﴿اللیلة 401﴾
قالت: بلغني أيها الملك السعيد،
أن مسرورًا قال: يا أمير المؤمنين، يكفيني الثلث وأَعْطِه الثلثين. فضحك عليهما
وأمَرَ لكلِّ واحدٍ منهما بألف دينار، وانصرفا مسرورَيْن بما أنعم عليهما الخليفة.
حكاية هارون الرشيد وابنه
يُحكَى
أن أمير المؤمنين هارون الرشيد كان له ولد قد بلغ من العمر ستة عشر عامًا، وكان
مُعرِضًا عن الدنيا، وسالكًا طريقة الزُّهاد والعُبَّاد، فكان يخرج إلى المقابر
ويقول: قد كنتم تملكون الدنيا فما ذلك بمنجيكم، وقد صرتم إلى قبوركم، فيا ليت شعري
ما قلتم وما قيل لكم؟ ويبكي بكاء الخائف الواجل، وينشد قول القائل:
تُرَوَّعُنِي
الْجَنَائِزُ كُلَّ وَقْتٍ وَيُحْزِنُنِي
بُكَاءَ النَّائِحَاتِ
فاتفق
أن أباه مرَّ عليه في بعض الأيام وهو في موكبه، وحوله وزراؤه وكبراء دولته وأهل
مملكته، فرأوا ولد أمير المؤمنين وعلى جسده جبَّة من صوف، وعلى رأسه مئزر من صوف،
فقال بعضهم لبعض: لقد فضح هذا الولدُ أميرَ المؤمنين بين الملوك، فلو عاتَبَه
لَرجع عمَّا هو فيه. فسمع أمير المؤمنين كلامهم فكلَّمه في ذلك وقال له: يا بني،
لقد فضحتني بما أنت عليه. فنظر إليه ولم يُجِبْه، ثم نظر إلى طائر على شرفة من
شرفات القصر، فقال له: أيها الطائر، بحق الذي خلقك أن تسقط على يدي. فانقضَّ
الطائر على يد الغلام، ثم قال له: ارجع إلى موضعك. فرجع إلى موضعه، ثم قال له:
اسقط على يد أمير المؤمنين. فأَبَى أن يسقط على يده، فقال الغلام لأبيه أمير
المؤمنين: أنت الذي فضحتني بين الأولياء بحبك الدنيا، وقد عزمتُ على مفارقتك
مفارَقةً لا أعود إليك بعدها إلا في الآخرة. ثم انحدر إلى البصرة فكان يعمل مع
الفَعَلة في الطين، وكان لا يعمل في كل يوم إلا بدرهم ودانق، فيتقوَّت بالدانق
ويتصدَّق بالدرهم.
قال
أبو عامر البصري: وكان قد وقع في داري حائط فخرجت إلى موقف الفَعَلة لأنظر رجلًا
يعمل لي فيه، فوقعت عيني على شاب مليح ذي وجه صبيح، فجئت إليه وسلَّمت عليه وقلت
له: يا حبيبي، أتريد الخدمة؟ فقال: نعم. فقلت: قُمْ معي إلى بناء حائط. فقال لي:
بشروطٍ أشترطها عليك. قلت: يا حبيبي، ما هي؟ قال: الأجرة درهم ودانق، وإذا أذَّنَ
المؤذن تتركني حتى أصلي مع الجماعة. قلت: نعم. ثم أخذته وذهبت به إلى المنزل فخدم
خدمة لم أرَ مثلها، وذكرت له الغداء فقال: لا. فعلمت أنه صائم، فلما سمع الأذان
قال لي: قد علمتَ الشرط. فقلت: نعم. فحلَّ حزامه وتفرَّغَ للوضوء، فتوضَّأ وضوءًا
لم أرَ أحسن منه، ثم خرج إلى الصلاة فصلى مع الجماعة، ثم رجع إلى خدمته، فلما
أذَّن العصر توضَّأ وذهب إلى الصلاة، ثم عاد إلى الخدمة، فقلت له: يا حبيبي، قد
انتهى وقت الخدمة، فإن خدمة الفَعَلة إلى العصر. فقال: سبحان الله، إنما خدمتي إلى
الليل. ولم يزل يخدم إلى الليل فأعطيته درهمين، فلما رآهما قال: ما هذا؟ قلت:
والله إن هذا بعض أجرتك لاجتهادك في خدمتي. فرمى بهما إليَّ وقال: لا أريد زيادة
على ما كان بيني وبينك. فرغَّبْتُه فلم أقدر عليه، فأعطيته درهمًا ودانقًا وسار.
فلما
أصبح الصباح بكَّرت إلى الموقف فلم أجده، فسألت عنه فقيل لي: إنه لا يأتي ها هنا
إلا في يوم السبت فقط. فلما كان يوم السبت الثاني ذهبت إلى ذلك المكان فوجدته،
فقلت له: باسم الله تفضَّل إلى الخدمة. فقال لي: على الشروط التي تعلمها. قلت:
نعم. فذهبت به إلى داري ووقفت أنظره وهو لا يراني، فأخذ كفًّا من الطين ووضعه على
الحائط، فإذا الحجارة يتركَّب بعضها على بعض، فقلت: هكذا أولياء الله. فخدم يومه
ذلك، وزاد فيه على ما تقدم، فلمَّا كان الليل دفعت له أجرته فأخذها وسار. فلما جاء
يوم السبت الثالث أتيت إلى الموقف فلم أجده، فسألت عنه فقيل لي: هو مريض وراقد في
خيمة فلانة. وكانت تلك المرأة عجوزًا مشهورة بالصلاح، ولها خيمة من قصب في
الجبَّانة، فسرت إلى الخيمة ودخلتها، فإذا هو مضطجع على الأرض، وليس تحته شيء، وقد
وضع رأسه على لَبِنة، ووجهه يتهلل نورًا، فسلَّمت عليه فردَّ عليَّ السلام، فجلست
عند رأسه أبكي على صِغَر سنه وغربته، وتوفيقه لطاعة ربه، ثم قلت له: أَلَكَ حاجة؟
قال: نعم. قلت: وما هي؟ قال: إذا كان الغد تجيء إليَّ في وقت الضحى فتجدني ميتًا،
فتغسلني وتحفر قبري، ولا تُعلِم بذلك أحدًا، وتكفِّنني في هذه الجُبَّة التي عليَّ
بعد أن تفتقها، وتفتِّش جيبها وتُخرِج ما فيه وتحفظه عندك، فإذا صلَّيتَ عليَّ
وواريتني في التراب فاذهب إلى بغداد، وارتقب الخليفة هارون الرشيد حتى يخرج، وادفع
له ما تجده في جيبي، وأَقْرِئه مني السلام. ثم تشهَّدَ وأثنى على ربه بأبلغ
الكلمات، وأنشد هذه الأبيات:
بَلِّغْ
أَمَانَةَ مَنْ وَافَتْ مَنِيَّتُهُ إِلَى الرَّشِيدِ فَإِنَّ الْأَجْرَ فِي
ذَاكَ
وَقُلْ
غَرِيبٌ لَهُ شَوْقٌ لِرُؤْيَتِكُمْ
عَلَى تَمَادِي الْهَوَى وَالْبُعْدِ لَبَّاكَ
مَا
صَدَّهُ عَنْكَ بُغْضٌ لَا وَلَا مَلَلٌ
لِأَنَّ قَرْيَتَهُ مِنْ لَثْمِ يُمْنَاكَ
وَإِنَّمَا
أَبْعَدَتْهُ عَنْكَ يَا أَبَتِي نَفْسٌ
لَهَا عِفَّةٌ عَنْ نَيْلِ دُنْيَاكَ
ثم
إن الغلام بعد ذلك اشتغل بالاستغفار. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام
المباح.
﴿اللیلة 402﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الغلام بعد ذلك اشتغل بالاستغفار، والصلاة والسلام
على سيد الأبرار، وتلاوة بعض الآيات، ثم أنشد هذه الأبيات:
يَا
وَالِدِي لَا تَغْتَرِرْ بِتَنَعُّمٍ
فَالْعُمْرُ يَنْفَدُ وَالنَّعِيمُ يَزُولُ
وَإِذَا
عَلِمْتَ بِحَالِ قَوْمٍ سَاءَهُمْ فَاعْلَمْ
بِأَنَّكَ عَنْهُمُ مَسْئُولُ
وَإِذَا
حَمَلْتَ إِلَى الْقُبُورِ جَنَازَةً
فَاعْلَمْ بِأَنَّكَ بَعْدَهَا مَحْمُولُ
قال
أبو عامر البصري: فلما فرغ الغلام من وصيته وإنشاده، ذهبت عنه وتوجَّهت إلى بيتي.
