رجل أتى إلينا، وقدِم علينا وطلب الضيافة فأضفناه، فإن تحقَّقْنا أنه شركان بعينه، وثبت عندنا أنه هو من غير شك، فلا يليق بمروءتي أني أمكِّنكم منه؛ لأنه دخل تحت عهدي وذمتي، فلا تخونوني في ضيفي، ولا تفضحوني بين الأنام، بل ارجع أنت إلى الملك أبي، وقبِّل الأرض بين يديه، وأخبره بأن الأمر بخلاف ما قالته العجوز ذات الدواهي. فقال البطريق ماسورة: يا إبريزة، أنا ما أقدر أن أعود إلى الملك إلا بغريمه. فقالت له وقد اغتاظت: ويلك! ما يخصك بهذا الكلام؟! ارجع أنت إليه بالجواب ولا عليك ملام. فقال لها ماسورة: لا أعود إلا به. فتغيَّر لونها وقالت له: لا تكن كثير الكلام والهذيان؛ فإن هذا الرجل ما دخل علينا إلا وهو واثق من نفسه أنه يحمل على مائة فارس وحده، ولو قلتُ له: أنت شركان بن عمر النعمان، ويقول: نعم. ولا يمكنكم أن تتعرضوا له؛ فإن تعرضتم له لا يرجع عنكم إلا إنْ قتل جميع مَن كان في هذا المكان، وها هو عندي، وها أنا أحضره بين أيديكم وسيفه وترسه معه. فقال لها البطريق ماسورة: أنا إذا أمنت من غضبك لم آمن من غضب أبيك، وإني إذا رأيته أشير إلى البطارقة فإنهم يأخذونه أسيرًا ويمضون به إلى الملك حقيرًا. فلما سمعت هذا الكلام قالت: لا كان هذا الأمر، فإنه عنوان للسفه؛ لأن هذا رجل واحد وأنتم مائة بطريق، فإذا أردتم مصادمته، فابرزوا له واحدًا بعد واحد ليظهر عند الملك مَن هو البطل منكم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 50﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملكة إبريزة قالت للبطريق: هذا رجل واحد وأنتم مائة بطريق، فإذا أردتم مصادمته فابرزوا له واحدًا بعد واحد ليظهر عند الملك مَن هو البطل منكم. فقال البطريق ماسورة: وحقِّ المسيح لقد قلت الحقَّ، ولكن ما يخرج له أولًا غيري. فقالت له الجارية: اصبر حتى أذهب إليه وأعرفه بحقيقة الأمر، وأنظر ما عنده من الجواب، فإن أجاب الأمر كذلك، وإنْ أبى فلا سبيل لكم إليه، وأكون أنا ومَن في الدير وجواريَّ فداه. ثم أقبلت على شركان وأخبرته بما كان، فتبسَّم وعلم أنها لم تخبر أحدًا بأمره، وإنما شاع خبره حتى وصل إلى الملك بغير إرادتها، فرجع باللوم على نفسه، وقال: كيف رميت روحي في بلاد الروم؟ ثم إنه لما سمع كلام الجارية قال لها: إن بروزهم إليَّ واحدًا بعد واحد إجحاف بهم، فهلَّا يبرزون لي عشرة بعد عشرة؟ وبعد ذلك وثب على قدميه، وسار إلى أن أقبل عليهم، وكان معه سيفه وآلة حربه، فلما رآه البطريق وثب إليه وحمل عليه، فقابَلَه شركان كأنه الأسد وضربه بالسيف على عاتقه، فخرج السيف يلمع من أمعائه، فلما نظرت الجارية ذلك عظُم قدر شركان عندها، وعرفت أنها لم تصرعه حين صرعته بقوَّتها، بل بحُسْنها وجمالها.

