﴿اللیلة 451﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية لما وصفت للطبيب العلامات الظاهرة قال لها:
أحسنتِ، فما العلامات الباطنة؟ قالت: إن الوقوف على الأمراض بالعلامات الباطنة
يُؤخَذ من ستة قوانين: الأول من الأفعال، والثاني مما يُستفرَغ من البدن، والثالث
من الوجع، والرابع من الموضع، والخامس من الورم، والسادس من الأعراض. قال: أخبريني
بِمَ يصل الأذى إلى الرأس؟ قالت: بإدخال الطعام على الطعام قبل هضم الأول، والشبع
على الشبع؛ فهو الذي أفنى الأمم، فمَن أراد البقاء فَلْيباكر بالغداء، ولا يتمسَّ
بالعشاء، وليقلَّ من مجامعة النساء، وليخفِّف الردى؛ أيْ لا يُكثِر الفصد ولا
الحجامة، وأن يجعل بطنه ثلاثة أثلاث: ثلث للطعام، وثلث للماء، وثلث للنفس؛ لأن
مصران بني آدم ثمانية عشر شبرًا، يجب أن يجعل ستة للطعام، وستة للشراب، وستة
للنفس، وإذا مشى برفق كان أوفق له، وأجمل لبدنه، وأكمل لقوله تعالى: وَلَا تَمْشِ
فِي الْأَرْضِ مَرَحًا (الإسراء: ٣٧). قال: أحسنتِ، فأخبريني ما علامة
الصفراء، وماذا يُخاف منها؟ قالت: تُعرَف بصفرة اللون، ومرارة الفم، والجفاف، وضعف
الشهوة، وسرعة النبض، ويخاف صاحبها من الحمى المحرقة، والسرسام، والجمرة،
واليرقان، والورم، وقروح الأمعاء، وكثرة العطش؛ فهذه علامات الصفراء. قال: أحسنتِ،
فأخبريني عن علامات السوداء، وماذا يُخاف على صاحبها إذا غلبَتْ على البدن؟ قالت:
إنها تتولد منها الشهوة الكاذبة، وكثرة الوسوسة، والهم والغم، فينبغي حينئذٍ أن تُستفرَغ،
وإلا تولَّدَ منها الماليخوليا، والجذام، والسرطان، وأوجاع الطحال، وقروح الأمعاء.
قال:
أحسنتِ، فأخبريني إلى كم جزء ينقسم الطب؟ قالت: ينقسم إلى جزأين؛ أحدهما علم تدبير
الأبدان المريضة، والآخَر كيفية ردها إلى حال صحتها. قال: فأخبريني عن وقتٍ يكون
شرب الأدوية فيه أنفع منه في غيره؟ قالت: إذا جرى الماء في العود، وانعقد الحب في
العنقود، وطلع سعد السعود، فقد دخل وقت نَفْع شرب الدواء وطَرْد الداء. قال:
فأخبريني عن وقتٍ إذا شرب فيه الإنسان من إناء جديد يكون شرابه أهنأ وأمرأ منه في
غيره، وتصعد له رائحة طيبة زكية. قالت: إذا صبر بعد أكل الطعام ساعة، فقد قال
الشاعر:
لَا
تَشْرَبَنْ مِنْ بَعْدِ أَكْلِكَ عَاجِلًا
فَتَسُوقَ جِسْمَكَ لِلْأَذَى بِزِمَامِ
وَاصْبِرْ
قَلِيلًا بَعْدَ أَكْلِكَ سَاعَةً فَعَسَاكَ
تَظْفَرُ يَا أَخِي بِمُرَامِ
قال:
فأخبريني عن طعام لا تتسبَّب عنه أسقام. قالت: هو الذي لا يُطعَم إلا بعد الجوع،
وإذا طُعم لا تمتلئ منه الضلوع، لقول جالينوس الحكيم: مَن أراد إدخال الطعام
فَلْيُبْطِئ، ثم لا يُخْطِئ. ولنختم بقوله عليه الصلاة والسلام: «المعدة بيت
الداء، والحمية رأس الدواء، وأصل كل داء البردة» يعني التخمة. وأدرك شهرزاد الصباح
فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 452﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية لما قالت للحكيم: «المعدة بيت الداء، والحمية
رأس الدواء …» الحديث. قال لها: فما تقولين في الحمَّام؟ قالت: لا يدخله شبعان،
وقد قال النبي ﷺ: «نِعْمَ
البيت الحمام، ينظِّف الجسد، ويذكر النار» قال: فأي الحمامات أحسن ماءً؟ قالت: ما
عَذُب ماؤه، واتَّسَع فضاؤه، وطاب هواؤه، بحيث تكون أهويته أربعة: خريفي، وصيفي،
وشتوي، وربيعي. قال: فأخبريني أي الطعام أفضل؟ قالت: ما صنعَتِ النساء، وقلَّ فيه
الفناء، وأكلته بالهناء، وأفضل الطعام الثريد لقوله عليه الصلاة والسلام: «فضل
الثريد على الطعام كفضل عائشة على سائر النساء» قال: فأي الأُدم أفضل؟ قالت:
اللحم، لقوله عليه الصلاة والسلام: «أفضل الأُدم اللحم؛ لأنه لذة الدنيا والآخرة»
قال: فأي اللحم أفضل؟ قالت: الضأن، ويُجتنب القديد؛ لأنه لا فائدة فيه. قال:
فأخبريني عن الفاكهة. قالت: كُلْها في إقبالها، واتركها إذا انقضى زمانها. قال:
فما تقولين في شرب الماء؟ قالت: لا تشربه شربًا، ولا تعبه عبًّا فإنه يؤذيك صداعه،
ويشوش عليك من الأذى أنواعه، ولا تشربه عقب خروجك من الحمام، ولا عقب الجماع، ولا
عقب الطعام، إلا بعد مُضِي خمس عشرة درجة للشاب، وللشيخ بعد أربعين درجة، ولا عقب
يقظتك من المنام. قال: أحسنتِ، فأخبريني عن شرب الخمر؟ قالت: أَفَلَا يكفيك زاجرًا
ما جاء في كتاب الله تعالى حيث قال: إِنَّمَا
الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ
الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (المائدة: ٩٠)، وقال
تعالى: يَسْأَلُونَكَ
عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ
وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا (البقرة: ٢١٩)، وقد قال الشاعر:
يَا
شَارِبَ الْخَمْرِ أَمَا تَسْتَحِي تَشْرَبُ
شَيْئًا حَرَّمَ اللهُ
فَخَلِّهِ
عَنْكَ وَلَا تَأْتِهِ فَفِيهِ
حَقًّا عَنَّفَ اللهُ
وقال
آخر في المعنى:
شَرِبْتُ
الْإِثْمَ حَتَّى زَالَ عَقْلِي فَبِئْسَ
الشُّرْبُ حَيْثُ الْعَقْلُ زَالَا
وأما
المنافع التي فيها، فإنها تفتِّت حصى الكلى، وتقوِّي الأمعاء، وتنفي الهم، وتحرك
الكرم، وتحفظ الصحة، وتعين على الهضم، وتصح البدن، وتُخرِج الأمراض من المفاصل،
وتنقِّي الجسم من الأخلاط الفاسدة، وتولِّد الطرب والفرح، وتقوِّي الغريزية، وتشد
المثانة، وتقوِّي الكبد، وتفتح السدد، وتحمِّر الوجه، وتنقِّي الفضلات من الرأس
والدماغ، وتبطئ بالمشيب، ولولا الله عز وجل حرَّمها، لم يكن على وجه الأرض ما يقوم
مقامها؛ وأما الميسر فهو القمار. قال: فأي شيء من الخمر أحسن؟ قالت: ما كان بعد
ثمانين يومًا أو أكثر، وقد اعتُصِر من عنب أبيض، ولم يَشُبْه ماءٌ، ولا شيءَ على
وجه الأرض مثلها. قال: فما تقولين في الحجامة؟ قالت: ذلك لِمَن كان ممتلئًا من
الدم، وليس به نقصان في دمه، فمَن أراد الحجامة فَلْيحتجم في نقصان الهلال في يوم
هو بلا غيم ولا ريح ولا مطر، ويكون في السابع عشر من الشهر، وإنْ وافَقَ يوم
الثلاثاء كان أبلغ في النفع، ولا شيء أنفع من الحجامة للدماغ والعينين وتصفية
الذهن. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 453﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية لما وصفت منافع الحجامة قال لها الحكيم:
أخبريني عن أحسن الحجامة. قالت: أحسنها على الريق؛ فإنها تزيد في العقل وفي الحفظ،
لما رُوِي عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان ما اشتكى إليه أحدٌ وجعًا في رأسه أو
رجليه إلا قال له: احتجم. وإذا احتجم لا يأكل على الريق مالحًا؛ فانه يورث الجرب،
ولا يأكل على إثره حامضًا. قال: فأي وقت تُكرَه فيه الحجامة؟ قالت: يوم السبت
والأربعاء، ومَن احتجم فيهما فلا يلومنَّ إلا نفسه، ولا يُحتَجَم في شدة الحر، ولا
في شدة البرد، وخيار أيامه أيام الربيع.
قال:
أخبريني عن المجامعة. فلمَّا سمعت ذلك أطرقت وطأطأت رأسها، واستحيت إجلالًا لأمير
المؤمنين، ثم قالت: والله يا أمير المؤمنين ما عجزتُ بل خجلتُ، وإن جوابه على طرف
لساني. قال لها: يا جارية تكلَّمِي. قالت له: إن النكاح فيه فضائل مزيدة، وأمور
حميدة، منها: أنه يخفِّف البدن الممتلئ بالسوداء، ويسكِّن حرارة العشق، ويجلب
المحبة، ويبسط القلب، ويقطع الوحشة، والإكثار منه في أيام الصيف والخريف أشد ضررًا
منه في أيام الشتاء والربيع. قال: فأخبريني عن منافعه. قالت: إنه يزيل الهم
والوسواس، ويسكِّن العشق والغضب، وينفع القروح، هذا إذا كان الغالب على الطبع
والبرودة واليبوسية، وإلا فالإكثار منه يضعف النظر، ويتولَّد منه وجع الساقين
والرأس والظهر، وإياك إياك من مجامعة العجوز فإنها من القواتل، قال الإمام علي
كرَّم الله وجهه: «أربعٌ يقتلن ويُهرِمنَ البدن: دخول الحمام على الشبع، وأكل
المالح، والمجامعة على الامتلاء، ومجامعة المريضة؛ فإنها تُضعف قوَّتك، وتُسقِم
بدنك، والعجوز سم قاتل» قال بعضهم: إياك أن تتزوج عجوزًا، ولو كانت أكثر من قارون
كنوزًا. قال: فما أطيب الجماع؟ قالت: إذا كانت المرأة صغيرة السن، مليحة القدِّ،
حسنة الخد، كريمة الجد، بارزة النهد؛ فهي تزيدك قوَّة في صحة بدنك، وتكون كما قال
فيها بعض واصفيها:
مَهْمَا
لَحَظْتَ عَلِمْتَ مَا قَدْ تَبْتَغِي
وَحْيًا بِدُونِ إِشَارَةٍ وَبَيَانِ
وَإِذَا
نَظَرْتَ إِلَى بَدِيعِ جَمَالِهَا أَغْنَتْ
مَحَاسِنُهَا عَنِ الْبُسْتَانِ
قال:
فأخبريني عن أي وقت يطيب فيه الجماع؟ قالت: إذا كان ليلًا فبعد هضم الطعام، وإذا
كان نهارًا فبعد الغداء. قال: فأخبريني عن أفضل الفواكه. قالت: الرمان
والأُترُجُّ. قال: فأخبريني عن أفضل البقول. قالت: الهندبا. قال: فما أفضل
الرياحين؟ قالت: الورد والبنفسج. قال: فأخبريني عن قرارِ مَنِيِّ الرجل. قالت: إن
في الرجل عرقًا يسقي سائر العروق، فيجتمع الماء من ثلاثمائة وستين عرقًا، ثم يدخل
في البيضة اليسرى دمًا أحمر، فينطبخ من حرارة مزاج بني آدم ماءً غليظًا أبيضَ،
رائحته مثل رائحة الطلع. قال: أحسنتِ، فأخبريني عن طير يُمنِي ويحيض. قالت: هو
الخفاش؛ أي الوطواط. قال: فأخبريني عن شيء إذا حُبِس عاش، وإذا شمَّ الهواء مات.
قالت: هو السمك. قال: فأخبريني عن شجاع يبيض. قالت: الثعبان. فعجز الطبيب من كثرة
سؤاله وسكت. فقالت الجارية: يا أمير المؤمنين، إنه سألني حتى عَيِيَ، وأنا أسأله مسألة
واحدة، فإن لم يُجِب أخذت ثيابه حلالًا لي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام
المباح.
﴿اللیلة 454﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية لما قالت لأمير المؤمنين: إنه سألني حتى
عَيِي، وأنا أسأله مسألة واحدة، فإن لم يُجِب أخذت ثيابه حلالًا لي. قال لها
الخليفة: سليه. فقالت له: ما تقول في شيء يشبه الأرض استدارةً، ويواري عن العيون
فقاره وقراره، قليل القيمة والقدر، ضيق الصدر والنحر، مقيَّد وهو غير آبق، موثق
وهو غير سارق، مطعون لا في القتال، مجروح لا في النضال، يأكل الدهر مرَّة، ويشرب
الماء كثرة، وتارة يضرب من غير جناية، ويستخدم لا من كفاية، مجموع بعد تفرُّقه،
متواضع لا من تملُّقه، حامل لا لولد في بطنه، مائل لا يسند إلى ركنه، يتسخ فيتطهر،
ويصلي فيتغيَّر، يجامِع بلا ذكر، ويصارع بلا حذر، يريح ويستريح، ويُعَضُّ فلا
يصيح، أكرم من النديم، وأبعد من الحميم، يفارق زوجته ليلًا ويعانقها نهارًا، مسكنه
الأطراف في مساكن الأشراف. فسكت الطبيب ولم يُجِب بشيء، وتحيَّر في أمره، وتغيَّر
لونه، وأطرق برأسه ساعة ولم يتكلم. فقالت: أيها الطبيب تكلم، وإلا فانزع ثيابك.
فقام وقال: يا أمير المؤمنين، أشهد على أن هذه الجارية أعلم مني بالطب وغيره، ولا
لي عليها طاقة. ونزع ما عليه من الثياب وخرج هاربًا؛ فعند ذلك قال لها أمير
المؤمنين: فسِّري لنا ما قلتِه. فقالت: يا أمير المؤمنين، هذا الزر والعروة.
وأما
ما كان من أمرها مع المنجم فإنها قالت: مَن كان منكم منجِّمًا فَلْيقم. فنهض إليها
المنجم وجلس بين يديها، فلما رأته ضحكت وقالت: أنت المنجم الحاسب الكاتب؟ قال:
نعم. قالت: اسأل عمَّا شئتَ، وبالله التوفيق. قال: أخبريني عن الشمس، وطلوعها،
وأفولها. قالت: اعلم أن الشمس تطلع من عيون وتأفُل في عيون؛ فعيون الطلوع أجزاء
المشارق، وعيون الأفول أجزاء المغارب، وكلتاهما مائة وثمانون جزءًا، قال الله
تعالى: فَلَا
أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ، وقال تعالى: هُوَ الَّذِي
جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا
عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ (يونس: ٥)؛ فالقمر سلطان الليل، والشمس سلطان
النهار، وهما مستبقان متداركان، قال الله تعالى: لَا الشَّمْسُ
يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ
وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (يس: ٤٠). قال: فأخبريني إذا جاء الليل كيف
يكون النهار، وإذا جاء النهار كيف يكون الليل؟ قالت: يُولِجُ
اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ.
قال:
فأخبريني عن منازل القمر. قالت: منازل القمر ثمانٍ وعشرون منزلة، وهنَّ: الشرطان،
والبطين، والثريا، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة، والطرف، والجبهة،
والزبرة، والصرفة، والعواء، والسماك، والغفر، والزباني، والإكليل، والقلب،
والشولة، والنعائم، والبلدة، وسعد الذابح، وسعد بلع، وسعد السعود، وسعد الأخبية،
والفرغ المقدم، والفرغ المؤخر، والرشاء؛ وهي مرتَّبة على حروف أبجد هوز إلى
آخِرها، وفيها سر غامض لا يعلمه إلا الله — سبحانه وتعالى — والراسخون في العلم،
وأما قسمتها على البروج الاثني عشر فهي أن تعطي كل برج منزلتين وثلث منزلة، فتجعل
الشرطين والبطين وثلث الثريا للحمل، وثلثي الثريا مع الدبران وثلثي الهقعة للثور،
وثلث الهقعة مع الهنعة والذراع للجوزاء، والنثرة والطرف وثلث الجبهة للسرطان،
وثلثيها مع الزبرة وثلثي الصرفة للأسد، وثلثها مع العواء والسماك للسنبلة، والغفر
والزباني وثلث الإكليل للميزان، وثلثي الإكليل مع القلب وثلثي الشولة للعقرب،
وثلثها مع النعائم والبلدة للقوس، وسعد الذبائح وسعد بلع وثلث سعد السعود للجدي،
وثلثي سعد السعود مع سعد الأخبية وثلثي المقدم للدلو، وثلث المقدم مع المؤخر
والرشاء للحوت. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 455﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية لما عدَّت المنازل وقسَّمتها على البروج قال
لها المنجم: أحسنتِ، فأخبريني عن الكواكب السيَّارة، وعن طبائعها، وعن مكثها في
البروج، والسعد منها والنحس، وأين بيوتها وشُرَفها وسقوطها؟ قالت: المجلس ضيق،
ولكن سأخبرك. أما الكواكب فسبعة، وهي: الشمس، والقمر، وعطارد، والزهرة، والمريخ،
والمشتري، وزحل. فالشمس حارة يابسة نحيسة بالمقارنة سعيدة بالمنظر، تمكث في كل برج
ثلاثين يومًا، والقمر بارد رطب سعيد يمكث في كل برج يومين وثلث يوم، وعطارد ممتزج
سعد مع السعود، نحس مع النحوس، يمكث في كل برج سبعة عشر يومًا ونصف يوم، والزهرة
معتدلة سعيدة تمكث في كل برج من البروج خمسة وعشرين يومًا، والمريخ نحس يمكث في كل
برج عشرة أشهر، والمشتري سعد يمكث في كل برج سنة، وزحل بارد يابس نحس يمكث في كل
برج ثلاثين شهرًا، والشمس بيتها الأسد وشرفها الحمل وهبوطها الدلو، والقمر بيته
السرطان وشرفه الثور وهبوطه العقرب ووباله الجدي، وزحل بيته الجدي والدلو وشرفه
الميزان وهبوطه الحمل ووباله السرطان والأسد، والمشتري بيته الحوت والقوس وشرفه
السرطان وهبوطه الجدي ووباله الجوزاء والأسد، والزهرة بيتها الثور وشرفها الحوت
وهبوطها الميزان ووبالها الحمل والعقرب، وعطارد بيته الجوزاء والسنبلة وشرفه
السنبلة وهبوطه الحوت ووباله الثور، والمريخ بيته الحمل والعقرب وشرفه الجدي
وهبوطه السرطان ووباله الميزان.
فلمَّا
نظر المنجم إلى حذقها وعلمها وحُسْن كلامها وفهمها، ابتغى له حيلة يخجلها بها بين
يدي أمير المؤمنين، فقال لها: يا جارية، هل ينزل في هذا الشهر مطر؟ فأطرقَتْ ساعة
ثم تفكَّرَتْ طويلًا حتى ظنَّ أمير المؤمنين أنها عجزت عن جوابه، فقال لها المنجم:
لِمَ لمْ تتكلمي؟ فقالت: لا أتكلم إلا إنْ أذِنَ لي في الكلام أميرُ المؤمنين.
فقال لها أمير المؤمنين: وكيف ذلك؟ قالت: أريد أن تعطيني سيفًا أضرب به عنقه لأنه
زنديق. فضحك أمير المؤمنين وضحك مَن حوله ثم قالت: يا منجِّم، خمسة لا يعلمها إلا
الله تعالى، وقرأَتْ: إِنَّ
اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي
الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ
بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (لقمان: ٣٤). قال لها:
أحسنتِ، وإني والله ما أردتُ إلا اختبارك. فقالت له: اعلم أن أصحاب التقويم لهم
إشارات وعلامات ترجع إلى الكواكب بالنظر إلى دخول السنة وللناس فيها تجارب. قال:
وما هي؟ قالت: إن لكل يوم من الأيام كوكبًا يملكه، فإذا كان أول يوم من السنة يوم
الأحد فهو للشمس، ويدل ذلك - والله أعلم - على الجور من الملوك والسلاطين والولاة
وكثرة الوخم وقلة المطر، وأن تكون الناس في هرج عظيم، وتكون الحبوب طيبة إلا العدس
فإنه يعطب، ويفسد العنب، ويغلو الكتان، ويرخص القمح من أول طوبة إلى آخِر برمهات،
ويكثر القتال بين الملوك، ويكثر الخير في تلك السنة والله أعلم. قال: فأخبريني عن
يوم الإثنين. قالت: هو للقمر، ويدل ذلك على صلاح ولاة الأمور والعُمَّال، وأن تكون
السنة كثيرة الأمطار وتكون الحبوب طيبة، ويفسد بذر الكتان، ويرخص القمح في شهر
كيهك، ويكثر الطاعون ويموت نصف الدواب من الضأن والمعز، ويكثر العنب، ويقل العسل،
ويرخص القطن، والله أعلم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 456﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية لما فرغت من بيان يوم الإثنين، قال لها:
أخبريني عن يوم الثلاثاء. قالت: هو للمريخ، ويدل ذلك على موت كبار الناس، وكثرة
الفناء، وإهراق الدماء، والغلاء في الحَب، وقلة الأمطار، وأن يكون السمك قليلًا،
ويزيد في أيام وينقص في أيام، ويرخص العسل والعدس، ويغلو بذر الكتان في تلك السنة،
وفيها يفلح الشعير دون سائر الحبوب، ويكثر القتال بين الملوك، ويكون الموت بالدم،
ويكثر موت الحمير، والله أعلم. قال: فأخبريني عن يوم الأربعاء. قالت: هو لعطارد،
ويدل ذلك على هرج عظيم يقع في الناس، وعلى كثرة العدو، وأن تكون الأمطار معتدلة،
وأن يفسد بعض الزرع، وأن يكثر موت الدواب، وموت الأطفال، ويكثر القتل في البحر،
ويغلو القمح من برمودة إلى مسرى، وترخص بقية الحبوب، ويكثر الرعد والبرق، ويغلو
العسل، ويكثر طلع النخل، ويكثر الكتان والقطن، ويغلو الفجل والبصل، والله أعلم.
قال: أخبريني عن يوم الخميس. قالت: هو للمشتري، ويدل ذلك على العدل في الوزراء،
والصلاح في القضاة والفقراء وأهل الدين، وأن يكون الخير كثيرًا، وتكثر الأمطار
والثمار والأشجار والحبوب، ويرخص الكتان والقطن والعسل والعنب، ويكثر السمك، والله
أعلم. قال: أخبريني عن يوم الجمعة؟ قالت: هو للزهرة، ويدل ذلك على الجور في كبار
الجن، والتحدُّث بالزور والبهتان، وأن يكثر الندى، ويطيب الخريف في البلاد، ويكون
الرخص في بلاد دون بلاد، ويكثر الفساد في البر والبحر، ويغلو بذر الكتان، ويغلو
القمح في هاتور، ويرخص في أمشير، ويغلو العسل، ويفسد العنب والبطيخ، والله أعلم.
قال: فأخبريني عن يوم السبت. قالت: هو لزحل، ويدل ذلك على إيثار العبيد والروم،
ومَن لا خير فيه ولا في قربه، وأن يكون الغلاء والقحط كثيرًا، ويكون الغيم كثيرًا،
ويكثر الموت في بني آدم، والويل لأهل مصر والشام من جور السلطان، وتقل البركة من
الزرع، وتفسد الحبوب، والله أعلم.
ثم
إن المنجم أطرق وطأطأ رأسه، فقالت: يا منجم، أسألك مسألة واحدة، فإن لم تجب أخذت
ثيابك. قال لها: قولي. قالت: أين يكون مسكن زحل؟ قال: في السماء السابعة. قالت:
فالمشتري؟ قال: في السماء السادسة. قالت: فالمريخ؟ قال: في السماء الخامسة. قالت:
فالشمس؟ قال: في السماء الرابعة. قالت: فالزهرة؟ قال: في السماء الثالثة. قالت:
فعطارد؟ قال: في السماء الثانية. قالت: فالقمر؟ قال: في السماء الأولى. قالت:
أحسنتَ، وبقي عليك مسألة واحدة. قال: اسألي. قالت: فأخبرني عن النجوم إلى كم جزء
تنقسم؟ فسكت ولم يحر جوابًا. قالت: انزع ثيابك. فنزعها، ولما أخذتها قال لها أمير
المؤمنين: فسِّرِي لنا هذه المسألة؟ فقالت: يا أمير المؤمنين، هم ثلاثة أجزاء:
جزءٌ معلَّق بسماء الدنيا كالقناديل، وهو ينير الأرض، وجزءٌ يُرمَى به الشياطين
إذا استرقوا السمع، قال الله تعالى: وَلَقَدْ
زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا
لِلشَّيَاطِينِ (الملك: ٥)، والجزء الثالث معلَّقٌ بالهواء، وهو ينير البحار
وما فيها. قال المنجم: بقي لنا مسألة واحدة، فإن أجابَتْ أقررتُ لها. قالت: قُلْ.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 457﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أنه قال: أخبريني عن أربعة أشياء متضادة مترتبة على أربعة
أشياء متضادة. قالت: هي الحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة، خلق الله من
الحرارة النار، وطبعها حار يابس، وخلق من اليبوسة التراب، وطبعه بارد يابس، وخلق
من البرودة الماء، وطبعه بارد رطب، وخلق من الرطوبة الهواء، وطبعه حار رطب، ثم خلق
الله اثني عشر برجًا، وهي: الحمل، الثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة،
والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت، وجعلها على أربع طبائع: ثلاثة
نارية، وثلاثة ترابية، وثلاثة هوائية، وثلاثة مائية؛ فالحمل والأسد والقوس نارية،
والثور والسنبلة والجدي ترابية، والجوزاء والميزان والدلو هوائية، والسرطان
والعقرب والحوت مائية. فقام المنجم وقال: اشهدوا على أنها أعلم مني. وانصرف
مغلوبًا.
ثم
قال أمير المؤمنين: أين الفيلسوف؟ فنهض إليها رجل وتقدَّم، وقال: أخبريني عن الدهر
وحده وأيامه، وما جاء فيه. قالت: إن الدهر هو اسم واقع على ساعات الليل والنهار،
وإنما هي مقادير جري الشمس والقمر في أفلاكهما، كما أخبر الله تعالى حيث قال: وَآيَةٌ لَهُمُ
اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ
تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (يس:
٣٧-٣٨). قال: فأخبريني عن ابن آدم كيف يصل إليه الكفر؟ قالت: رُوِي عن رسول
الله ﷺ أنه قال: «الكفر في بني آدم يجري كما يجري الدم في عروقه، حيث
يسب الدنيا والدهر، والليلة والساعة» وقال عليه الصلاة والسلام: لا يسب أحدكم
الدهر، فإن الدهر هو الله، ولا يسب أحدكم الدنيا فتقول: لا أعان الله مَن يسبني.
ولا يسب أحدكم الساعة، فإن الساعة آتية لا ريب فيها، ولا يسب أحدكم الأرض فإنها
آية؛ لقوله تعالى: مِنْهَا
خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً
أُخْرَىٰ (طه: ٥٥). قال: فأخبريني عن خمسة أكلوا وشربوا، وما خرجوا من ظهر
ولا بطن. قالت: هم آدم، وشمعون، وناقة صالح، وكبش إسماعيل، والطير الذي رآه أبو
بكر الصديق في الغار. قال: فأخبريني عن خمسة في الجنة لا من الإنس، ولا من الجن،
ولا من الملائكة. قالت: ذئب يعقوب، وكلب أصحاب الكهف، وحمار العزيز، وناقة صالح،
ودلدل النبي ﷺ.
قال:
أخبريني عن رجل صلى صلاة لا في الأرض ولا في السماء. قالت: هو سليمان حين صلَّى
على بساطه وهو على الريح. قال: أخبريني عمَّن صلَّى صلاة الصبح، فنظر إلى أَمَة
فحرمت عليه، فلما كان الظهر حلت له، فلما كان العصر حرمت عليه، فلما كان المغرب
حلت له، فلما كان العشاء حرمت عليه، فلما كان الصبح حلت له. قالت: هذا رجل نظر إلى
أَمَة غيره عند الصبح وهي حرام عليه، فلما كان الظهر اشتراها فحلت له، فلما كان
العصر أعتقها فحرمت عليه، فلما كان المغرب تزوجها فحلت له، فلما كان العشاء طلقها
فحرمت عليه، فلما كان الصبح راجعها فحلت له. قال: أخبريني عن قبر مشى بصاحبه.
قالت: هو حوت يونس بن متى حين ابتلعه. قال: أخبريني عن بقعة واحدة طلعت عليها
الشمس مرة واحدة، ولا تطلع عليها بعد إلى يوم القيامة؟ قالت: البحر حين ضربه موسى
بعصاه فانفلق اثني عشر فرقًا على عدد الأسباط، وطلعت عليه الشمس، ولم تعد له إلى
يوم القيامة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 458﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن الفيلسوف قال بعد ذلك للجارية: أخبريني عن أول ذيل سحب
على وجه الأرض. قالت: ذيل هاجر حياءً من سارة، فصارت سُنَّة في العرب. قال:
أخبريني عن شيء يتنفس بلا روح. قالت: قوله تعالى: وَالصُّبْحِ
إِذَا تَنَفَّسَ (التكوير: ١٨). قال: أخبريني عن حمام طائر أقبل على شجرة
عالية، فوقع بعضه فوقها، وبعضه تحتها، فقالت التي فوق الشجرة للتي تحتها: إن طلعت
منكن واحدة صرتن الثلث، وإن نزلت منَّا واحدة كنا مثلكن في العدد. قالت الجارية:
كان الحمام اثنتي عشرة حمامة، فوقع منهن فوق الشجرة سبع، وتحتها خمس، فإذا طلعت
واحدة صار الذي فوق قدر الذي تحت مرتين، ولو نزلت واحدة صار الذي تحت مساويًا للذي
فوق، والله أعلم. فتجرَّدَ الفيلسوف من ثيابه، وخرج هاربًا.