فلما أصبح الصباح ذهبت إليه من الغد وقت الضحى فوجدته قد مات رحمة الله عليه،
فغسَّلته وفتقت جُبَّته، فوجدتُ في جيبها ياقوتة تساوي آلافًا من الدنانير، فقلت
في نفسي: والله إن هذا الفتى زهد في الدنيا غاية الزهد. ثم بعد أن دفنتُه توجَّهت
إلى بغداد، ووصلت إلى دار الخلافة، وصرت أترقَّب خروجَ الرشيد إلى أن خرج،
فتعرَّضت له في بعض الطرق، ودفعت إليه الياقوتة، فلما رآها عرفها فخَرَّ مغشيًّا
عليه، فقبض عليَّ الخَدَمَة، فلما أفاق قال للخَدَمة: أفرجوا عنه وأرسلوه برفق إلى
القصر. ففعلوا ما أمرهم به، فلما دخل قصره طلبني وأدخلني محله، وقال لي: ما فعل
صاحب هذه الياقوتة؟ فقلت له: قد مات. ووصفت له حاله، فجعل يبكي ويقول: انتفع
الولد، وخاب الوالد. ثم نادى: يا فلانة. فخرجت امرأة، فلما رأتني أرادت أن ترجع
فقال لها: تعالي، وما عليك منه. فدخلَتْ وسلَّمَتْ، فرمى إليها الياقوتة، فلما
رأتها صرخت صرخة عظيمة، ووقعت مغشيًّا عليها. فلما أفاقت من غشيتها قالت: يا أمير
المؤمنين، ما فعل الله بولدي؟ فقال لي: أخبرها بشأنه. وأخذته العَبْرة. فأخبرتها
بشأنه فجعلتْ تبكي وتقول بصوت ضعيف: ما أشوقني إلى لقائك يا قرة عيني! ليتني كنتُ
أسقيك إذا لم تجد ساقيًا! ليتني كنت أؤانسك إذا لم تجد مؤانسًا! ثم سكبَتِ
العَبَرات، وأنشدت هذه الأبيات:
أَبْكِي
غَرِيبًا أَتَاهُ الْمَوْتُ مُنْفَرِدًا
لَمْ يَلْقَ إِلْفًا لَهُ يَشْكُو الَّذِي وَجَدَا
مَنْ
بَعْدِ عِزٍّ وَشَمْلٍ كَانَ مُجْتَمِعًا
أَضْحَى فَرِيدًا وَحِيدًا لَا يَرَى أَحَدَا
يُبِينُ
لِلنَّاسِ مَا الْأَيَّامُ تُضْمِرُهُ
لَمْ يَتْرُكِ الْمَوْتَ مِنَّا وَاحِدًا أَبَدَا
يَا
غَائِبًا قَدْ قَضَى رَبِّي بِغُرْبَتِهِ
وَصَارَ مِنِّيَ بَعْدَ الْقُرْبِ مُبْتَعِدَا
إِنْ
أَيْأَسَ الْمَوْتُ مِنْ لُقْيَاكَ يَا وَلَدِي فَإِنَّنَا نَلْتَقِي يَوْمَ الْحِسَابِ
غَدَا
فقلت:
يا أمير المؤمنين، أهو ولدك؟ قال: نعم، وقد كان قبل ولايتي هذا الأمر يزور العلماء
ويجالِس الصالحين، فلما وليت هذا الأمر نفر مني، وباعَدَ نفسه عني، فقلت لأمه: إن
هذا الولد منقطع إلى الله تعالى، وربما تصيبه الشدائد ويكابد بالامتحان، فادفعي
إليه هذه الياقوتة ليجدها وقت الاحتياج إليها. فدفعتها إليه وعزمت عليه أن يمسكها،
فامتثل أمرها وأخذها منها، ثم ترك لنا دنيانا وغاب عنا، ولم يزل غائبًا حتى لقي
الله — عز وجل — تقيًّا نقيًّا. ثم قال: قُمْ فأَرِني قبره. فخرجت معه وجعلت أسير
إلى أن أريتُه إياه، فجعل يبكي وينتحب حتى وقع مغشيًّا عليه. فلما أفاق من غشيته
استغفر الله وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون. ودعا له بخير، ثم سألني الصحبة، فقلت
له: يا أمير المؤمنين، إن لي في ولدك أعظم العظات. ثم أنشدتُ هذه الأبيات:
أَنَا
الْغَرِيبُ فَلَا آوِي إِلَى أَحَدٍ
أَنَا الْغَرِيبُ وَإِنْ أَمْسَيْتُ فِي بَلَدِي
أَنَا
الْغَرِيبُ فَلَا أَهْلٌ وَلَا وَلَدٌ
وَلَيْسَ لِي أَحَدٌ يَأْوِي إِلَى أَحَدِ
إِلَى
الْمَسَاجِدِ آوِي بَلْ وَأُعْمِرُهَا
فَمَا يُفَارِقُهَا قَلْبِي مَدَى الْأَبَدِ
فَالْحَمْدُ
للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى أَفْضَالِهِ
بِبَقَاءِ الرُّوحِ فِي الْجَسَدِ
حكاية الفقيه والصبيان
ومما
يُحكَى عن بعض الفضلاء أنه قال: مررتُ بفقيه في كتَّاب وهو يُقرِئ الصبيان، فوجدته
في هيئة حسنة، وقماش مليح، فأقبلتُ عليه فقام إليَّ وأجلسني معه؛ فمارسته في
القرآن والنحو والشعر واللغة، فإذا هو كامل في كل ما يُراد منه، فقلتُ له: قوَّى
الله عزمك، فإنك عارف بكل ما يُراد منك. ثم عاشرته مدة، وكل يوم يظهر لي فيه حسن،
فقلت في نفسي: إن هذا شيء عجيب من فقيه يعلِّم الصبيان، مع أن العقلاء اتفقوا على
نقص عقل معلِّم الصبيان. ثم فارقته، وكنت كل أيام قلائل أتفقَّده وأزوره، فأتيت
إليه في بعض الأيام على عادتي من زيارته، فوجدت الكتَّاب مغلوقًا فسألت جيرانه
فقالوا: إنه مات عنده ميت. فقلت في نفسي: وجب علينا أن نعزِّيه. فجئت إلى بابه
وطرقته، فخرجت لي جارية وقالت: ما تريد؟ فقلت: أريد مولاك. فقالت: إن مولاي قاعد
في العزاء وحده. فقلت لها: قولي له إن صديقك فلانًا يطلب أن يعزيك. فراحت وأخبرته،
فقال لها: دعيه يدخل. فأذنت لي في الدخول، فدخلتُ إليه فرأيته جالسًا وحده
ومعصِّبًا رأسه، فقلت له: عظَّم الله أجرك، وهذا سبيل لا بد لكل أحد منه، فعليك
بالصبر. ثم قلت له: مَن الذي مات لك؟ فقال: أعز الناس عليَّ، وأحبهم إليَّ. فقلت:
لعله والدك. فقال: لا. قلتُ: والدتك. قال: لا. قلت: أخوك. قال: لا. قلت: أحد من
أقاربك. قال: لا. قلت: فما نسبته إليك؟ قال: حبيبتي. فقلتُ في نفسي: هذا أول
المباحث في قلَّة عقله. ثم قلت له: قد يوجد غيرها مما هو أحسن منها. فقال: أنا ما
رأيتها حتى أعرف إنْ كان غيرها أحسن منها أم لا. فقلتُ في نفسي: وهذا مبحث ثانٍ.
فقلت له: وكيف عشقتَ مَن لا تراها؟ فقال: اعلم أني كنتُ جالسًا في الطاقة، وإذا
برجل عابر طريق يغني بهذا البيت:
يَا
أُمَّ عَمْرٍو جَزَاكِ اللهُ مَكْرُمَةً
رُدِّي عَلَيَّ فُؤَادِي كَالَّذِي
كَانَا
وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 403﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الفقيه قال: لما غنَّى الرجل المار في الطريق بالشعر
الذي سمعته منه، قلت في نفسي: لولا أن أم عمرو هذه ما في الدنيا مثلها، ما كان
الشعراء يتغزلون فيها. فتعلَّقْتُ بحبها، فلما كان بعد يومين عبَرَ ذلك الرجل وهو
ينشد هذا البيت:
إِذَا
ذَهَبَ الْحِمَارُ بِأُمِّ عَمْرٍو فَلَا
رَجَعَتْ وَلَا رَجَعَ الْحِمَارُ
فعلمت
أنها ماتت فحزنت عليها، ومضى لي ثلاثة أيام وأنا في العزاء. فتركته وانصرفت بعدما
تحقَّقتُ قلةَ عقله.
ومما
يُحكَى من قلَّة عقل معلم الصبيان، أنه كان رجل فقيه في مكتب فدخل عليه رجل ظريف،
وجلس عنده ومارسه، فرآه فقيهًا نحويًّا لغويًّا شاعرًا أديبًا فهيمًا لطيفًا،
فتعجَّب من ذلك وقال: إن الذين يعلِّمون الصبيان في المكاتب ليس لهم عقل كامل.
فلما همَّ بالانصراف من عند الفقيه قال له: أنت ضيفي في هذه الليلة. فأجابه إلى
الضيافة، وتوجَّه صحبته إلى منزله، فأكرمه وأتى له بالطعام، فأكلا وشربا، ثم جلسا
بعد ذلك يتحدثان إلى ثلث الليل، وبعد ذلك جهَّز له الفراش وطلع إلى حريمه. فاضطجع
الضيف وأراد النوم، وإذا بصراخ كثير ثار في حريمه، فسأل: ما الخبر؟ فقالوا له: إن
الشيخ حصل له أمر عظيم، وهو في آخِر رمق. فقال: طلعوني له. فطلعوه له، ودخل عليه
فرآه مغشيًّا عليه ودمه سائل، فرشَّ الماء على وجهه فلما أفاق قال له: ما هذا
الحال؟ أنت طلعت من عندي في غاية ما يكون من الحظ وأنت صحيح البدن، فما أصابك؟
فقال له: يا أخي، إني بعدما طلعت من عندك جلست أتذكر في مصنوعات الله تعالى، وقلت
في نفسي: كل شيء خلقه الله للإنسان فيه نفع؛ لأن الله سبحانه خلق اليدين للبطش،
والرجلين للمشي، والعينين للنظر، والأذنين للسماع، والذكر للجماع … وهلمَّ جرًّا،
إلا هاتين البيضتين ليس لهما نفع، فأخذت موسى كان عندي وقطعتهما فحصل لي هذا الأمر.
فنزل من عنده وقال: صدَقَ مَن قال: إن كل فقيه يعلِّم الصبيان ليس له عقل كامل،
ولو كان يعرف جميعَ العلوم.
وحُكِي
أيضًا أن أحد المجاورين كان لا يعرف الخط ولا القراءة، وإنما كان يحتال على الناس
بحِيَل يأكل منها الخبز، فخطر بباله يومًا من الأيام أنه يفتح له مكتبًا ويُقرِئ
فيه الصبيان؛ فجمع ألواحًا وأوراقًا مكتوبة، وعلَّقها في مكان، وكبَّر عمامته،
وجلس على باب المكتب؛ فصار الناس يمرون عليه وينظرون إلى عمامته، وإلى الألواح
والأوراق فيظنون أنه فقيه جيد، فيأتون إليه بأولادهم؛ فصار يقول لهذا اكتب، ولهذا
اقرأ؛ فصار الأولاد يعلِّم بعضهم بعضًا. فبينما هو ذات يوم جالس على باب المكتب
على عادته، وإذا بامرأة مقبلة من بعيد وبيدها مكتوب، فقال في باله: لا بد أن هذه
المرأة تقصدني لأقرأ لها المكتوب الذي معها، فكيف يكون عملي معها وأنا لا أعرف
قراءة الخط؟ وهمَّ بالنزول ليهرب منها فلحقته قبل أن ينزل، وقالت له: إلى أين؟
فقال لها: أريد أن أصلي الظهر وأعود. فقالت له: الظهر بعيد، فاقرأ لي هذا الكتاب.
فأخذه منها وجعل أعلاه أسفله، وصار ينظر إليه، ويهزُّ عمامته تارةً، ويرقِّص
حواجبه تارةً أخرى، ويُظهِر غيظًا، وكان زوج المرأة غائبًا، والكتابُ مُرسَل إليها
من عنده، فلما رأت الفقيه على تلك الحالة قالت في نفسها: لا شكَّ أن زوجي مات،
وهذا الفقيه يستحي أن يقول لي إنه مات. فقالت له: يا سيدي، إن كان مات فقُلْ لي.
فهزَّ رأسه وسكت، فقالت له المرأة: هل أشقُّ ثيابي؟ فقال لها: شقِّي. فقالت له: هل
ألطم على وجهي؟ فقال لها: الْطِمِي. فأخذت الكتاب من يده وعادت إلى منزلها، وصارت
تبكي هي وأولادها، فسمع بعض جيرانها البكاء فسألوا عن حالها فقيل لهم: إنه جاءها
كتاب بموت زوجها. فقال الرجل:
إن
هذا كلام كذب؛ لأن زوجها أرسَلَ لي مكتوبًا بالأمس يخبر فيه أنه طيب بخير وعافية،
وأنه بعد عشرة أيام يكون عندها. فقام من ساعته وجاء إلى المرأة وقال لها: أين
الكتاب الذي جاءك؟ فجاءت به إليه، فأخذه منها وقرأه، وإذا فيه: أما بعدُ، فإني طيب
بخير وعافية، وبعد عشرة أيام أكون عندكم، وقد أرسلتُ إليكم ملحفة ومكمرة. فأخذت
الكتاب وعادت به إلى الفقيه، وقالت له: ما حملك على الذي فعلتَه معي؟ وأخبرَتْه
بما قاله جارها من سلامة زوجها، وأنه أرسل إليها ملحفة ومكمرة، فقال لها: لقد
صدقت، ولكن يا حرمة اعذريني؛ فإني كنت في تلك الساعة مغتاظًا. وأدرك شهرزاد الصباح
فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 404﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن المرأة قالت للفقيه: ما حملك على الذي فعلتَه معي؟
فقال لها: إني كنت في تلك الساعة مغتاظًا مشغول الخاطر، ورأيت المكمرة ملفوفة في
الملحفة، فظننتُ أنه مات وكفَّنوه. وكانت المرأة لا تعرف الحيلة، فقالت له: أنت
معذور. وأخذت الكتاب منه وانصرفت.
