kurd-partuk

الليالي من--(101← 150)

﴿اللیلة 101﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن شركان هنَّأ أخاه ضوء المكان بالسلامة، وشكره على أفعاله، ثم إنهم توجَّهوا مُجِدِّين المسيرَ طالبين عساكرهم. هذا ما كان من أمرهم، وأما ما كان من أمر العجوز ذات الدواهي، فإنها لما لاقَتْ عسكر بهرام ورستم عادت إلى الغابة، وأخذت جوادها وركبته، وأسرعت في سيرها حتى أشرفت على عسكر المسلمين المحاصِرين للقسطنطينية، ثم إنها نزلت وأخذت جوادها، وأتَتْ به إلى السرادق الذي فيه الحاجب، فلما رآها نهض لها قائمًا، وأشار إليها بالإيماء، وقال: مرحبًا بالعابد الزاهد. ثم سألها عمَّا جرى، فأخبرته بخبرها المرجف وبهتانها المتلف، وقالت: إني أخاف على الأمير رستم والأمير بهرام؛ لأني قد لاقيتهما مع عسكرهما في الطريق، وأرسلتهما إلى الملك ومَن معه، وكانَا في عشرين ألف فارس، والكفار أكثر منهم، وإني أردتُ في هذه الساعة أن ترسل جملةً من عسكرك حتى يلحقوهم بسرعة لئلا يهلكوا عن آخِرهم. وقالت لهم: العَجَل العَجَل.

فلما سمع الحاجب والمسلمون منها ذلك الكلام، انحلَّتْ عزائمهم وبكوا، فقالت لهم ذات الدواهي: استعينوا بالله واصبروا على هذه الرزية، فلكم أسوة بمَن سلف من الأمة المحمدية، فالجنة ذات القصور أعدَّها لمَن يموت شهيدًا، ولا بد من الموت لكل أحد، ولكنه في الجهاد أحمد. فلما سمع الحاجب كلام اللعينة ذات الدواهي دعا بأخي الأمير بهرام، وكان فارسًا يقال له تركاش، وانتخب له عشرة آلاف فارس أبطالًا عوابس، وأمره بالسير، فسار في ذلك اليوم وطول الليل حتى قرب من المسلمين، فلما أصبح الصباح رأى شركان ذلك الغبار فخاف على المسلمين، وقال: إن هذه عساكر مُقبِلة علينا، فإما أن يكونوا من عسكر المسلمين، فهذا هو النصر المبين، وإما أن يكونوا من عسكر الكفار فلا اعتراضَ على الأقدار. ثم إنه أتى إلى أخيه ضوء المكان، وقال له: لا تَخَفْ أبدًا، فإني أفديك بروحي من الردى، فإن كان هؤلاء من عسكر الإسلام فهذا مزيد الإنعام، وإن كان هؤلاء أعداءنا فلا بد من قتالهم، لكن أشتهي أن أقابل العابد قبل موتي؛ لأسأله أن يدعو لي ألَّا أموت إلا شهيدًا.

فبينما هم كذلك وإذا بالرايات قد لاحَتْ مكتوبًا عليها: لا إله إلا الله محمد رسول الله. فصاح شركان: كيف حال المسلمين؟ قالوا: بعافية وسلامة، وما أتينا إلا خوفًا عليكم. ثم ترجَّلَ رئيس العسكر عن جواده، وقبَّلَ الأرض بين يدَيْه، وقال: يا مولانا، كيف السلطان والوزير دندان، ورستم وأخي بهرام، أَمَا هم الجميع سالمون؟ فقال: بخير. ثم قال له: ومَن الذي أخبركم بخبرنا؟ قال: الزاهد، وقد ذكر أنه لقي أخي بهرام ورستم، وأرسلهما إليكم، وقال لنا إن الكفار قد أحاطوا بهم وهم كثيرون، وما أرى الأمر إلا بخلاف ذلك، وأنتم منصورون. فقالوا له: وكيف وصول الزاهد إليكم؟ فقالوا له: كان سائرًا على قدمَيْه، وقطع في يوم وليلة مسيرة عشرة أيام للفارس المُجِدِّ. فقال شركان: لا شك أنه ولي الله، وأين هو؟ قالوا له: تركناه عند عسكرنا أهل الإيمان يحرِّضهم على قتال أهل الكفر والطغيان. ففرح شركان بذلك، وحمد الله على سلامتهم وسلامة الزاهد، وترحَّموا على مَن قُتِل منهم، وقالوا: كان ذلك في الكتاب مسطورًا. ثم ساروا مُجِدِّين في سيرهم، فبينما هم كذلك وإذا بغبار قد طار حتى سدَّ الأقطار، وأظلم منه النهار، فنظر إليه شركان وقال: إني أخاف أن يكون الكفار قد كسروا عسكر الإسلام؛ لأن هذا الغبار سدَّ المشرقين، وملأ الخافقين. ثم لاح من تحت ذلك الغبار عمودٌ من الظلام أشد سوادًا من حالك الأيام، وما زالت تقرب منهم تلك الدعامة، وهي أشد من هول يوم القيامة، فتسارعت إليها الخيل والرجال لينظروا ما سبب سوء هذا الحال، فرأوا الزاهد المشار إليه، فازدحموا على تقبيل يدَيْه وهو ينادي: يا أمة خير الأنام، ومصباح الظلام، إن الكفار غدروا بالمسلمين، فأدرِكوا عساكرَ الموحدين، وأنقذوهم من أيدي الكفرة اللئام، فإنهم هجموا عليهم في الخيام، ونزل بهم العذاب المهين، وكانوا في مكانهم آمنين.

فلما سمع شركان ذلك الكلام طار قلبه من شدة الخفقان، وترجَّلَ عن جواده وهو حيران، ثم قبَّلَ يد الزاهد ورجلَيْه، وكذلك أخوه ضوء المكان، وبقية العسكر من الرجال والركبان، إلا الوزير دندان، فإنه لم يترجَّل عن جواده وقال: والله إن قلبي نافر من هذا الزاهد؛ لأني ما عرفت للمتنطِّعين في الدين غير المفاسد، فاتركوه وأدركوا أصحابكم المسلمين، فإن هذا من المطرودين عن باب رحمة رب العالمين، فكم غزوت مع الملك عمر النعمان، ودستُ أراضي هذا المكان. فقال له شركان: دَعْ هذا الظنَّ الفاسد، أَمَا نظرت إلى هذا العابد وهو يحرِّض المؤمنين على القتال، ولا يبالي بالسيوف والنبال؟ فلا تغتبه؛ لأن الغيبة مذمومة، ولحوم الصالحين مسمومة، وانظر إلى تحريضه لنا على قتال أعدائنا، ولولا أن الله تعالى يحبه ما طوى له البعيدَ بعدَ أن أوقَعَه سابقًا في العذاب الشديد. ثم إن شركان أمر أن يقدموا بغلةً نوبية إلى الزاهد ليركبها، وقال له: اركب أيها الزاهد الناسك العابد. فلم يقبل ذلك، وامتنع عن الركوب، وأظهَرَ الزُّهْدَ لينالَ المطلوب، وما دروا أن هذا الزاهد العاهر هو الذي قال في مثله الشاعر:

صَلَّى وَصَامَ لَأَمْرٍ كَانَ يَطْلُبُهُ        لَمَّا قَضَى الْأَمْرَ لَا صَلَّى وَلَا صَامَا

ثم إن ذلك الزاهد ما زال ماشيًا بين الخيل والرجال، كأنه الثعلب المحتال للاغتيال، وسار رافعًا صوته بتلاوة القرآن، وتسبيح الرحمن، وما زالوا سائرين حتى أشرفوا على عسكر الإسلام، فوجدهم شركان في حالة الانكسار، والحاجب قد أشرف على الهزيمة والفرار، والسيف يعمل بين الأبرار والفجَّار. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 102﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن شركان لما أدرك المسلمين وهم في حالة الانكسار، والحاجب قد أشرف على الهزيمة والفرار، والسيف يعمل بين الأبرار والفجَّار، وكان السبب في خذل المسلمين أن اللعينة ذات الدواهي عدوة الدين لما رأت بهرام ورستم قد سارَا بعسكرهما نحو شركان وأخيه ضوء المكان، سارت هي نحو عسكر المسلمين، وأنفذت الأميرَ تركاش كما تقدَّمَ ذكره، وقصْدُها بذلك أن تفرِّق بين عسكر المسلمين لأجل أن يضعفوا، ثم تركتهم وقصدت القسطنطينية، ونادت بطارقة الروم بأعلى صوتها وقالت: أدلوا حبلًا لأربط فيه هذا الكتاب، وأوصلوه إلى ملككم أفريدون ليقرأه هو وولدي ملك الروم، ويعملان بما فيه من أمره ونواهيه. فأَدْلَوْا لها حبلًا، فربطت فيه الكتاب، وكان مضمونه: «من عند الداهية العظمى والطامة الكبرى ذات الدواهي إلى الملك أفريدون. أما بعدُ؛ فإني دبَّرت لكم حيلةً على هلاك المسلمين، فكونوا مطمئنين، وقد أسرتهم وأسرت سلطانهم ووزيرهم، ثم توجَّهتُ إلى عسكرهم، وأخبرتُهم بذلك فانكسرَتْ شوكتهم، وضعفت قوتهم، وقد خدعت العسكرَ المحاصرين للقسطنطينية حتى أرسلتُ منهم اثني عشر ألف فارس مع الأمير تركاش خلاف المأسورين، وما بقي منهم إلا القليل؛ فالمراد منكم أنكم تخرجون إليهم بجميع عسكركم في بقية هذا النهار، وتهجمون عليهم في خيامهم، ولكنكم لا تخرجون إلا سواء، واقتلوهم عن آخِرهم، فإن المسيح قد نظر إليكم، والعذراء تعطفت عليكم، وأرجو من المسيح ألَّا ينسى فعلي الذي قد فعلته

فلما وصل كتابها إلى الملك أفريدون فرح فرحًا شديدًا، وأرسل في الحال إلى ملك الروم ابن ذات الدواهي وأحضره، وقرأ الكتاب عليه ففرح، وقال: انظر مكر أمي، فإنه يُغنِي عن السيوف، وطلعتها تنوب عن هول اليوم المخوف. فقال الملك أفريدون: لا عدِمَ المسيحُ طلعةَ أمك، ولا أخلاك من مكرك ولؤمك. ثم إنه أمر البطارقة أن ينادوا بالرحيل إلى خارج المدينة، وشاع الخبر في القسطنطينية، وخرجت عساكر النصرانية والعصابة الصليبية، وجرَّدوا السيوف الحِدَاد، وأعلنوا بكلمة الكفر والإلحاد، وكفروا برب العباد، فلما نظر الحاجب إلى ذلك، قال: إن الروم قد وصلوا إلينا، وقد علموا أن سلطاننا غائب، فربما هجموا علينا وأكثر عسكرنا قد توجَّهَ إلى الملك ضوء المكان. واغتاظ الحاجب ونادى: يا عسكر المسلمين، وحماة الدين المتين، إن هربتم هلكتم، وأن صبرتم نُصِرتم، فاعلموا أن الشجاعة صبر ساعة، وما ضاق أمر إلا أوجد الله اتساعه، بارَكَ الله فيكم، ونظر إليكم بعين الرحمة.

فعند ذلك كبَّرَ المسلمون، وصاحَ الموحِّدون، ودارَتْ رحى الحرب بالطعن والضرب، وعملت الصوارم والرماح، وملأ الدم الأودية والبطاح، وقسس القسوس والرهبان، وشدوا الزنانير ورفعوا الصلبان، وأعلن المسلمون بتكبير الملك الديَّان، وصاحوا بتلاوة القرآن، واصطدم حزب الرحمن بحزب الشيطان، وطارت الرءوس عن الأبدان، وطافت الملائكة الأخيار على أمة النبي المختار، ولم يزل السيف يعمل إلى أن ولَّى النهار وأقبل الليل بالاعتكار، وقد أحاط الكفار بالمسلمين، وحسبوا أن ينجوا من العذاب المهين، وطمع المشركون في أهل الإيمان إلى أن طلع الفجر وبان، فركب الحاجب هو وعسكره، ورجا أن الله ينصره، واختلطت الأمم بالأمم، وقامت الحرب على قدم وطارت القمم، وثبت الشجاع وتقدَّم، وولَّى الجبان وانهزم، وقضى قاضي الموت وحكم، حتى تطاوحت الأبطال عن السروج، وامتلأت بالأموات المروجُ، وتأخَّر المسلمون عن أماكنهم، وملك الروم بعض خيامهم ومساكنهم، وعزم المسلمون على الانكسار، والهزيمة والفرار.

فبينما هم كذلك، وإذا بقدوم شركان بعساكر المسلمين، ورايات الموحدين، فلما أقبل عليهم شركان حمل على الكفار وتبعه ضوء المكان، وحمل بعدهما الوزير دندان، وكذلك أمير الديلم بهرام، ورستم وأخوه تركاش، فإنهم لما رأوا ذلك طارت عقولهم، وغاب معقولهم، وثار الغبار حتى ملأ الأقطار، واجتمع المسلمون الأخيار بأصحابهم الأبرار، واجتمع شركان بالحاجب، فشكره على صبره، وهنَّأه بتأييده ونصره، وفرح المسلمون، وقويت قلوبهم، وحملوا على أعدائهم، وأخلصوا الله في جهادهم، فلما نظر الكفار إلى الرايات المحمدية، وعليها كلمة الإخلاص الإسلامية، صاحوا بالويل والثبور، واستغاثوا ببطارقة الديور، ونادوا حنا ومريم، والصليب المسخم، وانقبضت أيديهم عن القتال، وقد أقبل الملك أفريدون على ملك الروم، وصار أحدهما في الميمنة، والآخَر في الميسرة، وعندهم فارس مشهور يُسمَّى لاويا فوقف وسطًا، واصطفوا للنزال، وإن كانوا في فزع وزلزال، ثم صفَّ المسلمون عساكرهم، فعند ذلك أقبل شركان على أخيه ضوء المكان، وقال له: يا ملك الزمان، لا شكَّ أنهم يريدون البِراز، وهذا غاية مرادنا، ولكن أحِبُّ أن أقدِّم من العسكر مَن له عزم ثابت، فإن التدبير نصف المعيشة. فقال السلطان: ماذا تريد يا صاحب الرأي السديد؟ فقال شركان: أريد أن أكون في قلب عسكر الكفار، وأن يكون الوزير دندان في الميسرة، وأنت في الميمنة، والأمير بهرام في الجناح الأيمن، والأمير رستم في الجناح الأيسر، وأنت أيها الملك العظيم تكون تحت الأعلام والرايات؛ لأنك عمادنا، وعليك بعد الله اعتمادنا، ونحن كلنا نفديك من كل أمر يؤذيك. فشكره ضوء المكان على ذلك، وارتفع الصياح، وجُرِّدت الصفاح.

فبينما هم كذلك، وإذا بفارس قد ظهر من عسكر الروم، فلما قرب رأوه راكبًا على بغلة قطوف تفرُّ بصاحبها من وقع السيوف، وبرذعتها من أبيض الحرير، وعليها سجادة من شغل كشمير، وعلى ظهرها شيخ مليح الشيبة ظاهر الهيبة، عليه مدرعة من الصوف الأبيض، ولم يزل يُسرِع بها وينهض حتى قرب من عسكر المسلمين، وقال: إني رسول إليكم أجمعين، وما على الرسول إلا البلاغ، فأعطوني الأمانَ والإقالة حتى أبلغكم الرسالة. فقال له شركان: لك الأمان، فلا تخشَ حرب سيف، ولا طن سنان. فعند ذلك ترجَّلَ الشيخ، وقلع الصليب من عنقه بين يدَي السلطان، وخضع له خضوع راجي الإحسان، فقال له المسلمون: ما معك من الأخبار؟ فقال: إني رسول من عند الملك أفريدون، فإني نصحته ليمتنع عن تلف هذه الصور الإنسانية، والهياكل الرحمانية، وبيَّنْتُ له أن الصواب حقْنُ الدماء، والاقتصار على فارسين في الهيجاء، فأجابني إلى ذلك، وهو يقول لكم: إني فديتُ عسكري بروحي، فَلْيفعل ملك المسلمين مثلي ويفدي عسكره بروحه، فإن قتلني فلا يبقى لعسكر الكفار ثبات، وإن قتلته فلا يبقى لعسكر الإسلام ثبات.

فلما سمع شركان هذا الكلام قال: يا راهب، إنَّا أجبناه إلى ذلك، فإن هذا هو الإنصاف، فلا يكون منه خلاف، وها أنا أبرز إليه، وأحمل عليه، فإني فارس المسلمين، وهو فارس الكافرين، فإنْ قتلني فازَ بالظفر، ولا يبقى لعسكر المسلمين غير المفر، فارجع إليه أيها الراهب، وقل له إن البِراز يكون في غدٍ؛ لأننا أتينا من سفرنا على تعب في هذا اليوم، وبعد الراحة لا عتب ولا لوم. فرجع الراهب وهو مسرور، حتى وصل إلى الملك أفريدون وملك الروم، وأخبرهما بذلك؛ ففرح الملك أفريدون غاية الفرح، وزال عنه الهمُّ والترح، وقال في نفسه: لا شك أن شركان هذا هو أضربهم بالسيف، وأطعنهم بالسنان، فإذا قتلتُه انكسرت همتهم، وضعفت قوتهم. وقد كانت ذات الدواهي كاتبَتِ الملكَ أفريدون بذلك، وقالت له إن شركان هو فارس الشجعان، وشجاع الفرسان، وحذَّرت أفريدون من شركان، وكان أفريدون فارسًا عظيمًا؛ لأنه كان يقاتل كلَّ أنواع القتال، ويرمي بالحجارة والنبال، ويضرب بالعمود الحديد، ولا يخشى من البأس الشديد، فلما سمع قول الراهب من أن شركان أجاب إلى البِراز، كاد أن يطير من شدة الفرح؛ لأنه واثق بنفسه، ويعلم أنه لا طاقةَ لأحد به.

ثم بات الكفار تلك الليلة في فرح وسرور، وشرب خمور، فلما كان الصباح، أقبلت الفوارس بسمر الرماح، وبيض الصفاح، وإذا هم بفارس قد برز في الميدان وهو راكب على جواد من الخيل الجياد، مُعَدٍّ للحرب والجلاد، وله قوائم شداد، وعلى ذلك الفارس درعٌ من الحديد، مُعَدٌّ للبأس الشديد، وفي صدره مرآة من الجوهر، وفي يده صارم أبتر، وقنطارية خولنج من غريب عمل الإفرنج. ثم إن الفارس كشف عن وجهه وقال: مَن عرفني فقد اكتفاني، ومَن لم يعرفني فسوف يراني، أنا أفريدون المغمور ببركة شواهي ذات الدواهي. فما تمَّ كلامه حتى خرج في وجهه فارس المسلمين شركان وهو راكب على جواد أشقر، يساوي ألفًا من الذهب الأحمر، وعليه عدة مزركشة بالدر والجواهر، وهو متقلِّد بسيف هندي مجوهر، يقد الرقاب، ويهون الأمور الصعاب، ثم ساق جواده بين الصفين، والفرسان تنظره بالعين، ثم نادى أفريدون وقال له: ويلك يا ملعون، أتظنني كمَن لاقيتَ من الفرسان، ولا يثبت معك في حومة الميدان؟

ثم حمل كلٌّ منهما على صاحبه، فصار الاثنان كأنهما جبلان يصطدمان، أو بحران يلتطمان، ثم تقارَبَا وتباعَدَا، والتصَقَا وافترَقَا، ولم يزالَا في كرٍّ وفرٍّ، وهزلٍ وجدٍّ، وضرب وطعن، والجيشان ينظران إليهما، وبعضهم يقول: إن شركان غالب. والبعض يقول: إن أفريدون غالب. ولم يزل الفارسان على هذا الحال حتى بطل القيل والقال، وعلا الغبار وولَّى النهار، ومالت الشمس إلى الاصفرار، وصاح الملك أفريدون على شركان وقال له: وحق المسيح والاعتقاد الصحيح، ما أنت إلا فارس كرار، وبطل مغوار، غير أنك غدار، وطبعك ما هو طبع الأخيار؛ لأني أرى فعلك غير حميد، وقتالك قتال الصنديد، وقومك ينسبونك إلى العبيد، وها هم أخرجوا لك غير جوادك، وتعود إلى القتال، وإني وحق ديني قد أعياني قتالك، وأتعبني ضربك وطعانك، فإن كنتَ تريد قتالي في هذه الليلة فلا تغيِّر شيئًا من عدتك ولا جوادك؛ حتى يظهر للفرسان كرمك وقتالك.

فلما سمع شركان هذا الكلام اغتاظ من قول أصحابه في حقه، حيث ينسبونه إلى العبيد، فالتفَتَ إليهم شركان، وأراد أن يشير إليهم، ويأمرهم ألَّا يغيِّروا له جوادًا ولا عدة، وإذا بأفريدون هزَّ حربته، وأرسلها إلى شركان، فالتفت وراءه، فلم يجد أحدًا، فعلم أنها حيلة من الملعون، فردَّ وجهه بسرعة، وإذا بالحربة قد أدركته، فمال عنها حتى ساوى برأسه قربوص سرجه، فجرت الحربة على صدره، وكان شركان عالي الصدر، فكشطت الحربة جلدةَ صدره، فصاح صيحة واحدة، وغاب عن الدنيا؛ ففرح الملعون أفريدون بذلك، وعرف أنه قد قتله، فصاح على الكفار، ونادى بالفرح، فهاج أهل الطغيان وبكى أهل الإيمان، فلما رأى ضوء المكان أخاه مائلًا على الجواد حتى كاد أن يقع، أرسل نحوه الفرسان، فتسابقت إليه الأبطال وأتوا به إليه، وحمل الكفَّار على المسلمين، والتقى الجيشان، واختلط الصفان، وعمل اليماني، وكان أسبق الناس إلى شركان الوزير دندان. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 103﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك ضوء المكان لما رأى اللعين قد ضرب شركان بالحربة ظنَّ أنه مات، فأرسل إليه الفرسان، وكان أسبق الناس إليه الوزير دندان، وأمير الترك بهرام وأمير الديلم، فلحقوه وقد مال عن جواده فأسندوه، ورجعوا به إلى أخيه ضوء المكان، ثم أوصوا به الغلمان، وعادوا إلى الحرب والطعان، واشتدَّ النزال، وتقصفت النصال، وبطل القيل والقال، فلا يُرَى إلا دم سائل، وعنق مائل، ولم يزل السيف يعمل في الأعناق، واشتدَّ الشقاق إلى أن ذهب أكثر الليل، وكلَّتِ الطائفتان عن القتال، فنادوا بالانفصال، ورجعت كل طائفة إلى خيامها، وتوجَّهَ جميع الكفار إلى ملكهم أفريدون، وقبَّلوا الأرض بين يدَيْه، وهنَّأه القسوس والرهبان بظفره بشركان، ثم إن الملك أفريدون دخل القسطنطينية وجلس على كرسي مملكته، وأقبل عليه ملك الكفار وقال له: قوَّى المسيح ساعِدَك، ولا زال مساعِدَك، واستجاب من الأم الصالحة ذات الدواهي ما تدعو به لك، واعلم أن المسلمين ما بقي لهم إقامة بعد شركان. فقال أفريدون: في غدٍ يكون الانفصال إذا خرجت إلى النزال، وطلبت ضوء المكان وقتلته، فإن عسكرهم يولون الأدبار، ويركنون إلى الفرار.

هذا ما كان من أمر الكفار، وأما ما كان من عسكر الإسلام، فإن ضوء المكان لما رجع إلى الخيام لم يكن له شغل إلا بأخيه، فلما دخل عليه وجده في أسوأ الأحوال، وأشد الأهوال، فدعا بالوزير دندان، ورستم وبهرام للمشورة، فلما دخلوا عليه اقتضى رأيهم إحضار الحكماء لعلاج شركان، ثم بكوا وقالوا: لم يسمح بمثله الزمان. وسهروا عنده تلك الليلة، وفي آخِر الليل أقبل عليهم الزاهد وهو يبكي، فلما رآه ضوء المكان قام إليه فلمس بيده على أخيه، وتلا شيئًا من القرآن، وعوَّذه بآيات الرحمن، وما زال سهرانًا عنده إلى الصباح، فعند ذلك استفاق شركان، وفتح عينيه، وأدار لسانه في فمه وتكلم، ففرح السلطان ضوء المكان، وقال: قد حصلت له بركة الزاهد. فقال شركان: الحمد لله على العافية، فإنني بخير في هذه الساعة، وقد عمل عليَّ هذا الملعون حيلة، ولولا أني زغت أسرع من البرق لَكانت الحربة نفذت من صدري، فالحمد لله الذي نجَّاني، وكيف حال المسلمين؟ فقال له ضوء المكان: هم في بكاء من أجلك. فقال: إني بخير وعافية، وأين الزاهد؟ وهو عند رأسه قاعد، فقال له: عند رأسك. فالتفَتَ إليه وقبَّلَ يدَيْه، فقال الزاهد: يا ولدي، عليك بجميل الصبر يعظم الله لك الأجر، فإن الأجر على قدر المشقة. فقال شركان: ادعُ لي. فدعا له.

فلما أصبح الصباح، وبان الفجر ولاح، برز المسلمون إلى ميدان الحرب، وتهيَّأ الكفَّار للطعن والضرب، وتقدَّمت عساكر المسلمين فطلبوا الحربَ والكفاح، وجرَّدوا السلاح، وأراد الملك ضوء المكان وأفريدون أن يحملَا على بعضهما، وإذا بضوء المكان خرج إلى الميدان، وخرج معه الوزير دندان، والحاجب وبهرام، وقالوا لضوء المكان: نحن فداك. فقال لهم: وحقِّ البيت الحرام، وزمزم والمقام، لا أقعد عن الخروج، إلى هؤلاء العلوج. فلما صار في الميدان، لعب بالسيف والسنان، حتى أذهل الفرسان، وتعجَّبَ الفريقان، وحمل في الميمنة فقتل منها بطريقين، وفي الميسرة فقتل منها بطريقين، ووقف في وسط الميدان وقال: أين أفريدون حتى أذيقه عذابَ الهوان؟ فأراد الملعون أن يولي وهو مغبون، فأقسم عليه ضوء المكان ألَّا يبرح من الميدان، وقال له: يا ملك، بالأمس كان قتال أخي، واليوم قتالي، وأنا بشجاعتك لا أبالي. ثم خرج وبيده صارم، وتحته حصان كأنه عنتر في حومة الميدان، وذلك الحصان أدهم مغاير كما قال فيه الشاعر:

قَدْ سَابَقَ الطَّرْفَ بِطِرْفٍ سَابِقٍ        كَأَنَّهُ يُرِيدُ إِدْرَاكَ الْقَدَرْ

دُهْمَتُهُ تُبْدِي سَوَادًا حَالِكًا        كَأنَّهَا لَيْلٌ إِذَا اللَّيْلُ اعْتَكَرْ

صَهِيلُهُ يُطْرِبُ مَنْ يَسْمَعُهُ        كَأَنَّهُ الرَّعْدُ إِذَا الرَّعْدُ حَضَرْ

لَوْ سَابَقَ الرِّيحَ جَرَى مِنْ قَبْلِهَا        وَالْبَرْقُ لَا يَسْبِقُهُ إِذَا ظَهَرْ

ثم حمل كلٌّ منهما على صاحبه، واحترز من مضاربه، وأظهر ما في بطنه من عجائبه، وأخذَا في الكرِّ والفرِّ حتى ضاقت الصدور، وقلَّ الصبر للمقدور، وصاح ضوء المكان، وهجم على ملك القسطنطينية أفريدون، وضربه ضربةً أطاح به رأسَه، وقطع أنفاسَه، فلما نظرت الكفار إلى ذلك حملوا جميعًا عليه، وتوجَّهوا بكليتهم إليه، فقابَلَهم في حومة الميدان، واستمر الضرب والطعان، حتى سال الدم بالجريان، وضجَّ المسلمون بالتكبير والتهليل، والصلاة على البشير النذير، وقاتلوا قتالًا شديدًا، وأنزل الله النصر على المؤمنين، والخزي على الكافرين، وصاح الوزير دندان: خذوا بثأر الملك عمر النعمان، وثأر ولده شركان، وكشف برأسه وصاح للأتراك، وكان بجانبه أكثر من عشرين ألف فارس، فحملوا معه جملةً واحدة، فلم يجد الكفار لأنفسهم غير الفرار، وتولِّي الأدبار، وعمل فيهم الصارم البتَّار، فقتلوا منهم نحوَ خمسين ألف فارس، وأسروا ما يزيد على ذلك، وقُتِل عند دخول الباب خلقٌ كثير من شدة الزحام، ثم غلَّقوا الباب، وطلعوا فوق الأسوار خوفَ العذاب، وعادت طوائف المسلمين مؤيَّدين منصورين، وأتوا خيامهم، ودخل الملك ضوء المكان على أخيه فوجده في أسرِّ الأحوال؛ فسجد شكرًا للكريم المتعال، ثم أقبَلَ عليه وهنَّأه بالسلامة، فقال له شركان: إننا كلنا في بركة هذا الزاهد الأوَّاب، وما انتصرنا إلا بدعائه المستجاب، فإنه لم يزل اليومَ قاعدًا يدعو للمسلمين بالنصر. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 104﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك ضوء المكان لما دخل على أخيه شركان وجده جالسًا والعابد عنده، ففرح وأقبل عليه وهنَّأه بالسلامة، فقال شركان: إننا كلنا في بركة هذا الزاهد، وما انتصرتم إلا بدعائه، فإنه ما برح اليوم وهو يدعو للمسلمين، وكنت وجدت في نفسي قوة حين سمعت تكبيرَكم، فعلمت أنكم منصورون على أعدائكم، فاحكِ لي يا أخي ما وقع لك. فحكى له جميع ما وقع له مع الملعون أفريدون، وأخبره أنه قتله وراح إلى لعنة الله، فأثنى عليه وشكر مسعاه. فلما سمعت ذات الدواهي، وهي في صفة الزاهد، بقتل ولدها الملك أفريدون، انقلب لونها بالاصفرار، وتغرغرت عيناها بالدموع الغزار، ولكنها أخفَتْ ذلك، وأظهرت للمسلمين أنها فرحت، وأنها تبكي من شدة الفرح، ثم إنها قالت في نفسها: وحقِّ المسيح ما بقي في حياتي فائدة إنْ لم أحرق قلبه على أخيه شركان، كما أحرق قلبي على عماد الملة النصرانية، والعصابة الصليبية، الملك أفريدون. ولكنها كتمت ما بها، ثم إن الوزير دندان والملك شركان والحاجب استمروا جالسين عند شركان حتى عملوا له اللزق والأدهان، وأعطوه الدواء، فتوجَّهَتْ إليه العافية، وفرحوا بذلك فرحًا شديدًا، وأعلموا به العساكر فتباشَرَ المسلمون، وقالوا: في غدٍ يركب معنا، ويباشر الحصار. ثم إن شركان قال لهم: إنكم قاتلتم اليومَ وتعبتم من القتال، فينبغي أن تتوجَّهوا إلى أماكنكم وتناموا ولا تسهروا. فأجابوه إلى ذلك، وتوجَّهَ كلٌّ منهم إلى سرادقه، وما بقي عند شركان سوى قليل من الغلمان والعجوز ذات الدواهي، فتحدَّثَ معها قليلًا من الليل، ثم اضطجع لينام، وكذلك الغلمان، ثم غلب عليهم النومُ فصاروا مثل الأموات.

هذا ما كان من أمر شركان وغلمانه، وأما ما كان من أمر العجوز ذات الدواهي، فإنها بعد نومهم صارت يقظانة وحدها في الخيمة، ونظرت إلى شركان، فوجدته مستغرقًا في النوم، فوثبت على قدميها كأنها دبة معطاء، أو آفة غطاء، وأخرجت من وسطها خنجرًا مسمومًا لو وُضِع على صخرة لأذابها، ثم جرَّدته من غمده، وأتت عند رأس شركان وجرَّته على رقبته فذبحته، وأزالت رأسه عن جسده، ثم وثبت على قدمَيْها وأتَتْ إلى الغلمان النيام وقطعت رءوسهم لئلا يتنبهوا، ثم خرجت من الخيمة وأتت إلى خيام السلطان، فوجدت الحراس غير نائمين، فمالت إلى خيمة الوزير دندان، فوجدته يقرأ القرآن، فوقعت عينه عليها، فقال: مرحبًا بالزاهد العابد. فلما سمعت ذلك من الوزير ارتجف قلبها وقالت له: إن سبب مجيئي إلى هنا في هذا الوقت أني سمعت صوت ولي من أولياء الله، وأنا ذاهب إليه. ثم ولَّت، فقال الوزير دندان في نفسه: والله لأتبع هذا الزاهد في هذه الليلة. فقام ومشى خلفها، فلما أحَسَّتِ الملعونة بمشيه عرفت أنه وراءها؛ فخشيت أن تفتضح، وقالت في نفسها: إنْ لم أخدعه بحيلةٍ فإني أفتضِح معه. فأقبلت إليه من بعيد وقالت: أيها الوزير، إني سائر خلف هذا الولي لأعرفه، وبعد أن أعرفه أستأذنه في مجيئك إليه، وأقبل عليك وأخبرك، لأني أخاف أن تذهب معي بغير استئذان الولي، فيحصل له نفرة مني إذا رآك معي.

فلما سمع الوزير كلامها استحى أن يردَّ عليها جوابًا، فتركها ورجع إلى خيمته، وأراد أن ينام فما طاب له منام، وكادت الدنيا أن تنطبق عليه، فقام وخرج من خيمته، وقال في نفسه: أنا أمضي إلى شركان وأتحدَّث معه إلى الصباح. فسار إلى أن دخل خيمة شركان، فوجد الدم سائلًا منه كالقناة، ونظر الغلمان مذبوحين، فصاح صيحةً أزعجَتْ مَن كان نائمًا، فتسارع الخلق إليه، فرأوا الدم سائلًا فضجوا بالبكاء والنحيب، فعند ذلك استيقظ السلطان ضوء المكان، وسأل عن الخبر فقيل له: إن شركان أخاك والغلمان مقتولون. فقام مسرعًا إلى أن دخل الخيمة، فوجد الوزير دندان يصيح ووجد جثة أخيه بلا رأس، فغاب عن الدنيا، وصاح كل العساكر وبكوا وداروا حول ضوء المكان ساعةً حتى استفاق، ثم نظر إلى شركان وبكى بكاءً شديدًا، وفعل مثله الوزير ورستم وبهرام، وأما الحاجب فإنه صاح وأكثر من النواح، ثم طلب الارتحال لما به من الأوجال، فقال الملك: أَمَا علمتم بالذي فعل بأخي هذه الفعال؟ وما لي لا أرى الزاهد الذي عن متاع الدنيا متباعد؟ فقال الوزير: ومَن جلب هذه الأحزان إلا هذا الزاهد الشيطان؟ فوالله إن قلبي نفر منه في الأول والآخِر؛ لأنني أعرف أن كلَّ متنطع في الدين خبيث ماكر. ثم إن الناس ضجوا بالبكاء والنحيب، وتضرَّعوا إلى القريب المجيب، أن يوقع بين أيديهم ذلك الزاهد، الذي هو لآيات الله جاحد، ثم جهَّزوا شركان ودفنوه في الجبل المذكور، وحزنوا على فضله المشهور. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 105﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أنهم جهَّزوا شركان ودفنوه في الجبل المذكور، وحزنوا على فضله المشهور، ثم إن الملعونة لما فرغت من الداهية التي عملتها، والمخازي التي لنفسها أبدتها، أخذت دواة وقرطاسًا، وكتبت فيه: «من عند شواهي ذات الدواهي، إلى حضرة المسلمين، اعلموا أني دخلت بلادكم، وغششت بلؤمي كرامكم، وقتلت سابقًا ملككم عمر النعمان في وسط قصره، وقتلتُ أيضًا في وقعة الشعب والمغارة رجالًا كثيرين، وآخِر مَن قتلته بمكري ودهائي وغدري شركان وغلمانه، ولو ساعدني الزمان وطاوعني الشيطان كنتُ قتلتُ السلطان والوزير دندان، وأنا الذي أتيتُ إليكم في زيِّ الزاهد، وانطلَتْ عليكم مني الحيل والمكائد، فإنْ شئتم سلامتكم بعد ذلك فارحلوا، وإنْ شئتم هلاكَ أنفسكم فعن الإقامة لا تعدلوا، فلو أقمتم سنين وأعوامًا فما تبلغون منَّا مرامًا». وبعد أن كتبَتِ الكتابَ، أقامت حزنها على الملك أفريدون ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع دعَتْ بطريقًا وأمرَتْه أن يأخذ الورقة، ويضعها في سهم ويرميها إلى المسلمين، ثم دخلت الكنيسة وصارت تندب وتبكي على فقْدِ أفريدون، وقالت لمَن تسلطن بعده: لا بدَّ أن أقتل ضوء المكان، وجميع أمراء الإسلام.

هذا ما كان من أمرها، وأما ما كان من أمر المسلمين، فإنهم أقاموا ثلاثة أيام في همٍّ واغتمام، وفي اليوم الرابع نظروا إلى ناحية السور، وإذا ببطريق معه سهم نشاب، وفي طرفه كتاب، فصبروا عليه حتى رماه إليهم، فأمر السلطان الوزير دندان أن يقرأه، فلما قرأه وسمع ما فيه وعرف معناه، هملت بالدموع عيناه، وصاح وتضجَّرَ من مكرها، وقال الوزير: والله لقد كان قلبي نافرًا منها. فقال السلطان: وهذه العاهر، كيف عملت علينا الحيلة مرتين؟ ولكن والله لا أحول من هنا حتى أملأ فرجها بمسيح الرصاص، وأسكنها سجن الطير في الأقفاص، وبعد ذلك أصلبها من شعرها على باب القسطنطينية. ثم تذكَّرَ أخاه فبكى بكاءً شديدًا. ثم إن الكفار لما توجَّهت لهم ذات الدواهي وأخبرتهم بما حصل، فرحوا بقتل شركان وسلامة ذات الدواهي، ثم إن المسلمين رجعوا إلى باب القسطنطينية، ووعدهم السلطان أنه إنْ فتح المدينة فرَّق أموالها عليهم بالسوية، هذا والسلطان لم تنشف دموعه حزنًا على أخيه، وعرَا جسمَه الهزالُ حتى صار كالخلال، فدخل عليه الوزير دندان، وقال له: طِبْ نفسًا وقِرَّ عينًا، فإن أخاك ما مات إلا بأجَلِه، وليس في هذا الحزن فائدة، وما أحسن قول الشاعر:

مَا لَا يَكُونُ فَلَا يَكُونُ بِحِيلَةٍ        أَبَدًا وَمَا هُوَ كَائِنٌ سَيَكُونُ

سَيَكُونُ مَا هُوَ كَائِنٌ فِي وَقْتِهِ        وَأَخُو الْجَهَالَةِ دَائِمًا مَغْبُونُ

فَدَعِ البكاء والنواح، وقوِّ قلبك لحمل السلاح. فقال: يا وزير، إن قلبي مهموم من أجل موت أبي وأخي، ومن أجل غيابنا عن بلادنا، فإن خاطري مشغول برعيتي. فبكى الوزير هو والحاضرون، وما زالوا مقيمين على حصار القسطنطينية مدةً من الزمان، فبينما هم كذلك، وإذا بالأخبار وردت عليهم من بغداد صحبةَ أميرٍ من أمرائه، مضمونها: ((إن زوجة الملك ضوء المكان رُزِقت ولدًا وسمَّتْه «نزهةُ الزمان» أختُ الملك: «كان ما كان»، ولكن هذا الغلام سيكون له شأن بسبب ما رأوه له من العجائب والغرائب، وقد أمر العلماء والخطباء أن يدعوا لكم على المنابر، ودُبرَ كلِّ صلاة، وإننا طيبون بخير، والأمطار كثيرة، وإن صاحبك الوقَّاد في غاية النعمة الجزيلة، وعنده الخدم والغلمان، ولكنه إلى الآن لم يعلم بما جرى لك والسلام)). فقال ضوء المكان: الآن اشتدَّ ظهري؛ حيث رُزِقت ولدًا اسمه «كان ما كان». وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 106﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك ضوء المكان لما أتاه الخبر بأن زوجته ولدت ولدًا ذ كرًا، فرح فرحًا شديدًا وقال: الآن اشتدَّ ظهري؛ حيث رُزِقت ولدًا اسمه «كان ما كان»، ثم قال للوزير دندان: إني أريد أن أترك هذا الحزن، وأعمل لأخي ختمات وأمورًا من الخيرات. فقال الوزير: نِعْمَ ما أردتَ. ثم أمر بنصب الخيام على قبر أخيه فنصبوها، وجمعوا من العسكر مَن يقرأ القرآن، فصار بعضهم يقرأ وبعضهم يذكر الله إلى الصباح، ثم تقدَّم السلطان ضوء المكان إلى قبر أخيه شركان، وسكب العَبَرات وأنشد هذه الأبيات:

خَرَجُوا بِهِ وَلِكُلِّ بَاكٍ خَلْفَهُ        صَعِقَاتُ مُوسَى يَوْمَ دُكَّ الطُّورُ

حَتَّى أَتَوْا حَدَثًا كَأَنَّ ضَرِيحَهُ        فِي قَلْبِ كُلِّ مُوَحِّدٍ مَحْفُورُ

مَا كُنْتُ آمَلُ قَبْلَ نَعْشِكَ أَنْ أَرَى        رَضْوَى عَلَى أَيْدِي الرِّجَالِ تَسِيرُ

كَلَّا وَلَا مِنْ قَبْلِ دَفْنِكَ فِي الثَّرَى        أَنَّ الْكَوَاكِبَ فِي التُّرَابِ تَغُورُ

أَمُجَاوِرَ الدِّيمَاسِ رَهْنُ قَرَارَةٍ        فِيهَا الضِّيَاءُ بِوَجْهِهِ وَالنُّورُ

كَفَلَ الثَّنَاءُ لَهُ بِرَدِّ حَيَاتِهِ        لَمَّا انْطَوَى فَكَأَنَّهُ مَنْشُورُ

فلما فرغ ضوء المكان من شعره بكى وبكى معه جميع الناس، ثم أتى إلى القبرِ الوزيرُ دندان ورمى نفسه عليه وهو حائر وأنشد قول الشاعر:

تَرَكْتَ الَّذِي يَفْنَى وَنُلْتَ الَّذِي يَبْقَى        وَمِثْلُكَ أَقْوَامٌ فَقَدْ سَبَقُوا سَبْقَا

وَفَارَقْتَ هَذِي الدَّارَ مِنْ غَيْرِ رِيبَةٍ        فَفِي هَذِهِ الدُّنْيَا تُسَرُّ بِمَا تَلْقَى

وَكُنْتَ مِنَ الْأَعْدَاءِ تُبْدِي وِقَايَةً        إِذَا مَا سِهَامُ الْحَرْبِ حَاوَلَتِ الرَّشْقَا

أَرَى هَذِهِ الدُّنْيَا غُرُورًا وَبَاطِلًا        وَجُلُّ مُرَادِ الْخَلْقِ أَنْ يَطْلُبُوا الْحَقَّا

حَبَاكَ إِلَهُ الْعَرْشِ فَوْزًا بِجَنَّةٍ        وَأَسْكَنَكَ الْهَادِي بِهَا مَقْعَدًا صِدْقَا

وَإِنِّي قَدْ أَمْسَيْتُ فِيكَ بِحَسْرَةٍ        أَرَى الْغَرْبَ مَحْزُونًا بِفَقْدِكَ وَالشَّرْقَا

فلما فرغ الوزير دندان من شعره بكى بكاءً شديدًا، ونثرت عيونُه الدموعَ درًّا نضيدًا، ثم تقدَّم رجل كان من ندماء شركان، وبكى حتى حكت دموعه الخلجان، وذكر ما لشركان من المكرمات، وأنشد هذه الأبيات:

أَيْنَ الْعَطَاءُ وَكَفُّ جُودِكَ فِي الثَّرَى        وَالْجِسْمُ بَعْدَكَ بِالسِّقَامِ قَدِ انْبَرَى

يَا حَادِيَ الْأَظْعَانِ سَرَّكَ مَا تَرَى        كَتَبَتْ دُمُوعِي فَوْقَ خَدِّي أَسْطُرَا

تُعْنَى بِهَا وَتَلَذُّ مِنْهَا مَنْظَرَا        وَاللهِ مَا حَدَّثْتُ عَنْكَ ضَمَائِرِي

كَلَّا وَلَا خَطَرَ الْمصَابُ بِخَاطِرِي        إِلَّا وَقَدْ جَرَحَ الدُّمُوعُ مَحَاجِرِي

وَإِذَا صَرَفْتُ إِلَى سِوَاكَ نَوَاظِرِي        جَذَبَ الْغَرَامُ عِنَانَ طَرْفِي فِي الْكَرَى

فلما فرغ الرجل من شعره بكى ضوء المكان هو والوزير دندان، وضجَّ جميع العسكر بالبكاء، ثم إنهم انصرفوا إلى الخيام، وأقبل السلطان على الوزير دندان، وأخذَا يتشاوران في أمر القتال، واستمرَّا على ذلك أيامًا وليالي، وضوء المكان يتضجر من الهم والأحزان، ثم قال: إني أشتهي سماع أخبار الناس، وأحاديث الملوك، وحكايات المتيَّمِين؛ لعلَّ الله يفرج ما بقلبي من الهم الشديد، ويذهب عني البكاء والعديد. فقال الوزير: إنْ كان ما يفرج همَّك إلا سماع قصص الملوك من نوادر الأخبار، وحكايات المتقدمين من المتيَّمِين وغيرهم، فإن هذا أمر سهل؛ لأنني لم يكن لي شغل في حياة المرحوم والدك إلا بالحكايات والأشعار، وفي هذه الليلة أحدِّثك بخبر العاشق والمعشوق لأجل أن ينشرح صدرك. فلما سمع ضوء المكان كلامَ الوزير دندان، تعلَّقَ قلبه بما وعده به، ولم يبقَ له اشتغال إلا انتظار مجيء الليل لأجل أن يسمع ما يحكيه الوزير دندان من أخبار المتقدمين من الملوك والمتيَّمين، فما صدق أن الليل أقبل حتى أمر بإيقاد الشموع والقناديل، وإحضار ما يحتاجون إليه من الأكل والشرب وآلات البخور، فأحضروا له جميع ذلك، ثم أرسل إلى الوزير دندان فحضر، وأرسل إلى بهرام ورستم وتركاش والحاجب الكبير فحضروا، فلما حضروا جميعهم بين يديه التفت إلى الوزير دندان، وقال له: اعلم أيها الوزير أن الليل قد أقبل، وسدل جلابيبه علينا وأسبل، ونريد أن تحكي لنا ما وعدتَنا من الحكايات. فقال الوزير: حبًّا وكرامة. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 107﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك ضوء المكان لما حضر الوزير والحاجب ورستم وبهرام، التفت إلى الوزير دندان، وقال: اعلم أيها الوزير أن الليل قد أقبل، وسدل جلابيبه علينا وأسبل، ونريد أن تحكي لنا ما وعدتنا به من الحكايات. فقال الوزير: حبًّا وكرامة.

 

حكاية عزيز وعزيزة والملك سليمان

اعلم أيها الملك السعيد أنه بلغني من حكاية العاشق والمعشوق والمتكلم بينهما، وما جرى لهم من العجائب والغرائب، ما يزيل الهمَّ عن القلوب، ويسلي عن مثل حزن يعقوب، وهو أنه كان في سالف الزمان، مدينة وراء جبال أصبهان، يقال لها المدينة الخضراء، وكان بها ملك يقال له الملك سليمان، وكان صاحب جود وإحسان، وعدل وأمان، وفضل وامتنان، وسارت إليه الركبان من كل مكان، وشاع ذكره في سائر الأقطار والبلدان، وأقام في المملكة مدة مديدة من الزمان، وهو في عزٍّ وأمان، إلا أنه كان خاليًا من الأولاد والزوجات، وكان له وزير يقاربه في الصفات من الجود والهبات، فاتفق أنه أرسل إلى وزيره يومًا من الأيام وأحضَرَه بين يديه، وقال له: يا وزيري، إنه قد ضاق صدري، وعيل صبري، وضعف مني الجلد؛ لكوني بلا زوجة ولا ولد، وما هذا سبيل الملوك الحكَّام على كل أمير وصعلوك، فإنهم يفرحون بخلفة الأولاد، وتتضاعف لهم بهم العدد والأعداد، وقد قال النبي ﷺ: «تناكحوا تناسلوا؛ فإني مباهٍ بكم الأممَ يوم القيامة» فما عندك من الرأي يا وزير، فأَشِرْ عليَّ بما فيه النصح من التدبير.

فلما سمع الوزير ذلك الكلام فاضت الدموع من عينَيْه بالانسجام، وقال له: هيهات يا ملك الزمان أن أتكلم فيما هو من خصائص الرحمن، أتريد أن أدخل النار بسخط الملك الجبار؟ فقال له الملك: اعلم أيها الوزير أن الملك إذا اشترى جاريةً لا يعلم حَسَبها، ولا يعرف نَسَبها، فهو لا يدري خساسة أصلها حتى يجتنبها، ولا شرف عنصرها حتى يتسرى بها، فإذا أفضى إليها ربما حملت منه، فيجيء الولد منافِقًا ظالمًا سافكًا للدماء، ويكون مثلها مثل الأرض السبخة؛ إذا زُرِع فيها زرع فإنه يخبث نباته، ولا يحسن ثباته، ويكون ذلك الولد متعرِّضًا لسخط مولاه، ولا يفعل ما أمره به، ولا يجتنب ما عنه نهاه، فأنا لا أتسبَّب في هذا بشراء جارية أبدًا، وإنما مرادي أن تخطب لي بنتًا من بنات الملوك يكون نَسَبها معروفًا، وجمالها موصوفًا، فإن دللتني على ذات النَّسَب والدين من بنات ملوك المسلمين، فإني أخطبها وأتزوَّج بها على رءوس الأشهاد؛ ليحصل لي بذلك رضا رب العباد. فقال له الوزير: إن الله قضى حاجتك، وبلَّغك أمنيتك. فقال له: وكيف ذلك؟ فقال له: اعلم أيها الملك أنه بلغني أن الملك زهر شاه صاحب الأرض البيضاء، له بنت بارعة الجمال، يعجز عن وصفها القيل والقال، ولم يوجد لها في هذا الزمان مثيل لأنها في غاية الكمال، قويمة الاعتدال، ذات طرف كحيل، وشعر طويل، وخصر نحيل، وردف ثقيل، إن أقبلَتْ فتنَتْ، وإن أدبرت قتلت، تأخذ القلبَ والناظرَ، كما قال فيها الشاعر:

هَيْفَاءُ تُخْجِلُ غُصْنَ الْبَانِ قَامَتُهَا        لَمْ يَحْكِ طَلْعَتَهَا شَمْسٌ وَلَا قَمَرُ

كَأَنَّمَا رِيقُهَا شَهْدٌ وَقَدْ مُزِجَتْ        بِهِ الْمُدَامَةُ لَكِنْ ثَغْرُهَا دُرَرُ

مَمْشُوقَةُ الْقَدِّ مِنْ حُورِ الْجِنَانِ لَهَا        وَجْهٌ جَمِيلٌ وَفِي أَلْحَاظِهَا حَوَرُ

وَكَمْ لَهَا مِنْ قَتِيلٍ مَاتَ مِنْ كَمَدٍ        وَفِي طَرِيقِ هَوَاهَا الْخَوْفُ وَالْخَطَرُ

إِنْ عِشْتُ فَهْيَ الْمُنَى مَا شِئْتُ أَذْكُرُهَا        أَوْ مِتُّ مِنْ دُونِهَا لَمْ يُجْدِنِي الْعُمُرُ

فلما فرغ الوزير من وصف تلك الجارية، قال للملك سليمان شاه: الرأي عندي أيها الملك أن ترسل إلى أبيها رسولًا فَطِنًا خبيرًا بالأمور، مجرِّبًا لتصاريف الدهور، ليتلطف في خطبتها لك من أبيها؛ فإنها لا نظيرَ لها في قاصي الأرض ودانيها، وتحظى منها بالوجه الجميل، ويرضى عليك الرب الجليل؛ فقد ورد عن النبي ﷺ أنه قال: «لا رهبانية في الإسلام» فعند ذلك توجَّهَ إلى الملك كمالُ الفرح، واتسع صدره وانشرح، وزال عنه الهم والغم، ثم أقبل على الوزير وقال له: اعلم أيها الوزير أنه لا يتوجَّه إلى هذا الأمر إلا أنت؛ لكمال عقلك وأدبك، فقُمْ إلى منزلك واقضِ أشغالك، وتجهَّزْ في غدٍ واخطب لي هذه البنت التي أشغلتَ بها خاطري، ولا تعُدْ إليَّ إلا بها. فقال: سمعًا وطاعة.

ثم إن الوزير توجَّه إلى منزله، واستدعى الهدايا التي تصلح للملوك من ثمين الجواهر، ونفيس الذخائر، وغير ذلك مما هو خفيف في الحمل، وثقيل في الثمن، ومن الخيل العربية، والدروع الداودية، وصناديق المال التي يعجز عن وصفها المقال، ثم حملوها على البغال والجمال، وتوجَّهَ الوزير ومعه مائة مملوك، ومائة عبد، ومائة جارية، وانتشرت على رأسه الرايات والأعلام، وأوصاه الملك أن يأتي إليه في مدة قليلة من الأيام. وبعد توجُّهِه صار الملك سليمان شاه على مقالي النار، مشغولًا بحبها في الليل والنهار، وسار الوزير ليلًا ونهارًا، يطوي براري وقفارًا، حتى بقي بينه وبين المدينة التي هو متوجِّه إليها يوم واحد، ثم نزل على شاطئ نهر، وأحضر بعض خواصه، وأمره أن يتوجَّه إلى الملك زهر شاه بسرعة، ويخبره بقدومه عليه، فقال: سمعًا وطاعة. ثم توجَّهَ بسرعة إلى تلك المدينة، فلما قدِمَ عليها وافَقَ قدومه أن الملك زهر شاه كان جالسًا في بعض المنتزهات قدام باب المدينة، فرآه وهو داخل، وعرف أنه غريب، فأمر بإحضاره بين يديه، فلما حضر الرسول أخبره بقدوم وزير الملك الأعظم سليمان شاه صاحب الأرض الخضراء وجبال أصفهان؛ ففرح الملك زهر شاه، ورحَّبَ بالرسول، وأخذه وتوجَّهَ إلى قصره وقال: أين فارقْتَ الوزير؟ فقال: فارقتُه في أول النهار على شاطئ النهر الفلاني، وفي غد يكون واصلًا إليك، وقادمًا عليك، أدام الله نعمته عليك، ورحِمَ والديك. فأمر زهر شاه بعضَ وزرائه أن يأخذ معظم خواصه وحجابه ونوَّابه وأرباب دولته، ويخرج بهم إلى مقابلته تعظيمًا للملك سليمان شاه؛ لأن حكمه نافذ في الأرض.

هذا ما كان من أمر الملك زهر شاه، وأما ما كان من أمر الوزير، فإنه استقر في مكانه إلى نصف الليل، ثم رحَلَ متوجِّهًا إلى المدينة، فلما لاحَ الصباح، وأشرقت الشمس على الروابي والبطاح، لم يشعر إلا ووزير الملك زهر شاه وحجَّابه وأرباب دولته، وخواص مملكته، قدموا عليه واجتمعوا به على فراسخ من المدينة، فأيقن الوزير بقضاء حاجته، وسلَّمَ على الذين قابلوه، ولم يزالوا سائرين قدامه حتى وصلوا إلى قصر الملك، ودخلوا بين يديه في باب القصر إلى سابع دهليز، وهو المكان الذي لا يدخله الراكب؛ لأنه قريب من الملك، فترجَّلَ الوزير، وسعى على قدمَيْه حتى وصل إلى إيوانٍ عالٍ، وفي صدر ذلك الإيوان سرير من المرمر، مرصَّع بالدر والجوهر، وله أربعة قوائم من أنياب الفيل، وعلى ذلك السرير مرتبة من الأطلس الأخضر مطرزة بالذهب الأحمر، ومن فوقها سرادق مرصَّع بالدر والجوهر، والملك زهر شاه جالس على ذلك السرير، وأرباب دولته واقفون في خدمته. فلما دخل الوزير عليه وصار بين يديه، ثبت جنانه، وأطلق لسانه، وأبدى فصاحةَ الوزراء، وتكلَّمَ بكلام البلغاء. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

 

﴿اللیلة 108﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن وزير الملك سليمان شاه لما دخل على الملك زهر شاه، ثبت جنانه، وأطلق لسانه، وأبدى فصاحةَ الوزراء، وتكلَّمَ بكلام البلغاء، وأشار إلى الملك بلطف التفات، وأنشد هذه الأبيات:

وَافَى وَأَقْبَلَ فِي الْغَلَائِلِ يَنْثَنِي        يُولِي النَّدَى لِلْمُجْتَنَى وَالْمُجْتَنِي

وَرَقَى فَمَا تُغْنِي التَّمَائِمُ وَالرُّقَى        وَالسِّحْرُ مِنْ لَحَظَاتِ تِلْكَ الْأَعْيُنِ

قُلْ لِلْعَوَاذِلِ لَا تَلُومُوا إِنَّنِي        طُوْلَ الْمَدَى عَنْ حُبِّهِ لَا أَنْثَنِي

حَتَّى فُؤَادِي خَانَنِي وَوَفَى لَهُ        وَكَذَا الرُّقَادُ صَبَا إِلَيْهِ وَمَلَّنِي

يَا قَلْبُ أَمْسَيْتَ وَحْدَكَ رَأْفَةً        فَامْكُثْ لَدَيْهِ وَإِنْ تَكُنْ أَوْحَشْتَنِي

لَا شَيْءَ يَطْرِبُ مَسْمَعِي بِسَمَاعِهِ        إِلَّا الثَّنَاءُ لِزَهْرِ شَاهٍ أَجْتَنِي

مَلِكٌ إِذَا أَنْفَقْتَ عُمْرَكَ كُلَّهُ        فِي نَظْرَةٍ مِنْ وَجْهِهِ أَنْتَ الْغَنِي

وَإِذَا انْتَخَبْتَ لَهُ دُعَاءً صَالِحًا        لَمْ تَلْقَ غَيْرَ مُشَارِكٍ أَوْ مُؤْمِنِ

يَا أَهْلَ ذَا الْمَلِكِ الَّذِي مَنْ فَاتَهُ        وَرَجَا سِوَاهُ فَلَمْ يَكُنْ بِالْمُؤْمِنِ

فلما فرغ الوزير من هذا النظام، قرَّبَه الملك زهر شاه وأكرمه غاية الإكرام، وأجلسه بجانبه وتبسَّمَ في وجهه وشرَّفه بلطيف الكلام، ولم يزالوا على ذلك إلى وقت الصباح، ثم قدَّموا السماط في ذلك الإيوان، فأكلوا جميعًا حتى اكتفوا، ثم رفعوا السماط، وخرج كلُّ مَن في المجلس ولم يبقَ إلا الخواص. فلما رأى الوزير خلو المكان نهض قائمًا على قدمَيْه، وأثنى على الملك، وقبَّلَ الأرض بين يدَيْه، ثم قال: أيها الملك الكبير والسيد الخطير، إني سعيت إليك، وقَدِمْتُ عليك في أمر لك فيه الصلاح، والخير والفلاح، وهو أني قد أتيتك رسولًا خاطبًا، وفي بنتك الحسيبة النسيبة راغبًا، من عند الملك سليمان شاه صاحب العدل والأمان، والفضل والإحسان، ملك الأرض الخضراء وجبال أصفهان، وقد أرسل إليك الهدايا الكثيرة، والتحف الغزيرة، وهو في مصاهرتك راغب، فهل أنت له كذلك طالب؟ ثم إنه سكت ينتظر الجواب، فلما سمع الملك زهر شاه ذلك الكلام، نهض قائمًا على الأقدام، ولثم الأرض باحتشام؛ فتعجَّبَ الحاضرون من خضوع الملك للرسول، واندهشت منهم العقول، ثم إن الملك أثنى على ذي الجلال والإكرام، وقال وهو في حالة القيام: أيها الوزير المعظَّم، والسيد المكرَّم، اسمع ما أقول: إننا للملك سليمان شاه من جملة رعاياه، ونتشرَّف بنَسَبه وننافس فيه، وابنتي جارية من جملة جواريه، وهذا أجلُّ مرادي، ليكون ذخري واعتمادي. ثم إنه أحضر القضاة والشهود، وشهدوا أن الملك سليمان شاه وكَّلَ وزيره في الزواج، وتولَّى الملك زهر شاه عقد بنته بابتهاج.

ثم إن القضاة أحكموا عقد النكاح، ودعوا لهما بالفوز والنجاح، فعند ذلك قام الوزير وأحضر ما جاء به من الهدايا، ونفائس التحف والعطايا، وقدَّم الجميعَ للملك زهر شاه، ثم إن الملك أخذ في تجهيز ابنته وإكرام الوزير، وعمَّ بولائمه العظيمَ والحقيرَ، واستمرَّ في إقامة الفرح مدة شهرين، ولم يترك فيه شيئًا مما يسرُّ القلب والعين، ولما تمَّ ما تحتاج إليه العروسة، أمر الملك بإخراج الخيام فضُرِبت بظاهر المدينة، وعبئوا القماش في الصناديق، وهيَّئوا الجواري الروميات، والوصائف التركيات، وأصحب العروسة بنفيس الذخائر، وثمين الجواهر، ثم صنع لها محفة من الذهب الأحمر، مرصَّعة بالدر والجوهر، وأفرد لها عشر بغال للمسير، وصارت تلك المحفة كأنها مقصورة من المقاصير، وصاحبتها كأنها حورية من الحور الحسان، وخدرها كقصر من قصور الجنان، ثم رزموا الذخائر والأموال، وحملوها على البغال والجمال، وتوجَّهَ الملك زهر شاه معهم قدر ثلاثة فراسخ، ثم ودَّعَ ابنته، وودَّع الوزير ومَن معه، ورجع إلى الأوطان في فرح وأمان، وتوجَّهَ الوزير بابنة الملك وسار، ولم يَزَلْ يطوي المراحل والقفار. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 109﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير توجَّهَ بابنة الملك وسار، ولم يَزَلْ يطوي المراحل والقفار، ويجدُّ السير في الليل والنهار، حتى بقي بينه وبين بلاده ثلاثة أيام، ثم أرسل إلى الملك سليمان شاه مَن يخبره بقدوم العروسة، فأسرع الرسول بالسير حتى وصل إلى الملك وأخبره بقدوم العروسة؛ ففرح الملك سليمان شاه وخلع على الرسول، وأمر عساكره أن يخرجوا في موكب عظيم إلى ملاقاة العروسة ومَن معها بالتكريم، وأن يكونوا في أحسن البهجات، وأن ينشروا على رءوسهم الرايات؛ فامتثلوا أمره، ونادى منادٍ في المدينة أنه لا تبقى بنت مخدرة، ولا حرَّة موقَّرة، ولا عجوز مكسَّرة، إلا وتخرج إلى لقاء العروسة؛ فخرجوا جميعًا إلى لقائها، وسعى كبراؤهم في خدمتها، واتفقوا على أن يتوجَّهوا بها في الليل إلى قصر الملك، واتفق أرباب الدولة على أن يزيِّنوا الطريق، وأن يقفوا حتى تمرَّ بهم العروسة، والخدام قدامها، والجواري بين يديها، وعليها الخلعة التي أعطاها لها أبوها. فلما أقبلت أحاط بها العسكر ذات اليمين وذات الشمال، ولم تَزَل المحفة سائرة بها إلى أن قربت من القصر، ولم يبقَ أحد إلا وقد خرج ليتفرَّج عليها، وصارت الطبول ضاربة، والرماح لاعبة، والبوقات صائحة، وروائح الطيب فائحة، والرايات خافقة، والخيل متسابقة، حتى وصلوا إلى باب القصر، وتقدَّمت الغلمان بالمحفة إلى باب القصر، فأضاء المكان ببهجتها، وأشرقت جهاته بحلي زينتها.