وأما
حكايتها مع النظام، فإن الجارية التفتت إلى العلماء الحاضرين، وقالت: أيكم المتكلم
في كل فن وعلم؟ فقام إليها النظام وقال لها: لا تحسبيني كغيري. فقالت له: الأصح
عندي أنك مغلوب؛ لأنك مدَّعِي، والله ينصرني عليك حتى أجرِّدك من ثيابك، فلو
أرسلتَ من يأتيك بشيء تلبسه لَكان خيرًا لك. فقال: والله لأغلبنك وأجعلنك حديثًا
يتحدَّث به الناس جيلًا بعد جيل. فقالت له الجارية: كفِّرْ عن يمينك. قال: أخبريني
عن خمسة أشياء خلقها الله تعالى قبل خلق الخلق. قالت له: الماء، والتراب، والنوم،
والظلمة، والثمار. قال: أخبريني عن شيء خلقه الله بيد القدرة. قالت: العرش، وشجرة
طوبى، وآدم، وجنة عدن، فهؤلاء خلقهم الله بيد قدرته، وسائر المخلوقات قال لهم
الله: كونوا فكانوا. قال: أخبريني عن أبيك في الإسلام. قالت: محمد ﷺ. قال: فمَن أبو محمد؟ قالت:
إبراهيم خليل الله. قال: فما دين الإسلام؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن
محمدًا رسول الله. قال: فأخبريني ما أولك وما آخرك؟ قالت: أولي نطفة مذرة، وآخِري
جيفة قذرة، وأولي من التراب، وآخِري التراب، قال الشاعر:
خُلِقْتُ
مِنَ التُّرَابِ فَصِرْتُ شَخْصًا فَصِيحًا
فِي السُّؤَالِ وَفِي الْجَوَابِ
وَعُدْتُ
إِلَى التَّرَابِ فَصِرْتُ فِيهِ لِأَنِّي
قَدْ خُلِقْتُ مِنَ التُّرَابِ
قال:
فأخبريني عن شيء أوله عود، وآخره روح. قالت: عصا موسى حين ألقاها في الوادي، فإذا
هي حية تسعى بإذن الله تعالى. قال: فأخبريني عن قوله تعالى: وَلِيَ فِيهَا
مَآرِبُ أُخْرَىٰ (طه: ١٨). قالت: كان يغرسها في الأرض فتزهو وتثمر، وتظله من
الحر والبرد، وتحمله إذا عيي، وتحرس له الغنم إذا نام من السباع. قال: أخبريني عن
أنثى من ذكر، وذكر من أنثى. قالت: حواء من آدم، وعيسى من مريم. قال: فأخبريني عن
أربع نيران: نار تأكل وتشرب، ونار تأكل ولا تشرب، ونار تشرب ولا تأكل، ونار لا
تأكل ولا تشرب. قالت: أما النار التي تأكل ولا تشرب فهي نار الدنيا، وأما النار
التي تأكل وتشرب فهي نار جهنم، وأما النار التي تشرب ولا تأكل فهي نار الشمس، وأما
النار التي لا تأكل ولا تشرب فهي نار القمر. قال: أخبريني عن المفتوح وعن المغلق.
قالت: يا نظام، المفتوح هو المسنون، والمغلق هو المفروض. قال أخبريني عن قول
الشاعر:
وَسَاكِنِ
رَمْسٍ طَعْمُهُ عِنْدَ رَأْسِهِ إِذَا
ذَاقَ مِنْ ذَاكَ الطَّعَامِ تَكَلَّمَا
يَقُومُ
وَيَمْشِي صَامِتًا مُتَكَلِّمًا وَيَرْجِعُ
لِلْقَبْرِ الَّذِي مِنْهُ قُوِّمَا
وَلَيْسَ
بِحَيٍّ يَسْتَحِقُّ كَرَامَةً وَلَيْسَ
بِمَيِّتٍ يَسْتَحِقُّ التَّرَحُّمَا
قالت
له: هو القلم. قال: فأخبريني عن قول الشاعر حيث قال:
مُلَمْلَمَةُ
الْجَيْبَيْنِ مَوْرُودَةُ الدَّمِ مُخَمَّرَةُ الْأُذُنَيْنِ مَفْتُوحَةُ
الْفَمِ
لَهَا
صَنَمٌ كَالدِّيكِ يَنْقُرُ جَوْفَهَا
تُسَاوِي إِذَا قَوَّمْتَهَا نِصْفَ دِرْهَمِ
قالت:
هي الدواة. قال: فأخبريني عن قول الشاعر حيث قال:
أَلَا
قُلْ لِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ وَالْأَدَبْ وَكُلِّ
فَقِيهٍ سَادَ فِي الْفَهْمِ وَالرُّتَبْ
أَلَا
أَنْبِئُونِي أَيَّ شَيْءٍ رَأَيْتُمُو
مِنَ الطَّيْرِ فِي أَرْضِ الْأَعَاجِمِ وَالْعَرَبْ
وَلَيْسَ
لَهُ لَحْمٌ وَلَيْسَ لَهُ دَمُ وَلَيْسَ
لَهُ رِيشٌ وَلَيْسَ لَهُ زَغَبْ
وَيُؤْكَلُ
مَطْبُوخًا وَيُؤْكَلُ بَارِدًا وَيُؤْكَلُ
مَشْوِيًّا إِذَا دُسَّ فِي اللَّهَبْ
وَيَبْدُو
لَهُ لَوْنَانِ: لَوْنٌ كَفِضَّةٍ وَلَوْنٌ
ظَرِيفٌ لَيْسَ يُشْبِهُهُ الذَّهَبْ
وَلَيْسَ
يَرَى حَيًّا وَلَيْسَ بِمَيِّتٍ أَلَا
أَخْبِرُونِي إِنَّ هَذَا مِنَ الْعَجَبْ
قالت:
لقد أطلتَ السؤال في بيضة قيمتها فلس. قال: أخبريني كم كلمة كلَّمَ الله موسى؟
قالت: رُوِي عن رسول الله ﷺ أنه قال: كلَّمَ الله موسى ألفَ كلمة
وخمسمائة وخمس عشرة كلمة. قال: أخبريني عن أربعة عشر كلموا ربَّ العالمين. قالت:
السموات السبع والأرضون السبع لما قالتا: أَتَيْنَا
طَائِعِينَ. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 459﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية لما قالت له الجواب قال لها: أخبريني عن آدم
وأول خلقته. قالت: خلق الله آدم من طين، والطير من زبد، والزبد من بحر، والبحر من
ظلمة، والظلمة من نور، والنور من حوت، والحوت من صخرة، والصخرة من ياقوتة،
والياقوتة من ماء، والماء من القدرة؛ لقوله تعالىإِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ
شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (يس: ٨٢). قال: فأخبريني عن قول الشاعر
حيث قال:
وَآكِلَةٍ
بِغَيْرِ فَمٍ وَبَطْنٍ لَهَا
الْأَشْجَارُ وَالْحَيَوانَاتُ قُوتُ
فَإِنْ
أَطْعَمْتَهَا انْتَعَشَتْ وَعَاشَتْ
وَلَوْ أَسْقَيْتَهَا مَاءً تَمُوتُ
قالت:
هي النار. قال: فأخبريني عن قول الشاعر حيث قال:
خَلِيلَانِ
مَمْنُوعَانِ مِنْ كُلِّ لَذَّةٍ يَبِيتَانِ
طُولَ اللَّيْلِ يَعْتَنِقَانِ
هُمَا
يَحْفَظَانِ الْأَهْلَ مِنْ كُلِّ آفَةٍ
وَعِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يَفْتَرِقَانِ
قالت:
هما مصراعا الباب. قال: فأخبريني عن أبواب جهنم. قالت: سبعة، وهي ضمن بيتين من
الشعر:
جَهَنَّمُ
وَلَظًى ثُمَّ الْحَطِيمُ كَذَا عُدَّ
السَّعِيرُ وُكُلُّ الْقَوْلِ فِي سَقَرِ
وَبَعْدَ
ذَاكَ جَحِيمٌ ثُمَّ هَاوِيَةٌ فَذَاكَ
عِدَّتُهُمْ فِي قَوْلِ مُخْتَصَرِ
قال:
فأخبريني عن قول الشاعر حيث قال:
وَذَاتِ
ذَوَائِبَ تَنْجَرُّ طُولًا وَرَاءَهَا
فِي الْمَجِيءِ وَفِي الذَّهَابِ
بِعَيْنٍ
لَمْ تَذُقْ لِلنَّوْمِ طَعْمًا وَلَا
ذَرَفَتْ لِدَمْعٍ ذِي انْسِكَابِ
وَلَا
لَبِسَتْ مَدَى الْأَيَّامِ ثَوْبًا
وَتَكْسُو النَّاسَ أَنْوَاعَ الثِّيَابِ
قالت:
هي الإبرة. قال: فأخبريني عن الصراط ما هو، وما طوله، وما عرضه؟ قالت: أما طوله
فثلاثة آلاف عام؛ ألف هبوط، وألف صعود، وألف استواء، وهو أحدُّ من السيف، وأرقُّ
من الشَّعْر. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 460﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية لما وصفت له الصراط، قال: أخبريني كم لنبينا
محمد ﷺ من شفاعة؟ قالت: له ثلاث شفاعات. قال لها: هل كان أبو بكر أول
مَن أسلم؟ قالت: نعم. قال: إن عليًّا أسلم قبل أبي بكر. قالت: إن عليًّا أتى
النبي ﷺ وهو ابن سبع سنين، فأعطاه الله الهداية على صِغَر سنه، فما سجد
لصنم قطُّ. قال: فأخبريني، أعليٌّ أفضل أمِ العباس؟ فعلمت أن هذه مكيدة لها، فإن
قالت: علي أفضل من العباس، فما لها من عُذْر عند أمير المؤمنين! فأطرقت ساعةً وهي
تارة تحمر وتارة تصفر، ثم قالت: تسألني عن اثنين فاضلين لكل واحد منهما فضل، فارجع
بنا إلى ما كنَّا فيه. فلما سمعها الخليفة هارون الرشيد استوى قائمًا على قدميه
وقال لها: أحسنتِ وربِّ الكعبة يا تودُّد. فعند ذلك قال لها إبراهيم النظام:
أخبريني عن قول الشاعر حيث قال:
مُهَفْهَفَةُ
الْأَذْيَالِ عَذْبٌ مَذَاقُهَا تُحَاكِي
الْقَنَا لَكِنْ بِغَيْرِ سِنَانِ
وَيَأْخُذْ
كُلُّ النَّاسِ مِنْهَا مَنَافِعًا وَتُؤْكَلُ
بَعْدَ الْعَصْرِ فِي رَمَضَانِ
قالت:
قصب السكر. قال: فأخبريني عن مسائل كثيرة؟ قالت: وما هي؟ قال: ما أحلى من العسل؟
وما أحد من السيف؟ وما أسرع من السم؟ وما لذة ساعة؟ وما سرور ثلاثة أيام؟ وما أطيب
يوم؟ وما فرحة جمعة؟ وما الحق الذي لا ينكره صاحب الباطل؟ وما سجن القبر؟ وما فرحة
القلب؟ وما كيد النفس؟ وما موت الحياة؟ وما الداء الذي لا يُداوَى؟ وما العار الذي
لا ينجلي؟ وما الدابة التي لا تأوي إلى العمران، وتسكن الخراب، وتبغض بني آدم،
وخلق فيها خلق من سبعة جبابرة؟ قالت له: اسمع جواب ما قلت، ثم انزع ثيابك حتى
أفسِّر لك ذلك. قال لها أمير المؤمنين: فسِّري وهو ينزع ثيابه. قالت: أمَّا ما هو
أحلى من العسل فهو حب الأولاد البارين بوالديهم، وأما ما هو أحَدُّ من السيف فهو
اللسان، وأما ما هو أسرع من السم فهو عين المعيان، وأما لذة ساعة فهو الجِمَاع،
وأما سرور ثلاثة أيام فهو النورة للنساء، وأما ما هو أطيب يوم فهو يوم الربح في
التجارة، وأما فرحة جمعة فهو العروس، وأما الحق الذي لا ينكره صاحب الباطل فهو
الميت، وأما سجن القبر فهو الولد السوء، وأما فرحة القلب فهي المرأة المطيعة
لزوجها، وقيل اللحم حين ينزل على القلب، فإنه يفرح بذلك، وأما كيد النفس فهو العبد
العاصي، وأما موت الحياة فهو الفقر، وأما الداء الذي لا يُداوَى فهو سوء الخُلُق،
وأما العار الذي لا ينجلي فهو البنت السوء، وأما الدابة التي لا تأوي إلى العمران،
وتسكن الخراب، وتبغض بني آدم، وخلق فيها خلق من سبعة جبابرة؛ فإنها الجرادة، رأسها
كرأس الفرس، وعنقها كعنق الثور، وجناحها جناح النسر، ورجلها رجل الجمل، وذنبها ذنب
الحية، وبطنها بطن العقرب، وقرنها قرن الغزال.
فتعجَّبَ
الخليفة هارون الرشيد من حذقها وفهمها، ثم قال للنظام: انزع ثيابك. فقام وقال:
أشهد على جميع مَن حضر هذا المجلس أنها أعلم مني، ومن كل عالم. ونزع ثيابه، وقال
لها: خذيهم لا بارَكَ الله لكِ فيهم. فأمر له أمير المؤمنين بثياب يلبسها، ثم قال
أمير المؤمنين: يا تودُّد، بقي عليك شيء ممَّا وعدتِ به وهو الشطرنج، وأمر بإحضار
معلِّمي الشطرنج والكنجفة والنرد، فحضروا وجلس الشطرنجي معها، وصُفَّت بينهما
الصفوف، ونقل ونقلت، فما نقل شيئًا إلا أفسدته عن قليل. وأدرك شهرزاد الصباح
فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 461﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية لما لعبت الشطرنج مع المعلم بحضرة أمير
المؤمنين هارون الرشيد، صارت كلما نقل نقلًا أفسدته حتى غلبته، ورأى الشاه مات،
فقال: أنا أردت أن أطعمك حتى تظني أنك عارفة، لكن صفي حتى أُرِيكِ. فلما صفَّتِ
الثاني قال في نفسه: افتح عينك وإلا غلبَتْكَ. وصار ما يخرج قطعة إلا بحساب، وما
زال يلعب حتى قالت له: الشاه مات. فلما رأى ذلك منها دهش من حذقها وفهمها، فضحكت
وقالت له: يا معلم، أنا أراهنك في هذه المرة الثالثة على أن أرفع لك الفرزان، ورخ
الميمنة، وفرس الميسرة، وإنْ غلبتَني فخذ ثيابي، وإن غلبتُك أخذتُ ثيابك. قال:
رضيت بهذا الشرط. ثم صفَّا الصفين، ورفعت الفرزان والرخ والفرس، وقالت له: انقل يا
معلم. فنقل وقال: ما لي لا أغلبها بعد هذه الحطيطة. وعقد عقدًا، وإذا هي نقلت
نقلًا قليلًا إلى أن صيَّرَتْ له فرزانًا، ودنَتْ منه، وقربت البيادق والقطع،
وشغلته وأطعمته قطعةً فقطعها، فقالت: الكيل كيل وافٍ، والرز رز صافٍ، فكُلْ حتى
تزيد على الشبع، ما يقتلك يا ابن آدم إلا الطمع، أَمَا تعلم أني أُطعِمك لأخدعك؟
انظر فهذا الشاه مات. ثم قالت له: انزع ثيابك. فقال لها: اتركي لي السراويل، وأجرك
على الله. وحلف بالله ألَّا يناظر أحدًا ما دامت تودُّد بمملكة بغداد، ثم نزع ثيابه
وسلَّمَها لها، وانصرف.
فجِيء
بلاعب النرد، فقالت له: إنْ غلبتُك في هذا اليوم فماذا تعطيني؟ قال: أعطيك عشرة
ثياب من الديباج القسطنطيني المطرز بالذهب، وعشر ثياب من المخمل، وألف دينار، وإنْ
غلبتُكِ فما أريد منك إلا أن تكتبي لي درجًا بأني غلبتُكِ. قالت له: دونك وما عولت
عليه. فلعب فإذا هو قد خسر، وقام وهو يرطن بالإفرنجية، ويقول: ونعمة أمير المؤمنين
إنها لا يوجد مثلها في سائر البلاد. ثم إن أمير المؤمنين دعا بأرباب آلات الطرب
فحضروا، فقال لها أمير المؤمنين: هل تعرفين شيئًا من آلات الطرب؟ قالت: نعم. فأمر
بإحضار عود محكوك مدعوك، مجرود صاحبه بالهجران مكدود، قال فيه بعض واصفيه:
سَقَى
اللهُ أَرْضًا أَنْبَتَتْ عُودَ مُطْرِبٍ
زَكَتْ مِنْهُ أَغْصَانٌ وَطَابَتْ مَغَارِسُ
تَغَنَّتْ
عَلَيْهِ الطَّيْرُ وَالْعُودُ أَخْضَرُ
وَغَنَّتْ عَلَيْهِ الْغِيدُ وَالْعُودُ يَابِسُ
فجِيء
بعودٍ في كيس من الأطلس الأحمر له شرابة من الحرير المزعفر، فحَلَّتِ الكيس وأخرجت
العود، فإذا هو عليه منقوش:
وَغُصْنٍ
رَطِيبٍ عَادَ عُودًا لِقَيْنَةٍ تَحِنَّ
إِلَى أَتْرَابِهَا فِي الْمَحَافِلِ
تُغَنِّي
فَيَتْلُو لَحْنَهَا وَكَأَنَّهُ يُلَقِّنُهَا إِعْرَابَ لَحْنِ الْبَلَابِلِ
فوضعته
في حجرها، وأرخَتْ عليه نهدها، وانحنت عليه انحناءَ والدة تُرضِع ولدها، وضربت
عليه اثني عشر نغمًا حتى ماج المجلس من الطرب، وأنشدت تقول:
أَقْصِرُوا
هَجْرَكُمْ وَقِلُّوا جَفَاكُمْ فَفُؤَادِي
وَحَقِّكُمْ مَا سَلَاكُمْ
وَارْحَمُوا
بَاكِيًا حَزِينًا كَئِيبًا ذَا
غَرَامٍ مُتَيَّمًا فِي هَوَاكُمْ
فطرب
أمير المؤمنين وقال: بارَكَ الله فيكِ، ورحم مَن علَّمَكِ. فقامت وقبَّلَتِ الأرض
بين يديه، ثم إن أمير المؤمنين أمر بإحضار المال، ودفع لمولاها مائة ألف دينار،
وقال لها: يا تودُّد، تمنِّي عليَّ؟ قالت: تمنَّيْتُ عليك أن تردَّني إلى سيدي
الذي باعني. فقال لها: نعم. فرَدَّها إليه، وأعطاها خمسة آلاف دينار لنفسها، وجعل
سيدها نديمًا له على طول الزمان. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 462﴾
قالت:
أيها الملك السعيد، أن الخليفة أعطى الجارية خمسة آلاف دينار، وردها إلى مولاها،
وجعله نديمًا له على طول الزمان، وأطلق له في كل شهر ألف دينار، وقعد مع جاريته
تودد في أرغد عيش، فأعجب بها الملك من فصاحة هذه الجارية، ومن غزارة علمها وفهمها
وفضلها في كامل العلوم. وانظر إلى مروءة أمير المؤمنين هارون الرشيد؛ حيث أعطى
سيدها هذا المال، وقال لها: تمني عليَّ. فتمنت عليه أن يردها إلى سيدها، فردها
إليه وأعطاها خمسة آلاف دينار لنفسها، وجعل سيدها نديمًا له، فأين يوجد هذا الكرم
بعد الخلفاء العباسيين - رحمة الله تعالى عليهم أجمعين؟
حكاية الملك المغرور وملك الموت
ومما
يُحكَى أيها الملك السعيد أن ملكًا من الملوك المتقدمين أراد أن يركب يومًا في
جملة أهل مملكته، وأرباب دولته، ويُظهِر للخلائق عجائبَ زينته، فأمر أصحابه
وأمراءه وكبراء دولته أن يأخذوا أهبة الخروج معه، وأمر خازن الثياب بأن يحضر له من
أفخر الثياب ما يصلح للملك في زينته، وأمر بإحضار خيله الموصوفة العتاق المعروفة،
ففعلوا ذلك، ثم إنه اختار من الثياب ما أعجبه، ومن الخيل ما استحسنه، ثم لبس
الثياب، وركب الجواد، وسار بالموكب والطوق المرصع بالجواهر، وأصناف الدر
واليواقيت، وجعل يركض الحصان في عسكره، ويفتخر بتيهه وتجبُّره، فأتاه إبليس فوضع
يده على منخره، ونفخ في أنفه نفخة الكبر والعجب، فزَهَا وقال في نفسه: مَن في
العالَم مثلي؟ وطفق يتيه بالعجب والكبر، ويُظهِر الأبهة ويزهو بالخيلاء، ولا ينظر
إلى أحد من تيهه وكبره وعجبه وفخره، فوقف بين يدَيْه رجل عليه ثياب رثَّة، فسلَّمَ
عليه، فردَّ عليه السلام، فقبض على عنان فرسه، فقال له الملك: ارفع يدك فإنك لا
تدري بعنان مَن قد أمسكت. فقال له: إن لي إليك حاجة. فقال: اصبر حتى أنزل، واذكر
حاجتك. فقال: إنها سر ولا أقولها إلا في أذنك. فمال بسمعه إليه فقال له: أنا ملك
الموت، وأريد قبض روحك. فقال: امهلني بقدر ما أعود إلى بيتي، وأودع أهلي وأولادي
وجيراني وزوجتي. فقال: كلا، لا تعود ولن تراهم أبدًا، فإنه قد مضى أجل عمرك. فأخذ
روحه وهو على ظهر فرسه، فخَرَّ ميتًا، ومضى ملك الموت من هناك، فأتى رجلًا صالحًا
قد رضي الله عنه فسلَّمَ عليه، فردَّ عليه السلام، فقال ملك الموت: أيها الرجل
الصالح، إن لي إليك حاجة وهي سر. فقال له الرجل الصالح: اذكر حاجتك في أذني. فقال:
أنا ملك الموت. فقال الرجل: مرحبًا بك، الحمد لله على مجيئك، فإني كنتُ كثيرًا
أترقَّب وصولك إليَّ، ولقد طالت غيبتك عن المشتاق إلى قدومك. فقال له ملك الموت:
إن كان لك شغل فاقْضِه. فقال له: ليس لي شغل أهم عندي من لقاء ربي عزَّ وجلَّ.
فقال: كيف تحب أن أقبض روحك؟ فإني أُمِرت أن أقبضها كيف أردتَ واخترتَ. فقال:
أمهلني حتى أتوضأ وأصلي، فإذا سجدتُ فاقبض روحي وأنا ساجد. فقال ملك الموت: إن ربي
عزَّ وجلَّ أمرني ألَّا أقبض روحك إلا باختيارك كيف أردتَ، وأنا أفعل ما قلتَ.
فقام الرجل وتوضأ وصلَّى، فقبض ملك الموت روحَه وهو ساجِد، ونقله الله تعالى إلى
محل الرحمة والرضوان والمغفرة.
حكاية الملك الغني وملك الموت
وحُكِي
أن ملكًا من الملوك كان قد جمع مالًا عظيمًا لا يُحصَى عدده، واحتوى على أشياء
كثيرة من كل نوع خلقه الله تعالى في الدنيا ليرفِّه نفسه، حتى إذا أراد أن يتفرَّغ
لما جمعه من النِّعَم الطائلة، بنى له قصرًا عاليًا مرتفعًا شاهقًا يصلح للملوك،
ويكون بهم لائقًا، ثم ركَّبَ عليه بابين محكمين، ورتب له الغلمان والأجناد
والبوابين كما أراد، ثم أمر الطباخ في بعض الأيام أن يصنع له شيئًا من أطيب
الطعام، وجمع أهله وحشمه وأصحابه وخدمه ليأكلوا عنده، وينالوا رِفْده، وجلس على
سرير مملكته وسيادته، واتكأ على وسادته، وخاطَبَ نفسه وقال: يا نفسُ، قد جمعتُ لكِ
نِعَم الدنيا بأسرها، فالآن تفرَّغي وكلي من هذه النِّعَم مهنَّأة بالعمر الطويل،
والحظ الجزيل. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 463﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن الملك لما حدَّثَ نفسه وقال لها: كلي من هذه النِّعَم،
مهنَّأة بالعمر الطويل والحظ الجزيل. لم يفرغ مما حدَّثَ به نفسه، حتى أتاه رجل من
ظاهر القصر عليه ثياب رثة، وفي عنقه مخلاة معلَّقة على هيئة سائل يسأل الطعام،
فجاء وطرق حلقة باب القصر طرقة عظيمة هائلة كادت تزلزل القصر وتزعج السرير، فخاف
الغلمان، فوثبوا إلى الباب وصاحوا بالطارق، وقالوا له: ويحك! ما هذه الفعلة وسوء
الأدب؟ اصبر حتى يأكل الملك، ونعطيك مما يفضل. فقال للغلمان: قولوا لصاحبكم يخرج
إليَّ حتى يكلِّمني، فلي إليه حاجة، وشغل مهم، وأمر ملم. فقالوا: تنحَّ أيها
الضعيف، مَن أنت حتى تأمر صاحبنا بالخروج إليك؟ فقال لهم: عرِّفوه ذلك. فجاءوا
إليه وعرَّفوه، فقال: هلَّا زجرتموه وجرَّدْتُم عليه السلاح، ونهرتموه. ثم طرق
الباب أعظم من الطرقة الأولى، فنهض الغلمان إليه بالعصي والسلاح، وقصدوه ليحاربوه،
فصاح بهم صيحة، وقال: الزموا أماكنكم، فأنا مَلَك الموت. فرعبت قلوبهم، وذهبت
عقولهم، وطاشت حلومهم، وارتعدت فرائصهم، وبطلت عن الحركة جوارحهم، فقال لهم الملك:
قولوا له يأخذ بدلًا مني، وعوضًا عني. فقال ملك الموت: لا آخذ بدلًا، ولا أتيتُ
إلا من أجلك، لأفرِّق بينك وبين النِّعَم التي جمعتَها والأموال التي حويتها
وخزنتها. فعند ذلك تنفَّسَ الصعداء وبكى وقال: لعن الله المال الذي غرَّني وأضرني
ومنعني عن عبادة ربي، وكنتُ أظنُّ أنه ينفعني، فبقي اليوم حسرةً عليَّ ووبالًا
لديَّ، وها أنا أخرج صفرَ اليدين منه ويبقى لأعدائي. قال: فأنطق الله المال وقال:
لأي سببٍ تلعنني؟ العن نفسك، فإن الله تعالى خلقني وإياك من تراب، وجعلني في يدك
لتتزوَّد مني لآخرتك، وتتصدق بي على الفقراء والمساكين والضعفاء، ولتعمر بي الربط
والمساجد والجسور والقناطر، لأكون عونًا لك في الدار الآخرة؛ وأنت جمعتني وخزنتني،
وفي هواك أنفقتني، ولم تشكر لحقي بل كفرتني، فالآن تركتني لأعدائك وأنت بحسرتك
وندامتك؛ فأي ذنب لي حتى تسبني؟ ثم إن ملك الموت قبض روحه وهو على سريره قبل أن
يأكل الطعام، فخَرَّ ميتًا ساقطًا من فوق سريره، قال الله تعالى: حَتَّىٰ إِذَا
فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُبْلِسُونَ )الأنعام: ٤٤(.
حكاية ملك إسرائيلي جبار وملك الموت
ومما
يُحكَى أن ملكًا جبَّارًا من ملوك بني إسرائيل كان في بعض الأيام جالسًا على سرير
مملكته، فرأى رجلًا قد دخل عليه باب الدار، وله صورة منكرة، وهيئة هائلة، فاشمأزَّ
من هجومه عليه، وفزع من هيئته، فوثب في وجهه وقال: مَن أنت أيها الرجل؟ ومَن أذن
لك في الدخول عليَّ، وأمرك بالمجيء إلى داري؟ فقال: أمرني صاحب الدار، وأنا لا
يحجبني حاجب، ولا أحتاج في دخولي على الملوك إلى إذن، ولا أرهب سياسة سلطان، ولا
كثرة أعوان، أنا الذي لا يقرعني جبار، ولا لأحد من قبضتي فرار، أنا هادم اللذات،
ومفرق الجماعات. فلما سمع الملك هذا الكلام خرَّ على وجهه، ودبت الرعدة في بدنه،
ووقع مغشيًّا عليه، فلما أفاق قال: أنت مَلَك الموت؟ قال: نعم. قال: أقسمتُ عليك
بالله إلا أمهلتني يومًا واحدًا لأستغفر من ذنبي، وأطلب العذر من ربي، وأرد
الأموال التي في خزائني إلى أربابها، ولا أتحمل مشقة حسابها، وويل عقابها. فقال
ملك الموت: هيهات هيهات، لا سبيلَ إلى ذلك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام
المباح.
﴿اللیلة 464﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن مَلَك الموت قال للمَلِك: هيهات هيهات، لا سبيلَ لك
إلى ذلك، وكيف أمهلك وأيام عمرك محسوبة، وأنفاسك معدودة، وأوقاتك مثبوتة مكتوبة؟
فقال: أمهلني ساعة. فقال: إن الساعة في الحساب وقد مضت وأنت غافل، وانقضت وأنت
ذاهل، وقد استوفيت أنفاسك، ولم يَبْقَ لك إلا نفس واحدة. فقال: مَن يكون عندي إذا
نُقِلت إلى لحدي؟ قال: لا يكون عندك إلا عملك. فقال: ما لي عمل. قال: لا جرم أنه
يكون مقيلك في النار، ومصيرك إلى غضب الجبار. ثم قبض روحه فخرَّ ساقطًا عن سريره،
ووقع إلى الأرض، فحصل الضجيج في أهل مملكته، وارتفعت الأصوات، وعلا الصياح
والبكاء، ولو علموا ما يصير إليه من سخط ربه لَكان بكاؤهم عليه أكثر، وعويلهم
أشدُّ وأوفر.
حكاية إسكندر ذي القرنين
ومما
يُحكَى أن إسكندر ذا القرنين اجتاز في سفره بقوم ضعفاء لا يملكون شيئًا من أسباب
الدنيا، وقد حفروا قبور موتاهم على أبواب دورهم، وكانوا في كل وقت يتعهدون تلك
القبور ويكنسون التراب عنها وينظِّفونها ويزورونها، ويعبدون الله تعالى فيها، وليس
لهم طعام إلا الحشيش ونبات الأرض؛ فبعث إليهم إسكندر ذو القرنين رجلًا يستدعي
مَلِكهم إليه، فلم يُجِبْه وقال: ما لي إليه حاجة. فسار ذو القرنين إليه وقال: كيف
حالكم وما أنتم عليه؟ فإني لا أرى لكم شيئًا من ذهب ولا فضة، ولا أجد عندكم شيئًا
من نعيم الدنيا. فقال له: إن نعيم الدنيا لا يشبع منه أحد. فقال له إسكندر: لِمَ
حفرتم القبور على أبوابكم؟ فقال: لتكون نصب أعيننا، فننظر إليها ونجدد ذكر الموت
ولا ننسى الآخرة، ويذهب حب الدنيا من قلوبنا فلا نشغل بها عن عبادة ربنا تعالى.
فقال إسكندر: كيف تأكلون الحشيش؟ قال: لأنَّا نكره أن نجعل في بطوننا قبورَ
الحيوانات، ولأن لذة الطعام لا تتجاوز الحلق. ثم مدَّ يده فأخرج قِحْفًا من رأس
آدمي، فوضعه بين يدي إسكندر وقال له: يا ذا القرنين، أتعلم مَن كان صاحب هذا؟ قال:
لا. قال: كان صاحبه مَلِكًا من ملوك الدنيا، فكان يظلم رعيته ويجور عليهم وعلى
الضعفاء، ويستفرغ زمانه في جمع حطام الدنيا، فقبض الله روحه وجعل النار مقرَّه
وهذا رأسه.
ثم
مدَّ يدَه ووضع قِحْفًا آخَر بين يديه وقال له: أتعرف هذا؟ قال: لا. قال: هذا كان
مَلِكًا من ملوك الأرض، وكان عادلًا في رعيته شفوقًا على أهل ولايته وملكه، فقبض
الله روحه وأسكنه جنته ورفع درجته. ووضع يده على رأس ذي القرنين وقال: تُرَى، أنت
أي هذين الرأسين؟ فبكى ذو القرنين بكاءً شديدًا وضمَّه إلى صدره وقال له: إن أنت
رغبتَ في صحبتي سلَّمت إليك وزراتي وقاسَمْتُك في مملكتي. فقال الرجل: هيهات
هيهات، ما لي رغبة في هذا. فقال له إسكندر: ولِمَ ذلك؟ قال: لأن الخلق كلهم أعداؤك
بسبب المال، والملك الذي أعطيته، وجميعهم أصدقائي في الحقيقة بسبب القناعة
والصعلكة؛ لأنني ليس لي ملك ولا طمع في الدنيا، ولا لي إليها طلب ولا فيها أرب،
وليس لي إلا القناعة فحسب. فضَمَّه إسكندر إلى صدره وقبَّلَه بين عينَيْه وانصرف.