حكاية ملك خرج متخفيا
وحُكِي
أن ملكًا من الملوك خرج مستخفيًا ليطَّلع على أحوال رعيته، فوصل إلى قرية عظيمة
فدخلها منفردًا، وقد عطش، فوقف بباب دار من دور القرية وطلب ماء، فخرجت إليه امرأة
جميلة بكوز ماء فناولته إيَّاه فشرب، فلما نظر إليها افتتن بها فراودها عن نفسها،
وكانت المرأة عارفة به، فدخلت به بيتها وأجلسته، وأخرجت له كتابًا وقالت: انظر في
هذا الكتاب إلى أن أُصلِح أمري وأرجع إليك. فجلس يطالع في الكتاب وإذا فيه الزجر
عن الزنا، وما أعدَّه الله لأهله من العذاب؛ فاقشعرَّ جلده وتاب الى الله، وصاح
بالمرأة وأعطاها الكتاب وذهب.
وكان
زوج المرأة غائبًا، فلما حضر أخبرته بالخبر فتحيَّر، وقال في نفسه: أخاف أن يكون
وقع غرض الملك فيها. فلم يتجاسر على وطئها بعد ذلك، ومكث على ذلك مدة، فأعلمت
المرأة أقاربها بما حصل لها مع زوجها، فرفعوه إلى الملك، فلما مثلوا بين يديه قال
أقارب المرأة: أعزَّ الله الملك، إن هذا الرجل استأجر منَّا أرضًا للزراعة فزرعها
مدة، ثم عطَّلها فلا هو يتركها حتى نؤاجرها لمَن يزرعها، ولا هو يزرعها، وقد حصل
الضرر للأرض فنخاف فسادها بسبب التعطيل؛ لأن الأرض إذا لم تُزرَع فسدَتْ. فقال
الملك: ما الذي يمنعك من زرع أرضك؟ فقال: أعزَّ الله الملك، إنه قد بلغني أن الأسد
قد دخل الأرض فهِبْته ولم أقدر على الدنوِّ منها، لعلمي أنه لا طاقةَ لي بالأسد،
وأخاف منه. ففهم الملك القصة وقال له: يا هذا، إن أرضك لم يَطَأْها الأسد، وأرضك
طيبة الزرع فازرعها بارَكَ الله لك فيها، فإن الأسد لا يعدو عليها. ثم أمر له
ولزوجته بصلة حسنة وصرفهم.
حكاية عبد الرحمن المغربي وفرخ الرخ
ومما
يُحكَى أن رجلًا من أهل المغرب كان سافَرَ الأقطار، وجاب القفار والبحار، فألقته
المقادير في جزيرة وأقام فيها مدة طويلة، ثم رجع إلى بلده ومعه قصبة ريشة من جناح
فرخ الرخِّ وهو في البيضة ولم يخرج منها إلى الوجود، وكانت تلك القصبة تسع قربة
ماء، وقيل إن طول جناح فرخ الرخ حين خروجه من البيضة ألف باع، وكان الناس
يتعجَّبون من تلك القصبة حين رأوها، وكان هذا الرجل اسمه عبد الرحمن المغربي،
واشتهر بالصيني لكثرة إقامته هناك، وكان يحدِّث بالعجائب، منها ما ذكره من أنه
سافر في بحر الصين … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 405﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن عبد الرحمن المغربي الصيني كان يحدِّث بالعجائب، منها
ما ذكره من أنه سافر في بحر الصين مع جماعة، فرأوا جزيرة على بُعْد، فرست بهم
المركب على تلك الجزيرة فرأوها عظيمة واسعة، فخرج إليها أهل تلك السفينة ليأخذوا
ماءً وحطبًا، ومعهم الفئوس والحبال والقرب وذلك الرجل معهم، فرأوا في الجزيرة قبة
عظيمة بيضاء لمَّاعة طولها مائة ذراع، فلما رأوها قصدوها ودنوا منها فوجدوها بيضة
الرخ، فجعلوا يضربونها بالفئوس والحجارة والخشب حتى انشَقَّتْ عن فرخ الرخِّ،
فوجدوه كالجبل الشامخ، فنتفوا ريشه من جناحه ولم يقدروا على نتفها منه إلا
بتعاونهم، مع أنه لم يتكامل خلف الريش في ذلك الفرخ، ثم أخذوا ما قدروا عليه من
لحم الفرخ وحملوه معهم، وقطعوا أصل الريشة من حد القصبة وحلوا قلوع المركب،
وسافروا طول الليل إلى طلوع الشمس، وكانت الريح مسعفة لتلك السفينة وهي سائرة بهم،
فبينما هم كذلك إذ أقبل الرخُّ كالسحابة العظيمة، وفي رجلَيْه صخرة كالجبل العظيم
أكبر من السفينة، فلما حاذى السفينة وهو في الجو ألقى الصخرة عليها وعلى مَن بها
من الناس، وكانت السفينة مُسرِعة في الجري فسبقت فوقعت الصخرة في البحر، وكان
لوقوعها هول عظيم، وكتب الله لهم السلامة ونجَّاهم من الهلاك، وطبخوا ذلك اللحم
وأكلوه، وكان فيهم مشايخ بيض اللحى، فلما أصبحوا وجدوا لحاهم قد اسودَّتْ ولم
يَشِب بعد ذلك أحد من القوم الذين أكلوا من ذلك اللحم، وكانوا يقولون: إن سبب عود
شبابهم إليهم وامتناع المشيب عنهم، أن العود الذي حرَّكوا به القدر كان من شجرة
النشاب، وبعضهم يقول: سبب ذلك لحم فرخ الرخ. وهذا من أعجب العجب.
حكاية عدي بن زيد والأميرة هند
ومما
يُحكَى أن النعمان بن المنذر ملك العرب كان له بنت تُسمَّى هندًا، وقد خرجت في يوم
الفصح وهو عيد النصارى لتتقرَّب في البيعة البيضاء، ولها من العمر أحد عشر عامًا،
وكانت أجمل بنات عصرها وزمانها، وفي ذلك اليوم كان عدي بن زيد قد قَدِم إلى الحيرة
من عند كسرى بهدية إلى النعمان، فدخل البيعة البيضاء ليتقرب، وكان مديد القامة،
حلو الشمائل، حسن العينين، نقي الخد، ومعه جماعة من قومه، وكان مع هند بنت النعمان
جارية تُسمَّى مارية، وكانت مارية تعشق عديًّا، ولكنها لا يمكنها الوصول إليه،
فلما رأته في البيعة قالت لهند: انظري إلى هذا الفتى، فهو والله أحسن من كلِّ مَنْ
تزيَّنَ. قالت هند: ومَن هو؟ قالت: عدي بن زيد. قالت هند بنت النعمان: أخاف أن
يعرفني إنْ دنوْتُ منه حتى أراه من قريب. قالت مارية: ومن أين يعرفك وما رآك قطُّ؟
فدنَتْ منه وهو يمازح الفتيان الذين معه، وقد برع عليهم بجماله وحُسْن كلامه
وفصاحة لسانه، وما عليه من الثياب الفاخرة، فلما نظرت إليه افتتنت به واندهش عقلها
وتغيَّر لونها، فلما عرفت مارية ميلها إليه، قالت لها: كلِّميه. فكلَّمَتْه
وانصرفت، فلما نظر إليها وسمع كلامها افتتن بها، واندهش عقله، وارتجف قلبه،
وتغيَّرَ لونه، حتى أنكر عليه الفتيان، فأسر إلى بعضهم أن يتبعها ويكشف له خبرها،
فمضى خلفها ثم عاد إليه وأخبره أنها هند بنت النعمان، فخرج من البيعة وهو لا يدري
أين الطريق من شدة عشقه، ثم أنشد هذين البيتين:
يَا
خَلِيلِي زِدْتُمَا تَيْسِيرَا إِنْ
تَؤُمَّا إِلَى الْبِقَاعِ مَسِيرَا
عَرِّجَا
لِي عَلَى دِيَارٍ لِهِنْدٍ ثُمَّ
رُوحَا وَخَبِّرَا تَخْبِيرَا
فلما
فرغ من شعره ذهب إلى مكانه، وبات ليلته قلقًا لم يذق طعم النوم. وأدرك شهرزاد
الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 406﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن عديًّا لما فرغ من شعره ذهب إلى بيته وبات ليلته
قلقًا لم يَذُقِ النومَ، فلما أصبح تعرَّضَتْ له مارية، فلما رآها هشَّ لها وكان
قبل ذلك لا يلتفت إليها، ثم قال لها: ما مرادك؟ قالت: إن لي حاجة إليك. قال:
اذكريها، فوالله لا تسأليني شيئًا إلا أعطيتُكِ إياه. فأخبرته أنها تهواه وأن
حاجتها إليه الخلوة، فسمح لها بذلك بشرط أن تحتال في هند وتجمع بينها وبينه،
وأدخَلَها حانوت خمار في بعض دروب الحيرة وواقَعَها، ثم خرجت وأتَتْ هند فقالت
لها: أَمَا تشتهين أن تري عديًّا؟ قالت: وكيف لي بذلك، وقد أقلقني الشوق إليه، ولا
يقر لي قرار من البارحة؟ فقالت: أنا أعده بمكان كذا أو كذا، وتنظرين إليه من
القصر. فقالت هند: افعلي ما شئتِ. واتفقت معها على ذلك الموضع، فأتى عدي فأشرفت
عليه، فلما رأته كادت أن تسقط من أعلاه، ثم قالت: يا مارية، إنْ لم تُدخِليه عليَّ
في هذه الليلة هلكتُ. ثم وقعَتْ مغشيًّا عليها، فحملنها وصائفها وأَدْخَلْنَها
القصر، فبادرت مارية إلى النعمان وأخبرته بخبرها وأصدقته الحديث، وذكرت له: إنها
هامَتْ بِعُدَيٍّ. وأعلمَتْه أنه إنْ لم يزوِّجها به افتضحت وماتت من عشقه، ويكون
ذلك عارًا عليه بين العرب، وأنه لا حيلةَ في ذلك الأمر إلا تزويجها به؛ فأطرق
النعمان ساعة يفكِّر في أمرها، واسترجع مرارًا ثم قال: ويلك، وكيف الحيلة في
تزويجها به، وأنا لا أحب أن أبتَدِئَه بذلك الكلام؟ فقالت: هو أشد عشقًا منها
وأكثر رغبةً فيها، فأنا أحتال في ذلك من حيث لا يعلم أنك عرفتَ أمره، ولا تفضح
نفسك أيها الملك. ثم إنها ذهبت إلى عُدَيٍّ وأخبرته وقالت له: اصنع طعامًا ثم ادعُ
الملك إليه، فإذا أخذ منه الشراب فأخطبها منه، فإنه غير رادِّكَ. فقال: أخشى أن
يُغضِبه ذلك فيكون سببًا للعداوة بيننا. فقالت له: ما جئتُكَ إلا بعدما فرغتُ من
الحديث معه. وبعد ذلك رجعَتْ إلى النعمان وقالت له: أطلب منه أن يضيفك في بيته.
فقال لها: لا بأس. ثم إن النعمان بعد ذلك بثلاثة أيام سأله أن يتغدى عنده أصحابه،
فأجابه إلى ذلك، ثم ذهب إليه النعمان فلما أخذ منه الشراب مأخذه، قام عُدَيٌّ
فخطبها منه، فأجابه وزوَّجَه إياها وضمَّها إليه بعد ثلاثة أيام، فمكثت عنده ثلاث
سنين وهما في أرغد عيش وأهناه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 407﴾
قالت: بلغني أيها الملك السعيد،
أن عُدَيًّا مكث مع هند بنت النعمان بن المنذر ثلاث سنين وهما في أرغد عيش وأهناه،
ثم إن النعمان بعد ذلك غضب على عُدَيٍّ وقتله، فوَجَدَتْ عليه هند وَجْدًا عظيمًا،
ثم إنها بَنَتْ لها ديرًا في ظاهر الحيرة وترهَّبَتْ فيه وجلست تندبه وتبكيه حتى
ماتت، وديرها معروف إلى الآن في ظاهر الحيرة.