فلما أقبَلَ الليل فتح الخدام أبواب السرادق، ووقفوا وهم محتاطون بالباب، ثم جاءت العروسة وهي بين الجواري كالقمر بين النجوم، أو الدرة الفريدة بين اللؤلؤ المنظوم، ثم دخلت المقصورة وقد نصبوا لها سريرًا من المرمر، مرصَّعًا بالدر والجوهر، فجلست عليه، ودخل عليها الملك، وأوقع الله محبتها في قلبه، فأزال بكارتها، وزال ما كان عنده من القلق والقهر، وأقام عندها نحو شهر، فعلقت منه من أول ليلة، وبعد تمام الشهر خرج وجلس على سرير مملكته، وعدل في رعيته إلى أن وفت أشهرها، وفي آخِر ليلة من الشهر التاسع جاءها المخاض عند السَّحَر، فجلست على كرسي الطلق وهوَّنَ الله عليها الولادة، فوضعت غلامًا ذكرًا تلوح عليه علامات السعادة، فلما سمع الملك بالولد فرح فرحًا جليلًا، وأعطى المبشِّر مالًا جزيلًا، ومن فرحته توجَّهَ إلى الغلام، وقبَّلَه بين عينَيْه، وتعجَّبَ من جماله الباهر، وتحقَّقَ فيه قول الشاعر:

اللهُ أَهْدَى لِلرِّئَاسَةِ كَوْكَبَا        فَالدَّهْرُ بِالْأَبْطَالِ مَا يَوْمًا نَبَا

هَشَّتْ لِمَطْلَعِهِ الْأَسِنَّةُ وَالْأَسِرَّةُ        وَالْمَحَافِلُ وَالْجَحَافِلُ وَالظُّبَى

لَا تُرْكِبُوهُ عَلَى النُّهُودِ فَإِنَّهُ        لَيَرَى ظُهُورَ الْخَيْلِ أَوْطَأَ مَرْكِبَا

وَلْتَفْطِمُوهُ عَنِ الرِّضَاعِ فَإِنَّهُ        لَيَرَى دَمَ الْأَعْدَاءِ أَحْلَى مَشْرَبَا

ثم إن الدايات أخذن ذلك المولود، وقطعن سرَّته وكحَّلْنَ مقلته، ثم سمَّوه تاج الملوك خاران، وارتضع ثدي الدلال، وتربَّى في حجر الإقبال، ولا زالت الأيام تجري والأعوام تمضي، حتى صار له من العمر سبع سنين، فعند ذلك أحضر الملك سليمان شاه العلماءَ والحكماء، وأمرهم أن يعلِّموا ولدَه الخطَّ والحكمة والأدب، فمكثوا على ذلك مدة سنين حتى تعلَّمَ ما يحتاج إليه الأمر، فلمَّا عرف جميع ما طلبه الملك، أحضره من عند الفقهاء والمعلِّمين، وأحضر له أستاذًا يعلِّمه الفروسية، فلم يَزَلْ يعلِّمه حتى صار له من العمر أربع عشرة سنة، وكان إذا خرج إلى بعض أشغاله يفتتن به كل مَن رآه. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 110﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن تاج الملوك خاران ابن الملك سليمان شاه لما مهر في الفروسية وفاق أهل زمانه، صار من فرط جماله إذا خرج إلى بعض أشغاله، يفتتن به كلُّ مَن رآه حتى نظموا فيه الأشعار، وتهتكت في محبته الأحرار؛ لما حوى من الجمال الباهر، كما قال فيه الشاعر:

عَانَقْتُهُ فَسَكِرْتُ مِنْ طِيبِ الشَّذَا        غُصْنًا رَطِيبًا بِالنَّسِيمِ قَدِ اغْتَذَى

سَكْرَانُ مَا شَرِبَ الْمُدَامَ وَإِنَّمَا        أَمْسَى بِخَمْرِ رُضَابِهِ مُتَنَبِّذَا

أَضْحَى الْجَمَالُ بِأَسْرِهِ فِي أَسْرِهِ        فَلِأَجْلِ ذَاكَ عَلَى الْقُلُوبِ اسْتَحْوَذَا

وَاللهِ مَا خَطَرَ السُّلُوُّ بِخَاطِرِي        مَا دُمْتُ فِي قَيْدِ الْحَيَاةِ وَلَا إِذَا

إِنْ عِشْتُ عِشْتُ عَلَى هَوَاهُ وَإِنْ أَمُتْ        وَجْدًا بِهِ وَصَبَابَةً يَا حَبَّذَا

فلما بلغ من العمر ثمانية عشر عامًا، دبَّ عذاره الأخضر على شامة خده الأحمر، وزانهما خالٍ كنقطة عنبر، وصار يسبي العقول والنواظر، كما قال فيه الشاعر:

أَضْحَى لِيُوسُفَ فِي الْجَمَالِ خَلِيفَةً        يَخْشَاهُ كُلُّ الْعَاشِقِينَ إِذَا بَدَا

عَرِّجْ مَعِي وَانْظُرْ إِلَيْهِ لَكَيْ تَرَى        فِي خَدِّهِ عَلَمَ الْخِلَافَةِ أَسْوَدَا

وكما قال الآخَر:

مَا أَبْصَرَتْ عَيْنَاكَ أَحْسَنَ مَنْظَرًا        فِيمَا يُرَى مِنْ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ

كَالشَّامَةِ الْخَضْرَاءِ فَوْقَ الْوَجْنَةِ        الـْـحَمْرَاءِ تَحْتَ الْمُقْلَةِ السَّوْدَاءِ

وكما قال الآخَر:

عَجِبْتُ لِخَالٍ يَعْبُدُ النَّارَ دَائِمًا        بِخَدِّكَ لَمْ يُحْرَقْ بِهَا وَهْوَ كَافِرُ

وَأَعْجَبُ مِنْ ذَا أَنَّ بِاللَّحْظِ مُرْسَلًا        يُصَدِّقُ بِالْآيَاتِ وَهْوَ لَسَاحِرُ

وَمَا اخْضَرَّ ذَاكَ الْخَدُّ نَبْتًا وَإِنَّمَا        لِكَثْرَةِ مَا شُقَّتْ عَلَيْهِ الْمَرَائِرُ

وكما قال الآخَر:

إِنِّي لَأَعْجَبُ مِنْ سُؤَالِ النَّاسِ عَنْ        مَاءِ الْحَيَاةِ بِأَيِّ أَرْضٍ مُنْهَمِرْ

وَلَقَدْ أَرَاهُ بِثَغْرِ ظَبْيٍ أَغْيَدٍ        حُلْوِ اللَّمَى وَعَلَيْهِ شَارِبُهُ الْخَضِرْ

وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنَّ مُوسَى يَلْتَقِي        مَعَهُ هُنَالِكَ سَائِلًا لَمْ يَصْطَبِرْ

فلما صار بتلك الحالة وبلغ مبلغ الرجال زاد به الجمال، ثم صار لتاج الملوك خاران أصحاب وأحباب، وكل مَن تقرَّب إليه يرجو أن يصير سلطانًا بعد موت أبيه، وأنه يكون عنده أميرًا. ثم إنه تعلَّقَ بالصيد والقنص، وصار لم يفتر عنه ساعة واحدة، وكان والده الملك سليمان شاه ينهاه عن ذلك؛ مخافةً عليه من آفات البر والوحوش، فلم يقبل منه ذلك، اتفق أنه قال لخدَّامه: خذوا معكم عليق عشرة أيام. فامتثلوا ما أمرهم به، فلما خرج بأتباعه للصيد والقنص ساروا في البر، ولم يزالوا سائرين أربعة أيام حتى أشرفوا على أرضٍ خضراء، فرأوا فيها وحوشًا راتعة، وأشجارًا يانعة، وعيونًا نابعة، فقال تاج الملوك لأتباعه: انصبوا الحبائل هنا، وأوسعوا دائرة حلقتها، ويكون اجتماعنا عند رأس الحلقة في المكان الفلاني. فامتثلوا أمره، ونصبوا الحبائل، وأوسعوا دائرة حلقتها، فاجتمع فيها شيء كثير من أصناف الوحوش والغزلان، إلى أن ضجت منهم الوحوش، وتنافرت في وجوه الخيل؛ فأغرى عليها الكلاب والفهود والصقور، ثم ضربوا الوحوش بالنشاب، فأصابوا مقاتل الوحوش، وما وصلوا إلى آخِر الحلقة إلا وقد أخذوا من الوحوش شيئًا كثيرًا، وهرب الباقي. وبعد ذلك نزل تاج الملوك على الماء، وأحضر الصيد وقسَّمه، وأفرد لأبيه سليمان شاه خاص الوحوش، وأرسله إليه، وفرَّق البعض على أرباب دولته، وبات تلك الليلة في ذلك المكان.

فلما أصبح الصباح أقبلت عليهم قافلة كبيرة مشتملة على عبيد وغلمان وتجار، فنزلت تلك القافلة على الماء والخضرة، فلما رآهم تاج الملوك قال لبعض أصحابه: ائتني بخبر هؤلاء، واسألهم لأي شيء نزلوا في هذا المكان؟ فلما توجَّهَ إليهم الرسول قال لهم: أخبرونا مَن أنتم، وأسرعوا في رد الجواب. فقالوا له: نحن تجار، ونزلنا هنا لأجل الراحة؛ لأن المنزل بعيد علينا، وقد نزلنا في هذا المكان؛ لأننا مطمئنون بالملك سليمان شاه وولده، ونعلم أن كل مَن نزل عنده صار في أمان واطمئنان، ومعنا قماش نفيس جئنا به من أجل ولده تاج الملوك. فرجع الرسول إلى ابن الملك، وأعلمه بحقيقة الحال، وأخبره بما سمعه من التجار، فقال ابن الملك: إذا كان معهم شيء جاءوا به من أجلي، فما أدخل المدينة ولا أرحل من هذا المكان حتى أستعرضه. ثم ركب جواده وسار، وسارت مماليكه خلفه إلى أن أشرف على القافلة، فقام له التجار، ودعوا له بالنصر والإقبال، ودوام العز والأفضال، وقد ضُرِبت له خيمة من الأطلس الأحمر، مزركشة بالدر والجوهر، وفرشوا له مقعدًا سلطانيًّا فوق بساط من الحرير، وصدره مزركش بالزمرد؛ فجلس تاج الملوك، ووقف المماليك في خدمته، وأرسل إلى التجار وأمرهم أن يحضروا بجميع ما معهم، فأقبل عليه التجار ببضائعهم، فاستعرض جميعَ بضاعتهم، وأخذ منها ما يصلح له ووفى لهم بالثمن، ثم ركب وأراد أن يسير، فلاحَتْ منه التفاتة إلى القافلة، فرأى شابًّا جميل الشباب، نظيف الثياب، ظريف المعاني، بجبين أزهر، ووجه أقمر، إلا أن ذلك الشاب قد تغيَّرت محاسنه، وعلاه الاصفرار من فرقة الأحباب. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 111﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن تاج الملوك لاحَتْ منه التفاتة إلى القافلة، فرأى شابًّا جميل الشباب، نظيف الثياب، ظريف المعاني، إلا أن ذلك الشاب قد تغيَّرت محاسنه، وعلاه الاصفرار من فرقة الأحباب، وزاد به الأنين والانتحاب، وسالت من جفنَيْه العَبَرات، وهو ينشد هذه الأبيات:

طَالَ الْفِرَاقُ وَدَامَ الْهَمُّ وَالْوَجَلُ        وَالدَّمْعُ فِي مُقْلَتِي يَا صَاحِ مُنْهَمِلُ

وَالْقَلْبُ وَدَّعْتُهُ يَوْمَ الْفِرَاقِ وَقَدْ        بَقِيتُ فَرْدًا فَلَا قَلْبٌ وَلَا أَمَلُ

يَا صَاحِبِي قِفْ مَعِي حَتَّى أُوَدِّعَ مَنْ        مِنْ نُطْقِهَا تُشْتَفَى الْأَمْرَاضُ وَالْعِلَلُ

ثم إن الشاب بعدما فرغ من الشعر بكى ساعة وغُشِي عليه، وتاج الملوك ناظر إليه وهو يتعجَّب من أمره، فلما أفاق رنا بفاتك اللحظات، وأنشد هذه الأبيات:

خُذُوا حِذْرَكُمْ مِنْ طَرْفِهَا فَهْوَ سَاحِرُ        وَلَيْسَ بِنَاجٍ مَنْ رَمَتْهُ الْمَحَاجِرُ

فَإِنَّ الْعُيُونَ السُّودَ وَهْيَ نَوَاعِسُ        تَقُدُّ السُّيُوفَ الْبِيضَ وَهْيَ بَوَاتِرُ

وَلَا تَخْضَعُوا مِنْ رِقَّةٍ فِي كَلَامِهَا        فَإِنَّ الْحُمَيَّا لِلْعُقُولِ تُخَامِرُ

مُنَعَّمَةُ الْأَطْرَافِ لَوْ مَسَّ جِسْمَهَا        حِرِيرٌ لَأَدْمَاهُ وَهَا أَنْتَ نَاظِرُ

بَعِيدَةُ مَا بَيْنَ الْمُجَلْجَلِ وَالطُّلَا        وَأَيْنَ الشَّذَا مِنْ طِيبِهَا وَهْوَ عَاطِرُ

ثم شهق شهقة فغُشِي عليه، فلما رآه تاج الملوك على هذه الحالة تحيَّرَ في أمره وتمشَّى إليه، فلما أفاق من غشيته نظرَ ابنَ الملك واقفًا على رأسه، فنهض قائمًا على قدمَيْه، وقبَّلَ الأرض بين يدَيْه، فقال له تاج الملوك: لأي شيء لم تعرض بضاعتك علينا؟ فقال: يا مولاي، إن بضاعتي ليس فيها شيء يصلح لسعادتك. فقال: لا بد أن تعرض عليَّ ما معك، وتخبرني بحالك؛ فإني أراك باكي العين حزين القلب، فإن كنت مظلومًا أزَلْنَا ظلامتك، وإن كنتَ مديونًا قضينا دَيْنك، فإن قلبي قد احترق من أجلك حين رأيتك. ثم إن تاج الملوك أمر بنصب كرسيين، فنصبوا له كرسيًّا من العاج والأبنوس مشبكًا بالذهب والحرير، وبسطوا له بساطًا من الحرير، فجلس تاج الملوك على الكرسي، وأمر الشاب أن يجلس على البساط، وقال له: اعرِضْ عليَّ بضاعتك. فقال له الشاب: يا مولاي، لا تذكر لي ذلك؛ فإن بضاعتي ليست بمناسبة لك. فقال له تاج الملوك: لا بد من ذلك. ثم أمر بعض غلمانه بإحضارها فأحضروها قهرًا عنه، فلما رآها الشاب جرَتْ دموعه وبكى، وأنَّ واشتكى، وصعَّدَ الزفرات، وأنشد هذه الأبيات:

بِمَا بِجَفْنِكِ مِنْ غُنْجٍ وَمِنْ كُحْلٍ        وَمَا بِقَدِّكِ مِنْ لِينٍ وَمِنْ مَيْلِ

وَمَا بِثَغْرِكِ مِنْ خَمْرٍ وَمِنْ شَهْدٍ        وَمَا بِطَبْعِكِ مِنْ لُطْفٍ وَمِنْ مَلَلِ

عِنْدِي زِيَارَةُ طَيْفٍ مِنْكِ يَا أَمَلِي        أَحْلَى مِنَ الْأَمْنِ عِنْدَ الْخَائِفِ الْوَجِلِ

ثم إن الشاب فتح بضاعته وعرضها على تاج الملوك قطعة قطعة وتفصيلة تفصيلة، وأخرج من جملتها ثوبًا من الأطلس منسوجًا بالذهب يساوي ألفَيْ دينار، فلما فتح الثوب وقعت من وسطه خرقة، فأخذها الشاب بسرعة ووضعها تحت وركه، وقد ذهل عن المعقول، وأنشد يقول:

مَتَى يَشْتَفِي مِنْكَ الْفُؤَادُ الْمُعَذَّبُ        وَنَجْمُ الثُّرَيَّا مِنْ وِصَالِكَ أَقْرَبُ

بِعَادٌ وَهَجْرٌ وَاشْتِيَاقٌ وَلَوْعَةٌ        وَمَطْلٌ وَتَسْوِيفٌ بِهِ الْعُمْرُ يَذْهَبُ

فَلَا الْوَصْلُ يُحْيِينِي وَلَا الْهَجْرُ قَاتِلِي        وَلَا الْبُعْدُ يُدْنِينِي وَلَا أَنْتَ تَقْرُبُ

وَمَا مِنْكَ إِنْصَافٌ وَلَا لَكَ رَحْمَةٌ        وَلَا مِنْكَ إِسْعَافٌ وَلَا عَنْكَ مَهْرَبُ

وَفِي حُبِّكُمْ ضَاقَتْ جَمِيعُ مَذَاهِبِي        عَلَيَّ فَلَا أَدْرِي إِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ

فتعجَّب تاج الملوك من إنشاده غاية العجب، ولم يعلم لذلك من سبب، ولما أخذ الخرقة ووضعها تحت وركه، قال له تاج الملوك: ما هذه الخرقة? فقال: يا مولاي، ليس لكَ بهذه الخرقة حاجة. فقال له ابن الملك: أَرِني إياها. قال له: يا مولاي، أنا ما امتنعت من عرض بضاعتي عليك إلا لأجلها، فإني لا أقدر على أنك تنظر إليها. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 112﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك: أنا ما امتنعت من عرض بضاعتي عليك إلا لأجلها، فإني لا أقدر على أنك تنظر إليها. فقال له تاج الملوك: لا بدَّ من كوني أنظر إليها. وألحَّ عليه واغتاظ، فأخرجها من تحت ركبته وبكى، وأنَّ واشتكى، وأكثر من الأنَّات، وأنشد هذه الأبيات:

لَا تَعْذُلِيهِ فَإِنَّ الْعَذْلَ يُوجِعُهُ        قَدْ قُلْتُ حَقًّا وَلَكِنْ لَيْسَ يَسْمَعُهُ

أَسْتَوْدِعُ اللهَ فِي الْبَطْحَاءِ لِي قَمَرًا        بِالْحَيِّ مِنْ فَلَكِ الْأَزْرَارِ مَطْلَعُهُ

وَدَّعْتُهُ وَبِوُدِّي لَوْ يُوَدِّعُنِي        صَفْوَ الْحَيَاةِ وَإِنِّي لَا أُوَدِّعُهُ

وَكَمْ تَشَفَّعَ بِي يَوْمَ الْفِرَاقِ ضُحًى        وَأَدْمُعِي مُسْتَهِلَّاتٌ وَأَدْمُعُهُ

لَا أُكْذِبُ اللهَ ثَوْبُ الْعُذْرِ مُنْخَرِقٌ        عَنِّي بِفُرْقَتِهِ لَكِنْ أُرَقِّعُهُ

لَا يَسْتَقِرُّ لِجَنْبِي مَضْجَعٌ وَكَذَا        لَا يَسْتَقِرُّ لَهُ مُذْ بِنْتُ مَضْجَعُهُ

وَقَدْ سَعَى الدَّهْرُ فِيمَا بَيْنَنَا بِيَدٍ        عَسْرَاءَ تَمْنَعُنِي حَظِّي وَتَمْنَعُهُ

وَصَبَّتِ الْهَمَّ صِرْفًا عِنْدَمَا مَلَأَتْ        كَأْسًا تَجَرَّعَ مِنْهَا مَا أُجَرِّعُهُ

فلما فرغ من شعره، قال له تاج الملوك: أرى أحوالك غير مستقيمة، فأخبرني ما سبب بكائك عند نظرك إلى هذه الخرقة? فلما سمع الشاب ذِكْر الخرقة تنهَّد وقال: يا مولاي، إن حديثي عجيب وأمري غريب، مع هذه الخرقة وصاحبتها وصاحبة هذه الصورة والتماثيل. ثم نشر الخرقة وإذا فيها صورة غزال مرقومة بالحرير، مزركشة بالذهب الأحمر، وقبالها صورة غزال آخَر وهي مرقومة بالفضة، وفي رقبته طوق من الذهب الأحمر، وثلاث قصبات من الزبرجد، فلما نظر تاج الملوك إليه وإلى حُسْن صنعته قال: سبحان الله الذي علَّمَ الإنسانَ ما لم يعلم. وتعلَّق قلب تاج الملوك بحديث هذا الشاب، فقال له: احكِ لي قصتك مع صاحبة هذا الغزال.

 

حكاية الشاب عزيز

فقال الشاب: اعلم يا مولاي أن أبي كان من التجار الكبار، ولم يُرزَق ولدًا غيري، وكان لي بنت عمٍّ تربيت أنا وهي في بيت أبي؛ لأن أباها مات، وكان قبل موته تعاهَدَ هو وأبي على أن يزوِّجاني بها، فلما بلغت مبلغ الرجال، وبلغت هي مبلغ النساء، لم يحجبوها عني ولم يحجبوني عنها، ثم تحدَّث والدي مع أمي وقال لها: في هذه السنة نكتب كتاب عزيز على عزيزة، واتفق مع أمي على هذا الأمر، ثم شرع أبي في تجهيز مؤن الولائم، هذا كله وأنا وبنت عمي ننام مع بعضنا في فراش واحد، ولم ندرِ كيف الحال، وكانت هي أشعر مني وأعرف وأدرى، فلما جهَّزَ أبي أدواتِ الفرح ولم يبقَ غير كتب الكتاب والدخول على بنت عمي، أراد أبي أن يكتبوا الكتاب بعد صلاة الجمعة، ثم توجَّهَ إلى أصحابه من التجار وغيرهم وأعلمهم بذلك، ومضت أمي وعزمت صواحبها من النساء ودعت أقاربها. فلما جاء يوم الجمعة غسلوا القاعة المُعَدَّة للجلوس، وغسلوا رخامها، وفرشوا في دارنا البُسُط، ووضعوا فيها ما يحتاج إليه الأمر بعد أن زوَّقوا حيطانها بالقماش المقصَّب، واتفق الناس أن يجيئوا بيتنا بعد صلاة الجمعة. ثم مضى أبي وعمل الحلويات وأطباق السكر، وما بقي غير كتب الكتاب، وقد أرسلتني أمي إلى الحمام، وأرسلت خلفي بدلة جديدة من أفخر الثياب، فلما خرجتُ من الحمام لبست تلك البدلة الفاخرة، وكانت مطيَّبَة، فلما لبستها فاحَتْ منها رائحة ذكية عبقت في الطريق، ثم أردتُ أن أذهب إلى الجامع، فتذكَّرْتُ صاحبًا لي، فرجعت أفتِّش عليه ليحضر كتب الكتاب، وقلت في نفسي: أشتغل بهذا الأمر إلى أن يقرب وقت الصلاة.

ثم إني دخلت زقاقًا ما دخلته قطُّ، وكنت عرقان من أثر الحمام والقماش الجديد الذي على جسدي، فساح عرقي وفاحت روائحي، فقعدت في رأس الزقاق لأرتاح على مصطبة، وفرشت تحتي منديلًا مطرَّزًا كان معي، فاشتدَّ عليَّ الحر فعرق جبيني، وصار العرق ينحدر على وجهي، ولم يمكنني مسح العرق عن وجهي بالمنديل لأنه مفروش تحتي، فأردتُ أن آخذ ذيل فرجيتي وأمسح به وجنتي، فما أدري إلا ومنديل أبيض وقع عليَّ من فوق، وكان ذلك المنديل أرقَّ من النسيم، ورؤيته ألطف من شفاء السقيم، فمسكته بيدي، ورفعت رأسي إلى فوق لأنظر من أين سقط هذا المنديل، فوقعت عيني في عين صاحبة هذا الغزال. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 113﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك: فرفعت رأسي إلى فوق لأنظر من أين سقط هذا المنديل، فوقعت عيني في عين صاحبة هذا الغزال، وإذا بها مطلة من طاقة من شبَّاك من نحاس لم تَرَ عيني أجمل منها، وبالجملة يعجز عن وصفها لساني، فلما رأتني نظرتُ إليها وضعَتْ إصبعها في فمها، ثم أخذت إصبعها الوسطاني وألصقته بإصبعها الشاهد، ووضعتهما على صدرها بين نهدَيْها، ثم أدخلت رأسها من الطاقة، وسدَّت باب الطاقة وانصرفت، فانطلقَتْ في قلبي النار، وزاد بي الاستعار، وأعقبتني النظرةُ ألفَ حسرة، وتحيَّرت لأني لم أسمع ما قالت، ولم أفهم ما به أشارت، فنظرت إلى الطاقة ثانيًا فوجدتها مطبوقة، فصبرت إلى مغيب الشمس، فلم أسمع حسًّا ولم أَرَ شخصًا، فلمَّا يئست من رؤيتها قمت من مكاني، وأخذت المنديل معي، ثم فتحته ففاحت منه رائحة المسك، حصل لي من تلك الرائحة طرب عظيم، حتى صرت كأنني في الجنة، ثم نشرته بين يديَّ، فسقطت منه ورقة لطيفة، ففتحت الورقة فرأيتها مضمَّخةً بالروائح الذكيات، ومكتوبًا فيها هذه الأبيات:

بَعَثْتُ إِلَيْهُ أَشْكُو مِنْ أَلَمِ الْجَوَى        بِخَطٍّ رَقِيقٍ وَالْخُطُوطُ فُنُونُ

فَقَالَ: خَلِيلِي مَا لِخَطِّكَ هَكَذَا        رَقِيقًا دَقِيقًا لَا يَكَادُ يَبِينُ

فَقَلْتُ: لِأَنِّي فِي نُحُولٍ وَدِقَّةٍ        كَذَاكَ خُطُوطُ الْعَاشِقِينَ تَكُونُ

ثم بعد أن قرأت الأبيات، أطلقت في بهجة المنديل نظر العين، فرأيتُ في إحدى حاشيتيه تسطير هذين البيتين:

كَتَبَ الْعِذَارُ وَيَا لَهُ مِنْ كَاتِبٍ        سَطْرَيْنِ فيِ خَدَّيْهِ بِالرَّيْحَانِ

وَا حِيرَةَ الْقَمَرَيْنِ مِنْهُ إِذَا بَدَا        وَإِذَا انْثَنَى وَا خَجْلَةَ الْأَغْصَانِ

ومسطَّر في الحاشية الأخرى هذان البيتان:

كَتَبَ الْعِذَارُ بِعَنْبَرٍ فِي لُؤْلُؤٍ        سَطْرَيْنِ مِنْ سَبجٍ عَلَى تُفَّاحِ

الْقَتْلُ فِي الْحَدَقِ الْمِرَاضِ إِذَا رَنَتْ        وَالسُّكْرُ فِي الْوَجَنَاتِ لَا فِي الرَّاحِ

فلما رأيت ما على المنديل من الأشعار، انطلق في فؤادي لهيب النار، وزادت بي الأشواق والأفكار، وأخذت المنديل والورقة، وأتيت بهما إلى البيت وأنا لا أدري لي حيلة في الوصال، ولا أستطيع في العشق تفصيل الإجمال، فما وصلت إلى البيت إلا بعد مدة من الليل، فرأيت بنت عمي جالسة تبكي، فلما رأتني مسحت دموعها وأقبلَتْ عليَّ وقلعتني الثياب، وسألتني عن سبب غيابي، وأخبرتني أن جميع الناس من أمراء وكبراء وتجار وغيرهم قد اجتمعوا في بيتنا، وحضر القاضي والشهود، وأكلوا الطعام واستمروا مدة جالسين ينتظرون حضوري من أجل كتب الكتاب، فلما يئسوا من حضوري تفرَّقوا، وذهبوا إلى حال سبيلهم، وقالت لي: إن أباك اغتاظ بسبب ذلك غيظًا شديدًا، وحلف أنه لا يكتب كتابنا إلا في السنة المقبلة؛ لأنه غرم في هذا الفرح مالًا كثيرًا. ثم قالت لي: ما الذي جرى لك في هذا اليوم حتى تأخرت إلى هذا الوقت، وحصل ما حصل بسبب غيابك؟ فقلت لها جرى لي كذا وكذا، وذكرت لها المنديل، وأخبرتها بالخبر من أوله إلى آخره، فأخذَتِ الورقةَ والمنديل، وقرأت ما فيهما، وجرت دموعها على خدودها، وأنشدت هذه الأبيات:

مَنْ قَالَ أَوَّلُ الْهَوَى اخْتِيَارُ        فَقُلْ كَذَبْتَ كُلُّهُ اضْطِرَارُ

وَلَيْسَ بَعْدَ الِاضْطِرَارِ عَارُ        دَلَّتْ عَلَى صِحَّتِهِ أَخْبَارُ

مَا زُيِّفَتْ عَلَى صَحِيحِ النَّقْدِ

فَإِنْ تَشَأْ فَقُلْ عَذَابٌ يَعْذُبُ        أَوْ ضَرْبَانِ فِي الْحَشَى أَوْ ضَرْبُ

أَوْ نِعْمَةٌ أَوْ نِقْمَةٌ أَوْ أَرَبُ        تَأْنَسُ النَّفْسُ بِهِ أَوْ تُعْطَبُ

قَدْ حِرْتُ بَيْنَ عَكْسِهِ وَالطَّرْدِ

وَمَعَ ذَا أَيَّامُهُ مَوَاسِمُ        وَثَغْرُهَا عَلَى الدَّوَامِ بِاسِمُ

وَنَفَحَاتُ طِيبِهَا مَوَاسِمُ        وَهْوَ لِكُلِّ مَا يَشِينُ حَاسِمُ

مَا حَلَّ قَطُّ قَلْبَ نَذْلٍ وَغْدِ

ثم إنها قالت لي: فما قالَتْ لك وما أشارَتْ به إليك؟ فقلت لها: ما نطقَتْ بشيء غير أنها وضعت إصبعها في فمها، ثم قرنتها بالإصبع الوسطى، وجعلت الإصبعين على صدرها، وأشارت إلى الأرض، ثم أدخلَتْ رأسها وأغلقت الطاقة، ولم أَرَها بعد ذلك، فأخذت قلبي معها، فقعدت إلى غياب الشمس أنتظر أنها تطل من الطاقة ثانيًا، فلم تفعل، فلما يئست منها قمت من ذلك المكان، وهذه قصتي وأشتهي منك أن تعينيني على ما بُلِيت به. فرفعت رأسها إليَّ وقالت: يابن عمي، لو طلبتَ عيني لأخرجتُها لك من جفوني، ولا بد أن أساعدك على حاجتك، وأساعدها على حاجتها؛ فإنها مغرمة بك كما إنك مغرم بها. فقلت لها: وما تفسير ما أشارَتْ به؟ قالت: أما وضع إصبعها في فمها، فإنه إشارة إلى أنك عندها بمنزلة روحها من جسدها، وإنما تعضُّ على وصالك بالنواجذ، وأما المنديل فإنه إشارة إلى سلام المحبين على المحبوبين، وأما الورقة فإنها إشارة إلى أن روحها متعلقة بك، وأما وضع إصبعَيْها على صدرها بين نهدَيْها، فتفسيره أنها تقول لك بعد يومين تعال هنا ليزول عني بطلعتك العناء. اعلم يابن عمي أنها لك عاشقة، وبك واثقة، وهذا ما عندي من التفسير لإشاراتها، ولو كنتُ أدخل وأخرج لجمعتُ بينك وبينها في أسرع وقت، وأستركما بذيلي. قال الغلام: فلما سمعتُ ذلك منها شكرتُها على قولها، وقلت في نفسي: أنا أصبر يومين. ثم قعدتُ في البيت يومين لا أدخل ولا أخرج، ولا آكل ولا أشرب، ووضعت رأسي في حجر ابنة عمي وهي تسلِّيني وتقول: قوِّ عزمك وهمتك، وطيِّب قلبك وخاطرك. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 114﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك: فلما انقضى اليومان قالت لي ابنة عمي: طِبْ نفسًا، وقرَّ عينًا، وقوِّ عزْمَك، والبس ثيابك، وتوجَّهَ إليها على الميعاد. ثم إنها قامت وغيَّرت أثوابي وبخَّرتني، ثم شددتُ حيلي، وقوَّيتُ قلبي، وخرجت وتمشيت إلى أن دخلت الزقاق، وجلست على المصطبة ساعةً، وإذا بالطاقة قد انفتحت، فنظرتُ بعيني إليها، فلما رأيتها وقعتُ مغشيًّا عليَّ، ثم أفقتُ فشددتُ عزمي، وقوَّيت قلبي، ونظرت إليها ثانيًا، فغبت عن الوجود، ثم استفقت فرأيت معها مرآة ومنديلًا أحمر، وحين رأتني شمَّرت عن ساعديها، وفتحت أصابعها الخمس، ودقَّت بها على صدرها بالكف والخمس أصابع، ثم رفعت يديها، وأبرزت المرآة من الطاقة، وأخذت المنديل الأحمر، ودخلت به وعادت، وأدلَتْه من الطاقة إلى صوب الزقاق ثلاث مرات وهي تدليه وترفعه، ثم عصرته ولفَّته بيدها وطأطأت رأسها، ثم جذبتها من الطاقة، وأغلقت الطاقة، وانصرفت ولم تكلِّمني كلمة واحدة، بل تركتني حيران لا أعلم ما أشارت به، واستمررتُ جالسًا إلى وقت العشاء، ثم جئت إلى البيت قرب نصف الليل، فوجدتُ ابنةَ عمي واضعةً يدها على خدها، وأجفانها تسكب العَبَرات وهي تنشد هذه الأبيات:

مَا لِي وَلَا حَيٌّ عَلَيْكَ يَعْنُفُ        كَيْفَ السُّلُوُّ وَأَنْتَ غُصْنٌ أَهْيَفُ

يَا طَلْعَةً سَلَبَتْ فُؤَادِي وَانْثَنَتْ        مَا لِلْهَوَى الْعُذْرِيِّ عَنْهَا مَصْرَفُ

ترْكِيَّةُ الْأَلْحَاظِ تَفْعَلُ بِالْحَشَا        مَا لَيْسَ يَفْعَلُهُ الصَّقِيلُ الْمُرْهَفُ

حَمَّلْتَنِي ثِقْلَ الْغَرَامِ وَلَيْسَ لِي        جَلَدٌ عَلَى حَمْلِ الْقَمِيصِ وَأَضْعُفُ

وَلَقَدْ بَكَيْتُ دَمًا لِقَوْلِ عَوَاذِلِي        مِنْ جَفْنِ مَنْ تَهْوَى يَرُوعُكَ مُرْهَفُ

يَا لَيْتَ قَلْبِي مِثْلُ قَلْبِكَ إِنَّمَا        جِسْمِي كَخُصْرِكَ بِالنَّحَافَةِ مُتْلَفُ

لَكَ يَا أَمِيرِي فِي الْمَلَاحَةِ نَاظِرٌ        صَعْبٌ عَلَيَّ وَحَاجِبٌ لَا يُنْصِفُ

كَذَبَ الَّذِي قَالَ الْمَلَاحَةُ كُلُّهَا        فِي يُوسُفَ كَمْ فِي جَمَالِكَ يُوسُفُ

أَتَكَلَّفُ الْإِعْرَاضَ عَنْكَ مَخَافَةً        مِنْ أَعْيُنِ الرُّقَبَاءِ كَمْ أَتَكَلَّفُ

فلما سمعتُ شعرها زاد ما بي من الهموم، وتكاثرت عليَّ الغموم، ووقعت في زوايا البيت، فنهضَتْ إليَّ وحملتني، وقلَّعتني أثوابي، ومسحت وجهي بكمِّها، ثم سألتني عمَّا جرى لي، فحكيت لها جميع ما حصل منها، فقالت: يا ابن عمي، أما إشارتها بالكف والخمس أصابع فإن تفسيره: تعال بعد خمسة أيام. وأما إشارتها بالمرآة وإبراز رأسها من الطاقة، فإن تفسيره: اقعد على دكان الصباغ حتى يأتيك رسولي. فلما سمعتُ كلامَها اشتعلَتِ النارُ في قلبي، وقلت: بالله يا بنت عمي إنك تصدقيني في هذا التفسير؛ لأني رأيتُ في الزقاق صبَّاغًا يهوديًّا. ثم بكيتُ، فقالت ابنة عمي: قوِّ عزمك، وثبِّتْ قلبك، فإن غيرك يشتغل بالعشق مدة سنين، ويتجلَّد على حرِّ الغرام، وأنت لك جمعة، فكيف يحصل لك هذا الجزع؟ ثم أخذت تسليني بالكلام، وأتت لي بالطعام، فأخذت لقمة، وأردت أن آكلها فما قدرت، فامتنعت من الشراب والطعام، وهجرتُ لذيذَ المنام، واصفرَّ لوني، وتغيَّرت محاسني؛ لأني ما عشقت قبل ذلك، ولا ذقت حرارةَ العشق إلا في هذه المرة؛ فضعفت وضعفت بنت عمي من أجلي، وصارت تذكر لي أحوال العشَّاق والمحبِّين على سبيل التسلِّي في كل ليلة إلى أن أنام. وكنتُ أستيقظ فأجدها سهرانةً من أجلي، ودمعها يجري على خدها، ولم أزَلْ كذلك إلى أن مضَتِ الخمسة أيام، فقامت ابنة عمي وسخَّنت لي ماء وحممتني به، وألبستني ثيابي، وقالت لي: توجَّهْ إليها قضى الله حاجتك، وبلَّغك مقصودك من محبوبتك. فمضيت ولم أزَلْ ماشيًا إلى أن أتيتُ إلى رأس الزقاق، وكان ذلك في يوم السبت، فرأيت دكان الصباغ مقفولة، فجلست عليها حتى أذان العصر، واصفرَّت الشمس، وأذن المغرب، ودخل الليل، وأنا لا أرى لها أثرًا، ولا أسمع حسًّا ولا خبرًا؛ فخشيت على نفسي، وأنا جالس وحدي، فقمتُ وتمشيت وأنا كالسكران إلى أن دخلت البيت، فلما دخلت رأيت ابنة عمي عزيزة، وإحدى يدَيْها قابضة على وتد مدقوق في الحائط، ويدها الأخرى على صدرها وهي تصعد الزفرات، وتنشد هذه الأبيات:

وَمَا وَجْدُ أَعْرَابِيَّةٍ بَانَ أَهْلُهَا        فَحَنَّتْ إِلَى بَانِ الْحِجَازِ وَرَنْدِهِ

إِذَا آنَسَتْ رَكْبًا تَكَفَّلَ شَوْقُهَا        بِنَارِ قِرَاهُ وَالدُّمُوعُ بِوِرْدِهِ

بِأَعْظَمَ مِنْ وَجْدِي بِحُبِّي وَإِنَّمَا        يَرَى أَنَّنِي أَذْنَبْتُ ذَنْبًا بِوُدِّهِ

فلما فرغت من شعرها التفتَتْ إليَّ فرأتني أبكي، فمسحَتْ دموعها ودموعي بكمِّها، وتبسَّمت في وجهي وقالت لي: يا ابن عمي، هنَّاك الله بما أعطاك، فلأي شيء لم تَبِت الليلةَ عند محبوبتك، ولم تقضِ منها أربك؟ فلما سمعتُ كلامها رفصتها برجلي في صدرها، فانقلبت على الإيوان، فجاءت جبهتها على طرف الإيوان، وكان هناك وتد فجاء في جبهتها، فتأملتها فرأيت جبينها قد انفتح وسال دمها. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 115﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك: فلما رفصت ابنة عمي في صدرها، انقلبت على طرف الإيوان، فجاء الوتد في جبينها، فانفتح جبينها وسال دمها، فسكتَتْ ولم تنطق بحرف واحد، ثم إنها قامت في الحال وأحرقَتْ حراقًا، وحشَتْ به ذلك الجرح، وتعصَّبَتْ بعصابة، ومسحت الدم الذي سال على البساط، وكأنَّ ذلك شيء ما كان، ثم إنها أتتني وتبسَّمت في وجهي، وقالت لي بلين الكلام: والله يا ابن عمي ما قلتُ هذا الكلام استهزاءً بك ولا بها، وقد كنتُ مشغولةً بوجع رأسي ومسح الدم، وفي هذه الساعة قد خفت رأسي وخفت جبهتي، فأخبرني بما كان من أمرك في هذا اليوم. فحكيت لها جميع ما وقع لي منها في ذلك اليوم، وبعد كلامي بكيت فقالت لي: يا ابن عمي، أبشِرْ بنجاح قصدك، وبلوغ أملك، إن هذه علامة القبول، وذلك أنها غابت عنك لأنها تريد أن تختبرك وتعرف هل أنت صابر أو لا، وهل أنت صادق في محبتها أو لا؟ وفي غدٍ توجَّهْ إليها في مكانك الأول، وانظر ماذا تشير به إليك، فقد قربت أفراحك، وزالت أحزانك. وصارت تسلِّيني على ما بي، وأنا لم أزل متزايد الهموم والغموم، ثم قدَّمَتْ لي الطعام فرفصته برجلي، فانكبَّتْ كل زبدية في ناحية، وقلت: كل مَن كان عاشقًا فهو مجنون، لا يميل إلى طعام، ولا يلتذُّ بمنام. فقالت لي ابنة عمي عزيزة: والله يا ابن عمي، إن هذه علامة المحبة. وسالت دموعها، ولمَّتْ شقافة الزبادي، ومسحت الطعام، وجلست تسايرني، وأنا أدعو الله أن يصبح الصباح.

فلما أصبح الصباح وأضاء بنوره ولاح، توجَّهت إليها ودخلت ذلك الزقاق بسرعة، وجلست على تلك المصطبة، وإذا بالطاقة قد انفتحت، وأبرزت رأسها منها وهي تضحك، ثم غابت ورجعت ومعها مرآة وكيس وقصرية ممتلئة بزرع أخضر، وفي يدها قنديل، فأول ما فعلت أخذت المرآة في يدها، وأدخلتها في الكيس، ثم ربطته ورمته في البيت، ثم أرخت شعرها على وجهها، ثم وضعت القنديل على رأس الزرع لحظةً، ثم أخذت جميع ذلك وانصرفت به، وأغلقت الطاقة، فانفطر قلبي من هذا الحال، ومن إشاراتها الخفية، ورموزها المخفية، وهي لم تكلمني بكلمة قطُّ، فاشتدَّ لذلك غرامي، وزاد وَجْدي وهيامي، ثم إني رجعت على عقبي، وأنا باكي العين حزين القلب حتى دخلت البيت، فرأيت ابنة عمي قاعدةً، ووجهها إلى الحائط، وقد احترَقَ قلبها من الهمِّ والغمِّ والغيرة، ولكن محبتها منعتها أن تخبرني بشيء مما عندها من الغرام، لما رأت ما أنا فيه من كثرة الوَجْد والهيام، ثم نظرتُ إليها فرأيت على رأسها عصابتين: إحداهما من الوقعة على جبهتها، والأخرى على عينها بسبب وجعٍ أصابها من شدة بكائها، وهي في أسوأ الحالات تبكي وتنشد هذه الأبيات:

أَيْنَمَا كُنْتَ لَمْ تَزَلْ بِأَمَانٍ        أَيُّهَا الرَّاحِلُ الْمُقِيمُ بِقَلْبِي

وَلَكَ اللهُ حَيْثُ أَمْسَيْتَ جَارًا        مُنْقِذًا مِنْ صُرُوفِ دَهْرٍ وَخَطْبِ

غِبْتَ فَاسْتَوْحَشَتْ لِبُعْدِكَ عَيْنِي        وَاسْتَهَلَّتْ مَدَامِعِي أَيَّ سَكْبِ

لَيْتَ شِعْرِي بِأَيِّ أَرْضٍ وَمَغْنًى        أَنْتَ مُسْتَوْطِنٌ بِدَارٍ وَشِعْبِ

إِنْ يَكُنْ شُرْبُكَ الْقَرَاحَ زُلَالًا        فَدُمُوعِي مِنَ الْمَحَاجِرِ شُرْبِي

كُلُّ شَيْءٍ سِوَى فِرَاقِكَ عَذْبٌ        كَالتَّجَافِي بَيْنَ الرُّقَادِ وَجَنْبِي

فلما فرغت من شعرها نظرَتْ إليَّ فرأتني وهي تبكي، فمسحت دموعها، ونهضت إليَّ ولم تقدر أن تتكلم مما هي فيه من الوَجْد، ولم تزل ساكتةً برهة من الزمان، ثم بعد ذلك قالت: يا ابن عمي، أخبرني بما حصل لك منها في هذه المرة. فأخبرتها بجميع ما حصل لي، فقالت لي: اصبر فقد آنَ أوان وصالك، وظفرت ببلوغ آمالك، أما إشارتها لك بالمرآة وكونها أدخلتها في الكيس، فإنها تقول لك اصبر إلى أن تغطس الشمس؛ وأما إرخاؤها شعرها على وجهها فإنها تقول لك إذا أقبل الليل وانسدل سواد الظلام على نور النهار فتعال؛ وأما إشارتها لك بالقصرية التي فيها زرع، فإنها تقول لك إذا جئتَ فادخل البستان الذي وراء الزقاق؛ وأما إشارتها لك بالقنديل، فإنها تقول لك إذا دخلت البستان فامشِ فيه، وأي موضع وجدتَ فيه القنديل مضيئًا فتوجَّه إليه، واجلس تحته وانتظرني؛ فإن هواك قاتلي. فلما سمعتُ كلام ابنة عمي صحت من فرط الغرام وقلت: كم تعديني وأتوجه إليها، ولا أحصل مقصودي، ولا أجد لتفسيرك معنًى صحيحًا. فعند ذلك ضحكَتْ بنت عمي وقالت لي: بقي عليك من الصبر أن تصبر بقية هذا اليوم إلى أن يولي النهار، ويقبل الليل بالاعتكار؛ فتحظى بالوصال وبلاغ الآمال، وهذا الكلام صدق بغير مَيْن، ثم أنشدت هذين البيتين:

دَرِّجِ الْأَيَّامَ تَنْدَرِجِ        وَبُيُوتَ الْهَمِّ لَا تَلِجِ

رُبَّ أَمْرٍ عَزَّ مَطْلَبُهُ        قَرَّبَتْهُ سَاعَةُ الْفَرَجِ

ثم إنها أقبلت عليَّ وصارت تسليني بلين الكلام، ولم تجسر أن تأتيني بشيء من الطعام؛ مخافةً من غضبي عليها، ورجاء ميلي إليها، ولم يكن لها قصد إلا أنها أتَتْ إليَّ وقلَّعتني ثيابي، ثم قالت: يا ابن عمي، اقعد معي حتى أحدِّثك بما يسليك إلى آخِر النهار، وإن شاء الله تعالى ما يأتي الليل إلا وأنت عند محبوبتكَ. فلم ألتفِتْ إليها، وصرتُ أنتظر مجيءَ الليل، وأقول: يا رب عجِّلْ بمجيء الليل، فلما أتى الليل بكَتِ ابنةُ عمي بكاءً شديدًا، وأعطتني حبَّةَ مسك خالص، وقالت لي: يا ابن عمي، اجعل هذه الحبة في فمك، فإذا اجتمعْتَ بمحبوبتك، وقضيت منها حاجتك، وسمحَتْ لك بما تمنَّيْتَ، فأنشدها هذا البيت:

أَلَّا أَيُّهَا الْعُشَّاقُ بِاللهِ خَبِّرُوا        إِذَا اشْتَدَّ عِشْقٌ بِالْفَتَى كَيْفَ يَصْنَعُ

ثم إنها قبَّلتني وحلَّفتني أني لا أنشدها ذلك البيت الشعر إلا بعد خروجي من عندها، فقلتُ لها: سمعًا وطاعة.

ثم خرجت وقت العشاء ومشيت، ولم أَزَلْ ماشيًا حتى وصلتُ إلى البستان، فوجدتُ بابه مفتوحًا فدخلتُه، فرأيتُ نورًا على بُعْدٍ فقصَدْتُه، فلما وصلتُ إليه وجدتُ مقعدًا عظيمًا معقودًا عليه قبة من العاج والأبنوس والقنديل معلَّق في وسط تلك القبة، وذلك المقعد مفروش بالبُسُط الحرير المزركشة بالذهب والفضة، وهناك شمعة كبيرة موقودة في شمعدان من الذهب تحت القناديل، وفي وسط المقعد فسقية فيها أنواع التصاوير، وبجانب تلك الفسقية سفرة مغطَّاة بفوطة من الحرير، وإلى جانبها باطية كبيرة من الصيني مملوءة خمرًا، وفيها قدح من بلور مزركش بالذهب، وإلى جانب الجميع طبق كبير من فضة مغطًّى، فكشفْتُه فرأيتُ فيه من سائر الفواكه ما بين تين ورمان، وعنب ونارنج، وبينها أنواع الرياحين من ورد وياسمين، وآس ونسرين ونرجس ومن سائر المشمومات، فهِمْتُ بذلك المكان، وفرحت غايةَ الفرح، وزال عني الهم والترح، لكني ما وجدتُ في هذه الدار أحدًا من خلق الله تعالى. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 116﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك: فهِمْتُ بذلك المكان، وفرحت غايةَ الفرح، لكني ما وجدتُ فيه أحدًا من خلق الله تعالى، ولم أَرَ عبدًا ولا جارية، ولا مَن يعاني هذه الأمور، فجلست في ذلك المقعد أنتظِر مجيءَ محبوبة قلبي، إلى أن مضَتْ أول ساعة من الليل، وثاني ساعة، وثالث ساعة، فلم تأتِ، واشتدَّ بي ألمُ الجوع؛ لأن لي مدة من الزمان ما أكلتُ طعامًا لشدة وَجْدي، فلما رأيت ذلك المكان، وظهر لي صِدْق بنت عمي في فهم إشارة معشوقتي استرحتُ، ووجدتُ ألَمَ الجوع، وقد شوَّقتني روائحُ الطعام الذي على السفرة لما وصلتُ إلى ذلك المكان، واطمأنت نفسي بالوصال، فاشتهت نفسي الأكل، فتقدَّمتُ إلى السفرة وكشفتُ الغطاء، فوجدتُ في وسطها طبقًا من الصيني، وفيه أربع دجاجات محمرة ومتبلة بالبهارات، وحول ذلك الطبق أربع زبادي: واحدة حلوى، والأخرى حب الرمان، والثالثة بقلاوة، والرابعة قطائف، وتلك الزبادي ما بين حلو وحامض، فأكلت من القطائف وقطعة لحم، وعمدت إلى البقلاوة وأكلتُ منها ما تيسَّرَ، ثم قصدت الحلوى وأكلت ملعقة أو اثنتين أو ثلاثًا أو أربعًا، وأكلت بعض دجاجة، وأكلت لقمة؛ فعند ذلك امتلأَتْ بطني، وارتخَتْ مفاصلي، وقد كسلت عن السهر، فوضعتُ رأسي على وسادة بعد أن غسلتُ يدي، فغلبني النوم، ولم أعلم بما جرى لي بعد ذلك، فما استيقظت حتى أحرقني حرُّ الشمس؛ لأن لي أيامًا ما ذقتُ منامًا، فلما استيقظتُ وجدتُ على بطني ملحًا وفحمًا، فانتصبتُ قائمًا، ونفضت ثيابي، وقد تلفَّتُّ يمينًا وشمالًا فلم أجد أحدًا، ووجدتني كنتُ نائمًا على الرخام من غير فرش؛ فتحيَّرتُ في عقلي، وحزنت حزنًا عظيمًا، وجرت دموعي على خدي، وتأسَّفت على نفسي، فقمتُ وقصدتُ البيت، فلما وصلتُ إليه وجدتُ ابنة عمي تدقُّ بيدها على صدرها، وتبكي بدمع يباري السُّحُبَ الماطرات، وتنشد هذه الأبيات:

هَبَّ رِيحٌ مِنَ الْحِمَى وَنَسِيمٌ        فَأَهَاجَ الْهَوَى بِنَشْرِ هُبُوبِهِ

يَا نَسِيمَ الصِّبَا هَلُمَّ إِلَيْنَا        كُلُّ صَبٍّ بِحَظِّهِ وَنَصِيبِهِ

لَوْ قَدَرْنَا مِنَ الْغَرَامِ اعْتَنَقْنَا        كَاعْتِنَاقِ الْمُحَبِّ صَدْرَ حَبِيبِهِ

حَرَّمَ اللهُ بَعْدَ وَجْهِ ابْنِ عَمِّي        كَلَّ عَيْشٍ مِنَ الزَّمَانِ وَطِيبِهِ

لَيْتَ شِعْرِي هَلْ قَلْبُهُ مِثْلُ قَلْبِي        ذَائِبٌ مِنْ حَرِّ الْهَوَى وَلَهِيبِهِ

فلما رأتني قامت مُسرِعةً ومسحت دموعها، وأقبلت عليَّ بلين كلامها، وقالت لي: يابن عمي، أنت في عشقك قد لطف الله بك حيث أحَبَّكَ مَن تحبُّ، وأنا في بكائي وحزني على فراقك مَن يلومني؟ ولكن لا أخذك الله من جهتي. ثم إنها تبسَّمَتْ في وجهي تبسُّم الغيظ ولاطفَتْني، وقلَّعتني أثوابي ونشرتها، وقالت: والله ما هذه روائحُ مَنْ حظِيَ بمحبوبه، فأخبرني بما جرى لك يا ابن عمي. فأخبرتها بجميع ما جرى لي؛ فتبسَّمَتْ تبسُّمَ الغيظ ثانيًا، وقالت: إن قلبي ملآن موجع، فلا عاش مَن يوجع قلبك، وهذه المرأة تتعزَّز عليك تعزُّزًا قويًّا، والله يا ابن عمي إني خائفة عليك منها، واعلم يا ابن عمي أن تفسير الملح هو أنك مستغرِق في النوم، فكأنك دلع الطعم بحيث تعافك النفوس، فينبغي لك أن تتملَّحَ حتى لا تمجَّكَ الطباع؛ لأنك تدَّعِي أنك من العشَّاق الكرام، والنوم على العشَّاق حرام، فدعواك المحبةَ كاذبةٌ، وكذلك هي محبتها لك كاذبة؛ لأنها لما رَأَتْكَ نائمًا لم تنبِّهك، ولو كانت محبتها لك صادقة لَنبَّهَتْكَ. وأما الفحم فإن تفسير إشارته: سوَّدَ اللهُ وجهَكَ؛ حيث ادَّعيت المحبةَ كذبًا، وإنما أنت صغير ولم يكن لك همة إلا الأكل والشرب والنوم؛ فهذا تفسير إشارتها، فالله تعالى يخلصك منها. فلما سمعتُ كلامَها ضربت بيدي على صدري، وقلت: والله إن هذا هو الصحيح؛ لأني نمتُ والعشاق لا ينامون، فأنا الظالم لنفسي، وما كان أضر عليَّ من الأكل والنوم، فكيف يكون الأمر؟ ثم إني زدتُ في البكاء، وقلت لابنة عمي: دلِّيني على شيء أفعله، وارحميني يرحمك الله وإلا أموت. وكانت بنت عمي تحبني محبةً عظيمة. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 117﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك: فقلت لابنة عمي: دلِّيني على شيء أفعله، وارحميني يرحمك الله. وكانت تحبني محبةً عظيمة، فقالت: على رأسي وعيني، ولكن يا ابن عمي قد قلتُ لك مرارًا لو كنتُ أدخل وأخرج لَكنتُ أجمع بينك وبينها في أقرب زمن، وأغطِّيكما بذيلي، ولا أفعل معك هذا إلا لقصد رضاك، وإن شاء الله تعالى أبذل غايةَ الجهد في الجمع بينكما، ولكن اسمع قولي وأطِعْ أمري، واذهب إلى نفس ذلك المكان واقعد هناك، فإذا كان وقت العشاء فاجلس في الموضع الذي كنتَ فيه، واحذر أن تأكل شيئًا؛ لأن الأكل يُجلِب النوم، وإياك أن تنام، فإنها لا تأتي لك حتى يمضي من الليل رُبْعه، كفاك الله شرها. فلما سمعتُ كلامها فرحت، وصرت أدعو الله أن يأتي الليل، فلما أتى الليل أردتُ الانصرافَ، فقالت لي ابنة عمي: إذا اجتمعْتَ بها فاذكر لها البيتَ المتقدِّم وقتَ انصرافك. فقلتُ لها: على الرأس والعين.

فلما خرجتُ وذهبت إلى البستان وجدتُ المكانَ مهيَّأً على الحالة التي رأيتُها أولًا، وفيه ما يُحتاج إليه من الطعام والشراب والنقل والمشموم وغير ذلك، فطلعت المقعد وشممت رائحة الطعام، فاشتاقت نفسي إليه فمنعتُها مرارًا، فلم أقدر على منعها، فقمتُ وأتيتُ إلى السفرة، وكشفت غطاءها فوجدتُ صحنَ دجاج وحوله أربع زبادي من الطعام، فيها أربعة ألوان، فأكلتُ من كل لون لقمة، وأكلتُ ما تيسَّرَ من الحلوى، وأكلتُ قطعةَ لحم، وشربت من الزردة وأعجبتني، فأكثرت الشربَ منها بالملعقة حتى شبعتُ وامتلأَتْ بطني، وبعد ذلك انطبقت أجفاني، فأخذت وسادة ووضعتها تحت رأسي وقلتُ: لعلِّي أتكئ عليها ولا أنام. فأغمضتُ عيني ونمت، وما انتبهت حتى طلعت الشمس، فوجدتُ على بطني كعب عظم، وفردة طاب، ونواة بلح، وبذرة خروب، وليس في المكان شيء من فرش ولا غيره، وكأنه لم يكن فيه شيء بالأمس، فقمتُ ونفضت الجميع عني، وخرجت وأنا مغتاظ إلى أن وصلتُ إلى البيت، فوجدت ابنة عمي تصعد الزفرات، وتنشد هذه الأبيات:

جَسَدٌ نَاحِلٌ وَقَلْبٌ جَرِيحُ        وَدُمُوعٌ عَلَى الْخُدُودِ تَسِيحُ

وَحَبِيبٌ صَعْبُ التَّجَنِّي وَلَكِنْ        كُلُّ مَا يَفْعَلُ الْمَلِيحُ مَلِيحُ

يَابْنَ عَمِّي مَلَأْتَ بِالْوَجْدِ قَلْبِي        إِنَّ طَرْفِي مِنَ الدُّمُوعِ قَرِيحُ

فنهرتُ ابنة عمي وشتمتها، فبكت ثم مسحَتْ دموعها وأقبلت عليَّ وقبَّلتني، وأخذت تضمُّني إلى صدرها وأنا أتباعَدُ عنها وأعاتب نفسي، فقالت لي: يا ابن عمي، كأنك نمت في هذه الليلة. فقلت لها: نعم، ولكنني لما انتبهت وجدتُ كعبَ عظم على بطني، وفردةَ طاب، ونواةَ بلح، وبذرةَ خروب، وما أدري لأي شيء فعلَتْ هكذا. ثم بكيتُ وأقبلتُ عليها وقلتُ لها: فسِّري لي إشارةَ فعْلِها هذا، وقولي لي ماذا أفعل، وساعديني على الذي أنا فيه. فقالت: على الرأس والعين؛ أما فردة الطاب التي وضعَتْها على بطنك، فإنها تشير لك بها إلى أنك حضرْتَ وقلبك غائب، وكأنها تقول لك ليس العشق هكذا، أَفَلَا تَعُدُّ نفسك من العاشقين؟ وأما نواة البلح فإنها تشير لك بها إلى أنك لو كنتَ عاشقًا لَكان قلبك محترقًا بالغرام، ولم تذق لذيذَ المنام، فإن لذة الحب كتمرة ألهبت في الفؤاد جمرة؛ وأما بذرة الخروب فإنها تشير لك بها إلى أن قلب المحب مسلوب، وتقول لك اصبر على فراقنا صبر أيوب.