حكاية أنو شروان وتظاهره بالمرض
ومما
يُحكَى أن الملك العادل أنو شروان أظهَرَ يومًا من الأيام أنه مريض، وأنفذ ثقاته
وأمناءه وأمرهم أن يطوفوا أقطارَ مملكته وأكتافَ ولايته، وأن يتطلبوا له لبنة
عتيقة من قرية خربة ليتداوى بها، وذكر لأصحابه أن الأطباء وصفوا له ذلك؛ فطافوا
أقطار مملكته وجميع ولايته وعادوا إليه فقالوا: ما وجدنا في جميع المملكة مكانًا
خربًا ولا لبنة عتيقة. ففرح أنوشروان بهذا وشكر الله وقال: إنما أردتُ أن أجرِّب
ولايتي وأختبر مملكتي، لأعلم هل بقي فيها موضع خرب لأعمِّره؟ وحيث إنه الآن لم
يَبْقَ فيها مكان إلا وهو عامر، فقد تمت أمور المملكة وانتظمت الأحوال، ووصلت
العمارة إلى درجة الكمال. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 465﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك لما رجع إليه أرباب دولته وقالوا له: ما وجدنا
في جميع المملكة مكانًا خربًا. شكر الله وقال: الآن قد تمَّتْ أمور المملكة
وانتظمت الأحوال، ووصلت العمارة إلى درجة الكمال.
فاعلم
أيها الملك أن أولئك الملوك القدماء ما كانت همتهم واجتهادهم في عمارة ولايتهم،
إلا لعلمهم أنه كلما كانت الولاية أعمر كانت الرغبة أوفر، لأنهم كانوا يعلمون أن
الذي قالته العلماء ونطقت به الحكماء صحيح لا ريب فيه، حيث قالوا: إن الدين
بالملك، والملك بالجند، والجند بالمال، والمال بعمارة البلاد، وعمارة البلاد
بالعدل في العباد.
فما
كانوا يوافقون أحدًا على الجور والظلم، ولا يرضون لحشمهم بالتعدي، علمًا منهم أن
الرعية لا تثبت على الجور، وأن البلاد والأماكن تخرب إذا استولى عليها الظالمون،
ويتفرق أهلها ويهربون إلى ولايات غيرها. ويقع النقص في الملك، ويقل في البلاد الدخل،
وتخلوا الخزائن من الأموال، ويتكدر عيش الرعايا لأنهم لا يحبون جائرًا، ولا يزال
دعاؤهم عليه متواترًا، فلا يتمتع الملك بمملكته، وتُسرِع إليه دواعي مهلكته.
حكاية القاضي الإسرائيلي وزوجته
ومما
يُحكَى أنه كان في بني إسرائيل قاضٍ من قضاتهم، وكان له زوجة بديعة الجمال، كثيرة
الصون والصبر والاحتمال، فأراد ذلك القاضي النهوض إلى زيارة بيت المقدس، فاستخلف
أخاه على القضاء وأوصاه بزوجته، وكان أخوه قد سمع بحُسْنها وجمالها، فكَلِفَ بها،
فلما سار القاضي توجَّهَ إليها، وراودها عن نفسها، فامتنعت واعتصمت بالورع، فأكثر
الطلب عليها وهي تمتنع، فلما يئس منها خاف أن تُخبِرَ أخاه بصنيعه إذا رجع،
فاستدعى بشهود زور يشهدون عليها بالزنا، ثم رفع مسألتها إلى ملك ذلك الزمان، فأمر
برجمها، فحفروا لها حفرةً وأقعدوها فيها، ورُجِمت حتى غطَّتْها الحجارة، وقال:
تكون الحفرة قبرها. فلما جنَّ الليل صارت تَئِنُّ من شدة ما نالها، فمرَّ بها رجل
يريد قرية، فلما سمع أنينها قصدها، فأخرجها من الحفرة، واحتملها إلى زوجته، وأمرها
بمداواتها، فداوتها حتى شفيت، وكان للمرأة ولدٌ فدفعته إليها، فصارت تكفله، ويبيت
معها في بيت ثانٍ، فرآها أحد الشطار فطمع فيها، وأرسل يراودها عن نفسها، فامتنعت،
فعزم على قتلها، فجاءها بالليل، ودخل عليها البيت وهي نائمة، ثم هوى بالسكين
إليها، فوافَقَ الصبي فذبحه، فلما علم أنه ذبح الصبي أدركه الخوف، فخرج من البيت
وعصمها الله منه، ولما أصبحت وجدَتِ الصبي مذبوحًا، وجاءت أمه وقالت: أنتِ التي
ذبحتِه. ثم ضربتها ضربًا موجعًا، وأرادت ذبحها، فجاء زوجها وأنقذها منها، وقال:
والله لم تفعل ذلك. فخرجت المرأة فارَّةً بنفسها لا تدري أين تتوجه، وكان معها بعض
دراهم، فمرَّتْ بقرية والناس مجتمعون، ورجل مصلوب على جذع إلا أنه في قيد الحياة،
فقالت: يا قوم، ما له؟ قالوا لها: أصاب ذنبًا لا يكفِّره إلا قتله، وصدقة كذا وكذا
من الدراهم. فقالت: خذوا الدراهم وأطلِقوه. فتاب على يديها، ونذر على نفسه أن
يخدمها لله تعالى حتى يتوفَّاه الله، ثم بنى لها صومعة أسكَنَها فيها، وصار يحتطب
ويأيتها بقوتها، واجتهدَتِ المرأة في العبادة حتى كان لا يأتيها مريض أو مصاب
فتدعو له إلا شفي من وقته. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 466﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن المرأة لما صارت مقصودة للناس، وهي مقبلة على عبادتها
في الصومعة، كان من قضاء الله تعالى أنه نزل بأخي زوجها الذي رجمها عاهة في وجهه،
وأصاب المرأةَ التي ضربتها برصٌ، وابتُلِي الشاطر بوجعٍ أقعَدَه، وقد جاء القاضي
زوجها من حجه، وسأل أخاه عنها، فأخبره أنها ماتت، فأسف عليها، واحتسبها عند الله،
ثم تسامعت الناس بالمرأة حتى كانوا يقصدون صومعتها من أطراف الأرض ذات الطول
والعرض، فقال القاضي لأخيه: يا أخي، هلَّا قصدتَ هذه المرأة الصالحة؟ لعل الله
يجعل لك على يدَيْها شفاء. قال: يا أخي، احملني إليها. وسمع بها زوج المرأة التي
نزل بها البرص فسار بها إليها، وسمع أهل الشاطر المُقعَد بخبرها فساروا به إليها
أيضًا، واجتمع الجميع عند باب صومعتها، وكانت ترى جميع مَن يأتي صومعتها من حيث لا
يراها أحد، فانتظروا خادمها حتى جاء ورغبوا إليه في أن يستأذن لهم في الدخول عليها
ففعل، فانتقبت واستترت، ووقفت عند الباب تنظر زوجها وأخاه واللص والمرأة،
وعرفَتْهم وهم لا يعرفونها، فقالت لهم: يا هؤلاء، إنكم ما تستريحون مما بكم حتى
تعترفوا بذنوبكم، فإن العبد إذا اعترف بذنبه تاب الله عليه، وأعطاه ما هو متوجِّه
فيه إليه. فقال القاضي لأخيه: يا أخي، تُبْ إلى الله، ولا تُصِرَّ على عصيانك،
فإنه أنفع لخلاصك، ولسان الحال يقول هذا المقال:
الْيَوْمَ
يُجْمَعُ مَظْلُومٌ وَمَنْ ظَلَمَا وَيُظْهِرُ
اللهُ سِرًّا كَانَ قَدْ كُتِمَا
هَذَا
مَقَامٌ يُذَلُّ الْمُذْنِبُونَ لَهُ
وَيَرْفَعُ اللهُ مَنْ طَاعَاتِهِ لَزِمَا
وَيُظْهِرُ
الْحَقَّ مَوْلَانَا وَسَيِّدُنَا هَذَا
وَإِنْ سَخَطَ الْعَاصِي وَإِنْ رُغِمَا
يَا
وَيْحَ مَنْ جَاهَرَ الْمَوْلَى وَأَسْخَطَهُ كَأَنَّهُ بِعِقَابِ اللهِ مَا عَلِمَا
يَا
طَالِبَ الْعِزِّ إِنَّ الْعِزَّ وَيْحَكَ فِي تَقْوَى الْإِلَهِ فَكُنْ بِاللهِ
مُعْتَصِمَا
قال:
فعند ذلك قال أخو القاضي: الآن أقول الحق؛ إني فعلت بزوجتك ما هو كذا وكذا، وهذا
ذنبي. فقالت البرصاء: وأنا كانت عندي امرأة، فنسبتُ إليها ما لم أعلمه، وضربتُها
عمدًا، وهذا ذنبي. فقال المُقعَد: وأنا دخلتُ على امرأةٍ لأقتلها بعد مراودتها عن
نفسها، وامتناعها من الزنا، فذبحتُ صبيًّا كان بين يدَيْها وهذا ذنبي. فقالت
المرأة: اللهم كما أريْتَهم ذلَّ المعصية، فأَرِهِم عزَّ الطاعة، إنك على كل شيء
قدير. فشفاهم الله عز وجل. وجعل القاضي ينظر إليها ويتأملها، فسألته عن سبب النظر،
فقال: كانت لي زوجة، ولولا أنها ماتت لقلتُ إنها أنتِ. فعرَّفَتْه بنفسها، وجعلَا
يحمدان الله عزَّ وجلَّ على ما مَنَّ عليهما به من جمع شملهما، ثم طفق كلٌّ من أخي
القاضي واللص والمرأة يسألونها المسامحة، فسامحَتِ الجميع، وعبدوا الله تعالى في
ذلك المكان، مع لزوم خدمتها إلى أن فرَّقَ الموتُ بينهم.
حكاية امرأة مسافرة إلى الحج وابنها
ومما
يُحكَى أن بعض السادة قال: بينما أنا أطوف بالكعبة في ليلة مظلمة، إذ سمعتُ صوتًا
ذا حنين ينطق عن قلب حزين، وهو يقول: يا كريم لطفك القديم، فإن قلبي على العهد
مُقِيم. فتطايَرَ قلبي لسماع ذلك الصوت تطايُرًا أشرفْتُ منه على الموت، فقصدتُ
نحوه فإذا صاحبته امرأة فقلت: السلام عليك يا أمة الله. فقالت: وعليك السلام ورحمة
الله وبركاته. فقلتُ: أسألك بالله العظيم ما العهد الذي قلبك عليه مُقِيم؟ فقالت:
لولا قسمك بالجبَّار ما أطلعتُكَ على الأسرار، انظر ما بين يدي، فنظر فإذا بين
يديها صبي نائم يغطُّ في نومه، فقالت: خرجتُ وأنا حامل بهذا الصبي لأحجَّ هذا
البيت، فركبتُ في سفينة فهالت علينا الأمواج، واختلفَتْ علينا الرياح، وانكسرت بنا
السفينة، فنجوت على لوحٍ منها، ووضعت هذا الصبي وأنا على ذلك اللوح، فبينما هو في
حجري، والأمواج تضربني … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 467﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية قالت: لما انكسرت السفينة نجوتُ على لوح منها،
ووضعت هذا الصبي وأنا على ذلك اللوح، فبينما هو في حجري والأمواج تضربني، إذ وصل
إليَّ رجل من ملَّاحي السفينة، وحصل معي، وقال لي: والله لقد كنتُ أهواكِ وأنتِ في
السفينة، والآن قد حصلتُ معك، فمكِّنيني من نفسك، وإلا قذفتك في هذا البحر. فقلتُ:
ويحك! أَمَا كان لك مما رأيت تذكرة وعبرة؟ فقال: إني رأيتُ مثل ذلك مرارًا ونجوتُ،
وأنا لا أبالي. فقلتُ: يا هذا، نحن في بلية نرجو السلامة منها بالطاعة لا
بالمعصية، فألحَّ عليَّ فخفتُ منه، وأردتُ أن أخادعه، فقلتُ له: مهلًا حتى ينام
هذا الطفل. فأخذه من حجري وقذفه في البحر، فلما رأيت جرأته، وما فعل بالصبي طار
قلبي، وزاد كربي، فرفعت رأسي إلى السماء وقلت: يا مَن يَحُول بين المرء وقلبه، حُل
بيني وبين هذا الأسد؛ إنك على كل شيء قدير. فوالله ما فرغتُ من كلامي إلا ودابة قد
طلعَتْ من البحر، فاختطفَتْه من فوق اللوح، وبقيت وحدي، وزاد كربي وحزني إشفاقًا
على ولدي، فأنشدتُ وقلتُ:
قُرَّةَ
الْعَيْنِ حَبِيبِي وَلَدِي ضَاعَ
حَيْثُ الْوَجْدُ أَوْهَى جَلَدِي
وَأَرَى
جِسْمِي غَرِيقًا وَغَدَتْ بِالتيَاعِ
الْوَجْدِ تَشْوِي كَبِدِي
لَيْسَ
لِي فِي كُرْبَتِي مِنْ فَرَجٍ غَيْرُ
أَلْطَافِكَ يَا مُعْتَمِدِي
أَنْتَ
يَا رَبِّي تَرَى مَا حَلَّ بِي مِنْ
غَرَامِي بِفِرَاقِي وَلَدِي
فَاجْمَعِ
الشَّمْلَ وَكُنْ لِي رَاحِمًا فَرَجَائِي
فِيكَ أَقْوَى عُدَدِي
فبقيت
على تلك الحالة يومًا وليلة، فلما كان الصباح بصرت بقلاع سفينة تلوح من بُعْدٍ،
فما زالَتِ الأمواج تقذفني والرياح تسوقني حتى وصلتُ إلى تلك السفينة التي كنتُ
أرى قلاعها، فأخذني أهل السفينة ووضعوني فيها، فنظرت فإذا ولدي بينهم، فتراميتُ
عليه وقلتُ: يا قوم، هذا ولدي، فمن أين كان لكم؟ قالوا: بينما نحن نسير في البحر
إذ حبست السفينة، فإذا دابة كأنها المدينة العظيمة، وهذا الصبي على ظهرها يمصُّ
إبهامه فأخذناه. فلما سمعتُ منهم ذلك حدَّثْتُهم بقصتي، وما جرى لي، وشكرتُ لربي
على ما أنالني، وعاهدْتُه أنْ لا أبرح بيته، ولا أنثني عن خدمته، وما سألته بعد
ذلك شيئًا إلا أعطانيه. فمددتُ يدي إلى كيس النفقة، وأردتُ أن أعطيها، فقالت: إليك
عني يا بطال، أفأحدِّثك بأفضاله، وكرم فِعَاله، وآخُذ الرفد عن يد غيره، فلم أقدر
على أن تقبل مني شيئًا، فتركتها وانصرفت من عندها، وأنا أنشد وأقول هذه الأبيات:
وَكَمْ
للهِ مِنْ لُطْفٍ خَفِيٍّ يَدُقُّ
خَفَاهُ عَنْ فَهْمِ الذَّكِيِّ
وَكَمْ
يَسُرُّنِي مِنْ بَعْدِ عُسْرٍ وَفَرَّجَ
لَوْعَةَ الْقَلْبِ الشَّجِيِّ
وَكَمْ
هَمٍّ تُعَانِيهِ صَبَاحًا فَتُعْقِبُهُ
الْمَسَرَّةُ بِالْعَشِيِّ
إِذَا
ضَاقَتْ بِكَ الْأَسْبَابُ يَوْمًا فَثِقْ
بِالْوَاحِدِ الصَّمَدِ الْعَلِيِّ
تَشَفَّعْ
بِالنَّبِيِّ فَكُلُّ عَبْدٍ يَنَالُ
إِذَا تَشَفَّعَ بِالنَّبِيِّ
وما
زالتْ في عبادة ربها ملازِمةً بيته إلى أن أدركها الموت.
حكاية العبد الأول المتعبد
ومما
يُحكَى أن مالك بن دينار رحمه الله تعالى قال: انحبس عنَّا المطر بالبصرة، فخرجنا
نستقي مرارًا فلم نَرَ أثرَ الإجابة، فخرجت أنا وعطاء السلمي وثابت البناني ونجي
البكاء ومحمد بن واسع وأيوب السختياني وحبيب الفارسي وحسان بن أبي سنان وعتبة
الفلام وصالح المزني، حتى صرنا إلى المصلَّى، وخرجت الصبيان من المكاتب واستقينا
فلم نَرَ أثرَ الإجابة؛ فانتصف النهار وانصرف الناس وبقيت أنا وثابت البناني
بالمصلَّى، فلما أظلم الليل بصرنا بأسود مليح الوجه، رقيق الساقين، عظيم البطن، قد
أقبَلَ، عليه مئزر من صوف، إذا قُوِّمَ جميعَ ما كان عليه لا يساوي درهمين؛ فجاء
بماء فتوضَّأَ، ثم أتى المحراب فصلَّى ركعتين خفيفتين، كان قيامه وركوعه وسجوده
فيها سواء، ثم رفع طرفه إلى السماء وقال: إلهي وسيدي ومولاي، إلى كَمْ تردُّ
عبادَك فيما لا ينقص ملكك؟ أَنَفَدَ ما عندك أمْ فنيَتْ خزائنُ مُلْكِك؟ أقسمتُ
عليك بحبِّك لي إلا سقيتنا غيثَك الساعة. قال: فما تمَّ الكلام حتى تغيَّمت السماء
وجاءت بمطر كأفواه القرب، ولم نخرج من المصلَّى إلا ونحن نخوض في الماء للركب.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 468﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أنه قال: فما تمَّ كلامه حتى تغيَّمَتِ السماء وجاءت
بمطر كأفواه القرب، ولم نخرج من المصلَّى إلا ونحن نخوض في الماء للركب، وبقينا
نتعجَّب من الأسود. قال مالك: فتعرَّضْتُ له وقلتُ: ويحك يا أسود، أَمَا تستحي مما
قلتَ؟ فالتفَتَ إليَّ وقال: ماذا قلتُ؟ فقلتُ له: قولك بحبِّك لي، وما يدريك أنه
يحبك؟ فقال لي: تنحَّ عني يا مَن اشتغل عن نفسه؛ فأين كنتُ أنا حين أيَّدَني
بالتوحيد وخصَّني بمعرفته؟ أفتراه أيَّدني بذلك إلا لمحبته لي. ثم قال: محبته لي
على قدر محبتي له. فقلت له: قف عليَّ قليلًا يرحمك الله. فقال: إني مملوك وعليَّ
فرض من طاعة مالكي الصغير. قال: فجعلنا نقفو أثره على البعد حتى دخل دار نخاس، وقد
مضى من الليل نصفه، فطال علينا النصف الثاني فذهبنا. فلما كان الصباح أتينا النخاس
وقلنا له: أعندك غلام تبيعه لنا لأجل الخدمة؟ قال: نعم، عندي نحو مائة غلام كلهم للبيع.
قال: وجعل يعرض علينا غلامًا بعد غلام، حتى عرض سبعين غلامًا ولم أَرَ صاحبي فيهم.
فقال: ما عندي غير هؤلاء. فلما أردنا الخروج دخلتُ حجرة خربة خلف داره، فإذا
الأسود قائم. فقلت: هو وربِّ الكعبة. فرجعت إلى النخاس وقلت: بعني هذا الغلام.
قال: يا أبا يحيى، إنه غلام مشئوم نكد، ليس له في الليل همة إلا البكاء، وفي
النهار إلا الندم. فقلت: لذلك أريده. قال: فدعاه فخرج وهو يتناعس. فقال لي: خذه
بما شئتَ بعد أن تبريني من عيوبه كلها. قال: واشتريته بعشرين دينارًا وقلت: ما
اسمه؟ قال: ميمون. فأخذت بيده وانطلقنا نريد به المنزل، فالتفَتَ إليَّ وقال لي:
يا مولاي الصغير، لماذا اشتريتني؟ فأنا والله لا أصلح لخدمة المخلوقين. فقلتُ له:
إنما اشتريتُك لأخدمك بنفسي وعلى رأسي. فقال لي: ولِمَ ذلك؟ فقلتُ: ألستَ صاحبنا
البارحة بالمصلَّى؟ فقال: وهل اطِّلَعْتَ عليَّ؟ قلت: أنا الذي اعترضتُكَ البارحة
في الكلام. قال: فجعل يمشي حتى دخل مسجدًا، فصلَّى ركعتين ثم قال: إلهي وسيدي
ومولاي، سرٌّ كان بيني وبينك أطلعت عليه المخلوقين وفضحتني فيه بين العالمين، فكيف
يطيب الآن عيشي وقد وقف على ما كان بيني وبينك غيرُك؟ أقسمتُ عليك إلا ما قبضتَ
روحي الساعة. ثم سجد، فانتظرتُه ساعةً فلم يرفع رأسه، فحرَّكْتُه فإذا هو قد مات
رحمة الله تعالى عليه. فمددتُ يدَيْه ورجلَيْه ونظرتُ إليه فإذا هو ضاحك وقد غلب
البياض على السواد، ووجهه يستنير ويبدو متهللًا. فبينما نحن نعجب من أمره، إذا
بشاب قد أقبل من الباب وقال: السلام عليكم، عظَّمَ الله أجرنا وإياكم في أخينا
ميمون، هاك الكفن فكفِّنوه فيه. فناوَلَني ثوبين ما رأيتُ مثلَهما قطُّ، فكفَّناه
فيهما. قال مالك: فقبره الآن يُستسقَى به وتُطلَب الحوائج من الله عز وجل لديه.
وما أحلى ما قال بعضهم في هذا المعنى:
مَجَالُ
قُلُوبِ الْعَارِفِينَ بِرَوْضَةٍ سَمَاوِيَّةٍ
مِنْ دُونِهَا حُجِبَ الرَّبُّ
إِذَا
شَرِبُوا فِيهَا الرَّحِيقَ مِزَاجُهُ
بِتَسْنِيمِ رَاحِ الْأُنْسِ بِاللهِ مِنْ قُرْبِ
سَرَى
سِرُّهُمْ بَيْنَ الْحَبِيبِ وَبَيْنَهُمْ
فَأَضْحَى مَصُونًا عَنْ سِوَى ذَلِكَ الْقَلْبِ
حكاية المتعبد الإسرائيلي وزوجته
ومما
يُحكَى أنه كان من بني إسرائيل رجل من خيارهم، وقد اجتهَدَ في عبادة ربه، وزهد في
دنياه، وأزالها عن قلبه، وكانت له زوجة مساعدة على شأنه، مطيعة له في كل زمانه،
وكانا يعيشان من عمل الأطباق والمراوح، يعملان النهار كله، فإذا كان آخر النهار
خرج الرجل بما عملاه في يده، ومشى به يمر على الأزِقَّة والطُّرُق، يلتمس مشتريًا
يبيع له ذلك، وكانا يُدِيمان الصوم، فأصبحَا في يومٍ من الأيام وهما صائمان، وقد
عملَا يومهما ذلك، فلما كان آخِر النهار، خرج الرجل على عادته، وبيده ما عملاه
يطلب مَن يشتريه منه، فمرَّ بباب أحد أبناء الدنيا، وأهل الرفاهية والجاه، وكان
الرجل وضيء الوجه، جميل الصورة، فرأته امرأة صاحب الدار فعشقته، ومال قلبها إليه
ميلًا شديدًا، وكان زوجها غائبًا، فدعَتْ خادمتها وقالت لها: لعلك تتحيَّلين على
ذلك الرجل لتأتي به عندنا. فخرجت الخادمة، ودعته لتشتري منه ما بيده، وردَّتْه من
طريقه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 469﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن الخادمة خرجَتْ إلى الرجل ودَعَتْه، وقالت: ادخل فإن
سيدتي تريد أن تشتري من هذا الذي بيدك شيئًا بعد أن تختبره وتنظر إليه. فتخيَّلَ
الرجل أنها صادقة في قولها، ولم يَرَ في ذلك بأسًا، فدخل وقعد كما أمرته، فأغلقت
الباب عليه، وخرجت سيدتها من بيتها، وأمسكت جلابيبه وجذبته وأدخلته، وقالت له: كم
ذا؟ أطلب خلوة منك، وقد عِيل صبري من أجلك، وهذا البيت مبخَّر، والطعام محضَّر،
وصاحب الدار غائب في هذه الليلة، وأنا قد وهبتُ لك نفسي، ولطالما طلبني الملوك
والرؤساء وأصحاب الدنيا ولم ألتفت لأحدٍ منهم. وطال أمرها في القول، والرجل لا
يرفع رأسه من الأرض حياءً من الله تعالى، وخوفًا من أليم عقابه، كما قال الشاعر:
وَرُبَّ
كَبِيرَةٍ مَا حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ
رُكُوبِهَا إِلَّا الْحَيَاءُ
وَكَانَ
هُوَ الدَّوَاءُ لَهَا وَلَكِنْ إِذَا
ذَهَبَ الْحَيَاءُ فَلَا دَوَاءُ
قال:
وطمع الرجل في أن يخلص نفسه منها، فلم يقدر، فقال: أريد منك شيئًا. قالت: وما هو؟
قال: أريد ماءً طاهرًا أصعد به إلى أعلى موضع في دارك لأقضي به أمرًا، وأغسل به
درنًا ممَّا لا يمكنني أن أُطلِعَك عليه. فقالت: الدار متَّسِعة، ولها خبايا
وزوايا، وبيت الطهرة مُعَدٌّ. قال: ما غرضي إلا الارتفاع. فقالت لخادمتها: اصعدي
به إلى المنظرة العليا من الدار. فصعدَتْ به إلى أعلى موضع فيها، ودفعت له آنية
الماء ونزلت، فتوضَّأَ الرجل وصلَّى ركعتين، ونظر إلى الأرض ليُلقِي نفسه، فرآها
بعيدة، فخاف ألَّا يصل إليها إلا وقد تمزَّقَ، ثم تفكَّرَ في معصية الله تعالى
وعقابه، فهان عليه بذل نفسه وسفك دمه، فقال: إلهي وسيدي، ترى ما نزل بي، ولا يخفى
عليك حالي، إنك على كل شيء قدير. ولسان الحال يُنشِد ويقول في المعنى:
أَشَارَ
الْقَلْبُ نَحْوَكَ وَالضَّمِيرُ وَسِرُّ
السِّرِّ أَنْتَ بِهِ خَبِيرُ
وَإِنِّي
إِنْ نَطَقْتُ بِكُمْ أُنَادِي وَفِي
وَقْتِ السُّكُوتِ لَكُمْ أُشِيرُ
أَيَا
مَنْ لَا يُضَافُ إِلَيْهِ ثَانٍ أَتَاكَ
الْوَالِهُ الصَّبُّ الْفَقِيرُ
وَلِي
أَمَلٌ تُحَقِّقُهُ ظُنُونِي وَلِي
قَلْبٌ كَمَا تَدْرِي يَطِيرُ
وَبَذْلُ
النَّفْسِ أَصْعَبُ مَا يُلَاقِي فَإِنْ
قَدَّرْتَهُ فَهْوَ الْيَسِيرُ
وَإِنْ
تَمْنُنْ وَتَمْنَحْنِي خَلَاصِي فَأَنْتَ
عَلَيْهِ يَا أَمَلِي قَدِيرُ
ثم
إن الرجل ألقى نفسه من أعلى المنظرة، فبعث الله إليه ملكًا احتمله على جناحه،
وأنزله إلى الأرض سالمًا دون أن يناله ما يؤذيه، فلما استقرَّ بالأرض حمد الله
عزَّ وجلَّ على ما أولاه من عصمته، وما أناله من رحمته، وسار دون شيء إلى زوجته،
وكان قد أبطأ عنها، فدخل وليس معه شيء، فسألته عن سبب بطئه، وعمَّا خرج به في يده،
وما فعل به، وكيف رجع بدون شيء، فأخبرها بما عرض له من الفتنة، وأنه ألقى نفسه من
ذلك الموضع فنجَّاه الله، فقالت زوجته: الحمد لله الذي صرف عنك الفتنة، وحال بينك
وبين المحنة. ثم قالت: يا رجل، إن الجيران قد تعوَّدوا منَّا أن نُوقِد تنُّورَنا
في كل ليلة، فإن رأونا الليلة دون نارٍ علموا أننا بلا شيء، ومن شكر الله كتم ما
نحن فيه من الخصاصة، ووصال صوم هذه الليلة باليوم الماضي، وقيامها لله تعالى.
فقامت إلى التنُّورِ، وملأته حطبًا، وأضرمته لتغالِط به الجارات، وأنشدت تقول هذه
الأبيات:
سَأَكْتُمُ
مَا بِي مِنْ غَرَامِي وَأَشْجَانِي
وَأُضْرِمُ نَارِي كَيْ أُغَالِطَ جِيرَانِي
وَأَرْضَى
بِمَا أَمْضَى مِنَ الْحُكْمِ سَيِّدِي
عَسَاهُ يَرَى ذُلِّي إِلَيْهِ فَيَرْضَانِي
وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 470﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن المرأة لما أضرمَتِ النار تغالط الجيران، نهضت هي
وزوجها وتوضَآ وقامَا إلى الصلاة، فإذا امرأة من جارتها تستأذن في أن توقد من
تنُّورِهما، فقالا لها: شأنك والتنُّور. فلما دَنَتِ المرأة من التنُّور لتأخذ
النارَ نادت: يا فلانة، أدركي خبزك قبل أن يحترق. فقالت امرأة الرجل لزوجها:
أسمعتَ ما تقول هذه المرأة؟ فقال: قومي وانظري. فقامت وتوجَّهَتْ للتنُّور، فإذا
هو قد امتلأ من خبز نقي أبيض، فأخذت المرأة الأرغفة، ودخلت على زوجها وهي تشكر
الله عزَّ وجلَّ على ما أولى من الخير العميم، والمنِّ الجسيم، فأكلَا من الخبز،
وشربَا من الماء، وحمدَا الله تعالى، ثم قالت المرأة لزوجها: تعال ندعُ الله تعالى
عساه أن يمنَّ علينا بشيء يُغنِينا عن كدِّ المعيشة، وتعب العمل، ويُعِيننا به على
عبادته والقيام بطاعته. قال لها: نعم. فدعا الرجل ربَّه، وأمَّنَتِ المرأة على
دعائه، فإذا السقف قد انفرج، ونزلت ياقوتة أضاء البيت من نورها، فزادَا شكرًا
وثناءً، وسُرَّا بتلك الياقوتة سرورًا كثيرًا، وصليَا ما شاء الله تعالى. فلما
كانَا آخِر الليل نامَا، فرأت المرأة في منامها كأنها دخلَتِ الجنة، وشاهدت منابر
كثيرة مصفوفة، وكراسي منصوبة، فقالت: ما هذه المنابر، وما هذه الكراسي؟ فقيل لها:
هذه منابر الأنبياء، وهذه كراسي الصديقين والصالحين. فقالت: وأين كرسي زوجي فلان؟
فقيل لها: هذا. فنظرت إليه فإذا في جانبه ثلم، فقالت: وما هذا الثلم؟ فقيل لها: هو
ثلم الياقوتة النازلة عليكما من سقف بيتكما. فانتبهت من منامها وهي باكية حزينة
على نقصان كرسي زوجها بين كراسي الصدِّيقين، فقالت: أيها الرجل، ادعُ ربَّكَ أن
يردَّ هذه الياقوتة إلى موضعها؛ فمكابدةُ الجوع والمسكنةُ في الأيام القلائل أهون
من ثلم كرسيك بين أصحاب الفضائل. فدعا الرجل ربه، فإذا الياقوتة قد طارت صاعدةً
إلى السقف، وهما ينظران إليها، وما زالا على فقرهما وعبادتهما، حتى لقيَا الله
عزَّ وجلَّ.