حكاية دعبل الخزاعي والجارية وابن الوليد
ومما
يُحكَى أن دعبل الخزاعي قال: كنتُ جالسًا بباب الكرخ إذ مرَّتْ بي جارية لم أَرَ
أحسن منها ولا أعدل قَدًّا، وهي تنثني في مشيتها وتسبي الناظرين بتثنيها، فلما وقع
بصري عليها افتتنتُ بها وارتجف فؤادي، وآنست أنه قد طار قلبي من صدري، فأنشدتُ
معرضًا لها هذا البيت:
دُمُوعُ
عَيْنِي بِهَا انْفِضَاضُ وَنَوْمُ
جَفْنِي بِهِ انْقِبَاضُ
فنظرَتْ
إليَّ واستدارَتْ بوجهها، وأجابتني بسرعة بهذا البيت:
وَذَا
قَلِيلٌ لِمَنْ دَعَتْهُ بِلَحْظِهَا
الْأَعْيُنُ الْمِرَاضُ
فأدهشتني
بسرعة جوابها وحُسْن منطقها، فأنشدتُها ثانيًا هذا البيت:
فَهَلْ
لِمَوْلَاي عَطْفُ قَلْبٍ عَلَى
الَّذِي دَمْعُهُ مُفَاضُ
فأجابتني
بسرعة من غير توقُّف بهذا البيت:
إِنْ
كُنْتَ تَهْوَى الْوِدَادَ مِنَّا فَالْوُدُّ
مَا بَيْنَنَا قِرَاضُ
فما
دخل في أذني قطُّ أحلى من كلامها، ولا رأيت أبهج من وجهها، فعدلتُ بالشعر عن
القافية امتحانًا لها وعجبًا بكلامها، فقلتُ لها هذا البيت:
أَتَرَى
الزَّمَانَ يَسُرُّنَا بِتَلَاقِ وَيَضُمُّ
مُشْتَاقًا إِلَى مُشْتَاقِ
فتبسَّمَتْ
فما رأيتُ أحسن من فمها، ولا أحلى من ثَغْرها، وأجابتني بسرعة من غير توقُّف بهذا
البيت:
مَا
لِلزَّمَانِ وَلِلتَّحَكُّمِ بَيْنَنَا
أَنْتَ الزَّمَانُ فَسُرُّنَا بِتَلَاقِ
فنهضتُ
مسرعًا وصرتُ أقبِّل يديها، وقلت لها: ما كنتُ أظن أن الزمان يسمح لي بمثل هذه
الفرصة، فاتَّبعي أثري غير مأمورة ولا مستكرهة، بل بفضلٍ منك تعطُّفًا عليَّ، ثم
وليتُ وهي خلفي، ولم يكن إليَّ في ذلك الوقت منزل أرضاه لمثلها، وكان مسلم بن
الوليد صديقًا لي وله منزل حسن فقصدته، فلما قرعتُ عليه الباب خرج إليَّ فسلَّمْتُ
عليه وقلتُ: لمثل هذا الوقت تُدَّخَر الإخوان. فقال: حبًّا وكرامةً، ادخل. فدخلنا
فصادفنا عنده عسرة، فدفع لي منديلًا وقال: اذهب به إلى السوق وبِعْه وخُذْ ما
تحتاج إليه من طعام وغيره. فمضيتُ مسرعًا إلى السوق وبِعْتُه وأخذت ما نحتاج إليه
من طعام وغيره، ثم رجعت فرأيت مسلمًا قد خلا بها في سرداب، فلما أحَسَّ بي وثب
إليَّ وقال لي: كافاكَ الله يا أبا عليٍّ على جميل ما صنعتَ معي، ولقاك ثوابه
وجعله حسنةً في حسناتك يومَ القيامة. ثم تناوَلَ مني الطعام والشراب، وأغلَقَ
البابَ في وجهي، فغاظني قوله ولم أَدْرِ ما أصنع وهو قائم خلف الباب يهتَزُّ
سرورًا، فلما رآني على تلك الحالة قال: بحياتي يا أبا عليٍّ، مَن الذي أنشأ هذا
البيت:
بِتُّ
فِي دَرْعِهَا وَبَاتَ رَفِيقِي جُنُبَ
الْقَلْبِ طَاهِرَ الْأَطْرَافِ
فاشتدَّ
غيظي منه وقلتُ: هو منشئ هذا البيت:
مَنْ
لَهُ فِي حِزَامِهِ أَلْفُ قَرْنٍ قَدْ
أَنَافَتْ عَلَى عُلُوِّ مَنَافِ
ثم
جعلت أشتمه وأسبُّه على قبيح فعله وقلة مروءته، وهو ساكت لا يتكلم، فلما فرغت من
سبِّي له، تبسَّمَ وقال: ويلك يا أحمق، إنما دخلتُ منزلي وبعتُ منديلي وأنفقتُ
دراهمي، فعلى مَن تغضب يا قوَّاد؟ ثم تركني وانصرف إليها، فقلتُ له: أَمَا والله
لقد صدقتَ في نسبتي إلى الحماقة والقوادة. وانصرفتُ عن بابه وأنا في همٍّ شديدٍ
أجد أثره في قلبي إلى يومي هذا، ولم أظفر بها ولا سمعتُ لها خبرًا.
حكاية إسحاق الموصلي والمغني
ومما
يُحكَى أن إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: اتفق أنني ضجرت من ملازمة دار الخليفة
والخدمة بها، فركبت وخرجت بكرة النهار، وعزمت على أن أطوف الصحراء وأتفرَّج، وقلت
لغلماني: إذا جاء رسول الخليفة أو غيره فعرِّفوه أنني بكَّرت في بعض مهماتي، وأنكم
لا تعرفون أين ذهبت. ثم مضيت وحدي وطفت في المدينة، وقد حَمِي النهار فوقفت في
شارع يُعرَف بالحرم … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 408﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: لما حَمِي النهار وقفت
في شارع يُعرَف بالحرم لأستظل من حرِّ الشمس، وكان للدار جناح رحب بارز على
الطريق، فلم ألبث حتى جاء خادم أسود يقود حمارًا، فرأيت عليه جارية راكبة، وتحتها
منديل مكلَّل بالجواهر، وعليها من اللباس الفاخر ما لا غاية بعده، ورأيت لها
قوامًا حسنًا، وطرفًا فاترًا، وشمائل ظريفة، فسألت عنها بعضَ المارين فقال لي:
إنها مغنية. وقد تعلَّقَ بحبِّها قلبي عند نظري إليها، وما قدرتُ أن أستقرَّ على
ظهر دابتي، ثم إنها دخلت الدار التي كنت واقفًا على بابها، فجعلتُ أتفكَّر في حيلة
أتوصَّل بها إليها. فبينما أنا واقف إذ أقبل رجلان شابَّان جميلان فاستأذنا فأَذِن
لهما صاحب الدار، فنزلا ونزلت معهما، ودخلت صحبتهما، فظنَّا أن صاحب الدار دعاني،
فجلسنا ساعةً فأتى بالطعام فأكلنا، ثم وضع الشراب بين أيدينا، ثم خرجت الجارية وفي
يدها عود فغنَّت وشربنا، وقمت لأقضي حاجة، فسأل صاحب المنزل الرجلين عنِّي فأخبراه
أنهما لا يعرفاني، فقال: هذا طفيليٌّ، ولكنه ظريف فأجملوا عشرته. ثم جئتُ فجلستُ
في مكاني، فغنَّت الجارية بلحن لطيف، وأنشدت هذين البيتين:
قُلْ
لِلْغَزَالَةِ وَهْيَ غَيْرُ غَزَالَةٍ
وَالْجُؤْذُرُ الْمَكْحُولُ غَيْرُ الْجُؤْذُرِ
لِمُذَكَّرِ
الْخَلَوَاتِ غَيْرِ مُؤَنَّثٍ وَمُؤَنَّثِ
الْخَطَوَاتِ غَيْرِ مُذَكَّرِ
فأدته
أداءً حسنًا، وشرب القوم وأعجبهم ذلك. ثم غنَّتْ طُرقًا شتَّى بألحان غريبة،
وغنَّت من جملتها طريقة هي لي، وأنشدت هذين البيتين:
الطُّلُولُ
الدَّوَارِسُ فَارَقَتْهَا الْأَوَانِسُ
أَوْحَشَتْ
بَعْدَ أُنْسِهَا فَهْيَ قَفْرَاءُ
طَامِسُ
فكان
أمرها أصلح فيها من الأولى. ثم غنت طُرقًا شتَّى بألحان غريبة من القديم والحديث،
وغنَّت في أثنائها طريقة هي لي بهذين البيتين:
قُلْ
لِمَنْ صَدَّ عَاتِبَا وَنَأَى
عَنْكَ جَانِبَا
قَدْ
بَلَغْتَ الَّذِي بَلَغْــتَ وَإِنْ
كُنْتَ لَاعِبَا
فاستعدْتُهُ
منها لأصحِّحه لها، فأقبَلَ عليَّ أحدُ الرجلين وقال: ما رأينا طفيليًّا أصفق
وجهًا منك، أَمَا ترضى بالتطفُّل حتى اقترحتَ؟ وقد صحَّ فيك المثل: طفيلي ومقترح.
فأطرقْتُ حياءً ولم أُجِبْه، فجعل صاحبه يكفُّه عني فلا ينكف، ثم قاموا إلى الصلاة
فتأخرتُ قليلًا، وأخذتُ العود وشددتُ طرفَيْه وأصلحته إصلاحًا محكمًا، وعدت إلى
موضعي فصليَّتُ معهم، ولما فرغنا من الصلاة رجع ذلك الرجل إلى اللوم عليَّ
والتعنيف، ولجَّ في عربدته وأنا صامت؛ فأخذَتِ الجاريةُ العودَ وجسَّته فأنكرت
حاله وقالت: مَن جسَّ عودي؟ فقالوا: ما جسَّه أحدٌ منا. قالت: بلى والله لقد جسَّه
حاذِقٌ متقدِّم في الصناعة؛ لأنه أحكَمَ أوتارَه، وأصلحه إصلاحَ حاذقٍ في صنعته.