فلما سمعتُ هذا التفسير انطلقَتْ في فؤادي النيران، وزادت بقلبي الأحزان، فصحتُ وقلت: قدَّرَ الله عليَّ النومَ لقلة بختي. ثم قلت لها: يا ابنة عمي، بحياتي عندك تدبَّرِي لي حيلة أتوصَّلُ بها إليها. فبكَتْ وقالت: يا عزيز يا ابن عمي، إن قلبي ملآن بالفكر، ولا أقدر أن أتكلم، ولكن رُحِ الليلة إلى ذلك المكان، واحذر أن تنام؛ فإنك تبلغ المرام، هذا هو الرأي والسلام. فقلتُ لها: إن شاء الله لا أنام، وإنما أفعل ما تأمرينني به. فقامت بنت عمي، وأتَتِ لي بالطعام، وقالت لي: كُلِ الآن ما يكفيك حتى لا يبقى في خاطرك شيء. فأكلتُ كفايتي، ولما أتى الليل قامت بنت عمى وأتتني ببدلة عظيمة، وألبستني إياها، وحلَّفتني أن أذكر لها البيتَ المذكور، وحذَّرتني من النوم. ثم خرجتُ من عند بنت عمي، وتوجَّهت إلى البستان، وطلعت ذلك المقعد، ونظرت إلى البستان، وجعلت أفتح عيني بأصابعي، وأهز رأسي حين جنَّ الليل. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 118﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك: فدخلت البستان وطلعت ذلك المقعد، ونظرت إلى البستان، وجعلت أفتح عيني بأصابعي وأهز رأسي حين جنَّ الليل، فجُعْتُ من السهر وهبَّتْ عليَّ روائح الطعام، فازداد جوعي، وتوجَّهت إلى السفرة وكشفت غطاءها، وأكلت من كل لون لقمة، وأكلت قطعة لحم، وأتيت إلى باطية الخمر وقلت في نفسي أشرب قدحًا فشربته، ثم شربت الثاني والثالث إلى غاية عشرة، وقد ضربني الهوى فوقعت على الأرض كالقتيل، وما زلت كذلك حتى طلع النهار فانتبهت، فرأيت نفسي خارج البستان، وعلى بطني شفرة ماضية، ودرهم حديد؛ فارتجفت وأخذتهما وأتيتُ بهما إلى البيت، فوجدت ابنة عمي تقول: إني في هذا البيت مسكينة حزينة ليس لي معين إلا البكاء. فلما دخلت وقعتُ من طولي، ورميت السكين والدرهم من يدي وغُشِي عليَّ، فلما أفقتُ من غشيتي عرَّفتها بما حصل لي وقلت لها: إني لم أنَلْ أربي. فاشتدَّ حزنها عليَّ لما رأت بكائي ووَجْدي، وقالت لي: إني عجزت وأنا أنصحك عن النوم فلم تسمع نصحي، فكلامي لا يفيدك شيئًا. فقلت لها: أسألك بالله أن تفسِّري لي إشارة السكين والدرهم الحديد. فقالت: إما الدرهم الحديد، فإنها تشير به إلى عينها اليمين، وأنها تقسم بها وتقول: وحقِّ رب العالمين وعيني اليمين، إن رجعتَ ثاني مرة ونمتَ لَأذبحَنَّك بهذه السكين. وأنا خائفة عليك يا ابن عمي من مكرها، وقلبي ملآن بالحزن عليك، فما أقدر أن أتكلم، فإن كنتَ تعرف من نفسك أنك إن رجعت إليها لا تنام، فارجع إليها واحذر النوم؛ فإنك تفوز بحاجتك، وإن عرفت أنك إن رجعت إليها تنام على عادتك، ثم رجعتَ إليها ونمتَ ذبحَتْكَ. فقلت لها: وكيف يكون العمل يا بنت عمي؟ أسألك بالله أن تساعديني على هذه البلية. فقالت: على عيني ورأسي، ولكن إن سمعت كلامي وأطعت أمري، قضيتُ حاجتك. فقلت لها: إني أسمع كلامك وأطيع أمرك. فقالت: إذا كان وقت الرواح أقول لك.

ثم ضمَّتْني إلى حضنها ووضعتني على الفراش، ولا زالت تكبسني حتى غلبني النعاس واستغرقت في النوم، فأخذَتْ مروحةً وجلست عند رأسي تروِّح على وجهي إلى آخِر النهار، ثم نبَّهتني، فلما انتبهت وجدتها عند رأسي، وفي يدها المروحة، وهي تبكي ودموعها قد بلَّتْ ثيابها، فلما رأتني استيقظتُ مسحَتْ دموعها، وجاءت بشيء من الأكل؛ فامتنعت منه، فقالت لي: أَمَا قلتُ لك اسمع مني وكُلْ؟ فأكلتُ ولم أخالفها، وصارت تضع الأكلَ في فمي، وأنا أمضغ حتى امتلأْتُ، ثم أسقتني نقيعَ عناب السكر، ثم غسلت يدي ونشَّفَتْها بمحرمة، ورشت عليَّ ماءَ الورد، وجلست معها وأنا في عافية، فلما أظلم الليل ألبسَتْني ثيابي، وقالت: يا ابن عمي، اسهر جميع الليل ولا تَنَمْ؛ فإنها ما تأتيك في هذه الليلة إلا في آخِر الليل، وإن شاء الله تجتمع بها في هذه الليلة، ولكن لا تنسَ وصيتي. ثم بكَتْ؛ فأوجعني قلبي عليها من كثرة بكائها، وقلتُ لها: ما الوصية التي وعدتِني بها؟ فقالت لي: إذا انصرفتَ من عندها فأنشدها البيت المتقدِّم ذِكْره. ثم خرجتُ من عندها وأنا فرحان، ومضيت إلى البستان، وطلعت المقعد وأنا شبعان، فجلست وسهرت إلى ربع الليل، ثم طال الليل عليَّ حتى كأنه سنة، فمكثت ساهرًا حتى مضى ثلاثة أرباع الليل، وصاحت الديوك، فاشتدَّ عندي الجوع من السهر، فقمتُ إلى السفرة وأكلتُ حتى اكتفيتُ، فثقلت رأسي وأردت أن أنام، وإذا بضجة على بُعْد؛ فنهضتُ وغسلتُ يدي وفمي ونبَّهت نفسي، فما كان إلا قليل وإذا بها أتَتْ ومعها عشرُ جوارٍ، وهي بينهن كالبدر بين الكواكب، وعليها حلة من الأطلس الأخضر مزركشة بالذهب الأحمر، وهي كما قال الشاعر:

تَتَيِهُ عَلَى الْعُشَّاقِ فِي حُلَلٍ خُضْرِ        مُفَكَّكَةَ الْأَزْرَارِ مَحْلُولَةِ الشَّعْرِ

فَقُلْتُ لَهَا: مَا الِاسْمُ؟ قَالَتْ: أَنَا الَّتِي        كَوَيْتُ قُلُوبَ الْعَاشِقِينَ عَلَى الْجَمْرِ

شَكَوْتُ لَهَا مَا أُقَاسِي مِنَ الْهَوَى        فَقَالَتْ: إِلَى صَخْرٍ شَكَوْتَ وَلَمْ تَدْرِ

فَقُلْتُ لَهَا: إِنْ كَانَ قَلْبُكِ صَخْرَةً        فَقَدْ أَنْبَعَ اللهُ الزُّلَالَ مِنَ الصَّخْرِ

فلما رأتني ضحكَتْ وقالَتْ: كيف انتبهت ولم يغلب عليك النوم؟ وحيث سهرت الليل علمت أنك عاشق؛ لأن من شِيَم العشَّاق سهَرَ الليلِ في مكابدة الأشواق. ثم أقبلَتْ على الجواري وغمزتهن، فانصرفن عنها، وأقبلَتْ عليَّ وضمتني إلى صدرها، وقبَّلتني وقبَّلتها، ومصَّتْ شفتي التحتانية، ومصصتُ شفتها الفوقانية، ثم مددت يدي إلى خصرها وغمزته، وما نزلنا في الأرض إلا سواء، وحلَّتْ سراويلها، فنزلت في خلاخل رجلَيْها، وأخذنا في الهراش والتعنيق، والغنج والكلام الرقيق، والعض وحمل السيقان، والطواف بالبيت والأركان، إلى أن ارتخَتْ مفاصلها وغُشِي عليها ودخلَتْ في الغيبوبة، وكانت تلك الليلة مسرة القلب وقرة الناظر، كما قال فيها الشاعر:

أَهْنَى لَيَالِي الدَّهْرِ عِنْدِي لَيْلَةٌ        لَمْ أُخْلِ فِيهَا الْكَأْسَ مِنْ أَعْمَالِي

فَرَّقْتُ فِيهَا بَيْنَ جَفْنِي وَالْكَرَى        وَجَمَعْتُ بَيْنَ الْقُرْطِ وَالْخَلْخَالِ

فلما أصبح الصباح أردتُ الانصرافَ، وإذا بها أمسكَتْني وقالت لي: قِفْ حتى أخبرك بشيء. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 119﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك: فلما أصبح الصباح أردتُ الانصراف، وإذا بها أمسكتني وقالت: قف حتى أخبرك بشيء وأوصيك وصية. فوقفتُ فحلَّتْ منديلًا، وأخرجت هذه الخرقة ونشرَتْها قدامي، فوجدتُ فيها صورة غزال على هذا المثال، فتعجَّبْتُ منها غاية العجب، فأخذته وتواعدتُ أنا وإياها أن أسعى إليها كلَّ ليلة في ذلك البستان، ثم انصرفتُ من عندها وأنا فرحان، ومن فرحي أنسيت الشعر الذي أوصتني به بنت عمي، وحين أعطتني الخرقة التي فيها صورة الغزال قالت لي: هذا عمل أختي. فقلت لها: وما اسم أختك؟ قالت: اسمها نور الهدى، فاحتفظ بهذه الخرقة. ثم ودَّعتُها وانصرفت وأنا فرحان، ومشيت إلى أن دخلت على ابنة عمي فوجدتها راقدة، فلما رأتني قامت ودموعها تتساقط، ثم أقبلت عليَّ وقبَّلت صدري وقالت: هل فعلت ما أوصيتُكَ به من إنشاد بيت الشعر؟ فقلتُ لها: إني نسيته، وما أشغلني عنه إلا صورة هذا الغزال. ورميتُ الخرقة قدامها، فقامت وقعدت، ولم تُطِق الصبرَ وأفاضَتْ دمعَ العين، وأنشدت هذين البيتين:

يَا طَالِبًا لِلْفِرَاقِ مَهْلًا        وَلَا يَغُرَّنَّكَ الْعِنَاقُ

مَهْلًا فَطَبْعُ الزَّمَانِ غَدْرٌ        وَآخِرُ الصُّحْبَةِ الْفِرَاقُ

فلما فرغَتْ من شعرها قالت: يا ابن عمي، هَبْ لي هذه الخرقة. فوهبتها لها، فأخذتها ونشرتها ورأت ما فيها، فلما جاء وقت ذهابي قالت ابنة عمي: اذهب مصحوبًا بالسلامة، ولكن إذا انصرفْتَ من عندها فأنشدها بيت الشعر الذي أخبرتُك به أولًا ونسيتَه. فقلتُ لها: أَعِيدِيه عليَّ. فأعادته، ثم مضيت إلى البستان، ودخلت المقعد، فوجدت الصبية في انتظاري، فلما رأتني قامت وقبَّلتني، وأجلستني في حجرها، ثم أكلنا وشربنا وقضينا غرضنا كما تقدَّمَ، ولا حاجة إلى الإعادة. فلما أصبح الصباح، أنشدتُها بيتَ الشعر وهو:

أَلَا أَيُّهَا الْعُشَّاقُ بِاللهِ خَبِّرُوا        إِذَا اشْتَدَّ عِشْقٌ بِالْفَتَى كَيْفَ يَصْنَعُ

فلما سمعَتْه، هملت عيناها بالدموع وأنشدت تقول:

يُدَارِي هَوَاهُ ثُمَّ يَكْتُمُ سِرَّهُ        وَيَصْبِرُ فِي كُلِّ الْأُمُورِ وَيَخْضَعُ

فحفظته وفرحت بقضاء حاجة ابنة عمي، ثم خرجت وأتيت إلى ابنة عمي فوجدتها راقدة، وأمي عند رأسها تبكي على حالها، فلما دخلتُ عليها قالت لي أمي: تبًّا لك من ابن عم، كيف تترك بنت عمك على غير استواء، ولا تسأل عن مرضها؟ فلما رأتني ابنة عمي رفعَتْ رأسها وقعدت، وقالت لي: يا عزيز، هل أنشدْتَها البيتَ الذي أخبرتك به؟ قلت لها: نعم، فلما سمعَتْه بكَتْ، وأنشدتني بيتًا آخَر وحفظته. فقالت بنت عمي: أَسْمِعني إياه. فلما أسمعتها إياه بكت بكاءً شديدًا، وأنشدت هذا البيت:

لَقَدْ حَاوَلَ الصَّبْرَ الْجَمِيلَ وَلَمْ يَجِدْ        لَهُ غَيْرَ قَلْبٍ فِي الصَّبَابَةِ يَجْزَعُ

ثم قالت لي ابنة عمي: إذا ذهبْتَ إليها على عادتك فأنشدها هذا البيت الذي سمعْتَه. فقلت لها: سمعًا وطاعة. ثم ذهبت إليها في البستان على العادة، وكان بيننا ما كان ممَّا يقصر عن وصفه اللسان، فلما أردتُ الانصراف أنشدتُها ذلك البيت، وهو: لقد حاول … إلى آخره. فلما سمعته سالت مدامعها في المحاجر، وأنشدت قول الشاعر:

فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَبْرًا لِكِتْمَانِ سِرِّهِ        فَلَيْسَ لَهُ عِنْدِي سِوَى الْمَوْتِ أَنْفَعُ

فحفظته وتوجَّهت إلى البيت، فلما دخلت على ابنة عمي وجدتها ملقاةً مغشيًّا عليها، وأمي جالسة عند رأسها، فلما سمعَتْ كلامي فتحَتْ عينَيْها وقالت: يا عزيز، هل أنشدتَها بيتَ الشعر؟ قلتُ لها: نعم، ولما سمعته بكت وأنشدتني هذا البيت: فإن لم يجد … إلى آخره. فلما سمعَتْه بنت عمي غُشِي عليها ثانيًا، فلما أفاقَتْ أنشدت هذا البيت وهو:

سَمِعْنَا أَطَعْنَا ثُمَّ مِتْنَا فَبَلِّغُوا        سَلَامِي عَلَى مَنْ كَانَ لِلْوَصْلِ يَمْنَعُ

ثم لما أقبل الليل مضيتُ إلى البستان على جري عادتي، فوجدتُ الصبية في انتظاري، فجلسنا وأكلنا وشربنا، وعملنا حظنا، ثم نمنا إلى الصباح، فلما أردتُ الانصراف أنشدتها ما قالته ابنة عمي، فلما سمعت ذلك صرخت صرخة عظيمة وتضجرت، وقالت: والله إن قائلة هذا الشعر قد ماتَتْ. ثم بكَتْ وقالت: ويلك، ما تقرب لك قائلةُ هذا الشعر؟ قلتُ لها: إنها ابنة عمي. قالت: كذبت والله، لو كانت ابنة عمك لَكان عندك لها من المحبة مثل ما عندها لك، فأنت الذي قتلْتَها قتلَكَ اللهُ كما قتلتها، والله لو أخبرتَني أن لك ابنةَ عمٍّ ما قرَّبتُكَ مني. فقلت لها: إنها ابنة عمي، وكانت تفسِّر لي الإشارات التي كنتِ تشيرين بها إليَّ، وهي التي علَّمتني ما أفعل معك، وما وصلت إليك إلا بحُسْن تدبيرها. فقالت: وهل عرفت بنا؟ قلت: نعم. قالت: حسَّرَكَ الله على شبابك كما حسَّرتها على شبابها. ثم قالت لي: رح انظرها. فذهبت وخاطري متشوش، وما زلتُ ماشيًا حتى وصلت إلى زقاقنا، فسمعت عياطًا، فسألت عنه فقيل لي: إن عزيزة وجدناها خلف الباب ميتة. ثم دخلت الدار، فلما رأتني أمي قالت: إن خطيئتها في عنقك، فلا سامحك الله من دمها. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 120﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك: ثم دخلت الدار، فلما رأتني أمي قالت: إن خطيئتها في عنقك، فلا سامحك الله من دمها، تبًّا لك من ابن عم. ثم إن أبي جاء وجهَّزناها، وشيَّعنا جنازتها ودفنَّاها، وعملنا على قبرها الختمات، ومكثنا على القبر ثلاثة أيام، ثم رجعتُ إلى البيت وأنا حزين عليها، فأقبلَتْ عليَّ أمي وقالت لي: إن قصدي أن أعرف ما كنتَ تفعله معها حتى فقعت مرارتها، وإني يا ولدي كنتُ أسألها في كل الأوقات عن سبب مرضها، فلم تخبرني به ولم تُطلِعني عليه، فبالله عليك أن تخبرني بالذي كنتَ تصنعه معها حتى ماتت. فقلت: ما عملت شيئًا. فقالت: الله يقتصُّ لها منك، فإنها ما ذكرت لي شيئًا، بل كتمَتْ أمرها حتى ماتت وهي راضية عنك، ولما ماتَتْ كنتُ عندها، ففتحَتْ عينَيْها وقالت لي: يا امرأة عمي، جعل الله ولدك في حلٍّ من دمي، ولا آخذه بما فعل معي، وإنما نقلني الله من الدنيا الفانية إلى الآخرة الباقية. فقلتُ: يا بنتي، سلامتك وسلامة شبابك. وصرت أسألها عن سبب مرضها فما تكلَّمت، ثم تبسَّمَتْ وقالت: يا امرأة عمي، إذا أراد ابنك أن يذهب إلى الموضع الذي عادته الذهاب إليه، فقولي له أن يقول هاتين الكلمتين عند انصرافه منه: الوفاء مليح، والغدر قبيح. وهذه شفقة مني عليه لأكون شفوقةً عليه في حياتي وبعد مماتي. ثم أعطتني لك حاجة، وحلَّفتني أني لا أعطيها لك حتى أراكَ تبكي عليها وتنوح، والحاجة عندي، فإذا رأيتُكَ على الصفة التي ذكرَتْها أعطيتُكَ إياها. فقلت لها: أريني إياها. فما رضيت، ثم إني اشتغلت بلذَّاتي، ولم أتذكر في موت ابنة عمي؛ لأني كنتُ طائش العقل، وكنت أودُّ في نفسي أن أكون طول ليلي ونهاري عند محبوبتي، وما صدقت أن الليل أقبل حتى مضيتُ إلى البستان، فوجدتُ الصبية جالسةً على مقالي النار من كثرة الانتظار، فما صدَّقت أنها رأتني فبادرت إليَّ، وتعلَّقت برقبتي وسألتني عن بنت عمي، فقلت لها: إنها ماتت، وعملنا لها الذكر والختمات، ومضى لها أربع ليالٍ، وهذه الخامسة.

فلما سمعت ذلك صاحت وبكت، وقالت: أَمَا قلتُ لك إنك قتلْتَها؟ ولو أعلمتني بها قبل موتها لَكنتُ كافأتها على ما فعلَتْ معي من المعروف، فإنها خدمتني وأوصلتك إليَّ، ولولاها ما اجتمعتُ بك، وأنا خائفة عليك أن تقع في مصيبة بسبب رزيتها. فقلتُ لها: إنها قد جعلتني في حلٍّ قبل موتها. ثم ذكرتُ لها ما أخبرتني به أمي، فقالت: بالله عليك إذا ذهبتَ إلى أمك، فاعرف الحاجة التي عندها. فقلت لها: إن أمي قالت لي: إن ابنة عمك قبل أن تموت أوصتني وقالت لي: إذا أراد ابنك أن يذهب إلى الموضع الذي عادته الذهاب إليه فقولي له هاتين الكلمتين: الوفاء مليح، والغدر قبيح. فلما سمعَتِ الصبية ذلك قالت: رحمة الله تعالى عليها، فإنها خلَّصتك مني، وقد كنتُ أضمرتُ على ضررك، فأنا لا أضرك ولا أشوش عليك. فتعجَّبْتُ من ذلك وقلت لها: وما كنتِ تريدين قبل ذلك أن تفعليه معي، وقد صار بيني وبينك مودة؟ فقالت: أنت مولع بي، ولكنك صغير السن، وقلبك خالٍ من الخداع، فأنت لا تعرف مكرنا ولا خداعنا، ولو كانت في قيد الحياة لَكانت معينةً لك، فإنها سبب سلامتك حتى أنجتك من الهلكة، والآن أوصيك ألَّا تتكلم مع واحدة، ولا تخاطب واحدة من أمثالنا لا صغيرة ولا كبيرة، فإياك ثم إياك؛ لأنك غير عارف بخداع النساء ولا مكرهن، والتي كانت تفسِّر لك الإشارات قد ماتت، وإني أخاف عليك أن تقع في رزية، فلا تجد مَن يخلِّصك منها بعد موت بنت عمك. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 121﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك: ثم إن الصبية قالت لي: إني أخاف عليك أن تقع في رزية، فلا تجد مَن يخلِّصك منها بعد موت بنت عمك، فوا حسرتاه على بنت عمك، وليتني علمت بها قبل موتها حتى أكافِئَها على ما فعلَتْ معي من المعروف، رحمة الله تعالى عليها؛ فإنها كتمَتْ سرَّها ولم تَبُحْ بما عندها، ولولاها ما كنتَ تصل إليَّ أبدًا، وإني أشتهي عليك أمرًا. فقلت: ما هو؟ قالت: أن توصلني إلى قبرها حتى أزورها في القبر الذي هي فيه، وأكتب عليه أبياتًا. فقلت لها: في غدٍ إن شاء الله تعالى. ثم إني نمت معها تلك الليلة، وهي بعد كل ساعة تقول لي: ليتك أخبرتني بابنة عمك قبل موتها. فقلت لها: ما معنى هاتين الكلمتين اللتين قالتهما، وهما: الوفاء مليح، والغدر قبيح؟ فلم تُجِبْني، فلما أصبح الصباح قامت وأخذت كيسًا فيه دنانير، وقالت لي: قُمْ وأَرِني قبرها حتى أزوره، وأكتب عليه أبياتًا، وأعمل عليها قبة، وأترحَّم عليها، وأصرف هذه الدنانير صدقةً على روحها. فقلت لها: سمعًا وطاعة. ثم مشيت قدامها، ومشت خلفي، وصارت تتصدَّق وهي ماشية في الطريق، وكلما تصدَّقت صدقة تقول: هذه الصدقة على روح عزيزة التي كتمَتْ سرَّها حتى شربت كأس مناياها، ولم تَبُحْ بسر هواها. ولم تَزَلْ تتصدق من الكيس وتقول عن روح عزيزة حتى وصلنا إلى القبر، ونفد ما في الكيس، فلما عاينَتِ القبرَ رمَتْ روحها عليه وبكت بكاءً شديدًا، ثم إنها أخرجت بيكارًا من الفولاذ، ومطرقة لطيفة، وخطَّتْ بالبيكار على الحجر الذي على رأس القبر خطًّا لطيفًا، ورسمت هذه الأبيات:

مَرَرْتُ بِقَبْرٍ دَارِسٍ وَسْطَ رَوْضَةٍ        عَلَيْهِ مِنَ النُّعْمَانِ سَبْعُ شَقَائِقِ

فَقُلْتُ لِمَنْ ذَا الْقَبْرُ؟ جَاوَبَنِي الثَّرَى        تَأَدَّبْ فَهَذَا الْقَبْرُ بَرْزَخُ عَاشِقِ

فَقُلْتُ رَعَاكَ اللهُ يَا مَيِّتَ الْهَوَى        وَأَسْكَنَكَ الْفِرْدَوْسَ أَعْلَى الشَّوَاهِقِ

مَسَاكِينُ أَهْلُ الْعِشْقِ حَتَّى قُبُورُهُمْ        عَلَيْهَا تُرَابُ الذُّلِّ بَيْنَ الْخَلَائِقِ

فَإِنْ أَسْتَطِعْ زَرْعًا زَرَعْتُكَ رَوْضَةً        وَأَسْقَيْتُهَا مِنْ دَمْعِي الْمُتَدَافِقِ

ثم بكت بكاء شديدًا، وقامت وقمت معها، وتوجَّهنا إلى البستان، فقالت لي: سألتك بالله ألَّا تنقطع عني أبدًا. فقلتُ: سمعًا وطاعة. ثم إني صرتُ أتردد عليها، وكلما بِتُّ عندها تُحسِن إليَّ وتكرمني، وتسألني عن الكلمتين اللتين قالتهما ابنة عمي عزيزة لأمي، فأعيدهما لها، وما زلت على ذلك الحال من أكل وشرب وضم وعناق، وتغيير ثياب من الملابس الرقاق، حتى غلظت وسمنت، ولم يكن بي هم، ولا غم ولا حزن، ونسيت ابنة عمي، ومكثت مستغرقًا في تلك اللذات سنةً كاملةً، وعند رأس السنة دخلتُ الحمام، وأصلحت شأني، ولبست بدلة فاخرة، ولما خرجت من الحمام شربت قدحًا من الشراب، وشممت روائح قماشي المضمَّخ بأنواع الطيب، وأنا خالي القلب من غدرات الزمان، وطوارق الحدثان، فلما جاء وقت العشاء اشتاقَتْ نفسي إلى الذهاب إليها وأنا سكران لا أدري أين أتوجه، فذهبت إليها فمال بي السكر إلى زقاق يقال له زقاق النقيب، فبينما أنا ماشٍ في ذلك الزقاق، وإذا بعجوز ماشية، وفي إحدى يدَيْها شمعة مضيئة، وفي يدها الأخرى كتاب ملفوف. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 122﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب الذي اسمه عزيز قال لتاج الملوك: فلما دخلت الزقاق الذي يقال له زقاق النقيب، مشيت فيه، فبينما أنا ماشٍ في ذلك الزقاق، وإذا بعجوز ماشية وفي إحدى يديها شمعة مضيئة، وفي يدها الأخرى كتاب ملفوف، فتقدَّمت إليها وهي باكية العين، وتنشد هذين البيتين:

للهِ دَرُّ مُبَشِّرِي بِقُدُومِكُمْ        فَلَقَدْ أَتَى بِلَطَائِفِ الْمَسْمُوعِ

لَوْ كَانَ يَقْنَعُ بِالْخَلِيعِ وَهَبْتُهُ        قَلْبًا تَمَزَّقَ سَاعَةَ التَّوْدِيعِ

فلما رأتني قالت لي: يا ولدي، هل تعرف أن تقرأ؟ فقلت لها: نعم يا خالتي العجوز. فقالت لي: خذ هذا الكتاب واقرأه لي. وناولتني الكتاب، فأخذته منها وفتحته، وقرأت عليها مضمونه: إنه كتاب من عند الغياب بالسلام على الأحباب. فلما سمعته فرحت واستبشرت، ودعت لي وقالت لي: فرَّجَ الله همَّكَ كما فرَّجتَ همي. ثم أخذَتِ الكتاب ومشت خطوتين، وغلبني حصر البول، فقعدت في مكان لأُرِيقَ الماء، ثم إني قمت وتجمَّرت، وأرخيت أثوابي وأردت أن أمشي، وإذا بالعجوز قد أقبلَتْ عليَّ، وقبَّلت يدَيَّ، وقالت: يا مولاي، الله تعالى يهنيك بشبابك ولا يفضحك، أترجاك أن تمشي معي خطوات إلى ذلك الباب، فإني أخبرتهم بما أسمعتني إياه من قراءة الكتاب، فلم يصدِّقوني، فامشِ معي خطوتين واقرأ لهم الكتاب من خلف الباب، واقبل دعائي لك. فقلت لها: وما قصة هذا الكتاب؟ فقالت لي: يا ولدي، هذا الكتاب جاء من عند ولدي، وهو غائب عني مدة عشر سنين، فإنه سافر بمتجر، ومكث في الغربة تلك المدة، فقطعنا الرجاء وظننا أنه مات، ثم وصل إلينا منه هذا الكتاب، وله أخت تبكي عليه في مدة غيابه آناء الليل وأطراف النهار، فقلت لها إنه طيب بخير، فلم تصدقني وقالت لي: لا بد أن تأتيني بمَن يقرأ هذا الكتاب، فيخبرني حتى يطمئن قلبي، ويطيب خاطري. وأنت تعلم يا ولدي أن المحب مولع بسوء الظن، فأنْعِمْ عليَّ بقراءة هذا الكتاب وأنت واقف خلف الستارة، وأخته تسمع من داخل الباب، لأجل أن يحصل لك ثواب مَن قضى لمسلم حاجة ونفَّسَ عنه كربة، فقد قال رسول الله ﷺ: »مَن نفَّسَ عن مكروب كربة من كرب الدنيا، نفَّسَ الله عنه كربة من كرب يوم القيامة» وفي حديث آخَر: «مَن نفَّسَ عن أخيه كربة من كرب الدنيا، نفَّسَ الله عنه اثنتين وسبعين كربة من كرب يوم القيامة» وأنا قصدتك فلا تخيبني. فقلت لها: سمعًا وطاعة، تقدمي قدامي. فمشت قدامي ومشيت خلفها قليلًا، حتى وصلت إلى باب دار عظيمة، وذلك الباب مصفَّح بالنحاس الأحمر، فوقفت خلف الباب، وصاحت العجوز بالعجمية، فما أشعر إلا وصبية قد أقبلت بخفة ونشاط، وهي مشمرة اللباس إلى ركبتَيْها، فرأيتُ لها ساقين تحيِّران الفكرَ والناظر، وهي كما قال في وصفها الشاعر:

يَا مَنْ يُشَمِّرُ عَنْ سَاقٍ لَيَعْرِضَهُ        عَلَى الْمُحِبِّينَ حَتَّى يَفْهَمَ الْبَاقِي

وَطَافَ يَسْعَى بِكَأْسٍ نَحْوَ عَاشِقِهِ        مَا أَفْتَنَ النَّاسَ غَيْرُ الْكَأْسِ وَالسَّاقِي

وزَانَ ساقَيْها اللتين كأنهما عمودان من مرمر خلاخلُ الذهب المرصعة بالجوهر، وكانت تلك الصبية مشمرة ثيابها إلى تحت إبطَيْها، ومشمرة عن ذراعَيْها، فنظرت معاصمها البيض وفي يديها زوجان من الأساور، وفي أذنَيْها قرطان من اللؤلؤ، وفي عنقها عقد من ثمين الجواهر، وعلى رأسها كوفية دقَّ المطرقة مكلَّلة بالفصوص المثمَّنة، وقد رشقت أطراف قميصها من داخل دكة اللباس، وهي كأنها كانت تعمل شغلًا، فلما رأتني قالت بلسان فصيح عذب: ما سمعتُ أحلى منه يا أمي، أهذا الذي جاء يقرأ الكتاب؟ فقالت لها: نعم. فمدَّتْ يدها إليَّ بالكتاب، وكان بينها وبين الباب نحو نصف قصبة، فمددتُ يدي لأتناول منها الكتاب، وأدخلتُ رأسي وأكتافي من الباب لأقرب منها، فما أدري إلا والعجوز قد وضعت رأسها في ظهري ودفعتني ويدي ماسكة بالكتاب، فالتفَتُّ فرأيت نفسي في وسط الدار من داخل الدهليز، ودخلت العجوز أسرع من البرق الخاطف، ولم يكن لها شغل إلا قفل الباب. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 123﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك: فالتفَتُّ فرأيت نفسي في وسط الدار من داخل الدهليز، ودخلت العجوز أسرع من البرق الخاطف، ولم يكن لها شغل إلا قفل الباب، ثم إن الصبية لما رأتني من داخل الدهليز أقبلَتْ عليَّ وضمَّتني إلى صدرها، ورمتني على الأرض وركبت فوق صدري، وعصرت بطني بيدها فغِبْتُ عن الوجود، ثم أخذتني بيدها ولم أقدر أن أتخلص منها من شدة ما حضنتني، ثم دخلَتْ بي ودخلت العجوز قدامها والشمعة مضيئة معها، حتى قطعت سبعة دهاليز، وبعد ذلك دخلَتْ بي ساحة كبيرة بأربعة لواوين يلعب فيها الخيال بالأكر، ثم أجلستني وقالت لي: افتح عينك. ففتحت عيني وأنا دائخ من شدة ما ضمتني وعصرتني، فرأيت جميع بناء القاعة من أبهج المرمر، وجميع فرشها من الديباج، وكذلك المخدات والمراتب، وهناك دكتان من النحاس الأصفر، وسرير من الذهب الأحمر، مرصَّع بالدر والجوهر، لا يصلح إلا لملك مثلك، ثم قالت لي: يا عزيز، أي الحالتين أحبُّ إليك؛ الموت أم الحياة؟ فقلت لها: الحياة. فقالت: إذا كانت الحياة أحبَّ إليك فتزوَّجْ بي. فقلت: أنا أكره أن أتزوَّجَ بمثلك. فقالت لي: إنْ تزوَّجْتَ بي تسلم من بنت الدليلة المحتالة. فقلت لها: ومَن الدليلة المحتالة؟ فضحكَتْ وقالت: كيف لا تعرفها وأنت لك في صحبتها اليومَ سنة وأربعة شهور؟ أهلَكَها الله تعالى، والله ما يوجد أمكر منها، وكم قتلت شخصًا قبلك، وكم عملت عملة، وكيف سلمت منها ولم تقتلك أو تشوش عليك، ولك في صحبتها هذه المدة؟

فلما سمعتُ كلامها تعجَّبْتُ غايةَ العجب، فقلت لها: يا سيدتي، ومَن عرَّفك بها؟ فقالت: أنا أعرفها مثل ما يعرف الزمان مصائبه، لكن قصدي أن تحكي لي جميع ما وقع لك منها حتى أعرف ما سبب سلامتك منها، فحكيتُ لها جميعَ ما جرى لي معها ومع ابنة عمي عزيزة، فترحَّمَتْ عليها ودمعت عيناها، ودقت يدًا على يد لما سمعت بموت ابنة عمي عزيزة، وقالت: عوَّضك الله فيها خيرًا يا عزيز؛ فإنها هي سبب سلامتك من بنت الدليلة المحتالة، ولولا هي لَكنتَ هلكت، وأنا خائفة عليك من مكرها وشرها، ولكن ما أقدر أن أتكلم. فقلتُ لها: والله إن ذلك كله قد حصل. فهزَّتْ رأسَها وقالت: لا يوجد اليومَ مثل عزيزة. فقلتُ: وعند موتها أوصتني أن أقول هاتين الكلمتين لا غير، وهما: الوفاء مليح، والغدر قبيح. فلما سمعت ذلك مني قالت لي: يا عزيز، والله إن هاتين الكلمتين هما اللتان خلَّصتاك منها، وبسببهما ما قتلتك، فقد خلَّصتك بنت عمك حية وميتة، والله إني كنتُ أتمنى الاجتماع بك ولو يومًا واحدًا، فلم أقدر على ذلك إلا في هذا الوقت حتى تحيَّلت عليك بهذه الحيلة، وقد تمَّتْ وأنت الآن صغير لا تعرف مكرَ النساء، ولا دواهي العجائز. فقلت: لا والله. فقالت لي: طِبْ نفسًا وقرَّ عينًا، فإن الميت مرحوم، والحي ملطوف به، وأنت شاب مليح، وأنا ما أريدك إلا بسنة الله ورسوله ﷺ، ومهما أردتَ من مال وقماش يحضر لك سريعًا، ولا أكلِّفك بشيء أبدًا، وأيضًا عندي دائمًا الخبز مخبوز، والماء في الكوز، وما أريد منك إلا أن تعمل معي كما يعمل الديك. فقلت لها: وما الذي يعمله الديك؟ فضحكَتْ وصفقت بيدها، ووقعت على قفاها من شدة الضحك، ثم إنها قعدت وقالت لي: أَمَا تعرف صنعة الديك؟ فقلتُ: لا والله ما أعرف صنعة الديك. قالت: صنعة الديك أن تأكل وتشرب وتنيك. فخجلت أنا من كلامها، ثم إني قلت: أهذه صنعة الديك؟ قالت: نعم، وما أريدك الآن إلا أن تشد وسطك، وتقوي عزمك، وتنيك جهدك. ثم إنها صفَّقت بيدها وقالت: يا أمي، أحضري مَن عندك. وإذا بالعجوز قد أقبلت بأربعة شهود عدول، ثم إنها أوقدت أربع شمعات، فلما دخل الشهود سلَّموا عليَّ وجلسوا، فقامت الصبية وأرخت عليها أزارًا، ووكَّلت بعضهم في ولاية عقدها، وقد كتبوا الكتاب وأشهدت على نفسها أنها قبضت جميعَ المهر مقدَّمًا ومؤخَّرًا، وأن في ذمَّتها لي عشرةَ آلاف درهم. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 124﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك: وأشهدت على نفسها أنها قبضت جميع المهر مقدَّمًا ومؤخَّرًا، وأن في ذمَّتها لي عشرةَ آلاف درهم، ثم إنها أعطت الشهود أجرتهم وانصرفوا من حيث أتوا، فعند ذلك قامت الصبية وقلعت أثوابها، وأتت في قميص رفيع مطرَّز بطراز من الذهب، وقلعت لباسها وأخذت بيدي وطلعت بي فوق السرير وقالت لي: ما في الحلال من عيب. ووقعَتْ على السرير وانسطحت على ظهرها، ورمتني على صدرها، ثم شهقت شهقة، واتبعت الشهقة بغنجة، ثم كشفت الثوب حتى جعلته فوق نهودها، فلما رأيتها على تلك الحالة لم أتمالك نفسي دون أن أولجه فيها بعد أن مصصت شفتها، وهي تتأوَّه وتُظهِر الخشوع والخضوع والبكاء بالدموع، وأذكرتني في هذا الحال قول مَن قال:

وَلَمَّا كَشَفْتُ الثَّوْبَ عَنْ سَطْحِ كُسِّهَا        وَجَدْتُ بِهِ ضِيقًا كَخَلْقِي وَأَرْزَاقِي

فَأَوْلَجْتُ فِيهَا نِصْفَهُ فَتَنَهَّدَتْ        فَقُلْتُ: لِمَ هَذَا؟ فَقَالَتْ: عَلَى الْبَاقِي

ثم قالت: يا حبيبي، اعمل خلاصك فأنا جاريتك، خذه هاته كله بحياتي عندك، هاته حتى أُدخِله بيدي، وأريح به فؤادي. ولم تَزَلْ تُسمِعني الغنج والشهيق، في خلال البوس والتعنيق، حتى صار صياحنا في الطريق، وحظينا بالسعادة والتوفيق. ثم نمنا إلى الصباح وأردتُ أن أخرج، وإذا هي أقبلَتْ عليَّ ضاحكةً وقالت: هل تحسب أن دخول الحمام مثل خروجه؟ وما أظن إلا أنك تحسبني مثل بنت الدليلة المحتالة، إياك وهذا الظن، فما أنت إلا زوجي بالكتاب والسنة، وإن كنت سكران فأفِقْ لعقلك؛ إن هذه الدار التي أنت فيها ما تُفتَح إلا في كل سنة يومًا، قُمْ إلى الباب الكبير وانظره. فقمتُ إلى الباب الكبير فوجدتُه مُغلَقًا مسمرًا، فعدتُ وأعلمتها بأنه مغلق مسمر، فقالت لي: يا عزيز، إن عندنا من الدقيق والحبوب والفواكه والرمان، والسكر واللحم والغنم والدجاج وغير ذلك، ما يكفينا أعوامًا عديدة، ولا يُفتَح بابنا من هذه الليلة إلا بعد سنة، وأنا أعلم أنك ما بقيت ترى روحك خارجًا عن هذه الدار إلا بعد سنة. فقلتُ: لا حول ولا قوة إلا بالله. فقالت: وأي شيء يضرك وأنت تعرف صنعة الديك التي أخبرتك بها. ثم ضحكت فضحكتُ أنا وطاوعْتُها فيما قالت، ومكثتُ عندها وأنا أعمل صنعة الديك، آكل وأشرب وأنيك، حتى مرَّ علينا عامٌ اثنا عشر شهرًا، فلما كملت السنة حملَتْ مني، ورُزِقت منها ولدًا، وعند رأس السنة سمعتُ فتح الباب، وإذا بالرجال دخلوا بكعك ودقيق وسكر، فأردتُ أن أخرج فقالت: اصبر إلى وقت العشاء، ومثل ما دخلْتَ فاخرج. فصبرت إلى وقت العشاء، وأردتُ أن أخرج وأنا خائف مرجوف، وإذا هي قالت: والله ما أدعكَ تخرج حتى أحلِّفك أنك تعود في هذه الليلة قبل أن يُغلَق الباب. فأجبْتُها إلى ذلك، وحلَّفتني بالأيمان الوثيقة على السيف والمصحف والطلاق، أني أعود إليها، ثم خرجتُ من عندها ومضيت إلى البستان، فوجدته مفتوحًا كعادته، فاغتظت وقلت في نفسي: إني غائب عن هذا المكان سنة كاملة، وجئتُ على غفلة فوجدتُه مفتوحًا كعادته! يا تُرَى هل الصبية باقية على حالها أو لا؟ فلا بد أن أدخل، وأنظر قبل أن أروح إلى أمي، وأنا في وقت العشاء، ثم دخلتُ البستان. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 125﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن عزيز قال لتاج الملوك: ثم دخلتُ البستان ومشيت حتى أتيتُ إلى المقعد، فوجدتُ البنت الدليلة المحتالة جالسةً ورأسها على ركبتها، ويدها على خدِّها، وقد تغيَّرَ لونُها وغارت عيناها، فلما رأتني قالت: الحمد لله على السلامة. وهمَّتْ أن تقوم فوقعَتْ من فرحتها، فاستحييتُ منها، وطأطأتُ رأسي، ثم تقدَّمْتُ إليها وقبَّلتُها، وقلت لها: كيف عرفتِ أني أجيء إليك في هذه الساعة؟ قالت: لا علمَ لي بذلك، والله إن لي سنة لم أَذُقْ فيها نومًا، بل أسهر كلَّ ليلة في انتظارك، وأنا على هذه الحالة من يوم خرجت من عندي وأعطيتك البدلة القماش الجديدة، ووعدتني أنك تجيء إليَّ، وقد انتظرتُك فما أتيتَ لا أول ليلة، ولا ثاني ليلة، ولا ثالث ليلة، فاستمررت منتظرةً لمجيئك، والعاشق هكذا يكون، وأريد أن تحكي لي ما سببت غيابك عني هذه السنة.

فحكيتُ لها، فلما علمت أني تزوَّجْتُ اصفرَّ لونها، ثم قلتُ لها: إني أتيتك هذه الليلة، وأروح قبل الصباح. فقالت: أَمَا كفاها أنها تزوَّجَتْ بك، وعملت عليك الحيلة، وحبستك عندها سنة كاملة، حتى حلَّفتك بالطلاق أن تعود إليها قبل الصباح، ولم تسمح لك بأن تتفسَّح عند أمك ولا عندي، ولم يَهُنْ عليها أن تبيت عند إحدانا ليلةً واحدة؟ فكيف حال مَن غِبْتَ عنها سنة كاملة، وقد عرفتك قبلها؟ ولكن رَحِمَ الله عزيزة؛ فإنه جرى لها ما لم يجرِ لأحد، وصبرت على شيء لم يصبر عليه مثلها، وماتت مقهورة منك، وهي التي حمَتْكَ مني، وكنتُ أظنك تجيء، فأطلقْتُ سبيلك مع أني كنتُ أقدر على حبسك وعلى هلاكك. ثم بَكَتْ واغتاظت، ونظرت إليَّ بعين الغضب، فلما رأيتها على تلك الحالة ارتعدَتْ فرائصي، وخفت منها، وصرت مثل الفولة على النار، ثم قالت لي: ما بقي فيك فائدة بعدما تزوَّجتَ وصار لك ولد، فأنت لا تصلح لعشرتي؛ لأنه لا ينفعني إلا الأعزب، وأما الرجل المتزوِّج فإنه لا ينفعني، وقد بِعْتَني بتلك العاهرة، والله لأحسرنها عليك، وتصير لا لي ولا لها. ثم صاحَتْ، فما أدري إلا وعشر جوارٍ أتَيْنَ ورمينني على الأرض، فلما وقعتُ تحت أيديهن قامت هي وأخذت سكينًا، وقالت: لَأذبحنك ذبح التيوس، ويكون هذا أقل جزائك على ما فعلتَ مع ابنة عمك. فلما نظرتُ إلى روحي وأنا تحت جواريها، وتعفَّرَ خدي بالتراب، ورأيتُ السكين في يدها تحقَّقْتُ الموت. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 126﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير دندان قال لضوء المكان: ثم إن الشاب عزيز قال لتاج الملوك: فلما رأيتُ روحي وأنا تحت جواريها، وتعفَّرَ خدي بالتراب، ورأيتُ السكين في يدها، تحقَّقْتُ الموت، فاستغثتُ بها، فلم تزدد إلا قسوةً، وأمرَتْهن أن يكتِّفنني، فكتَّفنني ورمينني على ظهري، وجلسن على بطني ومسكن رأسي، وقامت جاريتان فأمسكَتَا أصابع رجلي، وجاريتان جلستا على أقصاب رجلي، وبعد ذلك قامت هي ومعها جاريتان فأمرتهما أن يضرباني، فضربتاني حتى أُغمِيَ عليَّ وخفي صوتي، فلما استفقتُ قلتُ في نفسي: إن موتي مذبوحًا أهون عليَّ من هذا الضرب. وتذكرت كلمة ابنة عمي حيث قالت: كفاك الله شرها. فصرختُ وبكيتُ حتى انقطع صوتي، ثم سنَّتِ السكين وقالت للجواري: اكشفن عنه. فألهمني الله أن أقول الكلمتين اللتين أوصتني بهما ابنة عمي، وهما: الوفاء مليح، والغدر قبيح. فلما سمعت ذلك صاحت وقالت: يرحمك الله يا عزيزة، سلامة شبابك نفعت ابن عمك في حياتك وبعد موتك. ثم قالت لي: والله إنك خلصت من يدي بواسطة هاتين الكلمتين، لكن لا بد أن أعمل فيك أثرًا لأجل نكاية تلك العاهرة التي حجبتك عني.

ثم صاحت على الجواري وقالت لهن: اركبن عليه. وأمرتهن أن يربطن رجلي بالحبال ففعلن ذلك، ثم قامت من عندي وركبت طاجنًا من نحاس على النار، وصبَّتْ فيه شيرجًا، وقَلَتْ فيه جبنًا، وأنا غائب عن الدنيا، ثم جاءت عندي وحَلَّتْ لباسي، وربطت محاشمي بحبل وناولته لجاريتين، وقالت لهما: جرَّا الحبلَ. فجرَّتاه، فصرتُ من شدة الألم في دنيا غير هذه الدنيا، ثم رفعت يدها وقطعت ذكري بموسى وبقيت مثل المرأة، ثم كَوَتْ موضع القطع، وكبسته بذَرور وأنا مغمي عليَّ، فلما أفقْتُ كان الدم قد انقطع، فأسقتني قدحًا من الشراب، ثم قالت لي: رُحِ الآنَ لمَنْ تزوَّجْتَ بها وبخلَتْ عليَّ بليلة واحدة، رَحِمَ الله ابنة عمك التي هي سبب نجاتك، ولولا أنك أسمعتني كلمتَيْها لَكنتُ ذبحتك، فاذهب في هذه الساعة لمَن تشتهي، وأنا ما كان لي عندك سوى ما قطعته، والآن ما بقي لي فيك رغبة، ولا حاجة لي بك، فقُمْ وملِّسْ على رأسك، وترحَّمْ على ابنة عمك. ثم رفصتني برجلها، فقمتُ وما قدرت أن أمشي، فتمشيت قليلًا قليلًا حتى وصلت إلى الباب فوجدته مفتوحًا، فرميت نفسي فيه وأنا غائب عن الوجود، وإذا بزوجتي خرجت وحملتني وأدخلتني القاعة، فوجدَتْني مثل المرأة، فنمتُ واستغرقت في النوم، فلما صحوت وجدتُ نفسي مرميًّا على باب البستان. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 127﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير دندان قال للملك ضوء المكان: ثم إن الشاب عزيزًا قال لتاج الملوك: فلما صحوتُ وجدت نفسي مرميًّا على باب البستان، فقمتُ وأنا أتضجر، وتمشَّيْتُ حتى أتيتُ إلى منزلي، فدخلتُ فيه فوجدتُ أمي تبكي عليَّ وتقول: يا هل ترى يا ولدي أنت في أي أرض؟ فدنوتُ منها ورميتُ نفسي عليها، فلما نظرَتْ إليَّ ورأتني وجدتني على غير استواء، وصار على وجهي الاصفرار والسواد، وتذكَّرَتُ ابنة عمي، وما فعلَتْ معي من المعروف، وتحقَّقْتُ أنها كانت تحبني؛ فبكيتُ عليها وبكَتْ أمي، ثم قالت لي: يا ولدي، إن والدك قد مات. فازددتُ غيظًا، وبكيتُ حتى أُغمِيَ عليَّ، فلما أفقتُ نظرتُ إلى موضع ابنة عمي التي كانت تقعد فيه، فبكيتُ ثانيًا حتى أُغمِيَ عليَّ من شدة البكاء، وما زلتُ في بكاءٍ ونحيبٍ إلى نصف الليل، فقالت لي أمي: إن لوالدك عشرة أيام وهو ميت. فقلت لها: أنا لا أفكِّر في أحد أبدًا غير ابنة عمي؛ لأني أستحق ما حصل لي حيث أهملتها وهي تحبني. فقالت: وما حصل لك؟ فحكيتُ لها ما حصل لي، فبكَتْ ساعة، ثم قامت وأحضرت لي شيئًا من المأكول، فأكلتُ قليلًا وشربت، وأعدت لها قصتي وأخبرتها بجميع ما وقع لي، فقالت: الحمد لله حيث جرى لك هذا وما ذبحتك. ثم إنها عالجَتْني وداوَتْني حتى برئت وتكاملت عافيتي، فقالت لي: يا ولدي، الآن أُخرِج لكَ الوديعةَ التي وضعَتْها ابنةُ عمك عندي، فإنها لك، وقد حلَّفتني أني لا أُخرِجها لك حتى أراك تتذكرها وتحزن عليها، وتقطع علائقك من غيرها، والآن رجوت فيك هذه الخصال. ثم قامت وفتحت صندوقًا، وأخرجت منه هذه الخرقة التي فيها صورة هذا الغزال، وهي التي وهبتُها لها أولًا، فلما أخذتُها وجدتُ مكتوبًا فيها هذه الأبيات:

أَقَمْتُمْ فُؤَادِي فِي الْهَوَى وَقَعَدْتُمُ        وَأَسْهَرْتُمُ جَفْنِي الْقَرِيحَ وَنِمْتُمُ

وَقَدْ حِلْتُمُ بَيْنَ الْفُؤَادِ وَنَاظِرِي        فَلَا الْقَلْبُ يَسْلُوكُمْ وَلَوْ ذَابَ مِنْكُمُ

وَعَاهَدْتُمُونِي أَنَّكُمْ كَاتِمُو الْهَوَى        فَأَغْرَاكُمُ الْوَاشِي وَقَالَ وَقُلْتُمُ

فَبِاللهِ إِخْوَانِي إِذَا مِتُّ فَاكْتُبُوا        عَلَى لَوْحِ قَبْرِي إِنَّ هَذَا مُتَيَّمُ

فلما قرأتُ هذه الأبيات بكيتُ بكاءً شديدًا، ولطمتُ وجهي، وفتحتُ الرقعة فوقعت منها ورقة أخرى، ففتحتها فإذا مكتوب فيها: اعلم يا ابن عمي أني جعلتُكَ في حلٍّ من دمي، وأرجو الله أن يُوفِّق بينك وبين مَن تحب، لكن إذا أصابك شيء من الدليلة المحتالة، فلا ترجع إليها ولا لغيرها، وبعد ذلك فاصبر على بليتك، ولولا أجلك المحتم لَهلكت من الزمان الماضي، ولكن الحمد لله الذي جعل يومي قبل يومك، وسلامي عليك، واحتفظ بهذه الخرقة التي فيها صورة الغزال ولا تفرِّط فيها؛ فإن تلك الصورة كانت تؤانسني إذا غبتَ عني. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 128﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير دندان قال للملك ضوء المكان: ثم إن الشاب عزيزًا قال لتاج الملوك: إن ابنة عمي قالت لي: واحتفظ بهذه الخرقة التي فيها صورة الغزال ولا تفرِّط فيها أبدًا؛ فإن تلك الصورة كانت تؤانسني إذا غبتَ عني، وبالله عليك إنْ قدرْتَ على مَن صوَّرت هذه الصورة، ينبغي أنك تتباعد عنها، ولا تخلها تقرب منك، ولا تتزوَّجْ بها، وإن لم تقدر عليها ولا تجد لك إليها سبيلًا، فلا تقرب واحدة من النساء بعدها، واعلم أن التي صوَّرت هذه الصورة تصوِّر في كل سنة صورةً مثلها وترسلها إلى أقصى البلاد؛ لأجل أن يشيع خبرها وحُسْن صنعتها التي يعجز عنها أهل الأرض، وأما محبوبتك الدليلة المحتالة، فإنها لما وصلَتْ إليها هذه الخرقةُ التي فيها صورة الغزال، صارت تريها للناس وتقول لهم إن لي أختًا تصنع هذا، مع أنها كاذبة في قولها، هتك الله سترها، وما أوصيتك بهذه الوصية إلا لأنني أعلم أن الدنيا قد تضيق عليك بعد موتي، وربما تتغرَّب بسبب ذلك، وتطوف في البلاد وتسمع بصاحبة هذه الصورة، فتتشوَّق نفسك إلى معرفتها، واعلم أن الصبية التي صوَّرت هذه الصورة بنت ملك جزائر الكافور.

فلما قرأتُ تلك الورقة وفهمت ما فيها، بكيت وبكت أمي لبكائي، وما زلت أنظر إليها وأبكي إلى أن أقبَلَ الليل، ولم أزل على تلك الحالة مدةَ سنة، وبعد السنة تجهَّزَ تجارٌ من مدينتي إلى السفر، وهم هؤلاء الذين أنا معهم في القافلة، فأشارَتْ عليَّ أمي أن أتجهَّزَ وأسافر معهم، وقالت لي: لعل السفر يُذهِب ما بِكَ من هذا الحزن، وتغيب سنة أو سنتين أو ثلاثًا حتى تعود القافلة، فلعل صدرك ينشرح. وما زالَتْ تلاطفني بالكلام حتى جهزت متجرًا وسافرت معهم، وأنا لم تنشف لي دمعة مدة سفري، وفي كل منزلة ننزل بها أنشر هذه الخرقة قدامي، وأنظر إلى هذه الصورة فأتذكر ابنة عمي وأبكي عليها كما تراني، فإنها كانت تحبني محبةً زائدة، وقد ماتَتْ مقهورةً مني، وما فعلتُ معها إلا الضرر، مع أنها لم تفعل معي إلا الخير، ومتى رجع التجار من سفرهم أرجع معهم، وتكمل مدة غيابي سنة وأنا في حزن زائد، وما زاد همي وحزني إلا أنني جزت على جزائر الكافور وقلعة البلور، وهي سبع جزائر، والحاكم عليهم ملك يقال له شهرمان، وله بنت يقال لها دنيا، فقيل لي إنها هي التي تصوِّر صورة الغزلان، وهذه الصورة التي معك من جملة تصويرها، فلما علمتُ ذلك زادَتْ بي الأشواق، وغرقت في بحر الفكر والاحتراق؛ فبكيت على روحي لأني بقيت مثل المرأة، ولم تَبْقَ لي آلة مثل الرجال، ولا حيلة لي، ومن يوم فراقي لجزائر الكافور وأنا باكي العين، حزين القلب، ولي مدة على هذا الحال، وما أدري هل يمكنني أن أرجع إلى بلدي وأموت عند والدتي أو لا، وقد شبعت من الدنيا. ثم بكى، وأنَّ واشتكى، ونظر إلى صورة الغزال، وجرى دمعه على خده وسال، وأنشد هذين البيتين:

وَقَائِلٌ قَالَ لِي لَا بُدَّ مِنْ فَرَجٍ        فَقُلْتُ لِلْغَيْظِ كَمْ لَا بُدَّ مِنْ فَرَجِ

فَقَالَ لِي بِعْدَ حِينٍ، قُلْتُ يَا عَجَبِي        مَنْ يَضْمَنُ الْعُمْرَ لِي يَا بَارِدَ الْحُجَجِ

وهذه حكايتي أيها الملك. فلما سمع تاج الملوك قصة الشاب، تعجَّبَ غاية العجب، وانطلقت في فؤاده النيران حين سمع بجمال السيدة دنيا. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 129﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير دندان قال لضوء المكان: فلما سمع تاج الملوك قصة الشاب، تعجَّبَ غاية العجب، وانطلقت في فؤاده النيران، لما سمع بجمال السيدة دنيا، وعرف أنها هي التي صوَّرت صورة الغزال، وزاد به الوجد والبلبال، فقال للشاب: والله لقد جرى لك شيء ما جرى لأحد غيرك مثله، ولكن هذا تقدير ربك، وقصدي أن أسألك عن شيء. فقال عزيز: وما هو؟ فقال: تصف لي كيف رأيتَ تلك الصبية التي صوَّرت صورة الغزال. فقال: يا مولاي، إني توصَّلت إليها بحيلة، وهو أني لما دخلت مع القافلة إلى بلادها، كنتُ أخرج وأدور في البساتين وهي كثيرة الأشجار، وحارس البساتين شيخ طاعن في السن، فقلتُ له: يا شيخ، لمَن هذا البستان؟ فقال لي: لابنة الملك السيدة دنيا، ونحن تحت قصرها، فإذا أردتَ أن تتفرج فافتح باب السر، وتفرَّجْ في البستان، فتشم رائحة الأزهار. فقلتُ له: أنعِمْ عليَّ بأن أقعد في هذا البستان حتى تمرَّ، لعلي أن أحظى منها بنظرة. فقال الشيخ: لا بأس بذلك. فلما قال ذلك أعطيته بعض دراهم، وقلت له: اشترِ لنا شيئًا نأكله. ففرح بأخذ الدراهم، وفتح الباب وأدخلني معه، وسرنا وما زلنا سائرين إلى أن وصلنا إلى مكان لطيف، وأحضر لي شيئًا من الفواكه اللطيفة، وقال لي: اجلس هنا حتى أذهب وأعود إليك. وتركني ومضى، فغاب ساعة، ثم رجع ومعه خروف مشوي، فأكلنا حتى اكتفينا، وقلبي مشتاق إلى رؤية الصبية، فبينما نحن جالسان وإذا بالباب قد انفتح، فقال لي: قُمِ اختفِ. فقمتُ واختفيت، وإذا بطواشي أسود أخرَجَ رأسه من الباب، وقال: يا شيخ، هل عندك أحد؟ فقال: لا. فقال له: أغلق الباب. فأغلق الشيخ باب البستان، وإذا بالسيدة دنيا طلعت من الباب، فلما رأيتها ظننتُ أن القمر نزل في الأرض؛ فاندهش عقلي، وصرتُ مشتاقًا إليها كاشتياق الظمآن إلى الماء، وبعد ساعة أغلقَتِ البابَ ومضَتْ، فعند ذلك خرجتُ أنا من البستان وقصدت منزلي، وعرفتُ أني لا أصل إليها، ولا أنا من رجالها، خصوصًا وقد صرتُ مثل المرأة، فقلت في نفسي: إن هذه ابنة ملك، وأنا رجل تاجر، فمن أين لي أن أصل إليها؟ فلما تجهَّزَ أصحابي للرحيل، تجهَّزْتُ أنا وسافرت معهم وهم قاصدون هذه المدينة، فلما وصلنا إلى هذه الطريق اجتمعنا بك، وهذه حكايتي وما جرى لي، والسلام.

فلما سمع تاج الملوك ذلك الكلام، اشتغل قلبه بحب السيدة دنيا، ثم ركب جواده وأخذ معه عزيزًا، وتوجَّهَ به إلى مدينة أبيه، وأفرَدَ له دارًا ووضع له فيها كلَّ ما يحتاج إليه، ثم تركه ومضى إلى قصره ودموعه جارية على خدوده؛ لأن

السماع يحل محل النظر والاجتماع، وما زال تاج الملوك على تلك الحالة حتى دخل عليه أبوه، فوجده متغيَّرَ اللون، فعلم أنه مهموم ومغموم، فقال له: يا ولدي، أخبرني عن حالك، وما جرى لك حتى تغيَّرَ لونك؟ فأخبره بجميع ما جرى له من قصة دنيا من أولها إلى آخِرها، وكيف عشقها على السماع، ولم ينظرها بالعين، فقال: يا ولدي، إن أباها ملك، وبلاده بعيدة عنَّا، فدَعْ عنك هذا وادخل قصر أمك. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 130﴾

 حكاية الأميرة دنيا مع تاج الملوك

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الوزير دندان قال لضوء المكان: إن والد تاج الملوك قال له: يا ولدي، إن أباها ملك وبلاده بعيدة عنا، فدَعْ عنك هذا وادخل قصر أمك، فإن فيه خمسمائة جارية كالأقمار، فمَن أعجبَتْكَ منهم فخذها، وإن لم تعجبك جارية منهن، نخطب لك بنتًا من بنات الملوك تكون أحسن من السيدة دنيا. فقال له: يا والدي لا أريد غيرها، وهي التي صورت صورةَ الغزال التي رأيتُها، فلا بد لي منها، وإلا أهجُّ في البراري وأقتل روحي بسببها. فقال له أبوه: يا ولدي، أمهل عليَّ حتى أرسل إلى أبيها وأخطبها منه وأبلغك المرامَ مثلما فعلتُ لنفسي مع أمك، وإن لم يرضَ زلزلتُ عليه مملكتَه وجرَّدْتُ عليه جيشًا يكون آخِره عندي وأوله عنده. ثم دعا بالشاب عزيز وقال له: يا ولدي، هل أنت تعرف الطريق؟ قال: نعم. قال له: أشتهي منك أن تسافر مع وزيري. فقال له عزيز: سمعًا وطاعةً يا ملك الزمان.