حكاية الحجاج بن يوسف الثقفي والسجين المتعبد
ومما
يُحكَى أن الحجاج بن يوسف الثقفي كان يتطلَّب رجلًا من الأكابر، فلما حضر بين
يدَيْه قال: أي عدو الله قد أمكن الله منك. ثم قال: احملوه إلى السجن وقيِّدوه
بقيد ضيق ثقيل، وابنوا عليه بيتًا لا يخرج منه، ولا يدخل إليه فيه أحد. فأمر
بالرجل إلى السجن وأحضر الحداد والقيد، وكان الحداد إذا ضرب بمطرقته يرفع الرجل
رأسه وينظر إلى السماء ويقول: أَلَا له الخلق والأمر. فلما فرغ منه بنى السجَّان
عليه البيت وتركه فيه وحيدًا فريدًا؛ فداخَلَه الوَجْد والذهول ولسان حاله ينشد
ويقول:
يَا
مُرَادَ الْمُرِيدِ أَنْتَ مُرَادِي
وَعَلَى فَضْلِكَ العَمِيمِ اعْتِمَادِي
لَيْسَ
يَخْفَى عَلَيْكَ مَا أَنَا فِيهِ لَحْظَةً
مِنْكَ بُغْيَتِي وَاقْتِصَادِي
سَجَنُونِي
وَبَالَغُوا فِي امْتِحَانِي وَيْحَ
نَفْسِي لِغُرْبَتِي وَانْفِرَادِي
إِنْ
أَكُنْ مُفْرَدًا فَذِكْرُكَ أُنْسِي
وَسَمِيرِي إِذَا مُنِعْتُ رُقَادِي
إِنْ
تَكُنْ رَاضِيًا فَلَسْتُ أُبَالِي أَنْتَ
تَدْرِي بِمَا تَرَى فِي فُؤَادِي
فلما
جنَّ الليل أبقى السجَّان حرسه عنده وذهب إلى بيته، ولما أصبح جاء وتفقَّدَ الرجل
فإذا القيد مطروح والرجل ليس له خبر؛ فخاف السجان وأيقَنَ بالموت، فسار إلى منزله
وودَّعَ أهله وأخذ كفنه وحنوطه في كمه ودخل على الحجاج؛ فلما وقف بين يدَيْه شمَّ
الحجاج رائحة الحنوط فقال: ما هذا؟ قال: يا مولاي، أنا جئتُ به. قال: وما حملك على
هذا؟ فأخبره بخبر الرجل. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 471﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن السجَّان لما أخبر الحجاج بخبر الرجل قال للرجل:
ويحك! هل سمعتَه يقول شيئًا؟ قال: نعم. كان إذا ضرب الحداد بالمطرقة ينظر إلى
السماء ويقول: أَلَا له الخلق والأمر. فقال الحجاج: أَوَمَا علمتَ أن الذي ذكره
وأنت حاضر، سرحه وأنت عنه غائب؟ وقد أنشَدَ لسان الحال في هذا المعنى وقال:
يَا
رَبُّ كَمْ مِنْ بَلَاءٍ قَدْ ذَهَبْتَ بِهِ عَنِّي وَلَوْلَاكَ لَمْ أَقْعُدْ وَلَمْ
أَقُمِ
فَكَمْ
وَكَمْ مِنْ أُمُورٍ لَسْتُ أَحْصُرُهَا
نَجَّيْتَنِي مِنْ بَلَاهَا كَمْ وَكَمْ وَكَمِ
حكاية الحداد الذي يدخل يده في النار فلا تعدو عليه
وحُكِي
أن رجلًا من الصالحين بلغه أن بمدينة كذا وكذا حدادًا يُدخِل يدَه في النار، ويأخذ
الحديدة المحماة منها بها فلا تعدو عليه النار؛ فقصد الرجلُ تلك البلدة يسأل عن
الحدَّاد، فدُلَّ عليه، فلما نظره وتأمَّلَه رآه يصنع ما قد وُصِف له، فأمهله حتى
فرغ من عمله وأتاه وسلَّمَ عليه، وقال له: إني أريد أن أكون الليلةَ ضيفَك. فقال:
حبًّا وكرامة. فاحتمله إلى منزله وتعشَّى معه ونامَا جميعًا، فلم يَرَ له أثر قيام
ولا عبادة، فقال في نفسه: لعله يستتر مني. فبات عنده ثانية وثالثة، فرآه لا يزيد
على الفرض إلا السنن، ولا يقوم من الليل إلا القليل. فقال له: يا أخي، إني سمعتُ
عمَّا أكرَمَك الله به ورأيتُه باديًا عليك، ثم نظرتُ إلى اجتهادك فلم أَرَ منك
عملَ مَن تظهر عليه الكرامات؛ فمن أين لك هذا؟ قال: إني أحدِّثك بسببه؛ وذلك أني
كنتُ تولَّعْتُ بجارية وكنتُ بها كَلِفًا، فراودْتُها عن نفسها كثيرًا، فلم أقدر
عليها لاعتصامها بالوَرَع، فجاءت سنةُ قحطٍ وجوعٍ وشدة، فعُدِم الطعام وعَظُم
الجوع، فبينما أنا قاعد إذ قرع البابَ قارعٌ، فخرجت، فإذا هي واقفة فقالت: يا أخي،
أصابني جوع شديد وقد رفعتُ إليك رأسي لتُطعِمني لله. فقلت لها: أَمَا تعلمين ما كان
من حبك وما قاسيتُه من أجلك؟ فأنا لا أُطعِمُك شيئًا حتى تمكِّنيني من نفسك.
فقالت: الموت ولا معصية الله. ثم رجعت وعادَتْ بعد يومين، فقالت لي مثل مقالتها
الأولى، وقلت مثل جوابي الأول؛ فدخلَتْ وقعدَتْ في البيت وقد أشرفَتْ على الهلاك،
فلما جعلْتُ الطعامَ بين يديها، ذرفت عيناها وقالت: أطعمني لله عزَّ وجلَّ. فقلتُ
لها: لا والله إلا أن تمكِّنيني من نفسك. فقالت: الموت خير لي من عذاب الله تعالى.
وقامت وتركَتِ الطعام. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 472﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن المرأة قالت للرجل حين أتاها بالطعام: أَطْعِمْني لله
عزَّ وجلَّ. فقال: لا، إلا أن تمكِّنيني من نفسك. فقالت: الموت ولا عذاب الله. ثم
قامت وتركت الطعام وخرجت ولم تأكل شيئًا، وجعلت تقول هذه الأبيات:
أَيَا
وَاحِدًا إِحْسَانُهُ شَمَلَ الْخَلْقَا
بِسَمْعِكَ مَا أَشْكُو بِعَيْنِكَ مَا أَلْقَى
فَقَدْ
صَدَمَتْنِي شِدَّةٌ وَخَصَاصَةٌ وَنَازَلَنِي
مَا بَعْضُهُ يَمْنَعُ النُّطْقَا
كَأَنِّي
ظَمْآنٌ تَرَى الْمَاءَ عَيْنُهُ فَلَا
عَيْنُهُ تُرْوَى وَلَا شُرْبَةً يُسْقَى
تُنَازِعُنِي
نَفْسِي إِلَى نَيْلِ أَكْلَةٍ لَذَاذَتُهَا
تَفْنَى وَعِصْيَانُهَا يَبْقَى
ثم
إنها غابت يومين وأتَتْ تقرع الباب، فخرجت فإذا الجوع قد قطع صوتها، فقالت لي: يا
أخي، قد أعيتني الحِيَل ولا أقدر على إبداء وجهي لأحد من الناس غيرك، فهل تُطعِمني
لله تعالى؟ فقلت: لا، إلا أن تمكِّنيني من نفسك. فدخلَتْ وقعدت في البيت ولم يكن
عندي طعام حاضر، فلما نضج الطعام وجعلتُه في القصعة، تداركني الله تعالى وقلت
لنفسي: ويحك! هذه امرأة ناقصة عقل ودين تمتنع من الطعام، ولا قدرةَ لها على الصبر
دونه لما نالَهَا من الجوع، وهي ترد المرة بعد الأخرى وأنت لا تنثني عن معصية الله
تعالى. فقلت: اللهم إني أتوب إليك مما خطر بنفسي. فقمت بالطعام ودخلت عليها وقلت
لها: كُلِي ولا بأسَ عليك، فإنه لله عزَّ وجلَّ. فرفعَتْ عينها إلى السماء وقالت:
اللهم إنْ كان هذا صادقًا فحرِّمْ عليه النار في الدنيا والآخرة، إنك على كل شيء قدير،
وبالإجابة جدير. قال: فتركتُها وقمتُ لأزيل النار من الكانون، وكان الوقت وقتَ فصل
الشتاء والبرد، فوقعَتْ جمرةٌ على بدني، فلم أجد لها ألَمًا بقدرة الله عزَّ
وجلَّ، فوقع في نفسي أنَّ دعوتَها أُجِيبت؛ فأخذتُ الجمرة بكفي فلم تحرقني، فدخلتُ
عليها وقلت: أَبْشِرِي فإن الله قد أجاب دعوتَكِ. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن
الكلام المباح.
﴿اللیلة 473﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الحداد قال لها: أبشري فإن الله قد أجاب دعوتك. فألقت
اللقمة من يدها وقالت: اللهم كما أريتَني مرادي فيه وأجبتَ دعوتي له، فاقبض روحي
إنك على كل شيء قدير. فقبض الله روحها تلك الساعة رحمة الله عليها. وأنشد لسان
الحال في هذا المعنى وقال:
دَعَتْ
فَأَجَابَ مَوْلَاهَا دُعَاهَا وَتَابَ
عَلَى غَوِيٍّ قَدْ دَعَاهَا
أَرَاهَا
سُؤْلَهَا فِيهِ امْتِنَانًا وَوَاتَاهَا
كَمَا شَاءَتْ مُنَاهَا
أَتَتْهُ
لِبَابِهِ تَرْجُو نَوَالًا وَتَقْصِدُهُ
لِكَرْبٍ قَدْ عَرَاهَا
فَمَالَ
إِلَى غِوَايَتِهِ وَأَهْوَى لِشَهْوَتِهِ
وَأَمَّلَ مُنْتَهَاهَا
وَلَمْ
يَعْلَمْ مُرَادَ اللهِ فِيهِ وَتَوْبَتُهُ
أَتَتْهُ وَمَا نَوَاهَا
قَضَايَا
اللهِ أَرْزَاقٌ فَمَنْ لَا تُتَاحُ
لَهُ وَتَأْتِيهِ أَتَاهَا
حكاية رجل إسرائيلي وسحابة
وحُكِي
أنه كان في بني إسرائيل رجل من العباد المشهورين بالعبادة المعصومين الموصوفين
بالزهادة، وكان إذا دعا ربه أجابه، وإذا سأل أعطاه وآتاه مُنَاه، وكان سيَّاحًا في
الجبال قوَّام الليل، وكان الله سبحانه وتعالى قد سخر له سحابة تسير معه حيث يسير،
وتسكب عليه ماء منهمرًا فيتوضأ منه ويشرب؛ فما زال على ذلك إلى أن اعتراه فتور في
بعض الأوقات، فأزال الله عنه سحابته وحجب عنه إجابته؛ فكثر لذلك حزنه وطال كمده،
وما زال يشتاق إلى زمن الكرامة الممنون بها عليه، ويتحسَّر ويتأسَّف ويتلهَّف؛
فنام ليلة من الليالي، فقيل له في نومه: إنْ شئتَ أن يردَّ الله عليك سحابتك،
فاقصد الملك الفلاني في بلد كذا أو كذا، واسأله أن يدعو لك فإن الله سبحانه وتعالى
يردُّها عليك ويسوقها إليك ببركة دعواته الصالحات. وأنشد يقول هذه الأبيات:
أَقْصِدْ
إِلَى الصَّالِحِ الْأَمِيرِ فِي
خَطْبِكَ الْوَاقِعِ الْكَبِيرِ
فَإِنْ
دَعَا اللهُ جَاءَ مَا قَدْ سَأَلْتَ
مِنْ وَابِلٍ هَمِيرِ
لَقَدْ
سَمَا فِي الْمُلُوكِ قَدْرًا وَجَلَّ
فِيهِمْ عَنِ النَّظِيرِ
وَسَوْفَ
تَلْقَى لَدَيْهِ أَمْرًا يُؤْذِنُ
بِالْبِشْرِ وَالسُّرُورِ
فَاقْطَعْ
لَهُ الْبِيدَ وَالْفَيَافِي وَوَاصِلِ
السَّيْرَ بِالْمَسِيرِ
قال:
فسار الرجل يقطع الأرض حتى دخل البلدة التي ذُكِرت له في المنام، فسأل عن الملك
فدُلَّ عليه، فسار إلى قصره، فإذا عند باب القصر غلام قاعِد على كرسي عظيم، وعليه
كسوة هائلة، فوقف الرجل وسلَّمَ، فردَّ عليه السلام وقال: ما حاجتك؟ قال: أنا رجل
مظلوم وقد جئتُ الملكَ أرفع قصتي إليه. قال: لا سبيل لك اليوم عليه؛ لأنه قد جعل
لأهل المسائل في الأسبوع يومًا يدخلون عليه فيه، وهو يوم كذا أو كذا، فسِرْ راشدًا
حتى يأتي ذلك اليوم. فأنكر الرجل عليه تحجُّبَه عن الناس وقال: كيف يكون هذا
وليًّا من أولياء الله عزَّ وجلَّ، وهو على مثل هذا الحال؟
وذهب
ينتظر اليوم الذي قيل له عليه، فلما كان ذلك اليوم الذي ذكره البوَّاب دخلت، فوجدت
عند الباب أناسًا ينتظرون الإذن لهم في الدخول؛ فوقفت معهم إلى أن خرج وزير عليه
ثياب هائلة، وبين يديه خدم وعبيد فقال: ليدخل أرباب المسائل. فدخلوا ودخلت في
الجملة، فإذا الملك قاعد وبين يديه أرباب مملكته على قدر مقاديرهم ومراتبهم؛ فوقف
الوزير وجعل يقدِّم واحدًا بعد واحد حتى وصلَتِ النوبة إليَّ، فلما قدَّمني الوزير
نظر الملك إليَّ وقال: مرحبًا بصاحب السحابة، أقعد حتى أفرع لك. فتحيَّرْتُ من
قوله واعترفتُ بمرتبته وفضله. فلما قضى بين الناس وفرغ منهم قام وقام الوزير
وأرباب المملكة، ثم أخذ الملك بيدي وأدخلني إلى قصره، فوجدت عند باب القصر عبدًا
أسود وعليه ثياب هائلة، وفوق رأسه أسلحة، وعن يمينه وشماله دروع وقسي؛ فقام إلى
الملك وسارَعَ لأمره وقضاء حوائجه، ثم فتح باب القصر فدخل الملك ويدي في يده، فإذا
بين يدَيْه باب قصير ففتحه الملك بنفسه ودخل إلى خربة وبناء هائل، ثم دخل إلى بيت
ليس فيه إلا سجادة وقدح للوضوء وشيء من الخوص؛ ثم جرَّدَ ثيابه التي كانت عليه،
ولبس جبة خشنة من الصوف الأبيض، وجعل على رأسه قلنسوة من لبد، ثم قعد وأقعدني
ونادى أن يا فلانة لزوجته، فقالت له: لبيك. قال لها: أتدرين مَن ضيفنا في هذا اليوم؟
قالت: نعم، هو صاحب السحابة. فقال لها: اخرجي لا عليك منه. قال: فإذا هي امرأة
كأنها الخيال، ووجهها يتلألأ كالهلال، وعليها جبة صوف وقناع. وأدرك شهرزاد الصباح
فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 474﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك لما نادَى زوجته، خرجَتْ ووجهها يتلألأ
كالهلال، وعليها جبة خشنة من صوف وقناع، فقال الملك: يا أخي، أتريد أن تعرف خبرنا
أم ندعو لك وتنصرف؟ قال: بل أريد أن أسمع خبركما فإنه الأشوق إليَّ. فقال له: إنه
كان آبائي وأجدادي يتداولون المملكة ويتوارثونها كابرًا عن كابر، إلى أن ماتوا ووصل
الأمر إليَّ، فبغض الله ذلك لي؛ فأردت أن أسيح في الأرض وأترك أمر الناس لأنفسهم،
ثم إني خفتُ عليهم من دخول الفتنة وتضييع الشرائع وتشتيت شمل الدين، فتركت الأمر
على ما كان عليه، وجعلت لكل رأس منهم جراية بالمعروف، ولبست ثياب الملك وأقعدت
العبيد على الأبواب إرهابًا لأهل الشر وذابًّا عن أهل الخير وإقامة للحدود؛ فإذا
فرغتُ من ذلك كله دخلتُ منزلي وأزلتُ هذه الثياب ولبست ما ترى، وهذه ابنة عمي
وافقَتْني على الزهادة وساعدتني على العبادة؛ فنعمل من هذا الخوص بالنهار ما نفطر
به عند الليل، وقد مضى علينا ونحن على هذه الحالة نحو أربعين سنة، فأَقِمْ معنا
يرحمك الله حتى نبيع خوصنا وتفطر معنا وتبيت عندنا ثم تنصرف بحاجتك إن شاء الله
تعالى. قال: فلما كان آخِر النهار، أتى غلام خماسي ودخل، فأخذ ما عملاه من الخوص
وسار به إلى السوق، فباعه بقيراط واشترى به خبزًا وفولًا وأتى بهما، فأفطرت معهما
ونمت عندهما؛ فقاما من نصف الليل يصليان ويبكيان، فلما كان السحر قال الملك: اللهم
إن هذا عبدك يطلب منك أن ترد سحابته عليه، وأنت على ذلك قدير، اللهم أَرِه إجابته
وارددْ عليه سحابته. قال: وأمَّنَتِ المرأة، فإذا السحابة قد نشأت في السماء. فقال
لي: البشارة. فودَّعْتُهما وانصرفتُ، والسحابة تسير معي كما كانت. فأنا بعد ذلك لا
أسأل الله تعالى بحرمتهما شيئًا إلا أجابني، وأنشأت أقول هذه الأبيات:
وَإِنَّ
لِرَبِّي صَفْوَةً مِنْ عَبِيدِهِ قُلُوبُهُمُو
فِي رَوْضِ حِكْمَتِهِ تَجْرِي
وَأَبْدَانُهُمْ
قَدْ أُسْكِنَتْ حَرَكَاتُهَا لِمَا
فِي صُدُورِ الْقَوْمِ مِنْ خَالِصِ السِّرِّ
تَرَاهُمْ
صُمُوتًا خَاشِعِينَ لِرَبِّهِمْ بِحَيْثُ
يَرَوْنَ الْغَيْبَ بِالْغَيْبِ كَالْجَهْرِ
حكاية المسلم الجريء والنصراني
وحُكِي
أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، جهَّزَ جيشًا من المسلمين تجاه
العدو قبل الشام، فحاصروا حصنًا من حصونهم حصارًا شديدًا، وكان في المسلمين رجلان
أخوان قد آتاهما الله حدة وجراءة على العدو، وكان أمير ذلك الحصن يقول لأقياله
ومَن بين يدَيْه من أبطاله: لو أن هذين المسلمين خطلَا أو قتلَا لَكفيتكم مَن
سواهما من المسلمين. قال: فما زالوا ينصبون لهما المصائد ويحتالون عليهما
بالمكائد، ويجعلون المكامن ويكثرون الكوامن، إلى أن أُخِذ أحدهما أسيرًا وقُتِل
الآخَر شهيدًا؛ فاحتُمِل المسلم الأسير إلى أمير ذلك الحصن، فلما نظر إليه قال:
إنَّ قتْلَ هذا لمصيبة، وإن رجوعه إلى المسلمين لكريهة. وأدرك شهرزاد الصباح
فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 475﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن العدو لما حملوا المسلم الأسير إلى أمير ذلك الحصن
ونظر إليه قال: إنَّ قتْلَ هذا لمصيبة ورجوعه إلى المسلمين لكريهة، ووددت لو يدخل
في دين النصرانية عونًا وعضدًا. فقال بطريق من بطارقته: أيها الأمير، أنا أفتنه
حتى يرتدَّ عن دينه؛ وذلك أن العرب تكثر الصبوة إلى النساء، ولي بنت لها جمال
وكمال، فلو رآها لَفُتِنَ بها. فقال: هو مُسلَّم إليك فاحمله. فحمله إلى منزله،
وألبس الصبِيَّة من الثياب ما زاد في زينتها وجمالها، وجاء بالرجل وأدخله المنزل،
وأحضر الطعام ووقفت الصبِيَّة النصرانية بين يدَيْه كالخادمة المطيعة لسيدها تنتظر
أن يأمرها بأمر تمتثله؛ فلما رأى المسلم ما نزل به، اعتصم بالله تعالى وغضَّ بصره
واشتغل بعبادة ربه وقراءة القرآن، وكان له صوتٌ حَسَن وقريحة مؤثرة في النفس،
فأحَبَّتْه الصبية النصرانية حبًّا شديدًا، وكَلِفت به كَلَفًا عظيمًا. وما زال
كذلك سبعة أيام حتى صارت تقول: ليته يرضى بدخولي في الإسلام. ولسان حالها ينشد هذه
الأبيات:
أَتَعْرِضُ
عَنِّي وَالْفُؤَادُ لَكُمْ يَصْبُو
فَدَاؤُكُمُو نَفْسِي وَمَثْوَاكُمُ الْقَلْبُ
وَإِنِّي
لَأَرْضَى أَنْ أُفَارِقَ فِرْقَتِي
وَأَتْرُكَ دِينًا دُونَهُ الصَّارِمُ الْعَضْبُ
وَأَشْهَدُ
أَنَّ اللهَ لَا رَبَّ غَيْرَهُ بِذَا
ثَبَتَ الْبُرْهَانُ وَارْتَفَعَ الرَّيْبُ
عَسَى
أَنَّهُ يَقْضِي بِوَصْلِهِ مُعْرِضٌ
وَيُبْرِدُ قَلْبًا شَفَّهُ الشَّوْقُ وَالْحُبُّ
فَقَدْ
تُفْتَحُ الْأَبْوَابُ بَعْدَ تَغَلُّقٍ
وَيُعْطَى الْأَمَانِيَ مَنْ تَدَاوَلَهُ الْكَرْبُ
فلما
عيل صبرها وضاق صدرها، ترامت بين يدَيْه وقالت: أسألك بدينك إلا ما سمعتَ كلامي.
فقال: وما كلامك؟ قالت: اعرضْ عليَّ الإسلامَ. فعرضه عليها وأسلمَتْ، ثم تطهَّرَتْ
وعلَّمَها كيف تصلِّي؛ فلما فعلت ذلك قالت: يا أخي، إنما كان دخولي في الإسلام
بسببك وابتغاء قُرْبِك. فقال لها: إن الإسلام يمنع من النكاح إلا بشاهدين عَدْلين
ومَهْرٍ ووَلِيٍّ، وأنا لا أجد الشاهدين، ولا الولي، ولا المهر، فلو تحيَّلْتِ في
خروجنا من هذا الوضع لَرجوتُ الوصولَ إلى دار الإسلام، وأعاهِدُكِ على ألَّا يكون
لي زوجة في الإسلام غيرك. فقالت: أنا أحتال لذلك. ثم دعت أباها وأمها وقالت لهما:
إن هذا المسلم قد لانَ قلبُه ورغب في الدخول إلى الدين، وأنا أوصله إلى ما يريد من
نفسي. فقال: إن هذا لا يتَّفِق لي في بلدٍ قُتِل فيه أخي، فلو خرجتُ منه ليتسلَّى
قلبي وفعلتُ ما هو المراد مني، ولا بأسَ أن تُخرِجاني معه إلى بلد أخرى، فإني
ضامنة لكما وللمَلِك ما تريدونه. قال: فمشى والدها إلى أميرهم وعرَّفه، فسُرَّ
بذلك سرورًا كبيرًا، وأمر بإخراجهما معه إلى القرية التي ذكرَتْ؛ فخرجَا، فلما
وصلَا إلى القرية وبقيَا يومهما، وجَنَّ الليل عليهما، أخذَا في الرحيل وقطع
السبيل، كما قال بعضهم شعرًا:
وَقَالُوا
قَدْ دَنَا مِنَّا رَحِيلٌ فَقُلْتُ
وَكَمْ أُهَدِّدُ بِالرَّحِيلِ
وَمَا
لِي غَيْرَ جَوْبِ الْقَفْرِ شُغْلٌ
وَقَطْعِ الْأَرْضِ مِيلًا بَعْدَ مِيلِ
لَئِنْ
ظَعَنَ الْأَحِبَّةُ نَحْوَ أَرْضٍ رَجَعْتُ
بِهَا مِنْ أَبْنَاءِ السَّبِيلِ
وَأَجْعَلُ
نَحْوَهُمْ شَوْقِي دَلِيلًا فَتَهْدِينِي
الطَّرِيقَ بِلَا دَلِيلِ
وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 476﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن المسلم الأسير والصبية أقامَا بتلك القرية التي
دخلَاها بقية يومهما، ولما جَنَّ عليهما الليل أخذَا في الرحيل وقَطْع السبيل،
وسارَا ليلتهما تلك، وكان الشاب قد ركب جوادًا سابقًا وأردفها خلفه؛ فما زال يقطع
الأرضَ حتى قرب الصباح، فمال بها عن الطريق وأنزلها وتوضَّأَ وصلَّيَا الصبح.
فبينما هما كذلك إذ سمعَا قعقعةَ السلاح وصلصلةَ اللجم وكلامَ الرجال وحوافرَ الخيل،
فقال لها: يا فلانة، هذا تبع النصارى قد أدركنا، فما تكون الحيلة والفرس قد كَلَّ
ومَلَّ حتى لا يقدر أن يخطو باعًا. فقالت له: ويحلك! أَفَزِعْتَ وخفْتَ؟ قال: نعم.
قالت: فأين ما كنتَ تحدِّثني به من قدرة ربك وغياثته مستغيثين؟ تعال نتضرَّع إليه
وندعه لعله يغيثنا بغياثه ويتداركنا بلطفه سبحانه وتعالى. فقال: نِعْمَ والله ما
قلتِ. فأخذَا في التضرُّع إلى الله تعالى، وجعل ينشد ويقول هذا الأبيات:
إِنِّي
إِلَيْكَ مَدَى السَّاعَاتِ مُحْتَاجُ
لَوْ كَانَ فِي مَفْرِقِي الْإِكْلِيلُ وَالتَّاجُ
وَأَنْتَ
حَاجَتِي الْكُبْرَى فَلَوْ ظَفِرَتْ
بِمَا أَرَدْتَ يَدِي لَمْ يَبْقَ لِي حَاجُ
وَلَيْسَ
عِنْدَكَ شَيْءٌ أَنْتَ مَانِعُهُ بَلْ
سَيْلُ جُودِكَ سَيَّالٌ وَثَجَّاجُ
لَكِنَّنِي
أَنَا مَحْجُوبٌ بِمَعْصِيَتِي وَنُورُ
عَفْوِكَ يَا ذَا الْحِلْمِ وَهَّاجُ
يَا
فَارِجَ الْهَمِّ فَرِّجْ مَا بُلِيتُ بِهِ
فَمَنْ سِوَاكَ لِهَذَا الْهَمِّ فَرَّاجُ
قال:
فبينما هو يدعو والجارية تؤمِّن على دعائه، ووجيف الخيل يقرب منهما، إذ سمع الفتى
كلام أخيه الشهيد المقتول وهو يقول: يا أخي، لا تَخَفْ ولا تخزن، فالوفد وفد الله
وملائكته، أرسَلَهم إليكما ليشهدوا عليكما في التزويج، وإنَّ الله تعالى قد باهى
بكما ملائكته وأعطاكما أجرَ السعداء والشهداء، وطوى لكما الأرض، وإنك تصبح بجبال
المدينة، فإذا اجتمعت بعمر بن الخطاب رضي الله عنه فاقرأ عليه السلام مني وقل له:
جزاك الله عن الإسلام خيرًا، فلقد نصحتَ واجتهدتَ. ثم رفعت الملائكة أصواتها
بالسلام عليه وعلى زوجته وقالوا: إن الله تعالى زوَّجَها منك قبل أن يخلق أباكما
آدم عليه السلام بألفَيْ عام. قال: فغشيهما البشر والسرور والأمن والحبور، وزاد
اليقين وثبتَتْ هداية المتقين. ولما طلع الفجر وصلَّيَا الصبح، وكان عمر بن الخطاب
رضي الله عنه يغلس بصلاة الصبح، وربما دخل المحراب وخلفه رجلان فيبتدئ الصلاة
بسورة الأنعام وبسورة النساء، فينتبه الراقد ويتوضأ المتوضئ ويأتي البعيد، فما يتم
الركعة الأولى إلا والمسجد قد امتلأ من الناس، فيصلي الركعة الثانية بسورة خفيفة
يوجز فيها؛ فلما كان ذلك اليوم، صلَّى في أول ركعة بسورة خفيفة أوجَزَ فيها وفي
الثانية كذلك، فلما سلَّمَ نظر إلى أصحابه وقال: أخرجوا بنا لتلقِّي العروسين.
فتعجَّبَ أصحابه ولم يفهموا كلامه، فتقدَّمَ وهُمْ خلفه حتى خرج إلى باب المدينة.
وكان الشاب عندما ظهر له النور ورأى أعلام المدينة، أقبل نحو الباب وزوجته خلفه،
فلقيه عمر والمسلمون فسلَّموا عليه، فلما دخلوا المدينة أمَرَ عمر رضي الله عنه أن
تُصنَع وليمة، فحضر المسلمون وأكلوا، ودخل الشاب بعروسه ورزَقَه الله تعالى منها
الأولاد. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 477﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر أن تُصنَع وليمة،
فحضر المسلمون وأكلوا، ودخل الشاب بعروسه ورزقه الله منها أولادًا يقاتلون في سبيل
الله، ويحفظون أنسابَهم لفخرهم، وما أحسن ما قيل في هذا المعنى:
أَرَاكَ
عَلَى الْأَبْوَابِ تَبْكِي وَتَشْتَكِي
وَمَا لَكَ دُونَ الطَّالِبِينَ جَوَابُ
أَصَابَتْكَ
عَيْنٌ أَمْ دَهَتْكَ مُلِمَّةٌ فَصَدَّكَ
عَنْ بَابِ الْحَبِيبِ حِجَابُ
صِحِ
الْيَوْمَ يَا مِسْكِينَ وَالْهَجْ بِذِكْرِهِ وَتُبْ مِثْلَ مَا تَابَ الْوَرَى
وَأَنَابُوا
عَسَى
مَطَرُ الْغُفْرَانِ يَغْسِلُ مَا مَضَى
وَيَهْمِي بِأَرْبَابِ الذُّنُوبِ ثَوَابُ
فَقَدْ
يَفْلِتُ الْمَأْسُورُ وَهْوَ مُقَيَّدٌ
وَتُعْتَقُ مِنْ سِجْنِ الْعِقَابِ رِقَابُ
وما
زالوا في أرغد عيش وأتمِّ سرور، إلى أن أتاهم هادم اللذات ومفرِّق الجماعات.