فقلتُ لها: أنا الذي أصلحتُه. فقالت: بالله عليك أن تأخذه وتضرب عليه. فأخذته
وضربت عليه طريقة عجيبة صعبة، تكاد أن تُمِيتَ الأحياءَ وتُحْيِيَ الأموات، وأنشدت
عليه هذه الأبيات:
وَكَانَ
لِي قَلْبٌ أَعِيشُ بِهِ فَاكْتَوَى
بِالنَّارِ وَاحْتَرَقَ
أَنَا
لَمْ أُرْزَقْ مَحَبَّتَهَا إِنَّمَا
لِلْعَبْدِ مَا رُزِقَ
إِنْ
يَكُنْ مَا ذُقْتُ طَعْمَ هَوًى ذَاقَهُ
لَا شَكَّ مَنْ عَشِقَ
وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 409﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: لما فرغت من شعري لم
يَبْقَ أحدٌ من الجماعة إلا ووثب من موضعه، وجلسوا بين يدي وقالوا: بالله عليك يا
سيدنا أن تغني لنا صوتًا آخَر. فقلتُ لهم: حبًّا وكرامة. ثم أحكمتُ الضربات،
وغنَّيت بهذه الأبيات:
أَلَا
مَنْ لِقَلْبٍ ذَائِبٍ بِالنَّوَائِبِ
أَنَاخَتْ بِهِ الْأَحْزَانُ مِنْ كُلِّ جَانِبِ
حَرَامٌ
عَلَى رَامِي فُؤَادِي بِسَهْمِهِ دَمُ
الصَّبِّ بَيْنَ الْحَشَا وَالتَّرَائِبِ
تَبِينُ
يَوْمَ الْبَيْنِ أَنَّ اقْتِرَابَهُ
عَلَى الْبَيْنِ مِنْ ضِمْنِ الظُّنُونِ الْكَوَاذِبِ
أَرَاقَ
دَمًا لَوْلَا الْهَوَى مَا أَرَاقَهُ
فَهَلْ لِدَمِي مِنْ ثَائِرٍ وَمُطَالِبِ
فلما
فرغ من شعره لم يَبْقَ أحدٌ منهم إلا وقام على قدمَيْه، ثم رمى بنفسه على الأرض من
شدة ما أصابه من الطرب. قال: فرميت العود من يدي، فقالوا: بالله عليك ألَّا تفعل
بنا هذا، وزدنا صوتًا آخَر زادك الله تعالى من نعمته. فقلت لهم: يا قوم، أزيدكم
صوتًا آخَر وآخَر وآخَر، وأعرِّفكم مَن أنا، أنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي، والله
إني لأتيه على الخليفة إذا طلبني، وأنتم قد أسمعتموني غليظَ ما أكره في هذا اليوم،
فوالله لا نطقتُ بحرف ولا جلستُ معكم حتى تُخرِجوا هذا العربيد من بينكم. فقال له
صاحبه: من هذا حذَّرْتُك، وخفتُ عليك. ثم أخذوا بيده وأخرجوه، فأخذتُ العود
وغنَّيت الأصوات التي غنَّتْها الجارية من صنعتي، ثم أسررتُ إلى صاحب الدار أن
الجارية قد وقعَتْ في قلبي، ولا صبرَ لي عنها. فقال الرجل: هي لك بشرط. فقلت: وما
هو؟ قال: أن تقيم عندي شهرًا، والجارية وما يتعلَّق بها من حليٍّ وحُلل لك. فقلت:
نعم، أفعل ذلك. فأقمت عنده شهرًا لا يعرف أحدٌ أين أنا؟ والخليفة يفتش عليَّ في كل
موضع، ولا يعرف لي خبرًا. فلما انقضى الشهر سلَّم لي الجارية وما يتعلق بها من
الأمتعة النفيسة، وأعطاني خادمًا آخَر، فجئتُ بذلك إلى منزلي وكأني قد حُزْتُ الدنيا
بأسرها من شدة فرحي بالجارية. ثم ركبتُ إلى المأمون من وقتي، فلما حضرت بين يديه
قال لي: ويحك يا إسحاق! أين كنتَ؟ فأخبرته بخبري. فقال: عليَّ بذلك الرجل في هذه
الساعة. فدللتهم على داره، فأرسل إليه الخليفة، فلما حضر سأله عن القصة فأخبره
بها، فقال له: أنت رجل ذو مروءة، والرأي أن تُعَان على مروءتك. فأمر له بمائة ألف
درهم وقال لي: يا إسحاق أحضر الجارية. فأحضرتها فغنَّت له وأطربته، فحصل له منها
سرور عظيم، فقال: قد جعلتُ عليها نوبة في كل يوم خميس، فتحضر وتغني من وراء
الستارة. ثم أمر لها بخمسين ألف درهم، فوالله لقد ربحت وأربحت في تلك الركبة.
حكاية ثلاثة عشاق حزانى
ومما
يُحكَى أن العتي قال: جلست يومًا وعندي جماعة من أهل الأدب، فتذاكرنا أخبار الناس
ونزع بنا الحديث إلى أخبار المحِبِّين، فجعل كلٌّ منَّا يقول شيئًا، وفي الجماعة
شيخ ساكت، ولم يَبْقَ عند أحدٍ منهم شيءٌ إلا أخبَرَ به، فقال ذلك الشيخ: هل
أحدِّثكم حديثًا لم تسمعوا مثله قطُّ؟ قلنا: نعم. قال: اعلموا أنه كانت لي ابنة
وكانت تهوى شابًّا، ونحن لا نعلم بها، وكان الشاب يهوى قينة، وكانت القينة تهوى
ابنتي، فحضرت في بعض الأيام مجلسًا فيه ذلك الشاب … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ
عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 410﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الشيخ قال: فحضرتُ في بعض الأيام مجلسًا فيه ذلك
الشاب والقينة، فغنَّتِ القينة بهذين البيتين:
عَلَامَاتُ
ذُلِّ الْهَوَى عَلَى الْعَاشِقِينَ
الْبُكَا
وَلَا
سِيَّمَا عَاشِقٌ إِذَا لَمْ يَجِدْ
مُشْتَكَى
فقال
لها الشاب: أحسنتِ والله يا سيدتي، أفتأذني لي أن أموت؟ فقالت القينة من وراء
الستر: نعم، إنْ كنتَ عاشقًا فمُتْ. فوضع الشاب رأسه على وسادة وأغمض عينه، فلما
وصل القدح إليه حرَّكْنَاه فإذا هو ميت، فاجتمعنا عليه وتكدر علينا السرور وتنكدنا
وافترقنا من ساعتنا، فلما سرتُ إلى منزلي أنكَرَ عليَّ أهلي حيث انصرفت إليهم في
غير الوقت المعتاد، فأخبرتُهم بما كان من أمر الشاب لأعجبهم بذلك، فسمعَتِ ابنتي
كلامي فقامت من المجلس الذي أنا فيه ودخلت مجلسًا آخَر، فقمتُ خلفها ودخلت ذلك
المجلس فوجدتها متوسدة على مثالِ ما وصفتُ من حال الشاب، فحرَّكْتُها فإذا هي
ميتة، فأخذنا في تجهيزها وغدونا بجنازتها وغدوا بجنازة الشاب، فلما صرنا في طريق
الجبانة وإذا نحن بجنازة ثالثة، فسألنا عنها فإذا هي جنازة القينة؛ فإنها حين
بلغها موتُ ابنتي فعلت مثل ما فعلت فماتت، فدفنا الثلاثة في يوم واحد، وهذا أعجب
ما سُمِع من أخبار العشَّاق.
حكاية عشاق بني طي
ومما
يُحكَى أن القاسم بن عدي حكى عن رجل من بني تميم أنه قال: خرجتُ في طلب ضالَّة،
فوردتُ على مياه بني طيٍّ فرأيتُ بفريقين، أحدهما قريب من الآخَر، وإذا في أحد الفريقين
كلام مثل كلام أهل الفريق الآخَر، فتأمَّلْتُ فرأيتُ في أحد الفريقين شابًّا قد
نهكه المرض، وهو مثل الشن البالي، فبينما أنا أتأمله وإذا هو ينشد هذه الأبيات:
أَلَا
مَا لِلْمَلِيحَةِ لَا تَعُودُ أَبُخْلٌ
بِالْمَلِيحَةِ أَمْ صُدُودُ
مَرِضْتُ
فَعَادَنِي أَهْلِي جَمِيعًا فَمَا
لَكِ لَا تُرَيْ فِيمَنْ يَعُودُ
فَلَوْ
كُنْتِ الْمَرِيضَةَ جِئْتُ أَسْعَى
إِلَيْكِ وَلَمْ يُنَهْنِهْنِي الْوَعِيدُ
عَدِمْتُكِ
مِنْهُمُو فَبَقِيتُ وَحْدِي وَفَقْدُ
الْإِلْفِ يَا سَكَنِي شَدِيدُ
فسمعَتْ
كلامه جارية من الفريق الآخَر، فبادرتْ نحوه وتبعها أهلها، وجعلت تضاربهم؛ فأحسَّ
بها الشاب فوثب نحوها، فبادَرَ إليه أهل فريقه وتعلَّقوا به، فجعل يجذب نفسه منهم
وهي تجذب نفسها من فريقها حتى تخلَّصَا، وقصد كل واحد منهما صاحبه حتى التقيَا بين
الفريقين وتعانَقَا، ثم خرَّا إلى الأرض ميتَيْن. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن
الكلام المباح.
﴿اللیلة 411﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الشاب والشابة لما التقَيَا بين الفريقين وتعانَقَا،
خرَّا إلى الأرض ميتَيْن، فخرج شيخ من تلك الأخبية ووقف عليهما واسترجع وبكى بكاء
شديدًا ثم قال: رحمكما الله تعالى، والله لئن كنتما لم تُجمَعَا في حال حياتكما،
لَأجمعن بينكما بعد الموت. ثم أمر بتجهيزهما، فغُسِّلَا وكُفِّنَا في كفن واحد،
وحفر لهما جدث واحد، وصلَّى عليهما الناس ودفنوهما في ذلك القبر، ولم يَبْقَ في
الفريقين ذكر ولا أنثى إلا رأيته يبكي عليهما ويلطم، فسألت الشيخ عنهما فقال لي:
هذه ابنتي وهذا ابن أخي، بلغ بهما الحب إلى ما رأيت. فقلت: أصلحهما الله، فهلا
زوَّجْتُهما لبعضهما؟ قال: خشيتُ من العار والفضيحة، وقد وقعت الآن فيهما. وهذا من
عجائب أخبار العشاق.
حكاية العاشق المجنون
ومما
يُحكَى أن أبا العباس المبرد قال: قصدت البريد مع جماعة إلى حاجة، فمررنا بدير
هرقل فنزلنا في ظله، فجاءنا رجل وقال: إن في الدير مجانين، فيهم رجل مجنون ينطق
بالحكمة، فلو رأيتموه لَتعجَّبْتُم من كلامه. فنهضنا جميعًا ودخلنا الدير، فرأينا
رجلًا جالسًا في مقصورة على نطع، وقد كشف رأسه وهو شاخص ببصره إلى الحائط،
فسلَّمْنا عليه فردَّ علينا السلام من غير أن ينظر إلينا بطرفه، فقال الرجل:
أَنْشِده شعرًا؛ فإنه إذا سمع الشعر يتكلم. فأنشدتُ هذين البيتين:
يَا
خَيْرَ مَنْ وَلَدَتْ حَوَّاءُ مِنْ بَشَرٍ
لَوْلَاكَ لَمْ تَحْسُنِ
الدُّنْيَا وَلَمْ تَطِبِ
أَنْتَ
الَّذِي مَنْ أَرَاكَ اللهُ صُورَتَهُ
نَالَ الْخُلُودَ فَلَمْ يَهْرَمْ وَلَمْ يَشِبِ
فلما
سمع ذلك مني، استدار نحونا وأنشد هذه الأبيات:
اللهُ
يَعْلَمُ أَنَّنِي كَمِدُ لَا
أَسْتَطِيعُ أَبُثُّ مَا أَجِدُ
نَفْسَانِ
لِي: نَفْسٌ يُضَمُّ لَهَا بَلَدٌ
وَأُخْرَى ضَمَّهَا بَلَدُ
وَأَظُنُّ
غَائِبَتِي كَشَاهِدَتِي وَأَظُنُّهَا
تَجِدُ الَّذِي أَجِدُ
ثم
قال: أحسنتُ في قولي أم أسأتُ؟ قلنا له: ما أسأتَ بل أحسنتَ وأجملت. فمد يده إلى
حجر عنده فتناوله، فظننا أنه يرمينا به فهربنا منه، فجعل يضرب به صدره ضربًا
قويًّا ويقول: لا تخافوا وادنوا مني واسمعوا لي شيئًا خذوه عني. فدنونا منه، فأنشد
هذه الأبيات:
لَمَّا
أَنَاخُوا قُبَيْلَ الصُّبْحِ عِيسَهُمُ
حَثَّ الْمَطَايَا بِالْهَوَى الْإِبِلُ
وَمُقْلَتِي
مِنْ خِلَالِ السِّجْنِ تَنْظُرُهَا
فَقُلْتُ مِنْ لَوْعَتِي وَالدَّمْعُ يَنْهَمِلُ
يَا
حَادِيَ الْعِيسِ عَرِّجْ كَيْ أُوَدِّعَهَا فَفِي الْفِرَاقِ وَفِي تَوْدِيعِهَا
الْأَجَلُ
إِنِّي
عَلَى الْعَهْدِ لَمْ أَنْقُضْ مَوَدَّتَهَا يَا لَيْتَ شِعْرِي بِذَاكَ الْعَهْدِ
مَا فَعَلُوا
ثم
إنه نظر إليَّ وقال: هل عندك علم بما فعلوا؟ قلت: نعم، إنهم ماتوا رحمهم الله
تعالى. فتغيَّرَ وجهه ووثب قائمًا على قدميه وقال: كيف علمتَ موتهم؟ قلتُ: لو
كانوا أحياء ما تركوك هكذا. فقال: صدقتَ والله، ولكنني أيضًا لا أحِبُّ الحياةَ
بعدهم. ثم ارتعدت فرائصه وسقط على وجهه، فتبادرنا إليه وحرَّكناه فوجدناه ميتًا،
رحمة الله تعالى عليه، فتعجَّبْنا من ذلك وأسفنا عليه أسفًا شديدًا، ثم جهَّزناه
ودفناه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 412﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن المبرد قال: لما سقط الرجل ميتًا أسفنا عليه
وجهَّزْناه ودفناه، فلما رجعت إلى بغداد دخلت على المتوكل، فنظر آثار الدموع على
وجهي فقال: ما هذا؟ فذكرتُ له القصة، فصعب عليه وقال: ما حملك على ذلك؟ والله لو
علمتُ أنك غير حزين عليه لَأخذتُك به. ثم إنه حزن عليه بقية يومه.