ثم أحضر وزيره وقال له: دبِّرْ لي أمرَ ولدي كما تعرف، واذهب إلى جزائر الكافور واخطب بنتَ ملكها. فأجابه الوزير: بالسمع والطاعة. ثم عاد تاج الملوك إلى منزله وقد زادت به الأمراض والحسرات، وحين جنَّ عليه الليلُ أنشد هذه الأبيات:

جَنَّ الظَّلَامُ وَدَمْعِي زَائِدُ الْمَدَدِ        وَالْوَجْدُ مِنْ شِدَّةِ النِّيرَانِ فِي كَبِدِي

سَلُوا اللَّيَالِي عَنِّي وَهْيَ تُخْبِرُكُمْ        إِنْ كَانَ يَرْثُو لِقَلْبِي فِي الْهَوَى كَمَدِي

أَبِيتُ أَرْعَى نُجُومَ اللَّيْلِ فِي سَهَرٍ        وَالدَّمْعُ مُنْهَمِلٌ فِي الْخَدِّ كَالْبَرَدِ

وَقَدْ بَقِيتُ وَحِيدًا لَيْسَ لِي أَحَدٌ        كَمِثْلِ صَبٍّ بِلَا أَهْلٍ وَلَا وَلَدِ

فلما فرغ من شعره وقع مغشيًّا عليه، ولم يفِقْ إلا وقتَ الصباح؛ فلما أصبح الصباح جاء إليه أبوه، فرآه قد تغيَّرَ لونه وزاد اصفراره ووعده بجمْعِ شمله، ثم جهَّزَ عزيزًا مع وزيره وأعطاهم الهدايا، فسافروا أيامًا وليالي إلى أن أشرفوا على جزائر الكافور، فأقاموا على شاطئ نهر وأنفَذَ الوزيرُ رسولًا من عنده إلى الملك ليخبره بقدومهم، وبعد ذهاب الرسول بنصف يوم، لم يشعر إلا وحجَّاب الملك وأمراؤه قد أقبلوا عليهم ولاقوهم من مسيرة فرسخ، فتلقَّوْهم وساروا في خدمتهم إلى أن دخلوا بهم على الملك، فقدَّموا له الهدايا وأقاموا عنده أربعةَ أيام، وفي اليوم الخامس قام الوزير ودخل على الملك ووقف بين يديه وحدَّثه بحديثه، وأخبره بسبب مجيئه، فصار الملك متحيِّرًا في ردِّ الجواب؛ لأن ابنته لا تحبُّ الزواج، وأطرق رأسه إلى الأرض ساعةً ثم رفع رأسَه إلى بعض الخدام وقال له: اذهب إلى سيدتك دنيا وأخبرها بما سمعتَ وبما جاء به هذا الوزير. فقام الخادم وغاب ساعةً، ثم عاد إلى الملك وقال له: يا ملك الزمان، إني لما دخلتُ على السيدة دنيا أخبرتُها بما سمعتُ، فغضبَتْ غضبًا شديدًا ونهضت عليَّ بمسوقة وأرادَتْ كسْرَ رأسي، ففررتُ منها هربًا وقالت لي: إنْ كان أبي يغصبني على الزواج، فالذي أتزوَّج به أقتله. فقال أبوها للوزير وعزيز: سلِّمَا على الملك وأخبراه بذلك، وأن ابنتي لا تحبُّ الزواجَ. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 131﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك شهرمان قال للوزير وعزيز: سلما على الملك وأخبراه بما سمعتماه من أن ابنتي لا تحبُّ الزواجَ. فرجع الوزير ومَن معه من غير فائدة، وما زالوا مسافرين إلى أن دخلوا على الملك وأخبروه بما جرى؛ فعند ذلك أمر النقباء أن ينبِّهوا العسكرَ إلى السفر من أجل الحرب والجهاد، فقال له الوزير: لا تفعل ذلك فإن الملك لا ذنبَ له، وإنما الامتناع من ابنته، فإنها حين علمَتْ بذلك أرسلت تقول: إن غصبني أبي على الزواج أقتل من أتزوَّج به وأقتل نفسي بعده. فلما سمع الملك كلامَ الوزير، خاف على ولده تاج الملوك وقال: إن حاربتَ أباها وظفرتَ بابنته، قتلَتْ نفسها. ثم إن الملك أعلم ابنه تاج الملوك بحقيقة الأمر، فلما علم بذلك قال لأبيه: يا والدي، أنا لا أطيق الصبرَ عنها، فأنا أروح إليها وأتسبَّب في اتصالي بها ولو أموت، ولا أفعل غير هذا. فقال له أبوه: وكيف تروح إليها؟ فقال: أروح في صفة تاجر. فقال الملك: إن كان ولا بد، فخُذْ معك الوزيرَ وعزيزًا. ثم إنه أخرج له شيئًا من خزائنه وهيَّأَ له متجرًا بمائة ألف دينار، واتفقَا معه على ذلك، فلما جاء الليل ذهب تاج الملوك وعزيز إلى منزل عزيز، وباتَا هناك تلك الليلة، وصار تاج الملوك مسلوبَ الفؤاد، ولم يطِبْ له أكلٌ ولا رقادٌ، بل هجمت عليه الأفكار، وغرق منها في بحار، وهزَّه الشوق إلى محبوبته، فأفاض دمع العين، وأنشد هذين البيتين:

تُرَى هَلْ لَنَا بَعْدَ الْبِعَادِ وُصُولُ        فَأَشْكُو إِلَيْكُمْ صَبْوَتِي وَأَقُولُ

تَذَكَّرْتُكُمْ وَاللَّيْلُ نَاءٍ صَبَاحُهُ        وَأَسْهَرْتُمُونِي وَالْأَنَامُ غُفُولُ

لما فرغ من شعره بكى بكاءً شديدًا، وبكى معه عزيز وتذكَّرَ ابنةَ عمه، وما زالَا يبكيان إلى أن أصبح الصباح، ثم قام تاج الملوك ودخل على والدته وهو لابس أهبة السفر، فسألَتْه عن حاله، فأخبرها بحقيقة الأمر، فأعطته خمسين ألف دينار ثم ودَّعَتْه وخرج من عندها ودعت له بالسلامة والاجتماع بالأحباب، ثم دخل والده واستأذنه أن يرحل، فأذن له وأعطاه خمسين ألف دينار، وأمر أن تُضرَب له خيمة في خارج المدينة، فضُرِبت له خيمة عظيمة وأقاموا فيها يومين ثم سافروا، واستأنس تاج الملوك بعزيز وقال له: يا أخي، أنا ما بقيت أطيق أن أفارقك. فقال عزيز: وأنا الآخَر كذلك، وأحبُّ أن أموت تحت رجلَيْك، ولكن يا أخي قلبي اشتغل بوالدتي. فقال له تاج الملوك: لما نبلغ المرامَ لا يكون إلا خيرًا. وكان الوزير قد وصَّى تاج الملوك بالاصطبار، وصار عزيز ينشد له الأشعار، ويحدِّثه بالتواريخ والأخبار. ولم يزالوا سائرين بالليل والنهار مدةَ شهرين، فطالت الطريق على تاج الملوك، واشتدَّ عليه الغرامُ وزاد به الوَجْد والهيام، فلما قربوا من المدينة، فرح تاج الملوك غاية الفرح، وزال عنه الهم والترح، ثم دخلوها وهم في هيئة التجار، وابن الملك في زي تاجر، ثم أتوا إلى مكان يُعرَف بمنزل التجار وهو خان عظيم، فقال تاج الملوك لعزيز: أهذا منزل التجار؟ قال عزيز: لكنه غير الخان الذي كنتُ نزلتُ فيه أنا والقافلة التي كنتُ معها، إلا أنه أحسن منه. فأناخوا فيه مطيَّهم، وحطوا رحالهم، وخزنوا أمتعتهم في المخازن وأقاموا للراحة أربعة أيام.

ثم إن الوزير أشار عليهم أن يكتروا لهم دارًا كبيرة فأجابوه، واكتروا لهم دارًا متسعة معدَّة للأفراح، فنزلوا فيها، وأقام الوزير وعزيز يدبِّران حيلةً من أجل تاج الملوك، وصار تاج الملوك متحيِّر الأيدي ماذا يفعل؟ ولم يجد له حيلة غير أنه يفتح له دكانًا للتجارة في سوق البز. ثم إن الوزير أقبل على تاج الملوك وعزيز وقال لهما: اعلمَا أنه إن كان مقامنا على هذه الحالة، فإننا لا نبلغ مرادنا ولا يحصل مطلوبنا، وقد خطر ببالي شيء ولعله فيه الصلاح إن شاء الله. فقال له تاج الملوك وعزيز: افعل ما بَدَا لك، فإن المشايخ فيهم البركة، لا سيما وأنت قد مارست الأمور، فأَشِرْ علينا بما خطر ببالك. فقال لتاج الملوك: الرأي أننا نكتري لك دكانًا في سوق البز وتقعد فيها للبيع والشراء؛ لأن كل واحد من الخاص والعام يحتاج إلى البز، وإذا قعدتَ في تلك الدكان ينصلح أمرك إن شاء الله تعالى، خصوصًا وصورتك جميلة، ولكن اجعل عزيزًا أمينًا عندك وأجلِسْه في داخل الدكان ليناولك الأقمشة. فلما سمع تاج الملوك ذلك الكلام قال: إن هذا رأي سديد. فعند ذلك أخرج تاج الملوك بدلةً تجاريةً ولبسها، وقام يمشي وغلمانه خلفه، وأعطى لأحدهم ألفَ دينار معه ليقضي بها مصالح الدكان، وما زالوا سائرين إلى أن وصلوا إلى سوق البز، فلما رأت التجار تاج الملوك وشاهدوا حُسْنَه وجماله، تحيَّرَتْ عقولهم وصاروا يقولون: هل رضوان فتح أبواب الجنان وسها عنها، فخرج هذا الشاب البديع الحُسْن؟ وبعضهم يقول: لعل هذا من الملائكة. فلما دخلوا عند التجار سألوا عن دكان شيخ السوق فدلوهم عليه، فتوجَّهوا إليه.

فلما قربوا منه قام إليهم هو ومَن عنده من التجار وعظَّموهم، خصوصًا الوزير الأجل، فإنهم رأوه رجلًا كبيرًا مهابًا، ومعه تاج الملوك وعزيز، فقال التجار لبعضهم: لا شك أن هذا الشيخ والد هذين الغلامين. فقال لهم الوزير: مَن شيخ السوق فيكم؟ فقالوا: ها هو. فنظر إليه الوزير وتأمَّلَه، فرآه رجلًا كبيرًا صاحب هيئة ووقار وخدم وغلمان، ثم إن شيخ السوق حيَّاهم تحيةَ الأحباب، وبالَغَ في إكرامهم وأجلَسَهم جنبه وقال لهم: هل لكم حاجة نفوز بقضائها؟ فقال الوزير: نعم، إني رجل كبير طاعن في السن، ومعي هذان الغلامان، وسافرتُ بهما سائرَ الأقاليم والبلاد، وما دخلتُ بلدةً إلا أقمتُ بها سنةً كاملة، حتى يتفرَّجَا عليها ويعرفَا أهلها، وإني قد أتيتُ بلدكم هذه واخترتُ المقام فيها، وأشتهي منك دكانًا تكون من أحسن المواضع حتى أجلسهما فيها، ليتاجرَا ويتفرجَا على هذه المدينة ويتخلَّقَا بأخلاق أهلها، ويتعلَّمَا البيعَ والشراء والأخذ والعطاء. فقال شيخ السوق: لا بأس بذلك. ثم نظر إلى الولدين وفرح بهما وأحَبَّهما حبًّا زائدًا، وكان شيخ السوق مغرَمًا بفاتك اللحظات، ويغلِّب حبَّ البنين على البنات، ويميل إلى الحموضة. فقال في نفسه: سبحان خالقهما ومصوِّرهما من ماء مهين. ثم قام واقفًا في خدمتهما كالغلام بين أيديهما، وبعد ذلك سعى وهيَّأ لهما الدكان، وكانت في وسط السوق، ولم يكن أكبر منها ولا أوجه منها عندهم؛ لأنها كانت متَّسِعةً مزخرفةً فيها رفوفٌ من عاج وأبنوس؛ ثم سلَّمَ المفاتيح للوزير وهو في صفة تاجر وقال: جعلها الله مباركةً على ولَدَيْكَ. فلما أخذ الوزير مفاتيح الدكان، توجَّهَ إليها هو والغلامان ووضعوا فيها أمتعتهم، وأمروا غلمانهم أن ينقلوا إليها جميعَ ما عندهم من البضائع والقماش. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 132﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الوزير لما أخذ مفاتيح الدكان توجَّهَ إليها هو والغلامان، ووضعوا فيها أمتعتهم، وأمروا غلمانهم أن ينقلوا إليها جميعَ ما عندهم من البضائع والقماش والتحف، وكان ذلك شيئًا يساوي خزائن مال، فنقلوا جميعَ ذلك إلى الدكان وباتوا تلك الليلة. فلما أصبح الصباح، أخذهما الوزير ودخل بهما الحمام، فلما دخلوا الحمام تنظفوا وأخذوا غايةَ حظِّهم، وكان كلٌّ من الغلامين ذا جمال باهر، فصار في الحمام على حد قول الشاعر:

بُشْرَى لَقَيِّمَةٌ إِذْ لَامَسَتْ يَدُهُ        جِسْمًا تَوَلَّدَ بَيْنَ الْمَاءِ وَالنُّورِ

مَا زَالَ يُظْهِرُ لُطْفًا مِنْ صِنَاعَتِهِ        حَتَّى جَنَى الْمِسْكَ مِنْ تِمْثَالِ كَافُورِ

ثم خرجَا من الحمام، وكان شيخ السوق لما سمع بدخولهما الحمامَ قعد في انتظارهما، وإذا بهما قد أقبلَا وهما كالغزالين، وقد احمرَّتْ خدودهما واسودَّتْ عيونهما ولمعت أبدانهما، فكأنهما غصنان مثمران أو قمران زاهيان. فقال لهما: يا أولادي، حمَّامكم نعيم دائم. فقال تاج الملوك بأعذب كلام: ليتك كنتَ معنا.

ثم إن الاثنين قبَّلَا يدَيْه ومشيَا قدامه حتى وصلَا إلى الدكان تعظيمًا له؛ لأنه كبير السوق، وقد أحسن إليهما بإعطائهما الدكان. فلما رأى أردافهما في ارتجاج، زاد به الوَجْد وهاج، وشخر ونخر، ولم يَبْقَ له مصطبر؛ فأحدق بهما العينين وأنشد هذين البيتين:

يُطَالِعُ الْقَلْبَ بَابُ الاخْتِصَاصِ بِهِ        وَلَيْسَ يَقْرَأُ فِيهِ مَبْحَثَ الشَّرِكَةْ

لَا غَرْوَ فِي كَوْنِهِ يَرْتَجُّ مِنْ ثِقَلٍ        فَكَمْ لِذَا الْفَلَكِ الدَّوَّارِ مِنْ حَرَكَةْ

فلما سمعَا منه هذا الشعر، أقسمَا عليه أن يدخل معهما الحمَّام، وكانا قد تركَا الوزير داخل الحمام؛ فلما دخل معهما شيخ السوق الحمامَ ثاني مرة، سمع الوزير بدخوله، فخرج إليه من الخلوة واجتمع به في وسط الحمام وعزم عليه فامتنع، فمسك في إحدى يديه تاج الملوك وفي يده الأخرى عزيز، ودخلَا به خلوة أخرى، فانقاد لهما ذلك الشيخ الخبيث، فحلف تاج الملوك ألَّا يحمِّيه غيره، وحلف عزيز ألَّا يصب عليه الماء غيره، فقال له الوزير: إنهما أولادك. فقال شيخ السوق: أبقاهما الله لك، لقد حلَّتْ في مدينتنا البركةُ والسعود بقدومكم وقدوم أتباعكم. ثم أنشد هذين البيتين:

أَقْبَلْتَ فَاخْضَرَّتْ لَدَيْنَا الرُّبَى        وَقَدْ زَهَتْ بِالزَّهْرِ لِلْمُجْتَلِي

وَنَادَتِ الْأَرْضُ وَمَنْ فَوْقَهَا        أَهْلًا وَسَهْلًا بِكَ مِنْ مُقْبِلِ

فشكروه على ذلك، وما زال تاج الملوك يحميه وعزيز يصبُّ عليه الماء، وهو يظن أن روحه في الجنة، حتى أتمَّا خدمته، فدعا لهما، وجلس جنب الوزير على أنه يتحدَّث معه، ولكن معظم قصده النظر إلى تاج الملوك وعزيز، ثم بعد ذلك جاءت لهم الغلمان بالمناشف، فتنشفوا ولبسوا حوائجهم ثم خرجوا من الحمام، فأقبل الوزير على شيخ السوق وقال له: يا سيدي، إن الحمام نعيم الدنيا. فقال شيخ السوق: جعله الله لك ولأولادك عافيةً، وكفاهما الله شرَّ العين، فهل تحفظون شيئًا مما قالته البلغاء في الحمَّام؟ فقال تاج الملوك: أنا أنشد لك بيتين وهما:

إِنَّ عَيْشَ الْحَمَّامِ أَطْيَبُ عَيْشٍ        غَيْرَ أَنَّ الْمَقَامَ فِيهِ قَلِيلُ

جَنَّةٌ تَكْرَهُ الْإِقَامَةَ فِيهَا        وَجَحِيمٌ يَطِيبُ فِيهَا الدُّخُولُ

فلما فرغ تاج الملوك من شعره قال عزيز: وأنا أحفظ في الحمَّام شيئًا. فقال شيخ السوق: أسمعني إياه. فأنشد هذين البيتين:

وَبَيْتٍ لَهُ مِنْ جَلْمَدِ الصَّخْرِ أَزْهَارُ        أَنِيقٍ إِذَا مَا أُضْرِمَتْ حَوْلَهُ النَّارُ

تَرَاهُ جَحِيمًا وَهْوَ فِي الْحَقِّ جَنَّةٌ        وَأَكْثَرُ مَا فِيهَا شُمُوسٌ وَأَقْمَارُ

فلما فرغ عزيز من شعره، تعجَّبَ شيخ السوق من صباحتهما وفصاحتهما وقال لهما: والله لقد حزتُمَا الفصاحةَ والملاحة، فاسمعا أنتما مني. ثم أطرب النغمات وأنشد هذه الأبيات:

يَا حُسْنَ نَارٍ وَالنَّعِيمُ عَذَابُهَا        تُحْيَى بِهِ الْأَرْوَاحُ وَالْأَبْدَانُ

فَاعْجَبْ لِبَيْتٍ لَا يَزَالُ نَعِيمُهُ        غَصًّا وَتُوقَدُ تَحْتَهُ نِيرَانُ

عَيْشُ السُّرُورِ لِمَنْ أَلَمَّ بِهِ وَقَدْ        سَفَحَتْ عَلَيْهِ دُمُوعَهَا الْغُدْرَانُ

ثم سرح في رياض حسنهما نظر العين، وأنشد هذين البيتين:

وَافَيْتُ مَنْزِلَهُ فَلَمْ أَرَ حَاجِبًا        إِلَّا وَيَلْقَانِي بِوَجْهٍ ضَاحِكِ

وَدَخَلْتُ جَنَّتَهُ وَزُرْتُ جَحِيمَهُ        فَشَكَرْتُ رِضْوَانًا وَرَأْفَةَ مَالِكِ

فلما سمعوا ذلك، تعجبوا من هذه الأبيات، ثم إن شيخ السوق عزم عليهم فامتنعوا ومضوا إلى منزلهم ليستريحوا من تعب الحمام، ثم أكلوا وشربوا وباتوا تلك الليلة في منزلهم على أتم ما يكون من الحظ والسرور. فلما أصبح الصباح، قاموا من نومهم وتوضئوا وصلوا فرضهم واصطبحوا، ولما طلع النهار وفتحت الدكاكين والأسواق، خرجوا من المنزل وتوجهوا إلى السوق وفتحوا الدكان، وكان الغلمان قد هيَّئُوها أحسن هيئة وفرشوها بالبسط الحرير، ووضعوا فيها مرتبتين، كل واحدة منهما تساوي مائة دينار، وجعلوا فوق كل مرتبة نطعًا ملوكيًّا دائره من الذهب؛ فجلس تاج الملوك على مرتبة، وجلس عزيز على الأخرى، وجلس الوزير في وسط الدكان، ووقف الغلمان بين أيديهم، وتسامعت بهم الناس، فازدحموا عليهم وباعوا بعض أقمشتهم، وشاع ذكر تاج الملوك في المدينة، واشتهر فيها خبر حُسْنه وجماله، ثم أقاموا على ذلك أيامًا، وفي كل يوم يهرع الناس إليهم، فأقبل الوزير على تاج الملوك وأوصاه بكتمان أمره، وأوصى عليه عزيزًا ومضى إلى الدار ليدبِّر أمرًا يعود نفعه عليهم، وصار تاج الملوك وعزيز يتحادثان، وصار تاج الملوك يقول عسى أن يجيء أحد من عند السيدة دنيا. وما زال تاج الملوك على ذلك أيامًا وليالي وهو لا ينام، وقد تمكَّنَ منه الغرام، وزاد به النحول والأسقام، حتى حُرِم لذيذ المنام، وامتنع من الشراب والطعام، وكان كالبدر في تمامه؛ فبينما تاج الملوك جالس، وإذا بعجوز أقبلت عليه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 133﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير دندان قال لضوء المكان: فبينما تاج الملوك جالس، وإذا بعجوز أقبلت عليه وتقدمت إليه وخلفها جاريتان، وما زالت ماشية حتى وقفت على دكان تاج الملوك، فرأت قدَّه واعتدالَه وحُسْنَه وجماله، فتعجبت من ملاحته ورشحت في سراويلها، ثم قالت: سبحان مَن خلقك من ماء مهين، سبحان مَن جعلك فتنةً للعالمين، ولم تزل تتأمَّل فيه وتقول: ما هذا بشر، إن هذا إلا ملك كريم. ثم دنت منه وسلمت عليه، فردَّ عليها السلام، وقام لها واقفًا على الأقدام، وتبسَّمَ في وجهها؛ هذا كله بإشارة عزيز. ثم أجلسها إلى جانبه وصار يروح عليها إلى أن استراحت، ثم إن العجوز قالت لتاج الملوك: يا ولدي يا كامل الأوصاف والمعاني، هل أنت من هذه الديار؟ فقال تاج الملوك بكلام فصيح عذب مليح: والله يا سيدتي، عمري ما دخلت هذه الديار إلا هذه المرة، ولا أقامت فيها إلا على سبيل الفرجة. فقالت: لك الإكرام من قادم على الرحب والسعة، ما الذي جئتَ به معك من القماش؟ فأرني شيئًا مليحًا، فإن المليح لا يحمل إلا المليح.

فلما سمع تاج الملوك كلامها خفق فؤاده ولم يفهم معنى كلامها، فغمزه عزيز بالإشارة، فقال لها تاج الملوك: عندي كل ما تشتهين من الشيء الذي لا يصلح إلا للملوك وبنات الملوك، فلمَن تريدين حتى أقلِّب عليك ما يصلح لأربابه؟ وأراد بذلك الكلام أن يفهم معنى كلامها. فقالت له: أريدها قماشًا يصلح للسيدة دنيا بنت الملك شهرمان. فلما سمع تاج الملوك ذِكْر محبوبته، فرح فرحًا شديدًا وقال لعزيز: ائتني بأفخر ما عندك من البضاعة. فأتاه عزيز ببقجة وحلها بين يديه، فقال لها تاج الملوك: اختاري ما يصلح لها، فإن هذا شيء لا يوجد عند غيري. فاختارت العجوز شيئًا يساوي ألف دينار وقالت: بكم هذا؟ وصارت تحدِّثه وتحكُّ بين أفخاذها بكلوة يديها، فقال لها: وهل أساوم مثلك في هذا الشيء الحقير؟ الحمد لله الذي عرَّفني بك. فقالت له العجوز: أعوذ وجهَك المليح برب الفلق، إن وجهك مليح وفعلك مليح، هنيئًا لمَن تنام في حضنك وتضم قوامك الرجيح، وتحظى بوجهك الصبيح، وخصوصًا إذا كانت صاحبة حُسْن مثلك. فضحك تاج الملوك حتى استلقى على قفاه، ثم قال: يا قاضي الحاجات على أيدي العجائز الفاجرات. فقالت له: يا ولدي ما الاسم؟ قال: اسمي تاج الملوك. فقالت: إن هذا الاسم من أسماء الملوك، ولكنك في زيِّ التجار. فقال لها عزيز: من محبته عند أهله ومعزته عليهم سموه بهذا الاسم. فقالت العجوز: صدقتَ، كفاكم الله شر الحساد، ولو فتَّتَ بمحاسنكم الأكباد.

ثم أخذت القماش ومضت وهي باهتة في حُسْنه وجماله وقدِّه واعتداله، ولم تزل ماشية حتى دخلت على السيدة دنيا وقالت لها: يا سيدتي، جئتُ لك بقماش مليح. فقالت لها: أرني إياه. فقالت: يا سيدتي ها هو، فقلِّبيه وانظريه. فلما رأته السيدة دنيا قالت لها: يا دادتي، إن هذا قماش مليح ما رأيته في مدينتنا. فقالت العجوز: يا سيدتي، إن بائعه أحسن منه، كأنَّ رضوانًا فتح أبواب الجنان وسها فخرج منها التاجر الذي يبيع هذا القماش، وأنا أشتهي في هذه الليلة أن يكون عندك وينام بين نهودك؛ فإنه فتنة لمَن يراه، وقد جاء مدينتنا بهذه الأقمشة لأجل الفرجة. فضحكت السيدة دنيا من كلام العجوز وقالت: أخزاك الله يا عجوز النحس، إنك خرفت ولم يبقَ لك عقل. ثم قالت: هات القماش حتى أبصره بصرًا جيدًا. فناولتها إياه فنظرته ثانيًا فرأته شيئًا قليلًا وثمنه كثير، وتعجَّبَتْ من حُسْن ذلك القماش؛ لأنها ما رأت في عمرها مثله، فقالت لها العجوز: يا سيدتي، فلو رأيتِ صاحبَه لَعرفتِ أنه أحسن مَن يكون على وجه الأرض. فقالت لها السيدة دنيا: هل سألتِه إن كان له حاجة يُعلِمنا بها فنقضيها له؟ فقالت العجوز وقد هزَّتْ رأسها: حفظ الله فراستَكِ، والله إن له حاجة، وهل أحد يخلو من حاجة؟ فقالت لها السيدة دنيا: اذهبي إليه وسلِّمي عليه وقولي له: شرفَتْ بقدومك مدينتُنا، ومهما كان لك من الحوائج قضيناه لك على الرأس والعين. فرجعت العجوز إلى تاج الملوك في الوقت، فلما رآها طار قلبه من الفرح، ونهض لها قائمًا على قدميه، وأخذ يدها وأجلسها إلى جانبه؛ فلما جلست واستراحت، أخبرته بما قالته السيدة دنيا. فلما سمع ذلك فرح غاية الفرح، واتسع صدره وانشرح، وقال في نفسه: قد قضيت حاجتي. ثم قال للعجوز: لعلك توصلين إليها كتابًا من عندي وتأتيني بالجواب. فقالت: سمعًا وطاعة. فلما سمع ذلك منها قال لعزيز: ائتني بدواة وقرطاس، وقلم من نحاس. فلما أتاه بتلك الأدوات كتب هذه الأبيات:

كَتَبْتُ إِلَيْكَ يَا سُؤْلِي كِتَابًا        بِمَا أَلْقَاهُ مِنْ أَلَمِ الْفِرَاقِ

فَأَوَّلُ مَا أُسَطِّرُ نَارُ قَلْبِي        وَثَانِيهِ غَرَامِي وَاشْتِيَاقِي

وَثَالِثُهُ مَضَى عُمْرِي وَصَبْرِي        وَرَابِعُهُ جَمِيعُ الْوَجْدِ بَاقِ

وَخَامِسُهُ مَتَى عَيْنِي تَرَاكُمْ        وَسَادِسُهُ مَتَى يَوْمُ التَّلَاقِي

ثم كتب في إمضائه: إن هذا الكتاب، من أسير الأشواق المسجون في سجن الاشتياق، الذي ليس له إطلاق إلا بالوصال ولو بطيف الخيال؛ لأنه يقاسي أليم العذاب من فرقة الأحباب. ثم أفاض دمع العين وكتب هذين البيتين:

كَتَبْتُ إِلَيْكَ وَالْعَبَرَاتُ تَجْرِي        وَدَمْعُ الْعَيْنِ لَيْسَ لَهُ انْقِطَاعُ

وَلَسْتُ بِيَائِسٍ مِنْ فَضْلِ رَبِّي        عَسَى يَوْمٌ يَكُونُ بِهِ اجْتِمَاعُ

ثم طوى الكتاب وختمه وأعطاه العجوز وقال: أوصليه إلى السيدة دنيا. فقالت: سمعًا وطاعة. ثم أعطاها ألف دينار وقال: اقبلي هذه مني هدية. فأخذتها وانصرفت داعية له، ولم تزل ماشية حتى دخلت على السيدة دنيا، فلما رأتها قالت لها: يا دادتي، أي شيء طلب من الحوائج حتى نقضيها له؟ فقالت لها: يا سيدتي، قد أرسل معي كتابًا ولا أعلم بما فيه. ثم ناولتها الكتاب، فأخذته وقرأته وفهمت معناه ثم قالت: من أين إلى أين حتى يراسلني هذا التاجر ويكاتبني؟ ثم لطمت وجهها وقالت: لولا خوفي من الله تعالى لصلبته على دكانه. فقالت العجوز: وأي شيء في هذا الكتاب حتى أزعج قلبك؟ هل فيه شكاية مظلمة، أو فيه طلب ثمن القماش؟ فقالت لها: ويلكِ، ما فيه ذلك، وما فيه إلا عشق ومحبة، وهذا كله منك، وإلا فمن أين يتوصَّل هذا الشيطان إلى هذا الكلام؟ فقالت لها العجوز: يا سيدتي، أنت قاعدة في قصرك العالي، وما يصل إليك أحد ولا الطير الطائر، سلامتك من اللوم والعتاب، وما عليك من نبيح الكلاب، فلا تؤاخذيني حيث أتيتُكِ بهذا الكتاب ولا أعلم ما فيه، ولكن الرأي أن تردي إليه جوابًا وتهدِّديه فيه بالقتل وتنهيه عن هذا الهزيان، فإنه ينتهي ولا يعود. فقالت السيدة دنيا: أخاف أن أكاتبه فيطمع. فقالت العجوز: إنه إذا سمع التهديد والوعيد رجع عمَّا هو فيه. فقالت: عليَّ بدواة وقرطاس، وقلم من نحاس. فلما أحضروا لها تلك الأدوات، كتبت هذه الأبيات:

يَا مُدَّعِي الْحُبَّ وَالْبَلْوَى مَعَ السَّهَرِ        وَمَا يُلَاقِيهِ مِنْ وَجْدٍ وَمِنْ فِكْرِ

أَتَطْلُبُ الْوَصْلَ يَا مَغْرُورُ مِنْ قَمَرٍ        وَهَلْ يَنَالُ الْمُنَى شَخْصٌ مِنَ الْقَمَرِ

إِنِّي نَصَحْتُكَ عَمَّا أَنْتَ طَالِبُهُ        فَاقْصِرْ فَإِنَّكَ فِي هَذَا عَلَى خَطَرِ

وَإِنْ رَجَعْتَ إِلَى هَذَا الْكَلَامِ فَقَدْ        أَتَاكَ مِنِّي عَذَابٌ زَائِدُ الضَّرَرِ

وَحَقِّ مَنْ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ        وَمَنْ أَنَارَ ضِيَاءَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ

لَئِنْ رَجَعْتَ إِلَى مَا أَنْتَ ذَاكِرُهُ        لَأَصْلِبَنَّكَ فِي جِذْعٍ مِنَ الشَّجَرِ

ثم طوت الكتاب وأعطته للعجوز وقالت لها: أعطيه له وقولي له: كفَّ عن هذا الكلام. فقالت لها: سمعًا وطاعة. ثم أخذت الكتاب وهي فرحانة ومضت إلى منزلها وباتت في بيتها، فلما أصبح الصباح، توجهت إلى دكان تاج الملوك فوجدته في انتظارها، فلما رآها كاد أن يطير من الفرح، فلما قربت منه، نهض إليها قائمًا وأقعدها بجانبه، فأخرجت له الورقة وناولته إياها وقالت له: اقرأ ما فيها. ثم قالت له: إن السيدة دنيا لما قرأَتْ كتابك اغتاظت، ولكنني لاطفتها ومازحتها حتى أضحكتها ورقَّتْ لك وردَّتْ لك الجوابَ. فشكر تاج الملوك على ذلك وأمر عزيزًا أن يعطيها ألف دينار، ثم إنه قرأ الكتاب وفهمه وبكى بكاءً شديدًا، فرَقَّ له قلب العجوز وعظم عليها بكاؤه وشكواه، ثم قالت له: يا ولدي، وأي شيء في هذه الورقة حتى أبكاك؟ فقال لها: إنها تهدِّدني بالقتل والصلب وتنهاني عن مراسلتها، وإن لم أراسلها يكون موتي خيرًا من حياتي، فخذي جوابَ كتابها ودعيها تفعل ما تريد. فقالت له العجوز: وحياة شبابك، لا بد أني أخاطر معك بروحي وأبلغك مرادك وأوصلك إلى ما في خاطرك. فقال لها تاج الملوك: كل ما تفعلينه أجازيك عليه ويكون في ميزانك، فإنك خبيرة بالسياسة وعارفة بأبواب الدناسة، وكل عسير عليك يسير، والله على كل شيء قدير. ثم أخذ ورقة وكتب فيها هذه الأبيات:

أَمَسْتَ تُهَدِّدُنِي بِالْقَتْلِ وَا حَرَبِي        وَالْقَتْلُ لِي رَاحَةٌ وَالْمَوْتُ مَقْدُورُ

وَالْمَوْتُ أَغْنَى لِصَبٍّ أَنْ تَطُولَ بِهِ        حَيَاتُهُ وَهْوَ مَمْنُوعٌ وَمَقْهُورُ

بِاللهِ زُورُوا مُحِبًّا قَلَّ نَاصِرُهُ        فَإِنَّنِي عَبْدُكُمْ وَالْعَبْدُ مَأْسُورُ

يَا سَادَتِي فَارْحَمُونِي فِي مَحَبَّتِكُمْ        فَكُلُّ مَنْ يَعْشَقِ الْأَحْرَارَ مَعْذُورُ

ثم إنه تنفَّسَ الصعداءَ وبكى حتى بكت العجوز، وبعد ذلك أخذت الورقة منه وقالت له: طِبْ نفسًا وقَرَّ عينًا، فلا بد أن أبلِّغَك مقصودَك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 134﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن تاج الملوك لما بكى قالت له العجوز: طِبْ نفسًا وقَرَّ عينًا، فلا بد أن أبلِّغَك مقصودَك. ثم قامت وتركته على النار وتوجَّهَتْ إلى السيدة دنيا، فرأتها متغيِّرة اللون من غيظها بمكتوب تاج الملوك، فناولتها الكتاب، فازدادت غيظًا وقالت للعجوز: أَمَا قلتُ لكِ إنه يطمع فينا؟ فقالت لها: وأيُّ شيء هذا الكلب حتى يطمع فيك؟ فقالت لها السيدة دنيا: اذهبي إليه وقولي له: إنْ راسَلْتَها بعد ذلك ضربَتْ عنقَك. فقالت لها العجوز: اكتبي له هذا الكلام في مكتوب، وأنا آخذ المكتوب معي لأجل أن يزداد خوفه. فأخذت ورقةً وكتبَتْ فيها هذا الأبيات:

أَيَا غَافِلًا عَنْ حَادِثَاتِ الطَّوَارِقِ        وَلَيْسَ إِلَى نَيْلِ الْوِصَالِ بِسَابِقِ

أَتَزْعُمُ يَا مَغْرُورُ أَنْ تُدْرِكَ السُّهَا        وَمَا أَنْتَ لِلْبَدْرِ الْمُنِيرِ بِلَاحِقِ

فَكَيْفَ تُؤَمِّلُنَا وَتَرْجُو وِصَالَنَا        لِتَحْظَى بِضَمٍّ لِلْقُدُودِ الرَّوَاشِقِ

فَدَعْ عَنْكَ هَذَا الْقَصْدَ خِيفَةَ سَطْوَتِي        بِيَوْمٍ عَبُوسٍ فِيهِ شَيْبُ الْمَفَارِقِ

ثم طوت الكتاب وناولته للعجوز، فأخذته وانطلقت به إلى تاج الملوك، فلما رآها قام على قدميه وقال: لا أعدمني الله بركةَ قدومك. فقالت له العجوز: خذ جواب مكتوبك. فأخذ الورقة وقرأها وبكى بكاءً شديدًا وقال: إني أشتهي مَن يقتلني الآن، فإن القتل أهون عليَّ من هذا الأمر الذي أنا فيه. ثم أخذ دواةً وقلمًا وقرطاسًا وكتب مكتوبًا، ورقم فيه هذين البيتين:

فَيَا مُنْيَتِي لَا تَتْبَعِي الْهَجْرَ وَالْجَفَا        وَزُورِي مُحِبًّا فِي الْمَحَبَّةِ غَارِقُ

وَلَا تَحْسَبِينِي فِي الْحَيَاةِ مَعَ الْجَفَا        فَرُوحِي مِنْ بَعْدِ الْأَحِبَّةِ طَالِقُ

ثم طوى الكتاب وأعطاه للعجوز وقال لها: قد أتعبتك بدون فائدة. وأمر عزيزًا أن يدفع لها ألف دينار وقال لها: يا أمي إن هذه الورقة لا بد أن يعقبها كمال الاتصال أو كمال الانفصال. فقالت له: يا ولدي، والله ما أشتهي لك إلا الخير، ومرادي أن تكون عندك، فإنك أنت القمر صاحب الأنوار الساطعة، وهي الشمس الطالعة، وإن لم أجمع بينكما فليس في حياتي فائدة، وأنا قد قطعت عمري في المكر والخداع حتى بلغت التسعين من الأعوام، فكيف أعجز عن الجمع بين اثنين في الحرام؟ ثم ودَّعَتْه وطيَّبَتْ قلبه وانصرفت.

ولم تزل تمشي حتى دخلت على السيدة دنيا وقد أخفت الورقة في شعرها، فلما جلست عندها حكَّتْ رأسَها وقالت: يا سيدتي، عساك أن تفلِّي شوشتي، فإن لي زمانًا ما دخلت الحمام. فكشفت السيدة دنيا عن مرفقَيْها، وحلَّتْ شعرَ العجوز وصارت تفلِّي شوشتها، فسقطت الورقة من رأسها، فرأتها السيدة دنيا فقالت: ما هذه الورقة؟ فقالت: كأني قعدت على دكان التاجر، فتعلَّقَتْ معي هذه الورقة، هاتيها حتى أوديها له. ففتحتها السيدة دنيا وقرأتها وفهمت ما فيها وقالت للعجوز: هذه حيلة منكِ، ولولا أنكِ ربيتِني لَبطشتُ بك في هذا الوقت، وقد بلاني الله بهذا التاجر، وكلُّ ما جرى لي منه تحت رأسك، وما أدري من أي أرض جاءنا هذا، ولم يقدر أحد من الناس أن يتجاسر عليَّ غيره، وأنا أخاف أن ينكشف أمري، وخصوصًا في رجل ما هو من جنسي ولا من أقراني. فأقبلت العجوز عليها وقالت: لا يقدر أحد أن يتكلَّمَ بهذا الكلام خوفًا من سطوتك وهيبة أبيك، ولا بأس أن تردي له الجواب. فقالت: يا دادتي، إن هذا شيطان، كيف تجاسَرَ على هذا الكلام ولم يَخَفْ من سطوة السلطان؟ وقد تحيَّرْتُ في أمره، فإن أمرتُ بقتله فليس بصواب، وإن تركته ازداد في تجاسُرِه. فقالت لها العجوز: اكتبي له كتابًا لعله ينزجر. فطلبت ورقةً ودواةً وقلمًا، وكتبت له هذه الأبيات:

طَالَ الْعِتَابُ وَفَرْطُ الْجَهْلِ أَغْرَاكَا        فَكَمْ بِخَطِّ يَدِي فِي الشِّعْرِ أَنْهَاكَا

وَأَنْتَ تَزْدَادُ عِنْدَ النَّهْيِ فِي طَمَعٍ        وَلَسْتُ إِلَّا بِكَتْمِ السِّرِّ أَرْضَاكَا

اكْتُمْ هَوَاكَ وَلَا تَجْهَرْ بِهِ أَبَدًا        وَإِنْ نَطَقْتَ فَإِنِّي لَسْتُ أَرْعَاكَا

وَإِنْ رَجَعْتَ إِلَى مَا أَنْتَ تَذْكُرُهُ        فَقَدْ أَتَاكَ غُرَابُ الْبَيْنِ يَنْعَاكَا

وَعَنْ قَلِيلٍ يَكُونُ الْمَوْتُ مُنْدَفِعًا        عَلَيْكَ وَالدَّفْنُ تَحْتَ الْأَرْضِ مَثْوَاكَا

وَتَتْرُكُ الْأَهْلَ يَا مَغْرُورُ فِي نَدَمٍ        وَمِنْ سُيُوفِ الْهَوَى قَدْ شَطَّ مَنْجَاكَا

ثم طوت الورقة ودفعَتْها للعجوز، فأخذتها وتوجَّهت إلى تاج الملوك فأعطتها له، فلما قرأها علم أنها قاسية القلب، وأنه لا يصل إليها، فشكا أمره إلى الوزير وطلب منه حسن التدبير، فقال له الوزير: اعلم أنه ما بقي يفيد فيها غير أنك تكتب لها كتابًا وتدعو عليها فيه. فقال: يا أخي يا عزيز، أكتب لها عن لساني مثل ما تعرف. فأخذ عزيز ورقةً وكتب الأبيات:

يَا رَبُّ بِالْخَمْسَةِ الْأَشْيَاخِ تُنْقِذُنِي        وَمَنْ بُلِيتُ بِهِ فَاجْعَلْهُ فِي شَجَنِي

فَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فِي جَوَى لَهَبٍ        وَقَدْ جَفَانِي حَبِيبٌ لَيْسَ يَرْحَمُنِي

فَكَمْ أَرِقُّ لَهَا فِيمَا بُلِيتُ بِهِ        وَكَمْ تَجُوزُ عَلَى ضَعْفِي وَتَظْلِمُنِي

أَهِيمُ فِي غَمَرَاتٍ لَا انْقِضَاءَ لَهَا        وَلَا أَرَى مُسْعِفًا يَا رَبُّ يُسْعِفُنِي

وَكَمْ أَرُومُ سُلُوًّا فِي مَحَبَّتِهَا        وَكَيْفَ أَسْلُو وَصَبْرِي فِي الْغَرَامِ فَنِي

يَا مَانِعِي فِي الْهَوَى طِيبَ الْوِصَالِ فَهَلْ        أَمِنْتَ مِنْ نَائِبَاتِ الدَّهْرِ وَالْمِحَنِ

أَلَسْتَ فِي عَيْشَةٍ مَسْرُورَةٍ وَأَنَا        مُغَرَّبٌ فِيكَ عَنْ أَهْلِي وَعَنْ وَطَنِي

ثم إن عزيزًا طوى الكتابَ وناوله لتاج الملوك، فلما قرأه أعجبه، فختمه ثم ناوله للعجوز، فأخذته العجوز وتوجَّهَتْ به إلى أن دخلت على السيدة دنيا، فناولتها إياه، فلما قرأته وفهمت مضمونه، اغتاظت غيظًا شديدًا وقالت: كل الذي جرى لي من تحت رأس هذه العجوز النحس. فصاحت على الجواري والخدام وقالت: امسكوا هذه العجوز الماكرة واضربوها بنعالكم. فنزلوا عليها ضربًا بالنعال حتى غُشِي عليها، فلما أفاقت قالت لها: والله يا عجوز السوء، لولا خوفي من الله تعالى لقتلتُكِ. ثم قالت لهم: أعيدوا عليها الضرب. فضربوها حتى غُشِي عليها، ثم أمرتهم أن يجروها ويرموها خارج الباب، فسحبوها على وجهها ورموها قدام الباب، فلما أفاقت قامت تمشي وتقعد حتى وصلت إلى منزلها وصبرت إلى الصباح، ثم قامت وتمشَّتْ حتى أتت إلى تاج الملوك وأخبرته بجميع ما جرى لها، فصعب عليه ذلك وقال لها: يعزُّ علينا يا أمي ما جرى لك، ولكن كل شيء بقضاء وقدر. فقالت له: طِبْ نفسًا وقَرَّ عينًا، فإني لا أزال أسعى حتى أجمع بينك وبينها، وأوصلك إلى هذه العاهرة التي أحرقتني بالضرب. فقال لها تاج الملوك: أخبريني ما سبب بغضها للرجال. فقالت: لأنها رأت منامًا أوجَبَ ذلك. فقال لها: وما ذلك المنام؟ فقالت: إنها كانت نائمةً ذاتَ ليلةٍ، فرأت صيادًا نصب شَرَكًا في الأرض وبذَرَ حوله قمحًا، ثم جلس قريبًا منه، فلم يَبْقَ شيء من الطيور إلا وقد أتى إلى ذلك الشَّرَك، ورأت في الطيور حمامتين ذكرًا وأنثى، فبينما هي تنظر إلى الشَّرَك، وإذا برِجْل الذكر تعلَّقَتْ في الشَّرَك وصار يختبط، فنفرت عنه جميع الطيور وفرَّتْ، فرجعت إليه امرأته وحامت عليه، ثم تقدَّمَتْ إلى الشَّرَك والصياد غافل، فصارت تنقر العين التي فيها رِجْل الذكر، وصارت تجذبه بمنقارها حتى خلصت رِجْله من الشَّرَك وطارت هي وإياه، فجاء بعد ذلك الصياد وأصلح الشَّرَك وقعد بعيدًا عنه، فلم يمضِ غير ساعة حتى نزلت الطيور وعلق الشَّرَك في الأنثى، فنفرت عنها جميعُ الطيور ومن جملتها الطير الذَّكَر، ولم يَعُدْ لأنثاه، فجاء الصياد وأخذ الطيرة الأنثى وذبحها، فانتبهت مرعوبةً من منامها وقالت: كلُّ ذَكَرٍ مثل هذا ما فيه خير، والرجال جميعهم ما عندهم خير للنساء.

فلما فرغت من حديثها لتاج الملوك قال لها: يا أمي، أريد أن أنظر إليها نظرةً واحدةً، ولو كان في ذلك مماتي، فتحيَّلِي لي بحيلة حتى أنظر إليها. فقالت: اعلم أن لها بستانًا تحت قصرها وهو برسم فرجتها، وإنها تخرج إليه في كل شهر مرة من باب السر وتقعد فيه عشرة أيام، وقد جاء أوانُ خروجها إلى الفرجة، فإذا أرادتَ الخروجَ أجيء إليك وأُعلِمك حتى تخرج وتصادفها، واحرص على أنك لا تفارِق البستانَ، فلعلها إذا رأت حُسْنَك وجمالك يتعلق قلبها بمحبتك، فإن المحبة أعظم أسباب الاجتماع. فقال: سمعًا وطاعة. ثم قام من الدكان هو وعزيز وأخذَا معهما العجوز ومضيَا إلى منزلهما وعرَّفاه لها، ثم إن تاج الملوك قال لعزيز: يا أخي ليس لي حاجة بالدكان، وقد قضيتُ حاجتي منها ووهبتُها لك بجميع ما فيها؛ لأنك تغرَّبْتَ معي وفارقتَ بلادك. فقَبِلَ عزيز منه ذلك ثم جلسَا يتحدثان، وصار تاج الملوك يسأله عن غريب أحواله وما جرى له، وصار هو يخبره بما حصل له، وبعد ذلك أقبلَا على الوزير وأعلماه بما عزم عليه تاج الملوك وقالَا له: كيف العمل؟ فقال: قوموا بنا إلى البستان. فلبس كلُّ واحدٍ منهم أفخرَ ما عنده وخرجوا وخلفهم ثلاثة مماليك، وتوجَّهوا إلى البستان، فرأوه كثيرَ الأشجار غزيرَ الأنهار، ورأوا الخولي جالسًا على الباب فسلَّموا عليه، فردَّ عليهم السلام. فناوله الوزير مائة دينار وقال: أشتهي أن تأخذ هذه النفقة وتشتري لنا شيئًا نأكله، فإننا غرباء ومعي هؤلاء الأولاد، وأردتُ أن أفرجهم. فأخذ البستاني الدنانيرَ وقال لهم: ادخلوا وتفرَّجوا وجميعه ملككم، واجلسوا حتى أحضر لكم بما تأكلون. ثم توجَّه إلى السوق، ودخل الوزير وتاج الملوك وعزيز داخل البستان بعد أن ذهب البستاني إلى السوق، ثم بعد ساعة أتى ومعه خروف مشوي ووضعه بين أيديهم، فأكلوا وغسلوا أيديهم وجلسوا يتحدثون، فقال الوزير: أخبرني عن هذا البستان، هل هو لك أم أنت مستأجره؟ فقال الشيخ: ما هو لي وإنما هو لبنت الملك السيدة دنيا. فقال الوزير: كم لك في كل شهر من الأجرة؟ فقال: دينار واحد لا غير. فتأمَّلَ الوزير في البستان فرأى هناك قصرًا عاليًا، إلا أنه عتيق، فقال الوزير: يا شيخ، أريد أن أعمل هنا خيرًا تذكرني به. فقال: وما تريد أن تفعل من الخير؟ فقال: خذ هذه الثلاثمائة دينار. فلما سمع الخولي بذكر الذهب قال: يا سيدي، مهما شئتَ فافعل. ثم أخذ الدنانير، فقال له: إن شاء الله تعالى نفعل في هذا المحل خيرًا.

ثم خرجوا من عنده وتوجَّهوا إلى منزلهم، وباتوا تلك الليلة. فلما كان من الغد أحضر الوزير مبيضًا ونقاشًا وصائغًا جيدًا، وأحضر لهم جميعَ ما يحتاجون إليه من الآلات، ودخل بهم البستان وأمرهم ببياض ذلك القصر وزخرفته بأنواع النقش، ثم أمر بإحضار الذهب واللازورد وقال للنقاش: اعمل في صدر هذا الإيوان صورة آدمي صياد كأنه نصب شَرَكَه وقد وقعَتْ فيه حمامة واشتبكت بمنقارها في الشَّرَك. فلما نقش النقاش جانبًا وفرغ من نقشه، قال له الوزير: افعل في الجانب الآخَر مثل الأول وصوِّر صورةَ الحمامة في الشَّرَك، وأن الصياد أخذها ووضع السكينَ على رقبتها، واعمل في الجانب الآخَر صورة جارح كبير قد قنص ذَكَرَ الحمام وأنشب فيه مخالبه. ففعل ذلك، فلما فرغ من هذه الأشياء التي ذكرها الوزير، ودَّعوا البستاني، ثم توجَّهوا إلى منزلهم وجلسوا يتحدَّثون، فقال تاج الملوك لعزيز: يا أخي أنشدني بعض الأشعار لعل صدري ينشرح وتزول عني هذه الأفكار، أو يبرد ما بقلبي من لهيب النار. فعند ذلك أطرب عزيز بالنغمات، وأنشد هذه الأبيات:

جَمِيعُ مَا قَالَتِ الْعُشَّاقُ مِنْ كَمَدٍ        حَوَيْتُهُ مُفْرَدًا حَتَّى وَهَى جَلَدِي

وَإِنْ تَرِدْ مَوْرِدًا مِنْ أَدْمُعِي اتَّسَعَتْ        لِلْوَارِدِينَ بِحَارُ الدَّمْعِ فِي مَدَدِ

أَنْ يَرَى الْعُشَّاقُ مَا صَنَعَتْ        أَيْدِي الْغَرَامِ بِهِمْ فَانْظُرْ إِلَى جَسَدِي

ثم أفاض العَبَرات، وأنشد هذه الأبيات:

مَنْ كَانَ لَا يَعْشَقُ الْأَجْيَادَ وَالْحَدَقَ        ثُمَّ ادَّعَى لَذَّةَ الدُّنْيَا فَمَا صَدَقَا

فَإِنَّ فِي الْعِشْقِ مَعْنًى لَيْسَ يُدْرِكُهُ        مِنَ الْبَرِيَّةِ إِلَّا كُلُّ مَنْ عَشِقَا

لَا خَفَّفَ اللهُ عَنْ قَلْبِي صَبَابَتَهُ        بِمَنْ هَوَيْتُ وَلَا عَنْ جَفْنِيَ الْأَرَقَا

ثم أطرب بالنغمات، وأنشد هذه الأبيات:

زَعَمَ ابْنُ سِينَا فِي أُصُولِ كَلَامِهِ        أَنَّ الْمُحِبَّ دَوَاؤُهُ الْأَلْحَانُ

وَوِصَالُ مِثْلِ حَبِيبِهِ مِنْ جِنْسِهِ        وَالنُّقْلُ وَالْمَشْرُوبُ وَالْبُسْتَانُ

فَصَحِبْتُ غَيْرَكَ لِلتَّدَاوِي مَرَّةً        وَأَعَانَنِي الْمَقْدُورُ وَالْإِمْكَانُ

فَعَلِمْتُ أَنَّ الْحُبَّ دَاءٌ قَاتِلٌ        فِيهِ ابْنُ سِينَا طِبُّهُ هَذَيَانُ

فلما فرغ عزيز من شعره، تعجَّبَ تاج الملوك من فصاحته وحُسْن روايته، وقال له: قد أزلتَ عني بعضَ ما بي. ثم قال له: إنْ كان يحضرك شيء من جنس هذا، فأَسمِعْني ما حضرك من الشعر الرقيق وطول الحديث. فأطرب بالنغمات وأنشد هذه الأبيات:

قَدْ كُنْتُ أَحْسَبُ أَنَّ وَصْلَكَ يُشْتَرَى        بِكَرَائِمِ الْأَمْوَالِ وَالْأَشْبَاحِ

وَظَنَنْتُ جَهْلًا أَنَّ حُبَّكَ هَيِّنٌ        تَفْنَى عَلَيْهِ نَفَائِسُ الْأَرْوَاحِ

حَتَّى رَأَيْتُكَ تَجْتَبِي وَتَخُصُّ مَنْ        أَحْبَبْتُهُ بِلَطَائِفِ الْإِمْنَاحِ

فَعَلِمْتُ أَنَّكَ لَا تُنَالُ بِحِيلَةٍ        وَلَوَيْتُ رَأْسِي تَحْتَ طَيِّ جَنَاحِي

وَجَعَلْتُ فِي عُشِّ الْغَرَامِ إِقَامَتِي        فِيهِ غُدُوِّي دَائِمًا وَرَوَاحِي

هذا ما كان أمر هؤلاء، وأما ما كان من أمر العجوز، فإنها انقطعت في بيتها، واشتاقت بنت الملك إلى الفرجة في البستان وهي لا تخرج إلا بالعجوز، فأرسلت إليها وصالحتها وطيَّبَتْ خاطرها وقالت: إني أريد أن أخرج إلى البستان لأتفرج على أشجاره وأثماره، وينشرح صدري بأزهاره. فقالت لها العجوز: سمعًا وطاعة، ولكن أريد أن أذهب إلى بيتي وألبس أثوابي وأحضر عندك. فقالت لها: اذهبي إلى بيتك ولا تتأخري عني. فخرجت العجوز من عندها وتوجَّهَتْ إلى تاج الملوك وقالت له: تجهَّزْ والبس أفخرَ أثوابك واذهب إلى البستان، وادخل على البستاني وسلِّم عليه ثم اختفِ في البستان. فقال: سمعًا وطاعة. وجعلت بينها وبينه إشارة، ثم توجَّهَتْ إلى السيدة دنيا، وبعد ذهابها قام الوزير وعزيز والبسَا تاجَ الملوك بدلةً من أفخر ملابس الملوك تساوي خمسة آلاف دينار، وشدَّا في وسطه حياصة من الذهب مرصَّعة بالجواهر والمعادن، ثم توجَّهوا إلى البستان. فلما وصلوا إلى باب البستان وجدوا الخولي جالسًا هناك، فلما رآه البستاني نهض له على الأقدام وقابله بالتعظيم والإكرام، وفتح له الباب وقال له: ادخل وتفرج في البستان. ولم يعلم البستاني أن بنت الملك تدخل البستان في هذا اليوم. فلما دخل تاج الملوك لم يلبث إلا مقدار ساعة وسمع ضجة، فلم يشعر إلا والخدم والجواري خرجوا من باب السر، فلما رآهم الخولي ذهب إلى تاج الملوك وأعلَمَه بمجيئها وقال له: يا مولاي، كيف يكون العمل وقد أتَتِ ابنة الملك السيدة دنيا؟ فقال: لا بأس عليك، فإني أختفي في بعض مواضع البستان. فأوصاه البستاني بغاية الاختفاء ثم تركه وراح.

فلما دخلت بنت الملك هي وجواريها والعجوز في البستان، قالت العجوز في نفسها: متى كان الخدم معنا فإننا لا ننال مقصودنا. ثم قالت لابنة الملك: يا سيدتي، إني أقول لك على شيء فيه راحة لقلبك. فقالت السيدة دنيا: قولي ما عندك. فقالت العجوز: يا سيدتي، إن هؤلاء الخدم لا حاجةَ لك بهم في هذا الوقت، ولا ينشرح صدرك ما داموا معنا، فاصرفيهم عنَّا. فقالت السيدة دنيا: صدقتِ. ثم صرفتهم، وبعد قليل تمشَّتْ فصار تاج الملوك ينظر إليها وإلى حُسْنها، وصارت العجوز تسارقها في الحديث إلى أن أوصلَتْها إلى القصر الذي أمر الوزير بنقشه، ثم دخلت ذلك القصر وتفرَّجَتْ على نقشه، وأبصرَتِ الطيورَ والصياد والحمام. فقالت: سبحان الله، إن هذه صفة ما رأيتُه في المنام. وصارت تنظر إلى صور الطيور والصياد والشَّرَك وتتعجَّب، ثم قالت: يا دادتي، إني كنتُ ألوم الرجال وأبغضهم، لكن انظري الصياد كيف ذبح الطيرة الأنثى، وتخلَّصَ الذكرُ وأراد أن يجيء إلى الأنثى ويخلِّصها فقابله الجارح وافترسه! وصارت العجوز تتجاهل عليها وتشاغلها بالحديث إلى أن قربَا من المكان المختفي فيه تاج الملوك، فأشارت إليه العجوز أن يتمشى تحت شبابيك القصر؛ فبينما السيدة دنيا كذلك، إذ لاحت منها التفاتة فرأته وتأمَّلَتْ جمالَه وقدَّه واعتداله، ثم قالت: يا دادتي، من أين هذا الشاب المليح؟ فقالت: لا أعلم به، غير أني أظنُّ أنه ولد ملك عظيم، فإنه بلغ من الحُسْن النهايةَ، ومن الجمال الغاية. فهامت به السيدة دنيا وانحلَّتْ عُرَى عزائمها، وانبهَرَ عقلها من حُسْنه وجماله وقدِّه واعتداله، وتحركت عليها الشهوة. فقالت للعجوز: يا دادتي، إن هذا الشاب مليح. فقالت لها العجوز: صدقتِ يا سيدتي. ثم إن العجوز أشارت إلى ابن الملك أن يذهب إلى بيته، وقد التهبت به نارُ الغرام، وزاد به الوَجْدُ والهيام، فسار وودَّعَ الخولي وانصرف إلى منزله، إلا أنه لم يخالف العجوز، وأخبر الوزير وعزيزًا بأن العجوز أشارت إليه بالانصراف، فصارَا يصبِّرانه ويقولان له: لولا أن العجوز تعلم أن في رجوعك مصلحة، ما أشارت عليك به.

هذا ما كان من أمر تاج الملوك والوزير وعزيز، وأما ما كان من أمر بنت الملك السيدة دنيا، فإنها غلب عليها الغرام، وزاد بها الوَجْدُ والهيام، وقالت للعجوز: أنا ما أعرف اجتماعي بهذا الشاب إلا منك. فقالت لها العجوز: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أنتِ لا تريدين الرجال، وكيف حلَّتْ بك من عشْقِه الأوجال؟ ولكن والله ما يصلح لشبابك إلا هو. فقالت السيدة دنيا: يا دادتي، أسعفيني باجتماعي به ولكِ عندي ألف دينار، وخلعة بألف دينار، وإنْ لم تسعفيني بوصاله فإني ميتة لا محالة. فقالت العجوز: امضِ أنتِ إلى قصرك وأنا أتسبَّبُ في اجتماعكما، وأبذل روحي في مرضاتكما. ثم إن السيدة دنيا توجَّهَتْ إلى قصرها وتوجَّهَتِ العجوز إلى تاج الملوك. فلما رآها، نهض لها على الأقدام، وقابلها بإعزاز وإكرام، وأجلسها إلى جانبه. فقالت له: إن الحيلة قد تمَّتْ. وحكت له ما جرى لها مع السيدة، فقال لها: متى يكون الاجتماع؟ قالت: في غد. فأعطاها ألف دينار وحلة بألف دينار، فأخذتهما وانصرفت، وما زالت سائرة حتى دخلت على السيدة دنيا، فقالت لها: يا دادتي، ما عندك من خبر الحبيب؟ فقالت لها: قد عرفت مكانه، وفي غدٍ أكون به عندك. ففرحت السيدة دنيا بذلك وأعطتها ألف دينار وحلة بألف دينار. فأخذتها وانصرفت إلى منزلها وباتت فيه إلى الصباح، ثم خرجت وتوجَّهَتْ إلى تاج الملوك وألبسَتْه لبسَ النساء، وقالت له: امشِ خلفي وتمايَلَ في خطواتك ولا تستعجل في مشيك، ولا تلتفت إلى مَن يكلِّمك.

وبعد أن أوصت تاج الملوك بهذه الوصية، خرجت وخرج خلفها وهو في زيِّ النسوان، وصارت تعلِّمه في الطريق حتى لا يفزع، ولم تزل ماشية وهو خلفها حتى وصلَا إلى باب القصر، فدخلت وهو وراءها وصارت تخترق الأبواب والدهاليز إلى أن جاوزت به سبعة أبواب، ولما وصلت إلى الباب السابع، قالت لتاج الملوك: قوِّ قلبك، وإذا زعقتُ عليك وقلتُ لك: يا جارية اعبري، فلا تتوانَ في مشيك وهروِلْ، فإذا دخلتَ الدهليز، فانظر إلى شمالك ترى إيوانًا فيه أبواب، فعدَّ خمسةَ أبواب وادخل الباب السادس، فإن مرادك فيه. فقال تاج الملوك: وأين تروحين أنتِ؟ فقالت له: ما أروح موضعًا، غير أني ربما أتأخَّر عنك وأتحدَّث مع الخادم الكبير. ثم مشت وهو خلفها حتى وصلت إلى الباب الذي فيه الخادم الكبير، فرأى معها تاج الملوك في صورة جارية، فقال لها: ما شأن هذه الجارية التي معكِ؟ فقالت له: هذه جارية قد سمعَتِ السيدة دنيا بأنها تعرف الأشغال وتريد أن تشتريها، فقال لها الخادم: أنا لا أعرف جارية ولا غيرها، ولا يدخل أحد حتى أفتِّشه كما أمرني الملك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 135﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أنا الحاجب قال للعجوز: أنا لا أعرف جارية ولا غيرها، ولا يدخل أحدٌ حتى أفتِّشَه كما أمرني الملك. فقالت له العجوز وقد أظهرت الغضب: أنا أعرف أنك عاقل ومؤدب، فإن كان حالك قد تغيَّرَ فإني أُعلِمها بذلك وأخبرها أنك تعرَّضْتَ لجاريتها. ثم زعقت على تاج الملوك وقالت له: اعبري يا جارية. فعند ذلك عبر إلى داخل الدهليز كما أمرته، وسكت الخادم ولم يتكلم، ثم إن تاج الملوك عدَّ خمسة أبواب ودخل الباب السادس، فوجد السيدة دنيا واقفةً في انتظاره، فلما رأته عرفته، فضَمَّتْه إلى صدرها وضمَّها إلى صدره، ثم دخلت العجوز عليهما وتحيَّلَتْ على صرف الجواري، ثم قالت السيدة دنيا للعجوز: كوني أنتِ بوَّابةً. ثم اختلت هي وتاج الملوك، ولم يزالَا في ضمٍّ وعناقٍ والتفاف ساق على ساق إلى وقت السَّحَر. ولما أصبح الصباح، أغلقَتْ عليهما الباب ودخلت مقصورةً أخرى وجلست على جري عادتها وأتَتْ إليها الجواري، فقضَتْ حوائجهن وصارت تحدِّثهن، ثم قالت للجواري: اخرجْنَ الآنَ من عندي، فإني أريد أن أنشرح وحدي. فخرج الجواري من عندها، ثم إنها أتت إليهما ومعها شيء من الأكل، فأكلَا وأخذَا في الهراش إلى وقت السَّحَر، فأغلقت عليهما الباب مثل اليوم الأول، ولم يزالَا على ذلك مدة شهر كامل.