ثم إن الجارية أقبلت على البطارقة، وقالت لهم: خذوا بثأر صاحبكم. فخرج له أخو المقتول، وكان جبارًا عنيدًا، فحمل على شركان فلم يمهله شركان دون أن ضربه بالسيف على عاتقه، فخرج السيف يلمع من أمعائه، فعند ذلك نادت الجارية وقالت: يا عُبَّاد المسيح، خذوا بثأر صاحبكم. فلم يزالوا يبرزون إليه واحدًا بعد واحد، وشركان يلعب فيهم بسيفه حتى قتل منهم خمسين بطريقًا، والجارية تنظر إليهم، وقد قذف الله الرعبَ في قلوب مَن بقي منهم، وقد تأخَّروا عن البِراز ولم يجسروا على البروز إليه، بل حملوا عليه حملة واحدة بأجمعهم، وحمل عليهم بقلبٍ أقوى من الحجر إلى أن طحنهم طحن الدروس، وسلب منهم العقول والنفوس، فصاحت الجارية على جواريها وقالت لهن: مَن بقي في الدير؟ فقلن لها: لم يبقَ أحد إلا البوابين. ثم إن الملكة لاقته وأخذته بالأحضان، وطلع شركان معها إلى القصر بعد فراغه من الحرب، وكان بقي منهم قليل كامن له في زوايا الدير، فلما نظرت الجارية إلى ذلك القليل قامت من عند شركان، ثم رجعت إليه وعليها زردية ضيقة العيون وبيدها صارم مهند، وقالت: وحق المسيح، لم أبخل بنفسي عن ضيفي ولا أتخلَّى عنه، ولو أني أبقى بسبب ذلك معيرة في بلاد الروم. ثم إنها تأملت البطارقة، فوجدته قد قتل منهم ثمانين، وانهزم منهم عشرون، فلما نظرت إلى ما صنع بالقوم قالت له: بمثلك تفتخر الفرسان، فلله درك يا شركان. ثم إنه قام بعد ذلك يمسح سيفه من دم القتلى، وينشد هذه الأبيات:

وَكَمْ مِنْ فِرْقَةٍ فِي الْحَرْبِ جَاءَتْ        تَرَكْتُ كُمَاتَهُمْ طَعْمَ السِّبَاعِ

سَلُوا عَنِّي إِذَا شِئْتُمْ نِزَالِي        جَمِيعَ الْخَلْقِ فِي يَوْمِ الْقِرَاعِ

تَرَكْتُ لُيُوثَهُمْ فِي الْحَرْبِ صَرْعَى        عَلَى الرَّمْضَاءِ فِي تِلْكَ الْبِقَاعِ

فلما فرغ من شعره أقبلت عليه الجارية متبسمة، وقبَّلت يده، وقلعت الدرع الذي كان عليها، فقال لها: يا سيدتي، لأي شيء لبست الدرع الزرد وشهرت حسامك؟ قالت: حرصًا عليك من هؤلاء اللئام. ثم إن الجارية دعت البوَّابين، وقالت لهم: كيف تركتم أصحاب الملك يدخلون منزلي بغير إذني؟ فقالوا لها: أيتها الملكة ما جرت العادة أننا نحتاج إلى استئذانٍ منك على رُسُلِ الملك، خصوصًا البطريق الكبير. فقالت لهم: أظنكم ما أردتم إلا هتكي وقتل ضيفي. ثم أمرت شركان أن يضرب رقابهم، فضرب رقابهم، وقالت لباقي خدَّامها: إنهم يستحقون أكثر من ذلك. ثم التفتت لشركان وقالت له: الآن ظهر لك ما كان خافيًا، فها أنا أُعلِمك بقصتي؛ اعلم أني بنت ملك الروم حردوب، واسمي إبريزة، والعجوز التي تُسمَّى ذات الدواهي جدتي أم أبي، وهي التي أعلمت أبي بك، ولا بد أنها تدبِّر حيلةً في هلاكي، خصوصًا وقد قتلتَ بطارقة أبي، وشاع أني قد تحزَّبْتُ مع المسلمين، فالرأي السديد أنني أترك الإقامة هنا ما دامت ذات الدواهي خلفي، ولكن أريد منك أن تفعل معي مثل ما فعلتُ معك من الجميل؛ فإن العداوة قد وقعت بيني وبين أبي، فلا تترك من كلامي شيئًا، فإن هذا كله ما وقع إلا من أجلك.