حكاية بنت الملك والطبيب
ومما
يُحكَى أن سيدي إبراهيم بن الخواص رحمة الله عليه قال: طالبَتْني نفسي في وقت من
الأوقات بالخروج إلى بلاد الكفار فكفَفْتُها، فلم تكتفِ وتكفَّ، وعملتُ على نفي
هذا الخاطر فلم ينتفِ، فخرجتُ أخترق ديارها، وأجول أقطارها، والعناية تكنفني،
والرعاية تلحفني، لا ألقى نصرانيًّا إلا غضَّ ناظره عني، وتباعَدَ مني إلى أن
أتيتُ مِصْرًا من الأمصار، فوجدتُ عند بابها جماعة من العبيد عليهم الأسلحة،
وبأيديهم مقاطع الحديد، فلما رأوني قاموا على القدم، وقالوا لي: أطبيب أنت؟ قلت:
نعم. فقالوا: أَجِبِ الملك. واحتملوني إليه، فإذا هو ملك عظيم، ذو وجه وسيم، فلما
دخلتُ عليه نظر إليَّ وقال: أطبيب أنت؟ قلتُ: نعم. فقال: احملوه إليها، وعرفوه
بالشرط قبل دخوله عليها. فأخرجوني وقالوا لي: إن للملك ابنةً قد أصابها إعلال
شديد، وقد أعيا الأطباءَ علاجُها، وما من طبيب دخل عليها وعالَجَها، ولم يَفِدْ
طبُّه إلا قتله الملك، فانظر ماذا ترى؟ فقلتُ لهم: إنَّ الملك ساقَني إليها،
فأدخلوني عليها، واحتملوني إلى بابها. فلما وصلت قرعوه، فإذا هي تنادي من داخل
الدار: أدخلوا عليَّ الطبيب صاحب السر العجيب. وأنشدَتْ تقول:
افْتَحُوا
الْبَابَ فَقَدْ جَاءَ الطَّبِيبْ وَانْظُرُوا
نَحْوِي فَلِي سِرٌّ عَجِيبْ
فَلَكُمْ
مُقْتَرِبٌ مُبْتَعِدٌ وَلَكُمْ
مُبْتَعِدٌ وَهْوَ قَرِيبْ
كُنْتُ
فِيمَا بَيْنَكُمْ فِي غُرْبَةٍ فَأَرَادَ
الْحَقُّ أُنْسِي بِقَرِيبْ
جَمَعَتْنَا
نِسْبَةٌ دِينِيَّةٌ فَتَرَاءَيْنَا
مُحِبٌّ وَحَبِيبْ
وَدَعَانِي
لِلتَّلَاقِي إِذْ دَعَا حَجَبَ
الْعَاذِلَ عَنَّا وَالرَّقِيبْ
فَاتْرُكُوا
عَذْلِي وَخَلُّوا لَوْمَكُمْ إِنَّنِي
يَا وَيْحَكُمْ لَسْتُ أُجِيبْ
لَسْتُ
أَلْوِي نَحْوَ فَانٍ غَائِبٍ إِنَّمَا
قَصْدِيَ بَاقٍ لَا يَغِيبْ
قال:
فإذا شيخ كبير قد فتح الباب بسرعة وقال: ادخل. فدخلتُ، فإذا بيت مبسوط بأنواع
الرياحين، وستر مضروب في زاويته، ومن خلفه أنين ضعيف يخرج من هيكل نحيف، فجلست بإزاء
الستر، وأردت أن أسلِّم، فتذكَّرْتُ قولَه ﷺ: «لا تبدءوا اليهودَ ولا النصارى
بالسلام، وإذا لقَيْتُموهم في طريقٍ، فاضطروهم إلى أضيقه».
فأمسكتُ،
فنادَتْ مِن داخل الستر: أين سلام التوحيد والإخلاص يا خواص؟ قال: فتعجَّبْتُ من
ذلك، وقلت: من أين عرفتني؟ فقالت: إذا صفَتِ القلوبُ والخواطر أعربَتِ الألسنُ عن
مخبآت الضمائر، وقد سألتُه البارحةَ أن يبعث إليَّ وليًّا من أوليائه، يكون لي على
يدَيْه الخلاص، فنُودِيتُ من زوايا بيتي: لا تحزني؛ إنا سنُرسِل إليك إبراهيم
الخواص. فقلتُ لها: ما خبرك؟ فقالت لي: أنا منذ أربع سنين قد لاحَ لي الحقُّ
المُبِين، فهو المحدث والأنيس والمقرب والجليس، فرمقني قومي بالعيون، وظنوا بي
الظنون، ونسبوني إلى الجنون، فما دخل عليَّ طبيب منهم إلا أوحشني، ولا زائر إلا
أدهشني، فقلت: ومَن دَلَّكِ على ما وصلتِ إليه؟ قالت: براهينه الواضحة، وآياته
اللائحة، وإذا وضح لك السبيل شاهدتَ المدلول والدليل. قال: فبينما أنا أكلِّمها إذ
جاء الشيخ الموكل بها، وقال لها: ما فعل طبيبك؟ قالت: عرف العلة، وأصاب الدواء.
وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 478﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الشيخ الموكل بها لما دخل عليها قال لها: ما فعل
طبيبك؟ قالت: عرف العلة، وأصاب الدواء. فظهر لي منه البشر والسرور، وقابَلَني
بالبر والحبور، وسار إلى الملك وأخبره، فحَضَّه الملك على إكرامي، فبقيتُ أختلف
إليها سبعة أيام، فقالت: يا أبا إسحاق، متى تكون الهجرة إلى دار الإسلام؟ فقلت:
كيف يكون خروجك؟ ومَن يتجاسر عليه؟ فقالت: الذي أدخلَكَ عليَّ وساقَكَ إليَّ.
فقلت: نِعْمَ ما قلتِ. فلما كان الغد خرجنا على باب الحصن، وحجب عنَّا العيون من
أمره إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن
فَيَكُونُ. قال: فما
رأيتُ أصبرَ منها على الصيام والقيام، فجاورَتْ بيتَ الله الحرام سبعة أعوام، ثم
قضَتْ نحبها، وكانت أرض مكة تربها، أنزل الله عليها الرحمات، ورحم مَن قال هذه
الأبيات:
وَلَمَّا
أَتَوْنِي بِالطَّبِيبِ وَقَدْ بَدَتْ
دَلَائِلُ مِنْ دَمْعٍ سَفُوحٍ وَمِنْ سَقْمِ
نَضَا
الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِي فَلَمْ يَرَ تَحْتَهُ سِوَى نَفْسٍ مِنْ غَيْرِ رُوحٍ وَلَا
جِسْمِ
فَقَالَ
لَهُمْ ذَا قَدْ تَعَذَّرَ بُرْؤُهُ
وَلِلْحُبِّ سِرٌّ لَيْسَ يُدْرَكُ بِالْوَهْمِ
فَقَالُوا
إِذَا لَمْ يَعْلَمِ النَّاسُ مَا بِهِ
وَلَمْ يَكُ تَعْرِيفٌ بِحَدٍّ وَلَا رَسْمِ
فَكَيْفَ
يَكُونُ الطِّبُّ فِيهِ مُؤَثِّرًا دَعُونِي
فَإِنِّي لَسْتُ أَحْكُمُ بِالْوَهْمِ
حكاية النبي والفارس
وحُكِي
أنَّ نبيًّا من الأنبياء كان يتعبَّد في جبل مرتفع، وتحته عين ماء تجري؛ فكان
بالنهار يقعد في أعلى الجبل من حيث لا تراه الناس وهو يذكر الله تعالى، وينظر إلى
مَن يَرِدُ العينَ من الناس. فبينما هو ذات يوم قاعد ينظر إلى العين إذ بصر بفارس
قد أقبَلَ، ونزل عن فرسه ووضع جرابًا كان في عنقه، واستراح وشرب من الماء، ثم راح
وترك الجراب وكان فيه دنانير، وإذا رجل أقبل وأراد العين فأخذ الجراب بالمال وشرب
من الماء وانصرف سالمًا.
فجاء
بعده رجل حطَّاب وهو حامل حزمة حطب ثقيلة على ظهره، وقعد على العين يشرب من الماء،
فإذا الفارس الأول قد أقبَلَ لهفان وقال للحطَّاب: أين الجراب الذي كان هنا؟ فقال:
لا أدري له خبرًا. فجذب الفارس سيفه وضرب الحطَّاب وقتله، وفتَّشَ في ثيابه فلم
يجد شيئًا، فتركه وسار إلى حال سبيله. فقال ذلك النبي: يا رب، واحد أخذ ألف دينار
وآخَر قُتِل مظلومًا. فأوحى الله إليه أن اشتغل بعبادتك، فإن تدبير المملكة ليس من
شأنك؛ إن والد هذا الفارس كان قد غصب ألف دينار من مال والد هذا الرجل، فمكَّنْتُ
الولدَ من مال أبيه، وإنَّ الحطاب كان قد قتل والد هذا الفارس، فمكَّنْتُ الولدَ
من القصاص. فقال ذلك النبي: لا إله إلا أنت سبحانك، أنت علَّام الغيوب. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 479﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن النبي لما أوحى الله إليه أن اشتغل بعبادتك، وأخبره
بحقيقة الأمر قال: لا إله إلا أنت سبحانك، أنت علام الغيوب. وأنشد بعضهم في هذا
المعنى شعرًا:
رَأَى
النَّبِيَّ الَّذِي قَدْ كَانَ بِالْبَصَرِ
فَصَارَ يَسْأَلُ عَمَّا كَانَ مِنْ خَبَرِ
إِذْ
شَاهَدَتْ عَيْنُهُ مَا لَيْسَ يَفْهَمُهُ
فَقَالَ: يَا رَبُّ مَا ذَا وَالْقَتِيلَ بَرِي
هَذَا
أَصَابَ الْغِنَى مِنْ دُونِ مَا تَعَبٍ
وَكَانَ لَمَّا بَدَا فِي زِيِّ مُفْتَقِرِ
وَذَاكَ
قَدْ صَارَ مَيْتًا بَعْدَ عِيشَتِهِ
مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ جَنَى يَا خَالِقَ الْبَشَرِ
إِنَّ
الدَّرَاهِمَ كَانَتْ مَالَ وَالِدِ مَنْ
رَأَيْتُهُ قَدْ أَتَى إِرْثًا بِلَا كَدَرِ
وَكَانَ
قَدْ قَتَلَ الْحَطَّابُ وَالِدَ ذَا
فَاقْتَصَّ مِنْهُ ابْنُهُ إِذْ فَازَ بِالظَّفَرِ
دَعْ
عَنْكَ يَا عَبْدَنَا هَذَا فَإِنَّ لَنَا
فِي الْخَلْقِ سِرٌّ خَفَى عَنْ حِدَّةِ النَّظَرِ
سَلِّمْ
لِأَحْكَامِنَا وَاخْضَعْ لِعِزَّتِنَا
فَحُكْمُنَا قَدْ جَرَى بِالنَّفْعِ وَالضَّرَرِ
حكاية الملاح والشيخ
ومما
يُحكَى أن رجلًا من الصالحين قال: كنتُ ملَّاحًا بنيل مصر، أعبر من الجانب الشرقي
إلى الجانب الغربي، فبينما أنا ذات يوم من الأيام قاعد في الزورق إذا بشيخ ذي وجه
مُشرِق قد وقف عليَّ وسلَّمَ، فرددتُ عليه السلام، فقال: تحملني لله تعالى. قلت:
نعم. قال: وتُطعِمني لله. قلت: نعم. فصعد الزورق وعبرت به إلى الجانب الشرقي، وكان
عليه مرقعة وبيده ركوة وعصًا، فلما أراد النزول قال لي: إني أريد أن أحملك أمانة.
قلت: وما هي؟ قال: إذا كان الغد وألهمت أن تأتيني وقت الظهر وأتيت ووجدتني تحت تلك
الشجرة ميتًا، فغسِّلني وكفِّني في الكفن الذي تجده تحت رأسي، وادفني بعد الصلاة علي
في هذا الرمل، وأمسك المرقعة والركوة والعصا، فإذا جاءك مَن يطلبهن فادفعهن له.
قال: فتعجَّبْتُ من قوله وبِتُّ ليلتي تلك، ثم أصبحت أنتظر الوقتَ الذي ذكره لي.
فلما جاء وقت الظهر نسيت كما قال، ثم أُلهِمت قريب العصر، فسِرْتُ بسرعة فوجدتُه
تحت الشجرة ميتًا، ووجدت كفنًا جديدًا عند رأسه تفوح منه رائحة المسك؛ فغسَّلته
وكفَّنته، وصليت عليه وحفرت له قبرًا ودفنته، ثم عبرت النيل وجئت الجانب الغربي
ليلًا ومعي المرقعة والركوة والعصا. فلما لاح الصباح وفُتِح باب البلد، بصرت بشاب
أصله شاطر كنت أعرفه، عليه ثياب رقيقة وفي يده أثر حناء، فأتى حتى وصل إليَّ فقال:
أنت فلان؟ قلت: نعم. قال: هات الأمانة. قلت: وما هي؟ قال: المرقعة والركوة والعصا.
فقلت: ومَن لك بهن؟ قال: لا أدري، غير أني بتُّ البارحة في عرس فلان، وسهرت أغني
إلى أن جاء وقت الصبح، فنمتُ لأستريح فإذا شخص قد وقف عليَّ وقال لي: إن الله
تعالى قد قبض روح فلان الولي وأقامك مقامَه، فسِرْ إلى فلان المعدي وخذ منه مرقعته
وركوته وعصاه، فإنه قد وضعها لك عنده. قال: فأخرجتها ودفعتها له، فنضا ثيابه ثم
لبسها وسار وتركني؛ فبكيت لما حُرِمت من ذلك. فلما جنَّ الليل عليَّ نمتُ، فرأيتُ
ربُّ العزة تبارك وتعالى في المنام، فقال: يا عبدي، أَثَقُلَ عليك أني مَنَنْتُ
على عبدٍ من عبادي بالرجوع إليَّ؟ إنما هو فضلي أُوتِيه مَن أشاء، وأنا على كل شيء
قدير. فأنشدت هذه الأبيات:
مَا
لِلْمُحِبِّ مَعَ الْحَبِيبِ مَرَامُ
كُلُّ اخْتِيَارِكَ لَوْ عَرَفْتَ حَرَامُ
إِنْ
شَاءَ وَصْلَكَ مِنَّةً وَتَعَطُّفًا
أَوْ صَدَّ عَنْكَ فَمَا عَلَيْهِ مَلَامُ
إِنْ
لَمْ تَكُنْ بِصُدُودِهِ مُتَلَذِّذًا
فَادْرُجْ فَمَا لَكَ فِي الْمُقَامِ مَقَامُ
أَوَلَمْ
تُمَيِّزْ قُرْبَهُ مِنْ بُعْدِهِ فَلَأَنْتَ
خَلْفٌ وَالْهَوَى قُدَّامُ
إِنْ
كَانَ مَلَّكَكَ الْغَرَامُ حُشَاشَتِي
أَوْ قَادَنِي لِلْقَتْلِ فِيكَ زِمَامُ
فَاهْجُرْ
وَصُدَّ وَصِلْ فَذَلِكَ وَاحِدٌ لَيْسَ
الْوقُوفُ مَعَ الْحُظُوظِ يُلَامُ
مَا
الْقَصْدُ فِي حُبِّي إِلَيْكَ سِوَى الرِّضَى فَإِذَا رَأَيْتَ الْبُعْدَ فَهْوَ
قَوَامُ
حكاية إسرائيلي وملك الجزيرة
ومما
يُحكَى أنَّ رجلًا من خيار بني إسرائيل كان كثير المال، وله ولد صالح مبارك، فحضرت
الرجل الوفاة، فقعد ولده عند رأسه، وقال: يا سيدي، أوصني. فقال: يا بني، لا تحلف
بالله بارًّا، ولا فاجرًا. ثم مات الرجل، وبقي الولد بعد أبيه، فتسامَعَ به
فُسَّاق بني إسرائيل، فكان الرجل يأتيه فيقول له: لي عند والدك كذا أو كذا، وأنت
تعلم بذلك، أَعْطِني ما في ذمته وإلا فاحلف. فيقف الولد مع الوصية، ويعطيه جميع ما
طلبه، فما زالوا به حتى فني ماله، واشتدَّ إقلاله، وكان للولد زوجة صالحة مباركة،
وله منها ولدان صغيران، فقال لها: إن الناس قد أكثروا طلبي، وما دام معي ما أدفع
به عن نفسي بذلته، والآن لم يَبْقَ لنا شيء، فإن طالَبَني مُطالِب امتحنْتُ أنا
وأنت، فالأولى أن نفوز بأنفسنا، ونذهب إلى موضع لا يعرفنا فيه أحد، ونعيش بين أظهر
الناس. قال: فركب بها البحر وبولدَيْه وهو لا يعرف أين يتوجَّه، والله يحكم لا
معقِّب لحكمه، ولسان الحال يقول:
يَا
خَارِجًا خَوْفَ الْعِدَى مِنْ دَارِهِ
وَالْيُسْرُ قَدْ وَافَاهُ عِنْدَ فِرَارِهِ
لَا
تَجْزَعَنَّ مِنَ الْبِعَادِ فَرُبَّمَا
عَزَّ الْغَرِيبُ بِطُولِ بُعْدِ مَزَارِهِ
لَوْ
قَدْ أَقَامَ الدُّرُّ فِي أَصْدَافِهِ
مَا كَانَ تَاجُ الْمُلْكِ بَيْتَ قَرَارِهِ
قال:
فانكسرت السفينة، وخرج الرجل على لوح، وخرجت المرأة على لوح، وخرج كل ولد على لوح،
وفرَّقَتْهم الأمواج، فحصلت المرأة على بلدة، وحصل أحد الولدين على بلدة أخرى،
والتقط الولدَ الآخَر أهلُ سفينة في البحر، وأما الرجل فقذفَتْه الأمواج إلى جزيرة
منقطعة، فخرج إليها، فتوضَّأَ من البحر، وأذَّنَ وأقام الصلاة. وأدرك شهرزاد
الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 480﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الرجل لما خرج إلى الجزيرة توضَّأَ من البحر، وأذَّنَ
وأقام الصلاة، فإذا قد خرج من البحر أشخاص بألوانٍ مختلفة، فصلوا معه، ولما فرغ
قام إلى شجرة في الجزيرة، فأكل من ثمرها، فزال عنه جوعه، ثم وجد عين ماء فشرب
منها، وحمد الله عزَّ وجلَّ وبقي ثلاثة أيام يصلي، وتخرج أقوام يصلون مثل صلاته،
وبعد مضي الأيام الثلاثة سمع مناديًا يناديه: يا أيها الرجل الصالح البار بأبيه،
المجلُّ قدر ربِّه، لا تحزن إن الله عز وجل مخلفٌ عليك ما خرج من يدك، فإن في هذه
الجزيرة كنوزًا وأموالًا ومنافع يريد الله أن تكون لها وارثًا، وهي في موضع كذا
وكذا من هذه الجزيرة، فاكشف عنها، وإنَّا لنسوق إليك السفن، فأحسِنْ إلى الناس،
وادْعُهم إليك، فإن الله عزَّ وجلَّ يميل قلوبهم إليك، فقصد ذلك الموضع من
الجزيرة، وكشف الله تعالى له عن تلك الكنوز، وصارت أهل السفن تَرِد عليه، فيُحسِن
إليهم إحسانًا عظيمًا، ويقول لهم: لعلكم تدلون عليَّ الناس، فإني أعطيهم كذا وكذا،
وأجعل لهم كذا وكذا، فصار الناس يأتون من الأقطار والأماكن، وما مضت عليه عشر سنين
إلا والجزيرة قد عمرت، والرجل صار ملكها لا يأوي إليه أحد إلا أحسَنَ إليه، وشاع
ذِكْره في الأرض بالطول والعرض، وكان ولده الأكبر قد وقع عند رجل علَّمَه
وأدَّبَه، والآخَر قد وقع عند رجل ربَّاه، وأحسن تربيته، وعلَّمه طرق التجارة،
والمرأة قد وقعت عند رجل من التجار ائتمنها على ماله، وعاهَدَها على ألَّا يخونها،
وأن يُعِينها على طاعة الله عزَّ وجلَّ، وكان يسافر بها في السفينة إلى البلاد،
ويستصحبها في أي موضع أراد، فسمع الولد الكبير بصيت ذلك الملك، فقصده وهو لا يعلم
مَن هو، فلما دخل عليه أخذه وائتمنه على سره، وجعله كاتبًا له، وسمع الولد الآخَر
بذلك الملك العادل الصالح، فقصده وسار إليه وهو لا يعلم مَن هو أيضًا، فلما دخل
عليه وكَّلَه على النظر في أموره، وبقيَا مدة من الدهر في خدمته، وكل واحد منهم لا
يعلم بصاحبه، وسمع الرجل التاجر الذي عنده المرأةُ بذلك الملك، وبرِّه للناس
وإحسانه إليهم، فأخذ جانبًا من الثياب الفاخرة، ومما يستظرف من تُحَف البلاد، وأتى
بسفينة والمرأة معه حتى وصل إلى شاطئ الجزيرة، ونزل إلى الملك، وقدَّمَ له هديته،
فنظرها الملك وسُرَّ بها سرورًا كثيرًا، وأمر للرجل بجائزة سنية، وكان في الهدية
عقاقير أراد الملك من التاجر أن يعرِّفها له بأسمائها، ويخبره بمصالحها، فقال
الملك للتاجر: أَقِمِ الليلةَ عندنا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام
المباح.
﴿اللیلة 481﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن التاجر لما قال له الملك: أَقِمِ الليلةَ عندنا. قال:
إن لي في السفينة وديعة عاهدتها أنْ لا أوكل أمرها إلى غيري، وهي امرأة صالحة
تيمَّنْتُ بدعائها، وظهرت لي البركة في آرائها، فقال الملك: سأبعث إليها أمناء
يبيتون عليها، ويحرسون كلَّ ما لديها. قال: فأجابه لذلك، وبقي عند الملك، ووجَّهَ
الملكُ كاتبَه ووكيلَه إليها، وقال لهما: اذهبَا فاحرسَا سفينةَ هذا الرجل الليلةَ
إن شاء الله تعالى. قال: فسارَا وصعدَا إلى السفينة، وقعد هذا على مؤخرها، وهذا
على مقدمها، وذكرَا الله عزَّ وجلَّ برهة من الليل، ثم قال أحدهما للآخَر: يا
فلان، إن الملك قد أمرنا بالحراسة، ونخاف النوم، فتعالَ نتحدَّث بأخبار الزمان،
وما رأيناه من الخير والامتحان، فقال الآخَر: يا أخي، أمَّا أنا فمن امتحاني أن
فرَّقَ الدهرُ بيني وبين أبي وأمي وأخٍ لي كان اسمه كاسمك، والسبب في ذلك أنه ركب
والدنا البحر من بلد كذا وكذا، فهاجت علينا الرياح، واختلفت فكسرت السفينة،
وفرَّقَ اللهُ شملنا. فلما سمع الآخَر بذلك قال: وما كان اسم والدتك يا أخي؟ قال:
فلانة. قال: وما اسم والدك؟ قال: فلان. فترامى الأخ على أخيه وقال له: أنت أخي
والله حقًّا. وجعل كلُّ واحد منهما يحدِّث أخاه بما جرى عليه في صِغَره، والأم
تسمع الكلام، ولكنها كتمت أمرها وصبَّرَتْ نفسها، فلما طلع الفجر قال أحدهما
للآخَر: سِرْ يا أخي نتحدَّث في منزلي. قال: نعم. فسارَا وأتى الرجل، فوجد المرأة
في كرب شديد، فقال لها: ما دهاك؟ وما أصابك؟ قالت: بعثتَ إليَّ الليلةَ مَن
أراداني بالسوء، وكنت منهما في كرب عظيم. فغضب التاجر وتوجَّهَ للملك، وأخبره بما
فعل الأمينان، فأحضرهما الملك بسرعة، وكان يحبهما لما تحقَّقَ فيهما من الأمانة
والديانة، ثم أمر بإحضار المرأة حتى تذكر ما كان منهما مشافَهةً، فجِيء بها
وأُحضِرت، وقال لها: أيتها المرأة، ماذا رأيتِ من هذين الأمينين؟ فقالت: أيها
الملك، أسألك بالله العظيم ربِّ العرش الكريم إلا ما أمرتهما أن يُعِيدَا كلامهما
الذي تكلَّمَا به البارحة. فقال لهما الملك: قولَا ما قلتماه، ولا تكتمَا منه
شيئًا. فأعادَا كلامهما، وإذا بالملك قد قام من فوق سريره، وصاح صيحة عظيمة،
وترامى عليهما واعتنقهما، وقال: والله أنتما ولداي حقًّا. فكشفَتِ المرأة عن وجهها
وقالت: أنا والله أمهما. فاجتمعوا جميعًا وصاروا في ألذ عيش وأهناه، إلى أن أبادهم
الموت، فسبحان مَن إذا قصده العبدُ نجَّاه، ولم يخيِّب ما أمله فيه ورجاه! وما
أحسن ما قيل في المعنى:
لِكُلِّ
شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ مِيقَاتُ
وَالْأَمْرُ فِيهِ أَخِي مَحْوٌ وَإِثْبَاتُ
لَا
تَجْزَعَنَّ لِأَمْرٍ قَدْ دُهِيتَ بِهِ
فَقَدْ أَتَانَا بِيُسْرِ الْعُسْرِ آيَاتُ
وَرُبَّ
ذِي كُرْبَةٍ بَاتَتْ مَضَرَّتُهَا
تَبْدُو وَبَاطِنُهَا فِيهِ الْمَسَرَّاتُ
وَكَمْ
مُهَانٍ عُيُونُ النَّاسِ تَشْنُؤُهُ
مِنَ الْهَوَانِ تَغَشَّتْهُ الْكَرَامَاتُ
هَذَا
الَّذِي نَالَهُ كَرْبٌ وَكَابَدَهُ
ضَرٌّ وَحَلَّتْ بِهِ فِي الْوَقْتِ آفَاتُ
وَفَرَّقَ
الدَّهْرُ مِنْهُ شَمْلَ أُلْفَتِهِ
فَكُلُّهُمْ بَعْدَ طُولِ الْجَمْعِ أَشْتَاتُ
أَعْطَاهُ
مَوْلَاهُ خَيْرًا ثُمَّ جَاءَ بِهِمْ
وَفِي الْجَمِيعِ إِلَى الْمَوْلَى إِشَارَاتُ
سُبْحَانَ
مَنْ عَمَّتِ الْأَكْوَانَ قُدْرَتُهُ
وَأَخْبَرَتْ بِتَدَانِيهِ الدَّلَالَاتُ
فَهْوَ
الْقَرِيبُ وَلَكِنْ لَا يُكَيِّفُهُ
عَقْلٌ وَلَيْسَتْ تُدَانِيهِ الْمَسَافَاتُ
حكاية أبي الحسن الدراج وأبيجعفر المجذوم
ومما
يُحكَى أن أبا الحسن الدراج قال: كنتُ كثيرًا ما آتي مكة زادها الله شرفًا، وكان الناس
يتبعونني لمعرفتي بالطريق وحفظ المناهل؛ فاتفق في عام من الأعوام أني أردتُ الوصول
إلى بيت الله الحرام وزيارة قبر نبيه عليه الصلاة والسلام، وقلت في نفسي: أنا عارف
بالطريق فأذهب وحدي. ومشيت حتى وصلت إلى القادسية فدخلتها وأتيت المسجد، فرأيت
رجلًا مجذوبًا قاعدًا في المحراب، فلما رآني قال: يا أبا الحسن، أسألك الصحبة إلى
مكة. فقلت في نفسي: إني فررتُ من الأصحاب وكيف أصحب المجذوبين؟ ثم قلت له: إني لا
أصحب أحدًا. فسكت عني. فلما أصبح الصباح مشيتُ في الطريق وحدي، ولم أزل منفردًا
حتى وصلت إلى العقبة ودخلت المسجد، فلما دخلته وجدتُ الرجل المجذوب في المحراب،
فقلتُ في نفسي: سبحان الله! كيف سبقني هذا إلى ها هنا؟ فرفع رأسه إليَّ وتبسَّمَ
وقال: يا أبا الحسن، يُصنَع للضعيف ما يتعجَّب منه القوي. فبتُّ تلك الليلة
متحيِّرًا مما رأيت، فلما أصبحت سلكت الطريق وحدي، فلما وصلت إلى عرفات وقصدتُ
المسجد، إذا الرجل قاعد في المحراب؛ فتراميتُ عليه وقلتُ له: يا سيدي، أسألك
الصحبة. وجعلتُ أقبِّل قدمَيْه، فقال: ليس لي إلى ذلك سبيل. فجعلتُ أبكي وأنتحب
لما حُرِمت من صحبته، فقال لي: هوِّنْ عليك، فإنه لا ينفعك البكاء. وأدرك شهرزاد
الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 482﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن أبا الحسن قال: لما رأيتُ الرجلَ المجذوب قاعدًا في
المحراب، تراميتُ عليه وقلتُ له: يا سيدي، أسألك الصحبة. وجعلت أقبِّل قدمَيْه،
فقال لي: ليس إلى ذلك سبيل. فجعلتُ أبكي وأنتحب لما حُرِمته من صحبته. فقال لي:
هوِّنْ عليك، فإنه لا ينفعك البكاء. وأجرى العَبَرات ثم أنشد هذه الأبيات:
أَتَبْكِي
عَلَى بُعْدِي وَمِنْكَ جَرَى الْبُعْدُ
وَتَطْلُبُ رَدًّا حِينَ لَا يُمْكِنُ الرَّدُّ
نَظَرْتَ
إِلَى ضَعْفِي وَظَاهِرِ عِلَّتِي
وَقُلْتَ سَقِيمٌ لَا يَرُوحُ وَلَا يَغْدُو
أَلَمْ
تَرَ أَنَّ اللهَ جَلَّ جَلَالُهُ
يَمُنُّ بِلُطْفٍ مَا تَخَيَّلَهُ الْعَبْدُ
لَئِنْ
كُنْتَ فِي رَأْيِ الْعُيُونِ كَمَا تَرَى
وَبِالْجِسْمِ مِنْ فَرْطِ الزَّمَانَةِ مَا يَبْدُو
وَلَيْسَ
مَعِي زَادٌ لِيُوصِلَنِي إِلَى
مَحَلٍّ بِهِ يَأْتِي إِلَى سَيِّدِي الْوَفْدُ
فَلِي
خَالِقٌ أَلْطَافُهُ بِي خَفِيَّةٌ
وَلَيْسَ لَهُ نِدٌّ وَلَا مِنْهُ لِي بُدُّ
فَسِرْ
سَالِمًا عَنِّي وَدَعْنِي وَغُرْبَتِي
فَإِنَّ الْغَرِيبَ الْفَرْدَ يُؤْنِسُهُ الْفَرْدُ
فانصرفتُ
من عنده، وكنتُ بعد ذلك لا آتي منهلًا إلا وجدتُه قد سبقني؛ فلما وصلتُ إلى
المدينة غاب عني أثره وعمي عليَّ خيره، فلقيتُ أبا يزيد البسطامي وأبا بكر الشبلي
وطوائف الشيوخ، وأخبرتهم بقصتي وشكوتُ إليهم قضيتي، فقالوا: هيهات أن تنال بعد ذلك
صحبته؛ هذا أبو جعفر المجذوب، بحرمته تستقي الأنواء، وببركته يستجاب الدعاء.
فلما
سمعتُ منهم هذا الكلام زاد شوقي إلى لقائه، وسألت الله أن يجمعني عليه، فبينما أنا
واقف بعرفات إذا بجاذب يجذبني من خلفي، فالتفَتُّ إليه فإذا هو ذلك الرجل.