حكاية إسلام الراهب
ومما
يُحكَى أن أبا بكر بن محمد الأنباري قال: خرجتُ من الأنبار في بعض الأسفار إلى
عمورية من بلاد الروم، فنزلتُ في أثناء الطريق بدير الأنوار في قرية قريبة من
عمورية، فخرج إليَّ صاحب الدير الرئيس على الرهبان، وكان اسمه عبد المسيح، فأدخلني
الدير فوجدتُ فيه أربعين راهبًا، فأكرموني في تلك الليلة بضيافة حسنة، ثم رحلت
عنهم في الغد، وقد رأيت من كثرة اجتهادهم وعبادتهم ما لم أرَهُ من غيرهم، فقضيتُ
أربى من عمورية ثم رجعت إلى الأنبار. فلما كان في العام المقبل حججتُ إلى مكة،
فبينما أنا أطوف حول البيت إذ رأيتُ عبد المسيح الراهب يطوف أيضًا، ومعه خمسة نفر
من أصحابه الرهبان، فلما تحقَّقتُ معرفتَه تقدَّمْتُ إليه وقلتُ له: هل أنت عبد
المسيح الراهب؟ قال: بل أنا عبد الله الراغب. فجعلتُ أقبِّلُ شيبته وأبكي، ثم أخذت
بيده ومِلت إلى جانب الحرم، وقلت له: أخبرني عن سبب إسلامك. فقال: إنه من أعجب
العجائب، وذلك أن جماعة من زهَّاد المسلمين مرُّوا بالقرية التي فيها ديرنا،
فأرسلوا شابًّا يشتري لهم طعامًا، فرأى في السوق جارية نصرانية تبيع الخبز، وهي من
أحسن النساء صورةً، فلما نظر إليها افتتن بها وسقط على وجهه مغشيًّا عليه، فلما
أفاق رجع إلى أصحابه وأخبرهم بما أصابه، وقال: امضوا إلى شأنكم، فلست بذاهب معكم.
فعذلوه ووعظوه، فلم يلتفت إليهم، فانصرفوا عنه، ودخل القرية وجلس عند باب حانوت
تلك المرأة، فسألته عن حاجته فأخبرها أنه عاشق لها، فأعرضت عنه، فمكث في موضعه
ثلاثة أيام لم يطعم طعامًا، بل صار شاخصًا إلى وجهها، فلما رأته لا ينصرف عنها
ذهبَتْ إلى أهلها وأخبرتهم بخبره؛ فسلَّطوا عليه الصبيان، فرموه بالحجارة حتى
رضُّوا أضلاعه وشجُّوا رأسه، وهو مع ذلك لا ينصرف، فعزم أهل القرية على قتله،
فجاءني رجل منهم وأخبرني بحاله، فخرجتُ إليه فرأيته طريحًا، فمسحتُ الدمَ عن وجهه
وحملتُه إلى الدير وداويتُ جراحه، وأقام عندي أربعة عشر يومًا، فلما قدر على المشي
خرج من الدير. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 413﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الراهب عبد الله قال: فحملته إلى الدير وداويت جراحه،
وأقام عندي أربعة عشر يومًا، فلما قدر على المشي خرج من الدير إلى باب حانوت
الجارية، وجلس ينظر إليها، فلما أبصرته قامت إليه وقالت له: والله لقد رحمتك، فهل
لك أن تدخل في ديني، وأنا أتزوَّجك؟ فقال: معاذ الله أن أنسلخ من دين التوحيد،
وأدخل في دين الشرك. فقالت: قُمْ وادخل معي داري واقضِ مني أربك وانصرف راشدًا.
فقال: لا، ما كنتُ لأُذهِب عبادة اثنتي عشرة سنة بشهوة لحظة واحدة. فقالت: انصرف
عني حينئذٍ. قال: لا يطاوعني قلبي. فأعرضَتْ عنه بوجهها، ثم فطن به الصبيان
فأقبلوا عليه يرمونه بالحجارة، فسقط على وجهه وهو يقول: إِنَّ وَلِيِّيَ
اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ. فخرجت من الدير وطردت عنه
الصبيان، ورفعت رأسه عن الأرض، فسمعته يقول: اللهم اجمع بيني وبينها في الجنة.
فحملتُه إلى الدير فمات قبل أن أصل به إليه، فخرجت به عن القرية وحفرتُ له قبرًا
ودفنته. فلما دخل الليل وذهب نصفه، صرخت تلك المرأة وهي في فراشها صرخةً، فاجتمع
إليها أهل القرية وسألوها عن قصتها، فقالت: بينما أنا نائمة إذ دخل عليَّ هذا
الرجل المسلم، فأخذ بيدي وانطلق بي إلى الجنة، فلما صار بي إلى بابها منعني خازنها
من دخولها، وقال: إنها محرمة على الكافرين. فأسلمْتُ على يديه ودخلتُ معه، فرأيتُ
فيها من القصور والأشجار ما لا يمكن أن أصفه لكم، ثم إنه أخذني إلى قصر من الجوهر،
وقال لي: إن هذا القصر لي ولك، وأنا لا أدخله إلا بكِ، وبعد خمس ليالٍ تكونين عندي
فيه إن شاء الله تعالى. ثم مدَّ يده إلى شجرة على باب ذلك القصر فقطف منها تفاحتين
وأعطانيهما، وقال: كلي هذه، وأخفي الأخرى حتى يراها الرهبان. فأكلتُ واحدة فما
رأيتُ أطيب منها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 414﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية قالت: لما قطف التفاحتين أعطانيهما وقال: كلي
هذه، وأخفي الأخرى حتى يراها الرهبان. فأكلتُ واحدة فما رأيت أطيب منها، ثم إنه
أخذ بيدي، وخرج بي حتى أوصلني إلى داري، فلما استيقظتُ من منامي وجدتُ طعْمَ
التفاح في فمي، والتفاحة الثانية عندي. ثم أخرجَتِ التفاحةَ فأشرقت في ظلام الليل
كأنها كوكب دري، فجاءوا بالمرأة إلى الدير ومعها التفاحة؛ فقصَّتْ علينا الرؤيا
وأخرجت لنا التفاحة، فلم نَرَ شيئًا مثلها في سائر فواكه الدنيا، فأخذتُ سكينًا
وشقَّقتها على عدد أصحابي، فما رأينا ألذَّ من طعمها، ولا أطيب من ريحها. فقلنا:
لعل هذا شيطان تمثَّلَ إليها ليغويها عن دينها. فأخذها أهلها وانصرفوا، ثم إنها
امتنعت عن الأكل والشرب، فلما كانت الليلة الخامسة قامت من فراشها، وخرجت من
بيتها، وتوجَّهت إلى قبر ذلك المسلم، وألقَتْ نفسها عليه وماتت، ولم يعلم بها
أهلها. فلما كان وقت الصباح أقبل على القرية شيخان مسلمان عليهما ثياب من الشعر،
ومعهما امرأتان كذلك، فقالا: يا أهل القرية، إن لله تعالى عندكم ولية من أوليائه
قد ماتت مسلمة، ونحن نتولاها دونكم. فطلب أهل القرية تلك المرأة فوجدوها على القبر
ميتة، فقالوا: هذه صاحبتنا قد ماتت على ديننا ونحن نتولاها. وقال الشيخان: إنها ماتت
مسلمة، ونحن نتولاها. واشتدَّ الخصام والنزاع بينهم، فقال أحد الشيخين: إن علامة
إسلامها أن يجتمع رهبان الدير الأربعون ويجذبوها عن القبر، فإن قدروا على حملها من
الأرض فهي نصرانية، وإن لم يقدروا على ذلك يتقدَّم واحدٌ منَّا ويجذبها، فإن جاءت
معه فهي مسلمة. فرضي أهل القرية بذلك، واجتمع الأربعون راهبًا، وقوَّى بعضهم
بعضًا، وأتوها ليحملوها فلم يقدروا على ذلك، فربطنا في وسطها حبلًا عظيمًا،
وجذبناها فانقطع الحبل ولم تتحرك، فتقدَّم أهل القرية وفعلوا كذلك فلم تتحرك من
موضعها، فلما عجزنا عن حملها بكل حيلة قلنا لأحد الشيخين: تقدَّمْ أنت واحملها.
فتقدَّمْ إليها أحدهما، ولفَّها في ردائه وقال: بسم الله الرحمن الرحيم، وعلى ملة
رسول الله ﷺ. ثم حملها
في حضنه، وانصرف بها المسلمون إلى غار هناك فوضعوها فيه، وجاءت المرأتان
فغسَّلَتَاها، وكفنتاها، ثم حملها الشيخان وصلَّيَا عليها، ودفناها إلى جانب قبره
وانصرفا، ونحن نشاهد هذا كله. فلما خلا بعضنا ببعض قلنا: إن الحق أحقُّ أن
يُتَّبَع، وقد وضح الحق لنا بالمشاهدة والعيان، ولا برهان لنا على صحة الإسلام
أوضح لنا مما رأيناه بأعيننا. ثم أسلمتُ وأسلَمَ رهبان الدير جميعهم، وكذلك أهل
القرية. ثم إنا بعثنا إلى أهل الجزيرة نستدعي فقيهًا يعلِّمنا شرائع الإسلام
وأحكام الدين؛ فجاءنا رجل فقيه صالح، فعلَّمَنا العبادةَ وأحكامَ الإسلام، ونحن
اليوم على خير كثير، ولله الحمد والمنَّة.