فلما سمع شركان هذا الكلام طار عقله من الفرح، واتسع صدره وانشرح، وقال: والله لا يصل إليك أحد ما دامت روحي في جسدي، ولكن هل لك صبر على فراق والدك وأهلك؟ قالت: نعم. فحلَّفها شركان وتعاهدَا على ذلك. فقالت: الآن طاب قلبي، ولكن بقي عليك شرط آخَر. فقال: وما هو؟ فقالت له: أنك ترجع بعسكرك إلى بلادك. فقال لها: يا سيدتي، إن أبي عمر النعمان أرسلني إلى قتال والدك بسبب المال الذي أخذه، ومن جملته الثلاث خرزات الكثيرة البركات. فقالت له: طِبْ نفسًا، وقَرَّ عينًا، فها أنا أحدِّثُكَ بحديثها، وأخبرك بسبب معاداتنا لملك القسطنطينية؛ وذلك أن لنا عيدًا يقال له عيد الدير، كل سنة تجتمع فيه الملوك من جميع الأقطار، وبنات الأكابر والتجار، ويقعدون فيه سبعة أيام، وأنا من جملتهم، فلما وقعت بيننا العداوة منعني أبي من حضور ذلك العيد مدةَ سبعِ سنين، فاتفق في سنة من السنين أن بنات الأكابر من سائر الجهات قد جاءت من أماكنها إلى الدير في ذلك العيد على العادة، من جملةِ مَن جاء إليه بنت ملك القسطنطينية، وكان يقال لها صفيَّة، فأقاموا في الدير ستة أيام، وفي اليوم السابع انصرفت الناس، فقالت صفية: أنا ما أرجع إلى القسطنطينية إلا في البحر، فجهزوا لها مركبًا فنزلت فيها هي وخواصها، فلما حلُّوا القلوع وساروا، فبينما هم سائرون وإذا بريح قد خرج عليهم، فأخرج المركب عن طريقها، وكان هناك بالقضاء والقدر مركب نصارى من جزيرة الكافور، وفيها خمسمائة إفرنجي، ومعهم العدة والسلاح، وكان لهم مدة في البحر، فلما لاح لهم قلع المركب التي فيها صفية ومَن معها من البنات، انقَضُّوا عليها مُسرِعين، فما كان غير ساعة حتى وصلوا إلى تلك المركب، ووضعوا فيها الكلاليب، وجرُّوها وحلوا قلوعهم، وقصدوا جزيرتهم، فما بعدوا غير قليل حتى انعكس عليهم الريح، فجذبهم إلى شعب بعد أن مزَّقَ قلوعَ مركبهم، وقرَّبَهم منَّا، فخرجنا فرأيناهم غنيمةً قد انساقَتْ إلينا، فأخذناهم وقتلناهم، واغتنمنا ما معهم من الأموال والتحف، وكان في مركبهم أربعون جارية، ومن جملتهم صفية بنت الملك، فأخذنا الجواري وقدَّمْناها إلى أبي، ونحن لا نعرف أن من جملتهن ابنة الملك أفريدون ملك القسطنطينية، فاختار أبي منهن عشر جوارٍ، وفيهن ابنة الملك، وفرَّقَ الباقي على حاشيته، ثم عزل خمسة فيهن ابنة الملك من العشر جوارٍ، وأرسل تلك الخمسة هدية إلى والدك عمر النعمان مع شيء من الجوخ، ومن قماش الصوف، ومن القماش الحرير الرومي، فقَبِل الهدية أبوك، واختار من الخمس جوارٍ صفية بنت الملك أفريدون، فلما كان أول هذا العام أرسل أبوها إلى والدي مكتوبًا فيه كلام لا ينبغي ذكره، وصار يهدِّده في ذلك المكتوب ويوبخه، ويقول له: إنكم أخذتم مركبنا من منذ سنتين، وكانت في يد جماعة لصوص من الإفرنج، ومن جملة ما فيها بنتي صفية، ومعها من الجواري نحو ستين جارية، ولم ترسلوا عليَّ أحدًا يخبرني بذلك، وأنا لا أقدر أن أُظهِر خبرها خوفًا أن يكون في حقي عار عند الملوك من أجل هتك ابنتي، فكتمت أمري إلى هذا العام، والذي بيَّن لي ذلك أني كاتبْتُ هؤلاء اللصوص، وسألتهم عن خبر ابنتي وأكَّدْتُ عليهم أن يفتِّشوا عليها ويخبروني عند أي ملك هي من ملوك الجزائر، فقالوا: واللهِ ما خرجنا بها من بلادك. ثم قال في المكتوب الذي كتبه لوالدي: إن لم يكن مرادكم معاداتي، ولا فضيحتي وهتك ابنتي، فساعة وصول كتابي إليكم ترسلوا إليَّ بنتي من عندكم، وإن أهملتم كتابي وعصيتم أمري، فلا بد أن أكافئكم على قبيح أفعالكم وسوء أعمالكم.