هذا ما كان من أمر تاج الملوك والسيدة دنيا، وأما ما كان من أمر الوزير وعزيز، فإنهما لما توجَّهَ تاج الملوك إلى قصر بنت الملك ومكث تلك المدة، علمَا أنه لا يخرج منه أبدًا وأنه هالك لا محالة. فقال عزيز للوزير: يا والدي ماذا تصنع؟ فقال الوزير: يا ولدي، إن هذا الأمر مشكل، وإن لم نرجع إلى أبيه ونُعلِمه، فإنه يلومنا على ذلك. ثم تجهَّزَا في الوقت والساعة وتوجَّهَا إلى الأرض الخضراء والعمودين وتخت الملك سليمان شاه، وسارَا يقطعان الأودية في الليل والنهار إلى أن دخلَا على الملك سليمان شاه وأخبراه بما جرى لولده، وأنه من حين دخل قصر بنت الملك لم يعلمَا له خبرًا؛ فعند ذلك قامت عليه القيامة، واشتدت به الندامة، وأمر أن ينادي في مملكته بالجهاد، ثم برز العساكر إلى خارج مدينته ونصب لهم الخيام، وجلس في سرادقه حتى اجتمعت الجيوش من سائر الأقطار، وكانت رعيته تحبه لكثرة عدله وإحسانه، ثم سار في عسكر سدَّ الأفقَ، متوجِّهًا في طلب ولده تاج الملوك.

هذا ما كان من أمر هؤلاء، وأما ما كان من أمر تاج الملوك والسيدة دنيا، فإنهما أقامَا على حالهما نصف سنة وهما كل يوم يزدادان محبةً في بعضهما، وزاد على تاج الملوك العشق والهيام، والوَجْد والغرام، حتى أفصح لها عن الضمير وقال لها: اعلمي يا حبيبة القلب والفؤاد، أني كلما أقمتُ عندك ازددتُ هيامًا ووَجْدًا وغرامًا؛ لأني ما بلغت المرام بالكلية. فقالت له: وما تريد يا نور عيني وثمرة فؤادي؟ إن شئتَ غير الضمِّ والعناقِ والتفاف الساق على الساق، فافعل الذي يرضيك وليس لله فينا شريك. فقال: ليس مرادي هكذا، وإنما مرادي أن أخبرك بحقيقتي، فاعلمي أني لستُ بتاجر، بل أنا ملك ابن ملك، واسم أبي الملك الأعظم سليمان شاه الذي أنفذ الوزير رسولًا إلى أبيك ليخطبك لي؛ فلما بلغكِ الخبر، ما رضيتِ - ثم إنه قصَّ عليها قصته من الأول إلى الآخِر، وليس في الإعادة إفادة - وأريد الآن أن أتوجَّه إلى أبي ليرسل رسولًا إلى أبيك ويخطبك منه ونستريح.

فلما سمعَتْ ذلك الكلام فرحت فرحًا شديدًا؛ لأنه وافَقَ غرضها، ثم باتَا على هذا الاتفاق، واتفق بالأمر المقدور أن النوم غلب عليهما في تلك الليلة من دون الليالي، واستمرَّا إلى أن طلعت الشمس، وفي ذلك الوقت كان الملك شهرمان جالسًا في دست مملكته وبين يديه أمراء دولته، إذ دخل عليه عريف الصياغ وبيده حق كبير، فتقدَّمَ وفتحه بين يدي الملك وأخرج منه علبة لطيفة تساوي مائة ألف دينار، لما فيه من الجواهر واليواقيت والزمرد، مما لا يقدر عليه أحد من ملوك الأقطار؛ فلما رآها الملك تعجَّبَ من حُسْنها، والتفت إلى الخادم الكبير الذي جرى له مع العجوز ما جرى، وقال له: يا كافور، خذ هذه العلبة وامضِ بها إلى السيدة دنيا. فأخذها الخادم ومضى حتى وصل إلى مقصورة بنت الملك، فوجد بابها مغلقًا والعجوز نائمة على عتبته، فقال الخادم: إلى هذه الساعة وأنتم نائمون؟ فلما سمعت العجوز كلامَ الخادم، انتبهَتْ من منامها وخافت منه وقالت: اصبر حتى آتيك بالمفتاح. ثم خرجت على وجهها هاربةً.

هذا ما كان من أمرها، وأما ما كان من أمر الخادم، فإنه عرف أنها مرتابة، فخلع الباب ودخل المقصورة، فوجد السيدة دنيا معانقة لتاج الملوك وهما نائمان، فلما رأى ذلك تحيَّرَ في أمره وهَمَّ أن يعود إلى الملك، فانتبهَتِ السيدة دنيا فوجدَتْه، فتغيَّرَتْ واصفرَّ لونها وقالت له: يا كافور، استر ما ستر الله. فقال: أنا لا أقدر أن أخفي شيئًا عن الملك. ثم قفل الباب ورجع إلى الملك، فقال له الملك: هل أعطيتَ العلبةَ لسيدتك؟ فقال له الخادم: خُذِ العلبة ها هي، وأنا لا أقدر أن أخفي عنك شيئًا، اعلم أني رأيت عند السيدة دنيا شابًّا جميلًا نائمًا معها في فراش واحد وهما متعانقان. فأمر الملك بإحضارهما، فلما حضرَا بين يديه قال لهما: ما هذه الفعال؟ واشتدَّ به الغيظ، فأخذ نمشة وهمَّ أن يضرب تاج الملوك، فرمت السيدة دنيا وجهها عليه وقالت لأبيها: اقتلني قبله. فنهرها الملك، وأمرهم أن يمضوا بها إلى حجرتها، ثم التفت إلى تاج الملوك وقال له: ويلك، من أين أنت؟ ومَن أبوك؟ وما جسرك على ابنتي؟ فقال تاج الملوك: اعلم أيها الملك أنك إنْ قتلتني هلكتَ وندمتَ أنت ومَن في مملكتك. فقال له الملك: ولِمَ ذلك؟ فقال: اعلم أني ابن الملك سليمان شاه، وما تدري إلا وقد أقبَلَ عليك بخيله ورجله. فلما سمع الملك شهرمان ذلك الكلام، أراد أن يؤخر قتله ويضعه في السجن حتى ينظر صحة قوله، فقال له وزيره: يا ملك الزمان، الرأي عندي أن تعجِّل قتل هذا العلق، فإنه تجاسر على بنات الملوك. فقال للسياف: اضرب عنقه فإنه خائن. فأخذه السياف وشدَّ وثاقه ورفع يده، وشاوَرَ الأمراء أولًا وثانيًا، وقصد بذلك أن يكون في الأمر توانٍ، فزعق عليه الملك وقال له: إلى متى تشاور؟ إنْ شاورتَ مرةً أخرى ضربتُ عنقك. فرفع السياف يده حتى بان شعر إبطه، وأراد أن يضرب عنقه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 136﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السياف رفع يده حتى بان شعر إبطه، وأراد أن يضرب عنقه، وإذا بزعقات عالية والناس أغلقوا الدكاكين، فقال الملك للسياف: لا تعجِّلْ. ثم أرسَلَ مَن يكشف له الخبر، فمضى الرسول ثم عاد إليه وقال له: رأيت عسكرًا كالبحر العجاج المتلاطم بالأمواج، وخيلهم في ركض وقد ارتجَّتْ لهم الأرض، وما أدري خبرهم. فاندهش الملك وخاف على ملكه أن يُنزَع منه، ثم التفت إلى وزيره وقال له: أَمَا خرج أحد من عسكرنا إلى هذا العسكر؟ فما تمَّ كلامه إلا وحجَّابه قد دخلوا عليه ومعهم رسل الملك القادم ومن جملتهم الوزير، فابتدأه بالسلام، فنهض لهم قائمًا وقرَّبهم وسألهم عن شأن قدومهم، فنهض الوزير من بينهم وتقدَّمَ إليه وقال له: اعلم أن الذي نزل بأرضك ملك ليس كالملوك المتقدمين، ولا مثل السلاطين السالفين. فقال له الملك: ومَن هو؟ قال الوزير: هو صاحب العدل والأمان، الذي شاعت بعلوِّ همته الركبان، السلطان سليمان شاه وصاحب الأرض الخضراء والعمودين وجبان أصفهان، وهو يحب العدل والإنصاف، ويكره الجور والاعتساف، ويقول لك إن ابنه عندك وفي مدينتك، وهو حشاشة قلبه وثمرة فؤاده، فإن وجده سالمًا فهو المقصود وأنت المشكور المحمود، وإن كان فُقِدَ من بلادك وأصابه شيء، فأبشِرْ بالدمار وخراب الديار؛ لأنه يصيِّر بلدك قفراءَ ينعق فيها الغراب، وها أنا قد بلغتك الرسالة والسلام.

فلما سمع الملك شهرمان ذلك الكلام من الرسول، انزعج فؤاده وخاف على مملكته، وزعق على أرباب دولته ووزرائه وحجَّابه ونوَّابه، فلما حضروا قال لهم: ويلكم، انزلوا وفتِّشوا على ذلك الغلام. وكان تحت يد السياف وقد تغيَّرَ من كثرة ما حصل له من الفزع، ثم إن الرسول لاحت منه التفاتة، فوجد ابن ملكه على نطع الدم، فعرفه وقام ورمى روحه عليه، وكذلك بقية الرسل، ثم تقدَّموا وحلُّوا وثاقه، وقبَّلوا يدَيْه ورجلَيْه؛ ففتح تاج الملوك عينه، فعرف وزير والده وعرف صاحبه عزيزًا، فوقع مغشيًّا عليه من شدة فرحته بهما. ثم إن الملك شهرمان صار متحيِّرًا في أمره، وخاف خوفًا شديدًا لما تحقَّقَ أن مجيء هذا العسكر بسبب هذا الغلام، فقام وتمشَّى إلى تاج الملوك وقبَّلَ رأسه ودمعت عيناه، وقال له: يا ولدي، لا تؤاخذني ولا تؤاخذ المسيء بفعله، فارحم شيبتي ولا تخرب مملكتي. فدنا منه تاج الملوك وقبَّلَ يده وقال: لا بأس عليك وأنت عندي بمنزلة والدي، ولكن الحذر أن يصيب محبوبتي السيدة دنيا شيء. فقال: يا سيدي، لا تَخَفْ عليها، فما يحصل لها إلا السرور. وصار الملك يعتذر إليه ويطيِّب خاطر وزير الملك سليمان شاه، ووعده بالمال الجزيل على أن يُخفِي من الملك ما رآه. بعد ذلك أمر كبراء دولته أن يأخذوا تاج الملوك ويذهبوا به إلى الحمام، ويُلبِسوه بدلةً من خيار ملابس الملوك ويأتوا به بسرعة، ففعلوا ذلك، وأدخلوه الحمَّام وألبسوه البدلة التي أفردها له الملك شهرمان، ثم أتوا به إلى المجلس، فلما دخل على الملك شهرمان، وقف له هو وجميع أرباب دولته، وقام الجميع في خدمته، ثم إن تاج الملوك جلس يحدث وزير والده وعزيزًا بما وقع له، فقال له الوزير وعزيز: ونحن في تلك المدة مضينا إلى والدك فأخبرناه بأنك دخلتَ سراية بنت الملك ولم تخرج، والتبس علينا أمرك، فحين سمع بذلك، جهَّزَ العساكر ثم قَدِمنا هذه الديار، وكان في قدومنا الفرج والسرور. فقال لهما: ما زال الخير يجري على أيديكما أولًا وآخرًا.

وكان الملك في ذلك الوقت قد دخل على ابنته السيدة دنيا، فوجدها تبكي على تاج الملوك، وأخذت سيفًا وركزت قبضته إلى الأرض، وجعلت ذبابته على رأس قلبها بين نهديها، وانحنت على السيف وصارت تقول: لا بد أن أقتل نفسي ولا أعيش بعد حبيبي. فلما دخل عليها أبوها ورآها في هذه الحالة، صاح عليها وقال لها: يا سيدة بنات الملوك، لا تفعلي وراحمي أباكِ وأهل بلدك. ثم تقدَّمَ إليها وقال لها: أحاشيك أن يصيب والدك بسببك سوء. ثم أعلمها بالقصة، وأن محبوبها ابن الملك سليمان شاه يريد الزواج بها، وقال لها: إن أمر الخطبة والزواج مفوَّض إلى رأيك. فتبسَّمَتْ وقالت له: أَمَا قلتُ لكَ إنه ابن سلطان؟ فأنا أخليه يصلبك على خشبة تساوي درهمين. فقال لها: بالله عليك أن ترحمي أباكِ. فقالت له: رُحْ إليه وائتني به. فقال لها: على الرأس والعين. ثم رجع من عندها سريعًا ودخل على تاج الملوك وسارره بهذا الكلام، ثم قام معه وتوجَّهَ إليها، فلما رأت تاج الملوك، عانقَتْه قدام أبيها وتعلقت به وقالت له: أوحشتني. ثم التفتت إلى أبيها وقالت: هل أحد يفرط في هذا الشاب المليح وهو ملك ابن ملك؟ فعند ذلك خرج الملك شهرمان وردَّ الباب عليهما، ومضى إلى وزير أبي تاج الملوك ورسله، وأمرهم أن يُعلِموا السلطان سليمان شاه بأن ولده بخير وعافية، وهو في ألذ عيش.

ثم إن السلطان شهرمان أمر بإخراج الضيافات والعلوفات إلى عساكر السلطان سليمان شاه والد تاج الملوك، فلما أخرجوا جميع ما أمر به، أخرج مائة جواد من الخيل ومائة هجين ومائة مملوك ومائة سرية ومائة عبد ومائة جارية، وأرسل الجميع إليه هدية، ثم بعد ذلك توجَّهَ إليه هو وأرباب دولته وخواصه حتى صاروا في ظاهر المدينة، فلما علم بذلك السلطان سليمان شاه تمشَّى خطوات إلى لقائه، وكان الوزير وعزيز أعلَمَاه بالخبر، ففرح وقال: الحمد لله الذي بلغ ولدي مناه. ثم إن الملك سليمان شاه أخذ الملك شهرمان بالحضن وأجلسه بجانبه على السرير، وصار يتحدَّث هو وإياه، ثم قدموا لهم الطعام، فأكلوا حتى اكتفوا، ثم قدَّموا لهم الحلويات، ولم يمضِ إلا قليل حتى جاء تاج الملوك وقدم عليه بلباسه وزينته، فلما رآه والده قام له وقبَّله، وقام له جميع مَن حضر وجلس بينهم يتحدثون، فقال الملك سليمان شاه: إني أريد أن أكتب كتاب ولدي على ابنتك على رءوس الأشهاد. فقال له: سمعًا وطاعة. ثم أرسل الملك شهرمان إلى القاضي والشهود، فحضروا وكتبوا الكتاب وفرح العساكر بذلك، وشرع الملك شهرمان في تجهيز ابنته، ثم قال تاج الملوك لوالده: إن عزيزًا رجل من الكرام، وقد خدمني خدمة عظيمة، وتعب وسافَرَ معي وأوصلني إلى بغيتي، ولم يزل يصبِّرني حتى قضيتُ حاجتي؛ مضى له معنا سنتان وهو مشتت من بلاده، فالمقصود أننا نهيِّئ له تجارة؛ لأن بلاده قريبة. فقال له والده: نِعم ما رأيتَ. ثم هيَّئُوا له مائة حمل من أغلى القماش، وأقبل عليه تاج الملوك وودَّعه وقال له: يا أخي، اقبَلْ هذه على سبيل الهدية. فقبِلَها منه وقبَّلَ الأرضَ قدامه وقدام والده الملك سليمان شاه، ثم ركب تاج الملوك وسار مع عزيز قدر ثلاثة أميال، وبعدها أقسم له عزيز أن يرجع، وقال: لولا والدتي ما صبرت على فراقك، فبالله عليك لا تقطع أخبارك عني. ثم ودَّعَه ومضى إلى مدينته، فوجد والدته بنَتْ له قبرًا وسط الدار وصارت تزوره، ولما دخل الدارَ وجدها قد حلت شعرها ونشرته على القبر وهي تفيض دمع العين، وتنشد هذين البيتين:

بِاللهِ يَا قَبْرُ هَلْ زَالَتْ مَحَاسِنُهُ        أَمْ قَدْ تَغَيَّرَ ذَاكَ الْمَنْظَرُ النَّضِرُ؟

يَا قَبْرُ مَا أَنْتَ بُسْتَانٌ وَلَا فَلَكٌ        فَكَيْفَ يُجْمَعُ فِيكَ الْبَدْرُ وَالزَّهْرُ؟

ثم صعدت الزفرات، وأنشدت هذه الأبيات:

مَا لِي مَرَرْتُ عَلَى الْقُبُورِ مُسَلِّمًا        قَبْرَ الْحَبِيبِ فَلَمْ يَرُدَّ جَوَابِي

قَالَ الْحَبِيبُ وَكَيْفَ رَدُّ جَوَابِكُمْ        وَأَنَا رَهِينُ جَنَادِلَ وَتُرَابِ

أَكَلَ التُّرَابُ مَحَاسِنِي فَنَسِيتُكُمْ        وَحُجِبْتُ عَنْ أَهْلِي وَعَنْ أَحْبَابِي

فما تمَّتْ شعرها إلا وعزيز داخل عليها، فلما رأَتْه قامَتْ إليه واحتضنته وسألته عن سبب غيابه، فحدَّثَها بما وقع له من أوله إلى آخِره، وأن تاج الملوك أعطاه من المال والأقمشة مائة حمل، ففرحت بذلك، وأقام عزيز عند والدته متحيِّرًا فيما وقع له من الدليلة المحتالة التي خصته.

هذا ما كان من أمر عزيز، وأما ما كان من أمر تاج الملوك، فإنه دخل بمحبوبته السيدة دنيا وأزال بكارتها، ثم إن الملك شهرمان شرع في تجهيز ابنته للسفر مع زوجها وأبيه، فأحضر لهم الزاد والهدايا والتحف، ثم حملوا وساروا، وسار معهم الملك شهرمان ثلاثة أيام لأجل الوداع، فأقسم عليه الملك سليمان شاه بالرجوع فرجع، وما زال تاج الملوك ووالده وزوجته سائرون في الليل والنهار حتى أشرفوا على بلادهم، وزُيِّنت لهم المدينة. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 137﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك سليمان شاه سار هو وولده وزوجة ولده حتى أشرفوا على بلادهم، وزُيِّنت لهم المدينة، ثم دخلوا المدينة وجلس الملك سليمان شاه على سرير مملكته وولده تاج الملوك إلى جانبه، ثم أعطى ووهب وأطلق مَن كان في الحبوس، ثم عمل لولده عرسًا ثانيًا، واستمرت به المغاني والملاهي شهرًا كاملًا، وازدحمت المواشط على السيدة دنيا، وهي لا تملُّ من الجلاء ولا يمللْنَ من النظر إليها. ثم دخل تاج الملوك على زوجته بعد أن اجتمع مع أبيه وأمه، وما زالوا في ألذِّ عيش وأهناه.

فعند ذلك قال ضوء المكان للوزير دندان: مثلك مَن ينادم الملوك، ويسلك في تدبيرهم أحسن السلوك. هذا كله وهم محاصِرون للقسطنطينية، حتى مضى عليهم أربع سنين، ثم اشتاقوا إلى أوطانهم وضجرت العساكر من الحصار وإدامة الحرب في الليل والنهار؛ فأمر الملك ضوء المكان بإحضار بهرام ورستم وتركاش، فلما حضروا قال لهم: اعلموا أننا أقمنا هذه السنين، وما بلغنا مرامًا فازددنا غمًّا وهمًّا، وقد أتينا لنخلص ثأر الملك عمر النعمان، فقُتِل أخي شركان، فصارت الحسرة حسرتين والمصيبة مصيبتين، وسبب هذا كله العجوز ذات الدواهي، فإنها قتلت السلطان في مملكته، وأخذت زوجته الملكة صفية، وما كفاها ذلك حتى عملت الحيلة علينا وذبحت أخي، وقد حلفتُ الإيمان العظيمة إنه لا بد من أخذ الثأر؛ فما تقولون أنتم؟ فافهموا هذا الخطاب وردُّوا عليَّ الجواب. فأطرقوا رءوسهم وأحالوا الأمرَ على الوزير دندان، فعند ذلك تقدَّمَ الوزير دندان إلى الملك ضوء المكان وقال له: اعلم يا ملك الزمان، أنه ما بقي في إقامتنا فائدة، والرأي إننا نرحل إلى الأوطان ونقيم هناك برهة من الزمان، ثم نعود ونغزو عَبَدَة الأصنام. فقال الملك: نِعْمَ هذا الرأي؛ لأن الناس اشتاقوا إلى رؤية عيالهم، وأنا أيضًا أقلقني الشوق إلى ولدي «كان ما كان»، وإلى ابنة أخي «قضى فكان»؛ لأنها في دمشق ولا أعلم ما كان من أمرها. فلما سمعت العساكر ذلك، فرحوا ودعوا للوزير دندان.

ثم إن الملك ضوء المكان أمر المنادي أن ينادي بالرحيل بعد ثلاثة أيام، فابتدءوا في تجهيز أحوالهم، وفي اليوم الرابع دُقَّتِ الكاسات ونُشِرت الرايات، وتقدَّمَ الوزير دندان في مقدم العسكر، وسار الملك في وسط العساكر وبجانبه الحاجب الكبير، وسارت الجيوش، وما زالوا مُجِدِّين السيرَ بالليل والنهار حتى وصلوا إلى مدينة بغداد، ففرحت بقدومهم الناس وزال عنهم الهم والبأس. ثم ذهب كل أمير إلى داره، وطلع الملك إلى قصره ودخل على ولده «كان ما كان»، وقد بلغ من العمر سبع سنين، وصار ينزل ويركب. ولما استراح الملك من السفر، دخل الحمام هو وولده «كان ما كان»، ثم رجع وجلس على كرسي مملكته، ووقف الوزير دندان بين يديه، وطلعت الأمراء وخواص الدولة ووقفوا في خدمته؛ فعند ذلك أمر الملك ضوء المكان بإحضار صاحبه الوقَّاد الذي أحسن إليه في غربته، فحضر بين يديه، فلما رآه الملك ضوء المكان قادمًا عليه، نهض له قائمًا وأجلسه إلى جانبه، وكان الملك ضوء المكان قد أخبر الوزير بما فعل معه صاحبه الوقاد من المعروف، فعظم في عينه وفي أعين الأمراء. وكان الوقاد قد غلظ وسمن من الأكل والراحة، وصار عنقه كعنق الفيل، ووجهه كبطن الدرفيل، وصار طائش العقل؛ لأنه كان لا يخرج من المكان الذي هو فيه، فلم يعرف الملك بسيماه، فأقبَلَ عليه الملك وبَشَّ في وجهه وحيَّاه أعظم التحيات وقال له: ما أسرع ما نسيتني. فأمعن فيه النظر، فلما تحقَّقَ منه وعرفه، قام له على الأقدام وقاله له: يا حبيبي، من عملك سلطانًا؟ فضحك عليه، فأقبل عليه الوزير بالكلام وشرح له القصة وقال له: إنه كان أخاك وصاحبك والآن صار ملك الأرض، ولا بد أن يصل إليك منه خير كثير، وها أنا أوصيك، إذا قال لك: تمنَّ عليَّ، فلا تتمنَّ إلا شيئًا عظيمًا؛ لأنك عنده عزيز. فقال الوقاد: أخاف أن أتمنى عليه شيئًا، فلا يسمح لي به أو لا يقدر عليه. فقال له الوزير: كل ما تمنيته يعطيك إياه. فقال له: والله لا بد أن أتمنَّى عليه الشيء الذي في خاطري، وكل يوم أرجو منه أن يسمح لي به. فقال له الوزير: طيِّبْ قلبك، والله لو طلبتَ ولايةَ دمشق موضع أخيه لولَّاك عليها.

فعند ذلك قام الوقاد على قدميه، فأشار له ضوء المكان أن اجلس، فأَبَى وقال: معاذ الله، قد انقضت أيام قعودي في حضرتك. فقال له السلطان: لا بل هي باقية إلى الآن، فإنك كنت سببًا لحياتي، والله لو طلبتَ مني مهما أردتَ لأعطيتُكَ إياه، فتمنَّ على الله. فقال له: يا سيدي، إني أخاف أن أتمنى شيئًا، فلا تسمح لي به أو لا تقدر عليه. فضحك السلطان وقال له: لو تمنيتَ نصف مملكتي لشاركتُكَ فيها، فتمنَّ ما تريد. قال الوقاد: أخاف أن أتمنى شيئًا لا تقدر عليه. فغضب السلطان وقال له: تمنَّ ما أردتَ. فقال له: تمنيتُ أن تكتب لي مرسومًا بعرافة جميع الوقَّادين الذين في مدينة القدس. فضحك السلطان وجميع مَن حضر وقال له: تمنَّ غير هذا. فقال الوقاد: أنا ما قلتُ لك إني أخاف أن أتمنى شيئًا لا تسمح لي به وما تقدر عليه؟ فغمزه الوزير ثانيًا وثالثًا وفي كل مرة يقول: أتمنى عليك أن تجعلني رئيس الزبالين في مدينة القدس أو في مدينة دمشق. فانقلب الحاضرون على ظهورهم من الضحك عليه، وضربه الوزير، فالتفت الوقاد إلى الوزير وقال له: ما تكون حتى تضربني وما لي ذنب؟ فإنك أنت الذي قلتَ لي تمنَّ شيئًا عظيمًا. ثم قال: دعوني أسير إلى بلادي. فعرف السلطان أنه يلعب، فصبر قليلًا ثم أقبل عليه وقال له: يا أخي، تمنَّ عليَّ أمرًا عظيمًا لائقًا بمقامي. فقال له: أتمنى سلطنةَ دمشق موضع أخيك. فكتب له التواقيع بذلك، وقال للوزير دندان: ما يروح معه غيرك، وإذا أردتَ العود فأحضِرْ معك بنت أخي «قضى فكان». فقال الوزير: سمعًا وطاعة. ثم أخذ الوقاد ونزل به وتجهَّزَ للسفر، وأمر السلطان ضوء المكان أن يُخرِجوا للوقاد تختًا جديدًا وطقم سلطنة، وقال للأمراء: مَن كان يحبني، فَلْيقدِّم إليه هدية عظيمة. ثم سمَّاه السلطان الزبلكان ولقَّبَه بالمجاهد، وبعد شهر كملت حوائجه وطلع الزبلكان وفي خدمته الوزير دندان، ثم دخل ضوء المكان ليودِّعه، فقام له وعانَقَه وأوصاه بالعدل بين الرعية، وأمره أن يأخذ الأهبة للجهاد بعد سنتين، ثم ودَّعه وانصرف.

وسار الملك المجاهد المسمَّى بالزبلكان بعد أن أوصاه الملك ضوء المكان بالرعية خيرًا، وقدَّمت له الأمراء المماليك، فبلغوا خمسة آلاف مملوك وركبوا خلفه، وركب الحاجب الكبير، وأمير الديلم بهرام، وأمير الترك رستم، وأمير العرب تركاش، وساروا في توديعه وما زالوا سائرين معه ثلاثة أيام، ثم عادوا إلى بغداد، وسار السلطان الزبلكان هو والوزير دندان، وما زالوا سائرين حتى وصلوا إلى دمشق، وكانت الأخبار قد وصلت إليهم على أجنحة الطيور، بأن الملك ضوء المكان سلطَنَ على دمشق ملكًا يقال له الزبلكان ولقَّبَه بالمجاهد، فلما وصل إليهم الخبر، زيَّنوا له المدينةَ وخرج إلى ملاقاته كلُّ مَن في دمشق، ثم دخل دمشق وطلع القلعة وجلس على سرير المملكة، ووقف الوزير دندان في خدمته يعرِّفه منازِلَ الأمراء ومراتبهم، وهم يدخلون عليه ويقبِّلون يدَيْه ويدعون له، فأقبل عليهم الملك الزبلكان وخلع وأعطى ووهب، ثم فتح خزائن الأموال وأنفَقَها على جميع العساكر كبيرًا وصغيرًا، وحكم وعدل. وشرع الزبلكان في تجهيز بنت السلطان شركان السيدة «قضى فكان»، وجعل لها محفة من الإبريسم، وجهَّزَ الوزير وقدَّمَ له شيئًا من المال، فأبى الوزير دندان وقال له: أنت قريب عهد بالمُلْك وربما تحتاج إلى الأموال، أو نرسل إليك نطلب منك مالًا للجهاد أو غير ذلك. ولما تهيَّأَ الوزير دندان للسفر، ركب السلطان المجاهد لوداعه، وأحضر «قضى فكان»، وأركبها في المحفة وأرسل معها عشر جوارٍ برسم الخدمة، وبعد أن سافَرَ الوزير دندان، رجع الملك المجاهد إلى مملكته ليدبِّرها، واهتمَّ بآلة السلاح وصار ينتظر الوقتَ الذي يرسل إليه فيه الملك ضوء المكان.

هذا ما كان من أمر السلطان الزبلكان، وأما ما كان من أمر الوزير دندان، فإنه لم يزل يقطع المراحل ﺑ «قضى فكان»، حتى وصل إلى الرحبة بعد شهر، ثم سار حتى أشرف على بغداد وأرسَلَ أعلَمَ ضوءَ المكان بقدومه، فركب وخرج إلى لقائه، فأراد الوزير دندان أن يترجَّلَ، فأقسم عليه الملك ضوء المكان ألَّا يفعل، فسار راكبًا حتى جاء إلى جانبه وسأله عن المجاهد، فأعلمه أنه بخير وأعلمه بقدوم «قضى فكان» بنت أخيه شركان، ففرح وقال له: دونك والراحة من تعب السفر ثلاثة أيام، ثم بعد ذلك تعال عندي. فقال: حبًّا وكرامة. ثم دخل بيته وطلع الملك إلى قصره ودخل على ابنة أخيه «قضى فكان»، وهي ابنة ثمان سنين؛ فلما رآها فرح بها وحزن على أبيها، وأعطاها حليًّا ومصاغًا عظيمًا، وأمر أن يجعلوها مع ابن عمها «كان ما كان» في مكان واحد، وكانت أحسن أهل زمانها وأشجعهم؛ لأنها كانت صاحبة تدبير وعقل ومعرفة بعواقب الأمور.

وأما «كان ما كان»، فإنه مولع بمكارم الأخلاق، ولكنه لا يفكِّر في عاقبة شيء، ثم بلغ عمر كل واحد من الاثنين عشر سنين، وصارت «قضى فكان» تركب الخيل وتطلع مع ابن عمها في البر، ويتعلمان الضربَ بالسيف والطعن بالرمح، حتى بلغ عمر كلٍّ منهما اثنتي عشرة سنة. ثم إن الملك انتهت أشغاله للجهاد وأكمل الأهبة والاستعداد، فأحضر الوزير دندان وقال له: اعلم أني عزمتُ على شيء وأريد إطلاعك عليه، فأسرع في ردِّ الجواب. فقال الوزير دندان: ما هو يا ملك الزمان؟ قال: عزمتُ على أن أسلطن ولدي «كان ما كان» وأفرح به في حياتي، وأقاتل قدامه إلى أن يدركني الممات. فما عندك من الرأي؟ فقبَّلَ الوزير دندان الأرض بين يدي الملك ضوء المكان وقال له: اعلم أيها الملك السعيد صاحب الرأي السديد، أن ما خطر ببالك مليح، غير أنه لا يناسب في هذا الوقت لخصلتين؛ الأولى: أن ولدك «كان ما كان» صغير السن، والثانية: ما جرَتْ به العادة، من أنَّ مَن سلطَنَ ولده في حياته لا يعيش إلا قليلًا، وهذا ما عندي من الجواب. فقال: اعلم أيها الوزير، إننا نوصي عليه الحاجب الكبير، فإنه صار منَّا وإلينا، وقد تزوَّجَ أختي فهو في منزلة أخي. فقال له الوزير: افعل ما بَدَا لك، فنحن ممتثلون أمرك. فأرسل الملك إلى الحاجب الكبير فأحضره، وكذلك أكابر مملكته وقال لهم: إن هذا ولدي «كان ما كان»، قد علمتم أنه فارس الزمان، وليس له نظير في الحرب والطعان، وقد جعلته سلطانًا عليكم، والحاجب الكبير وصيٌّ عليه. فقال الحاجب: يا ملك الزمان، إنما أنا غريس نعمتك. فقال ضوء المكان: أيها الحاجب، إن ولدي «كان ما كان» وابنة أخي «قضى فكان» أولاد عمٍّ، وقد زوَّجتها به وأُشهِد الحاضرين على ذلك.

ثم نقل لولده من المال ما يعجز عنه اللسان، وبعد ذلك دخل على أخته نزهة الزمان وأعلمها بذلك، ففرحت وقالت: إن الاثنين ولداي، والله تعالى يبقيك لهما مدى الزمان. فقال: يا أختي، إني قضيت من الدنيا غرضي وأمنت على ولدي، ولكن ينبغي أن تلاحظيه بعينك وتلاحظي أمه. ثم صار يوصي الحاجب ونزهة الزمان على ولده وعلى زوجته ليالي وأيامًا، وقد أيقَنَ بكأس الحمام ولزم الوساد، وصار الحاجب يتعاطى أحكام العباد. وبعد سنة، أحضر ولده «كان ما كان» والوزير دندان وقال: يا ولدي، إن هذا الوزير والدك من بعدي، واعلم أني راحل عن الدار الفانية إلى الدار الباقية، وقد قضيت غرضي من الدنيا، ولكن بقي في قلبي حسرة يزيلها الله على يديك. فقال ولده: وما تلك الحسرة يا والدي؟ فقال: يا ولدي، أن أموت ولم نأخذ بثأر جدك الملك النعمان وعمك الملك شركان، من عجوز يقال لها: ذات الدواهي، فإن أعطاك الله النصر، لا تغفل عن أخذ الثأر وكشف العار من الكفار، وإياك من مكر العجوز، وأقبل ما يقوله لك الوزير دندان؛ لأنه عماد ملكنا من قديم الزمان. فقال له ولده: سمعًا وطاعة. ثم هملت عيناه بالدموع، وبعد ذلك ازداد المرض بضوء المكان، وصار أمر المملكة للحاجب، فصار يحكم ويأمر وينهي، واستمرَّ على ذلك سنة كاملة وضوء المكان مشغول بمرضه، وما زالت به الأمراض مدة أربع سنين والحاجب الكبير قائم بأمر الملك، وارتضى به أهل المملكة ودعت له جميع البلاد.

هذا ما كان من أمر ضوء المكان والحاجب، وأما ما كان من أمر «كان ما كان»، فإنه لم يكن له شغل إلا ركوب الخيل واللعب بالرمح والضرب بالنشاب، وكذلك ابنة عمه «قضى فكان»، وكانت تخرج هي وإياه من أول النهار إلى الليل، فتدخل إلى أمها ويدخل هو إلى أمه فيجدها جالسة عند رأس أبيه تبكي، فيخدمه بالليل، وإذا أصبح الصباح، يخرج هو وبنت عمه على عادتهما. وطالت بضوء المكان التوجُّعات، فبكى وأنشد هذه الأبيات:

تَفَانَتْ قُوَّتِي وَمَضَى زَمَانِي        وَهَا أَنَا قَدْ بَقِيتُ كَمَا تَرَانِي

فَيَوْمَ الْعِزِّ كُنْتُ أَعَزَّ قَوْمِي        وَأَسْبَقَهُمْ إِلَى نَيْلِ الْأَمَانِي

وَقَدْ فَارَقْتُ مُلْكِي بَعْدَ عِزِّي        إِلَى ذُلٍّ تَخَلَّلَ بِالْهَوَانِ

تُرَى قَبْلَ الْمَمَاتِ أَرَى غُلَامِي        يَكُونُ عَلَى الْوَرَى مَلِكًا مَكَانِي

وَيَفْتِكُ بِالْعُدَاةِ لِأَخْذِ ثَأْرٍ        بِضَرْبِ السَّيْفِ أَوْ طَعْنِ السِّنَانِ

أَنَا الْمَغْبُونُ فِي هَزْلٍ وَجِدٍّ        إِذَا مَوْلَايَ لَا يَشْفِي جَنَانِي

فلما فرغ من شعره، وضع رأسه على الوسادة ونام، فرأى في منامه قائلًا يقول له: أَبْشِرْ فإنَّ ولدك يملك البلاد وتطيعه العباد. فانتبه من منامه مسرورًا، ثم بعد أيام قلائل طرقه الممات، فأصاب أهل بغداد لذلك مصاب عظيم وبكى عليه الرضيع والعظيم، ومضى عليه الزمان كأنه ما كان، وتغيَّرَ حال «كان ما كان»، وعزله أهل بغداد وجعلوه هو وعياله في بيت على حدة؛ فلما رأت أم «كان ما كان» ذلك، صارت في أذل الأحوال، ثم قالت: لا بد لي من قصد الحاجب الكبير، وأرجو الرأفة من اللطيف الخبير. فقامت من منزلها إلى أن أتت إلى بيت الحاجب الذي صار سلطانًا، فوجدته جالسًا على فراشه، فدخلت على زوجته نزهة الزمان وقالت: إن الميت ما له صاحب، فلا أحوجكم الله مدى الدهور والأعوام، ولا زلتم تحكمون بالعدل بين الخاص والعام، قد سمعت أذناك ورأت عيناك ما كنَّا فيه من الملك والعز والجاه والمال وحسن المعيشة والحال، والآن انقلب علينا الزمان، وقصَدَنا الدهرُ بالعدوان، وأتيتُ إليك قاصدة إحسانك بعد إسدائي للإحسان؛ لأن الرجل إذا مات ذلت بعده النساء البنات. ثم أنشدت هذه الأبيات:

كَفَاكَ بِأَنَّ الْمَوْتَ بَادِي الْعَجَائِبِ        وَمَا غَائِبُ الْأَعْمَارِ عَنَّا بِغَائِبِ

وَمَا هَذِهِ الْأَيَّامُ إِلَّا مَرَاحِلُ        مَوَارِدُهَا مَمْزُوجَةٌ بِالْمَصَائِبِ

وَمَا ضَرَّ قَلْبِي مِثْلُ فَقَدِ أَكَارِمِ        أَحَاطَتْ بِهِمْ مُسْتَعْظَمَاتُ النَّوَائِبِ

فلما سمعت نزهة الزمان هذا الكلام، تذكرت أخاها ضوء المكان وابنه «كان ما كان»، فقرَّبتها وأقبلت عليها وقالت: أنا الآن غنية وأنت فقيرة، فوالله ما تركنا افتقارك إلا خوفًا من انكسار قلبك، لئلا يخطر ببالك أن ما نهديه إليك صدقة، مع أن جميع ما نحن فيه من الخير منك ومن زوجك؛ فبيتنا بيتك ولك ما لنا وعليك ما علينا. ثم خلعت عليها ثيابًا فاخرة، وأفردت لها مكانًا في القصر ملاصقًا لمقصورتها، وأقامت عندهم في عيشة طيبة هي وولدها «كان ما كان»، وخلعت عليه ثياب الملوك، وأفردَتْ لهما جواري برسم خدمتهما. ثم إن نزهة الزمان بعد مدة قليلة، ذكرت لزوجها حديثَ زوجة أخيها ضوء المكان، فدمعت عيناه وقال: إن شئتِ أن تنظري الدنيا بعدك، فانظريها بعد غيرك، فأكرمي مثواها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 138﴾

مغامرة كان ما كان ابن ضوء المكان

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن زوج نزهة الزمان قال لها: إن شئتِ أن تنظري الدنيا بعدك، فانظريها بعد غيرك، فأكرمي مثواها، وأغني فقرها.

هذا ما كان من أمر نزهة الزمان وزوجها وأم ضوء المكان، وأما ما كان من أمر «كان ما كان» وابنة عمه «قضى فكان»، فإنهما كبرا وترعرعا حتى صارا كأنهما غصنان مثمران، أو قمران أزهران، وبلغا من العمر خمسة عشر عامًا. وكانت «قضى فكان» من أحسن البنات المخدرات: بوجه جميل، وخصر نحيل، وردف ثقيل، وريق كالسلسبيل، وقَدٍّ رشيق، وثغر ألذ من الرحيق، كما قال فيها بعض واصفيها هذين البيتين:

كَأَنَّ سُلَافَ الْخَمْرِ مِنْ رِيقِهَا بَدَتْ        وَعُنْقُودَهَا مِنْ ثَغْرِهَا الدُّرُّ يُقْطَفُ

وَأَعْنَابُهَا مَالَتْ إِذَا مَا ثَنَيْتَهَا        فَسُبْحَانَ خَلَّاقٍ لَهَا لَا يُكَيَّفُ

وقد جمع الله كل المحاسن فيها؛ فقَدُّها يخجل الأغصان، والورد يطلب من خدها الأمان، وأما الريقُ فإنه يهزأ بالرحيق، تسر القلب والناظر كما قال فيها الشاعر:

مَلِيحَةُ الْوَصْفِ قَدْ تَمَّتْ مَحَاسِنُهَا        أَجْفَانُهَا تَفْضَحُ التَّكْحِيلَ بِالْكَحَلِ

كَأَنَّ أَلْحَاظَهَا فِي قَلْبِ عَاشِقِهَا        سَيْفٌ بِكَفِّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِي

وأما «كان ما كان»، فإنه كان بديع الجمال، فائق الكمال، عز في الحُسْن عن مثال الشجاعة تلوح بين عينيه، والشجاعة تشهد له لا عليه، وتميل كل القلوب إليه، وحين اخضرَّ منه العذار كثرت فيه الأشعار، كقول بعضهم:

مَا بَانَ عُذْرِيَ فِيهِ حَتَّى يَعْذِرَا        وَمَشَى الدُّجَى فِي خَدِّهِ فَتَحَيَّرَا

رَشَأ إِذَا رَنَتِ الْعُيُونُ لِحُسْنِهِ        سَلَّتْ لَوَاحِظُهُ عَلَيْهَا خَنْجَرَا

وقول الآخَر:

نَسَخَتْ نُفُوسُ الْعَاشِقِينَ بِخَدِّهِ        نَمْلًا وَتَمَّ بِهَا النَّجِيعُ الْأَحْمَرُ

فَاعْجَبْ لَهُمْ شَهْدًا وَمَسْكِنُهُمْ لَظًى        وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا الْحَرِيرُ الْأَخْضَرُ

واتفق في بعض الأعياد أنَّ «قضى فكان» خرجت تعيِّد على بعض أقاربها من الدولة، والجواري حواليها والحُسْن قد عَمَّها، وورد الخد يحسد خالها، والأقحوان يتبسَّمَ عن بارق ثغرها؛ فجعل «كان ما كان» يدور حولها ويطلق النظر إليها، وهي كالقمر الزاهر، فقوَّى جنانه وأطلق بالشعر لسانه، وأنشد هذين البيتين:

مَتَى يَشْتَفِي قَلْبُ الدُّنُوِّ مِنَ الْبُعْدِ        وَيَضْحَكُ ثَغْرُ الْوَصْلِ مِنْ زَائِلِ الصَّدِّ

فَيَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً        بَوَصْلِ حَبِيبٍ عِنْدَهُ بَعْضُ مَا عِنْدِي

فلما سمعت «قضى فكان» هذا الشعر، أظهرت له الملامة والعتاب، وتوعَّدَتْه بأليم العقاب، فاغتاظ «كان ما كان» وعاد إلى بغداد غضبان، ثم طلعت «قضى فكان» إلى قصرها، وشكَتِ ابنَ عمها إلى أمها، فقالت لها: يا بنتي، لعله ما أرادك بسوء، وهل هو إلا يتيم؟ ومع هذا لم يذكر شيئًا يُعِيبك، فإياك أن تُعلِمي بذلك أحدًا، فإنه ربما بلغ الخبر إلى السلطان، فيقصِّر عمره ويُخمِد ذِكْره، ويجعل أثره كأمس الدابر والميت القابر. وشاع في بغداد حبُّ «كان ما كان» ﻟ «قضى فكان» وتحدثت به النسوان، ثم إنَّ «كان ما كان» ضاق صدره وقلَّ صبره واشتغل باله، ولم يَخْفَ على الناس حالُه، واشتهى أن يبوح بما في قلبه من لوعة البين، فخاف من غضبها وأنشد هذين البيتين:

إِذَا خِفْتَ يَوْمًا عِتَابَ الَّتِي        تُغَيِّرُ أَخْلَاقَهَا الصَّافِيَة

صَبَرْتَ عَلَيْهَا كَصَبْرِ الْفَتَى        عَلَى الْكَيِّ فِي طَلَبِ الْعَافِيَةْ

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 139﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الحاجب الكبير لما صار سلطانًا، سموه الملك ساسان، ثم إنه بلغه حبُّ «كان ما كان» ﻟ «قضى فكان»، فندم على جعلهما معًا في محل واحد، ثم دخل على زوجته نزهة الزمان وقال: إنَّ الجمع بين الحلفة والنار لَمِنْ أعظم الأخطار، وليست الرجال على النساء بمؤتَمَنِين، ما دامَتِ العيون في دعج والمعاطف في لين، وإن ابن أخيك «كان ما كان» قد بلغ مبلغ الرجال، فيجب منعه عن الدخول على ربَّات الحجال، ومنع بنتك عن الرجال أوجب؛ لأن مثلها ينبغي أن يُحجَب. فقالت: صدقتَ أيها الملك العاقل، والهمام الكامل. فلما أصبح الصباح، جاء «كان ما كان» ودخل على عمته نزهة الزمان على جري عادته، وسلَّمَ عليها فردَّتِ السلامَ وقالت له: عندي لك كلام ما كنتُ أحبُّ أن أقوله، ولكن أخبرك به رغمًا عني. فقال لها: وما ذاك الكلام؟ قالت: إن الملك سمع بحبك ﻟ «قضى فكان»، فأمر بحجبها عنك، وإذا كان لك حاجة، فأنا أرسلها إليك من خلف الباب، ولا تنظر «قضى فكان». فلما سمع كلامها، رجع ولم ينطق بحرف واحد، وأعلم والدته بما قالت عمته، فقالت له: إنما نشأ هذا من كثرة كلامك، وقد علمت أن حديث حبك ﻟ «قضى فكان» شاع وانتشر في كل مكان، وكيف تأكل زادهم وبعد ذلك تعشق بنتهم؟ فقال: إني أريد الزواج بها؛ لأنها بنت عمي، وأنا أحقُّ بها. فقالت له أمه: اسكت لئلا يصل الخبر إلى الملك ساسان، فيكون ذلك سببًا لغرقك في بحر الأحزان، ولم يبعثوا لنا في هذه الليلة عشاء، ولو كنا في بلد غير هذه، لَمتنا من ألم الجوع أو ذل السؤال. فلما سمع «كان ما كان» كلامَ أمه، زادت بقلبه الحسرات وأنشد هذه الأبيات:

أَقِلِّي مِنَ اللَّوْمِ الَّذِي لَا يُفَارِقُ        فَقَلْبِي إِلَى مَنْ تَيَّمَتْنِي مُفَارِقُ

وَلَا تَطْلُبِي عِنْدِي مِنَ الصَّبْرِ ذَرَّةً        فَصَبْرِي وَبَيْتِ اللهِ مِنِّيَ طَالِقُ

إِذَا سَامَنِي اللُّوَّامُ نَهْيًا عَصَيْتُهُمْ        وَهَا أَنَا فِي دَعْوَى الْمَحَبَّةِ صَادِقُ

وَقَدْ مَنَعُونِي عَنْوَةً أَنْ أَزُورَهَا        وَإِنِّي وَالرَّحْمَنِ مَا أَنَا فَاسِقُ

وَإِنَّ عِظَامِي حِينَ تَسْمَعُ ذِكْرَهَا        تُشَابِهُ طَيْرًا خَلْفَهُنَّ بَوَاشِقُ

أَلَا قُلْ لِمَنْ قَدْ لَامَ فِي الْحُبِّ إِنَّنِي        وَحَقِّ إِلَهِي بِنْت عَمِّيَ عَاشِقُ

ولما فرغ من شعره قال لأمه: ما بقي عند عمتي ولا عند هؤلاء القوم مقام، بل أخرج من القصر وأسكن في أطراف المدينة بجوار قوم صعاليك. ثم خرج وفعل كما قال، وصارت أمه تتردَّد إلى بيت الملك ساسان، وتأخذ منه ما تقتات به هي وإياه، ثم إن «قضى فكان» اختلت بأم «كان ما كان» وقالت لها: يا امرأة عمي، كيف حال ولدك؟ فقالت: إنه باكي العين، حزين القلب، ليس له من أَسْرِ الغرام فكاك، ومقتنص من هواك في إشراك. فبكت «قضى فكان» وقالت: والله ما هجرتُه بغضًا له، ولكن خوفًا عليه من الأعداء، وعندي من الشوق أضعاف ما عنده، ولولا عثرات لسانه وخفقان جنانه، ما قطع أبي عنه إحسانَه وأولاه منعه وحرمانه، ولكن أيام الورى دول، والصبر في كل الأمور أجمل، ولعل مَن قضى بالفراق أن يمنَّ علينا بالتلاق. ثم أفاضت دمع العين وأنشدت هذين البيتين:

فَعِنْدِي يَا ابْنَ عَمِّي مِنْ غَرَامِي        كَأَمْثَالِ الَّذِي حَلَّ عِنْدَكْ

وَلَكِنِّي كَتَمْتُ النَّاسَ وَجْدِي        فَهَلَّا كُنْتَ أَنْتَ كَتَمْتَ وَجْدَكْ

فشكرَتْها أم «كان ما كان» وخرجت من عندها، وأعلمت ولدها «كان ما كان» بذلك، فزاد شوقه إليها وقال: ما أبدلها من الحور بألفين. وأنشد هذين البيتين:

فَوَاللهِ لَا أُصْغِي إِلَى قَوْلِ لَائِمٍ        وَلَا بُحْتُ بِالسِّرِّ الَّذِي كُنْتُ كَاتِمَا

وَقَدْ غَابَ عَنِّي مَنْ رَجَوْتُ وِصَالَهُ        فَكَمْ سَهِرَتْ عَيْنِي وَقَدْ بَاتَ نَائِمَا

ثم مضت الأيام والليالي وهو يتقلَّب على جمر المقالي، حتى مضى له من العمر سبعة عشر عامًا، وقد كمل حسنه؛ ففي بعض الليالي أخذه السهر وقال في نفسه: ما لي أرى جسمي يذوب؟ وإلى متى لا أقدر على نيل المطلوب، وما لي عيب سوى عدم الجاه والمال؟ ولكن عند الله بلوغ الآمال، فينبغي أن أشرد نفسي عن بلادها، حتى تموت أو تحظى بمرادها. ثم أضمر على هذه العزمات، وأنشد هذه الأبيات:

دَعْ مُهْجَتِي تَزْدَادُ فِي خَفَقَانِهَا        لَيْسَ التَّذَلُّلُ فِي الْوَرَى مِنْ شَأْنِهَا

وَاعْذُرْ فَإِنَّ حَشَاشَتِي كَصَحِيفَةٍ        لَا شَكَّ أَنَّ الدَّمْعَ مِنْ عُنْوَانِهَا

هَا بِنْتُ عَمِّي قَدْ بَدَتْ حُورِيَّةً        نَزِلَتْ إِلَيْنَا عَنْ رِضَى رِضْوَانِهَا

مَن رَامَ أَلْحَاظَ الْعُيُونِ مُعَارِضًا        فَتَكَاتِهَا لَمْ يَنْجُ مِنْ عُدْوَانِهَا

سَأَسِيرُ فِي الْأَرْضِ الْوَسِيعَةِ مُنْقِذًا        نَفْسِي وَأَمْنَحُهَا سِوَى حِرْمَانِهَا

وَأَعُودُ مَسْرُورَ الْفُؤَادِ بِمَطْلَبِي        وَأُقَابِلُ الْأَبْطَالِ فِي مَيْدَانِهَا

وَلَسَوْفَ أَسْتَاقُ الْغَنَائِمَ عَائِدًا        وَأَصُولُ مُقْتَدِرًا عَلَى أَقْرَانِهَا

ثم إن «كان ما كان» خرج من القصر ماشيًا حافيًا في قميص قصير الأكمام، وعلى رأسه لبدة لها سبعة أعوام، وصحبته رغيف له ثلاث أيام، حافيًا سار في حندس الظلام، حتى وصل إلى باب بغداد، فوقف هناك، ولما فتحوا بابَ المدينة كان هو أول خارِجٍ منه، ثم صار يقطع الأوديةَ والقفار في ذلك النهار، ولما أتى الليل طلبَتْه أمه فلم تجده، فضاقت عليها الدنيا باتساعها، ولم تلتَذَّ بشيء من متاعها، ومكثت تنتظره أولَ يوم وثاني يوم وثالث يوم إلى أن مضى عشرة أيام، فلم تَرَ له خبرًا؛ فضاق صدْرُها وبكت ونادت قائلةً: يا مؤنسي، قد هيَّجْتَ أحزاني، حيث فارقْتَني وتركت أوطاني. يا ولدي، من أي الجهات أناديك؟ ويا هل تُرَى أيُّ بلد تأويك؟ ثم صعدت الزفرات، وأنشدت هذه الأبيات:

عَلِمْنَا بِأَنَّا بَعْدَ غَيْبَتِكُمْ نُبْلًا        وَمَدَّتْ قِسِيٌّ لِلْفِرَاقِ لَنَا نَبْلَا

وَقَدْ خَلَّفُونِي بَعْدَ شَدِّ رِحَالِهِمْ        أُعَالِجُ كَرْبَ الْمَوْتِ إِذْ قَطَعُوا الرَّمْلَا

لَقَدْ هَتَفَتْ بِي جُنْحَ لَيْلٍ حَمَامَةٌ        مُطَوَّقَةٌ نَاحَتْ فَقُلْتُ لَهَا مَهْلَا

لَعَمْرُكَ لَوْ كَانَتْ كَمِثْلِي حَزِينَةً        لَمَا لَبِسَتْ طَوْقًا وَلَا خَضَّبَتْ رِجْلَا

وَفَارَقَنِي إِلْفِي فَأَلْقَيْتُ بَعْدَهُ        دَوَاعِيَ هَمِّ لَا تُفَارِقُنِي أَصْلَا

ثم إنها امتنعت عن الطعام والشراب، وزادت في البكاء والانتحاب، وصار بكاؤها على رءوس الأشهاد، واشتهر حزنها بين العباد والبلاد، وصار الناس يقولون: أين عينك يا ضوء المكان؟ ويا هل ترى ما جرى على «كان ما كان»، حتى بعد عن وطنه وخرج من المكان، وكان أبوه يشبع الجيعان، ويأمر بالعدل والأمان؟ ووصل خبر «كان ما كان» إلى الملك ساسان. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 140﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك ساسان وصل إليه خبر «كان ما كان»، من الأمراء الكبار، وقالوا له: إنه وُلِد ملكًا، ومن ذريَّة الملك عمر النعمان، وقد بلغنا أنه تغرَّبَ عن الأوطان. فلما سمع الملك ساسان هذا الكلام، اغتاظ غيظًا شديدًا، وتذكَّرَ إحسانَ أبيه إليه، وأنه أوصاه به، فحزن على «كان ما كان»، وقال: لا بد من التفتيش عنه في سائر البلاد. ثم بعث في طلبه الأمير تركاش في مائة فارس، فغاب عشرة أيام ثم رجع وقال: ما اطلعت له على خبر، ولا وقفت له على أثر. فحزن عليه الملك ساسان حزنًا شديدًا، وأما أمه فإنها صارت لا يقرُّ لها قرار، ولا يطاوعها اصطبار، وقد مضى له عشرون يومًا.

هذا ما كان من أمر هؤلاء، وأما ما كان من أمر «كان ما كان»، فإنه لما خرج من بغداد صار متحيِّرًا في أمره، ولم يدرِ إلى أين يتوجه، ثم إنه سافر في البر ثلاثة أيام وحده، ولم يَرَ راجلًا ولا فارسًا، فطار رقاده، وزاد سهاده، وتفكَّرَ أهله وبلاده، وصار يتقوَّت من نبات الأرض، ويشرب من أنهارها، ويقيل وقت الحر تحت أشجارها، ثم خرج من تلك الطريق إلى طريق أخرى، وسار فيها ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع أشرف على أرض معشَّبة الفلوات، مليحة النبات، وهذه الأرض قد شربت من كئوس الغمام على أصوات القُمْريِّ والحمام، فاخضرَّتْ رباها، وطاب فلاها، فتذكَّرَ «كان ما كان» بلادَ أبيه، فأنشد من فرط ما هو فيه:

خَرَجْتُ وَفِي أَمَلِي عَوْدَةٌ        وَلَكِنَّنِي لَسْتُ أَدْرِي مَتَى

وَشُرِّدْتُ عَنْ وَطَنِي لَمْ أَجِدْ        سَبِيلًا إِلَى دَفْعِ مَا قَدْ أَتَى

فلما فرغ من شعره، أكل من ذلك النبات، وتوضأ وصلى ما كان عليه من الفريضة، وجلس يستريح، ومكث طول ذلك اليوم في ذلك المكان، فلما جاء الليل نام، واستمر نائمًا إلى نصف الليل، ثم انتبه فسمع صوت إنسان ينشد هذه الأبيات:

مَا الْعَيْشُ إِلَّا أَنْ يُرَى لَكَ بَارِقٌ        مِنْ ثَغْرِ مَنْ تَهْوَى وَوَجْهٌ رَائِقُ

وَالْمَوْتُ أَسْهَلُ مِنْ صُدُودِ حَبِيبَةٍ        لَمْ يَغْشَنِي مِنْهَا خَيَالٌ طَارِقُ

يَا فَرْحَةَ النُّدَمَاءِ حَيْثُ تَجَمَّعُوا        وَأَقَامَ مَعْشُوقٌ هَنَاكَ وَعَاشِقُ

لَا سِيَّمَا وَقْتَ الرَّبِيعِ وَزَهْرِهِ        طَابَ الزَّمَانُ بِمَا إِلَيْهِ تُسَابِقُ

يَا شَارِبَ الصَّهْبَاءِ دُونَكَ مَا تَرَى        أَرْضٌ مُزَخْرَفَةٌ وَمَاءٌ دَافِقُ

فلما سمع «كان ما كان» هذه الأبيات، هاجت به الأشجان، وجرت دموعه على خده كالغدران، وانطلقت في قلبه النيران، فقام ينظر قائل هذا الكلام، فلم يرَ أحدًا في جنح الظلام، فأخذه القلق، ونزل من مكانه إلى أسفل الوادي، ومشى على شاطئ النهر، فسمع صاحب الصوت يصعد الزفرات، وينشد هذه الأبيات:

إِنْ كُنْتَ تُضْمِرُ مَا فِي الْحُبِّ إِشْفَاقًا        فَأَطْلِقِ الدَّمْعَ يَوْمَ الْبَيْنِ إِطْلَاقَا

بَيْنِي وَبَيْنَ أَحِبَّائِي عُهُودُ هَوًى        لِذَا إِلَيْهِمْ أَظَلُّ الدَّهْرَ مُشْتَاقَا

يَرْتَاحُ قَلْبِي إِلَى تَيْمٍ وَيَطْرِبُنِي        نَسِيمُ تَيْمٍ إِذَا مَا هَبَّ أَشْوَاقَا

يَا سَعْدُ هَلْ رَبَّةُ الْخَلْخَالِ تَذْكُرُ لِي        بَعْدَ الْبِعَادِ لَنَا عَهْدًا وَمِيثَاقَا

وَهَلْ تَعُودُ لَيَالِي الْوَصْلِ تَجْمَعُنَا        يَوْمًا وَيَشْرَحُ كُلٌّ بَعْضَ مَا لَاقَى

قَالَتْ: فُتِنْتَ بِنَا وَجْدًا فَقُلْتُ لَهَا:        كَمْ قَدْ فَتَنْتِ رَعَاكِ اللهُ عُشَّاقَا

لَا مَتَّعَ اللهُ طَرْفِي فِي مَحَاسِنِهَا        إِنْ كَانَ مِنْ بَعْدِهَا طِيبَ الْكَرَى ذَاقَا

يَا لَسْعَةً فِي فُؤَادِي مَا رَأَيْتُ لَهَا        إِلَّا الْوِصَالَ وَرَشْفَ الثَّغْرِ تِرْيَاقَا

فلما سمع «كان ما كان» هذه الأشعار من صاحب ذلك الصوت ثاني مرة ولم يَرَ شخصه، عرف أن القائل مثله عاشق، مُنِع عن الوصول إلى مَن يحبه، فقال في نفسه: لعلي أجتمع بهذا فيشكو كلُّ واحد منَّا لصاحبه، وأجعله أنيسي في غربتي. ثمَّ تنحنح ونادى قائلًا: أيها السائر في الليل العاكر، تقرَّبْ مني وقصَّ قصتَكَ عليَّ، لعلك تجدني معينًا لك على بليتك. فلما سمع صاحب الصوت هذا الكلام، أجابه قائلًا: أيها المنادي السامع لإنشادي، مَن تكون من الفرسان؟ وهل أنت من الإنس أو من الجان؟ فعجِّلْ عليَّ بكلامك قبل دنوِّ حمامك، فإن لي عشرين يومًا وأنا سائر في هذه البرية، فلم أرَ شخصًا، ولم أسمع صوتًا غير صوتك. فلما سمع «كان ما كان» هذا الكلام، قال في نفسه: إن هذه القصة كقصتي، فإنَّ لي أيضًا عشرين يومًا وأنا سائر ولم أسمع صوتًا. فقال له صاحب الصوت: إن كنتَ من الجان، فاذهب بسلام، وإن كنتَ إنسيًّا، فالْبَثْ مليًّا حتى يطلع النهار، ويذهب الليل بالاعتكار. فلما أصبح الصباح، نظر إليه «كان ما كان» فوجده رجلًا من عرب البادية، فتقدَّمَ إليه وسلَّمَ عليه، فردَّ البدوي عليه السلام، وقابله بالتحية والإكرام، إلا أنه احتقره لما رأى صغر سنِّه، وحالته حالة فقير، وقال له: يا فتى، من أي القوم أنت؟ وإلى مَن تُنسَب من العربان؟ وما قصتك وأنت سائر بالليل؟ فإن هذا فعل الأبطال، وقد كلَّمْتَني في الليل كلامًا لا يتكلم به إلا كل فارسٍ همام، وبطل مصدام، وقد صرتَ الآن في قبضتي، إلا أني أرحمك لصغر سنك، فأجعلك رفيقي، وتكون عندي برسم خدمتي.