فلما
رأيتُه صحتُ صيحةً عظيمةً، ووقعتُ مغشيًّا عليَّ؛ فلما أَفَقْتُ ما وجدتُه، زاد
وَجْدي لذلك وضاقت عليَّ المسالكُ، وسألت الله تعالى رؤيته. فلم يكن إلا أيام
قلائل وإذا به يجذبني من خلفي، فالتفَتُّ إليه فقال: عزمتُ عليك أن تأتيني وتسأل
حاجتك. فسألته أن يدعو لي ثلاث دعوات: الأولى أن يحبِّب الله إليَّ الفقرَ،
والثانية ألَّا أبيت على رزق معلوم، والثالثة أن يرزقني النظر إلى وجهه
الكريم.فدعا لي هذه الدعوات وغاب عني، وقد استجاب الله دعاءه لي؛ أما الأولى فإن
الله حبَّبَ إليَّ الفقر، فوالله ما في الدنيا شيء هو أحبُّ إليَّ منه. وأما
الثانية فإني منذ كذا سنة ما بتُّ على رزقٍ معلومٍ، ومع ذلك لا يحوجني الله إلى
شيء، وإني لَأرجو أن يمنَّ اللهُ عليَّ بالثالثة، ويكون قد أجاب فيها كما أجاب في
الاثنتين قبلها، إنه كريم مفضال، ورحم الله مَن قال:
زِيُّ
الْفَقِيرِ تَبَتُّلٌ وَوَقَارُ
وَلِبَاسُهُ الْخُلْقَانُ وَالْأَطْمَارُ
وَالِاصْفِرَارُ
يَزِينُهُ وَلَرُبَّمَا
بِسَرَارِهَا تَتَزَيَّنُ الْأَقْمَارُ
قَدْ
شَفَّهُ طُولُ الْقِيَامِ بِلَيْلِهِ
وَدُمُوعُهُ مِنْ جَفْنِهِ مِدْرَارُ
فَأَنِيسُهُ
فِي دَارِهِ تَذْكَارُهُ
وَجَلِيسُهُ فِي لَيْلِهِ الْجَبَّارُ
إِنَّ
الْفَقِيرَ بِهِ يُغَاثُ الْمُلْتَجِي
وَكَذَلِكَ الْأَنْعَامُ وَالْأَطْيَارُ
وَلِأَجْلِهِ
يُجْرِي الْإِلَهُ بَلَاءَهُ
وَبِفَضْلِهِ تُتَنَزَّلُ الْأَمْطَارُ
وَإِذَا
دَعَا يَوْمًا بِكَشْفِ مَلَمَّةٍ
هَلَكَ الظَّلُومُ وَعُطِّلَ الْجَبَّارُ
فَالْخَلْقُ
أَجْمَعُهُمْ مَرِيضٌ مُدْنَفٌ
وَهْوَ الطَّبِيبُ الْمُشْفِقُ الْمِدْرَارُ
سِيمَاهُ
تَبْدُو إِنْ نَظَرْتَ لِوَجْهِهِ
صَفَتِ الْقُلُوبُ وَلَاحَتِ الْأَنْوَارُ
يَا
رَاغِبًا عَنْهُمْ وَلَمْ تَرَ فَضْلَهُمْ
حَجَبَتْكَ وَيْحَكَ عَنْهُمُ الْأَوْزَارُ
تَرْجُو
لِحَاقَهُمُ وَأَنْتَ مُقَيَّدٌ
قَدْ أَخَّرَتْكَ عَنِ الْمُنَى أَوْزَارُ
لَوْ
كُنْتَ تعْرِفُ قَدْرَهُمْ لَأَجَبْتَهُمْ
وَجَرَتْ لَهُمْ مِنْ جَفْنِكَ الْأَنْهَارُ
إِنِّي
إِلَى الْمَذْكُومِ شَمُّ أَزَاهِر
الثَّوْبُ يَعْرِفُ قَدْرَهُ السِّمْسَارُ
فَاسْرِعْ
إِلَى مَوْلَاكَ وَاسْأَلْ وَصْلَهُ
فَعَسَى تُسَاعِدُ سَعْيَكَ الْأَقْدَارُ
وَتُرَاحُ
مِنْ فَرْطِ التَّبَاعُدِ وَالْقِلَى
وَتَنَالُ مَا تَهْوَى وَمَا تَخْتَارُ
فَجَنِيُّهُ
رَحْبٌ لِكُلِّ مُؤَمِّلٍ وَهْوَ
الْإِلَهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ
حكاية مغامرات حاسب كريمالدين
ومما
يُحكَى أنه كان في قديم الزمان، وسالف العصر والأوان، حكيم من حكماء اليونان، وكان
ذلك الحكيم يُسمَّى دانيال، وكان له تلامذة وجنود، وكان حكماء اليونان يذعنون
لأمره، ويعوِّلون على علومه، ومع هذا لم يُرزَق ولدًا ذَكَرًا، فبينما هو ذات ليلة
من الليالي يتفكَّر في نفسه ويبكي على عدم وجود ولد يرثه في علومه من بعده، إذ خطر
بباله أن الله سبحانه وتعالى يجيب دعوةَ مَن إليه أناب، وأنه ليس على باب فضله
بوَّاب، ويرزق مَن يشاء بغير حساب، ولا يرد سائلًا إذا سأله، بل يجزل الخير
والإحسان له، فسأل الله تعالى الكريم أن يرزقه ولدًا يخلفه من بعده، ويجزل له
الإحسان من عنده، ثم رجع إلى بيته، وواقَعَ زوجته، فحملَتْ منه تلك الليلة. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 483﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الحكيم اليوناني رجع إلى بيته، وواقَعَ زوجته، فحملت
منه تلك الليلة، ثم بعد أيام سافَرَ إلى مكان في مركب فانكسرت به المركب، وراحت
كتبه في البحر، وطلع هو على لوحٍ من تلك السفينة، وكان معه خمس ورقات بقيت من
الكتب التي وقعت منه في البحر، فلما رجع إلى بيته وضع تلك الأوراق في صندوق، وقفل
عليها، وكانت زوجته قد ظهر حملها، فقال لها: اعلمي أني قد دَنَتْ وفاتي، وقرب
انتقالي من دار الفناء إلى دار البقاء، وأنت حامل فربما تلدين بعد موتي صَبِيًّا
ذَكَرًا، فإذا وضعتِه فسمِّيه حاسب كريم الدين، وربِّيه أحسن التربية، فإذا كبر
وقال لك: ما خلَّفَ لي أبي من الميراث؟ فأَعْطِيه هذه الخمس ورقات، فإذا قرأها
وعرف معناها يصير أعلم أهل زمانه. ثم إنه ودَّعَها وشهق شهقة ففارَقَ الدنيا وما
فيها، رحمة الله تعالى عليه؛ فبكى عليه أهله وأصحابه، ثم غسَّلوه وأخرجوه خرجة
عظيمة، ودفنوه ورجعوا، ثم إن زوجته بعد أيام قلائل وضعَتْ ولدًا مليحًا، فسمَّتْه
حاسب كريم الدين، كما أوصاها به، ولما ولدته أحضرَتْ له المنجِّمُون، فحسبوا
طالعه، وناظره من الكواكب، ثم قالوا لها: اعلمي أيتها المرأة أن هذا المولود يعيش
أيامًا كثيرة، ولكن بعد شدة تحصل له في مبدأ عمره، فإذا نجا منها فإنه يُعطَى بعد
ذلك عِلْمَ الحكمة. ثم مضى المنجِّمُون إلى حال سبيلهم، فأرضعَتْه اللبن سنتين،
وفطمته، فلما بلغ خمس سنين حطته في المكتب ليتعلم شيئًا من العلم، فلم يتعلم؛
فأخرجَتْه من المكتب، وحطَّتْه في الصنعة فلم يتعلَّم شيئًا من الصنعة، ولم يطلع
من يده شيء من الشغل، فبكت أمه من أجل ذلك، فقال لها الناس: زوِّجِيه لعله يحمل
هَمَّ زوجته، ويتَّخِذ له صنعة، فقامت وخطبت بنتًا وزوَّجَتْه بها، ومكث على ذلك
الحال مدة من الزمان، وهو لم يتَّخِذ له صنعة قطُّ.
ثم
إنهم كان لهم جيران حطَّابون، فأتوا إلى أمه وقالوا لها: اشتري لابنك حمارًا
وحبلًا وفأسًا، ويروح معنا إلى الجبل، فنحتطب نحن وإياه، ويكون ثمن الحطب له ولنا،
وينفق عليكم ممَّا يخصه. فلما سمعَتْ أمه ذلك من الحطَّابين فرِحَتْ فرحًا شديدًا،
واشترَتْ لابنها حمارًا وحبلًا وفأسًا، وأخذَتْه وتوجَّهَتْ به إلى الحطَّابين،
وسلَّمته إليهم، وأوصتهم عليه، فقالوا لها: لا تحملي هَمَّ هذا الولد؛ ربنا يرزقه،
وهذا ابن شيخنا.
ثم
أخذوه معهم، وتوجَّهوا إلى الجبل، فقطعوا الحطب، وحملوا حميرهم وأتوا إلى المدينة
وباعوا الحطب، وأنفقوا على عيالهم، ثم إنهم شدوا حميرهم، ورجعوا إلى الاحتطاب في
ثاني يوم وثالث يوم، ولم يزالوا على هذه الحالة مدةً من الزمان؛ فاتفق أنهم ذهبوا
إلى الاحتطاب في بعض الأيام، فنزلت عليهم مطرة عظيمة، فهربوا إلى مغارة عظيمة
ليداروا أنفسهم فيها من تلك المطرة، فقام من عندهم حاسب كريم الدين، وجلس وحده في
مكانٍ من تلك المغارة، وصار يضرب الأرضَ بالفأس، فسمع حسَّ الأرض خالية من تحت
الفأس، فلما عرف أنها خالية مكث يحفر ساعة، فرأى بلاطة مدوَّرة، وفيها حلقة، فلما
رأى ذلك فرِحَ ونادى جماعته الحطَّابين. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام
المباح.
﴿اللیلة 484﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن حاسب كريم الدين لما رأى البلاطة التي فيها الحلقة فرح
ونادى جماعته، فحضروا إليه فرأوا تلك البلاطة، فتسارعوا إليها وقلعوها، فوجدوا
تحتها بابًا، ففتحوا الباب الذي تحت البلاطة، فإذا هو جبٌّ ملآن عسل نحل، فقال
الحطَّابون لبعضهم: هذا جبٌّ ملآن عسلًا، وما لنا إلا أن نروح المدينة، ونأتي
بظروف، ونعبِّئ هذا العسل فيها، ونبيعه ونقتسم حقَّه، وواحد منَّا يقعد ليحفظه من
غيرنا. فقال حاسب: أنا أقعد وأحرسه حتى تروحوا وتأتوا بالظروف. فتركوا حاسب كريم
الدين يحرس لهم الجب، وذهبوا إلى المدينة، وأتوا بظروفٍ، وعبَّوها من ذلك العسل،
وحمَّلوا حميرهم، ورجعوا إلى المدينة، وباعوا ذلك العسل، ثم عادوا إلى الجب ثاني
مرة؛ وما زالوا على هذه الحالة مدةً من الزمان، وهم يبيعون في المدينة ويرجعون إلى
الجب يعبُّون من ذلك العسل، وحاسب كريم الدين قاعد يحرس لهم الجبَّ، فقالوا لبعضهم
يومًا من الأيام: إن الذي لقي جبَّ العسل حاسب كريم الدين، وفي غدٍ ينزل إلى
المدينة، ويدَّعِي علينا، ويأخذ ثمن العسل ويقول: أنا الذي لقيتُه، وما لنا خلاص
من ذلك إلا أن نُنزِله في الجبِّ ليعبِّي العسل الذي بقي فيه، ونتركه هناك فيموت
كمدًا، ولا يدري به أحد، فاتفق الجميع على هذا الأمر، ثم ساروا، وما زالوا سائرين
حتى أتوا إلى الجب، فقالوا له: يا حاسب، انزل الجبَّ، وعبِّ لنا العسلَ الذي بقي
فيه، فنزل حاسب في الجب وعبَّى لهم العسل الذي بقي فيه، وقال لهم: اسحبوني فما بقي
فيه شيء. فلم يردَّ عليه أحدٌ منهم جوابًا، وحمَّلوا حميرهم، وساروا إلى المدينة،
وتركوه في الجبِّ وحدَه، وصار يستغيث ويبكي ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله
العظيم، قد متُّ كمدًا.
هذا
ما كان من أمر حاسب كريم الدين، وأما ما كان من أمر الحطَّابين، فإنهم لما وصلوا
إلى المدينة باعوا العسل، وراحوا إلى أم حاسب وهم يبكون، وقالوا لها: تعيش رأسك في
ابنك حاسب. فقالت لهم: ما سبب موته؟ قالوا لها: إنَّا كنَّا قاعدين فوق الجبل،
فأمطرت علينا السماء مطرًا عظيمًا، فأوينا إلى مغارة لنتدارى فيها من ذلك المطر،
فلم نشعر إلا وحمار ابنك هرب في الوادي، فذهب خلفه ليردَّه من الوادي، وكان فيه
ذئب عظيم فافترس ابنك، وأكل الحمار، فلما سمعَتْ أمه كلامَ الحطَّابين، لطمَتْ على
وجهها، وحثَّتِ التراب على رأسها، وأقامت عزاءَه، وصار الحطَّابون يجيئون لها
بالأكل والشرب في كل يوم.
هذا
ما كان من أمر أمه، وأما ما كان من أمر الحطَّابين، فإنهم فتحوا لهم دكاكين،
وصاروا تجَّارًا، ولم يزالوا في أكل وشرب وضحك ولعب.
وأما
ما كان من أمر حاسب كريم الدين، فإنه صار يبكي وينتحب، فبينما هو قاعد في الجب على
هذه الحالة، وإذا بعقربٍ كبير وقع عليه، فقام وقتله، ثم تفكَّرَ في نفسه وقال: إن
الجبَّ كان ملآن عسلًا، فمن أين أتى العقرب؟ فقام ينظر المكان الذي وقع منه
العقرب، وصار يلتفت يمينًا وشمالًا في الجبِّ، فرأى المكان الذي وقع منه العقرب
يلوح منه النور، فأخرج سكينًا كانت معه، ووسَّعَ ذلك المكان حتى صار قدر الطاقة،
وخرج منه، وتمشَّى ساعةً في داخله، فرأى دهليزًا عظيمًا، فمشى فيه فرأى بابًا
عظيمًا من الحديد الأسود، وعليه قفل من الفضة، وعلى ذلك القفل مفتاح من الذهب،
فتقدَّمَ إلى ذلك الباب، ونظر من خلاله، فرأى نورًا عظيمًا يلوح من داخله، فأخذ
المفتاح وفتح الباب، وعبر إلى داخله، وتمشَّى ساعةً حتى وصل إلى بحيرة عظيمة، فرأى
في تلك البحيرة شيئًا يلمع مثل الماء، فلم يزل يمشي حتى وصل إليه، فرأى تلًّا
عاليًا من الزبرجد الأخضر، وعليه تخت منصوب من الذهب مرصَّع بأنواع الجواهر. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 485﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن حاسب كريم الدين لما وصل إلى التل وجده من الزبرجد
الأخضر، وعليه تخت منصوب من الذهب، مرصَّع بأنواع الجواهر، وحول ذلك التخت كراسيُّ
منصوبة، بعضها من الذهب وبعضها من الفضة، وبعضها من الزمرد الأخضر، فلما أتى إلى
تلك الكراسي تنهَّدَ، ثم عدَّها فرآها اثني عشر ألف كرسي، فطلع على ذلك التخت
المنصوب في وسط تلك الكراسي، وقعد عليه، وصار يتعجَّب من تلك البحيرة، وتلك
الكراسي المنصوبة، ولم يزل متعجبًا حتى غلب عليه النوم، فنام ساعة، وإذا هو يسمع
نفخًا وصفيرًا، وهرجًا عظيمًا، ففتح عينَيْه وقعد، فرأى على الكراسي حيَّات عظيمة،
طول كلٍّ منها مائة ذراع، فحصل له من ذلك فزع عظيم، ونشف ريقه من شدة خوفه، ويئس
من الحياة، وخاف خوفًا عظيمًا، ورأى عين كل حية تتوقَّد مثل الجمر، وهن فوق
الكراسي، والتفت إلى البحيرة، فرأى فيها حياتٍ صغارًا، لا يعلم عددُها إلا الله
تعالى، وبعد ساعة أقبلَتْ عليه حية عظيمة مثل البغل، وعلى ظهر تلك الحية طبق من
الذهب، وفي وسط ذلك الطبق حية تضيء مثل البلور، ووجهها وجه إنسان، وهي تتكلَّم
بلسانٍ فصيح، فلما قربت من حاسب كريم الدين سلَّمَتْ عليه، فردَّ عليها السلام، ثم
أقبلَتْ حية من تلك الحيات التي فوق الكراسي، ثم إن تلك الحية زعقت على تلك الحيات
بلُغَاتها، فخَرَّتْ جميع الحيات من فوق كراسيها، ودعَيْنَ لها، وأشارت إليهن
بالجلوس فجلسن، ثم إن الحية قالت لحاسب كريم الدين: لا تَخَفْ منَّا أيها الشاب؛
فإني أنا ملكة الحيات وسلطانتهن.
فلما
سمع حاسب كريم الدين ذلك الكلام من الحية اطمأنَّ قلبه، ثم إن الحية أشارَتْ إلى
تلك الحيات أن يأتوا بشيء من الأكل، فأتوا بتفاح وعنب ورمان، وفستق وبندق وجوز
ولوز وموز، وحطوه قدام حاسب كريم الدين، ثم قالت له ملكة الحيات: مرحبًا بك يا
شاب، ما اسمك؟ فقال لها: اسمي حاسب كريم الدين. فقالت له: يا حاسب، كُلْ من هذه
الفواكه، فما عندنا طعام غيرها، ولا تَخَفْ منَّا أبدًا. فلما سمع حاسب هذا الكلام
من الحية، أكل حتى اكتفى، وحمد الله تعالى، فلما اكتفى من الأكل رفعوا السماط من
قدَّامه، ثم بعد ذلك قالت له ملكة الحيات: أخبرني يا حاسب مِن أين أنت؟
ومِن
أين أتيتَ إلى هذا المكان؟ وما جرى لك؟ فحكى لها حاسب ما جرى لأبيه، وكيف ولدَتْه
أمه، وحطته في المكتب، وهو ابن خمس سنين، ولم يتعلَّم شيئًا من العلم، وكيف حطته
في الصنعة، وكيف اشترَتْ أمه له الحمار، وصار حطَّابًا، وكيف لقي جبَّ العسل، وكيف
تركه رفقاؤه الحطَّابون في الجب وراحوا، وكيف نزل عليه العقرب وقتله، وكيف وسَّعَ
الشق الذي نزل منه العقرب، وطلع من الجب، وأتى إلى الباب الحديد وفتحه حتى وصل إلى
ملكة الحيات التي يكلِّمها، ثم قال لها: وهذه حكايتي من أولها إلى آخِرها، والله
أعلم بما يحصل لي بعد هذا كله. فلما سمعت ملكة الحيات حكايةَ حاسب كريم الدين من
أولها إلى آخِرها، قالت له: ما يحصل لك إلا كلُّ خير. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ
عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 486﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن ملكة الحيات لما سمعَتْ حكايةَ حاسب كريم الدين من
أولها إلى آخِرها، قالت له: ما يحصل لك إلا كلُّ خير، ولكن أريد منك يا حاسب أن
تقعد عندي مدة من الزمان حتى أحكي لك حكايتي، وأُخبِرك بما جرى لي من العجائب.
فقال لها: سمعًا وطاعةً فيما تأمرينني به. فقالت له: اعلم يا حاسب أنه كان بمدينة
مصر مَلِك من بني إسرائيل، وكان له ولد اسمه بلوقيا، وكان هذا الملك عالِمًا
عابدًا مُكِبًّا على قراءة كتب العلم، فلما ضعف وأشرف على الموت طلع له أكابر
دولته ليسلِّموا عليه، فلما جلسوا عنده وسلَّموا عليه، قال لهم: يا قوم، اعلموا
أنه قد دنَا رحيلي من الدنيا إلى الآخرة، وما لي عندكم شيء أوصيكم به إلا ابني
بلوقيا، فاستوصوا به. ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله. وشهق شهقة ففارَقَ الدنيا
رحمة الله عليه؛ فجهَّزوه وغسَّلوه ودفنوه، وأخرجوه خرجة عظيمة، وجعلوا ولده
بلوقيا سلطانًا عليهم، وكان ولده عادلًا في الرعية، واستراحت الناس في زمانه،
فاتفق في بعض الأيام أنه فتح خزائن أبيه ليتفرَّج فيها، ففتح خزانة من تلك
الخزائن، فوجد فيها صورة بابٍ، ففتحه ودخل، فإذا هي خلوة صغيرة، وفيها عمود من
الرخام الأبيض، وفوقه صندوق من الأبنوس، فأخذه بلوقيا وفتحه فوجد فيه صندوقًا آخَر
من الذهب، ففتحه فرأى فيه كتابًا، ففتح الكتاب وقرأه، فرأى فيه صفة محمد ﷺ،
وأنه يُبعث في آخِر الزمان، وهو سيد الأولين والآخِرين، فلما قرأ بلوقيا هذا
الكتاب، وعرف صفات سيدنا محمد ﷺ تعلَّقَ قلبه بحبه، ثم إن بلوقيا جمع
أكابر بني إسرائيل من الكهان والأحبار والرهبان، وأَطْلَعَهم على ذلك الكتاب،
وقرأه عليهم وقال لهم: يا قوم، ينبغي أن أُخرِج أبي من قبره وأحرقه. فقال له قومه:
لأي شيء تحرقه؟ فقال لهم بلوقيا: لأنه أخفى عني هذا الكتاب ولم يُظهِره لي، وقد
كان استخرجه من التوراة، ومن صحف إبراهيم، ووضع هذا الكتاب في خزائنه، ولم يُطلِع
عليه أحدًا من الناس. فقالوا له: يا ملكنا، إن أباك قد مات، وأمره مفوَّض إلى ربه،
وهو الآن في التراب، ولا تُخرِجه من قبره. فلما سمع بلوقيا هذا الكلام من أكابر
بني إسرائيل، عرف أنهم لا يمكِّنونه من أبيه، فتركهم ودخل على أمه وقال لها: يا
أمي، إني رأيت في خزائن أبي كتابًا فيه صفة محمد ﷺ، وهو نبي يُبعَث في آخِر
الزمان، وقد تعلَّقَ قلبي بحبه، وأنا أريد أن أسيح في البلاد حتى أجتمع به، فإنني
إنْ لم أجتمع به متُّ غرامًا في حبه. ثم نزع ثيابه، ولبس عباءة وزربونًا، وقال: لا
تنسيني يا أمي من الدعاء. فبكت عليه أمه، وقالت له: كيف يكون حالنا بعدك؟ قال
بلوقيا: ما بقي لي صبر أبدًا، وقد فوَّضْتُ أمري وأمرك إلى الله تعالى. ثم خرج
سائحًا نحو الشام، ولم يدرِ به أحدٌ من قومه، وسار حتى وصل إلى ساحل البحر، فرأى
مركبًا فنزل فيها مع الركاب، وسارت بهم إلى أن أقبلوا على جزيرة، فطلع الركاب من
المركب إلى تلك الجزيرة، وطلع معهم، ثم انفرد عنهم في الجزيرة، وقعد تحت شجرة،
فغلب عليه النوم فنام، ثم إنه أفاق من نومه، وقام إلى المركب لينزل فيها، فرأى
المركب قد أقلعت، ورأى في تلك الجزيرة حيات مثل الجِمَال، ومثل النخل، وهم يذكرون
الله عزَّ وجلَّ ويصلون على محمد ﷺ، ويصيحون بالتهليل والتسبيح، فلما رأى
بلوقيا تعجَّبَ غايةَ العجب. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 487﴾
حكاية مغامرات بلوقيا
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن بلوقيا لما رأى الحيات يسبِّحون ويهلِّلون، تعجَّبَ
من ذلك غاية العجب، ثم إن الحيات لما رأت بلوقيا اجتمعت عليه، وقالت له حية منهم:
مَن تكون أنت؟ ومن أين أتيتَ؟ وما اسمك؟ وإلى أين رائح؟ فقال لها: اسمي بلوقيا،
وأنا من بني إسرائيل، وخرجتُ هائمًا في حبِّ محمد ﷺ وفي طلبه، فمَن
تكونون أنتم أيها الخليقة الشريفة؟ فقالت له الحيات: نحن من سكَّان جهنم، وقد
خلقنا الله تعالى نقمة على الكافرين. فقال لهم بلوقيا: وما الذي جاء بكم إلى هذا
المكان؟ فقالت له الحيات: اعلم يا بلوقيا أن جهنم من كثرة غليانها تتنفس في السنة
مرتين: مرة في الشتاء، ومرة في الصيف، واعلم أن كثرة الحر من شدة فيحها، ولما تخرج
نفسها ترمينا من بطنها، ولما تسحب نفسها تردُّنا إليها. فقال لهم بلوقيا: هل في
جهنم أكبر منكم؟ فقالت له الحيات: إننا ما نخرج مع تنفُّسها إلا لصِغَرِنا، فإن في
جنهم كل حية لو عبر أكبرُ ما فينا إلى أنفها لم تحس به. فقال لهم بلوقيا: أنتم
تذكرون الله، وتصلون على محمد، ومن أين تعرفون محمدًا ﷺ؟ فقالوا يا بلوقيا:
إن اسم محمد مكتوب على باب الجنة، ولولاه ما خلق الله المخلوقات، ولا جنةً ولا
نارًا، ولا سماءً ولا أرضًا؛ لأن الله لم يخلق جميع الموجودات إلا من أجل
محمد ﷺ، وقرن اسمه باسمه في كل مكان، ولأجل هذا نحن نحبُّ محمدًا ﷺ.
فلما
سمع بلوقيا هذا الكلام من الحيات زاد غرامه في حب محمد ﷺ، وعظم اشتياقه إليه،
ثم إن بلوقيا ودَّعَهم وسار حتى وصل إلى شاطئ البحر، فرأى مركبًا راسية في جنب
الجزيرة، فنزل فيها مع ركَّابها، وسارت بهم، وما زالوا سائرين حتى وصلوا إلى جزيرة
أخرى، فطلع عليها وتمشَّى ساعة، فرأى فيها حيات كبارًا وصغارًا لا يعلم عددها إلا
الله تعالى، وبينهم حية بيضاء أبيض من البلور، وهي جالسة في طبق من الذهب، وذلك
الطبق على ظهر حية مثل الفيل، وتلك الحية ملكة الحيات، وهي أنا يا حاسب.
ثم
إن حاسبًا سأل ملكة الحيات، وقال لها: أي شيء جوابك مع بلوقيا؟ فقالت الحية: يا
حاسب، اعلم أني لما نظرت إلى بلوقيا سلَّمْتُ عليه، فردَّ عليَّ السلام، وقلت له:
مَن أنت؟ وما شأنك؟ ومن أين أقبلتَ؟ وإلى أين تذهب؟ وما اسمك؟ فقال: أنا من بني
إسرائيل، واسمي بلوقيا، وأنا سائح في حب محمد ﷺ وفي طلبه، فإني رأيت
صفاته في الكتب المنزلة. ثم إن بلوقيا سألني، وقال لي: أي شيء أنت؟ وما شأنك؟ وما
هذه الحيات التي حولك؟ فقلتُ له: يا بلوقيا، أنا ملكة الحيات، وإذا اجتمعتَ
بمحمد ﷺ فأقرِئْه مني السلام. ثم إن بلوقيا ودَّعَني، ونزل في المركب
حتى وصل إلى بيت المقدس، وكان في بيت المقدس رجلٌ تمكَّنَ من جميع العلوم، وكان
متقنًا في علم الهندسة وعلم الفلك والحساب والسيمياء والروحاني، وكان يقرأ التوراة
والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم، وكان يقال له عفان، وقد وجد في كتاب عنده أن كلَّ
مَن لبس خاتم سيدنا سليمان انقادَتْ له الإنس والجن والطير والوحش وجميع
المخلوقات، ورأى في بعض الكتب أنه لما توفي سيدنا سليمان، حطوه في تابوت، وعدوا به
سبعة أبحر، وكان الخاتم في أصبعه، ولا يقدر أحد من الإنس، ولا من الجن أن يأخذ ذلك
الخاتم، ولا يقدر أحد من أصحاب المراكب أن يروح بمركب إلى ذلك المكان. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 488﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن عفانًا وجد في بعض الكتب أنه لا يقدر أحدٌ من الإنس
ولا من الجن أن يأخذ الخاتم من أصبع سيدنا سليمان، ولا يقدر أحد من أصحاب المراكب
أن يسافر بمركبه في السبعة أبحر التي عدُّوها بتابوته، ووجد في بعض الكتب أيضًا أن
بين الأعشاب عشبًا، كلُّ مَن أخذ منه شيئًا وعصره وأخذ ماءَه، ودهن به قدمَيْه،
فإنه يمشي على أي بحر خلقه الله تعالى، ولا تبتلُّ قدماه، ولا يقدر أحد على تحصيل
ذلك العشب إلا إذا كانت معه ملكة الحيات.
ثم
إن بلوقيا لما دخل بيت المقدس جلس في مكان يعبد الله تعالى، فبينما هو جالس يعبد
الله إذ أقبل عليه عفان، وسلَّم عليه، فردَّ عليه السلام، ثم إن عفانًا نظر إلى
بلوقيا فرآه يقرأ في التوراة وهو جالس يعبد الله تعالى، فتقدَّمَ إليه وقال له:
أيها الرجل، ما اسمك؟ ومن أين أتيتَ؟ وإلى أين تذهب؟ فقال له: اسمي بلوقيا، وأنا
من مدينة مصر، خرجتُ سائحًا في طلب محمد ﷺ. فقال عفان لبلوقيا: قُمْ معي
إلى منزلي حتى أضيفك. فقال: سمعًا وطاعة. فأخذ عفان بيد بلوقيا، وذهب به إلى
منزله، وأكرَمَه غاية الإكرام، وبعد ذلك قال له: أخبرني يا أخي بخبرك، ومَن أين
عرفتَ محمدًا ﷺ حتى تعلَّقَ قلبُك بحبه، وذهبْتَ في طلبه، ومَن دلَّكَ
على هذا الطريق؟ فحكى له بلوقيا حكايته من الأول إلى الآخِر، فلما سمع عفان كلامَه
كاد أن يذهب عقله، وتعجَّبَ من ذلك غاية العجب، ثم إن عفانًا قال لبلوقيا: اجمعني
على ملكة الحيات، وأنا أجمعك على محمد ﷺ؛ لأن زمان مبعث
محمد ﷺ بعيد، وإذا ظفرنا بملكة الحيات نحطها في قفص ونروح بها إلى
الأعشاب التي في الجبال، وكل عشب جزنا عليه، وهي معنا ينطق ويخبر بمنفعته بقدرة
الله تعالى، فإني قد وجدتُ عندي في الكتب أن في الأعشاب عشبًا، كلُّ مَن أخذه
ودَقَّه، وأخذ ماءه ودهن به قدمَيْه، ومشى على أي بحر خلقه الله تعالى لم تبتلَّ
له قدم، فإذا أخذنا ملكة الحيات تدلنا على ذلك العشب، وإذا وجدناه نأخذه وندقُّه،
ونأخذ ماءه، ثم نطلقها إلى حال سبيلها، وندهن بذلك الماء أقدامنا، ونعدِّي السبعة
أبحر، ونصل إلى مدفن سيدنا سليمان، ونأخذ الخاتم من أصبعه، ونحكم كما حكم سيدنا
سيلمان، ونصل إلى مقصودنا، وبعد ذلك ندخل بحر الظلمات، فنشرب من ماء الحياة،
فيمهلنا الله إلى آخِر الزمان، ونجتمع بمحمد ﷺ.