فلما وصلت هذه المكاتبة إلى أبي وقرأها، وفهم ما فيها، شقَّ عليه ذلك، وندم حيث لم يعرف أن صفية بنت الملك بين تلك الجواري ليردَّها إلى والدها، فصار متحيرًا في أمره، ولم يمكنه بعد هذه المدة المستطيلة أن يرسل إلى الملك عمر النعمان ويطلبها منه، وقد سمعنا من مدة يسيرة أنه رُزِق من جاريته التي يقال لها صفية بنت الملك أفريدون أولادًا، فلما تحقَّقنا ذلك علمنا أن هذه الورطة هي المصيبة العظمى، ولم يكن لأبي حيلة غير أنه كتب جوابًا للملك أفريدون يعتذر إليه فيه، ويحلف له بالأقسام أنه لم يعلم أن ابنته من جملة الجواري التي كانت في تلك المركب، ثم أظهره على أنه أرسَلَها إلى الملك عمر النعمان، وأنه رُزِق منها أولادًا. فلما وصلت رسالةُ أبي إلى أفريدون ملك القسطنطينية قام وقعد، وأرغى وأزبد، وقال: كيف تكون ابنتي مسبية بصفة الجواري، وتتداولها أيدي الملوك، ويطئونها بلا عقد؟ ثم قال: وحقِّ المسيح والدين الصحيح، إنه لا يمكنني أن أتقاعد عن هذا الأمر دون أن آخذ الثأر وأكشف العار، فلا بد أن أفعل فعلًا يتحدث به الناس من بعدي.

وما زال صابرًا إلى أن عمل الحيلة، ونصب مكائد عظيمة، وأرسل رسلًا إلى والدك عمر النعمان، وذكر له ما سمعت من الأقوال، حتى جهَّزَك والدك بالعساكر التي معك من أجلها، وصيَّرك إليه حتى يقبض عليك أنت ومَن معك من عساكرك. وأما الثلاث خرزات التي أخبر والدك بها في مكتوبه، فليس لذلك صحة، وإنما كانت مع صفية ابنته، وأخذها أبي منها حين استولى عليها هي والجواري التي معها، ثم وهبها لي وهي الآن عندي، فاذهب أنت إلى عسكرك ورُدَّهم قبل أن يتوغَّلوا في بلاد الإفرنج والروم؛ فإنكم إذا توغلتم في بلادهم يضيِّقون عليهم الطرق، ولم يكن لكم خلاص من أيديهم إلى يوم الجزاء والقصاص، وأنا أعرف أن الجيوش مُقِيمون في مكانهم؛ لأنك أمرتهم بالإقامة ثلاثة أيام مع أنهم فقدوك في هذه المدة، ولم يعلموا ماذا يفعلون.

فلما سمع شركان هذا الكلام صار مشغول الفكر بالأوهام، ثم إنه قبَّل يد الملكة إبريزة وقال: الحمد لله الذي مَنَّ عليَّ بك، وجعلك سببًا لسلامتي وسلامة مَن معي، ولكن يعزُّ عليَّ فراقك، ولا أعلم ما يجري عليك بعدي. فقالت له: اذهب أنت الآن إلى عسكرك ورُدَّهم، وإن كانت الرسل عندهم فاقبض عليهم حتى يظهر لكم الخبر وأنتم بالقرب من بلادكم، وبعد ثلاثة أيام أنا ألحقكم، وما تدخلون بغداد إلا وأنا معكم، فندخل كلنا سواء. فلما أراد الانصراف قالت له: لا تنسَ العهْدَ الذي بيني وبينك. ثم إنها نهضت قائمة معه لأجل التوديع والعناق، وإطفاء نار الأشواق، وبكت بكاءً يذيب الأحجار، وأرسلت الدموع كالأمطار، فلما رأى منها ذلك البكاء والدموع اشتدَّ به الوَجْد والولوع، ونزح في الوداع دمع العين، وأنشد هذين البيتين:

وَدَعَّتْهُا وَيَدِي الْيَمِينُ لِأَدْمُعِي        وَيَدِي الْيَسَارُ لِضَمَّةٍ وِعِنَاقِ

قَالَتْ أَمَا تَخْشَى الْفَضِيحَةَ قُلْتُ لَا        يَوْمُ الْوَدَاعِ فَضِيحَةُ الْعُشَّاقِ