فلما سمع «كان ما كان» فظاعةَ كلامه بعد ما أبداه من حُسْن نظامه، عرف أنه احتقره وطمع فيه، فقال له بلين الكلام: يا وجه العرب، دعنا من صغر سني وكوني أخدمك، وأخبرني عن سبب سيرك بالليل في القفار، وإنشادك الأشعار؛ فما حملك على هذا؟ فقال له: اسمع يا غلام، إنني صباح بن رماح بن همام، وقومي من عرب الشام، ولي بنت عم اسمها نجمة، كلُّ مَن رآها أتته النعمة، ومات والدي وتربَّيت عند عمي أبي نجمة، فلما كبرَتْ وكبرْتُ، حجبها عني لما رآني فقير الحال، قليل المال، فسقت عليه العرب الكبار وسادات القبائل، فاستحى منهم وأجابني إلى زواجها، إلا أنه اشترط عليَّ خمسين رأسًا من الخيل، وخمسين ناقة، وعشرة عبيد، وعشر جوارٍ، وخمسين حملًا قمحًا ومثلها شعيرًا، وحمَّلني ما لا أطيق، وأكثَرَ عليَّ الصداق، وها أنا أسافر من الشام إلى العراق، ولي عشرون يومًا ما نظرتُ أحدًا سواك، وقصدي أن أدخل أرض بغداد، وأنظر مَن يخرج منها من التجار المياسير الكبار، فأخرج في إثرهم وأسلب أموالهم وأقتل رجالهم وأسوق جمالهم وأحمالهم، فمَن تكون أنت من الناس؟ قال «كان ما كان»: إن قصتي كقصتك، غير أن مرضي أخطر من مرضك؛ لأن ابنة عمي ابنة ملك، وأهلها لا يكفيهم ما ذكرتَ، ولا يرضيهم شيء مثل هذا. فقال صباح: لعلك مهبول أو من كثرة العشق مخبول، كيف تكون بنت عمك بنت ملك وأنت ما عليك سيمة الملوك وما أنت إلا صعلوك؟ فقال: يا واحد العرب، لا تستغرب هذا الحال على تصرفات الزمان، وإن شئت مني البيان، فأنا «كان ما كان» ابن السلطان ضوء المكان ابن الملك عمر النعمان، صاحب بغداد وأرض خراسان، وقد جار عليَّ الزمان، وتسلطن الملك ساسان، وخرجت من بغداد خفيةً لئلا يراني إنسان، وسافرتُ في هذه الأرض عشرين يومًا ما رأيت أحدًا غيرك، فقصتك كقصتي، وطلبتك نظير طلبتي.

فلما سمع صباح ذلك الكلام صاح: وا فرحتي قد بلغت منيتي، وليس لي اليوم كسب غيرك؛ لأنك من ذرية الملوك، وإن كنت في زيِّ صعلوك، فلا بد أن أهلك لا يتركونك، وإذا علموا مكانك بأموالهم يفدونك، فأَدِرْ كتافك يا غلامي، وامشِ قدامي. فقال «كان ما كان»: لا تفعل يا أخا العرب؛ لأن أهلي لا يشترونني بفضةٍ ولا ذهب، وأنا رجلٌ فقير، وما سعى قليل ولا كثير، فدَعْ عنك هذه الأخلاق، واتخذني من الرفاق، واخرج من أرض العراق لنجول في الآفاق؛ لعلنا نفوز بالمهر والصداق، ونحظى من بنتَيْ عمنا بالبوس والعناق. فلما سمع صباح ذلك، غضب وزاد به الالتهاب، وقال له: ويلك أتراددني في الجواب يا أخس الكلاب؟ أدِرْ كتافك وإلا أنزلت عليك العذاب. فتبسَّم «كان ما كان» وقال: كيف أدير الكتاف؟ أَمَا عندك إنصاف؟ أَمَا تخشى معايرة العربان، حيث تأسر غلامًا بالذل والهوان، وما اختبرته في حومة الميدان، وما علمت أهو فارس أم جبان؟ فضحك صباح وقال: يا لله العجب، إنك في سن الغلام، ولكنك كبير الكلام؛ لأن هذا القول لا يصدر إلا عن البطل المصدام. فقال «كان ما كان»: الإنصاف أنك إذا شئتَ أخذي أسيرًا خادمًا لك، أن ترمي سلاحك، وتخفِّف لباسك وتصارعني، وكلُّ مَن صرع صاحبه بلغ منه مرامه، وجعله غلامه. فضحك صباح وقال: ما أظن كثرة كلامك إلا لدنوِّ حمامك. ثم رمى سلاحه، وشمَّرَ أذياله، ودنا من «كان ما كان» وتجاذَبَا، فوجده البدوي يرجح عليه كما يرجح القنطار على الدنيا، ونظر إلى ثبات رجليه في الأرض، فوجدهما كالمئذنتين المؤسستين أو الجبلين الراسخين، فعرف من نفسه قصر باعه، وندم على الدنوِّ من صراعه، وقال في نفسه: ليتني قاتلتُه بسلاحي. ثم إن «كان ما كان» قبضه وتمكَّنَ منه وهزَّه، فحسَّ أن أمعاءه تقطَّعَتْ في بطنه، فصاح: أمسك يدك يا غلام. فلم يلتفت إلى ما أبداه من الكلام، بل حمله من الأرض، وقصد به النهر، فناداه صباح قائلًا: يا أيها البطل، ما تريد أن تفعل بي؟ قال: أريد أن أرميك في هذا النهر، فإنه يوصلك إلى الدجلة، والدجلة توصلك إلى نهر عيسى، ونهر عيسى يوصلك إلى الفرات، والفرات يلقيك إلى بلادك، فيراك قومك فيعرفونك، ويعرفون مروءتك، وصدق محبتك. فصاح صباح ونادى: يا فارس البطاح، لا تفعل فعل القباح، أطلقني بحياة بنت عمك سيدة الملاح. فحطَّه «كان ما كان» على الأرض، فلما رأى نفسه خالصًا، ذهب إلى ترسه وسيفه وأخذهما، وصار يشاور نفسه على الهجوم عليه، فعرف «كان ما كان» ما يشاور نفسه عليه، فقال له: قد عرفتُ ما في قلبك، حيث أخذتَ سيفك وترسك، فإنه قد خطر ببالك أنك ليس لك يد في الصراع تطول، ولو كنت على فرس تجول، لَكنتَ بسيفك عليَّ تصول، وها أنا أبلغك ما تختار حتى لا يبقى في قلبك إنكار، فأعطني الترس واهجم عليَّ بسيفك، فإما أن تقتلني وإما أن أقتلك. فرمى له الترس، وجرَّد سيفَه، وهجم به على «كان ما كان»، فتناوَلَ الترس بيمينه، وصار يلاقي به عن نفسه، وصار صباح يضربه ويقول له: ما بقي إلا هذه الضربة الفاصلة، فيتلقاها «كان ما كان» وتروح ضائعة، ولم يكن مع «كان ما كان» شيء يضرب به، ولم يزل صباح يضربه بالسيف حتى كلَّت يده، وعرف «كان ما كان» ضعف قوته، وانحلال عزيمته، فهجم عليه وهزَّه، وألقاه في الأرض، وكتَّفه بحمائل سيفه، وجرَّه من رجليه إلى جهة النهر، فقال صباح: وما تريد أن تصنع بي يا فارس الزمان وبطل الميدان؟ قال: أَلَمْ أقل لك إنني أُرسِلك إلى قومك في النهر، حتى لا يشتغل خاطرهم عليك، وتتعوَّق عن عرس بنت عمك؟ فتضجَّرَ صباح وبكى وصاح، وقال: لا تفعل يا فارس الزمان، واجعلني لك من بعض الغلمان. ثم أفاض دمع العين، وأنشد هذين البيتين:

تَغَرَّبْتُ عَنْ أَهْلِي فَيَا طُولَ غُرْبَتِي        وَيَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَمُوتُ غَرِيبَا

أَمُوتُ وَأَهْلِي لَيْسَ تَعْرِفُ مَقْتَلِي        وَأُودَى غَرِيبًا لَا أَزُورُ حَبِيبَا

فرحمه «كان ما كان»، وأطلقه بعد أن أخذ عليه العهود والمواثيق أنه يصحبه في الطريق، ويكون له نِعْمَ الرفيق، ثم إن صباحًا أراد أن يقبِّل يدَ «كان ما كان»، فمنعه من تقبيلها، ثم قام البدوي إلى جرابه وفتحه، وأخذ منه ثلاث قرصات شعير وحطَّها قدام «كان ما كان»، وجلس معه على شاطئ النهر، وأكلَا مع بعضهما ثم توضَّآ وصلَّيَا وجلسَا يتحدَّثان فيما لقياه من صروف الزمان، فقال «كان ما كان» للبدوي: أين تقصد؟ فقال صباح: أقصد بغداد بلدك، وأقيم بها حتى يرزقني الله بالصداق. فقال له: دونك والطريق. ثم ودَّعه البدوي وتوجَّهَ في طريق بغداد، وقام «كان ما كان» وقال في نفسه: يا نفسي، أي وجه للرجوع مع الفقر والفاقة؟ فوالله لا أرجع خائبًا، ولا بد لي من الفرج إن شاء الله. ثم تقدَّمَ إلى النهر وتوضأ وصلَّى، فلما سجد ووضع جبهته على التراب، نادى ربَّه قائلًا: اللهم منزِّل القطر، ورازق الدود في الصخر، أسألك أن ترزقني بقدرتك ولطيف رحمتك. ثم سلَّمَ من صلاته، وضاق به كل مسلك، فبينما هو جالس يلتفت يمينًا وشمالًا، وإذا بفارسٍ أقبَلَ على جواد وقد اقتعد ظهره، وأرخى عنانه، فاستوى «كان ما كان» جالسًا، وبعد ساعة وصل إليه الفارس، وهو في آخِر نفس؛ لأنه كان به جرح بالغ، فلما وصل إليه جرت دمعة على خده مثل أفواه القرب، وقال ﻟ «كان ما كان»: يا وجه العرب، اتخذني ما عشت لك صديقًا، فإنك لا تجد مثلي، واسقني قليلًا من الماء، وإن كان شرب الماء لا يصلح للجروح، سيَّما وقت خروج الروح، وإن عشت أعطيتُكَ ما يدفع فقرك، وإن متُّ فأنت المسعود بحسن نيتك.

وكان تحت الفارس حصان يتحيَّر في حُسْنه الإنسان، ويكلُّ عن وصفه اللسان، وله قوائم مثل أعمدة الرخام، مُعَدٌّ ليوم الحرب والزحام، فلما نظر «كان ما كان» إلى ذلك الحصان، أخذه الهيام وقال في نفسه: إن مثل هذا الحصان لا يكون في هذا الزمان. ثم إنه أنزل الفارس، ورفق به، وجرعه يسيرًا من الماء، ثم صبر عليه حتى أخذ الراحة، وأقبل عليه وقال له: مَن الذي فعل بك هذه الفعال؟ فقال الفارس: أنا أخبرك بحقيقة الحال؛ إني رجل سلال غيَّار، طول دهري أسلُّ الخيل، واختلسها في الليل والنهار، واسمي غسان، آفة كل فرسٍ وحصان، وقد سمعت بهذا الحصان في بلاد الروم عند الملك أفريدون، وقد سمَّاه بالقاتول، ولقَّبه بالمجنون، وقد سافرت إلى القسطنطينية من أجله، وصرت أراقبه، فبينما أنا كذلك إذ خرجت عجوز معظَّمة عند الروم، وأمرها عندهم في الخداع متناهٍ، تسمَّى شواهي ذات الدواهي، ومعها هذا الجواد، وصحبتها عشرة عبيد لا غير برسم خدمة ذلك الحصان، وهي تقصد بغداد وتريد الدخول على الملك ساسان لتطلب منه الصلح والأمان، فخرجتُ في إثرهم طمعًا في الحصان، وما زلت تابعهم ولا أتمكَّن من الوصول إليه؛ لأن العبيد شداد الحرص عليه، إلى أن وصلوا إلى تلك البلاد، وخفت أن يدخلوا مدينة بغداد، فبينما أنا أشاور نفسي في سرقة الحصان، إذ طلع عليهم غبار حتى سدَّ الأقطار، ثم انكشف ذلك الغبار عن خمسين فارسًا مجتمعين لقطع الطريق على التجار، ورئيسهم يقال له كهرداش، ولكنه في الحرب كأسد يجعل الأبطال كالفراش. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 141﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الفارس المجروح قال لضوء المكان: فخرج على العجوز ومَنْ معها كهرداش، ثم أحاط بهم وهاش وناش، فلم تمضِ ساعة حتى ربط العشرة عبيد والعجوز وتسلَّم الحصان، وسار بهم وهو فرحان، فقلت في نفسي: قد ضاع تعبي وما بلغت أربي. ثم صبرت حتى أنظر ما يئُول إليه الأمر، فلما رأت العجوز روحها في الأسر، بكت وقالت لكهرداش: أيها الفارس الهمام والبطل الضرغام، ماذا تصنع بالعجوز والعبيد، وقد بلغت من الحصان ما تريد؟ وخادعته بلين الكلام، وحلفت أنها تسوق له الخيل والأنعام، فأطلقها هي والعبيد، ثم سار هو وأصحابه وتبعتهم حتى وصلت إلى هذه الديار وأنا ألاحظه، فلما وجدتُ إليه سبيلًا سرقتُه وركبته، وأخرجت من مخلاتي سوطًا فضربته، فلما أحسُّوا بي لحقوني وأحاطوا بي من كل مكان ورموني بالسهام والسنان، وأنا ثابت عليه، وهو يقاتل عني بيديه ورجليه، إلى أن خرج بي من بينهم مثل النجم الطارق والسهم الراشق، ولكن لما اشتد الكفاح أصابني بعض الجراح، وقد مضى لي على ظهره ثلاثة أيام لم أستطعم بطعام، وقد ضعفت مني القوى وهانت عليَّ الدنيا، وأنت أحسنتَ إليَّ وشفقتَ عليَّ، وأراك عاري الجسد ظاهر الكمد، ويلوح عليك أثر النعمة، فما يقال لك؟ فقال: أنا يقال لي «كان ما كان» ابن الملك ضوء المكان، ابن الملك عمر النعمان، قد مات والدي ورُبيت يتيمًا، وتولَّى بعده رجل لئيم، وصار ملكًا على الحقير والعظيم. ثم حدَّثه بحديثه من أوله إلى آخره، فقال الرجل السلَّال وقد رقَّ له: إنك ذو حسب عظيم، وشرف جسيم، وليكن لك شأن وتصير أفرس هذا الزمان، فإن قدرت أن تحملني وتركب ورائي وتودِّيني إلى بلادي، يكن لك الشرف في الدنيا والأجر في يوم التنادي؛ فإنه لم يَبْقَ لي قوة أمسك بها نفسي، وإنْ متُّ في الطريق، فزتُ بهذا الحصان، وأنت أولى به من كل إنسان. فقال له «كان ما كان»: والله لو قدرتُ أن أحملك على أكتافي لَفعلتُ، ولو كان عمري بيدي لَأعطيتُكَ نصفه من غير هذا الجواد؛ لأني من أهل المعروف وإغاثة الملهوف، وفعل الخير لوجه الله تعالى يسدُّ سبعين بابًا من البلاء. وعزم على أن يحمله على الحصان ويسير متوكلًا على اللطيف الخبير، فقال له: اصبر عليَّ قليلًا. ثم أغمض عينيه وفتح يديه وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله. وتهيَّأ للممات وأنشد هذه الأبيات:

ظَلَمْتُ الْعِبَادَ وَطُفْتُ الْبِلَادَ        وَأَمْضَيْتُ عُمْرِي بِشُرْبِ الْخُمُورِ

وَخُضْتُ السُّيُولَ لِسَلِّ الْخُيُولِ        وَهَدْمِ الطُّلُولِ بِفِعْلِ النُّكُورِ

وَأَمْرِي عَظِيمٌ وَجُرْمِي جَسِيمٌ        وَقَاتُولُ مِنِّي تَمَامُ الْأُمُورِ

وَأَمَّلْتُ أَنِّي أَنَالُ الْمُنَى        بِذَاكَ الْحِصَانِ فَأَعْيَا مَسِيرِي

وَطُولَ الْحَيَاةِ أَسَلُّ الْخُيُولَ        فَكَانَتْ وَفَاتِيَ عِنْدَ الْقَدِيرِ

وَآخِرُ أَمْرِي شَقِيتُ تَعِبْتُ        لِرِزْقِ الْغَرِيبِ الْيَتِيمِ الْفَقِيرِ

فلما فرغ من شعره، أغمض عينيه وفتح فاه وشهق شهقة، ففارَقَ الدنيا، فحفر له «كان ما كان» حفرةً وواراه في التراب، ثم مسح وجه الحصان ورآه لا يوجد في حوزة الملك ساسان، ثم أتته الأخبار من التجار بجميع ما جرى في غيبته بين الملك ساسان والوزير دندان، وأن الوزير دندان خرج عن طاعة الملك ساسان هو ونصف العسكر، وحلفوا أنهم ما لهم سلطان إلا «كان ما كان»، واستوثق منهم بالأيمان، ودخل بهم إلى جزائر الهند والبربر وبلاد السودان، واجتمع معهم عساكر مثل البحر الزاخر، لا يعرف لهم أول من آخِر، وعزم على أن يرجع بجميع الجيوش إلى البلاد، ويقتل مَن خالَفَه من العباد، وأقسَمَ على أنه لا يردُّ سيفَ الحرب إلى غمده، حتى يملك «كان ما كان». فلما بلغته الأخبار، غرق في بحر الأفكار، ثم إن الملك ساسان علم أن الدولة انحرفت عليه الكبار والصغار، فغرق في بحر الهموم والأكدار، وفتح الخزائن وفرَّق على أرباب الدولة الأموال والنِّعَم، وتمنى أن يقدم عليه «كان ما كان»، ويجذب قلبه إليه بالملاطفة والإحسان، ويجعله أميرًا على العساكر الذين لم يزالوا تحت طاعته، لتقوى به شرارة جمرته.

ثم إن «كان ما كان» لما بلغه ذلك الخبر من التجار، رجع مسرعًا إلى بغداد على ظهر ذلك الجواد، فبينما الملك ساسان في ربكته حيران، إذ سمع بقدوم «كان ما كان»، فأخرج جميع العساكر ووجهاء بغداد لملاقاته، فخرج كلُّ مَن في بغداد ولاقوه ومشوا قدامه إلى القصر، ودخلت الطواشية بالأخبار إلى أمه، فجاءت إليه وقبَّلَتْه بين عينيه، فقال: يا أماه، دعيني أمضي إلى عمي السلطان ساسان، الذي غمرني بالنعمة والإحسان. ثم إن أرباب الدولة تحيَّروا في وصف ذلك الحصان، وفي وصف صاحبه سيد الفرسان، وقالوا للملك ساسان: أيها الملك، إننا ما رأينا مثل هذا الإنسان. ثم ذهب الملك ساسان إليه وسلَّمَ عليه، فلما رآه «كان ما كان» مُقبِلًا عليه، قام إليه وقبَّلَ يديه ورجليه، وقدَّم إليه الحصان هدية، فرحَّب به وقال: أهلًا وسهلًا بولدي «كان ما كان»، والله لقد ضاقت بي الأرض لأجل غيبتك، والحمد لله على سلامتك.

ثم نظر السلطان إلى هذا الحصان المسمَّى بالقاتول، فعرف أنه الحصان الذي رآه سنة كذا وكذا في حصار عَبَدة الصلبان مع أبيه ضوء المكان، حين قتل عمه شركان وقال له: لو قدر عليه أبوك لَاشتراه بألف جواد، ولكن الآن عاد العز إلى أهله، وقد قبلناه، ومنَّا لك وهبناه، وأنت أحقُّ به من كل إنسان؛ لأنك سيد الفرسان. ثم أمر أن يحضروا ﻟ «كان ما كان» خلعة سنيَّة وجملة من الخيل، وأفرد له في القصر أكبر الدُّورِ، وأقبل عليه العز والسرور، وأعطاه مالًا جزيلًا، وأكرمه غاية الإكرام؛ لأنه كان يخشى عاقبة أمر الوزير دندان، ففرح بذلك «كان ما كان»، وذهب عنه الذل والهوان، ودخل بيتَه وأقبَلَ على أمه وقال: يا أمي، ما حال ابنة عمي؟ فقالت: والله يا ولدي، إنه كان عندي من غيبتك ما أشغلني عن محبوبتك. فقال: يا أمي، اذهبي إليها وأقبلي عليها؛ لعلها تجود عليَّ بنظرة. فقالت له: إن المطامع تذلُّ أعناقَ الرجال، فدَعْ عنك هذا المقال؛ لئلا يفضي بك إلى الوبال، فأنا لا أذهب إليها، ولا أدخل بهذا الكلام عليها. فلما سمع من أمه ذلك، أخبرها بما قاله السلَّال من أن العجوز ذات الدواهي طرقت البلاد، وعزمت على أن تدخل بغداد، وقال: هي التي قتلت عمي وجدي، ولا بد أن أكشف العار وآخذ الثأر. ثم ترك أمه، وأقبل على عجوز عاهرة محتالة ماكرة اسمها سعدانة، وشكا إليها حاله، وما يجده من حب «قضى فكان»، وسألها أن تتوجه إليها وتستعطفها عليه، فقالت له العجوز: سمعًا وطاعةً. ثم فارقَتْه ومضت إلى قصر «قضى فكان»، واستعطفت قلبها عليه، ثم رجعت إليه وأعلمته بأنَّ «قضى فكان» تسلِّم عليه، ووعدتها أنها في نصف الليل تجيء إليه. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 142﴾

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن العجوز رجعت إلى «كان ما كان»، وأعلمته بأن «قضى فكان» تسلِّم عليه، ووعدتها أنها في نصف الليل تجيء إليه؛ فلما بلغه ذلك الخبر، فرح لوعد ابنة عمه «قضى فكان»، فلما جاء نصف الليل أتته بملاءة سوداء من الحرير، ودخلت عليه ونبَّهَتْه من نومه، وقالت له: كيف تدَّعِي أنك تحبني، وأنت خليُّ البال، نائم على أحسن الحال؟ فانتبه وقال: والله يا منية القلب، إني ما نمتُ إلا طمعًا في أن يزورني منك طيفُ الخيال. فعند ذلك عاتبَتْه بلطيف الكلمات، وأنشدت هذه الأبيات:

لَوْ كُنْتَ تَصْدُقُ فِي المْحَبَّــةِ        مَا جَنَحْتَ إِلَى الْمَنَامِ

يَا مُدَّعِي طُرُقَ الْمَحَبَّــةِ        فِي الْمَوَدَّةِ وَالْغَرَامِ

وَاللهِ يَا ابْنَ الْعَمِّ مَا        رَقَدَتْ عُيُونُ الْمُسْتَهَامِ

فاستحيا منها «كان ما كان»، وتعانَقَا وتشاكيا ألمَ الفراق، وعظيم الوَجْد والاشتياق، ولم يزالا كذلك إلى أن بدت غرةُ الصباح، وطلع الفجر ولاح، فبكى «كان ما كان» بكاءً شديدًا، وصعَّد الزفرات، وأنشد هذه الأبيات:

فَيَا زَائِرِي مِنْ بَعْدِ فَرْطِ صُدُودِهِ        وَفِي الثَّغْرِ مِنْهُ الدُّرُّ فِي نَظْمِ عَقْدِهِ

فَقَبَّلْتُهُ أَلْفًا وَعَانَقْتُ قَدَّهَ        وَبِتُّ وَخَدِّي لَاصِقٌ تَحْتَ خَدِّهِ

إِلَى أَنْ بَدَا نُورُ الصَّبَاحِ فَرَاعَنَا        كَحَدِّ حُسَامٍ لَاحَ مِنْ جَوْفِ غُمْدِهِ

فلمَّا فرغ من شعره، ودَّعَتْه «قضى فكان»، ورجعت إلى خدرها، وأظهرت بعض الجواري على سرِّها، فذهبت جارية منهن إلى الملك ساسان، وأعلمته بالخبر، فتوجَّه إلى «قضى فكان»، وجرَّدَ عليها الحسام، وأراد أن يضرب عنقها، فدخلت عليه أمها نزهة الزمان، وقالت له: بالله لا تفعل بها ضررًا، فإنك إنْ فعلتَ بها ضررًا يشيع الخبر بين الناس، وتبقى معيرة عند ملوك الزمان؛ إنَّ «كان ما كان» صاحب عرض ومروءة، ولا يفعل أمرًا يُعاب عليه، فاصبر ولا تعجل؛ فإن أهل القصر وجميع أهل بغداد قد شاع عندهم أن الوزير دندان قاد العساكر من جميع البلدان، وجاء بهم ليملِّكوا «كان ما كان». فقال لها: لا بد أن أرميه في بلية، بحيث لا أرض تقله ولا سماء تظله، وإني ما طيبت خاطره ولا أنعمت عليه إلا لأجل أهل مملكتي لئلا يميلوا إليه، وسوف ترين ما يكون. ثم تركها وخرج يدبر أمر مملكته.

هذا ما كان من أمر الملك ساسان، وأما ما كان من أمر «كان ما كان»، فإنه أقبل على أمه في ثاني يوم، وقال لها: يا أمي، إني عزمت على شن الغارات، وقطع الطرقات، وسوق الخيل والنِّعَم والعبيد والمماليك، وإذا كَثُر مالي وحَسُن حالي، خطبت «قضى فكان» من عمي ساسان، فقالت: يا ولدي، إن أموال الناس غير سائبة؛ لأن دونها ضرب الصفاح، وطعن الرماح، ورجالًا تقتنص الأسود، وتصيد الفهود. فقال لها «كان ما كان»: هيهات أن أرجع عن عزيمتي إلا إذا بلغتُ منيَّتي. ثم أرسَلَ العجوز إلى «قضى فكان» ليعلمها أنه يريد السير حتى يحصِّل لها مهرًا يصلح لها. وقال للعجوز: لا بد أن تأتيني منها بجواب. فقالت له: سمعًا وطاعة. ثم ذهبت إليها ورجعت له بالجواب، وقالت له: إنها في نصف الليل تكون عندك. فأقام سهران إلى نصف الليل من قلقه، فلم يشعر إلا وهي داخلة عليه، وتقول له: روحي فداك من السهر. فنهض لها قائمًا وقال: يا مُنية القلب، روحي فداكِ من جميع الأسواء. ثم أعلمها بما عزم عليه فبكت، فقال لها: لا تبكي يا بنت العم، فأنا أسأل الذي حكم علينا بالفراق أن يمنَّ علينا بالتلاقي والوفاق.

ثم إن كان ما كان أخذ في السفر، ودخل على أمه وودَّعها، ونزل من القصر، وتقلَّد بسيفه وتعمَّم وتلثَّم، وركب جواده القاتول، ومشى في شوارع المدينة وهو كالبدر حتى وصل إلى باب بغداد، وإذا برفيقه صباح بن رباح خارج من المدينة، فلما رآه جرى في ركابه وحيَّاه، فردَّ عليه السلام، فقال صباح: يا أخي، كيف صار لك هذا الجواد وهذا المال، وأنا الآن لا أملك غير سيفي؟ فقال له «كان ما كان»: ما يرجع الصياد إلَّا بصيد على قدر نيَّته، وبعد فراقك بساعة حصلَتْ لي السعادة، وهل لك أن تأتي معي، وتخلص النية في صحبتي، ونسافر في تلك البرية؟ فقال: ورب الكعبة ما بقيت أدعوك إلا مولاي. ثم جرى قدام الجواد وسيفه على عاتقه، وجرابه بين كتفيه، ولم يزالَا سائرَيْن في البر أربعة أيام، وهما يأكلان من صيد الغزلان، ويشربان من ماء العيون. وفي اليوم الخامس أشرفَا على تلٍّ عالٍ، تحته مرابع فيها إبل وغنم وبقر وخيل قد ملأت الروابي والبطاح، وأولادها الصغار تلعب حول المراح، فلما رأى ذلك «كان ما كان» زادت به الأفراح، وامتلأ صدره بالانشراح، وعوَّل على القتال، وأخْذِ النياق والجمال، فقال لصباح: انزل بنا على هذا المال الذي عن أهله وحيد، ونقاتل دونه القريب والبعيد، حتى يكون لنا في أخذه نصيب. فقال صباح: يا مولاي، إن أصحابه خلق كثير، وجمٌّ غفير، وفيهم أبطال من فرسان ورجال، وإن رمينا أرواحنا في هذا الخطب الجسيم، فإننا نكون من هوله على خطر عظيم، فضحك «كان ما كان»، وعلم أنه جبان، فتركه وانحدر من الرابية عازمًا على شنِّ الغارات، وترنَّمَ بإنشاد هذه الأبيات:

وَآلُ نُعْمْانَ نَحْنُ ذُو الْهِمَمِ        وَالسَّادَةُ الضَّارِبُونَ فِي الْقِمَمِ

قَوْمٌ إِذَا مَا الْهِيَاجُ قَامَ لَهُمْ        قَامُوا بِأَسْوَاقِهِ عَلَى قَدَمِ

تَنَامُ عَيْنَا الْفَقِيرِ بَيْنَهُمُ        وَلَا يَرَى قُبْحَ صُورَةِ الْعَدَمِ

وَإِنَّنِي أَرْتَجِي مُعَاوَنَةً        مِنْ مَالِكِ الْمُلْكِ بَارِئِ النَّسَمِ

ثم حمل على ذلك المال مثل الجمل الهائج، وساق جميع الإبل والبقر والغنم والخيل قُدَّامه، فتبادرت إليه العبيد بالسيوف الصقال والرماح الطوال، وفي أولهم فارس تركي إلا أنه شديد الحرب والكفاح، عارف بأعمال سمر القنا وبيض الصفاح، فحمل على «كان ما كان»، وقال له: ويلك! لو علمتَ لمَن هذا المال ما فعلتَ هذه الفِعال، اعلم أن هذه الأموال للعصابة الرومية والفرقة الجركسية، الذين ما فيهم إلا كل بطل عابس، وهم مائة فارس قد خرجوا عن طاعة كل سلطان، وقد سُرِق منهم حصان، وحلفوا ألَّا يرجعوا من هنا إلا به. فلما سمع «كان ما كان» هذا الكلام، صاح قائلًا: هذا هو الحصان الذي تعنون، وأنتم له طالبون، وفي قتالي بسببه راغبون، فبارزوني كلكم أجمعون، وشأنكم وما تريدون. ثم صرخ بين أذني القاتول، فخرج عليهم مثل الغول، وعطف على الفارس وطعنه فأخرج كلاه، ومال على ثانٍ وثالث ورابع أعدمهم الحياة، فعند ذلك هابته العبيد، فقال لهم: يا بني الزواني، سوقوا المال والخيول وإلا خضبتُ من دماكم سناني. فساقوا المال، وأخذوا في الانطلاق، وانحدر إليه صباح، وأعلن بالصياح، وزادت به الأفراح، وإذا بغبار علا وطار حتى سدَّ الأقطار، وبان من تحته مائة فارس مثل الليوث العوابس، فلما رآهم صباح فرَّ إلى الرابية وترك البطاح، وصار يتفرج على الكفاح، وقال: ما أنا فارس إلا في اللعب والمزاح. ثم إن المائة فارس داروا حول «كان ما كان»، وأحاطوا به من كل مكان، فتقدَّمَ إليه فارس منهم وقال له: أين تذهب بهذا المال؟ فقال له «كان ما كان»: دونك والقتال، واعلم أن من دونه أسد أروع، وبطل سميدع، وسيف أينما مال قطع.

فلما سمع الفارس ذلك الكلام، التفت إليه فرآه فارسًا كالأسد الضرغام، إلا أن وجهه كبدر التمام، وكان ذلك الفارس رئيس المائة فارس، واسمه كهرداش، فلما رأى «كان ما كان» مع كمال فروسيته بديعَ المحاسن، يشبه حُسْنُه حُسْنَ معشوقةٍ له يقال لها «فاتن»، وكانت من أحسن النساء وجهًا، قد أعطاها الله من الحُسْن والجمال وكرم الخصال ما يعجز عن وصفه اللسان، ويشغل قلب كل إنسان، وكانت فرسان القوم تخشى سطوتها، وأبطال ذلك القُطْر تخاف من هيبتها، وحلفت أنها لا تتزوج إلا مَن يقهرها، وكان كهرداش من جملة خُطَّابها، فقالت لأبيها: ما يقربني إلا مَن يقهرني في الميدان، وموقف الحرب والطعان. فلما بلغ كهرداش هذا القول اختشى أن يقاتل جارية، وخاف من العار، فقال له بعض خواصه: أنت كامل الخصال في الحسن والجمال، فلو قاتلتها وكانت أقوى منك فإنك تغلبها؛ لأنها إذا رأت حُسْنَك وجمالك تنهزم قدَّامك حتى تملكها؛ لأن النساء لهنَّ غرض في الرجال، ولا يخفى عنك هذا الحال. فأبى كهرداش وامتنع من قتالها، واستمرَّ على امتناعه من القتال إلى أن جرت له مع «كان ما كان» هذه الأفعال، فظنَّ أنه محبوبته فاتن، وقد عشقَتْه لما سمعت بحُسْنه وشجاعته، فتقدَّمَ إلى «كان ما كان» وقال: ويلك يا فاتن! قد أتيتِ لتريني شجاعتك، فانزلي عن جوادك حتى أتحدث معك، فإني قد سقتُ هذه الأموال، وقطعت الطريق على الفرسان والأبطال، وكل هذا لحُسْنك وجمالك الذي ما له مثيل، وتزوَّجِيني حتى تخدمك بنات الملوك، وتصيري ملكةَ هذه الأقطار.

فلما سمع «كان ما كان» هذا الكلام، صارت نار غيظه في اضطرام، وقال: ويلك يا كلب الأعجام! دَعْ فاتنًا وما بها ترتاب، وتقدَّمْ إلى الطعن والضراب، فعن قليل تبقى على التراب. ثم جال وصال، وطلب الحرب والنزال، فلما نظر كهرداش إليه علم أنه فارس همام، وبطل مصدام، وتبيَّنَ له خطأ ظنه؛ حيث لاح له عذار أخضر فوق خده كآسٍ نبتَ خلال ورد أحمر، وقال للذين معه: ويلكم! ليحمل واحد منكم عليه، ويظهر له السيف البتار، والرمح الخطار، واعلموا أن قتال الجماعة للواحد عار، ولو كان في سنان رمحه شعلة نار. فعند ذلك حمل عليه فارس تحته جواد أدهم، بتحجيل وغرَّة كالدرهم، يحيِّر العقلَ والناظر، كما قال فيه الشاعر:

قَدْ جَاءَكَ الْمُهْرُ الَّذِي نَزَلَ الْوَغَى        جَزْلَانَ يَخْلِطُ أَرْضَهُ بِسَمَائِهِ

وَكَأَنَّمَا لَطَمَ الصَّبَاحُ جَبِينَهُ        وَاقْتَصَّ مِنْهُ فَخَاضَ فِي أَحْشَائِهِ

ثم إن ذلك الفارس حمل على «كان ما كان»، وتجاولَا في الحرب برهة من الزمان، وتضاربا ضربًا يحيِّر الأفكار، ويغشي الأبصار، فسبقه «كان ما كان» بضربة بطل شجاع قطعت منه العمامة والمِغفر، فمال عن الجواد كأنه البعير إذا انحدر، وحمل عليه الثاني والثالث والرابع والخامس، ففعل بهم كالأول، ثم حمل عليه الباقون، وقد اشتد بهم القلق، وزادت الحرق؛ فما كان إلا ساعة حتى التقطهم بسنان رمحه، فنظر كهرداش إلى هذا الحال، فخاف من الارتحال، وعرف من نفسه أن عنده ثبات الجنان، واعتقد أنه أوحد الأبطال والفرسان، فقال ﻟ «كان ما كان»: قد وهبتُ لك دمك ودم أصحابي، فخذ من المال ما شئتَ واذهب إلى حال سبيلك، فقد رحمتك لحُسْن ثباتك والحياة أولى بك. فقال له «كان ما كان»: لا عدمت مروءة الكرام، ولكن اترك عنك هذا الكلام، وفُز بنفسك ولا تخشَ الملام، ولا تطمع نفسك في ردِّ الغنيمة، واسلك لنجاة نفسك طريقة مستقيمة.

فعند ذلك اشتد بكهرداش الغضب، وحصل عنده ما يوجب العطب، فقال ﻟ «كان ما كان»: ويلك! لو عرفت مَن أنا ما نطقت بهذا الكلام في حومة الزحام، فاسأل عني، فأنا الأسد البطَّاش المعروف بكهرداش، الذي نهب الملوك الكبار، وقطع الطريق على جميع السفار، وأخذ أموال التجار، وهذا الحصان الذي تحتك طِلبتي، وأريد أن تعرِّفني كيف وصلتَ إليه حتى استوليت عليه. فقال: اعلم أن هذا الجواد كان سائرًا إلى عمي الملك ساسان تحت عجوز كبيرة، ولنا عندها ثأر من جهة جدي الملك عمر النعمان وعمي الملك شركان. فقال كهرداش: ويلك! ومَن أبوك لا أم لك؟ فقال: اعلم أني كان ما كان بن ضوء المكان بن عمر النعمان. فلما سمع كهرداش هذا الخطاب قال: لا يُستنكَر عليك الكمال، والجمع بين الفروسية والجمال. ثم قال له: توجَّهْ بأمان؛ فإن أباك كان صاحب فضل وإحسان. فقال له «كان ما كان»: أنا والله ما أوقِّرك يا مهان. فاغتاظ البدوي، ثم حمل كلٌّ منهما على صاحبه، فسدت لهما الخيل آذانها، ورفعت أذنابها، ولم يزالا يصطدمان حتى ظن كلٌّ منهما أن السماء قد انشقت، ثم بعد ذلك تقاتلا ككباش النطاح، واختلفت بينهما طعنات الرماح، فحاوله كهرداش بطعنة، فزاغ عنها «كان ما كان»، ثم كرَّ عليه وطعنه في صدره، فأطلع السنان من ظهره، وجمع الخيل والأسلاب، وصاح في العبيد: دونكم والسوق الشديد. فنزل عند ذلك صباح، وجاء إلى «كان ما كان» وقال له: أحسنت يا فارس الزمان، إني دعوت لك وقد استجاب ربي دعائي. ثم إن صباحًا قطع رأس كهرداش، فضحك «كان ما كان» وقال له: ويلك يا صباح! كنتُ أظن أنك فارس الحرب والكفاح. فقال له: لا تنسَ عبدك من هذه الغنيمة، لعلي أصل بسببها إلى زواج بنت عمي نجمة. فقال له: لا بد لك فيها من نصيب، ولكن كن محافظًا على الغنيمة والعبيد.

ثم إن كان ما كان سار متوجهًا إلى الديار، ولم يزل سائرًا بالليل والنهار، حتى أشرف على مدينة بغداد، وعلمت به جميع الأجناد، ورأوا ما معه من الغنيمة والأموال، ورأس كهرداش على رمح صباح، وعرف التجار رأس كهرداش، ففرحوا وقالوا: لقد أراح الله الخلق منه؛ لأنه كان قاطع الطريق. وتعجَّبوا من قتله، ودعوا لقاتله، وأتت أهل بغداد إلى «كان ما كان» بما جرى من الأخبار، فهابته جميع الرجال، وخافته الفرسان والأبطال، وساق ما معه إلى أن أوصله تحت القصر، وركَّز الرمح الذي عليه رأس كهرداش إلى باب القصر، ووهب للناس وأعطاهم الخيل والجمال، فأحبه أهل بغداد ومالت إليه القلوب، ثم أقبل على صباح، وأنزله في بعض الأماكن الفساح، ثم دخل على أمه، وأخبرها بما جرى له في سفره، وقد وصل إلى الملك خبره، فقام من مجلسه واختلى بخواصه، وقال لهم: اعلموا أني أريد أن أبوح لكم بسري، وأبدي لكم مكنون أمري، اعلموا أن «كان ما كان» هو الذي يكون سببًا لانقلاعنا من هذه الأوطان؛ لأنه قتل كهرداش، مع أن له قبائل من الأكراد والأتراك، وأمرنا معه آيل إلى الهلاك، وأكثر خوفنا من أقاربه، وقد علمتم بما فعل الوزير دندان، فإنه جحد معروفي بعد الإحسان، وخانني في الأيمان، وبلغني أنه جمع عساكر البلدان، وقصد أن يسلطن «كان ما كان»؛ لأن السلطنة كانت لأبيه وجده، ولا شك أنه قاتلي لا محالة.

فلما سمع خواص مملكته منه هذا الكلام، قالوا له: أيها الملك، إنه أقل من ذلك، ولولا أننا علمنا بأنه تربيتك لم يقبل عليه منَّا أحد، واعلم أننا بين يديك؛ إنْ شئتَ قتْلَه قتلناه، وإن شئتَ بُعْدَه أبعدناه. فلما سمع كلامهم قال: إن قتله هو الصواب، ولكن لا بد من أخذ الميثاق. فتحالفوا على أنهم لا بد أن يقتلوا «كان ما كان»، فإذا أتى الوزير دندان وسمع بقتله، تضعف قوته عمَّا هو عازم عليه، فلما أعطوه العهدَ والميثاقَ على ذلك، أكرمهم غايةَ الإكرام، ثم دخل بيته، وقد تفرَّق عنه الرؤساء، وامتنعت العساكر من الركوب والنزول حتى يبصروا ما يكون؛ لأنهم رأوا غالب العسكر مع الوزير دندان، ثم إن الخبر وصل إلى «قضى فكان»، فحصل عندها غمٌّ زائد، وأرسلت إلى العجوز التي عادتها أن تأتيها من عند ابن عمها بالأخبار، فلما حضرت عندها أمرتها أن تذهب إليه وتخبره بالخبر، فلما وصلت إليه العجوز سلَّمت عليه ففرح بها، وأخبرته بالخبر، فلما سمع ذلك قال: بلِّغي بنت عمي سلامي، وقولي لها: إن الأرض لله عز وجل يورثها مَن يشاء من عباده، وما أحسن قول القائل:

الْمُلْكُ للهِ مَنْ يَظْفَرْ بِنَيْلِ مُنًى        يَرْدِدْهُ قَهْرٌ وَيَضْمَنْ عِنْدَهُ الدَّرَكَا

لَوْ كَانَ لِي أَوْ لِغَيْرِي قَدْرُ أَنْمُلَةٍ        مِنَ التُّرَابِ لَكَانَ الْأَمْرُ مُشْتَرَكَا

فرجعت العجوز إلى بنت عمه وأخبرتها بما قاله، وأعلمتها بأن «كان ما كان» أقام في المدينة، ثم إن الملك ساسان صار ينتظر خروجه من بغداد ليرسل وراءه مَن يقتله، فاتفق أنه خرج إلى الصيد والقنص وخرج صباح معه؛ لأنه كان لا يفارقه ليلًا ولا نهارًا، فاصطاد عشر غزالات، وفيهنَّ غزالة كحلاء العيون، صارت تتلفت يمينًا وشمالًا فأطلقها، فقال له صباح: لأي شيء أطلقتَ هذه الغزالة؟ فضحك «كان ما كان» وأطلق الباقي، وقال له: إن من المروءة إطلاق الغزالات التي لها أولاد، وما تتلفت تلك الغزالة إلا لأن لها أولادًا، فأطلقتُها وأطلقت الباقي في كرامتها. فقال له صباح: أطلقني حتى أروح إلى أهلي. فضحك وضربه بعقب الرمح على قلبه، فوقع على الأرض يلتوي كالثعبان.

فبينما هما كذلك، وإذا بغبرة ثائرة، وخيل تركض، وبان من تحتها فرسان وشجعان، وسبب ذلك أن الملك ساسان أخبره جماعة أن «كان ما كان» خرج إلى الصيد والقنص، فأرسل أميرًا من الديلم يقال له جامع، ومعه عشرون فارسًا، ودفع لهم المال، ثم أمرهم أن يقتلوا «كان ما كان»، فلما قربوا منه حملوا عليه وحمل عليهم، فقتلهم عن آخِرهم، وإذا بالملك ساسان ركب وسار ولحق بالعسكر، فوجدهم مقتولين فتعجَّبَ ورجع، وإذ بأهاليهم قبضوا عليه وشدُّوا وثاقه، ثم إن «كان ما كان» توجَّهَ بعد ذلك من ذلك المكان، وتوجَّهَ معه صباح البدوي، فبينما هو سائر إذ رأى في طريقه شابًّا على باب دار، فألقى «كان ما كان» عليه السلام، فردَّ الشاب عليه السلام، ثم دخل الدار وخرج ومعه قصعتان: إحداهما فيها لبن، والثانية ثريد، والسمن في جوانبها يموج، ووضع القصعتين قدام «كان ما كان»، وقال له: تفضل علينا بالأكل من زادنا. فامتنع «كان ما كان» من الأكل، فقال له الشاب: ما لك أيها الإنسان لا تأكل؟ فقال له «كان ما كان»: إنه عليَّ نذر. فقال له الشاب: وما سبب نذرك؟ فقال له «كان ما كان»: اعلم أن الملك ساسان غصب ملكي ظلمًا وعدوانًا، مع أن ذلك الملك كان لأبي وجدي من قبلي، فاستولى عليه قهرًا بعد موت أبي، ولم يعتبرني لصغر سني، فنذرت أنني لا آكل لأحدٍ زادًا حتى أشفي فؤادي من غريمي. فقال له الشاب: أبشِرْ فقد وفَّى الله نذرك، واعلم أنه مسجون في مكان، وأظنه يموت قريبًا. فقال له «كان ما كان»: في أي بيت هو معتقل؟ فقال له: في تلك القبة العالية. فنظر «كان ما كان» إلى قبة عالية، ورأى الناس في تلك القبة يدخلون، وعلى ساسان يلطمون، وهو يتجرع غصص المنون، فقام «كان ما كان»، ومشى حتى وصل إلى تلك القبة، وعاين ما فيها، ثم عاد إلى موضعه، وقعد على الأكل وأكل ما تيسَّر، ووضع ما بقي من اللحم في مزوده، ثم جلس في مكانه، ولم يزل جالسًا إلى أن أظلم الليل، ونام الشاب الذي ضيَّفه.

ثم ذهب «كان ما كان» إلى القبة التي فيها ساسان، وكان حولها كلاب يحرسونها، فوثب له كلب من الكلاب، فرمى له قطعة لحم من الذي في مزوده، وما زال يرمي للكلاب لحمًا حتى وصل إلى القبة، وتوصَّلَ إلى أن صار عند الملك ساسان، ووضع يده على رأسه، فقال له بصوت عالٍ: مَن أنت؟ فقال: أنا «كان ما كان» الذي سعيتُ في قتله، فأوقعك الله في سوء تدبيرك، أَمَا يكفيك أخذ ملكي وملك أبي وجدي حتى تسعى في قتلي؟ فحلف ساسان الأيمان الباطلة أنه لم يسعَ في قتله، وأن هذا الكلام غير صحيح، فصفح عنه «كان ما كان» وقال له: اتبعني. فقال: لا أقدر أن أخطو خطوة واحدة لضعف قوتي. فقال «كان ما كان»: إذا كان الأمر كذلك نأخذ لنا فرسين، ونركب أنا وأنت ونطلب البر. ثم فعل كما قال، وركب هو وساسان، وسارَا إلى الصباح، ثم صلوا الصبح وساروا، ولم يزالوا كذلك حتى وصلوا إلى بستان، فجلسوا فيه يتحدثون، ثم قام «كان ما كان» إلى ساسان، وقال له: هل بقي في قلبك مني أمر تكرهه؟ قال ساسان: لا والله. ثم اتفقوا على أنهم يرجعون إلى بغداد، فقال صباح البدوي: أنا أسبقكما لأبشِّر الناس. فسبق يبشر النساء والرجال، فخرجت إليه الناس بالدفوف والمزامير، وبرزت «قضى فكان» وهي مثل البدر بهي الأنوار في دياجي الاعتكار، فقابَلَها «كان ما كان»، وحنَّتِ الأرواح للأرواح، واشتاقت الأشباح للأشباح، ولم يَبْقَ لأهل العصر حديث إلا في «كان ما كان»، وشهد له الفرسان أنه أشجع أهل الزمان، وقالوا: لا يصلح أن يكون سلطانًا علينا إلا «كان ما كان»، ويعود إلى ملك جده كما كان.

وأما ساسان فإنه دخل على نزهة الزمان فقالت له: إني أرى الناس ليس لهم حديث إلا في «كان ما كان»، ويصفونه بأوصاف يعجز عنها اللسان، فقال لها: ليس الخبر كالعيان، فإني رأيته ولم أرَ فيه صفة من صفات الكمال، وما كل ما يُسمَع يقال، ولكن الناس يقلد بعضهم بعضًا في مدحه ومحبته، وأجرى الله على ألسنة الناس مدحه حتى مالت إليه قلوب أهل بغداد، والوزير دندان الغادر الخوان، وقد جمع له عساكر من سائر البلدان، ومَن الذي يكون صاحب الأقطار، ويرضى أن يكون تحت يد حاكم يتيم ما له مقدار. فقالت له نزهة الزمان: وعلى ماذا عوَّلتَ؟ فقال لها: عوَّلتُ على قتله، ويرجع الوزير دندان خائبًا في قصده، ويدخل تحت أمري وطاعتي، ولا يبقى له إلا خدمتي. فقالت له نزهة الزمان: إن الغدر قبيح بالأجانب فكيف بالأقارب؟ والصواب أن تزوِّجه ابنتك «قضى فكان»، وتسمع ما قيل فيما مضى من الزمان:

إِذَا رَفَعَ الزَّمَانُ عَلَيْكَ شَخْصًا        وَكُنْتَ أَحَقَّ مِنْهُ وَلَوْ تَصَاعَدْ

أَنِلْهُ حَقَّ رُتْبَتِهِ تَجِدْهُ        يُنِيلُكَ إِنْ دَنَوْتَ وَإِنْ تَبَاعَدْ

وَلَا تَقُلِ الَّذِي تَدْرِيهِ فِيهِ        تَكُنْ مِمَّنْ عَنِ الْحُسْنَى تَقَاعَدْ

فَكَمْ فِي الْخِدْرِ أَبْهَى مِنْ عَرُوسٍ        وَلَكِنْ لِلْعَرُوسِ الدَّهْرُ سَاعِدْ

فلما سمع ساسان هذا الكلام، وفهم الشعر والنظام، قام مغضبًا من عندها وقال: لولا أني أعرف أنك تمزحين، لَعلوت بالسيف رأسك وأخمدت أنفاسك. فقالت: حيث غضبت مني فأنا أمزح معك. ثم وثبت إليه، وقبَّلت رأسه ويديه، وقالت له: الصواب ما تراه، وسوف أتدبَّر أنا وأنت في حيلة نقتله بها. فلما سمع منها هذا الكلام، فرح وقال لها: عجِّلي بالحيلة وفرِّجي كربتي، فلقد ضاق عليَّ باب الحِيَل. فقالت له: سوف أتحيَّل لك على إتلاف مهجته. فقال لها: بأي شيء؟ فقالت له: بجاريتنا التي اسمها باكون، فإنها في المكر ذات فنون. وكانت هذه الجارية من أنحس العجائز، وعدم الخبث في مذهبها غير جائز، وكانت قد ربَّتْ «كان ما كان» و«قضى فكان»، غير أن «كان ما كان» يميل إليها كثيرًا، ومن فرط ميله إليها كان ينام تحت رجليها. فلما سمع الملك ساسان من زوجته هذا الكلام، قال: إن هذا الرأي هو الصواب. ثم أحضر الجارية باكون وحدثها بما جرى، وأمرها أن تسعى في قتله، ووعدها بكل جميل، فقالت له: أمرك مطاع، ولكن أريد يا مولاي أن تعطيني خنجرًا قد سُقِي بماء الهلاك، لأعجِّل لك بإتلافه. فقال لها ساسان: مرحبًا بك. ثم أحضر لها خنجرًا يكاد أن يسبق القضاء، وكانت هذه الجارية قد سمعت الحكايات والأشعار، وتحفظ النوادر والأخبار، فأخذت الخنجر وخرجت من الديار مفكرةً فيما يكون به الدمار، وأتت إلى «كان ما كان» وهو قاعد ينتظر وعد السيدة «قضى فكان»، وكان في تلك الليلة قد تذكَّرَ بنت عمه «قضى فكان»، فالتهبَتْ من حبها في قلبه النيران، فبينما هو كذلك وإذا بالجارية باكون داخلة عليه وهي تقول: آنَ أوان الوصال، ومضت أيام الانفصال. فلما سمع ذلك قال لها: كيف حال «قضى فكان»؟ فقالت له باكون: اعلم أنها مشتغلة بحبك. فعند ذلك قام «كان ما كان» إليها، وخلع أثوابه عليها، ووعدها بكل جميل، فقالت له: اعلم أنني أنام عندك الليلة وأحدثك بما سمعت من الكلام، وأسلِّيك بحديث كل متيَّم أمرضه الغرام. فقال لها «كان ما كان»: حدثيني بحديث يفرح به قلبي، ويزول به كربي. فقالت له باكون: حبًّا وكرامة. ثم جلست إلى جانبه وذلك الخنجر من داخل أثوابها، فقالت له: اعلم أن أعذب ما سمعت أذني أن رجلًا كان يعشق المِلاح، وصرف عليهن ماله حتى افتقر وصار لا يملك شيئًا، فضاقت عليه الدنيا، فصار يمشي في الأسواق ويفتش على شيء يقتات به، فبينما هو ماشٍ وإذا بقطعة مسمار شكته في إصبعه فسال دمه، فقعد ومسح الدم وعصب إصبعه، ثم قام وهو يصرخ حتى جاز على الحمَّام ودخلها، ثم قلع ثيابه، فلما صار داخل الحمَّام وجدها نظيفة، فجلس على الفسقية، وما زال ينزح الماء على رأسه إلى أن تعب. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 143

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أنه جلس على الفسقية وما زال ينزح الماء على رأسه إلى أن تعب، فخرج إلى الحوض البارد فلم يجد أحدًا، فاختلى بنفسه وطلع قطعة حشيش وبلعها، فساحت في مخه فانقلب على الرخام، وخيَّلَ له الحشيش أن مهتارًا كبيرًا يكبسه، وعبدين واقفان على رأسه؛ واحد معه الطاسة، والآخَر معه آلة الحمَّام وما يحتاج إليه البلان، فلما رأى ذلك قال في نفسه: كأن هؤلاء غلطوا فيَّ أو من طائفتنا الحشاشين. ثم إنه مد رجليه، فتخيَّلَ له أن البلان قال له: يا سيدي، قد أزف الوقت على طلوعك، واليوم نوبتك. فضحك وقال في نفسه: ما شاء الله يا حشيش. ثم قعد وهو ساكت، فقام البلان وأخذ بيده، وأدار على وسطه ميزرًا من الحرير الأسود، ومشى العبدان وراءه بالطاسات والحوائج، ولم يزالوا به حتى أدخلوه الخلوة وأطلقوا فيها البخور، فوجدها ملآنة من سائر الفواكه والمشموم، وشقُّوا له بطيخة، وأجلسوه على كرسي من الأبنوس، ووقف البلان يغسله، والعبدان يصبَّان الماء، ثم دلكوه دلكًا جيدًا وقالوا له: يا مولانا الصاحب، نعيم دائم. ثم خرجوا وردُّوا عليه الباب، فلما تخيَّلَ ذلك، قام ورفع الميزر من وسطه، وصار يضحك إلى أن غُشِي عليه، واستمر ساعة يضحك، ثم قال في نفسه: ما بالهم يخاطبونني خطاب الوزير، ويقولون يا مولانا الصاحب؟ ولعل الأمر التبس عليهم في هذه الساعة، وبعد ذلك يعرفونني ويقولون هذا زليط، ويشبعون صكًّا في رقبتي.

ثم إنه استحمى وفتح الباب، فتخيَّل أن مملوكًا صغيرًا وطواشيًّا قد دخلَا عليه؛ فالمملوك معه بقجة، ففتحها وأخرج منها ثلاث فوط من الحرير، فرمى الأولى على رأسه، والأخرى على أكتافه، وحزمه بالثالثة، وقدم له الطواشي قبقابًا فلبسه، وأقبلت عليه مماليك وطواشية وصاروا يسندونه، وكل ذلك حصل وهو يضحك إلى أن خرج، وطلع الليوان، فوجد فرشًا عظيمًا لا يصلح إلا للملوك، وتبادرت إليه الغلمان، وأجلسوه على المرتبة، وصاروا يكبسونه حتى غلب عليه النوم، فلما نام رأى في حضنه صبية فباسها، ووضعها بين فخذيه، وجلس منها مجلس الرجل من المرأة، وقبض ذكره بيده، وسحبها عنده وعصرها تحته، وإذا بواحد يقول له: انتبه يا زليط، قد جاء الظهر وأنت نائم. ففتح عينه فوجد روحه على الحوض البارد، وحوله جماعة يضحكون عليه، وأيره قائم، والفوطة انحلت من وسطه، وتبيَّنَ له أن كل هذا أضغاث أحلام وتخيلات حشيش، فاغتمَّ ونظر إلى الذي نبَّهَه، وقال: كنت اصبر حتى أحطَّه. فقال له الناس: أَمَا تستحي يا حشاش وأنت نائم وذكرك قائم؟ وصكوه حتى احمرَّ قفاه وهو جيعان، وقد ذاق طعم السعادة وهو في المنام.

فلمَّا سمع «كان ما كان» من الجارية هذا الكلام، ضحك حتى استلقى على قفاه، وقال لباكون: يا دادتي، إن هذا حديث عجيب؛ فإني ما سمعت مثل هذه الحكاية، فهل عندك غيرها؟ فقالت له: نعم. ثم إن الجارية باكون لم تزل تحدِّث «كان ما كان» بمخارق حكايات ونوادر مضحكات حتى غلب عليه النوم، ولم تزل تلك الجارية جالسة عند رأسه حتى مضى غالب الليل، فقالت في نفسها: هذا وقت انتهاز الفرصة. ثم نهضت وسلَّت الخنجر، ووثبت على «كان ما كان» وأرادت ذبحه، وإذا بأم «كان ما كان» دخلت عليهما، فلمَّا رأتها باكون قامت لها واستقبلتها، ثم لحقها الخوف فصارت تنتفض كأنها أخذتها الحمَّى، فلما رأتها أم «كان ما كان» تعجَّبت ونبَّهت ولدها من النوم، فلما استيقظ وجد أمه جالسة فوق رأسه، وكان السبب في حياته مجيئها، وسبب مجيء أمه إليه أن «قضى فكان» سمعت الحديث والاتفاق على قتله، فقالت لأمه: يا زوجة عمي، الحقي ولدك قبل أن تقتله العاهرة باكون. وأخبرتها بما جرى من أوله إلى آخره، فخرجت وهي لا تفعل شيئًا حتى دخلت في الساعة التي نام فيها، وهمَّت باكون عليه تريد ذبحه، فلما استيقظ قال لأمه: لقد جئتِ يا أمي في وقت طيب، ودادتي باكون حاضرة عندي في تلك الليلة. ثم إنه التفت إلى باكون، وقال لها: بحياتي عليك، هل تعرفين حكاية أحسن من الحكايات التي حدَّثتني بها؟ فقالت له الجارية: وأين ما حدَّثتك به سابقًا مما أحدِّثك به الآن؟ فإنه أعذب وأغرب، ولكن أحكيه لك في غير هذا الوقت. ثم قامت باكون وهي لا تصدق بالنجاة، فقال لها: مع السلامة. ولمحت بمكرها أن أمه عندها خبر بما حصل، فذهبت إلى حالها، فعند ذلك قالت له والدته: يا ولدي، هذه ليلة مباركة حيث نجَّاك الله من هذه الملعونة. فقال لها: وكيف ذلك؟ فأخبرته بالأمر من أوله إلى آخِره، فقال لها: يا والدتي، إن الحي ما له قاتل، وإنْ قُتِل لا يموت، ولكن الأحوط لنا أننا نرحل من عند هؤلاء الأعداء، والله يفعل ما يريد.

فلما أصبح الصباح خرج «كان ما كان» من المدينة، واجتمع بالوزير دندان، وبعد خروجه حصلت أمور بين الملك ساسان ونزهة الزمان أوجبت خروج نزهة الزمان أيضًا من المدينة، فاجتمعت بهم، واجتمع عليهم أرباب دولة الملك ساسان الذين يميلون إليهم، فجلسوا يدبِّرون الحيلة، فأجمع رأيهم على غزو ملك الروم وأخذ الثأر، ثم توجهوا إلى غزو الروم ووقعوا في أسر الملك رومزان بعد أمور يطول شرحها كما يظهر من السياق. فلما أصبح، أمَرَ الملكُ رومزان أن يحضر «كان ما كان» والوزير دندان وجماعتهما، فحضروا بين يديه وأجلسهم بجانبه، وأمر بإحضار الموائد فأُحضِرت، فأكلوا وشربوا واطمأنوا بعد أن أيقنوا بالموت لما أمر بإحضارهم، وقالوا لبعضهم: إنه ما أرسَلَ إلينا إلا لأنه يريد قتلنا. وبعد أن اطمأنوا قال لهم الملك: إني رأيت منامًا، وقصصته على الرهبان، فقالوا: ما يفسِّره لك إلا الوزير دندان. فقال له الوزير: خيرًا رأيتَ يا ملك الزمان. فقال له: أيها الوزير، رأيتُ أني في حفرة على صفة بئر أسود، وكان أقوامًا يعذبونني، فأردتُ القيامَ، فلمَّا نهضت وقعت على أقدامي، وما قدرت على الخروج من تلك الحفرة، ثم التفتُّ فرأيت فيها مِنْطَقة من ذهب، فمددت يدي لآخذها، فلما رفعتها من الأرض رأيتها مِنْطقتين، فشددت وسطي بهما، فإذا هما قد صارتا مِنْطقة واحدة، وهذا أيها الوزير منامي، والذي رأيته في لذيذ أحلامي.

فقال له الوزير دندان: اعلم يا مولانا السلطان، أن رؤياك تدل على أن لك أخًا وابن أخ أو ابن عم أو أحدًا يكون من أهلك من دمك ولحمك، وعلى كل حال هو من العصب. فلما سمع الملك هذا الكلام، نظر إلى كان ما كان ونزهة الزمان وقضى فكان والوزير دندان ومَن معهم من الأسارى، وقال في نفسه: إذا رميت رقابَ هؤلاء انقطعت قلوب عسكرهم بهلاك أصحابهم، ورجعت إلى بلادي عن قريب لئلا يخرج الملك من يدي. ولما صمَّمَ على ذلك استدعى بالسيَّاف وأمره أن يضرب رقبة «كان ما كان» من وقته وساعته، وإذا بداية الملك قد أقبلَتْ في تلك الساعة، فقالت له: أيها الملك السعيد، على ماذا عوَّلتَ؟ فقال لها: عوَّلتُ على قتل هؤلاء الأسارى الذين في قبضتي، وبعد ذلك أرمي رءوسهم إلى أصحابهم، ثم أحمل أنا وأصحابي عليهم حملة واحدة، فنقتل الذي نقتله ونهزم الباقي، وتكون هذه وقعة الانفصال، وأرجع إلى بلادي عن قريب قبل أن يحدث بعد الأمور أمور في مملكتي.