فلما
سمع بلوقيا هذا الكلام من عفان قال له: يا عفان، أنا أجمعك بملكة الحيات، وأُرِيك
مكانها. فقام عفان وصنع له قفصًا من حديد، وأخذ معه قدحين، وملأ أحدهما خمرًا،
وملأ الآخَر لبنًا، وسار عفان هو وبلوقيا أيامًا وليالي حتى وصلَا إلى الجزيرة
التي فيها ملكة الحيات، فطلع عفان وبلوقيا إلى الجزيرة، وتمشَّيَا فيها، وبعد ذلك
وضع عفان القفص، ونصب فيه فخًّا، ووضع فيه القدحين المملوءين خمرًا ولبنًا، ثم
تباعَدَا عن القفص، واستخفيَا ساعة، فأقبلت ملكة الحيات على القفص حتى قربت من
القدحين، فتأمَّلَتْ فيهما ساعة، فلما شمت رائحة اللبن نزلت من فوق ظهر الحية التي
هي فوقها، وطلعت من الطبق، ودخلت القفص، وأتت إلى القدح الذي فيه الخمر وشربت منه،
فلما شربت من ذلك القدح داخت رأسها ونامت؛ فلما رأى ذلك عفان تقدَّمَ إلى القفص
وقفله على ملكة الحيات، ثم أخذها هو وبلوقيا وسارَا، فلما أفاقت رأت روحها في قفص
من حديد، والقفص على رأس رجل وبجانبه بلوقيا، فلما رأت ملكة الحيات بلوقيا قالت
له: هذا جزاء مَن لا يؤذي بني آدم. فردَّ عليها بلوقيا وقال لها: لا تخافي منَّا
يا ملكة الحيات، فإنَّا لا نؤذيك أبدًا، ولكن نريد منك أن تدلِّينا على عشب بين
الأعشاب، كلُّ مَن أخذه ودقَّه، واستخرج ماءه، ودهن به قدمَيْه، ومشى على أي بحر
خلقه الله تعالى لا تبتلُّ قدماه، فإذا وجدنا ذلك العشب أخذناه، ونرجع بك إلى
مكانك، ونطلقك إلى حال سبيلك.
ثم
إن عفانًا وبلوقيا سارَا بملكة الحيات نحو الجبال التي فيها الأعشاب، ودارَا بها
على جميع الأعشاب، فصار كل عشب ينطق ويخبر بمنفعته بإذن الله تعالى، فبينما هما في
هذا الأمر، والأعشاب تنطق يمينًا وشمالًا، وتخبر بمنافعها، وإذا بعشب نطق وقال:
أنا العشب الذي كلُّ مَن أخذني ودقَّني، وأخذ مائي، ودهن به قدمَيْه، وجاز على أي
بحر خلقه الله تعالى لم تبتلَّ قدماه. فلما سمع عفان كلام العشب حطَّ القفص من فوق
رأسه، وأخذَا من ذلك العشب ما يكفيهما، ودقَّاه وعصرَاه، وأخذَا ماءه، وجعلاه في
قزازتين وحفظاهما، والذي فضل منهما دهَنَا به أقدامهما، ثم إن بلوقيا وعفانًا
أخذَا ملكة الحيات، وسارَا بها ليالي وأيامًا حتى وصلَا إلى الجزيرة التي كانت
فيها، ففتح عفان باب القفص، وخرجت منه ملكة الحيات، فلما خرجت قالت لهما: فما
تصنعان بهذا الماء؟ فقالَا لها: مرادنا أن ندهن به أقدامنا حتى نتجاوز السبعة
أبحر، ونصل إلى مدفن سيدنا سليمان، ونأخذ الخاتم من أصبعه. فقالت لهما ملكة
الحيات: هيهات أن تقدرَا على أخذ الخاتم. فقالا لها: لأي شيء؟ فقالت لهما: لأن الله
تعالى مَنَّ على سليمان بإعطائه ذلك الخاتم، وخصَّه بذلك؛ لأنه قال: رَبِّ هَبْ لِي
مُلْكًا لَا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِن بَعْدِي ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ، فما لكما
ولذلك الخاتم؟ ثم قالت لهما: لو أخذتما من العشب الذي كلُّ مَن أكل منه لا يموت
إلى النفخة الأولى، وهو بين تلك الأعشاب، لَكان أنفع لكما من هذا الذي أخذتماه،
فإنه لا يحصل لكما منه مقصودكما. فلما سمعَا كلامَهما ندمَا ندمًا عظيمًا، وسارَا
إلى حال سبيلهما. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 489﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن بلوقيا وعفانًا لما سمعَا كلام ملكة الحيات ندمَا
ندمًا عظيمًا، وسارَا إلى حال سبيلهما. هذا ما كان من أمرهما، وأما ما كان من أمر
ملكة الحيات، فإنها أتت إلى عساكرها، فرأتهم قد ضاعت مصالحهم، وضعف قويُّهم،
وضعيفهم مات؛ فلما رأى الحيات ملكتهم بينهم فرحوا، والتمُّوا حولها، وقالوا لها:
ما خبركِ؟ وأين كنتِ؟ فحكَتْ لهم جميع ما جرى لها مع عفان وبلوقيا، ثم بعد ذلك
جمعت جنودها، وتوجَّهَتْ بهم إلى جبل قاف؛ لأنها كانت تشتِّي فيه، وتصيِّف في
المكان الذي رآها فيه حاسب كريم الدين. ثم إن الحية قالت: يا حاسب، هذه حكايتي،
وما جرى لي. فتعجَّبَ حاسب من كلام الحية، ثم قال لها: أريد من فضلك أن تأمري
أحدًا من أعوانك أن يُخرِجني إلى وجه الأرض، وأروح إلى أهلي. فقالت له ملكة
الحيات: يا حاسب، ليس لك رواح من عندنا حتى يدخل الشتاء، وتروح معنا إلى جبل قاف،
وتتفرج فيه على تلال ورمل وأشجار، وأطيار تسبح الواحد القهَّار، وتتفرج على
مَرَدَة عفاريت وجان ما يعلم عددها إلا الله تعالى.
فلما
سمع حاسب كريم الدين كلامَ ملكة الحيات صار مهمومًا مغمومًا، ثم قال لها: أعلميني
بعفان وبلوقيا، لمَّا فارقَاكِ وسارَا، هل عدَّيَا السبعة بحور، ووصلَا إلى مدفن
سيدنا سليمان أم لا؟ وإذا كان وصلَا إلى مدفن سيدنا سليمان، فهل قدرَا على أخذ
الخاتم أم لا؟ فقالت له: اعلم أن عفانًا وبلوقيا لما فارقاني وسارَا، دهنَا
أقدامهما من ذلك الماء، ومشيا على وجه البحر، وصارَا يتفرجان على عجائب البحر، وما
زالا سائرين من بحر إلى بحر حتى عديَا السبعة أبحر، فلما عديَا تلك البحار وجدَا
جبلًا عظيمًا شاهقًا في الهواء، وهو من الزمرد الأخضر، وفيه عين تجري، وترابه كله
من المسك، فلما وصلَا إلى ذلك المكان فرحَا، وقالا: قد بلغنا مقصودنا. ثم سارَا
حتى وصلَا إلى جبلٍ عال، فمشيَا فيه، فرأيَا مغارةً من بعيد في ذلك الجبل وعليها
قبة عظيمة، والنور يلوح منها، فلما رأيَا تلك المغارة قصداها حتى وصلا إليها،
فدخلا فرأيا فيها تختًا منصوبًا من الذهب مرصعًا بأنواع الجواهر، وحوله كراسي
منصوبة لا يحصي لها عددًا إلا الله تعالى، ورأيَا السيد سليمان نائمًا فوق ذلك
التخت، وعليه حلة من الحرير الأخضر مزركشة بالذهب، مرصَّعة بنفيس المعادن من
الجواهر، ويده اليمنى على صدره، والخاتم في أصبعه، ونور الخاتم يغلب على نور تلك
الجواهر التي في ذلك المكان. ثم إن عفانًا علَّمَ بلوقيا أقسامًا وعزائم، وقال له:
اقرأ هذه الأقسام، ولا تترك قراءتها حتى آخذ الخاتم. ثم تقدَّمَ عفان إلى التخت
حتى قرب منه، وإذا بحيةٍ عظيمة طلعت من تحت التخت، وزعقت زعقة عظيمة، فارتعد ذلك
المكان من زعقتها، وصار الشرر يطير من فمها، ثم إن الحية قالت لعفان: إن لم ترجع
هلكتَ. فاشتغل عفان بالأقسام، ولم ينزعج من تلك الحية، فنفخت عليه الحية نفخة
عظيمة كادت أن تُحرِق ذلك المكان، وقالت: ويلك إن لم ترجع أحرقتُك. فلما سمع
بلوقيا هذا الكلام من الحية طلع من المغارة، وأما عفان فإنه لم ينزعج من ذلك، بل
تقدَّمَ إلى السيد سليمان، ومدَّ يده ولمس الخاتم، وأراد أن يسحبه من أصبع السيد
سليمان، وإذا بالحية نفخت على عفان فأحرقته، فصار كومَ رمادٍ.
هذا
ما كان من أمره، وأما ما كان من أمر بلوقيا، فإنه وقع مغشيًّا عليه من هذا الأمر.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 490﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن بلوقيا لما رأى عفانًا احترق، وصار كومَ رمادٍ، وقع
مغشيًّا عليه، وأمر الربُّ جلَّ جلاله جبريلَ أن يهبط إلى الأرض قبل أن تنفخ الحية
على بلوقيا، فهبط إلى الأرض بسرعة، فرأى بلوقيا مغشيًّا عليه، ورأى عفانًا احترق
من نفخة الحية، فأتى جبريل إلى بلوقيا، وأيقظه من غشيته، فلما أفاق سلَّمَ عليه جبريل،
وقال له: من أين أتيتم على هذا المكان؟ فحكى له بلوقيا جميع حكايته من الأول إلى
الآخِر، ثم قال له: اعلم أنني ما أتيتُ إلى هذا المكان إلا بسبب محمد ﷺ، فإن
عفانًا أخبرني أنه يُبعَث في آخِر الزمان، ولا يجتمع به إلا مَن يعيش إلى ذلك
الوقت، ولا يعيش إلى ذلك الوقت إلا مَن شرب من ماء الحياة، ولا يمكن ذلك إلا بحصول
خاتم سليمان عليه السلام؛ فصحبته إلى هذا المكان، وحصل له ما حصل، وها هو قد
احترق، وأنا لم أحترق، ومرادي أن تخبرني بمحمد أين يكون؟ فقال له جبريل: يا
بلوقيا، اذهب إلى حال سبيلك، فإن زمان محمد بعيد. ثم ارتفع جبريل إلى السماء من
وقته.
وأما
بلوقيا فإنه صار يبكي بكاءً شديدًا، وندم على ما فعل، وتفكَّرَ قول ملكة الحيات:
هيهات أن يقدر أحد على أخذ الخاتم. وتحيَّرَ بلوقيا في نفسه وبكى، ثم إنه نزل من
الجبل وسار، ولم يزل سائرًا حتى قرب من شاطئ البحر، وقعد هناك ساعة يتعجب من تلك
الجبال والبحار والجزائر، ثم بات تلك الليلة في ذلك الموضع، ولما أصبح الصباح دهن
قدمَيْه من الماء الذي كانَا أخذاه من العشب، ونزل البحر، وسار ماشيًا فيه أيامًا
وليالي وهو يتعجب من أهوال البحر وعجائبه وغرائبه، وما زال سائرًا على وجه الماء حتى
وصل إلى جزيرةٍ كأنها الجنة، فطلع بلوقيا إلى تلك الجزيرة، وصار يتعجب منها ومن
حُسْنها، وساح فيها فرآها جزيرة عظيمة، ترابها من الزعفران، وحصاها من الياقوت
والمعادن الفاخرة، وسياجها الياسمين، وزرعها من أحسن الأشجار، وأبهج الرياحين
وأطيبها، وفيها عيون جارية، وحطبها من العود القماري والعود القاقلي، وبوصها قصب
السكر، وحولها الورد والنرجس والعبهر والقرنفل والأقحوان والسوس والبنفسج، وكل ذلك
فيها أشكال وألوان، وأطيارها تناغي على تلك الأشجار، وهي مليحة الصفات، واسعة
الجهات، كثيرة الخيرات، قد حوت جميع الحسن والمعاني، وتغريد أطيارها ألطف من رنات
المثاني، وأشجارها باسقة، وأطيارها ناطقة، وأنهارها دافقة، وعيونها جارية، ومياهها
حالية، وفيها الغزلان تمرح، والجآذر تسنح، والأطيار تناغي على تلك الأغصان، وتسلي
العاشق الولهان، فتعجَّبَ بلوقيا من هذه الجزيرة، وعلم أنه قد تاه عن الطريق التي
قد أتى منها أول مرة حين كان معه عفان، فساح في تلك الجزيرة وتفرج فيها إلى وقت
المساء.
فلما
أمسى عليه الليل طلع على شجرة عالية لينام فوقها، وصار يتفكَّر في حُسْن تلك
الجزيرة، فبينما هو فوق الشجرة على تلك الحالة، وإذ بالبحر قد اختبط، وطلع منه
حيوان عظيم، وصاح صياحًا عظيمًا حتى انزعجت حيوانات تلك الجزيرة من صياحه، فنظر
إليه بلوقيا وهو جالس على الشجرة، فرآه حيوانًا عظيمًا، فصار يتعجَّب منه، فلم
يشعر بعد ساعة إلا وطلع خلفه من البحر وحوش مختلفة الألوان، وفي يد كل وحش منها
جوهرة تضيء مثل السراج، حتى صارت الجزيرة مثل النهار من ضياء الجواهر، وبعد ساعة
أقبلت من الجزيرة وحوش لا يعلم عددها إلا الله تعالى، فنظر إليها بلوقيا فرآها
وحوش الفلاة من سباع ونمور وفهود، وغير ذلك من حيوانات البر، ولم تزل وحوش البر
مقبلة حتى اجتمعت مع وحوش البحر في جانب الجزيرة، وصاروا يتحدثون إلى الصباح. فلما
أصبح الصباح افترقوا من بعضهم، ومضى كلُّ واحد منهم إلى حال سبيله، فلما رآهم
بلوقيا خاف ونزل من فوق الشجرة، وسار إلى شاطئ البحر، ودهن قدمَيْه من الماء الذي
معه، ونزل البحر الثاني، وسار على وجه الماء ليالي وأيامًا حتى وصل إلى جبل عظيم،
وتحت ذلك الجبل وادٍ ما له آخر، وذلك الوادي حجارته من المغناطيس، ووحوشه سباع
وأرانب ونمور، فطلع بلوقيا إلى ذلك الجبل وساح فيه من مكان إلى مكان حتى أمسى عليه
المساء، فجلس تحت قنة من قنن ذلك الجبل بجانب البحر، وسار يأكل من السمك الناشف
الذي يقذفه البحر.
فبينما
هو جالس يأكل من ذلك السمك، وإذا بنمر عظيم أقبل على بلوقيا، وأراد أن يفترسه،
فالتفت بلوقيا إلى ذلك النمر فرآه هاجمًا عليه ليفترسه، فدهن قدميه من الماء الذي
معه، ونزل البحر الثالث هربًا من ذلك النمر، وسار على وجه الماء في الظلام، وكانت
ليلة سوداء ذات ريح عظيم، وما زال سائرًا حتى أقبل على جزيرة، فطلع عليها، فرأى
فيها أشجارًا رطبة ويابسة، فأخذ بلوقيا من ثمر تلك الأشجار، وأكل وحمد الله تعالى،
ودار فيها يتفرج إلى وقت المساء. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 491﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن بلوقيا دار يتفرَّج في تلك الجزيرة، ولم يزل دائرًا
يتفرج فيها إلى وقت المساء، فنام في تلك الجزيرة، ولما أصبح الصباح صار يتأمل في
جهاتها، ولم يزل يتفرج فيها مدة عشرة أيام، وبعد ذلك توجَّهَ إلى شاطئ البحر، ودهن
قدمَيْه، ونزل في البحر الرابع، ومشى على وجه الماء ليلًا ونهارًا حتى وصل إلى
جزيرة، فرأى أرضها من الرمل الناعم الأبيض، وليس فيها شيء من الشجر، ولا من الزرع،
فتمشى فيها ساعة، فوجد وحشها الصقور وهي معششة في ذلك الرمل، فلما رأى ذلك دهن
قدمَيْه ونزل في البحر الخامس، وسار فوق الماء، وما زال سائرًا ليلًا ونهارًا حتى
أقبل على جزيرة صغيرة أرضها وجبالها مثل البلور، وفيها العروق التي يُصنَع منها
الذهب، وفيها أشجار غريبة ما رأى مثلها في سياحته، وأزهارها كلَوْنِ الذهب، فطلع
بلوقيا إلى تلك الجزيرة، وصار يتفرج فيها إلى وقت المساء، فلما جنَّ عليه الظلام
صارت الأزهار تضيء في تلك الجزيرة كالنجوم، فتعجَّبَ بلوقيا من هذه الجزيرة، وقال:
إن الأزهار التي في هذه الجزيرة هي التي تيبس من الشمس، وتسقط على الأرض فتضربها
الرياح، فتجتمع تلك الحجارة، وتصير إكسيرًا، فيأخذونها ويصنعون منها الذهب.
ثم
إن بلوقيا نام في تلك الجزيرة إلى وقت الصباح، وعند طلوع الشمس دهن قدمَيْه من
الماء الذي معه، ونزل البحر السادس، وسار ليالي وأيامًا حتى أقبل على جزيرة، فطلع
عليها وتمشَّى فيها ساعة، فرأى فيها جبلين، وعليهما أشجار كثيرة، وثمار تلك
الأشجار كرءوس الآدميين، وهي معلَّقة من شعورها، ورأى فيها أشجارًا أخرى أثمارها
طيور خضر، مُعلَّقة من أرجلها، وفيها أشجار تتوقَّد مثل النار، ولها فواكه مثل
الصبار، وكلُّ مَن سقطت عليه نقطة من تلك الفواكه احترق بها؛ ورأى بها فواكه تبكي،
وفواكه تضحك، ورأى بلوقيا في تلك الجزيرة عجائب كثيرة. ثم إنه تمشى إلى شاطئ البحر،
فرأى شجرة عظيمة، فجلس تحتها إلى وقت العشاء، فلما أظلم الظلام طلع فوق تلك
الشجرة، وصار يتفكَّر في مصنوعات الله، فبينما هو كذلك وإذا بالبحر قد اختبط، وطلع
منه بنات البحر، وفي يد كل واحدة منهن جوهرة تضيء مثل المصباح، وسرن حتى أتين تحت
تلك الشجرة، وجلسن ولعبن، ورقصن وطربن، فصار بلوقيا يتفرج عليهن، وهن في هذه
الحالة، ولم يزلن في لعب إلى الصباح، فلما أصبح نزلن البحر، فتعجب منهن بلوقيا،
ونزل من فوق الشجرة، ودهن قدمَيْه من الماء الذي معه، ونزل البحر السابع وسار، ولم
يزل سائرًا مدة شهرين وهو لا ينظر جبلًا ولا جزيرة، ولا برًّا ولا واديًا ولا
ساحلًا، حتى قطع ذلك البحر، وقاسى فيه جوعًا عظيمًا، حتى صار يخطف السمك من البحر،
ويأكله نيئًا من شدة جوعه.
ولم
يزل سائرًا على هذه الحالة حتى انتهى إلى جزيرة أشجارها كثيرة، وأنهارها غزيرة،
فطلع إلى تلك الجزيرة وصار يمشي فيها، ويتفرج يمينًا وشمالًا، وكان ذلك في وقت
الضحى، وما زال يتمشى حتى أقبل على شجرة تفاح، فمد يده ليأكل من تلك الشجرة، وإذا
بشخصٍ صاح عليه من تلك الشجرة، وقال له: إنْ تقرَّبت إلى هذه الشجرة، وأكلتَ منها
شيئًا، قسمَتْك نصفين. فنظر بلوقيا إلى ذلك الشخص فرآه طويلًا، طوله أربعون ذراعًا
بذراع أهل ذلك الزمان، فلما رآه بلوقيا خاف منه خوفًا شديدًا، وامتنع عن تلك
الشجرة، ثم قال له بلوقيا: لأي شيء تمنعني من الأكل من هذه الشجرة؟ فقال له: لأنك
ابن آدم، وأبوك آدم نسي عهد الله، فعصاه وأكل من الشجرة. فقال له بلوقيا: أي شيء
أنت؟ ولمَن هذه الجزيرة وهذه والأشجار؟ وما اسمك؟ فقال له الشخص: أنا اسمي شراهيا،
وهذه الأشجار والجزيرة للملك صخر، وأنا من أعوانه، وقد وكَّلَني على هذه الجزيرة.
ثم إن شراهيا سأل بلوقيا وقال له: مَن أنت؟ ومن أين أتيتَ إلى هذه البلاد؟ فحكى له
بلوقيا حكايته من الأول إلى الآخِر، فقال له شراهيا: لا تَخَفْ. ثم جاء له بشيء من
الأكل، فأكل بلوقيا حتى اكتفى، ثم ودَّعَه وسار، ولم يزل سائرًا مدة عشرة أيام،
فبينما هو سائر في جبال ورمال إذ نظر غبرة عاقدة في الجو، فقصد بلوقيا صوب تلك
الغبرة، فسمع صياحًا وضربًا وهرجًا عظيمًا، فمشى بلوقيا نحو تلك الغبرة حتى وصل
إلى وادٍ عظيم طوله مسيرة شهرين، ثم تأمَّلَ بلوقيا في جهة ذلك الصياح، فرأى ناسًا
راكبين على خيل وهم يقتتلون مع بعضهم، وقد جرى الدم بينهم حتى صار مثل النهر، ولهم
أصوات مثل الرعد، وفي أيديهم رماح وسيوف وأعمدة من الحديد، وقسي ونبال، وهم في
قتال عظيم، فأخذه خوف شديد. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 492﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن بلوقيا لما رأى هؤلاء الناس بأيديهم السلاح وهم في
قتال عظيم، أخذه خوف شديد، وتحيَّرَ في أمره، فبينما هو كذلك وإذا هم رأوه، فلما رأوه
امتنعوا عن بعضهم، وتركوا الحرب، ثم أتت إليه طائفة منهم، فلما قربوا منه تعجَّبوا
من خلقته، ثم تقدَّمَ إليه فارس منهم، وقال له: أي شيء أنت؟ ومن أين أتيتَ؟ وإلى
أين رائح؟ ومَن دلَّكَ على هذه الطريق حتى وصلت إلى بلادنا؟ فقال له: أنا من بني
آدم، وجئتُ هائمًا في حبِّ محمد ﷺ، ولكني تهتُ عن الطريق. فقال له الفارس:
نحن ما رأينا ابن آدم قطُّ، ولا أتى إلى هذه الأرض. وصاروا يتعجبون منه، ومن
كلامه، ثم إن بلوقيا سألهم وقال لهم: أي شيء أنتم أيها الخليقة؟ فقال له الفارس:
نحن من الجان. فقال له بلوقيا: يا أيها الفارس، ما سبب القتال الذي بينكم؟ وأين
مسكنكم؟ وما اسم هذا الوادي وهذه الأراضي؟ فقال له الفارس: نحن مسكننا الأرض
البيضاء، وفي كل عام يأمرنا الله تعالى أن نأتي إلى هذه الأرض، ونغازي الجان
الكافرين. فقال له بلوقيا: وأين الأرض البيضاء؟ فقال له الفارس: خلف جبل قاف بمسيرة
خمسة وسبعين سنة، وهذه الأرض يقال لها أرض شداد بن عاد، ونحن أتينا إليها لنغازي
فيها، وما لنا شغل سوى التسبيح والتقديس، ولنا مَلِك يقال له الملك صخر، وما يمكن
إلا أن تروح معنا إليه حتى ينظرك ويتفرَّج عليك.
ثم
إنهم ساروا وبلوقيا معهم حتى أتوا منزلهم، فنظر بلوقيا خيامًا عظيمة من الحرير
الأخضر لا يعلم عددها إلا الله تعالى، ورأى بينها خيمة منصوبة من الحرير الأحمر،
واتساعها مقدار ألف ذراع، وأطنابها من الحرير الأزرق، وأوتادها من الذهب والفضة،
فتعجَّبَ بلوقيا من تلك الخيمة، ثم إنهم ساروا به حتى أقبلوا على الخيمة، فإذا هي
خيمة الملك صخر، ثم دخلوا به حتى أتوا قدام الملك صخر، فنظر بلوقيا إلى الملك فرآه
جالسًا على تخت عظيم من الذهب الأحمر، مرصَّع بالدر والجوهر، وعلى يمينه ملوك
الجان، وعلى يساره الحكماء والأمراء وأرباب الدولة وغيرهم، فلما رآه الملك صخر أمر
أن يدخلوا به عنده، فدخلوا به عند الملك، فتقدَّمَ بلوقيا وسلَّمَ عليه وقبَّلَ
الأرض بين يديه، فردَّ عليه الملك صخر السلام، ثم قال له: ادنُ مني أيها الرجل.
فدنا
منه بلوقيا حتى صار بين يديه، فعند ذلك أمر الملك صخر أن ينصبوا له كرسيًّا
بجانبه، فنصبوا له كرسيًّا بجانب الملك، ثم أمره الملك صخر أن يجلس على ذلك
الكرسي، فجلس بلوقيا عليه. ثم إن الملك صخر سأل بلوقيا وقال له: أي شيء أنت؟ فقال
له: أنا من بني آدم من بني إسرائيل. فقال له الملك صخر: احكِ لي حكايتك، وأخبرني
بما جرى لك، وكيف أتيتَ إلى هذه الأرض؟ فحكى له بلوقيا جميع ما جرى له في سياحته
من الأول إلى الآخِر، فتعجَّبَ الملك صخر من كلامه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ
عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 493﴾
قالت: بلغني أيها الملك السعيد،
أن بلوقيا لما أخبر الملك صخر بجميع ما جرى له في سياحته من الأول إلى الآخِر،
تعجَّبَ من ذلك، ثم أمر الفراشين أن يأتوا بسماط، فأتوا بسماط ومدوه، ثم إنهم أتوا
بصوانٍ من الذهب الأحمر، وصوانٍ من الفضة، وصوانٍ من النحاس، وبعض الصواني فيها
خمسون مسلاقة، وبعضها فيها عشرون جملًا، وبعضها فيها خمسون رأسًا من الغنم، وعدد
الصواني ألف وخمسمائة صينية؛ فلما رأى بلوقيا ذلك تعجَّبَ غاية العجب، ثم إنهم
أكلوا، وأكل بلوقيا معهم حتى اكتفى، وحمد الله تعالى، وبعد ذلك رفعوا الطعام،
وأتوا بفواكه فأكلوا، ثم بعد ذلك سبَّحوا الله تعالى، وصلُّوا على نبيه
محمد ﷺ، فلما سمع بلوقيا ذِكْرَ محمد تعجَّبَ، وقال للملك صخر: أريد أن أسألك
بعض مسائل. فقال له الملك صخر: سَلْ ما تريد. فقال له بلوقيا: يا ملك، أي شيء
أنتم؟ ومن أين أصلكم؟ ومن أين تعرفون محمدًا ﷺ حتى تصلون عليه وتحبوه؟
فقال له الملك صخر: يا بلوقيا، إن الله تعالى خلق النار سبع طبقات بعضها فوق بعض،
وبين كل طبقة وطبقة مسيرة ألف عام، وجعل اسم الطبقة الأولى جهنم، وأعَدَّها لعصاة
المؤمنين الذين يموتون من غير توبة، واسم الطبقة الثانية لظًى، وأعَدَّها للكفار،
واسم الطبقة الثالثة الجحيم، وأعَدَّها ليأجوج ومأجوج، واسم الرابعة السعير،
وأعَدَّها لقوم إبليس، واسم الخامسة سقر، وأعَدَّها لتارك الصلاة، واسم السادسة
الحطمة، وأعَدَّها لليهود والنصارى، واسم السابعة الهاوية، وأعَدَّها للمنافقين؛
فهذه السبع طبقات. فقال له بلوقيا: لعل جهنم أهون عذابًا من الجميع؛ لأنها هي
الطبقة الفوقانية. قال الملك صخر: نعم، هي أهون الجميع عذابًا، ومع ذلك فيها ألف
جبل من النار، وفي كل جبل سبعون ألف وادٍ من النار، وفي كل وادٍ سبعون ألف مدينة
من النار، وفي كل مدينة سبعون ألف قلعة من النار، وفي كل قلعة سبعون ألف بيت من
النار، وفي كل بيت سبعون ألف تخت من النار، وفي كل تخت سبعون ألف نوع من العذاب،
وما في جميع طبقات النار يا بلوقيا أهون عذابًا من عذابها؛ لأنها هي الطبقة
الأولى، وأما الباقي فلا يعلم عددها فيه من أنواع العذاب إلا الله تعالى.
فلما
سمع بلوقيا هذا الكلام من الملك صخر وقع مغشيًّا عليه، فلما أفاق من غشيته بكى
وقال: يا ملك، كيف يكون حالنا؟ فقال له الملك صخر: يا بلوقيا، لا تَخَفْ، واعلم أن
كلَّ مَن كان يحب محمدًا لم تحرقه النار، وهو معتوق لأجل محمد ﷺ، وكل مَن كان
على مِلَّته تهرب منه النار، وأما نحن فخلقنا الله تعالى من النار، وأول ما خلق
الله المخلوقات في جهنم خلق شخصين من جنوده؛ أحدهما اسمه خليت، والآخَر اسمه مليت،
وجعل خليت على صورة أسد، ومليت على صورة ذئب، وكان ذنب مليت على صورة الأنثى،
ولونها أبلق، وذنب خليت على صورة ذكر وهو في هيئة حية، وذنب مليت في هيئة سلحفاة،
وطول ذنب خليت مسيرة عشرين سنة، ثم أمر الله تعالى ذنبَيْهما أن يجتمعا مع بعضهما،
ويتناكَحَا، فتوالَدَ منهما حيات وعقارب ومسكنها في النار ليعذِّب الله بها مَن
يدخلها، ثم إن تلك الحيات والعقارب تناسلوا وتكاثروا، ثم بعد ذلك أمر الله تعالى
ذنبَيْ خليت ومليت أن يجتمعَا ويتناكَحَا ثاني مرة، فاجتمعَا وتناكَحَا، فحمل ذنب
مليت من ذنب خليت، فلما وضعت ولدت سبعة ذكور، وسبع إناث، فتربوا حتى كبروا، فلما
كبروا تزوَّجَ الإناث بالذكور، وأطاعوا والدهم إلا واحدًا منهم عصى والده، فصار
دودةً، وتلك الدودة هي إبليس لعنه الله تعالى، وكان من المقربين، فإنه عبَدَ اللهَ
تعالى حتى ارتفع إلى السماء، وتقرَّبَ من الرحمن، وصار رئيس المقرَّبين. وأدرك شهرزاد
الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 494﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن إبليس كان عبد الله تعالى، وصار رئيس المقربين، ولما
خلق الله تعالى آدم عليه السلام أمر إبليس بالسجود له، فامتنع من ذلك، فطرده الله
تعالى ولعنه، فلما تناسَلَ جاءت منه الشياطين، وأما الستة ذكور الذين قبلهم فهم
الجان المؤمنون، ونحن من نسلهم، وهذا أصلنا يا بلوقيا. فتعجَّبَ بلوقيا من كلام
الملك صخر، ثم إنه قال: يا ملك، أريد منك أن تأمر واحدًا من أعوانك ليوصلني إلى
بلادي. فقال له الملك صخر: ما نقدر أن نفعل شيئًا من ذلك إلا إنْ أمرنا الله
تعالى، ولكن يا بلوقيا إنْ شئتَ الذهاب من عندنا، فإني أُحضِر لك فرسًا من خيلي،
وأركبك على ظهرها، وآمرها أن تسير بك إلى آخِر حكمي، فإذا وصلتَ إلى آخِر حكمي
يلاقيك جماعة ملك اسمه براخيا، فينظرون الفرس فيعرفونها، ويُنزِلونك من فوقها،
ويرسلونها إلينا، وهذا الذي نقدر عليه لا غير.