ثم فارقها شركان ونزل من الدير، وقدموا له جواده، فركب وخرج متوجهًا إلى الجسر، فلما وصل إليه مَرَّ من فوقه، ودخل بين تلك الأشجار، فلما تخلَّص من الأشجار، ومشى في ذلك المرج، وإذا هو بثلاثة فوارس، فأخذ لنفسه الحذر منهم، وشهر سيفه وانحدر، فلما قربوا منه ونظر بعضهم بعضًا عرفوه وعرفهم، ووجد أحدهم الوزير دندان ومعه أميران، وعندما عرفوه ترجَّلوا له وسلَّموا عليه، وسأله الوزير دندان عن سبب غيابه، فأخبره بجميع ما جرى له مع الملكة إبريزة من أوله إلى آخِره، فحمد الله تعالى على ذلك، ثم قال شركان: ارحلوا بنا عن هذه البلاد؛ لأن الرسل الذين جاءوا معنا رحلوا من عندنا ليُعلِموا ملكهم بقدومنا، فربما أسرعوا إلينا وقبضوا علينا. ثم نادى شركان في عسكره بالرحيل فرحلوا، ولم يزالوا سائرين مُجِدِّينَ في السير حتى وصلوا إلى سطح الوادي، وكان الرسل قد توجَّهوا إلى ملكهم، وأخبروه بقدوم شركان، فجهَّزَ إليه عسكر ليقبضوا عليه، وعلى مَن معه.

هذا ما كان من أمر الرسل وملكهم، وأما ما كان من أمر شركان، فإنه سافر بعسكره مدة خمسة أيام ثم نزلوا في وادٍ كثير الأشجار واستراحوا فيه مدة، وبعد ذلك ساروا منه، ولم يزالوا سائرين مدة خمسة وعشرين يومًا حتى أشرفوا على أوائل بلادهم، فلما وصلوا إلى هناك أمنوا على أنفسهم، ونزلوا لأخذ الراحة، فخرج إليهم أهل تلك البلاد بالضيافات، وعليق البهائم، ثم أقاموا يومين ورحلوا طالبين ديارهم، وتأخَّرَ شركان بعدهم في مائة فارس، وجعل الوزير دندان أميرًا على مَن معه من الجيش، فسار الوزير دندان بمَن معه مسيرة يوم، ثم بعد ذلك ركب شركان هو والمائة فارس الذين معه، وساروا مقدار فرسخين حتى وصلوا إلى محل مضيق بين جبلين، وإذا أمامهم غبرة وعَجَاج، فمنعوا خيولهم من السير مقدار ساعة حتى انكشف الغبار، فبَانَ من تحته مائة فارس ليوث عوابس، وفي الحديد والزرد غواطس، فلما أن قربوا من شركان ومَن معه صاحوا عليهم وقالوا: وحقِّ يوحنا ومريم، إننا قد بلغنا ما أملناه، ونحن خلفكم مُجِدُّونَ السيرَ ليلًا ونهارًا حتى سبقناكم إلى هذا المكان، فانزلوا عن خيولكم، وأعطونا أسلحتكم وسلِّموا لنا أنفسكم حتى نجود عليكم بأرواحكم.

فلما سمع شركان ذلك الكلام لاجت عيناه، واحمرَّت وجنتاه، وقال لهم: يا كلاب النصارى، كيف تجاسرتم علينا، وجئتم بلادنا، ومشيتم في أرضنا؟! وما كفاكم ذلك حتى تخاطبونا بهذا الخطاب! أظننتم أنكم تخلصون من أيدينا، وتعودون إلى بلادكم؟ ثم صاح على المائة فارس الذين معه وقال لهم: دونكم وهؤلاء الكلاب، فإنهم في عددكم. ثم سلَّ سيفه وحمل عليهم، وحملت معه المائة فارس، فاستقبلتهم الإفرنج بقلوب أقوى من الصخر، واصطدمت الرجال بالرجال، ووقعت الأبطال في الأبطال، والتحم القتال، واشتد النزال، وعظمت الأهوال، وقد بطل القيل والقال، ولم يزالوا في الحرب والكفاح، والضرب بالصفاح إلى أن ولَّى النهار وأقبل الليل بالاعتكار، فانفصلوا عن بعضهم، واجتمع شركان بأصحابه، فلم يجد أحدًا منهم مجروحًا غير أربعة أنفس حصل لهم جراحات سليمة، فقال لهم شركان: أنا عمري أخوض بحر الحرب العجاج المتلاطم من السيوف بالأمواج، وأقاتل الرجال، فوالله ما لقيت أصبر على الجلاد وملاقاة الرجال مثل هؤلاء الأبطال. فقالوا له: اعلم أيها الملك أن فيهم فارسًا إفرنجيًّا وهو المقدَّم عليهم، له شجاعة وطعنات نافذات، غير أن كل مَن وقع منَّا بين يديه يتغافل عنه ولا يقتله، فوالله لو أراد قتلنا لَقتَلَنا بأجمعنا. فتحيَّرَ شركان لما سمع ذلك المقال، وقال: في غدٍ نصطفُّ ونبارِزهم، فها نحن مائة ونطلب النصر عليهم من رب السماء، وباتوا تلك الليلة على ذلك الاتفاق.