حكاية أبي عيسى وعشقه لقرة العين
ومما
يُحكَى أن عمرو بن مسعدة قال: كان أبو عيسى بن الرشيد أخو المأمون عاشقًا لقرَّة
العين جارية علي بن هشام، وكانت هي أيضًا عاشقة له، ولكن كان أبو عيسى كاتمًا
لهواه فلا يبوح به ولا يشكوه إلى أحد، ولم يُطلِع أحدًا على سره، وكل ذلك من
نَخْوته ومروءته، وكان يجتهد في ابتياعها من مولاها بكل حيلةٍ فلم يقدر على ذلك،
فلما عيل صبره واشتدَّ وَجْده وعجز عن الحيلة في أمرها، دخل على المأمون في يوم
موسم بعد انصراف الناس من عنده وقال: يا أمير المؤمنين، إنك لو امتحنتَ فؤادك في
هذا اليوم على حين غفلةٍ منهم، لتعرف أهل المروءة من غيره، ومحلَّ كل واحد منهم
وقدرَ همته. وإنما قصد أبو عيسى بهذا الكلام أن يتصل بذلك إلى الجلوس مع قرَّة
العين في دار مولاها، فقال المأمون: إن هذا الرأي صواب. ثم أمر أن يشدوا له زورقًا
اسمه الطيار، فقدموه له فركبه ومعه جماعة من خواصه، فأول قصر دخله قصر حميد الطويل
الطوسي، ودخلوا عليه في القصر على حين غفلة منه، فوجده جالسًا … وأدرك شهرزاد
الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 415﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن المأمون ركب هو وخواصه وساروا حتى وصلوا إلى قصر حميد
الطويل الطوسي، فدخلوا قصره على حين غفلةٍ فوجدوه جالسًا على حصير، وبين يدَيْه
المغنيون وبأيديهم آلات المغاني من العيدان والنايات وغيرها، فجلس المأمون ساعةً
ثم حضر بين يدَيْه طعام من لحوم الدواب ليس فيه شيء من لحوم الطير، فلم يلتفت
المأمون إلى شيء من ذلك، فقال أبو عيسى: يا أمير المؤمنين، إنَّا دخلنا هذا المكان
على حين غفلة، وصاحبه لم يعلم بقدومك، فقُمْ بنا إلى مجلس هو مُعَدٌّ لك يليق بك.
فقام الخليفة هو وخواصه وصحبه أخوه أبو عيسى وتوجهوا إلى دار علي بن هشام، فلما
علم بمجيئهم قابَلَهم أحسن مقابلة وقبَّل الأرض بين يدي الخليفة، ثم ذهب بهم إلى
القصر وفتح مجلسًا لم يَرَ الراءون أحسن منه، أرضه وأساطينه وحيطانه مرخمة بأنواع
الرخام، وهو منقوش بأنواع النقوش الرومية، وأرضه مفروشة بالحُصُر السندية، وعليها
فرش بصرية، وتلك الفرش متَّخذة على طول المجلس وعرضه، فجلس المأمون ساعةً وهو
يتأمَّل البيت والسقف والحيطان، ثم قال: أطعمنا شيئًا. فأحضر إليه من وقته وساعته
قريبًا من مائة لون من الدجاج، سوى ما معها من الطيور والثرائد والقلايا والبوارد،
فلما أكل قال: أسقنا يا علي شيئًا. فأحضر إليه نبيذًا مثلثًا مطبوخًا بالفواكه
والأبازير الطيبة في أواني الذهب والفضة والبلور، والذي حضر بذلك النبيذ في المجلس
غلمان كأنهم الأقمار، عليهم الملابس الإسكندرانية المنسوجة بالذهب، وعلى صدرهم
بواط من البلور فيها ماء الورد الممسك، فتعجَّبَ المأمون مما رأى عجبًا شديدًا
وقال: يا أبا الحسن. فوثب إلى البساط وقبَّله، ثم وقف بين يدي الخليفة وقال: لبيك
يا أمير المؤمنين. فقال: أَسْمِعنا شيئًا من المغاني المطربة. فقال: سمعًا وطاعة
يا أمير المؤمنين. ثم قال لبعض أتباعه: أحضر الجواري المغنيات. فقال له: سمعًا
وطاعة. ثم غاب الخادم لحظةً وحضر ومعه عشرة من الخدم يحملون عشرة كراسي من الذهب
فنصبوها، وبعد ذلك جاءت عشر وصائف كأنهن البدور السافرة والرياض الزاهرة، وعليهم
الديباج الأسود، وعلى رءوسهن تيجان الذهب، ومشين حتى جلسن على الكراسي، وغنَّيْن
بأنواع الألحان، فنظر المأمون إلى جارية منهن، ففُتِن بظرفها وحُسْن منظرها، فقال
لها: ما اسمك يا جارية؟ قالت: اسمي سجاح يا أمير المؤمنين. فقال لها: غنِّي لنا يا
سجاح. فأطربت بالنغمات وأنشدت هذه الأبيات:
أَقْبَلْتُ
أَمْشِي عَلَى خَوْفِ مُخَالَسَةٍ مَشْيَ
الذَّلِيلِ رَأَى شِبْلَيْنِ قَدْ وَرَدَا
سَيْفِي
خَضُوعٌ وَقَلْبِي مُشْغَفٌ وَجِلُ أَخْشَى
الْعُيُونَ مِنَ الْأَعْدَاءِ وَالرَّصَدَا
حَتَّى
دَخَلْتُ عَلَى خَوْدٍ مُنَعَّمَةٍ كَظَبْيَةِ
الدَّعْصِ لَمَّا تَفْقِدِ الْوَلَدَا
فقال
لها المأمون: لقد أحسنتِ يا جارية، لمَن هذا الشعر؟ قالت: لعمرو بن معديكرب
الزبيدي، والغناء لمعبد. فشرب المأمون وأبو عيسى وعلي بن هشام، ثم انصرفت الجواري
وجاءت عشر جوارٍ أخرى، على كل واحدة منهن الوشي اليماني المنسوج بالذهب، فجلسْنَ
على الكراسي وغنَّيْنَ بأنواع الألحان، فنظر المأمون إلى وصيفةٍ منهن كأنها مهاة
رمل، فقال لها: ما اسمك يا جارية؟ فقالت: اسمي ظبية يا أمير المؤمنين. قال: غنِّي
لنا يا ظبية. فغرَّدَتْ بالشدقين وأنشدت هذين البيتين:
حُورٌ
حَرَائِرُ مَا هَمَمْنَ بِرِيبَةٍ كَظِبَاءِ
مَكَّةَ صَيْدُهُنَّ حَرَامُ
يُحْسَبْنَ
مِنْ لِينِ الْحَدِيثِ زَوَانِيَا وَيَصُدُّهُنَّ
عَنِ الْخَنَا الْإِسْلَامُ
فلما
فرغَتْ من شعرها قال لها المأمون: لله درك … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن
الكلام المباح.
﴿اللیلة 416﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية لما فرغت من إنشادها قال لها المأمون: لله
درك، لمَن هذا الشعر؟ قالت: لجرير، والغناء لابن سريج. فشرب المأمون ومَن معه، ثم
انصرفت الجواري وجاءت بعدهن عشر جوارٍ أخرى كأنهن اليواقيت، وعليهن الديباج الأحمر
المنسوج بالذهب المرصَّع بالدر والجوهر، وهن مكشوفات الرءوس، فجلسن على الكراسي
وغنَّيْنَ بأنواع الألحان، فنظر إلى جارية منهن كأنها شمس النهار، فقال لها: ما
اسمك يا جارية؟ قالت: اسمي فاتن يا أمير المؤمنين. فقال لها: غنِّي لنا يا فاتن.
فأطربت بالنغمات وأنشدت هذه الأبيات:
أَنْعِمْ
بِوَصْلِكَ لِي فَهَذَا وَقْتُهُ يَكْفِي
مِنَ الْهِجْرَانِ مَا قَدْ ذُقْتُهُ
أَنْتَ
الَّذِي جَمَعَ الْمَحَاسِنَ وَجْهُهُ
لَكِنْ عَلَيْهِ تَصَبُّرِي فَرَّقْتُهُ
أَنْفَقْتُ
عُمْرِي فِي هَوَاكَ وَلَيْتَنِي أُعْطَى
وِصَالًا بِالَّذِي أَنْفَقْتُهُ
فقال:
لله درك يا فاتن، لمَن هذا الشعر؟ فقالت: لعدي بن زيد، والطريقة قديمة. فشرب
المأمون وأبو عيسى وعلي بن هشام، ثم انصرفت الجواري وجاءت بعدهن عشر من الجواري
كأنهن الدراري، عليهن الوشي المنسوج بالذهب الأحمر، وفي أوساطهن المناطق المرصَّعة
بالجوهر، فجلسن على الكراسي وغنَّيْنَ بأنواع الألحان، فقال المأمون لجارية منهن
كأنها قضيب بان: ما اسمك يا جارية؟ قالت: اسمي رشا يا أمير المؤمنين. فقال: غنِّي
لنا يا رشا. فأطربت بالنغمات وأنشدت هذه الأبيات:
وَأَحْوَرَ
كَالْغُصْنِ يَشْفِي الْجَوَى وَيَحْكِي
الْغَزَالَ إِذَا مَا رَنَا
شَرِبْتُ
الْمُدَامَ عَلَى خَدِّهِ وَنَازَعْتُهُ
الْكَأْسَ حَتَّى انْثَنَى
فَبَاتَ
ضَجِيعِي وَبِتْنَا مَعًا وَقُلْتُ
لِنَفْسِي: هَذَا الْمُنَى
فقال
لها المأمون: أحسنتِ يا جارية، زيدينا. فقامت الجارية وقبَّلَتِ الأرض بين يديه،
وغنَّتْ بهذا البيت:
خَرَجَتْ
تَشْهَدُ الرِّفَاقَ رُوَيْدًا فِي
قَمِيصٍ مُضَمَّخٍ بِالْعَبِيرِ
فطرب
المأمون لذلك البيت طربًا عظيمًا، فلما رأت الجارية طرب المأمون، صارت تردِّد
الصوت بهذا البيت، ثم إن المأمون قال: قدِّموا الطيار. وأراد أن يركب ويتوجه، فقام
علي بن هشام وقال: يا أمير المؤمنين عندي جارية اشتريتها بعشرة آلاف دينار قد
أخذَتْ مجامع قلبي، وأريد أن أعرضها على أمير المؤمنين، فإن أعجبته ورضيها فهي له،
وإلا فيسمع منها شيئًا. فقال الخليفة: عليَّ بها. فخرجَتْ جارية كأنها قضيب بان،
لها عينان فتَّانتان، وحاجبان كأنهما قوسان، وعلى رأسها تاج من الذهب الأحمر
مرصَّع بالدر والجوهر، تحته عصابة مكتوب عليها بالزبرجد هذا البيت:
جِنِّيَّةٌ
وَلَهَا جِنٌّ تُعَلِّمُهَا رَمْيَ
الْقُلُوبِ بِقَوْسٍ مَا لَهَا وَتَرْ
ومشت
تلك الجارية كأنها غزال شارد وهي تفتن العابد، ولم تزل ماشية حتى جلست على الكرسي.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 417﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية مشت كأنها غزال شارد وهي تفتن العابد، ولم
تزل ماشية حتى جلست على الكرسي، فلما رآها المأمون تعجَّبَ من حُسْنها وجمالها، وجعل
أبو عيسى يتوجَّع من فؤاده، واصفرَّ لونه وتغيَّرَ حاله، فقال له المأمون: ما لك
يا أبا عيسى قد تغيَّرَ حالك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، بسبب علَّةٍ تعتريني في بعض
الأوقات. فقال له الخليفة: أتعرف هذه الجارية قبل اليوم؟ قال: نعم يا أمير
المؤمنين، وهل يخفى القمر؟ ثم قال لها المأمون: ما اسمك يا جارية؟ قالت: اسمي
قرَّة العين يا أمير المؤمنين. قال لها: غنِّي لنا يا قرَّةَ العين. فغَنَّتْ
بهذين البيتين:
ظَعَنَ
الْأَحِبَّةُ عَنْكَ بِالْإِدْلَاجِ
وَلَقَدْ سَرَوْا سَحَرًا مَعَ الْحُجَّاجِ
ضَرَبُوا
خِيَامَ الْعِزِّ حَوْلَ قِبَابِهِمْ
وَتَسَتَّرُوا بِأَكِلَّةِ الدِّيبَاجِ
فقال
لها الخليفة: لله درك! لمَن هذا الشعر؟ قالت: لدعبل الخزاعي، والطريقة لزرزور
الصغير. فنظر إليها أبو عيسى وخنقته العَبْرة حتى تعجَّبَ منه أهلُ المجلس،
فالتفتت الجارية إلى المأمون وقالت له: يا أمير المؤمنين، أتأذن لي في أن أغيِّر
الكلام. فقال لها: غنِّي بما شئتِ. فأطربت بالنغمات وأنشدت هذه الأبيات:
إِذَا
كُنْتَ تُرْضِيهِ وَيُرْضِيكَ صَاحِبٌ
جِهَارًا فَكُنْ فِي الْغَيْبِ أَحْفَظَ لِلْوُدِّ
وَالْغِ
أَحَادِيثَ الْوُشَاةِ فَقَلَّمَا يُحَاوِلُ
وَاشٍ غَيْرَ هِجْرَانِ ذِي وُدِّ
وَقَدْ
زَعَمُوا أَنَّ الْمُحِبَّ إِذَا دَنَا
يَمَلُّ وَأَنَّ الْبُعْدَ يَشْفِي مِنَ الْوَجْدِ
بِكُلٍّ
تَدَاوَيْنَا فَلَمْ يُشْفَ مَا بِنَا
عَلَى أَنَّ قُرْبَ الدَّارِ خَيْرٌ مِنَ الْبُعْدِ
عَلَى
أَنَّ قُرْبَ الدَّارِ لَيْسَ بِنَافِعٍ
إِذَا كَانَ مَنْ تَهْوَاهُ لَيْسَ بِذِي وُدِّ
فلما
فرغت من شعرها قال أبو عيسى: يا أمير المؤمنين … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن
الكلام المباح.