فلما
سمع بلوقيا هذا الكلام بكى وقال للملك: افعل ما تريد. فأمر الملك أن يأتوا له
بالفرس، فأتوا له بالفرس وأركبوه على ظهرها، وقالوا له: احذر أن تنزل من فوق
ظهرها، أو تضربها في وجهها، فإن فعلتَ ذلك أهلكَتْك، بل استمِرَّ راكبًا عليها مع
السكون حتى تقف بك، فانزل عن ظهرها ورُحْ إلى حال سبيلك. فقال لهم بلوقيا: سمعًا
وطاعة. ثم ركب الفرس، وسار في الخيام مدة طويلة، ولم يمر في سيره إلا على مطبخ
الملك صخر، فنظر بلوقيا إلى قدور معلَّقة، في كل قدر خمسون جملًا، والنار تلتهب من
تحتها، فلما رأى بلوقيا تلك القدور وكبرها، تأمَّلَها وتعجَّبَ منها، وأكثر التعجب
والتأمل فيها، فنظر إليه الملك فرآه متعجبًا من المطبخ، فظنَّ الملك في نفسه أنه
جائع، فأمر أن يجيئوا له بجملين مشويين، فجاءوا له بجملين مشويين وربطوهما خلفه
على ظهر الفرس، ثم إنه ودَّعهم وسار حتى وصل إلى آخِر حكم الملك صخر، فوقف الفرس،
فنزل عنها بلوقيا ينفض تراب السفر من ثيابه، وإذا برجال أتوا إليه، ونظروا الفرس
فعرفوها، فأخذوها وساروا وبلوقيا معهم حتى وصلوا إلى الملك براخيا، فلما دخل
بلوقيا على الملك براخيا سلَّمَ عليه، فردَّ عليه السلام، ثم إن بلوقيا نظر إلى
الملك فرآه جالسًا في صيوان عظيم، وحوله عساكر وأبطال، وملوك الجان على يمينه
وشماله، ثم إن الملك أمر بلوقيا أن يدنو منه، فتقدَّمَ بلوقيا إليه، فأجلسه الملك
بجانبه، وأمر أن يأتوا بالسماط، فنظر بلوقيا إلى حال الملك براخيا، فرآه مثل حال
الملك صخر، ولما حضرت الأطعمة أكلوا وأكل براقيا حتى اكتفى وحمد الله تعالى. ثم
إنهم رفعوا الأطعمة وأتوا بالفاكهة فأكلوا، ثم إن الملك براخيا سأل بلوقيا وقال
له: متى فارقْتَ الملك صخر؟ فقال له: من مدة يومين. فقال الملك براخيا لبلوقيا:
أتدري مسافة كم يوم سافرْتَ في هذين اليومين؟ قال: لا. قال: مسيرة سبعين شهرًا.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 495﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن الملك براخيا قال لبلوقيا: إنك سافرت في هذين اليومين
مسيرة سبعين شهرًا، ولكنك لما ركبت الفرس فزعت منك، وعلمت أنك ابن آدم، وأرادت أن
ترميك عن ظهرها، فأثقلوها بهذين الجملين. فلما سمع بلوقيا هذا الكلام من الملك
براخيا تعجَّبَ، وحمد الله تعالى على السلامة، ثم إن الملك براخيا قال لبلوقيا:
أخبرني بما جرى لك، وكيف أتيتَ إلى هذه البلاد؟ فحكى له بلوقيا جميع ما جرى له،
وكيف ساح وأتى إلى هذه البلاد، فلما سمع الملك كلامه تعجَّبَ منه، ومكث بلوقيا
عنده مدة شهرين.
فلما
سمع حاسب كلام ملكة الحيات تعجَّبَ غاية العجب، ثم قال لها: أريد من فضلِك
وإحسانِك أن تأمري أحدًا من أعوانك أن يُخرِجني إلى وجه الأرض حتى أروح إلى أهلي.
فقالت له ملكة الحيات: يا حاسب كريم الدين، اعلم أنك متى خرجت إلى وجه الأرض تروح
إلى أهلك، ثم تدخل الحمام وتغتسل، وبمجرد ما تفرغ من غُسْلك أموت أنا؛ لأن ذلك
يكون سببًا لموتي. فقال حاسب: أنا أحلف لك ما أدخل الحمام طول عمري، وإذا وجب
عليَّ الغُسْل أغتسل في بيتي. فقالت له ملكة الحيات: لو حلفتَ لي مائة يمين ما
أصدقك أبدًا، فإن هذا لا يكون، واعلم أنك ابن آدم ما لك عهد؛ لإن أباك آدم قد
عاهَدَ الله ونقض عهده، وكان الله تعالى خمر طينته أربعين صباحًا، وأسجد له
ملائكته، وبعد ذلك نكث العهد ونسيه وخالَفَ أمر ربه.
فلما
سمع حاسب ذلك الكلام سكت وبكى، ومكث يبكي مدة عشرة أيام، ثم قال لها حاسب: أخبريني
بالذي جرى لبلوقيا بعد قعوده شهرين عند الملك براخيا. فقالت له: اعلم يا حاسب أن
بلوقيا بعد قعوده عند الملك براخيا ودَّعَه، وسار في البراري ليلًا ونهارًا حتى
وصل إلى جبلٍ عالٍ، فطلع ذلك الجبل فرأى فوقه ملكًا عظيمًا جالسًا على ذلك الجبل،
وهو يذكر الله تعالى ويصلي على محمد، وبين يدي ذلك الملك لوح مكتوب فيه شيء أبيض،
وشيء أسود، وهو ينظر في اللوح، وله جناحان؛ أحدهما ممدود بالمشرق، والآخَر ممدود
بالمغرب، فأقبَلَ عليه بلوقيا وسلَّمَ عليه، فرَدَّ عليه السلام. ثم إن الملك سأل
بلوقيا وقال له: مَن أنت؟ ومن أين أتيتَ؟ وإلى أين رائح؟ وما اسمك؟ فقال بلوقيا:
أنا من بني آدم من قوم بني إسرائيل، وأنا سائح في حب محمد ﷺ، واسمي بلوقيا.
فقال: ما الذي جرى لك في مجيئك إلى هذه الأرض؟ فحكى له بلوقيا جميع ما جرى له، وما
رأى في سياحته؛ فلما سمع الملك من بلوقيا ذلك الكلام تعجَّبَ منه، ثم إن بلوقيا
سأل الملك وقال: أخبرني أنت الآخَر بهذا اللوح، وأي شيء مكتوب فيه، وما هذا الأمر
الذي أنت فيه، وما اسمك؟ فقال له الملك: أنا اسمي ميخائيل، وأنا موكَّل بتصريف
الليل والنهار، وهذا شغلي إلى يوم القيامة. فلما سمع بلوقيا ذلك الكلام تعجَّبَ
منه، ومن صورة ذلك الملك، ومن هيبته، وعِظَم خِلْقته.
ثم
إن بلوقيا ودَّعَ ذلك الملك، وسار ليلًا ونهارًا حتى وصل إلى مرج عظيم، فتمشَّى في
ذلك المرج، فرأى فيه سبعة أنهر، ورأى أشجارًا كثيرة؛ فتعجب بلوقيا من ذلك المرج
العظيم، وسار في جوانبه، فرأى فيه شجرة عظيمة، وتحت تلك الشجرة أربعة ملائكة،
فتقدَّمَ إليهم بلوقيا ونظر إلى خِلْقتهم، فرأى واحدًا منهم صورته صورة بني آدم،
والثاني صورته صورة وحش، والثالث صورته صورة طير، والرابع صورته صورة ثور، وهم
مشغولون بذِكْر الله تعالى، ويقول كلٌّ منهم: إلهي وسيدي ومولاي، بحقِّك وبجاه
نبيك محمد ﷺ أن تغفر لكل مخلوق خلقته على صورتي وتسامحه؛ إنك على كل شيء
قدير. فلما سمع بلوقيا منهم ذلك الكلام تعجَّبَ، وسار من عندهم ليلًا ونهارًا حتى
وصل إلى جبل قاف، فطلع فوقه فرأى هناك ملكًا عظيمًا، وهو جالس يسبِّح الله تعالى
ويقدِّسه، ويصلِّي على محمد ﷺ، ورأى ذلك الملك في قبض وبسط، وطي ونشر، فبينما
هو في هذا الأمر إذ أقبل بلوقيا وسلَّمَ عليه، فردَّ الملك عليه السلام، وقال له:
أي شيء أنت؟ ومَن أين أتيت؟ وإلى أين رائح؟ وما اسمك؟ فقال بلوقيا: أنا من بني
إسرائيل، من بني آدم، واسمي بلوقيا، وأنا سائح في حب محمد ﷺ، ولكن تهت في
طريقي. وحكى له جميع ما جرى له، فلما فرغ بلوقيا من حكايته، سأل الملك وقال له:
مَن أنت؟ وما هذا الجبل؟ وما هذا الشغل الذي أنت فيه؟ فقال له الملك: اعلم يا
بلوقيا أن هذا جبل قاف المحيط بالدنيا، وكل أرض خلقها الله في الدنيا قبضتها في
يدي، فإذا أراد الله تعالى بتلك الأرض شيئًا من زلزلة، أو قحط، أو خصب، أو قتال،
أو صلح، أمرني أن أفعله، فأفعل وأنا في مكاني، واعلم أن يدي قابضة بعروق الأرض.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 496﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك قال لبلوقيا: واعلم أن يدي قابضة بعروق الأرض.
فقال بلوقيا للملك: هل خلق الله في جبل قاف أرضًا غير هذه الأرض التي أنت فيها؟
قال الملك: نعم، خلق أرضًا بيضاء مثل الفضة، وما يعلم قدر اتساعها إلا الله تعالى،
وأسكَنَها ملائكة أكلُهم وشربُهم التسبيحُ والتقديس والإكثار من الصلاة على
محمد ﷺ، وفي كل ليلة جمعة يأتون إلى هذا الجبل، ويجتمعون ويدعون الله تعالى
طول الليل إلى وقت الصباح، ويهدون ثوابَ ذلك التسبيح والتقديس والعبادات للمذنبين
من أمة محمد ﷺ، ولكل مَن اغتسل غُسْلَ الجمعة، وهذا حالهم إلى يوم القيامة.
ثم
إن بلوقيا سأل الملك وقال له: هل خلق الله جبالًا خلف جبل قاف؟ فقال الملك: نعم،
خلف جبل قاف جبل قدره مسيرة خمسمائة عام، وهو من الثلج والبرد، وهو الذي ردَّ حرَّ
جهنم عن الدنيا، ولولا ذلك الجبل لَاحترقت الدنيا من حر نار جهنم، وخلف جبل قاف
أربعون أرضًا، كل أرض منها قدر الدنيا أربعين مرة، منها ما هو من الذهب، ومنها ما
هو من الفضة، ومنها ما هو من الياقوت، ولكل أرض من تلك الأراضي لون، وأسكن الله في
تلك الأراضي ملائكة لا شغلَ لهم سوى التسبيح والتقديس، والتهليل والتكبير، ويدعون
الله تعالى لأمة محمد ﷺ، ولا يعرفون حواء ولا آدم، ولا ليلًا ولا نهارًا؛
واعلم يا لوقيا أن الأراضي سبع طباق، بعضها فوق بعض، وخلق الله ملكًا من الملائكة
لا يعلم أوصافه ولا قدره إلا الله عزَّ وجلَّ، وهو حامل السبع أراضي على كاهله،
وخلق الله تعالى تحت ذلك الملك صخرة، وخلق الله تعالى تحت تلك الصخرة نورًا، وخلق
الله تعالى تحت ذلك النور حوتًا، وخلق الله تحت ذلك الحوت بحرًا عظيمًا، وقد أعلم
الله تعالى عيسى عليه السلام بذلك الحوت، فقال له: يا رب، أَرِني ذلك الحوت حتى
أنظر إليه. فأمر الله تعالى مَلَكًا من الملائكة أن يأخذ عيسى ويروح به إلى الحوت
حتى ينظره، فأتى ذلك الملك إلى عيسى عليه السلام وأخذه، وأتى به البحر الذي فيه
الحوت، وقال له: انظر يا عيسى إلى الحوت. فنظر عيسى إلى الحوت فلم يَرَه، فمَرَّ
الحوت على عيسى مثل البرق، فلما رأى ذلك عيسى وقع مغشيًّا عليه، فلما أفاق أوحى
الله إلى عيسى وقال له: يا عيسى، هل رأيت الحوت؟ وهل علمت طوله وعرضه؟ فقال عيسى:
وعزتك وجلالك يا رب ما رأيته، ولكن مرَّ عليَّ نورٌ عظيم قدره مسافة ثلاثة أيام،
ولم أعرف ما شأن ذلك النور. فقال الله: يا عيسى، ذلك الذي مرَّ عليك وقدره مسافة
ثلاثة أيام إنما هو رأس النور، واعلم يا عيسى أنني في كل يوم أخلق أربعين حوتًا
مثل ذلك الحوت. فلما سمع ذلك الكلام تعجَّبَ من قدرة الله تعالى.
ثم
إن بلوقيا سأل الملك وقال له: أي شيء خلق الله تحت البحر الذي فيه الحوت؟ فقال له
الملك: خلق الله تحت البحر هواءً عظيمًا، وخلق الله تحت الهواء نارًا، وخلق الله
تحت النار حية عظيمة اسمها فلق، ولولا خوف تلك الحية من الله تعالى لَابتلعت جميع
ما فوقها من الهواء والنار والملك وما حمله، ولم تحس بذلك الملك. وأدرك شهرزاد
الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 497﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن الملك قال لبلوقيا في وصف الحية: ولولا خوفها من الله
تعالى لَابتلعت جميع ما فوقها من الهواء والنار، والملك وما حمله، ولم تحس بذلك،
ولما خلق الله تعالى تلك الحية أوحى إليها أني أريد منك أن أُودِع عندك أمانة
فاحفظيها. فقالت الحية: افعل ما تريد. فقال الله لتلك الحية: افتحي فاكِ. ففتحت
فاها، فأدخل الله جهنم في بطنها، وقال لها: احفظي جهنم إلى يوم القيامة. فإذا جاء
يوم القيامة، يأمر الله ملائكته أن يأتوا ومعهم سلاسل يقودون بها جهنم إلى المحشر،
ويأمر الله تعالى جهنم أن تفتح أبوابها، فتفتحها ويطير منها شرر كبار أكثر من
الجبال.
فلما
سمع بلوقيا ذلك الكلام من الملك بكى بكاءً شديدًا، ثم إنه ودَّعَ الملك، وسار إلى
ناحية الغرب حتى أقبل على شخصين فرآهما جالسين، وعندهما باب عظيم مقفول، فلما قرب
منهما رأى أحدهما صورته صورة أسد، والآخَر صورته صورة ثور، فسلَّمَ عليهما بلوقيا،
فردَّا عليه السلام، ثم إنهما سألاه وقالا له: أي شيء أنت؟ من أين أتيت؟ وإلى أين
رائح؟ فقال لهما بلوقيا: أنا من بني آدم، وأنا سائح في حب محمد ﷺ، ولكن تهت
عن طريقي. ثم إن بلوقيا سألهما، وقال لهما: أي شيء أنتما، وما هذا الباب الذي
عندكما؟ فقالا له: نحن حراس هذا الباب الذي تراه، وما لنا شغل سوى التسبيح
والتقديس والصلاة على محمد ﷺ. فلما سمع
بلوقيا هذا الكلام تعجَّبَ، وقال لهما: أي شيء داخل هذا الباب؟ فقالا: لا ندري.
فقال لهما: بحق ربكما الجليل أن تفتحَا لي هذا الباب حتى أنظر أي شيء داخله.
فقالَا له: ما نقدر أن نفتح هذا الباب، ولا يقدر على فتحه أحدٌ من المخلوقين، إلا
الأمين جبريل عليه السلام.
فلما
سمع بلوقيا ذلك تضرَّعَ إلى الله تعالى، وقال: يا رب، ائتني بالأمين جبريل ليفتح
لي هذا الباب حتى أنظر ما داخله. فاستجاب الله دعاءه، وأمر الأمين جبريل أن ينزل
إلى الأرض، ويفتح باب مجمع البحرين حتى ينظره بلوقيا، فنزل جبريل إلى بلوقيا
وسلَّمَ عليه، وأتى إلى ذلك الباب وفتحه. ثم إن جبريل قال لبلوقيا: ادخل إلى هذا
الباب، فإن الله أمرني أن أفتحه لك. فدخل بلوقيا وسار فيه، ثم إن جبريل قفل الباب
وارتفع إلى السماء، ورأى بلوقيا في داخل الباب بحرًا عظيمًا، نصفه مالح، ونصفه
حلو، وحول ذلك البحر جبلان، وهذان الجبلان من الياقوت الأحمر، وسار بلوقيا حتى
أقبل على هذين الجبلين، فرأى فيهما ملائكة مشغولين بالتسبيح والتقديس، فلما رآهم
بلوقيا سلَّمَ عليهم، فردُّوا عليه السلام، فسألهم بلوقيا عن البحر وعن هذين
الجبلين، فقال له الملائكة: إن هذا مكان تحت العرش، وإن هذا البحر يمد كلَّ بحر في
الدنيا، ونحن نقسم هذا الماء ونسوقه إلى الأراضي؛ المالح للأرض المالحة، والحلو
للأرض الحلوة، وهذان الجبلان خلقهما ليحفظَا هذا الماء، وهذا أمرنا إلى يوم
القيامة.
ثم
إنهم سألوه وقالوا له: من أين أقبلت، وإلى أين رائح؟ فحكى لهم بلوقيا حكايته من
الأول إلى الآخِر، ثم إن بلوقيا سألهم عن الطريق، فقالوا له: اطلع هنا على ظهر هذا
البحر. فأخذ بلوقيا من الماء الذي معه، ودهن قدمَيْه، وودَّعهم وسار على ظهر البحر
ليلًا ونهارًا، فبينما هو سائر وإذا هو ينظر شابًّا مليحًا سائرًا على ظهر البحر،
فأتى إليه وسلَّم عليه، فردَّ عليه السلام، ثم إن بلوقيا لما فارَقَ الشاب رأى
أربعة ملائكة سائرين على وجه البحر، وسيرهم مثل البرق الخاطف، فتقدَّمَ بلوقيا
ووقف في طريقهم، فلما وصلوا إليه سلَّمَ عليهم بلوقيا، وقال لهم: أريد أن أسألكم
بحق العزيز الجليل، ما اسمكم؟ ومن أين أنتم؟ وإلى أين تذهبون؟ فقال واحد منهم: أنا
اسمي جبريل، والثاني اسمه إسرافيل، والثالث اسمه ميكائيل، والرابع اسمه عزرائيل،
وقد ظهر في المشرق ثعبان عظيم، وذلك الثعبان خرَّبَ ألف مدينة، وأكل أهلها، وقد
أمرنا الله تعالى أن نروح إليه ونمسكه ونرميه في جهنم. فتعجَّبَ منهم بلوقيا، ومن
عِظَمهم، وسار على عادته ليلًا ونهارًا حتى وصل إلى جزيرةٍ، فطلع عليها وتمشَّى
فيها ساعة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 498﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن بلوقيا طلع إلى الجزيرة، وتمشى فيها ساعة، فرأى
شابًّا مليحًا، والنور يلوح من وجهه، فلما قرب منه بلوقيا رآه جالسًا بين قبرين
مبنيَّيْن، وهو ينوح ويبكي، فأتى إليه بلوقيا وسلَّم عليه، فردَّ عليه السلام، ثم
إن بلوقيا سأل الشاب، وقال له: ما شأنك؟ وما اسمك؟ وما هذان القبران المبنيان
اللذان أنت جالس بينهما؟ وما هذا البكاء الذي أنت فيه؟ فالتفت الشاب إلى بلوقيا،
وبكى بكاءً شديدًا حتى بلَّ ثيابَه من دموعه، وقال لبلوقيا: اعلم يا أخي أن حكايتي
عجيبة، وقصتي غريبة، وأحب أن تجلس عندي حتى تحكي لي ما رأيتَ في عمرك، وما سبب
مجيئك إلى هذا المكان، وما اسمك، وإلى أين رائح، وأحكي لك أنا الآخَر حكايتي. فجلس
بلوقيا عند الشاب وأخبره بجميع ما وقع له في سياحته من الأول إلى الآخِر، وأخبره
كيف مات والده وخلفه، وكيف فتح الخلوة ورأى فيها الصندوق، وكيف رأى الكتاب الذي
فيه صفة محمد ﷺ، وكيف تعلَّقَ قلبه به، وطلع سائحًا في حبه، وأخبره بجميع ما
وقع له إلى أن وصل إليه، ثم قال له: وهذه حكايتي بتمامها، والله أعلم، وما أدري
بالذي يجري عليَّ بعد ذلك. فلما سمع الشاب كلامَه تنهَّدَ، وقال له: يا مسكين، أي
شيء رأيتَ في عمرك؟ اعلم يا بلوقيا أني رأيتُ السيد سليمان في زمانه، ورأيتُ شيئًا
لا يُعَدُّ ولا يُحصَى، وحكايتي عجيبة، وقصتي غريبة، وأريد منك أن تقعد عندي حتى
أحكي لك حكايتي، وأخبرك بسبب قعودي هنا.
فلما
سمع حاسب هذا الكلام من الحية تعجَّبَ، وقال: يا ملكة الحيات، بالله عليكِ أن
تعتقيني، وتأمري أحد خدمك أن يُخرِجني إلى وجه الأرض، وأحلف لك يمينًا أنني لا
أدخل الحمام طول عمري. فقالت: إن هذا الأمر لا يكون، ولا أصدقك في يمينك. فلما سمع
منها ذلك بكى، وبكت الحيات جميعًا لأجله، وصارت تستشفع له عند الملكة، وتقول لها:
نريد منك أن تأمري إحدانا أن تُخرِجه إلى وجه الأرض، ويحلف لك يمينًا أنه لن يدخل
الحمام طول عمره. وكانت ملكة الحيات اسمها يمليخا، فلما سمعت يمليخا منهن ذلك
الكلام أقبلت على حاسب وحلَّفته، فحلف لها، ثم أمرت حية أن تُخرِجه إلى وجه الأرض،
فأتته وأرادت أن تُخرِجه، فلما أتت تلك الحية لتُخرِجه قال لملكة الحيات: أريد منك
أن تحكي لي حكاية الشاب الذي قعد عنده بلوقيا، ورآه جالسًا بين القبرين. فقالت:
اعلم يا حاسب أن بلوقيا جلس عند الشاب، وحكى له حكايته من أولها إلى آخِرها لأجل
أن يحكي له الآخَر قصته، ويُخبِره بما جرى له في عمره، ويعرِّفه سببَ قعوده بين القبرين.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 499﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن بلوقيا لما حكى للشاب حكايته قال له الشاب: وأي شيء
رأيتَ من العجائب يا مسكين؟ أنا رأيت السيد سليمان في زمانه، ورأيت عجائب لا
تُعَدُّ ولا تُحصَى، واعلم يا أخي أن أبي كان ملكًا يقال له الملك طيغموس، وكان
يحكم على بلاد كابل، وعلى بني شهلان، وهم عشرة آلاف بهلوان، كل بهلوان منهم يحكم
على مائة مدينة، ومائة قلعة بأسوارها، وكان يحكم على سبعة سلاطين، ويُحمَل له
المال من المشرق إلى المغرب، وكان عادلًا في حكمه، وقد أعطاه الله تعالى كل هذا،
ومَنَّ عليه بذلك المُلْك العظيم، ولم يكن له ولد، وكان مراده في عمره أن يرزقه
الله ولدًا ذكرًا ليخلفه في ملكه بعد موته، فاتفق أنه طلب العلماء والمنجِّمِين،
وأرباب المعرفة والتقويم، يومًا من الأيام، وقال لهم: انظروا طالعي، وهل يرزقني الله
في عمري ولدًا ذكرًا فيخلفني في ملكي؟ ففتح المنجِّمون الكتب، وحسبوا طالعه وناظره
من الكواكب، ثم قالوا له: اعلم أيها الملك أنك تُرزَق ولدًا ذكرًا، ولا يكون ذلك
الولد إلا من بنت ملك خراسان. فلما سمع طيغموس ذلك منهم فرِحَ فرحًا شديدًا، وأعطى
المنجِّمِين والحكماء مالًا كثيرًا لا يُعَدُّ ولا يُحصَى، وذهبوا إلى حال سبيلهم،
وكان عند الملك طيغموس وزير كبير، وكان بهلوانًا عظيمًا، مقومًا بألف فارس، وكان
اسمه عين زار، فقال له: يا وزير، أريد منك أن تتجهَّزَ للسفر إلى بلاد خراسان،
وتخطب لي بنت الملك بهروان ملك خراسان، وحكى الملك طيغموس لوزيره عين زار ما أخبره
به المنجِّمون، فلما سمع الوزير ذلك الكلام من الملك طيغموس ذهب من وقته وساعته،
وتجهَّزَ للسفر؛ ثم برز إلى خارج المدينة بالعساكر والأبطال والجيوش.
هذا
ما كان من أمر الوزير، وأما ما كان من أمر الملك طيغموس، فإنه جهَّزَ ألفًا
وخمسمائة حمل من الحرير، والجواهر واللؤلؤ واليواقيت، والذهب والفضة والمعادن،
وجهَّزَ شيئًا كثيرًا من آلة العرس وحمَّلَها على الجِمال والبغال، وسلَّمَها إلى
وزيره عين زار، وكتب له كتابًا مضمونه: «أما بعد، فالسلام على الملك بهروان، واعلم
أننا قد جمعنا المنجِّمين والحكماء وأرباب التقاويم، فأخبرونا أننا نُرزَق ولدًا
ذكرًا، ولا يكون ذلك الولد إلا من بنتك، وها أنا قد جهَّزْتُ لك الوزير عين زار،
ومعه أشياء كثيرة من آلة العروس، وإني أقمت وزيري مقامي في هذه المسألة،
ووكَّلْتُه في قبول العقد، وأريد من فضلك أن تقضي للوزير حاجته، فإنها حاجتي، ولا
تُبدِي في ذلك إهمالًا ولا إمهالًا، وما فعلته من الجميل فهو مقبول منك، والحذر من
المخالفة في ذلك. واعلم يا ملك بهروان أن الله قد مَنَّ عليَّ بمملكة كابل،
وملَّكَني على بني شهلان، وأعطاني مُلْكًا عظيمًا، وإذا تزوَّجْتُ بنتك أكون أنا
وأنت في المُلْك شيئًا واحدًا، وأُرسِل إليك في كل سنة ما يكفيك من المال، وهذا
قصدي منك.«
ثم
إن الملك طيغموس ختم الكتاب، وناوله لوزيره عين زار، وأمره بالسفر إلى بلاد
خراسان، فسافر الوزير حتى وصل إلى قرب مدينة الملك بهروان، فأعلموه بقدوم وزير
الملك طيغموس، فلما سمع الملك بهروان بذلك الكلام جهَّزَ أمراء دولته للملاقاة،
وجهَّزَ معهم أكلًا وشربًا، وغير ذلك، وأعطاهم عليقًا لأجل الخيل، وأمرهم بالسير
إلى ملاقاة الوزير عين زار، فحمَّلوا الأحمال، وساروا حتى أقبلوا على الوزير،
وحطوا الأحمال، ونزلت الجيوش والعساكر، وسلَّمَ بعضهم على بعض، ومكثوا في ذلك
المكان مدة عشرة أيام وهم في أكل وشرب، ثم بعد ذلك ركبوا وتوجَّهوا إلى المدينة،
وطلع الملك بهروان إلى مقابلة وزير الملك طيغموس، وعانَقَه وسلَّمَ عليه، وأخذه
وتوجَّهَ به إلى القلعة. ثم إن الوزير قدَّمَ الأحمال والتحف وجميع الأموال للملك
بهروان، وأعطاه الكتاب، فأخذه الملك بهروان، وقرأه وعرف ما فيه، وفهم معناه، وفرح
فرحًا شديدًا، ورحَّبَ بالوزير وقال له: أبشِرْ بما تريد، ولو طلب الملك طيغموس
روحي لأعطيتُه إياها. وذهب الملك بهروان من وقته إلى بنته وأمها وأقاربه، وأعلَمَهم
بذلك الأمر واستشارهم فيه، فقالوا له: افعل ما شئتَ. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ
عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 500﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك استشار البنت وأمها وأقاربها، فقالوا له: افعل
ما تريد. ثم إن الملك بهروان رجع إلى الوزير عين زار، وأعلمه بقضاء حاجته، ومكث
الوزير عند الملك بهروان مدة شهرين، ثم بعد ذلك قال الوزير للملك: إننا نريد منك
أن تنعم علينا بما أتيناك فيه، ونروح إلى بلادنا. فقال الملك للوزير: سمعًا
وطاعةً. ثم أمر بإقامة العرس وتجهيز الجهاز، ففعلوا ما أمرهم به، وبعد ذلك أمر
بإحضار وزرائه، وجميع الأمراء من أكابر دولته، فحضروا جميعًا، ثم أمر بإحضار
الرهبان والقسيسين، فحضروا وعقدوا عقد البنت للملك طيغموس، وهيَّأَ الملك بهروان
آلة السفر، وأعطى بنته من الهدايا والتحف والمعادن ما يكلُّ عنه الوصف، وأمر بفرش
أزِقَّة المدينة، وزيَّنَها بأحسن زينة، وسافر الوزير عين زار ببنت الملك بهروان
إلى بلاده، فلما وصل الخبر إلى الملك طيغموس أمر بإقامة الفرح وزينة المدينة، ثم
إن الملك طيغموس دخل على بنت الملك بهروان، وأزال بكارتها، فما مضت عليها أيام
قلائل حتى علقت منه، ولما تمَّتْ أشهرها وضعت ولدًا ذكرًا مثل البدر في ليلة
تمامه، فلما علم الملك طيغموس أن زوجته وضعت ولدًا ذكرًا مليحًا، فرح فرحًا
شديدًا، وطلب الحكماء والمنجِّمين وأرباب التقاويم، وقال لهم: أريد منكم أن تنظروا
طالع هذا المولود، وناظره من الكواكب، وتخبروني بما يلقاه في عمره، فحسب الحكماء
والمنجمون طالعه وناظره، فرأوا الولد سعيدًا، ولكنه يحصل له في أول عمره تعب، وذلك
عند بلوغه خمس عشرة سنة، فإنْ عاش بعدها رأى خيرًا كثيرًا، وصار مَلِكًا عظيمًا
أعظم من أبيه، وعظم سعده، وهلك ضده، وعاش عيشًا هنيئًا، وإنْ مات فلا سبيل إلى ما
فات، والله أعلم.
فلما
سمع الملك ذلك الخبر فرح فرحًا شديدًا، وسماه جانشاه، وسلَّمه للمراضع والدايات
وأحسن تربيته، فلما بلغ من العمر خمس سنين علَّمَه أبوه القراءة، وصار يقرأ في
الإنجيل، وعلَّمَه الحرب والطعن والضرب في أقل من سبع سنين، وجعل يركب للصيد
والقنص، وصار بهلوانًا عظيمًا كاملًا في جميع آلات الفروسية، وصار أبوه كلما سمع
بفروسيته في جميع آلات الحرب فرح فرحًا شديدًا، فاتفق في يوم من الأيام أن الملك
طيغموس أمر عسكره أن يركبوا للصيد والقنص، فطلعت العسكر والجيوش وركب الملك طيغموس
هو وابنه جانشاه، وساروا إلى البراري والقفار، واشتغلوا بالصيد والقنص إلى عصر
اليوم الثالث، فسنحت لجانشاه غزالة عجيبة اللون، وشردت قدَّامه، فلما نظر جانشاه
إلى تلك الغزالة وهي شاردة قدامه تبعها، وأسرَعَ في الجري وراءها وهي هاربة،
فانتبذ سبعة مماليك من مماليك طيغموس، وذهبوا في إثر جانشاه، فلما نظروا إلى سيدهم
وهو مُسرِع وراء تلك الغزالة، راحوا مُسرِعين وراءه وهم على خيل سوابق، وما زالوا
سائرين حتى وصلوا إلى بحر، فتهاجم الجميع على الغزالة ليمسكوها قنصًا، ففَرَّتْ
منهم الغزالة، وألقت نفسها في البحر. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام
المباح.