وأما الإفرنج فإنهم اجتمعوا عند مقدمهم، وقالوا له: إننا ما بلغنا اليومَ في هؤلاء إربًا. فقال لهم: في غدٍ نصطفُّ ونبارزهم واحدًا بعد واحد. فباتوا على الاتفاق أيضًا، فلما أصبح الصباح، وأضاء بنوره ولاح، وطلعت الشمس على رءوس الروابي والبطاح، وسلمت على محمد زين الملاح، ركب الملك شركان، وركب معه المائة فارس، وأتوا إلى الميدان كلهم، فوجدوا الإفرنج قد اصطفوا للقتال، فقال شركان لأصحابه: إن أعداءنا قد اصطفوا، فدونكم والمبادرة إليهم. فنادى منادٍ من الإفرنج: لا يكون قتالنا في هذا اليوم إلا مناوبة بأن يبرز بطل منكم إلى بطل منَّا. فعند ذلك برز فارس من أصحاب شركان، وساق بين الصفين وقال: هل من مبارز؟ هل من مناجز؟ لا يبرز لي اليومَ كسلان ولا عاجز. فلم يتم كلامه حتى برز إليه فارس من الإفرنج غريق في سلاحه، وقماشه من ذهب، وهو راكب على جواد أشهب، وذلك الإفرنجي لا نبات بعارضيه، فسار جواده حتى وقف في وسط الميدان، وصادمه بالضرب والطعان، فلم يكن غير ساعة حتى طعنه الإفرنجي بالرمح فنكسه عن جواده، وأخذه أسيرًا، وقاده حقيرًا، ففرح به قومه ومنعوه أن يخرج إلى الميدان، وأخرجوا غيره، وقد خرج إليه من المسلمين آخَر وهو أخو الأسير، ووقف معه في الميدان، وحمل الاثنان على بعضهما ساعةً يسيرةً، ثم كرَّ الإفرنجي على المسلم، وغالطه وطعنه بعقب الرمح فنكسه عن جواده، وأخذه أسيرًا، ولا زال يخرج إليهم من المسلمين واحدًا بعد واحد، والإفرنج يأسرونهم إلى أن ولَّى النهار وأقبل الليل بالاعتكار، وقد أسروا من المسلمين عشرين فارسًا، فلما عايَنَ شركان ذلك عظم عليه الأمر، فجمع أصحابه وقال لهم: ما هذا الأمر الذي حَلَّ بنا؟ أنا أخرج في غدٍ إلى الميدان، وأطلب مبارزة الإفرنجي المقدَّم عليهم، وأنظر ما الذي حمله على أن يدخل بلادنا، وأحذِّره من قتالنا، فإن أبى قاتلناه، وإن صالَحَنا صالَحْناه.