فعندما سمعت منه دايته هذا الكلام، أقبلَتْ عليه وقالت له بلسان الإفرنج: كيف يطيب عليك أن تقتل ابن أختك وأختك وابنة أختك؟ فلما سمع الملك من دايته هذا الكلام، اغتاظ غيظًا شديدًا وقال لها: يا ملعونة، ألم تعلمي أن أمي قد قُتِلت، وأن أبي قد مات مسمومًا، وأعطيتني خرزة وقلتِ لي: إن هذه الخرزة كانت لأبيك، فلِمَ لا تَصدُقيني في الحديث؟ فقالت له: كل ما أخبرتك به صدق، ولكن شأني وشأنك عجيب، وأمري وأمرك غريب؛ فإنني أنا اسمي مرجانة، واسم أمك إبريزة، وكانت ذات حُسْنٍ وجمال، وشجاعتها تُضرَب بها الأمثال، واشتهرت بالشجاعة بين الأبطال، وأما أبوك فإنه الملك عمر النعمان صاحب بغداد وخراسان من غير شك ولا ريب، ولا رجم غيب، وكان قد أرسل ولده شركان إلى بعض غزواته صحبة هذا الوزير دندان، وكان منهم الذي قد كان، وكان أخوك الملك شركان تقدَّمَ على الجيوش، وانفرد وحده عن عسكره، فوقع عند أمك الملكة إبريزة في قصرها، ونزلنا وإياها في خلوة للصراع، فصادفنا ونحن على تلك الحالة، فتصارع مع أمك وغلبته لباهر حسنها وشجاعتها، ثم استضافته أمك مدة خمسة أيام في قصرها، فبلغ أباك ذلك الخبر من العجوز شواهي الملقبة بذات الدواهي، وكانت أمك قد أسلمت على يد شركان أخيك، فأخذها وتوجه بها إلى مدينة بغداد سرًّا، وكنت أنا وريحانة وعشرون جارية معها، وكنا قد أسلمنا كلنا على يد الملك شركان، فلما دخلنا على أبيك الملك عمر النعمان، ورأى أمك الملكة إبريزة، وقع في قلبه محبتها، فدخل عليها ليلة واختلى بها فحملت بك، وكان مع أمك ثلاث خرزات فأعطتها لأبيك، فأعطى خرزة لابنته نزهة الزمان، وأعطى الثانية لأخيك ضوء المكان، وأعطى الثالثة لأخيك الملك شركان، فأخذتها منه الملكة إبريزة وحفظتها لك، فلما قربت ولادتها اشتاقت أمك إلى أهلها، وأطلعتني على سرها، فاجتمعت بعبد أسود يقال له الغضبان، وأخبرته بالخبر سرًّا، ورغَّبته في أن يسافر معنا، فأخذنَا العبد وطلع بنا من المدينة وهرب بنا، وكانت أمك قد قربت ولادتها، فلما دخلنا على أوائل بلادنا في مكان منقطع، أخذ أمك الطلق بولادتك، فحدَّث العبد نفسه بالخنا فأتى أمك، فلما قرب منها راودها على الفاحشة، فصرخت عليه صرخة عظيمة وانزعجت منه، فمن عظم انزعاجها وضعتك حالًا، وكان في تلك الساعة قد طلع علينا في البر من ناحية بلادنا غبار قد علا وطار حتى سد الأقطار، فخشي العبد على نفسه الهلاك، فضرب الملكة إبريزة بسيفه فقتلها من شدة غيظه، وركب جواده وتوجه إلى حال سبيله، وبعدما راح العبد انكشف الغبار عن جدك الملك حردوب ملك الروم، فرأى أمك ابنته وهي في ذلك المكان قتيلة، وعلى الأرض جديلة، فصعب ذلك عليه وكبر لديه، وسألني عن سبب قتلها وعن سبب خروجها خفية من بلاد أبيها، فحكيتُ له جميع ذلك من الأول إلى الآخِر؛ وهذا هو سبب العداوة بين أهل بلاد الروم وبين أهل بغداد، فعند ذلك احتملنا أمك وهي قتيلة، ودفناها في قصرها، وقد احتملتُكَ أنا وربَّيْتُك، وعلَّقْتُ لك الخرزة التي كانت مع أمك الملكة إبريزة، ولما كبرت وبلغت مبلغ الرجال، لم يمكنِّي أن أخبرك بحقيقة الأمر؛ لأنني لو أخبرتك بذلك لثارت بينكم الحروب، وقد أمرني جدك بالكتمان، ولا قدرة لي على مخالفة أمر جدك الملك حردوب ملك الروم، فهذا سبب كتمان الخبر عنك، وعدم إعلامك بأن أباك الملك عمر النعمان، فلما استقللتَ بالمُلْك أخبرتُكَ، وما أمكنني أن أُعلِمَك إلا في هذا الوقت يا ملك الزمان، وقد كشفتُ لك السرَّ والبرهان، وهذا ما عندي من الخبر، وأنت برأيك أخبر.

وكان الأسارى قد سمعوا من الجارية مرجانة داية الملك هذا الكلام جميعه؛ فصاحت نزهة الزمان من وقتها وساعتها صيحة عظيمة، وقالت: هذا الملك رومزان أخي من أبي عمر النعمان، وأمه الملكة إبريزة بنت الملك حردوب ملك الروم، وأنا أعرف هذه الجارية مرجانة حق المعرفة. فلمَّا سمع الملك رومزان هذا الكلام أخذته الحدة، وصار متحيِّرًا في أمره، وأحضر من وقته وساعته نزهة الزمان بين يديه، فلما رآها حنَّ الدم للدم، واستخبرها عن قصته فحكت له القصة، فوافَقَ كلامُها كلامَ دايته مرجانة، فصحَّ عند الملك أنه من أهل العراق من غير شك ولا ارتياب، وأن أباه الملك عمر النعمان، فقام من تلك الساعة وحلَّ كتاف أخته نزهة الزمان، فتقدَّمَتْ إليه وقبَّلت يديه، ودمعت عيناها، فبكى الملك لبكائها، وأخذته حنيَّة الأخوَّة، ومال قلبه إلى ابن أخيه السلطان «كان ما كان»، وقام ناهضًا على قدميه، وأخذ السيف من يد السيَّاف، فأيقن الأسارى بالهلاك لما رأوا منه ذلك، فأمر بإحضارهم بين يديه وفك وثاقهم، وقال لدايته مرجانة: اشرحي حديثك الذي شرحتِه لي لهؤلاء الجماعة. فقالت دايته مرجانة: اعلم أيها الملك أن هذا الشيخ هو الوزير دندان، وهو لي أكبر شاهد؛ لأنه يعرف حقيقة الأمر. ثم إنها أقبلت عليهم من وقتها وساعتها، وعلى مَن حضرهم من ملوك الروم وملوك الإفرنج، وحدَّثتهم بذلك الحديث، والملكة نزهة الزمان والوزير دندان ومَن معها من الأسارى يصدقونها على ذلك، وفي آخِر الحديث لاحت من الجارية مرجانة التفاتة، فرأت الخرزة الثالثة بعينها رفيقة الخرزتين اللتين كانتا مع الملكة إبريزة في رقبة السلطان «كان ما كان» فعرفتها، فصاحت صيحة عظيمة دوَّى لها الفضاء، وقالت للملك: يا ولدي، اعلم أنه قد زاد في تلك الساعة صدق يقيني؛ لأن هذه الخرزة التي في رقبة هذا الأسير نظير الخرزة التي وضعتها في عنقك، وهي رفيقتها، وهذا الأسير هو ابن أخيك، وهو «كان ما كان«.

ثم إن الجارية مرجانة التفتت إلى «كان ما كان»، وقالت له: أرني هذه الخرزة يا ملك الزمان. فنزعها من عنقه وناولها لتلك الجارية داية الملك رومزان، فأخذتها منه ثم سألَتْ نزهة الزمان عن الخرزة الثالثة فأعطتها لها، فلما صارت الخرزتان في يد الجارية، ناولتهما للملك رومزان فظهر له الحق والبرهان، وتحقق أنه عم السلطان «كان ما كان»، وأن أباه الملك عمر النعمان، فقام من وقته وساعته إلى الوزير دندان وعانقه، ثم عانق الملك «كان ما كان»، وعلا الصياح بكثرة الأفراح، وفي تلك الساعة انتشرت البشائر، ودقت الكاسات والطبول، وزمرت الزمور، وزادت الأفراح، وسمع عساكر العراق والشام ضجيج الروم بالأفراح، فركبوا عن آخرهم، وركب الملك الزبلكان، وقال في نفسه: يا ترى ما سبب هذا الصياح والسرور الذي في عسكر الإفرنج والروم؟ وأما عسكر العراق فإنهم قد أقبلوا، وعلى القتال عوَّلوا، وصاروا في الميدان، ومقام الحرب والطعان، فالتفت الملك رومزان فرأى العساكر مقبلين للحرب متهيئين، فسأل عن سبب ذلك فأخبروه بالخبر، فأمر «قضى فكان» ابنة أخيه شركان أن تسير من وقتها وساعتها إلى عسكر الشام والعراق، وتعلمهم بحصول الاتفاق، وأن الملك رومزان ظهر أنه عم السلطان «كان ما كان»، فسارت «قضى فكان» بنفسها، ونفت عنها الشرور والأحزان حتى وصلت إلى الملك الزبلكان، وسلمت عليه وأعلمته بما جرى من الاتفاق، وأن الملك رومزان ظهر أنه عمها وعم «كان ما كان»، وحين أقبلت عليه وجدَتْه باكي العين، خائفًا على الأمراء والأعيان، فشرحت له القصة من أولها إلى آخرها، فزادت أفراحهم، وزالت أتراحهم، وركب الملك الزبلكان هو وجميع الأكابر والأعيان، وسارت قدَّامهم الملكة «قضى فكان» حتى أوصلتهم إلى سرادق الملك رومزان.

فلما دخلوا عليه وجدوه جالسًا مع ابن أخيه السلطان «كان ما كان»، وقد استشاره هو والوزير دندان في أمر الملك الزبلكان، فاتفقوا على أنهم يسلِّمون إليه مدينة دمشق الشام ويتركونه ملكًا عليها كما كان مثل العادة، وهم يدخلون إلى العراق؛ فجعلوا الملك الزبلكان عاملًا على دمشق الشام، ثم أمروه بالتوجُّه إليها، فتوجَّه بعساكره إليها، ومشوا معه ساعة لأجل الوداع، وبعد ذلك رجعوا إلى مكانهم، ثم نادوا في العسكر بالرحيل إلى بلاد العراق، واجتمع العسكران مع بعضهم، ثم إن الملوك قالوا لبعضهم: ما بقيت قلوبنا تستريح ولا يشفى غيظنا إلا بأخذ الثأر، وكشف العار بالانتقام من العجوز شواهي الملقبة بذات الدواهي، فعند ذلك سار الملك رومزان مع خواصه وأرباب دولته، وفرح السلطان «كان ما كان» بعمِّه الملك رومزان، ودعا للجارية مرجانة حيث عرَّفتهم ببعضهم، ثم ساروا، ولم يزالوا سائرين حتى وصلوا إلى أرضهم، فسمع بهم الحاجب الكبير ساسان، فطلع وقبَّل يد الملك رومزان فخلع عليه. ثم إن الملك رومزان جلس وأجلس ابن أخيه السلطان «كان ما كان» إلى جانبه، فقال «كان ما كان» إلى عمه الملك رومزان: يا عم، ما يصلح هذا الملك إلا لك. فقال له: معاذ الله أن أعارضك في ملكك. فعند ذلك أشار عليهما الوزير دندان أن يكون الاثنان في الملك سواء، وكل واحد يحكم يومًا، فارتضيا بذلك. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 144

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنهما اتفقا على أن كل واحد يحكم يومًا، ثم أولموا الولائم، وذبحوا الذبائح، وزادت بهم الأفراح، وأقاموا على ذلك مدة من الزمان، كل ذلك والسلطان «كان ما كان» يقطع ليله مع بنت عمه «قضى فكان»، وبعد تلك المدة، بينما هم قاعدون فَرِحون بهذا الأمر، وانصلاح الشأن؛ إذ ظهر لهم غبار قد علا وطار حتى سدَّ الأقطار، وقد أتى إليهم من التجار صارخٌ يستغيث وهو يصيح ويقول: يا ملوك الزمان، كيف أسلم في بلاد الكفر وأُنهَب في بلادكم وهي بلاد العدل والأمان؟ فأقبل عليه الملك رومزان وسأله عن حاله، فقال له: أنا تاجر من التجار، ولي غائب عن الأوطان مدة مديدة من الزمان، واستغرقت في البلاد نحو عشرين سنة من الأعوام، وإن معي كتابًا من مدينة دمشق كان قد كتبه لي المرحوم الملك شركان، وسبب ذلك أنني كنت قد أدَّيت إليه جارية، فلمَّا قربت من تلك البلاد، وكان معي مائة حمل من تحف الهند، وأتيت بها إلى بغداد التي هي حرمكم، ومحل أمنكم وعدلكم، فخرجت علينا عربان ومعهم أكراد مجتمعة من جميع البلاد، فقتلوا رجالي ونهبوا أموالي، وهذا شرح حالي.

ثم إن التاجر بكى بين يدي الملك رومزان وحوقَلَ واشتكى، فرحمه الملك ورقَّ إليه، وكذلك رحمه ابن أخيه الملك «كان ما كان»، وحلفوا أنهم يخرجون إليهم، فخرجوا إليهم في مائة فارس، كل فارس منهم يُعَدُّ بين الرجال بألوف، وذلك التاجر سار أمامهم يدلُّهم على الطريق، ولم يزالوا سائرين ذلك النهار وطول الليل إلى السَّحَر، حتى أشرفوا على وادٍ غزير الأنهار كثير الأشجار، فوجدوا القوم قد تفرَّقوا في ذلك الوادي، وقسَّموا بينهم أحمال ذلك التاجر، وبقي البعض فأطبق عليهم المائة فارس، وأحاطوا بهم من كل مكان، وصاح عليهم الملك رومزان هو وابن أخيه «كان ما كان»، فما كان غير ساعة حتى أسروا الجميع، وكانوا نحو ثلاثمائة فارس مجتمعين من أوباش العربان، فلما أسروهم أخذوا ما معهم من مال التاجر، وشدوا وثاقهم، وطلعوا بهم إلى مدينة بغداد، فعند ذلك جلس الملك رومزان هو وابن أخيه الملك «كان ما كان» على تخت واحد مع بعضهما، ثم عرضوا الجميع بين أيديهما، وسألاهم عن حالهم، وعن كبارهم، فقالوا: ما لنا كبار غير ثلاثة أشخاص، وهم الذين جمعونا من سائر النواحي والأقطار. فقالا لهم: ميِّزوهم لنا بأعيانهم. فميَّزوهم لهما، فأمرَا بالقبض عليهم، وإطلاق بقية أصحابهم بعد أخذ جميع ما معهم من الأموال، وتسليمه للتاجر، فتفقَّدَ التاجر قماشه وماله فوجده قد هلك رُبعه، فوعداه أنهما يعوِّضان له جميع ما ضاع منه، فعند ذلك أخرج التاجر كتابين: أحدهما بخط شركان، والآخر بخط نزهة الزمان، وقد كان التاجر اشترى نزهة الزمان من البدوي وهي بكر، وقدَّمها لأخيها شركان، وجرى بينها وبين أخيها ما جرى.

ثم إن الملك «كان ما كان» وقف على الكتابين، وعرف خط عمِّه شركان، وسمع حكاية عمَّته نزهة الزمان، فدخل بذلك الكتاب الثاني الذي كانت كتبته للتاجر الذي ضاع منه المال، وأخبرها «كان ما كان» بقصة التاجر من أوَّلها إلى آخرها، فعرفته نزهة الزمان وعرفت خطَّها، وأخرجت للتاجر الضيافات، ووصَّت عليه أخاها الملك رومزان، وابن أخيها الملك «كان ما كان»، فأمرَا له بأموال وعبيد وغلمان من أجل خدمته، وأرسلت إليه نزهة الزمان مائة ألف درهم من المال، وخمسين حملًا من البضائع، وقد أتحفته بهدايا، وأرسلت إليه تطلبه، فلما حضر طلعت وسلَّمت عليه، وأعلمته أنها بنت الملك عمر النعمان، وأن أخاها الملك رومزان، وأن ابن أخيها الملك «كان ما كان»، ففرح التاجر بذلك فرحًا شديدًا، وهنَّأها بسلامتها واجتماعها بأخيها وابن أخيها، وقبَّل يدها وشكرها على فعلها، وقال لها: والله ما ضاع الجميل معك. ثم دخلت إلى خدرها، وأقام التاجر عندهم ثلاثة أيام ثم ودَّعهم ورحل إلى بلاد الشام.

وبعد ذلك أحضر الملوك الثلاثة أشخاص اللصوص الذين كانوا رؤساء قُطَّاع الطريق، وسألوهم عن حالهم؛ فتقدَّمَ واحد منهم وقال: اعلموا أني رجل بدوي، أقف في الطريق لأخطف الصغار والبنات الأبكار، وأبيعهم للتجار، ودمت على ذلك مدة من الزمان إلى هذه الأيام، وأغراني الشيطان فاتفقت مع هذين الشقِيَّين على جمع الأوباش من الأعراب والبلدان لأجل نهب الأموال، وقطع الطريق على التجار. فقالوا له: احكِ لنا على أعجب ما رأيت في خطفك الصغار والبنات. فقال لهم: أعجب ما جرى لي يا ملوك الزمان، أنني من مدة اثنتين وعشرين سنة خطفت بنتًا من بنات بيت المقدس ذات يوم من الأيام، وكانت تلك البنت ذات حُسن وجمال، غير أنها كانت خدَّامة، وعليها أثواب خَلِقة، وعلى رأسها قطعة عباءة، فرأيتها قد خرجت من الخان، فخطفتها بحيلة في تلك الساعة، وحملتها على جمل وسبقت بها، وكان في أملي أنني أذهب بها إلى أهلي في البرية، وأجعلها عندي ترعى الجمال، وتجمع البعر من الوادي، فبكت بكاءً شديدًا، فدنوت منها وضربتها ضربًا وجيعًا، وأخذتها وسرت بها إلى مدينة دمشق، فرآها معي تاجر فتحيَّر عقله لما رآها، وأعجبته فصاحتها وأراد شراءها مني، ولم يزل يزيدني في ثمنها حتى بعتها له بمائة ألف درهم، فعندما أعطيتها له رأيت منها فصاحة عظيمة، وبلغني أن التاجر كساها كسوة مليحة، وقدَّمها إلى الملك صاحب دمشق، فأعطاه قدر المبلغ الذي دفعه إليَّ مرتين، وهذا يا ملوك الزمان أعجب ما جرى، ولعمري إن ذلك الثمن قليل في تلك البنت.

فلما سمع الملوك هذه الحكاية تعجَّبوا، ولما سمعت نزهة الزمان من البدوي ما حكاه صار الضياء في وجهها ظلامًا، وصاحت وقالت لأخيها رومزان: إن هذا البدوي كان خطفني من بيت المقدس بعينه من غير شك. ثم إن نزهة الزمان حكت لهم جميع ما جرى لها معه في غربتها من الشدائد والضرب والجوع والذل والهوان، ثم قالت لهم: الآن حلَّ لي قتله. ثم جذبت السيف وقامت إلى البدوي لقتله، وإذا هو صاح وقال: يا ملوك الزمان، لا تدعوها تقتلني حتى أحكي لكم ما جرى لي من العجائب. فقال لها ابن أخيها «كان ما كان»: يا عمتي، دعيه يحكي لنا حكاية، وبعد ذلك فافعلي ما تريدين. فرجعت عنه، فقال له الملوك: الآن احكِ لنا حكاية. فقال: يا ملوك الزمان، إنْ حكيتُ لكم حكايةً عجيبة تعفوا عني؟ قالوا: نعم. فابتدأ البدوي يحدِّثهم بأعجب ما وقع له، وقال: اعلموا أني من مدة يسيرة، أرقت ليلة أرقًا شديدًا، وما صدَّقت أن الصباح يصبح، فلما أصبح الصباح قمت من وقتي وساعتي، وتقلَّدت سيفي، وركبت جوادي، واعتقلت رمحي، وخرجت أريد الصيد والقنص، فواجهني جماعة في الطريق، فسألوني عن قصدي فأخبرتهم به، فقالوا: ونحن رفقاؤك. فنزلنا كلنا مع بعضنا، فبينما نحن سائرون، وإذا بنعامة ظهرت لنا فقصدناها، ففرَّت من بين أيدينا وهي فاتحة أجنحتها، ولم تزل شاردة ونحن خلفها إلى الظهر حتى رمتنا في برية لا نبات فيها ولا ماء، ولم نسمع فيها غير صفير الحيَّات، وزعيق الجان، وصريخ الغيلان، فلما وصلنا إلى ذلك المكان، غابت عنا فلم ندرِ أفي السماء طارت أم في الأرض غارت، فرددنا رءوس الخيل وأردنا الرواح، ثم رأينا أن الرجوع في هذا الوقت الشديد الحر لا خيرَ فيه ولا إصلاح، وقد اشتد علينا الحر وعطشنا عطشًا شديدًا، ووقفت خيولنا فأيقنَّا بالموت.

فبينما نحن كذلك إذ نظرنا من بعيد مرجًا أفيح فيه غزلان تمرح، وهناك خيمة مضروبة، وفي جانب الخيمة حصان مربوط، وسنان يلمع على رمح مركوز، فانتعشت نفوسنا من بعد اليأس، ورددنا رءوس خيلنا نحو تلك الخيمة نطلب ذلك المرج والماء، وتوجه إليه جميع أصحابي وأنا في أولهم، ولم نزل سائرين حتى وصلنا إلى ذلك المرج، فوقفنا على عين وشربنا، وسقينا خيلنا، فأخذتني حمية الجاهلية وقصدت باب ذلك الخباء، فرأيت فيه شابًّا لا نبات بعارضيه وهو كأنه هلال، وعن يمينه جارية هيفاء كأنها قضيب بان، فلما نظرتُ إليها وقعَتْ محبتها في قلبي، فسلمت على ذلك الشاب فردَّ عليَّ السلام، فقلت: يا أخا العرب، أخبرني مَن أنت؟ وما تكون لك تلك الجارية التي عندك؟ فأطرق الشاب رأسه إلى الأرض ساعة، ثم رفع رأسه وقال: أخبرني مَن أنت؟ وما الخيل التي معك؟ فقلت: أنا حمَّاد بن الفزاري الفارس الموصوف، الذي أُعَدُّ بين العرب بخمسمائة فارس، ونحن خرجنا من محلنا نريد الصيد والقنص، فأدركَنَا العطش، فقصدت أنا باب تلك الخيمة لعلي أجد عندكم شربة ماء. فلما سمع مني ذلك الكلام التفت إلى الجارية المليحة، وقال: ائتِ إلى هذا الرجل بالماء، وما حصل من الطعام. فقامت الجارية تسحب أذيالها، والحجول والذهب تخشخش في رجليها وهي تتعثر في شعرها، وغابت قليلًا، ثم أقبلت وفي يدها اليمنى إناء من فضة مملوء ماءً باردًا، وفي يدها اليسرى قدح ملآن تمرًا ولبنًا وما حضر من لحم الوحوش، فما استطعتُ أن آخذ من الجارية طعامًا ولا شرابًا من شدة محبتي لها، فتمثلت بهذين البيتين، وقلت:

كَأَنَّ الْخِضَابَ عَلَى كَفِّهَا        غُرَابٌ عَلَى ثَلْجَةٍ وَاقِفُ

تَرَى الشَّمْسَ وَالْبَدْرَ مِنْ وَجْهِهَا        قَرِيبَيْنِ خَافٍ وَذَا خَائِفُ

ثم قلت للشاب بعد أن أكلت وشربت: يا وجه العرب، اعلم أني أوقفتك على حقيقة خبري، وأريد أن تخبرني بحالك، وتوقفني على حقيقة خبرك. فقال الشاب: أما هذه الجارية فهي أختي. فقلت: أريد أن تزوِّجني بها طوعًا، وإلا أقتلك وآخذها غصبًا. فعند ذلك أطرق الشاب رأسه إلى الأرض ساعة، ثم رفع بصره إليَّ وقال لي: لقد صدقتَ في دعواك أنك فارس معروف، وبطل موصوف، وأنك أسد البيداء، ولكن إن هجمتم عليَّ غدرًا وقتلتموني قهرًا وأخذتم أختي، فإن هذا يكون عارًا عليكم، وإن كنتم على ما ذكرتم من أنكم فرسان تُعدُّون من الأبطال، ولا تبالون بالحرب والنزال، فأمهلوني قليلًا حتى ألبس آلة حربي، وأتقلَّد سيفي، وأعتقل رمحي، وأركب فرسي، وأصبر أنا وإياكم في ميدان الحرب، فإن ظفرتُ بكم أقتلكم عن آخِركم، وإن ظفرتم بي وقتلتموني فهذه الجارية أختي لكم. فلما سمعتُ منه هذا الكلام قلتُ له: إن هذا هو الإنصاف، وما عندنا خلاف. ثم رددتُ رأس جوادي إلى خلفي، وقد زادني الجنون في محبة تلك الجارية، ورجعت إلى أصحابي ووصفت لهم حسنها وجمالها، وحسن الشاب الذي عندها، وشجاعته وقوة جنانه، وكيف يذكر أنه يصادم ألف فارس، ثم أعلمت أصحابي بجميع ما في الخباء من الأموال والتحف، وقلت لهم: اعلموا أن هذا الشاب ما هو منقطع في تلك الأرض إلا لكونه ذا شجاعة عظيمة، وأنا أوصيكم أن كل مَن قتل هذا الغلام يأخذ أخته. فقالوا: رضينا بذلك. ثم إن أصحابي لبسوا آلة حربهم، وركبوا خيولهم، وقصدوا الغلام، فوجدوه قد لبس آلة حربه، وركب جواده، ووثبت إليه أخته وتعلقت برِكابه، وبلَّت برقعها بدموعها، وهي تنادي بالويل والثبور من خوفها على أخيها، وتنشد هذه الأبيات:

إِلَى اللهِ أَشْكُو مِحْنَةً وَكَآبَةً        لَعَلَّ إِلَهَ الْعَرْشِ يُرْهِقُهُمْ رُعْبَا

أُخَيَّ أَرَادُوا أَنْ تَمُوتَ تَعَمُّدًا        وَلَا شَيْءَ مِنْ قَبْلِ الْقِتَالِ وَلَا ذَنْبَا

وَقَدْ عَرَفَتْ ذَا الْخَيْلِ أَنَّكَ فَارِسٌ        وَأَشْجَعُ مَنْ حَلَّ الْمَشَارِقَ وَالْغَرْبَا

تُحَامِي عَنِ الْأُخْتِ الَّتِي قَلَّ عَزْمُهَا        فَأَنْتَ أَخُوهَا وَهْيَ تَدْعُو لَكَ الرَّبَّا

فَلَا تَتْرُكِ الْأَعْدَاءَ تَمْلُكُ مُهْجَتِي        وَتَأْخُذُنِي قَهْرًا وَتَأْسِرُنِي غَصْبَا

وَلَسْتُ وَحَقِّ اللهِ أَبْقَى بِبَلْدَةٍ        إِذَا لَمْ تَكُنْ فِيهَا وَإِنْ مُلِئَتْ خِصْبَا

وَأَقْتُلُ نَفْسِي فِي هَوَاكَ مَحَبَّةً        وَأَسْكُنُ لَحْدًا فِيهِ أَفْتَرِشُ التُّرْبَا

فلما سمع أخوها شعرها بكى بكاءً شديدًا، وردَّ رأس جواده إلى أخته، وأجابها على شعرها بقوله:

قِفِي وَانْظُرِي مِنِّي وُقُوعَ عَجَائِبٍ        إِذَا مَا الْتَقَيْنَا حَينَ أُثْخِنُهُمْ ضَرْبَا

وَإِنْ بَرَزَ اللَّيْثُ الْمُقَدَّمُ فِيهِمُ        وَأَشْجَعُهُمْ قَلْبًا وَأَثْبَتُهُمْ لُبَّا

سَأَسْقِيهِ مِنِّي ضَرْبَةً ثَعْلَبِيَّةً        وَأَتْرُكُ فِيهِ الرُّمْحَ يَسْتَغْرِقُ الْكَعْبَا

وَإِنْ لَمْ أُقَاتِلْ عَنْكِ أُخْتِي فَلَيْتَنِي        قَتِيلٌ وَلَيْتَ الطَّيْرَ تَنْهَبُنِي نَهْبَا

أُقَاتِلُ عَنْكِ مَا اسْتَطَعْتُ تَكَرُّمًا        وَهَذَا حَدِيثٌ بَعْدَنَا يَمْلَأُ الْكُتُبَا

فلما فرغ من شعره قال: يا أختي، اسمعي ما أقوله لك، وما أوصيك به. فقالت له: سمعًا وطاعة. فقال لها: إنْ هلكتُ فلا تمكِّني أحدًا من نفسك. فعند ذلك لطمت على وجهها وقالت: معاذ الله يا أخي أن أراك صريعًا وأمكِّن الأعداءَ مني. فعند ذلك مد الغلام يده إليها، وكشف برقعها عن وجهها، فلاحت لنا صورتها كالشمس من تحت الغمام، فقبَّلها بين عينيها وودَّعها، وبعد ذلك التفت إلينا وقال لنا: يا فرسان، هل أنتم ضيفان أم تريدون الضرب والطعان؟ فإن كنتم ضيفانًا فأبشروا بالقِرَى، وإن كنتم تريدون القمر الزاهر فَلْيبرز لي منكم فارس بعد فارس في هذا الميدان، ومقام الحرب والطعان. فعند ذلك برز إليه فارس شجاع، فقال له الشاب: ما اسمك؟ وما اسم أبيك؟ فإني حالف أني ما أقتل مَن اسمه موافِق لاسمي، واسمُ أبيه موافق لاسم أبي، فإن كنتَ بهذا الوصف فقد سلَّمت إليك الجارية. فقال له الفارس: اسمي بلال. فأجابه الشاب بقوله:

كَذَبْتَ فِي قَوْلِكَ مِنْ بِلَالِ        وَجِئْتَ بِالزُّورِ وَبِالْمُحَالِ

إِنْ كُنْتَ شَهْمًا فَاسْتَمِعْ مَقَالِي        أَنَا مُجَنْدلُ الْأَبْطَالِ فِي الْمَجَالِ

بِصَارِمٍ مَاضٍ كَمَا الْهِلَالُ        فَاصْبِرْ لِطَعْنِ مُرْجِفِ الْجِبَالِ

ثم حملَا على بعضهما، فطعنه الشاب في صدره، فخرج السنان من ظهره، ثم برز إليه واحد فقال الشاب:

يَا أَيُّهَا الْكَلْبُ الرَّخِيمُ الرَّجْسِ        فَأَيْنَ غَالٍ سِعْرُهُ مِنْ بَخْسِ

وَإِنَّمَا اللَّيْثُ الْكَرِيمُ الْجِنْسِ        مَنْ لَمْ يُبَالِ فِي الْوَغَى بِنَفْسِ

ثم لم يمهله الشاب دون أن يتركه غريقًا في دمه، ثم نادى الشاب: هل من مبارز؟ فبرز إليه واحد، فانطلق على الشاب وجعل يقول:

إِلَيْكَ أَقْبَلْتُ وَفِي قَلْبِي لَهَبْ        مِنْهُ أُنَادِي عِنْدَ صَحْبِي بِالْحَرَبْ

لِمَ قَتَلْتَ الْيَوْمَ سَادَاتِ الْعَرَبْ        فَالْيَوْمَ لَا تَلْقَى فِكَاكًا مِنْ طَلَبْ

فلما سمع الشاب كلامه أجابه بقوله:

كَذَبْتَ بِئْسَ أَنْتَ مِنْ شَيْطَانِ        قَدْ جِئْتَ بِالزُّورِ وَبِالْبُهْتَانِ

الْيَوْمَ تَلْقَى فَاتِكَ السِّنَانِ        فِي مَوْقِفِ الْحَرْبِ وَفِي الطِّعَانِ

ثم طعنه في صدره فطلع السنان من ظهره، ثم قال: هل من مبارز؟ فخرج إليه الرابع، وسأله الشاب عن اسمه، فقال له الفارس: اسمي هلال. فأنشد يقول:

أَخْطَأْتَ إِذَا أَرَدْتَ خَوْضَ بَحْرِي        وَجِئْتَ بِالزُّوْرِ وَكُلِّ الْأَمْرِ

أَنَا الَّذِي تَسْمَعُ مِنِّي شِعْرِي        أَخْتَلِسُ النَّفْسَ وَلَسْتَ تَدْرِي

ثم حملَا على بعضهما، واختلف بينهما ضربتان، فكانت ضربة الشاب هي السابقة إلى الفارس فقتله، وصار كلُّ مَن نزل إليه يقتله، فلمَّا نظرت أصحابي قد قُتِلوا قلتُ في نفسي: إن نزلت إليه في الحرب لم أطقه، وإن هربت أبقى معيرةً بين العرب. فلم يمهلني الشاب دون أن انقضَّ عليَّ وجذبني بيده، فأطاحني من سرجي فوقعت مغشيًّا عليَّ، ورفع سيفه وأراد أن يضرب عنقي، فتعلَّقْتُ بأذياله، فحملني بكفه فصرت معه كالعصفور، فلما رأت ذلك الجارية فرحت بفعل أخيها، وأقبلت عليه وقبَّلَتْه بين عينيه، ثم إنه سلَّمني إلى أخته وقال لها: دونك وإياه، وأحسني مثواه؛ لأنه دخل في زمامنا. فقبضت الجارية على أطواق درعي، وصارت تقودني كما تقود الكلب، وفكَّت عن أخيها لَأْمَةَ الحرب، وألبسته بدلة، ونصبت له كرسيًّا من العاج فجلس عليه، وقالت له: بيَّض الله عرضك، وجعلك عُدَّة للنائبات. فأجابها بهذه الأبيات:

تَقُولُ وَقَدْ رَأَتْ فِي الْحَرْبِ أُخْتِي        لَوَامِعَ غُرَّتِي مِثْلَ الشُّعَاعِ

أَلَا للهِ دَرُّكَ مِنْ شُجَاعٍ        تُذَلُّ لِحَرْبِهِ أُسْدُ الْبِقَاعِ

فَقُلْتُ لَهَا سَلِي الْأَبْطَالَ عَنِّي        إِذَا مَا فَرَّ أَرْبَابُ الْقِرَاعِ

أَنَا الْمَعْرُوفُ فِي سَعْدِي وَجِدِّي        وَعَزْمِي قَدْ عَلَا أَيَّ ارْتِفَاعِ

أَيَا حَمَّادُ قَدْ نَازَلْتَ لَيْثًا        يُرِيكَ الْمَوْتَ يَسْعَى كَالْأَفَاعِي

فلما سمعتُ شعره حرتُ في أمري، ونظرت إلى حالتي وما صرت إليه من الأسر، وتصاغرتْ إليَّ نفسي، ثم نظرت إلى الجارية أخت الشاب وإلى حُسْنها، فقلت في نفسي: هذه سبب الفتنة. وصرتُ أتعجَّب من جمالها، وأجريتُ العَبَرات، وأنشدت هذه الأبيات:

خَلِيلِي كُفَّ عَنْ لَوْمِي وَعَذْلِي        فَإِنِّي لِلْمَلَامَةِ غَيْرُ وَاعِ

كَلِفْتُ بِغَادَةٍ لَمْ تَبْدُ إِلَّا        دَعَتْنِي فِي مَحَبَّتِهَا الدَّوَاعِي

أَخُوهَا فِي الْهَوَى أَمْسَى رَقِيبِي        وَصَاحِبَ هِمَّةٍ وَطَوِيلَ بَاعِ

ثم إن الجارية أحضرت لأخيها الطعام، فدعاني إلى الأكل معه، ففرحت وأمنت على نفسي من القتل، ولما فرغ أخوها من الأكل أحضرت له آنية المُدام، ثم إن الشاب أقبل على المُدام، وشرب حتى شعشع المدام في رأسه واحمرَّ وجهه، فالتفت إليَّ وقال لي: ويلك يا حماد، أنا عبَّاد بن تميم بن ثعلبة، إن الله وهب لك نفسك وأبقى عليك عرسك. ثم حيَّاني بقدح شربته وحيَّاني بثانٍ وثالث ورابع، فشربت الجميع، ونادمني وحلَّفني أني لا أخونه، فحلفتُ له ألفًا وخمسمائة يمين أني لا أخونه أبدًا، بل أكون له معينًا، فعند ذلك أمر أخته أن تأتيني بعشر خِلَع من الحرير، وهذه بدلة منها على جسدي، وأمرها أن تأتيني بناقة من أحسن النياق، فأتتني بناقة محمَّلة من التحف والزاد، وأمرها أيضًا أن تُحضِرَ لي الحصان الأشقر، فأحضرته لي، ثم وهب لي جميعَ ذلك، وأقمتُ عندهم ثلاثة أيام في أكل وشرب، والذي قد أعطاه لي موجود عندي إلى الآن. وبعد الثلاثة أيام قال لي: يا أخي يا حماد، أريد أن أنام قليلًا لأريح نفسي، وقد استأمنتك على نفسي، فإن رأيتَ خيلًا ثائرةً فلا تفزع منها، واعلم أنهم من بني ثعلبة يطلبون حربي. ثم توسَّدَ سيفه تحت رأسه ونام، فلما استغرق في النوم وسوس إليَّ إبليس بقتله، فقمتُ بسرعة وجذبت سيفه من تحت رأسه، وضربتُه ضربةً أطاحَتْ رأسه عن جثته، فعلمَتْ بي أخته، فوثبت من جانب الخباء ورمت نفسها على أخيها، وشقَّتْ ما عليها من الثياب، وأنشدت هذه الأبيات:

إِلَى الْأَهْلِ بَلِّغْ أَنَّ ذَا أَشْأَمُ الْخَبَرِ        وَمَا لِامْرِئٍ مِمَّا الْحَكِيمِ قَضَى مَفَرْ

وَأَنْتَ صَرِيعٌ يَا أَخِي مُتَجَنْدِلٌ        وَوَجْهُكَ يَحْكِي حُسْنُهُ دَوْرَةَ الْقَمَرْ

لَقَدْ كَانَ يَوْمُ الشُّؤْمِ يَوْمَ لَقِيتُهُمُ        وَرُمْحُكَ مِنْ بَعْدِ اطِّرَادٍ قَدِ انْكَسَرْ

وَبَعْدَكَ لَا يَرْتَاحُ لِلْخَيْلِ رَاكِبٌ        وَلَا تَلِدُ الْأُنْثَى نَظِيرَكَ مِنْ ذَكَرْ

وَأَصْبَحَ حَمَّادٌ لَكَ الْيَوْمَ قَاتِلًا        وَقَدْ خَانَ أَيْمَانًا وَبِالْعَهْدِ قَدْ غَدَرْ

يُرِيدُ بِهَذَا أَنْ يَنَالَ مُرَادَهُ        لَقَدْ كَذَبَ الشَّيْطَانُ فِي كُلِّ مَا أَمَرْ

فلما فرغت من شعرها قالت له: يا ملعون الجدَّين، لماذا قتلت أخي وخُنته؟ وكان مراده أن يردَّك إلى بلادك بالزاد والهدايا، وكان مراده أيضًا أن يزوِّجني لك في أول الشهر. ثم جذبتْ سيفًا كان عندها وجعلتْ قائمه في الأرض وطرفه في صدرها، وانحنت عليه حتى طلع من ظهرها، فخرَّت على الأرض ميتة، فحزنت عليها وندمت حيث لا ينفع الندم، وبكيت، ثم قمت مسرعًا إلى الخباء وأخذت ما خفَّ حمله وغلا ثمنه، وسرت إلى حال سبيلي، ومن خوفي وعجلتي لم ألتفت إلى أحد من أصحابي، ولا دفنت الصبيَّة ولا الشاب، وهذه الحكاية أعجب من حكايتي الأولى مع البنت الخدَّامة التي خطفتها من بيت المقدس. فلما سمعت نزهة الزمان من البدوي هذا الكلام، تبدل النور في عينها بالظلام. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 145

 

مقتل العجوز ذات الدواهي

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن نزهة الزمان لما سمعت من البدوي هذا الكلام، تبدَّل الضياء في عينها بالظلام، وقامت جرَّدت السيف وضربت به البدوي حمَّادًا على عاتقه فأطلعته من علائقه، فقال لها الحاضرون: لأيِّ شيء استعجلت على قتله؟ فقالت: الحمد لله الذي فسح في أجلي حتى أخذتُ ثأري بيدي. ثم إنها أمرت العبيد أن يجروه من رجليه، ويرموه للكلاب.

وبعد ذلك أقبلوا على الاثنين الباقيَيْن من الثلاثة، وكان أحدهما عبدًا أسود، فقالوا له: ما اسمك أنت؟ فاصدقنا في حديثك. قال: أنا اسمي الغضبان. وأخبرهم بما وقع له مع الملكة إبريزة بنت الملك حردوب ملك الروم، وكيف قتلها وهرب، فلم يتم العبد كلامه حتى رمى الملك رومزان رقبته بالحسام، وقال: الحمد لله الذي أحياني وأخذت ثأر أمي بيدي. وأخبرهم أن دايته مرجانة حكت له عن هذا العبد الذي اسمه الغضبان.

وبعد ذلك أقبلوا على الثالث، وكان هو الجمَّال الذي اكتروه أهل بيت المقدس لحمل ضوء المكان وتوصيله إلى المارستان الذي في دمشق الشام، فذهب به وألقاه في المستوقد، وذهب إلى حال سبيله، ثم قالوا له: أخبرنا أنت بخبرك، واصدق في حديثك. فحكى لهم جميع ما وقع له مع السلطان ضوء المكان، وكيف حمله من بيت المقدس وهو ضعيف، على أن يوصله إلى الشام ويرميه في المارستان، وكيف جاء له أهل بيت المقدس بالدراهم، فأخذها وهرب بعد أن رماه في مستوقد الحمَّام، فلما تمَّ كلامه أخذ السلطان «كان ما كان» السيفَ وضربه فرمى عنقه، وقال: الحمد لله الذي أحياني حتى جازيت هذا الخائن بما فعل مع أبي، فإنني قد سمعت هذه الحكاية بعينها من والدي السلطان ضوء المكان.

فقال الملوك لبعضهم: ما بقي علينا إلَّا العجوز شواهي الملقَّبة بذات الدواهي، فإنها سبب هذه البلايا؛ حيث أوقعتنا في الرزايا، ومن لنا بها حتى نأخذ منها الثأر، ونكشف العار. فقال لهم الملك رومزان عم الملك كان ما كان: لا بد من إحضارها. ثم إن الملك رومزان كتب كتابًا من وقته وساعته، وأرسله إلى جدته العجوز شواهي الملقَّبة بذات الدواهي، وذكر لها فيه أنه غلب على مملكة دمشق والموصل والعراق، وكسر عسكر المسلمين وأسر ملوكهم، وقال: أريد أن تحضري عندي من كل بد، أنتِ والملكة صفيَّة بنت الملك أفريدون ملك القسطنطينية، ومَن شئتم من أكابر النصارى من غير عسكر، فإن البلاد أمان؛ لأنها صارت تحت أيدينا. فلما وصل الكتاب إليها وقرأته وعرفت خط الملك رومزان، فرحت فرحًا شديدًا، وتجهَّزت من وقتها وساعتها للسفر هي والملكة صفية أم نزهة الزمان ومَن صَحِبهم، ولم يزالوا مسافرين حتى وصلوا إلى بغداد، فتقدَّم الرسول وأخبرهم بحضورها، فقال رومزان: المصلحة تقتضي أن نلبس اللبس الإفرنجي، ونقابل العجوز حتى نأمن من خداعها وحِيَلها. فقالوا: سمعًا وطاعة. ثم إنهم لبسوا لباس الإفرنج، فلما رأت ذلك «قضى فكان» قالت: وحق الرب المعبود، لولا أني أعرفكم لَقلتُ إنكم إفرنج. ثم إن رومزان تقدَّم أمامهم، وخرجوا يقابلون العجوز في ألف فارس، فلما وقعت العين في العين، ترجَّلَ رومزان عن جواده وسعى إليها، فلما رأته وعرفته ترجَّلت إليه وعانقته، فقرط بيده على أضلاعها حتى كاد أن يقصفها، فقالت: ما هذا؟ فلم تتم كلامها حتى نزل إليهما «كان ما كان»، والوزير دندان، وزعقت الفرسان على مَن معها من الجواري والغلمان، وأخذوهم جميعهم ورجعوا إلى بغداد، وأمرهم رومزان أن يزيِّنوا بغداد، فزيَّنوها ثلاثةَ أيام، ثم أخرجوا شواهي الملقَّبة بذات الدواهي، وعلى رأسها طرطور أحمر مكلَّل بروث الحمير، وقُدَّامها منادٍ ينادي: هذا جزاء مَن يتجرَّأ على الملوك، وعلى أولاد الملوك. ثم صلبوها على باب بغداد، ولما رأى أصحابها ما جرى لها أسلموا كلهم جميعًا.

ثم إن كان ما كان، وعمه رومزان، ونزهة الزمان، والوزير دندان تعجَّبوا لهذه السيرة العجيبة، وأمروا الكُتَّاب أن يؤرخوها في الكتب حتى تُقرَأ من بعدهم، وأقاموا بقية الزمان في ألذ عيش وأهناه، إلى أن أتاهم هادم اللذات، ومفرق الجماعات. وهذا آخر ما انتهى إلينا من تصاريف الزمان بالملك عمر النعمان، وولده شركان، وولده ضوء المكان، وولد ولده كان ما كان، ونزهة الزمان، وقضى فكان.

ثم إن الملك قال لشهرزاد: أشتهي أن تحكي لي شيئًا من حكاية الطيور. فقالت: حبًّا وكرامة. فقالت لها أختها: لم أرَ الملك في طول هذه المدة انشرح صدره غير هذه الليلة، وأرجو أن تكون عاقبتك محمودة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 146

 

حكاية طريفة تتعلق بالطيور والحيوان

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أنه كان في قديم الزمان، وسالف العصر والأوان، طاوس يأوي إلى جانب البحر مع زوجته، وكان ذلك الموضع كثيرَ السباع، وفيه من سائر الوحوش، غير أنه كثير الأشجار والأنهار. وذلك الطاوس هو وزوجته يأويان إلى شجرة من تلك الأشجار ليلًا من خوفهما من الوحوش، ويغدوان في طلب الرزق نهارًا، ولم يزالا كذلك حتى كَثُر خوفهما، فسارا يبغيان موضعًا غير موضعهما يأويان إليه، فبينما هما يفتشان على موضع؛ إذ ظهرت لهم جزيرة كثيرة الأشجار والأنهار، فنزلا في تلك الجزيرة، وأكلا من أثمارها، وشربا من أنهارها. فبينما هما كذلك، وإذا ببطة أقبلت عليهما وهي في شدة الفزع، ولم تزل تسعى حتى أتت إلى الشجرة التي عليها الطاوس هو وزوجته فاطمأنت، فلم يشُكَّ الطاوس في أن تلك البطة لها حكاية عجيبة، فسألها عن حالها وعن سبب خوفها، فقالت: إنني مريضة من الحزن، وخوفي من ابن آدم، فالحذر ثم الحذر من بني آدم. فقال لها الطاوس: لا تخافي حيث وصلتِ إلينا. فقالت البطة: الحمد لله الذي فرَّج عني همي وغمي بقربكما، وقد أتيت راغبة في مودتكما. فلما فرغت من كلامها نزلت إليها زوجة الطاوس، وقالت لها: أهلًا وسهلًا ومرحبًا، لا بأس عليك، ومن أين يصل إلينا ابن آدم ونحن في تلك الجزيرة التي في وسط البحر؟ فمن البر لا يقدر أن يصل إلينا، ومن البحر لا يمكن أن يطلع علينا، فأَبْشِري وحدِّثينا بالذي نزل بكِ واعتراكِ من ابن آدم. فقالت البطة: اعلمي أيتها الطاوسة أنني في هذه الجزيرة طول عمري آمنة لا أرى مكروهًا، فنمت ليلة من الليالي فرأيت في منامي صورة ابن آدم وهو يخاطبني وأخاطبه، وسمعت قائلًا يقول لي: أيتها البطة، احذري من ابن آدم، ولا تغتري بكلامه ولا بما يُدخِله عليك؛ فإنه كثير الحِيَل والخداع، فالحذر كل الحذر من مُكْره؛ فإنه مخادع ماكر كما قال فيه الشاعر:

يُعْطِيكَ مِنْ طَرَفِ اللِّسَانِ حَلَاوَةً        وَيَرُوغُ مِنْكَ كَمَا يَرُوغُ الثَّعْلَبُ

واعلمي أن ابن آدم يحتال على الحيتان فيُخرِجها من البحار، ويرمي الطير ببندقة من طين، ويُوقِع الفيلَ بمكره، وابن آدم لا يسلم أحدٌ من شرِّه، ولا ينجو منه طير ولا وحش، وقد بلغتك ما سمعته عن ابن آدم. فاستيقظتُ من منامي خائفة مرعوبة، وأنا إلى الآن لا ينشرح صدري خوفًا على نفسي من ابن آدم؛ لئلا يدهمني بحيلته، ويصيدني بحبائله، ولم يأتِ عليَّ آخِر النهار إلا وقد ضعفت قوتي، وبطلت همَّتي، ثم إني اشتقت إلى الأكل والشرب، فخرجت أتمشى وخاطري مكدر وقلبي مقبوض، فلما وصلت إلى ذلك الجبل، وجدتُ على بابِ مغارةٍ شبلًا أصفر اللون، فلما رآني ذلك الشبل فرح بي فرحًا شديدًا، وأعجبه لوني، وكوني لطيفة الذات، فصاح عليَّ وقال لي: اقربي مني. فلما قربت منه قال لي: ما اسمك؟ وما جنسك؟ فقلت له: اسمي بطة، وأنا من جنس الطيور. ثم قلت له: ما سبب قعودك إلى هذا الوقت في هذا المكان؟ فقال الشبل: سبب ذلك أن والدي الأسد له أيام وهو يحذِّرني من ابن آدم، فاتفق أنني رأيت في هذه الليلة في منامي صورةَ ابن آدم. ثم إن الشبل حكى لي نظير ما حكيتُه لك، فلما سمعتُ كلامَه قلتُ له: يا أسد، إني قد لجأتُ إليك في أن تقتل ابن آدم، وتحزم رأيك في قتله؛ فإني أخاف على نفسي منه خوفًا شديدًا، وازددت خوفًا على خوفي من خوفك من ابن آدم مع أنك سلطان الوحوش.

وما زلت يا أختي أحذِّر الشبل من ابن آدم وأُوصيه بقتله، حتى قام من وقته وساعته من المكان الذي كان فيه، وتمشى وتمشيت وراءه، ففرقع بذَنَبه على ظهره، ولم يزل يتمشى وأنا أمشي وراءه إلى أن مرق الطريق، فوجدنا غبرة طارت، وبعد ذلك انكشفت الغبرة فبان من تحتها حمار شارد عريان، وهو تارةً يقمص ويجري، وتارةً يتمرغ، فلما رآه الأسد صاح عليه، فأتى إليه خاضعًا، فقال له: أيها الحيوان الخريف العقل، ما جنسك؟ وما سبب قدومك إلى هذا المكان؟ فقال له: يا ابن السلطان، أنا جنسي حمار، وسبب قدومي إلى هذا المكان هروبي من ابن آدم. فقال له الشبل: وهل أنت خائف من ابن آدم أن يقتلك؟ فقال له الحمار: لا يا ابن السلطان، وإنما خوفي أن يعمل حيلة عليَّ ويركبني؛ لأن عنده شيئًا يسمِّيه البرذعة فيجعلها على ظهري، وشيئًا يسميه الحزام فيشده على بطني، وشيئًا يسميه الطفر فيجعله تحت ذَنَبي، وشيئًا يسميه اللجام فيجعله في فمي، ويعمل لي منخاسًا ينخسني به، ويكلِّفني ما لا أطيق من الجري، وإذا عثرت لعنني، وإن نهقت شتمني، وبعد ذلك إذا كبرت ولم أقدر على الجري يجعل لي رجلًا من الخشب، ويسلِّمني إلى السقَّايين فيجعلون الماء على ظهري من البحر في القرب ونحوها كالجرار، ولا أزال في ذل وهوان وتعب حتى أموت، فيرمونني فوق التلال للكلاب، فأي شيء أكبر من هذا الهم؟ وأي مصيبة أكبر من هذه المصائب؟

فلما سمعتُ أيتها الطاوسة كلام الحمار اقشعرَّ جسدي من ابن آدم، وقلت للشبل: يا سيدي، إن الحمار معذور، وقد زادني كلامه رعبًا على رعبي. فقال الشبل للحمار: إلى أين أنت سائر؟ فقال له الحمار: إني نظرت ابن آدم قبل إشراق الشمس من بعيد ففررتُ هربًا منه، وها أنا أريد أن أنطلق، ولم أزل أجري من شدة خوفي منه، فعسى أجد لي موضعًا يأويني من ابن آدم الغدار. فبينما ذلك الحمار يتحدَّث مع الشبل في ذلك الكلام، وهو يريد أن يودِّعنا ويروح؛ إذ ظهرت لنا غبرة، فنهق الحمار وصاح، ونظر بعينه إلى ناحية الغبرة، وضرط ضراطًا عاليًا، وبعد ساعة انكشفت الغبرة عن فرس أدهم بغُرَّة كالدرهم، وذلك الفرس ظريف الغرة، مليح التحجيل، حسن القوائم والصهيل، ولم يزل يجري حتى وقف بين يدي الشبل ابن الأسد، فلما رآه الشبل استعظمه، وقال له: ما جنسك أيها الوحش الجليل؟ وما سبب شرودك في هذا البر العريض الطويل؟ فقال له: يا سيد الوحوش، أنا فرس من جنس الخيل، وسبب شرودي هروبي من ابن آدم. فتعجَّبَ الشبل من كلام الفرس، وقال: لا تقل هذا الكلام، فإنه عيب عليك وأنت طويل غليظ، وكيف تخاف من ابن آدم مع عظم جثتك، وسرعة جريك؟ وأنا مع صغر جسمي قد عزمت على أن ألتقي مع ابن آدم فأبطش به، وآكل لحمه، وأسكِّن روع هذه البطة المسكينة، وأقرها في وطنها، وها أنت لما أتيتَ في هذه الساعة قطعت قلبي بكلامك، وأرجعتني عما أردت أن أفعله، فإذا كنت أنت مع عِظَمك قد قهرك ابن آدم، ولم يخف من طولك وعرضك، مع أنك لو رفصته برجلك لقتلته، ولم يقدر عليك، بل تسقيه كأس الردى.

فضحك الفرس لما سمع كلام الشبل، وقال: هيهات هيهات أن أغلبه يا ابن الملك، فلا يغرك طولي ولا عرضي ولا ضخامتي مع ابن آدم؛ لأنه من شدة حِيَله ومكره يصنع لي شيئًا يقال له الشكال، ويضع في أربعة قوائمي شكالين من حبال الليف الملفوفة باللباد، ويصلبني من رأسي في وتد عالٍ، وأبقى واقفًا وأنا مصلوب لا أقدر أن أقعد ولا أنام، وإذا أراد أن يركبني يعمل لي شيئًا في رجليه من الحديد اسمه الركاب، ويضع على ظهري شيئًا يسميه السرج، ويشده بحزامين من تحت إبطي، ويضع في فمي شيئًا من الحديد يسميه اللجام، ويضع فيه شيئًا من الجلد يسميه الصُّرع، فإذا ركب فوق ظهري على السرج يمسك الصُّرع بيده ويقودني به، ويهمزني بالركاب في خواصري حتى يدميها، ولا تسأل يا ابن السلطان عمَّا أقاسيه من ابن آدم؛ فإذا كبرت وانتحل ظهري ولم أقدر على سرعة الجري، يبيعني للطحان ليدورني في الطاحون، فلا أزال دائرًا فيها ليلًا ونهارًا إلى أن أهرم، فيبيعني للجزار فيذبحني، ويسلخ جلدي، وينتف ذَنَبي، ويبيعها للغرابلي والمناخلي، ويسلي شحمي. فلما سمع الشبل كلام الفرس ازداد غيظًا وغمًّا، وقال له: متى فارقت ابن آدم؟ قال: فارقته نصف النهار، وهو في إثري.

فبينما الشبل يتحدَّث مع الفرس في هذا الكلام، وإذا بغبرة ثارت، وبعد ذلك انكشفت الغبرة وبان من تحتها جمل هائج، وهو يبعبع ويخبط برجليه في الأرض، ولم يزل يفعل كذلك حتى وصل إلينا، فلما رآه الشبل كبيرًا غليظًا، ظنَّ أنه ابن آدم فأراد الوثوب عليه، فقلت له: يا ابن السلطان، إن هذا ما هو ابن آدم، وإنما هذا جمل، وكأنه هارب من ابن آدم. فبينما أنا يا أختي مع الشبل في هذا الكلام، وإذا بالجمل تقدَّمَ بين أيادي الشبل وسلَّمَ عليه، فردَّ عليه السلام، وقال له: ما سبب مجيئك إلى هذا المكان؟ قال: جئت هاربًا من ابن آدم. فقال له الشبل: وأنت مع عظم خلقتك وطولك وعرضك كيف تخاف من ابن آدم، ولو رفصته برجلك رفصة لقتلته؟ فقال له الجمل: يا ابن السلطان، اعلم أن ابن آدم له دواهٍ لا تُطاق، وما يغلبه إلا الموت؛ لأنه يضع في أنفي خيطًا ويسمِّيه خزامًا، ويجعل في رأسي مقودًا ويسلِّمني إلى أصغر أولاده، فيجرني الولد الصغير بالخيط مع كبري وعظمي، ويحمِّلونني أثقل الأحمال، ويسافرون بي الأسفار الطوال، ويستعملونني في الأشغال الشاقة أثناء الليل النهار، وإذا كبرت وشِخْت أو انكسرت لم يحفظ صحبتي، بل يبيعني للجزار فيذبحني، ويبيع جلدي للدبَّاغين، ولحمي للطباخين، ولا تسأل عمَّا أقاسي من ابن آدم. فقال له الشبل: أي وقت فارقت ابن آدم؟ فقال: فارقته وقت الغروب، وأظنه يأتي عند انصرافي فلن يجدني فيسعى في طلبي، فدعني يا ابن السلطان حتى أهجَّ في البراري والقفار. فقال الشبل: تمهَّلْ قليلًا يا جمل حتى تنظر كيف أفترسه، وأطعمك من لحمه، وأهشِّم عظمه، وأشرب من دمه. فقال له الجمل: يا ابن السلطان، أنا خائف عليك من ابن آدم فإنه مخادع ماكر. ثم أنشد قول الشاعر:

إِذَا حَلَّ الثَّقِيلُ بِأَرْضِ قَوْمٍ        فَمَا لِلسَّاكِنِينَ سِوَى الرَّحِيلِ

فبينما الجمل يتحدَّث مع الشبل في هذا الكلام، وإذا بغبرة طلعت، وبعد ساعة انكشفت عن شيخ قصير رقيق البشرة، على كتفه مقطف فيه عدة نجار، وعلى رأسه شعبة وثمانية ألواح، وبيده أطفال صغار، وهو يهرول في مشيه، وما زال يمشي حتى قرب من الشبل؛ فلما رأيته يا أختي، وقعتُ من شدة الخوف، وأما الشبل فإنه قام وتمشى إليه ولاقاه، فلما وصل إليه ضحك النجار في وجهه، وقال له بلسان فصيح: أيها الملك الجليل، صاحب الباع الطويل، أسعد الله مساك ومسعاك، وزاد في شجاعتك وقواك، أجرني مما دهاني، وبشرِّه رماني؛ لأني ما وجدتُ لي نصيرًا غيرك. ثم إن النجار وقف بين يدي الأسد وبكى، وأنَّ واشتكى، فلما سمع الشبل بكاءه وشكواه، قال له: أجرتك مما تخشاه، فمَن الذي قد ظلمك؟ وما أنت تكون أيها الوحش الذي ما رأيت عمري مثلك، ولا أحسن صورةً ولا أفصح لسانًا منك؟ فما شأنك؟ فقال له النجار: يا سيد الوحوش، أما أنا فنَجَّار، وأما الذي ظلمني فإنه ابن آدم، وفي صباح هذه الليلة يكون عندك في هذا المكان.

فلما سمع الشبل من النجار هذا الكلام، تبدَّلَ الضياء في وجهه بالظلام، وشخر ونخر، وارتمت عيناه بالشرر، وصاح وقال: والله لأسهرن في هذه الليلة إلى الصباح، ولا أرجع إلى والدي حتى أبلغ مقصدي. ثم إن الشبل التفت إلى النجار وقال له: إني أرى خطواتك قصيرة، ولا أقدر أن أكسر بخاطرك؛ لأني ذو مروءة، وأظن أنك لا تقدر أن تماشي الوحوش، فأخبرني إلى أين تذهب؟ فقال له النجار: اعلم أنني رائح إلى وزير والدك الفهد؛ لأنه لما بلغه أن ابن آدم داس هذه الأرض، خاف على نفسه خوفًا عظيمًا، وأرسل إليَّ رسولًا من الوحوش؛ لأصنع له بيتًا يسكن فيه ويأوي إليه، ويمنع عنه عدوه حتى لا يصل إليه أحدٌ من بني آدم، فلما جاءني الرسول أخذت هذه الألواح وتوجَّهْتُ إليه. فلما سمع الشبل كلام النجار، أخذه الحسد للفهد فقال له: بحياتي لا بد أن تصنع لي هذه الألواح بيتًا قبل أن تصنع للفهد بيته، وإذا فرغت من شغلي، فامضِ إلى الفهد واصنع له ما يريد. فلما سمع النجار من الشبل هذا الكلام، قال له: يا سيد الوحوش، ما أقدر أن أصنع لك شيئًا إلا إذا صنعتُ للفهد ما يريد، ثم أجيء إلى خدمتك، وأصنع لك بيتًا يحصنك من عدوك. فقال له الشبل: والله ما أخليك تروح من هذا المكان حتى تصنع لي هذه الألواح بيتًا.