وباتوا على هذه الحال إلى أن أصبح الصباح، وأضاء بنوره ولاح، ثم ركب الطائفتان، واصطفَّ الفريقان، فلما خرج شركان إلى الميدان رأى الإفرنج قد ترجَّل منهم أكثر من نصفهم قدام فارس منهم، ومشوا قدامه إلى أن صاروا في وسط الميدان، فتأمل شركان ذلك الفارس، فرآه الفارس المقدم عليهم وهو لابس قباء من أطلس أزرق، ووجهه فيه كالبدر إذا أشرق، ومن فوقه زردية ضيقة العيون، وبيده سيف مهنَّد، وهو راكب على جواد أدهم في وجهه غُرَّة كالدرهم، وذلك الإفرنجي لا نبات بعارضيه، ثم إنه لكز جواده حتى صار في وسط الميدان، وأشار إلى المسلمين وهو يقول بلسان عربي فصيح: يا شركان، يا ابن عمر النعمان الذي ملك الحصون والبلدان، دونك والحرب والطعان، وابرز إلى مَن قد ناصَفَك في الميدان، فأنت سيد قومك، وأنا سيد قومي، فمَن غلب منا صاحبه أخذه هو وقومه تحت طاعته. فما أتمَّ كلامَه حتى برز له شركان وقلبه من الغيظ ملآن، وساق جواده حتى دنا من الإفرنجي في الميدان، فكَرَّ عليه الإفرنجي كالأسد الغضبان، وصدمه صدمة الفرسان، وأخذا في الطعن والضرب، وصارا في حومة الميدان كأنهما جبلان يصطدمان، أو بحران يلتطمان، ولم يزالا في قتال وحرب ونزال من أول النهار إلى أن أقبل الليل بالاعتكار، ثم انفصل كلٌّ منهما عن صاحبه، وعاد إلى قومه. فلما اجتمع شركان بأصحابه قال لهم: ما رأيت مثل هذا الفارس قطُّ، إلا أني رأيت منه خصلة لم أرها من أحد غيره، وهو أنه إذا لاح له في خصمه مضرب قاتل، يقلب الرمح ويضرب بعقبه، ولكن ما أدري ماذا يكون مني ومنه، ومرادي أن يكون في عسكرنا مثله ومثل أصحابه.

وبات شركان، فلما أصبح الصباح خرج له الإفرنجي، ونزل في وسط الميدان، وأقبل عليه شركان، ثم أخذا في القتال، وأوسعا في الحرب والمجال، وامتدت إليهما الأعناق، ولم يزالا في حرب وكفاح وطعن بالرماح إلى أن ولَّى النهار وأقبل الليل بالاعتكار، ثم افترقَا ورجعَا إلى قومهما، وصار كلٌّ منهما يحكي لأصحابه ما لاقاه من صاحبه، ثم إن الإفرنجي قال لأصحابه: في غدٍ يكون الانفصال. وباتوا تلك الليلة إلى الصباح، ثم ركب الاثنان، وحملَا على بعضهما، ولم يزالا في الحرب إلى نصف النهار، وبعد ذلك عمل الإفرنجي حيلةً، ولكز جواده، ثم جذبه باللجام، فعثر به ورماه فانكبَّ عليه شركان، وأراد أن يضربه بالسيف خوفًا أن يطول به المطال، فصاح به بالإفرنجي وقال: يا شركان، ما هكذا تكون الفرسان، إنما هو فعل المغلوب بالنسوان. فلما سمع شركان من ذلك الفارس هذا الكلام رفع طرفه إليه، وأمعن النظر فيه، فوجده الملكة إبريزة التي وقع له معها ما وقع في الدير، فلما عرفها رمى السيف من يده، وقبَّل الأرض بين يديها وقال لها: ما حملك على هذه الفعال؟ فقالت له: أردتُ أن أختبرك في الميدان، وأنظر ثباتك في الحرب والطعان، وهؤلاء الذين معي كلهم جوارٍ، وكلهن بنات أبكار، وقد قهرن فرسانك في الميدان، ولولا أن جوادي قد عثر بي لَكنتَ ترى قوتي وجلادي. فتبسَّمَ شركان من قولها، وقال لها: الحمد لله على السلامة، وعلى اجتماعي بك يا ملكة الزمان.

ثم إن الملكة إبريزة صاحت على جواريها وأمرتهن بالرحيل بعد أن يطلقن العشرين أسيرًا الذين كُنَّ أسرنهم من قوم شركان، فامتثلت الجواري أمرها، ثم قبَّلن الأرض بين يديها، فقال لهن: مثلكن مَن يكون عند الملوك مدَّخرًا للشدائد. ثم إنه أشار إلى أصحابه أن سلموا عليها؛ فترجلوا جميعًا وقبلوا الأرض بين يدي الملكة، ثم ركب المائتا فارس، وساروا في الليل والنهار مدةَ ستة أيام، وبعد ذلك أقبلوا على الديار، فأمر شركان الملكة إبريزة وجواريها أن ينزعن ما عليهن من لباس الإفرنج. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

 

 

 

السابق                                                                     التــــالي←

 

 


Read our comment Policy to know your rights & responsibilities before actually leaving a comment for this article.

Post a Comment (0)