ثم إن الشبل همَّ على النجار ووثب عليه، وأراد أن يمزح معه، فلطشه بيده فرمى المقطف من على كتفه، ووقع النجار مغشيًّا عليه، فضحك الشبل عليه وقال: ويلك يا نجار، إنك ضعيف، وما لك قوة، فأنت معذور إذا خفتَ من ابن آدم. فلما وقع النجار على ظهره اغتاظ غيظًا شديدًا، ولكنه كتم ذلك عن الشبل من خوفه منه، ثم قعد النجار وضحك في وجه الشبل، وقال له: ها أنا أصنع لك البيت. ثم إن النجار تناول الألواح التي كانت معه وسمَّر البيت، وجعله مثل القالب على قياس الشبل، وخلَّى بابه مفتوحًا؛ لأنه جعله على صورة صندوق، وفتح له طاقة كبيرة، وجعل لها غطاءً، وثقب فيها ثقوبًا كثيرة، وأخرج منها مسامير مطرفة، وقال للشبل: ادخل في هذا البيت من هذه الطاقة لمَّا أقبيه عليك. ففرح الشبل بذلك، وأتى تلك الطاقة فرآها ضيقة، فقال له النجار: ادخل وابرك على يديك ورجليك. ففعل الشبل ذلك، ودخل الصندوق، وبقي ذَنَبُه خارجًا، ثم أراد الشبل أن يتأخر إلى ورائه ويخرج، فقال له النجار: امهل حتى أنظر هل يسع ذَنَبك معك. فامتثل الشبل أمره، ثم إن النجار لفَّ ذَنَب الشبل وحشاه في الصندوق، وردَّ اللوح على الطاقة سريعًا وسمَّره، فصاح الشبل قائلًا: يا نجار، ما هذا البيت الضيق الذي صنعته لي؟ دعني أخرج منه. فقال له النجار: هيهات هيهات، لا ينفع الندم على ما فات، إنك لا تخرج من هذا المكان. ثم ضحك النجار، وقال للشبل: إنك وقعت في القفص، وكنت أخبث الوحوش. فقال: يا أخي، ما هذا الخطاب الذي تخاطبني به؟ فقال له النجار: اعلم يا كلب البر أنك وقعت فيما كنتَ تخاف منه، وقد رماك القدر، ولم ينفعك الحذر.

فلما سمع الشبل كلامه يا أختي، علم أنه ابن آدم الذي حذَّره منه أبوه في اليقظة، والهاتف في المنام، وتحقَّقتُ أنه هو بلا شك ولا ريب، فخفتُ منه على نفسي خوفًا عظيمًا، وبعدت عنه قليلًا، وصرت أنتظر ماذا يفعل بالشبل؟ فرأيت يا أختي ابن آدم حفر حفرة في ذلك المكان بالقرب من الصندوق الذي فيه الشبل، ورماه في تلك الحفرة، وألقى عليه الحطب، وأحرقه بالنار؛ فكبر يا أختي خوفي، ولي يومان هاربة من ابن آدم، وخائفة منه. فلما سمعت الطاوسة من البطة هذا الكلام … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 147

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الطاوسة لما سمعت من البطة هذا الكلام، تعجَّبت منه غاية العجب، وقالت: يا أختي، إنك أمنت من ابن آدم؛ لأننا في جزيرة من جزائر البحر، ليس لابن آدم فيها مسلك، فاختاري المقام عندنا إلى أن يسهِّل الله أمرك وأمرنا. قالت: أخاف أن يطرقني طارق، والقضاء لا ينفك عنه آبق. فقالت: اقعدي عندنا، وأنت مثلنا. وما زالت بها حتى قعدت، وقالت: يا أختي، أنت تعلمين قلة صبري، ولولا أني رأيتك هنا ما كنت قعدت. فقالت الطاوسة: إن كان على جبيننا شيء نستوفاه، وإن كان أجلنا دنا فمن يخلِّصنا، ولن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها. فبينما هما في هذا الكلام؛ إذ طلعت عليهما غبرة، فعند ذلك صاحت البطة ونزلت البحر، وقالت: الحذر الحذر، وإن لم يكن مفر من القدر. وكانت الغبرة عظيمة، فلما انكشفت الغبرة ظهر من تحتها ظبي، فاطمأنت البطة والطاوسة، ثم قالت البطة: يا أختي، إن الذي تفزعين منه ظبي، وها هو قد أقبل نحونا فليس علينا منه بأس؛ لأن الظبي إنما يأكل الحشائش من نبات الأرض، وكما أنت من جنس الطير هو الآخر من جنس الوحوش، فاطمئني ولا تهتمي، فإن الهم ينحل البدن. فلم تتم الطاوسة كلامها حتى وصل الظبي إليهما يستظل تحت الشجرة، فلما رأى الطاوسة والبطة سلَّم عليهما، وقال لهما: إني دخلت هذه الجزيرة اليومَ فلم أرَ أكثر منها خصبًا، ولا أحسن منها مسكنًا. ثم دعاهما لمرافقته ومصافاته، فلما رأت البطة والطاوسة تودُّدَه إليهما أقبلتا عليه، ورغبتا في عشرته، وتحالفوا على ذلك، وصار مبيتُهم واحدًا، ومأكلهم سواء، ولم يزالوا آمنين آكلين شاربين حتى مرت بهم سفينة كانت تائهة في البحر، فأرست قريبًا منهم، فطلع الناس وتفرقوا في الجزيرة، فرأوا الظبي والطاوسة والبطة مجتمعين، فأقبلوا عليهم؛ فشرد الظبي في البرية، وطارت الطاوسة في الجو، فبقيت البطة مخبلة، ولم يزالوا بها حتى صادوها، وصاحت قائلة: لم ينفعني الحذر من القضاء والقدر. وانصرفوا بها إلى سفينتهم، فلما رأت الطاوسة ما جرى للبطة، ارتحلت عن الجزيرة وقالت: لا أرى الآفات إلا مراصدة لكل أحد، ولولا هذه السفينة ما حصل بيني وبين هذه البطة افتراق، ولقد كانت من خيار الأصدقاء. ثم طارت الطاوسة واجتمعت بالظبي، فسلَّمَ عليها وهنَّأها بالسلامة، وسألها عن البطة فقالت له: قد أخذها العدو، وكرهتُ المقام في تلك الجزيرة بعدها. ثم بكت على فراق البطة، وأنشدت تقول:

إِنَّ يَوْمَ الْفِرَاقِ قَطْعٌ لِقَلْبِي        قَطَّعَ اللهُ قَلْبَ يَوْمِ الْفِرَاقِ

وأنشدت أيضًا:

تمنَّيْتُ الْوِصَالَ يَعُودُ يَوْمًا        لِأُخْبِرَهُ بِمَا صَنَعَ الْفِرَاقُ

فاغتمَّ الظبي غمًّا شديدًا، ثم ردَّ عزم الطاوسة عن الرحيل، فأقام معها في تلك الجزيرة آمنَيْن آكلَيْن شاربَيْن، غير أنهما لم يزالا حزينين على فراق البطة، فقال الظبي للطاوسة: يا أختي، قد علمت أن الناس الذين طلعوا لنا من المركب كانوا سببًا لفراقنا ولهلاك البطة، فاحذريهم واحترسي منهم ومن مكر ابن آدم وخداعه. قالت: قد علمت يقينًا أن ما قتلها غير تركها التسبيح، ولقد قلت لها: إني أخاف عليك من تركك التسبيح؛ لأن كل ما خلقه الله يسبحه، فإن غفل عن التسبيح عُوقِب بهلاكه. فلما سمع الظبي كلام الطاوسة قال: أحسن الله صورتك. وأقبل على التسبيح لا يفتر عنه ساعة، وقد قيل إن الظبي يقول في تسبيحه: سبحان الديان ذي الجبروت والسلطان.

وورد أن بعض العُبَّاد كان يتعبد في الجبال، وكان يأوي إلى ذلك الجبل زوج من الحمام، وكان ذلك العابد قسَّمَ قُوتَه نصفين. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 148

 

حكاية الصبية والراعي

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن العابد قد قسم قُوته نصفين، وجعل نصفه لنفسه، ونصفه لذلك الزوج الحمام، ودعا العابد لهما بكثرة النسل فكثُر نسلهما، ولم يكن الحمام يأوي إلى غير الجبل الذي فيه العابد، وكان السبب في اجتماع الحمام بالعابد كثرة تسبيح الحمام، وقيل إن الحمام يقول في تسبيحه: سبحان خالق الخلق، وقاسم الرزق، وباني السموات، وباسط الأرضين. ولم يزل ذلك الزوج الحمام في أرغد عيش هو ونسله حتى مات العابد؛ فتشتَّتَ شمل الحمام، وتفرَّق في المدن والقرى والجبال. وقيل إنه كان في بعض الجبال رجل من الرعاة صاحب دين وعقل وعفة، وكان له غنم يرعاها، وينتفع بألبانها وأصوافها، وكان ذلك الجبل الذي يأوي إليه الراعي كثيرَ الأشجار والمرعى والسباع، ولم يكن لتلك الوحوش قدرة على الراعي ولا على غنمه، ولم يزل مقيمًا في الجبل مطمئنًّا لا يهمه شيء من أمر الدنيا لسعادته وإقباله على عبادته، فاتفق له أنه مرض مرضًا شديدًا فدخل كهفًا في الجبل، وصارت الغنم تخرج بالنهار إلى مرعاها، وتأوي بالليل إلى الكهف، فأراد الله أن يمتحن ذلك الراعي، ويختبره في طاعته وصبره، فبعث إليه مَلَكًا، فدخل عليه الملك في صورة امرأة حسناء، وجلس بين يديه، فلما رأى الراعي تلك المرأة جالسة عنده اقشعرَّ بدنه منها، فقال لها: أيتها المرأة ما الذي دعاكِ إلى المجيء هنا وليس لك حاجة معي، ولا بيني وبينك ما يوجب دخولك عندي؟ فقالت له: أيها الإنسان، أَمَا ترى حسني وجمالي وطيب رائحتي؟ أَمَا تعلم حاجة الرجال إلى النساء؟ فما الذي يمنعك مني؟ وقد اخترت قربك وأحببت وصالك، وقد جئتك طائعة وعليك غير ممتنعة، وليس عندنا أحد نخشاه، وأريد أن أقيم معك طول مقامك في هذه الجبال وأكون أنيسة لك، وقد عرضت نفسي عليك لأنك تحتاج لخدمة النساء، وأنت إن باشرتني زال عنك مرضك وعادت إليك صحتك، وندمت على ما فاتك من قرب النساء في سالف عمرك، وقد نصحتك فاقبل نصيحتي وادنُ مني.

فقال الراعي: اخرجي عني أيتها المرأة الخدَّاعة الغدارة، فلا أركن إليكِ ولا أدنو منك ولا حاجة لي بقربك ولا بوصالك؛ لأن مَن رغب فيكِ زهد في الآخرة، ومَن رغب في الآخرة زهد فيكِ؛ لأنكِ فتنتِ الأولين والآخرين، والله تعالى لعباده بالمرصاد، والويل لمَن ابتُلِي بصحبتك. فقالت له: أيها التائه عن السداد، والضال عن طريق الرشاد، أقبل بوجهك إليَّ، وانظر إلى محاسني، واغتنم قربي كما فعل مَن كان قبلك من الحكماء، فقد كانوا أكثر منك تجربةً وأصوب منك رأيًا، ومع ذلك لم يرفضوا ما رفضتَ من التمتُّع بالنساء، بل رغبوا فيما زهدتَ فيه من مباشَرةِ النساء وقُربهن، فما أساءهم ذلك في دينهم ولا دنياهم، فارجع عن رأيك تحمد عاقبة أمرك. فقال الراعي: إن الذي تقولينه كرهته، وجميع ما تبدينه زهدته؛ لأنك خدَّاعة غدَّارة لا عهد لكِ ولا وفاء، فكم من قبيح تحت حُسنك أخفيتِه! وكم من صالح فتنتِه، وكانت عاقبته إلى الندامة والحزن! فارجعي عني أيتها المُصلِحة نفسها لفساد غيرها. ثم ألقى عباءته على وجهه حتى لا يرى وجهها، واشتغل بذكر ربه.

فلما رأى المَلَك حُسْنَ طاعته خرج، وعرج إلى السماء، وكان قريبًا من الراعي قرية فيها رجل من الصالحين لم يعلم بمكانه، فرأى في منامه كأن قائلًا يقول له: بالقرب منك في مكان كذا رجل صالح فاذهب إليه، وكن تحت طاعة أمره. فلما أصبح الصباح توجَّه نحوه سائرًا، فلما اشتد عليه الحر انتهى إلى شجرة عندها عين جارية، فجلس في ظل الشجرة ليستريح، فبينما هو جالس وإذا بوحوش وطيور أتوا إلى تلك العين ليشربوا منها، فلما رأوا العابد جالسًا نفروا ورجعوا شاردين، فقال العابد في نفسه: أنا ما استرحت هنا إلا لتعب هذه الوحوش والطيور. ثم قام وقال معاتبًا لنفسه: لقد أضرَّ بهذه الحيوانات في هذا اليوم جلوسي في هذا المكان، فما عذري عند خالقي وخالق هذه الطيور والوحوش؟ فإنني كنت سببًا لشرودهم عن مائهم ومرعاهم، فوا خجلتي من ربي يوم يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء! ثم أفاض من جفنه العَبَرات، وأنشد هذه الأبيات:

أَمَا وَاللهِ لَوْ عَلِمَ الْأَنَامُ        لِمَا خُلِقُوا لَمَا غَفَلُوا وَنَامُوا

فَمَوْتٌ ثُمَّ بَعْثٌ ثُمَّ حَشْرٌ        وَتَوْبِيخٌ وَأَهْوَالٌ عِظَامُ

وَنَحْنُ إِذَا انْتَهَيْنَا أَوْ أُمِرْنَا        كَأَهْلِ الْكَهْفِ أَكْثَرُنَا يَنُامُ

ثم بكى على جلوسه تحت الشجرة عند العين، ومنْعِه الطيور والوحوش من شربها، وولَّى هائمًا على وجهه حتى أتى إلى الراعي فدخل عنده وسلَّم عليه، فردَّ عليه السلام وعانقه وبكى، ثم قال له الراعي: ما الذي أقدمك إلى هذا المكان الذي لم يدخله أحدٌ من الناس عليَّ؟ فقال العابد: إني رأيتُ في منامي مَن يصف لي مكانك، ويأمرني بالمسير إليك والسلام عليك، وقد أتيتك ممتثلًا لما أُمِرت به. فقبله الراعي وطابت نفسه بصحبته، وجلس معه في الجبل يعبدان الله تعالى في ذلك الغار، وحسُنت عبادتهما، ولم يزالا في ذلك المكان يعبدان ربهما، ويتقوَّتان من لحوم الغنم وألبانها، متجرِّدَيْن عن المال والبنين، إلى أن أتاهما اليقين، وهذا آخِر حديثهما.

قال الملك: لقد زهَّدتِنِي يا شهرزاد في ملكي، وندَّمتِنِي على ما فرط مني في قتل النساء والبنات، فهل عندك شيء من حديث الطيور؟ قالت: نعم.

 

حكاية السلحفاة وطائر الماء

زعموا أيها الملك أن طائرًا طار وعلا إلى الجو، ثم انقضَّ على صخرة في وسط الماء، وكان الماء جاريًا، فبينما الطائر واقف على الصخرة، وإذا برمة إنسان جرَّها الماء حتى أسندها إلى الصخرة، ووقفَتْ تلك الجيفة في جانب الصخرة، وارتفعت لانتفاخها؛ فدَنَا منها طير الماء وتأمَّلَها فرآها رمة ابن آدم، وظهر له فيها ضرب السيف وطعن الرماح، فقال في نفسه: إن هذا المقتول كان شريرًا، فاجتمع عليه جماعة وقتلوه، واستراحوا منه ومن شرِّه. ولم يزل طير الماء يكثر التعجُّب من تلك الرمة حتى رأى نسورًا وعقبانًا أحاطوا بتلك الجيفة من جميع جوانبها، فلما رأى ذلك طير الماء جزع جزعًا شديدًا وقال: لا صبر لي على الإقامة في هذا المكان. ثم طار منه يفتش على موضع يأويه إلى حين نفاد تلك الجيفة، وزوال سباع الطير عنها، ولم يزل طائرًا حتى وجد نهرًا في وسطه شجرة، فنزل عليها كئيبًا حزينًا على بُعده عن وطنه، وقال في نفسه: لم تزل الأحزان تتبعني، وكنت قد استرحت لما رأيت تلك الجيفة، وفرحتُ بها فرحًا شديدًا، وقلت: هذا رزق ساقه الله إليَّ. فصار فرحي غمًّا، وسروري حزنًا وهمًّا، وافترستها سباع الطير مني، وحالوا بينها وبيني، فكيف أرجو أن أكون سالمًا في هذه الدنيا وأطمئن إليها؟ وقد قيل في المثل: الدنيا دارُ مَن لا دارَ له يغترُّ بها مَن لا عقلَ له، ويطمئن إليها بماله وولده، وقومه وعشيرته، ولم يزل المغتر بها راكنًا إليها يختال فوق الأرض حتى يصير تحتها، ويحثو عليه الترابَ أعزُّ الناس عليه، وأقربهم إليه، وما للفتى خير من الصبر على مكارهها، وقد فارقت مكاني ووطني وكنت كارهًا لفرقة إخواني وأصحابي. فبينما هو في فكرته، وإذا بذكر من السلاحف أقبل منحدرًا في الماء، ودنا من طير الماء وسلَّم عليه، وقال: يا سيدي، ما الذي أبعدك عن موضعك؟ قال: حلول الأعداء فيه، ولا صبر للعاقل على مجاورة عدوه، وما أحسن قول بعض الشعراء:

إِذَا حَلَّ الثَّقِيلُ بِأَرْضِ قَوْمٍ        فَمَا لِلسَّاكِنِينَ سِوَى الرَّحِيلِ

فقال له السلحف: إذا كان الأمر كما وصفته، والحال مثل ما ذكرتها، فأنا لا أزال بين يديك، ولا أفارقك لأقضي حاجتك، وأَفِي بخدمتك، فإنه يقال: لا وحشة أشد من وحشة الغريب المنقطع عن أهله ووطنه، وقد قيل: إن فرقة الصالحين لا يعدلها شيء من المصائب، ومما يسلِّي به العاقل نفسه الاستئناس في الغربة، والصبر على الرزية والكربة، وأرجو أن تحمد صحبتي لك، وأكون لك خادمًا ومُعينًا. فلما سمع طير الماء مقالة السلحف قال له: لقد صدقتَ في قولك، ولعمري إني وجدت للفراق ألمًا وغمًّا مدة بعدي عن مكاني، وفراقي لإخواني وخلَّاني؛ لأن في الفراق عبرةً لمَن اعتبر، وفكرة لمَن تفكَّر، وإذا لم يجد الفتى مَن يسلِّيه من الأصحاب، ينقطع عنه الخير أبدًا، ويثبت له الشر سرمدًا، وليس للعاقل إلا التسلِّي بالإخوان عن الهموم في جميع الأحوال، وملازمة الصبر والتجلُّد، فإنهما خصلتان محمودتان يعينان على نوائب الدهر، ويدفعان الفزع والجزع في كل أمر. قال له السلحف: إياك والجزع، فإنه يفسد عليك عيشك، ويُذهِب مروءتك. وما زالا يتحدثان مع بعضهما إلى أن قال طير الماء للسلحف: أنا لم أزل أخشى نوائب الزمان، وطوارق الحدثان. فلما سمع السلحف مقالة طير الماء، أقبل عليه وقبَّله بين عينيه، وقال له: لم تزل جماعة الطير تعرف في مشورتك الخير، فكيف تحمل الهم والضَّير؟ ولم يزل يُسكِّن روع طير الماء حتى اطمأن، ثم إن طير الماء طار إلى مكان الجيفة، فلما وصل إليه لم يرَ من سباع الطير شيئًا، ولا من تلك الجيفة إلا عظامًا، فرجع يخبر السلحف بزوال العدو من مكانه، فلما وصل إلى السلحف أخبره بما رأى، وقال له: إني أحِبُّ الرجوع إلى مكاني، وأتملى بخلَّاني؛ لأنه لا صبرَ للعاقل عن وطنه. فذهب معه إلى ذلك المكان فلم يجد أشياء مما يخافان منه، فصار طير الماء قرير العين، وأنشد هذين البيتين:

وَلَرُبَّ نَازِلَةٍ يِضِيقُ لَهَا الْفَتَى        ذَرْعًا وَعِنْدَ اللهِ مِنْهَا الْمَخْرَجُ

ضَاقَتْ فَلَمَّا اسْتَمْكَنَتْ حَلَقَاتُهَا        فُرِجَتْ وَكُنْتُ أَظُنُّهَا لَا تُفْرَجُ

ثم سكنا في تلك الجزيرة، فبينما طير الماء في أمن وسرور، وفرح وحبور؛ إذ ساق القضاء إليه بازًا جائعًا، فضربه بمخلبه ضربة فقتله، ولم يُغنِ عنه الحذر عند فراغ الأجل، وسبب قتله غفلته عن التسبيح، قيل إنه كان يقول في تسبيحه: سبحان ربنا فيما قدَّر ودبَّر، سبحان ربنا فيما أغنى وأفقر.

هذا ما كان من حديث الطير. فقال الملك: يا شهرزاد، لقد زدتِني بحكايتك مواعظَ واعتبارًا، فهل عندك شيء من حكايات الوحوش؟

 

حكاية الثعلب والذئب

فقالت: اعلم أيها الملك أن ثعلبًا وذئبًا أَلِفَا وكرًا، فكانا يأويان إليه مع بعضهما، فلبثا على ذلك مدة من الزمان، وكان الذئب للثعلب قاهرًا، فاتفق أن الثعلب أشار على الذئب بالرفق وترك الفساد، وقال له: إنْ دمتَ على عتوِّك ربما سلَّطَ الله عليك ابن آدم، فإنه ذو حِيَل ومكر وخداع؛ يصيد الطير من الجو، والحوت من البحر، ويقطع الجبال وينقلها، وكل ذلك من حِيَله؛ فعليك بالإنصاف، وترك الشر والاعتساف؛ فإنه أهنأ لطعامك. فلم يقبل الذئب قوله، وأغلظ له الرد، وقال له: لا علاقةَ لك بالكلام في عظيم الأمور وجسيمها. ثم لطم الثعلبَ لطمةً فخرَّ منها مغشيًّا عليه، فلما أفاق تبسَّم في وجه الذئب واعتذر إليه من الكلام المشين، وأنشد هذين البيتين:

إِنْ كُنْتُ قَدْ أَذْنَبْتُ ذَنْبًا سَالِفًا        فِي حُبِّكُمْ وَأَتَيْتُ شَيْئًا مُنْكَرَا

أَنَا تَائِبٌ عَمَّا جَنَيْتُ وَعَفْوُكُمْ        يَسَعُ الْمُسِيءَ إِذَا أَتَى مُسْتَغْفِرَا

فقَبِل الذئب اعتذاره، وكفَّ عنه أشراره، وقال له: لا تتكلم فيما لا يعنيك، تسمع ما لا يرضيك. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 149

 

حكاية الثعلب والذئب

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الذئب قال للثعلب: لا تتكلم فيما لا يعنيك، تسمع ما لا يرضيك. فقال له الثعلب: سمعًا وطاعة، فأنا بمعزل عمَّا لا يرضيك، فقد قال الحكيم: لا تخبر عمَّا لا تُسأل عنه، ولا تُجِب ما لا تُدعَى إليه، وذَرِ الذي لا يعنيك إلى ما يعنيك، ولا تبذل النصيحة للأشرار فإنهم يجزونك عليها شرًّا. فلما سمع الذئب كلام الثعلب تبسَّم في وجهه، ولكنه أضمر له مكرًا، وقال: لا بد أن أسعى في هلاك هذا الثعلب. وأما الثعلب فإنه صبر على أذى الذئب، وقال في نفسه: إن البطر والافتراء يجلبان الهلاك، ويوقعان في الارتباك، فقد قيل: من بطر خسر، ومن جهل ندم، ومن خاف سلم، والإنصاف من شيم الأشراف، والآداب أشرف الاكتساب، ومن الرأي مُداراة هذا الباغي، ولا بد له من مصرع. ثم إن الثعلب قال للذئب: إن الربَّ يعفو ويتوب على عبده إن اقترف الذنوب، وأنا عبد ضعيف، وقد ارتكبت في نصحك التعسيف، ولو علمتَ بما حصل لي من ألم لطمتك، لَعلمتَ أن الفيل لا يقوم به ولا يقدر عليه، ولكني لا أشتكي من ألم هذه اللطمة بسبب ما حصل لي بها من السرور، فإنها وإن كانت قد بلغت مني مبلغًا عظيمًا عاقبتها سرور، وقد قال الحكيم: ضرب المؤدِّب أوله صعب شديد، وآخره أحلى من العسل المصفَّى. فقال الذئب: غفرت ذنبك، وأقلت عثرتك، فكن من قوَّتي على حذر، واعترف لي بالعبودية، فقد علمت قهري لمن عاداني. فسجد له الثعلب، وقال له: أطال الله عمرك، ولا زلت قاهرًا لمن عاداك.

ولم يزل الثعلب خائفًا من الذئب مصانعًا له، ثم إن الثعلب ذهب إلى كَرْم يومًا ما، فرأى في حائطه ثلمة فأنكرها، وقال في نفسه: إن هذه الثلمة لا بد لها من سبب، وقد قيل: مَن رأى خرقًا في الأرض فلم يجتنبه ويتوقَّ عن الإقدام عليه، كان بنفسه مُغَرًّا، وللهلاك متعرِّضًا. وقد اشتهر أن بعض الناس يعمل صورة الثعلب في الكَرْم حتى يقدم إليه العنب في الأطباق؛ لأجل أن يرى ذلك الثعلب فيقدم إليه فيقع في الهلاك، وإني أرى هذه الثلمة مكيدة، وقد قيل: إن الحذر نصف الشطارة. ومن الحذر أن أبحث عن هذه الثلمة وأنظر، لعلي أجدها أمرًا يؤدي إلى التلف، ولا يحملني الطمع على أن ألقي نفسي في الهلكة. ثم دنا منها وطاف بها وهو محاذر، فرآها، فإذا هي حفرة عظيمة قد حفرها صاحب الكَرْم ليصيد فيها الوحش الذي يفسد الكَرْم، ورأى عليها غطاءً رقيقًا، فتأخَّرَ عنها وقال: الحمد لله حيث حذرتها، وأرجو أن يقع فيها عدوي الذئب الذي نغَّص عيشي، فأستقل بالكرم وحدي، وأعيش فيه آمنًا. ثم هزَّ رأسه وضحك ضحكًا عاليًا، وأطرب بالنغمات، وأنشد هذه الأبيات:

لَيْتَنِي أَبْصَرْتُ هَذَا        الْــوَقْتَ فِي ذِي الْبِئْرِ ذِئْبَا

طَالَمَا قَدْ سَاءَ قَلْبِي        وَسَقَانِي الْمُرَّ غَصْبَا

لَيْتَنِي مِنْ بَعْدِ ذَا        أَبْــقَى وَيَقْضِي الذِّئْبُ نَحْبَا

ثُمَّ يَخْلُو الكَرْمُ مِنْهُ        وَأَرَى لِي فِيهِ نَهْبَا

فلما فرغ من شعره انطلق مسرعًا حتى وصل إلى الذئب، وقال: إن الله سهَّل لك الأمور إلى الكَرْم بلا تعب، وهذا من سعادتك، فهنيئًا لك بما فتح الله عليك، وسهَّل لك من تلك الغنيمة والرزق الواسع بلا مشقة. فقال الذئب للثعلب: وما الدليل على ما وضعت؟ قال: إني انتهيت إلى الكَرْم فوجدت صاحبه قد مات، ودخلت البستان فرأيت الأثمار زاهية على الأشجار. فلم يشكَّ الذئب في قول الثعلب، وأدركه الشره، فقام حتى انتهى إلى الثلمة وقد غرَّه الطمع، ووقف الثعلب متهافتًا كالميت، وتمثَّلَ بهذا البيت:

أَتَطَمْعُ مِنْ لَيْلَى بِوَصْلٍ وَإِنَّمَا        تَضُرُّ بِأَعْنَاقِ الرِّجَالِ الْمَطَامِعُ

فلما انتهى الذئب إلى الثلمة، قال له الثعلب: ادخل إلى الكرم فقد كُفيت مئونة هدم حائط البستان، وعلى الله تمام الإحسان. فأقبل الذئب ماشيًا يريد الدخول إلى الكرم، فلما توسَّط غطاء الثلمة وقع فيها، فاضطرب الثعلب اضطرابًا شديدًا من السرور والفرح، وزال عنه الهم والترح، وأطرب بالنغمات وأنشد هذه الأبيات:

رَقَّ الزَّمَانُ لِحَالَتِي        وَرَثَى لِطُولِ تَحَرُّقِي

وَأَنَالَنِي مَا أَشْتَهِي        وَأَزَالَ مِمَّا أَتَّقِي

فَلَأَصْفَحَنْ عَمَّا جَنَاهُ        مِنَ الذُّنُوبِ السُّبَّقِ

حَتَّى جِنَايَتُهُ بِمَا        فَعَلَ الْمَشِيبُ بِمَفْرَقِي

فَالذِّئْبُ لَيْسَ لَهُ خَلَاصٌ        مِنْ هَلَاكٍ مُوبِقِ

وَالْكَرْمُ لِي وَحْدِي وَمَا        لِي مِنْ شَرِيكٍ أَحْمَقِ

ثم إنه تطلَّع في الحفرة، فرأى الذئب يبكي ندمًا وحزنًا على نفسه، فبكى الثعلب معه، فرفع الذئب رأسه إلى الثعلب وقال له: أمن رحمتك لي بكيت يا أبا الحصين؟ قال: لا، والذي قذفك في هذه الحفرة، إنما بكيت لطول عمرك الماضي، وآسفًا على كونك لم تقع في هذه الثلمة قبل اليوم، ولو وقعت فيها قبل اجتماعي بك لَكنت أرحت واسترحت، ولكن أُبقِيت إلى أجلك المحتوم، ووقتك المعلوم. فقال له الذئب: رُح أيها المسيء في فعله لوالدتي، وأخبرها بما حصل لي، لعلَّها تحتال على خلاصي. فقال له الثعلب: لقد أوقعك في الهلاك شدة طمعك، وكثرة حرصك، حيث سقطت في حفرة لستَ منها بسالم، ألم تعلم أيها الذئب الجاهل أن صاحب المثل يقول: مَن لم يفكِّر في العواقب لم يأمن المعاطب؟ فقال الذئب للثعلب: يا أبا الحصين، إنما كنت تُظهِر محبتي، وترغب في مودتي، وتخاف من شدة قوتي، فلا تحقد عليَّ بما فعلتُ معك، فمَن قدر وعفا كان أجره على الله، وقد قال الشاعر:

ازْرَعْ جَمِيلًا وَلَوْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ        مَا ضَاعَ قَطُّ جَمِيلٌ أَيْنَمَا زُرِعَ

إِنَّ الْجَمِيلَ وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ بِهِ        فَلَيْسَ يَحْصُدُهُ إِلَّا الَّذِي زَرَعَ

فقال له الثعلب: يا أجهل السباع وأحمق الوحوش في البقاع، هل نسيتَ تجبُّرَك وعتوَّك وتكبُّرك؟ وأنت لم ترعَ حقَّ المعاشرة، ولم تنتصح بقول الشاعر:

لَا تَظْلِمَنَّ إِذَا مَا كُنْتَ مُقْتَدِرًا        إِنَّ الظَّلُومَ عَلَى حَدٍّ مِنَ النَّقَمِ

تَنَامُ عَيْنُكَ وَالْمَظْلُومُ مُنْتَبِهٌ        يَدْعُو عَلَيْكَ وَعَيْنُ اللهِ لَمْ تَنَمِ

فقال له الذئب: يا أبا الحصين، لا تؤاخذني بسابق الذنوب، فالعفو من الكرام مطلوب، وصنع المعروف من أحسن الذخائر، وما أحسن قول الشاعر:

بَادِرْ بِخَيْرٍ إِذَا مَا كُنْتَ مُقْتَدِرًا        فَلَيْسَ فِي كُلِّ حِينٍ أَنْتَ مُقْتَدِرَا

وما زال الذئب يتذلل للثعلب ويقول له: لعلك تقدر على شيء تخلِّصني به من الهلاك. فقال له الثعلب: أيها الذئب الماكر المخادع الغادر، لا تطمع في الخلاص، فإن هذا جزاء لقبيح فعلك وقصاص. ثم ضحك بالشدقين وأنشد هذين البيتين:

لَا تُكْثِرَنَّ خِدَاعِي        فَلَنْ تَنَالَ مَنَالَا

مَا رُمْتَ مِنِّي مُحَالٌ        زَرَعْتَ فَاحْصُدْ وَبَالَا

فقال الذئب للثعلب: يا حليم السباع، أنت عندي أوثق من أن تتركني في هذه الحفرة. ثم أفاض دمع العين، وأنشد هذين البيتين:

يَا مَنْ أَيَادِيهِ عِنْدِي غَيْرُ وَاحِدَةٍ        وَمَنْ مَوَاهِبُهُ تَنْمُو عَنِ الْعَدَدِ

مَا نَابَنِي مِنْ زَمَانِي قَطُّ نَائِبَةٌ        إِلَّا وَجَدْتُكَ فِيهَا آخِذًا بِيَدِي

فقال الثعلب: أيها العدو الأحمق، كيف صرت إلى التضرُّع والخشوع، والذلة والخضوع، بعد الأنفة والتكبُّر، والظلم والتجبُّر؟ لقد صحبتك خائفًا من عدوانك، وتملقت لك لا رغبة في إحسانك، والآن نزلت بك الرجفة وحلَّت بك النقمة. وأنشد هذين البيتين:

يَا أَيُّهَا الْمُلْتَمِسُ الْخَدِيعَةْ        وَقَعْتَ فِي نِيَّتِكَ الشَّنِيعَةْ

فَذُقْ وَبَالَ الْمِحْنَةِ الْفَظِيعَةْ        وَكُنْ مَعَ الذِّئَابِ فِي قَطِيعَةْ

فقال له الذئب: أيها الحليم، لا تكن بلسان العداوة ناطقًا وبعينها محدِّقًا، وكن وافيًا بعهد ائتلافي قبل أن يفوت وقت التلاقي، وقم وتسبَّب لي في حبلٍ تشدُّ طرْفَه في شجرة، وتدلِّي طرفه الآخر إليَّ حتى أتعلَّق به، لعلي أنجو مما أنا فيه، وأدفع لك جميع ما حوته يدي من الذخائر. فقال له الثعلب: لقد أكثرتَ من المحاورة فيما ليس فيه خلاصك، فلا ترجُ مني نجاةَ نفسك، واذكر ما سلف من سوء فعلك، وما تُضمِره لي من الغدر والمكر، وأين أنت من الرجم بالحجارة؟ واعلم بأن ذاتك للدنيا مفارقة، ومنها زائلة، وعنها راحلة، ثم تصير إلى الدمار وسوء الدار. فقال له الذئب: يا أبا الحصين، كن قريب الرجوع إلى الوداد، ولا تصرَّ على ضغائن الأحقاد، واعلم أن مَن خلَّص نفسًا من الهلاك فقد أحياها، ومَن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا، ولا تتبع الفساد؛ فإن الحكماء تكرهه، ولا فساد أظهر من كوني في تلك الحفرة أتجرع غصص الموت، وأنظر إلى الهلاك وأنت قادر على خلاصي من الارتباك. فقال له الثعلب: أيها الفظ الغليظ، إني أشبِّهك في حسن علانيتك وقبح نيتك بالباز مع الحَجَل. قال له الذئب: وما حديث الباز والحجل؟ قال الثعلب: دخلتُ يومًا كَرْمًا لآكل من عنبه، فبينما أنا فيه إذ رأيت بازًا انقضَّ على حجل، فلما اقتنصه انفلت منه الحجل ودخل وَكْره واختفى فيه، فتبعه الباز وناداه: أيها الجاهل إني رأيتك في البرية جائعًا فرحمتك، والتقطت لك حبًّا وأمسكتك لتأكل فهربت مني، ولم أعرف لهروبك وجهًا إلا الحرمان، فاظهر وخذ ما آتيتك من الحب فكُلْه هنيًّا مريئًا. فلما سمع الحجل قول الباز صدَّقه وخرج إليه، فأنشب مخالبه فيه ومكَّنها منه. فقال له الحَجَل: أهذا الذي ذكرتَ أنك أتيتني به من البرية وقلت لي كله هنيًّا مريئًا، فكذبتَ عليَّ؟ جعل الله ما تأكله من لحمي في جوفك سمًّا قاتلًا. فلما أكله وقع ريشه، وسقطت قوته، ومات لوقته.

ثم قال له الثعلب: اعلم أيها الذئب أن مَن حفر لأخيه قليبًا وقع فيه قريبًا، وأنت غدرتَ بي أولًا. فقال الذئب للثعلب: دعني من هذا المقال وضرب الأمثال، ولا تذكر لي ما سلف مني من قبيح الفعال، يكفيني ما أنا فيه من سوء الحال؛ حيث وقعت في ورطة يرثي لي منها العدو فضلًا عن الصديق، وانظر لي حيلة أتخلَّص بها، وكن فيها غياثي، وإن كان عليك في ذلك مشقة، فقد يحتمل الصديق لصديقه أشد النصب، ويقاسي فيما فيه نجاته العطب، وقد قيل: إن الصديق الشفيق خير من الأخ الشقيق، وإن تسببتَ في نجاتي لَأجمعن لك من الآلة ما يكون لك عدة، ثم لَأعلمنك من الحِيَل الغريبة ما تفتح به الكروم الخصبة، وتجني الأشجار المثمرة، فطِبْ نفسًا وقرَّ عينًا. فقال له الثعلب وهو يضحك: ما أحسن ما قالته العلماء في كثير الجهل مثلك! قال الذئب: وما قالت العلماء؟ قال الثعلب: ذكر العلماء أن الغليظ الجثة، الغليظ الطبع، يكون بعيدًا من العقل قريبًا من الجهل؛ لأن قولك أيها الماكر الأحمق «قد يتحمَّل الصديقُ المشقةَ في تخليص صديقه»؛ صحيحٌ كما ذكرتَ، ولكن عرِّفني بجهلك وقلة عقلك كيف أصادقك مع خيانتك؟ أحسبتني لك صديقًا وأنا لك عدو شامت؟ وهذا الكلام أشد من رشق السهام إن كنت تعقل. وأما قولك إنك تعطيني من الآلات ما يكون عدة لي، وتعلمني من الحِيَل ما أصل به إلى الكروم المخصبة، وأجتني به الأشجار المثمرة، فما لك أيها المخادع الغادر لا تعرف لك حيلة تتخلص بها من الهلاك؟ فما أبعدك من المنفعة لنفسك، وما أبعدني من القبول لنصيحتك! فإن كان عندك حِيَلٌ فتحيَّلْ لنفسك في الخلاص من هذا الأمر، الذي أسأل الله أن يبعد خلاصك منه، فانظر أيها الجاهل إن كان عندك حيلة، فخلص نفسك بها من القتل قبل أن تبذل التعليم لغيرك، ولكنك مثل إنسان حصل له مرض فأتاه رجل مريض بمثل مرضه ليداويه، فقال له: هل لك أن أداويك من مرضك؟ فقال له الرجل: هلَّا بدأتَ بنفسك في المداواة! فتركه وانصرف. وأنت أيها الذئب كذلك، فالزم مكانك، واصبر على ما أصابك.

فلما سمع الذئب كلام الثعلب علم أنه لا خير له عنده، فبكى على نفسه وقال: قد كنت في غفلة من أمري، فإن خلَّصني الله من هذا الكرب لأتوبنَّ من تجبُّري على مَن هو أضعف مني، ولَألبسنَّ الصوف، ولأصعدنَّ الجبلَ ذاكرًا الله تعالى، خائفًا من عقابه، وأعتزل سائرَ الوحوش، ولأُطعِمنَّ المجاهدين والفقراء. ثم بكى وانتحب، فرَقَّ له قلب الثعلب، وكأنه لما سمع تضرُّعه، والكلام الذي يدل على توبته من العتو والتكبُّر، أخذته الشفقة عليه، فوثب من فرحته، ووقف على شفير الحفرة، ثم جلس على رجليه وأدلى ذَنَبه في الحفرة، فعند ذلك قام الذئب ومدَّ يده إلى ذَنَب الثعلب وجذبه إليه، فصار في الحفرة معه، ثم قال له الذئب: أيها الثعلب القليل الرحمة، كيف تشمت بي وقد كنتَ صاحبي وتحت قهري؟ وقد وقعت معي في الحفرة، وتعجلت لك العقوبة، وقد قالت الحكماء: لو عايَرَ أحدكم أخاه برضاع كلبة لارتضعها. وما أحسن قول الشاعر:

إِذَا مَا الدَّهْرُ جَرَّ عَلَى أُنَاسٍ        كَلَاكِلَهُ أَنَاخَ بِآخَرِينَا

فَقُلْ لِلشَّامِتِينَ بِنَا: أَفِيقُوا        سَيَلْقَى الشَّامِتُونَ كَمَا لَقِينَا

ثم قال الذئب للثعلب: فلا بد أن أعجِّل قتلك قبل أن ترى قتلي. فقال الثعلب في نفسه: إني وقعت مع هذا الجبار، وهذا الحال يحتاج إلى المكر والخداع، وقد قيل: إن المرأة تصوغ حليها ليوم الزينة. وفي المثل: ما ادَّخرتُكِ يا دمعتي إلا لشدَّتي. وإن لم أتحيَّل في أمر هذا الوحش الظالم هلكتُ لا محالةَ، وما أحسن قول الشاعر:

عِشْ بِالْخِدَاعِ فَأَنْتَ فِي        زَمَنٍ بَنُوهُ كَأُسْدِ بِيشَهْ

وَأَدِرْ قَنَاةَ الْمُكْرِ حَتَّى        تَسْتَدِيرَ رَحَى الْمَعِيشَهْ

وَاجْنِ الثِّمَارَ فَإِنْ تَفُتْكَ        فَرَضِّ نَفْسَكَ بِالْحَشِيشَهْ

ثم إن الثعلب قال للذئب: لا تعجل عليَّ بالقتل فتندم أيها الوحش الصنديد، صاحب القوة والبأس الشديد، وإن تمهلت وأمعنت النظر فيما أحكيه لك عرفتَ قصدي الذي قصدته، وإن عجَّلتَ بقتلي فلا فائدةَ لك فيه، ونموت جميعًا ها هنا. فقال له الذئب: أيها الخادع الماكر، وما الذي ترجوه من سلامتي وسلامتك حتى تسألني التمهُّلَ عليك؟ فأخبرني بقصدك الذي قصدته. فقال له الثعلب: أما قصدي الذي قصدته فما ينبغي أن تحسن عليه مجازاتي؛ لأني سمعت ما وعدت من نفسك، واعترافك بما سلف منك، وتلهُّفك على ما فاتك من التوبة وفعل الخير، وسمعت ما نذرته على نفسك من كفِّ الأذى عن الأصحاب وغيرهم، وتركك أكل العنب وسائر الفواكه، ولزومك الخشوع، وتقليم أظفارك، وتكسير أنيابك، وأن تلبس الصوف، وتقرب القربان لله تعالى إنْ نجَّاك مما أنت فيه؛ أخذتني الشفقة عليك، مع أنني كنت على هلاكك حريصًا، فلما سمعت منك توبتك وما نذرته على نفسك إن نجاك الله لزمني خلاصك مما أنت فيه، فأدليت إليك ذَنَبي لكيما تتعلق به وتنجو، فلم تترك الحالة التي أنت عليها من العنف والشدة، ولم تلتمس النجاة والسلامة لنفسك بالرفق، بل جذبتني جذبةً ظننتُ منها أن روحي قد خرجت، فصرت أنا وأنت في منزلة الهلاك والموت، وما ينجِّيني أنا وأنت إلا شيء إنْ قبلته مني خلصت أنا وأنت، وبعد ذلك يجب عليك أن تفي بما نذرته، وأكون رفيقك. فقال له الذئب: وما الذي أقبله منك؟ قال له الثعلب: تنهض قائمًا، ثم أعلو أنا فوق رأسك حتى أكون قريبًا من ظاهر الأرض، فإني حين أصير فوقها أخرج وآتيك بما تتعلق به، وتخلص أنت بعد ذلك. فقال له الذئب: لست بقولك واثقًا؛ لأن الحكماء قالوا: مَن استعمل الثقة في موضع الحقد كان مخطئًا. وقيل: مَن وثق بغير ثقة كان مغرورًا، ومَن جرَّب المجرَّب حلَّتْ به الندامة، ومَن لم يفرِّق بين الحالات فيعطي كلَّ حالة حظها، بل حمل الأشياء كلها على حالة واحدة؛ قلَّ حظه، وكثُرت مصائبه، وما أحسن قول الشاعر:

لَا يَكُنْ ظَنُّكَ إِلَّا سَيِّئًا إنَّ        سُوءَ الظَّنِّ مِنْ أَقْوَى الْفِطَنْ

مَا رَمَى الْإِنْسَانَ فِي مَهْلَكَةٍ        مِثْلُ فِعْلِ الْخَيْرِ وَالظَّنُّ الْحَسَنْ

وقول الآخَر:

أَلْزِمْ يَقِينَكَ سُوءَ الظَّنِّ تَنْجُ بِهِ        مَنْ عَاشَ مُسْتَيْقِظًا قَلَّتْ مَصَائِبُهُ

وَالْقَ الْعَدُوَّ بِوَجْهٍ بَاسِمٍ طَلْقٍ        وَانْصُبْ لَهُ فِي الْحَشَى جَيْشًا يُحَارِبُهُ

وقول الآخر:

أَعْدَى عَدُوِّكَ أَدْنَى مَنْ وَثِقْتَ بِهِ        فَحَاذِرِ النَّاسَ وَاصْحَبْهُمْ عَلَى دَخَلِ

وَحُسْنُ ظَنِّكَ بِالْأَيَّامِ مُعْجِزَةٌ        فَظُنَّ شَرًّا وَكُنْ مِنْهَا عَلَى وَجَلِ

فقال له الثعلب: إن سوء الظن ليس محمودًا في كل حال، وحسن الظن من شيم الكمال، وعاقبته النجاة من الأهوال، وينبغي لك أيها الذئب أن تتحيَّل على النجاة مما أنت فيه، ونسلم جميعًا خير من موتنا، فارجع عن سوء الظن والحقد؛ لأنك إن أحسنتَ الظن بي لا أخلو من أحد أمرين؛ إما أن آتيك بما تتعلَّق به وتنجو مما أنت فيه، وإما أن أغدر بك فأخلص وأدعك، وهذا مما لا يمكن؛ فإني لا آمن أن أُبتلَى بشيء مما ابتُلِيتَ به، فيكون ذلك عقوبةَ الغدر، وقد قيل في الأمثال: الوفاء مليح والغدر قبيح. فينبغي أن تثق بي، فإني لم أكن جاهلًا بحوادث الدهر، فلا تؤخر حيلة خلاصنا؛ فالأمر أضيق من أن نطيل فيه الكلام.

فقال الذئب: إني مع قلة ثقتي بوفائك قد عرفت ما في خاطرك، من أنك أردت خلاصي لما عرفت توبتي، فقلت في نفسي: إن كان محقًّا فيما زعم فإنه استدرك ما أفسد، وإن كان مبطلًا فجزاؤه على ربه. وها أنا أقبل منك ما أشرتَ به عليَّ، فإن غدرتَ بي كان الغدر سببًا لهلاكك. ثم إن الذئب انتصَبَ قائمًا في الحفرة، وأخذ الثعلب على أكتافه حتى ساوى به ظاهر الأرض، فوثب الثعلب عن أكتاف الذئب حتى صار على وجه الأرض، ووقع مغشيًّا عليه. فقال له الذئب: يا خليلي لا تغفل عن أمري، ولا تؤخر خلاصي. فضحك الثعلب وقهقه وقال: أيها المغرور، لم يوقعني في يدك إلا المزح معك، والسخرية بك، وذلك أني لما سمعت توبتك استخفني الفرح فطربت ورقصت، فتدلى ذَنَبي في الحفرة فجذبتني فوقعت عندك، ثم أنقذني الله تعالى من يدك، فما لي لا أكون عونًا على هلاكك وأنت من حزب الشيطان؟ واعلم أنني رأيت البارحة في منامي أني أرقص في عرسك، فقصصت الرؤيا على مُعبِّرٍ فقال لي: إنك تقع في ورطة وتنجو منها. فعلمت أن وقوعي في يدك ونجاتي هو تأويل رؤياي، وأنت تعلم أيها المغرور الجاهل أني عدوك، فكيف تطمع بقلة عقلك وجهلك في إنقاذي إياك مع ما سمعت من غلظ كلامي؟ وكيف أسعى في نجاتك وقد قالت العلماء: إن في موت الفاجر راحة للناس، وتطهيرًا للأرض؟ ولولا مخافة أن أحتمل من الألم في الوفاء لك ما هو أعظم من ألم الغدر؛ لتدبَّرت في خلاصك. فلما سمع الذئب كلام الثعلب، عضَّ على كفِّه ندمًا. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 150

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الذئب لما سمع كلام الثعلب عض على كفِّه ندمًا، ثم ليَّن له الكلام، ولم يجد بدًّا من ذلك، وقال له بلسان خافت: إنكم معاشر الثعالب من أحلى القوم لسانًا، وألطفها مزاحًا، وهذا منك مزاح، ولكن ما كل وقت يحسُن اللعب والمزاح. فقال الثعلب: أيها الجاهل، إن للمزاح حدًّا لا يجاوزه صاحبه، فلا تحسب أن الله يمكِّنك مني بعد أن أنقذني من يديك. فقال له الذئب: إنك لجدير أن ترغب في خلاصي لما بيننا من سابق المؤاخاة والصحبة، وإن خلَّصتني فلا بد أن أحسن مكافأتك. فقال الثعلب: قد قالت الحكماء: لا تؤاخِ الجاهل الفاجر فإنه يشينك ولا يزينك، ولا تؤاخِ الكذاب فإنه إن بدا منك خير أخفاه، وإن بدا منك شر أفشاه. وقالت الحكماء: لكل شيء حيلة إلا الموت، وقد يُصلَح كل شيء إلا فساد الجوهر، وقد يُدفَع كل شيء إلا القدر. وأما من جهة المكافأة التي زعمت أني أستحقها منك، فإني شبهتك في مكافأتك بالحية الهاربة من الحاوي؛ إذ رآها رجل وهي مرعوبة فقال لها: ما شأنك أيتها الحية؟ قالت: هربت من الحاوي فإنه يطلبني، ولئن أنجيتني منه وأخفيتني عندك لَأحسنن مكافأتك، وأصنع معك كل جميل. فأخذها اغتنامًا للأجر، وطمعًا في المكافأة، وأدخلها في جيبه. فلما فات الحاوي ومضى إلى حال سبيله وزال عنها ما كانت تخافه، قال لها الرجل: أين المكافأة؟ فقد أنجيتك مما تخافين وتحذرين. فقالت له الحية: أخبرني في أي عضو أنهشك؟ وقد علمت أننا لا نتجاوز هذه المكافأة. ثم نهشته نهشة مات منها، وأنت أيها الأحمق شبهتك بتلك الحية مع ذلك الرجل، أما سمعت قول الشاعر:

لَا تَأْمَنَنَّ فَتًى أَسْكَنْتَ مُهْجَتَهُ        غَيْظًا وَتَحْسَبُ أَنَّ الْغَيْظَ قَدْ زَالَا

إِنَّ الْأَفَاعِيَ وَإِنْ لَانَتْ مَلَامِسُهَا        تُبْدِي الْعِطَافَ وَتُخْفِي السُّمَّ قَتَّالَا

فقال له الذئب: أيها الفصيح صاحب الوجه المليح، لا تجهل حالي وخوف الناس مني، وقد علمت أني أهجم على الحصون، وأقلع الكروم، فافعل ما أمرتك به، وقم بي قيام العبد بسيده. فقال له الثعلب: أيها الأحمق الجاهل المحاول بالباطل، إني تعجبت من حماقتك وصلابة وجهك فيما تأمرني به من خدمتك، والقيام بين يديك حتى كأنني عبدك، ولكن سوف ترى ما يحل بك من شرخ رأسك بالحجارة، وكسر أنيابك الغدَّارة. ثم وقف الثعلب على تلٍّ يشرف على الكرم، ولم يزل يصيح لأهل الكرم حتى بصروا به، وأقبلوا عليه مسرعين، فثبت لهم الثعلب حتى قربوا منه ومن الحفرة التي فيها الذئب، ثم ولى الثعلب هاربًا، فنظر أصحاب الكرم في الحفرة، فلما رأوا فيها الذئب وقعوا عليه بالحجارة الثقال، ولم يزالوا يضربونه بالحجارة والخشب، ويطعنونه بأسنَّة الرماح حتى قتلوه وانصرفوا، فرجع الثعلب إلى تلك الحفرة ووقف على مقتل الذئب فرآه ميتًا، فحرَّك رأسه من شدة الفرحات، وأنشد هذه الأبيات:

أَوْدَى الزَّمَانُ بِنَفْسِ الذِّئْبِ فَاخْتُطِفَتْ        بُعْدًا وَسُحْقًا لَهَا مِنْ مُهْجَةٍ تَلِفَتْ

فَكَمْ سَعَيْتَ أَبَا سَرْحَانَ فِي تَلَفِي        فَالْيَوْمَ حَلَّتْ بِكَ الْآفَاتُ وَالْتَهَبَتْ

وَقَعْتَ فِي حُفْرَةٍ مَا حَلَّهَا أَحَدٌ        إِلَّا وَفِيهَا رِياحُ الْمَوْتِ قَدْ عَصَفَتْ

ثم إن الثعلب أقام بالكرم وحده مطمئنًّا لا يخاف ضررًا. وهذا ما كان من حديث الذئب والثعلب.

 

حكاية الفأرة وبنت عرس

ومما يُحكَى أن فأرة وبنت عرس كانتا تنزلان منزلًا لبعض الناس، وكان ذلك الرجل فقيرًا، وقد مرض بعض أصدقائه فوصف له الطبيب السمسم المقشور، فأعطى قدرًا من السمسم لذلك الرجل الفقير ليقشِّره له، فأعطاه ذلك الرجل لزوجته وأمرها بإصلاحه، فقشرته تلك المرأة له وأصلحته، فلما عاينت بنت عرس السمسم أتت إليه، ولم تزل تنقل من ذلك السمسم إلى جحرها طول يومها حتى نقلت أكثره، وجاءت المرأة فرأت نقصان السمسم واضحًا، فجلست ترصد مَن يأتي إليه حتى تعلم سبب نقصانه، فنزلت بنت عرس لتنقل منه على عادتها، فرأت المرأة جالسة فعلمت أنها ترصدها، فقالت في نفسها: إن لهذا الفعل عواقب ذميمة، وإني أخشى من تلك المرأة أن تكون لي بالمرصاد، ومَن لم ينظر في العواقب ما الدهر له بصاحب، ولا بد لي أن أعمل عملًا حسنًا أظهر به براءتي من جميع ما عملته من القبيح. فجعلت تنقل من ذلك السمسم الذي في جحرها، فرأتها المرأة وهي تفعل ذلك، فقالت في نفسها: ما هذه سبب نقصه؛ لأنها تأتي به من جحر الذي اختلسه وتضعه على بعضه، وقد أحسنت إلينا في رد السمسم، وما جزاء من أحسن إلا أن يُحسَن إليه، وليست هذه آفة في السمسم، ولكن لا أزال أرصده حتى يقع وأعلم مَن هو. فعلمت بنت عرس ما خطر ببال تلك المرأة، فانطلقت إلى الفأرة فقالت لها: يا أختي، إنه لا خير فيمَن لا يرعى المجاورة، ولا يثبت على المودة. فقالت الفأرة: نعم يا خليلتي، وأنعِم بك وبجوارك! فما سبب هذا الكلام؟ قالت بنت عرس: إن رب البيت أتى بسمسم فأكل منه هو وعياله وشبعوا، واستغنوا عنه وتركوه، وقد أخذ منه كلُّ ذي روح، فلو أخذتِ أنتِ الأخرى كنت أحق به ممَّن يأخذ منه. فأعجب الفأرة ذلك، ورقصت ولعبت ذَنَبها، وغرَّها الطمع في السمسم، فقامت من وقتها وخرجت من بيتها، فرأت السمسم مقشورًا يلمع من البياض، والمرأة جالسة ترصده، فلم تفكر الفأرة في عاقبة الأمر، وكانت المرأة قد استعدت بهراوة، فلم تتمالك الفأرة نفسها حتى دخلت في السمسم، وعاشت فيه وصارت تأكل منه، فضربتها المرأة بتلك الهراوة فشجَّت رأسها، وكان الطمع سبب هلاكها وغفلتها عن عواقب الأمور.

فقال الملك: يا شهرزاد، والله إن هذه حكاية مليحة، فهل عندك حديث في حسن الصداقة والمحافظة عليها عند الشدة في التخلُّص من الهلكة؟ قالت: نعم.

 

حكاية الغراب والسنور

بلغني أن غرابًا وسنَّورًا كانا متآخيَيْن، فبينما هما تحت الشجرة على تلك الحالة؛ إذ رأيا نمرًا مقبلًا على تلك الشجرة التي كانا تحتها، ولم يعلما به حتى صار قريبًا من الشجرة، فطار الغراب إلى أعلى الشجرة، وبقي السنَّور متحيرًا، فقال للغراب: يا خليلي، هل عندك حيلة في خلاصي كما هو الرجاء فيك؟ فقال له الغراب: إنما يُلتمَس الإخوة عند الحاجة إليهم في الحيلة عند نزول المكروه بهم، وما أحسن قول الشاعر:

إِنَّ صَدِيقَ الْحَقِّ مَنْ كَانَ مَعَكْ        وَمَنْ يَضُرُّ نَفْسَهُ لِيَنْفَعَكْ

وَمَنْ إِذَا رَيْبُ الزَّمَانِ صَدَعَكْ        شَتَّتَ فِيكَ نَفْسَهُ لِيَجْمَعَكْ

وكان قريبًا من الشجرة رعاة معهم كلاب، فذهب الغراب حتى ضرب بجناحه وجه الأرض، ونعق وصاح، ثم تقدَّمَ إليهم وضرب بجناحه وجه بعض الكلاب وارتفع قليلًا، وتبعته الكلاب وسارت في إثره، ورفع الراعي رأسه فرأى طائرًا يطير قريبًا من الأرض ويقع فتبعه، وصار الغراب لا يطير إلا بقدر التخلص من الكلاب، ويطمعها في أن تفترسه، ثم ارتفع قليلًا، وتبعته الكلاب حتى انتهى إلى الشجرة التي تحتها النمر، فلما رأت الكلاب النمر وثبت عليه فولَّى هاربًا، وكان يظن أنه يأكل السنَّور، فنجا منه ذلك السنور بحيلة الغراب صاحبه، وقد أخبرتك بهذا أيها الملك لتعلم أن مودة إخوان الصفاء تنجِّي من الهلكات.

 

حكاية الثعلب والغراب

وحُكِي أن ثعلبًا سكن في بيت في الجبل، وكان كلما ولد ولدًا واشتدَّ ولده أكله من الجوع، وإن لم يأكل ولده أضرَّ به الجوع، وكان يأوي إلى ذروة ذلك الجبل غراب، فقال الثعلب في نفسه: أريد أن أعقد بيني وبين هذا الغراب مودة، وأجعله لي مؤنسًا على الوحدة معاونًا على طلب الرزق؛ لأنه يقدر من ذلك على ما لا أقدر عليه. فدنا الثعلب من الغراب حتى صار قريبًا منه بحيث يسمع كلامه، فسلَّم عليه ثم قال له: يا جاري، إن للجار المسلم على الجار المسلم حقَّين؛ حق الجيرة، وحق الإسلام، واعلم بأنك جاري ولك عليَّ حقٌّ يجب قضاؤه، خصوصًا مع طول المجاورة، على أن في صدري وديعة من محبتك دعتني إلى ملاطفتك، وبعثتني على التماس أخوَّتك، فما عندك من الجواب؟ فقال الغراب للثعلب: اعلم أن خير القول أصدقه، وربما تتحدث بلسانك ما ليس في قلبك، وأخشى أن تكون أخوَّتك باللسان ظاهرًا، وعداوتك في القلب؛ لأنك آكل وأنا مأكول، فوجب لنا التباين في المحبة، ولا يمكن مواصلتنا، فما الذي دعاك إلى طلب ما لا ندرك، وإرادة ما لا يكون، وأنت من جنس الوحوش وأنا من جنس الطير، وهذه الأخوة لا تصح. فقال له الثعلب: إن من علم موضع الأخلاء فأحسن الاختيار فيما يختاره منها ربما يصل إلى منافع الإخوان، وقد أحببت قربك، واخترت الأنس بك؛ ليكون بعضنا عونًا لبعض على أغراضنا، وتُعقَب مودتنا نجاحًا، وعندي حكايات في حسن الصداقة إن أردت أن أحكيها حكيتها لك. فقال الغراب: أذنت لك في أن تبثها، فحدثني بها حتى أعرف المراد منها.

فقال له الثعلب: اسمع يا خليلي، يُحكَى عن برغوث وفأرة ما يُستدَل به على ما ذكرته لك. فقال الغراب: وكيف كان ذلك؟ فقال الثعلب: زعموا أن فارة كانت في بيت رجل من التجار كثير المال، فأوى البرغوث ليلةً إلى فراش ذلك التاجر، فرأى بدنًا ناعمًا، وكان البرغوث عطشانًا فشرب من دمه، ووجد التاجر من البرغوث ألمًا، فاستيقظ من النوم واستوى قاعدًا، ونادى بعض أتباعه فأسرعوا إليه، وشمَّروا عن أيديهم يطوفون على البرغوث؛ فلما أحس البرغوث بالطلب ولَّى هاربًا، فصادف جحر الفأرة فدخله، فلما رأته الفأرة قالت له: ما الذي أدخلك عليَّ ولستَ من جوهري ولا من جنسي، ولست بآمن من الغلظة عليك ولا مضارتك؟ فقال لها البرغوث: إني هربت إلى منزلك وفزت بنفسي من القتل، وأتيتك مستجيرًا بك، ولا طمع لي في بيتك، ولا يلحقك مني شر يدعوك إلى الخروج من منزلك، وإني أرجو أن أكافئك على إحسانك إليَّ بكل جميل، وسوف تحمدين عاقبة ما أقول لك. فلما سمعت الفأرة كلام البرغوث … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

 

 

 

السابق                                                                     التــــالي←

 

 

Read our comment Policy to know your rights & responsibilities before actually leaving a comment for this article.

Post a Comment (0)