﴿اللیلة 418﴾
قالت: بلغني أيها الملك السعيد،
أن قرة العين لما فرغَتْ من شعرها قال أبو عيسى: يا أمير المؤمنين إذا افتضحنا
استرحنا، أتأذن لي في جوابها؟ فقال له الخليفة: نعم، قُلْ لها ما شئتَ. فكَفْكَفَ
دمعَ العين، وأنشد هذين البيتين:
سَكَتُّ
وَلَمْ أَقُلْ إِنِّي مُحِبٌّ وَأَخْفَيْتُ
الْمَحَبَّةَ عَنْ ضَمِيرِي
فَإِنْ
ظَهَرَ الْهَوَى فِي الْعَيْنِ مِنِّي
فَدَانِيَةٌ مِنَ الْقَمَرِ الْمُنِيرِ
فأخذَتِ
العود قرَّة العين، وأطربت بالنغمات وغنَّتْ هذه الأبيات:
لَوْ
كَانَ مَا تَدَّعِيهِ حَقًّا لَمَا
تَعَلَّلْتَ بِالْأَمَانِي
وَلَا
تَصَبَّرْتَ عَنْ فَتَاةٍ بَدِيعَةِ
الْحُسْنِ وَالْمَعَانِي
لَكِنَّ
دَعْوَاكَ لَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ
سِوَى الْقَوْلِ بِاللِّسَانِ
فلما
فرغت قرة العين من شعرها، جعل أبو عيسى يبكي وينتحب ويتوجَّع ويضطرب، ثم رفع رأسه
إليها، وصعَّدَ الزفرات وأنشد هذه الأبيات:
تَحْتَ
ثِيَابِي جَسَدٌ نَاحِلُ وَفِي
فُؤَادِي شُغُلٌ شَاغِلُ
وَلِي
فُؤَادٌ دَاؤُهُ دَائِمٌ وَمُقْلَةٌ
مَدْمَعُهَا هَاطِلُ
وَكُلَّمَا
سَالَمَنِي عَاقِلُ قَامَ لِحِينِي
فِي الْهَوَى عَاذِلُ
يَا
رَبُّ لَا أَقْوَى عَلَى كُلِّ ذَا مَوْتٌ
وَإِلَّا فَرَجٌ عَاجِلُ
فلما
فرغ أبو عيسى من شعره، وثب علي بن هشام إلى رجله فقبَّلَها وقال له: يا سيدي، قد
استجاب الله دعاءك وسمع نجواك وأجابك إلى أخذها بجميع متعلقاتها من التحف
واللطائف، إن لم يكون لأمير المؤمنين غرض فيها. فقال المأمون: ولو كان لنا غرض
فيها لَآثرنا أبا عيسى على أنفسنا، وساعدناه على قصده. ثم قام المأمون وركب في
الطيار، وتخلَّفَ أبو عيسى لأخذ قرة العين، ثم أخذها وانصرف بها إلى منزله وهو
منشرح الصدر، فانظر إلى مرؤة علي بن هشام.
حكاية الأمين وعمه إبراهيم بن المهدي
ومما
يُحكَى أن الأمين أخا المأمون، دخل دار عمه إبراهيم بن المهدي، فرأى بها جارية
تضرب بالعود، وكانت من أحسن النساء، فمال قلبه إليها، فظهر ذلك عليه لعمه إبراهيم،
فلما ظهر له ذلك من حاله بعثها إليه مع ثياب فاخرة وجواهر نفيسة، فلما رآها الأمين
ظنَّ أن عمه إبراهيم بنى بها، فكَرِه الخلوة بها من أجل ذلك، وقبل ما كان معها من
الهدية ورَدَّها إليه، فعلم إبراهيم بذلك الخبر من بعض الخدم، فأخذ قميصًا من
الوشي وكتب على ذيله بالذهب هذين البيتين:
لَا
وَالَّذِي سَجَدَ الْجُبَاةُ لَهُ مَا
لِي بِمَا تَحْتَ ذَيْلِهَا خَبَرُ
وَلَا
بِفِيهَا وَلَا هَمَمْتُ بِهِ مَا
كَانَ إِلَّا الْحَدِيثُ وَالنَّظَرُ
ثم
ألبسها القميص وناوَلَها عودًا وبعثها إليه ثانيًا، فلما دخلت عليه قبَّلَتِ الأرض
بين يديه، وأصلحت العود وغنَّتْ عليه بهذين البيتين:
هَتَكْتَ
الضَّمِيرَ بِرَدِّ التُّحَفْ وَقَدْ
بَانَ هَجْرُكَ لِي وَانْكَشَفْ
فَإِنْ
كُنْتَ تَحْقِدُ شَيْئًا مَضَى فَهَبْ
لِلْخِلَافَةِ مَا قَدْ سَلَفْ
فلما
فرغَتْ من شعرها نظر إليها الأمين، فرأى ما على ذيل القميص فلم يملك نفسه. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 419﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الأمين لما نظر إلى الجارية رأى ما على ذيل القميص،
فلم يملك نفسه بل أدناها منه وقبَّلها وأفرد لها مقصورة من المقاصير، وشكر عمه
إبراهيم على ذلك، وأنعم عليه بولاية الريِّ.
حكاية المتوكل والفتح بن خاقان
ومما
يُحكَى أن المتوكل شرب دواءً، فجعل الناس يهدون إليه طرائف التحف وأنواع الهدايا،
وأهدى إليه الفتح بن خاقان جاريةً بِكْرًا ناهدًا من أحسن نساء زمانها، وأرسل معها
أناء بلور فيه شراب أحمر، وجامًا أحمر مكتوبًا عليه بالسواد هذه الأبيات:
إِذَا
خَرَجَ الْإِمَامُ مِنَ الدَّوَاءِ وَأُعْقِبَ
بِالسَّلَامَةِ وَالشِّفَاءِ
فَلَيْسَ
لَهُ دَوَاءٌ غَيْرَ شُرْبٍ بِهَذَا
الْجَامِ مِنْ هَذَا الطِّلَاءِ
وَفَضِّ
الْخَاتِمِ الْمُهْدَى إِلَيْهِ فَهَذَا
صَالِحٌ بَعْدَ الدَّوَاءِ
فلما
دخلت الجارية بما معها على الخليفة، كان عنده يوحنا الطبيب، فلما رأى الطبيب
الأبيات تبسَّمَ وقال: والله يا أمير المؤمنين، إن الفتح أعرف مني بصناعة الطب،
فلا يخالفه أمير المؤمنين فيما وصفه له. فقَبِل الخليفة رأيَ الطبيب واستعمل ذلك
الدواء على مقتضى مضمون الأبيات، فشفاه الله وحقَّقَ ما رجاه.
حكاية في محاسن اختلاف الأجناس
ومما
يُحكَى أن بعض الفضلاء قال: ما رأيت في النساء أذكى خاطرًا، وأحسن فطنة، وأغزر
علمًا، وأجود قريحة، وأظرف أخلاقًا من امرأة واعظة من أهل بغداد يقال لها سيدة
المشايخ؛ اتفق أنها جاءت إلى مدينة حماة سنة إحدى وستين وخمسمائة، فكانت تعظ الناس
على الكرسي وعظًا شافيًا، وكان يتردد على منزلها جماعة من المتفقهين وذوي المعارف
والآداب يطارحونها مسائل الفقه، ويناظرونها في الخلاف؛ فمضيتُ إليها ومعي رفيق من
أهل الأدب، فلما جلسنا عندها وضعت بين أيدينا طبقًا من الفاكهة، وجلست هي خلف ستر،
وكان لها أخٌ حَسَنُ الصورة قائمًا على رءوسنا في الخدمة، فلما أكلنا شرعنا في
مطارحة الفقه؛ فسألتُها مسألةً فقهيةً مشتملة على خلاف بين الأئمة، فشرعَتْ تتكلم
في جوابها وأنا أصغي إليها، وجعل رفيقي ينظر إلى وجه أخيها، ويتأمل في محاسنه، ولا
يصغي إليها، وهي تلحظه من وراء الستر. فلما فرغَتْ من كلامها التفتَتْ إليه وقالت:
أظنك ممَّنْ يفضِّل الرجالَ على النساء. قال: أجل. قالت: ولِمَ ذلك؟ قال: لأن الله
فضَّل الذكرَ على الأنثى. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 420﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الشيخ أجابها بقوله: لأن الله فضَّل الذكر على
الأنثى، وأنا أحب الفاضل وأكره المفضول. فضحكَتْ، ثم قالت: أتنصفني في المناظرة إن
ناظرتُكَ في هذا المبحث؟ قال: نعم. قالت: فما الدليل على تفضيل الذكر على الأنثى؟
قال: المنقول والمعقول؛ أما المنقول فالكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى: الرِّجَالُ
قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ،
وقوله تعالى: فَإِنْ
لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، وقوله تعالى في الميراث: وَإِن كَانُوا
إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ فالله
سبحانه وتعالى فضَّل الذكر على الأنثى في هذه المواضع، وأخبر أن الأنثى على النصف
من الذكر؛ لأنه أفضل منها. وأما في السنة؛ فما رُوِي عن النبي ﷺ أنه جعل
دية المرأة على النصف من دية الرجل. وأما المعقول؛ فإن الذكر فاعل والأنثى مفعول
بها، والفاعل أفضل من المفعول به. فقالت له: أحسنتَ يا سيدي، لكنك والله أظهرتَ
حجتي عليك من لسانك، ونطقتَ ببرهان هو عليك لا لك؛ وذلك أن الله سبحانه وتعالى
إنما فضَّلَ الذكر على الأنثى بمجرد وصف الذكورية، وهذا لا نزاعَ فيه بيني وبينك،
وقد يستوي في هذا الوصف الطفل والغلام والشاب والكهل والشيخ، لا فرقَ بينهم في
ذلك، وإذا كانت الفضيلة إنما حصلت له بوصف الذكورية، فينبغي أن يميل طبعك وترتاح
نفسك إلى الشيخ كما ترتاح إلى الغلام؛ إذ لا فرْقَ بينهما في الذكورية، وإنما وقع
الخلاف بيني وبينك في الصفات المقصودة من حسن العشرة والاستمتاع، وأنتَ لم تأتِ
ببرهان على فضل الغلام على الأنثى في ذلك. فقال لها: يا سيدتي، أَمَا علمتِ ما
اختصَّ به الغلام من اعتدال القدِّ، وتوريد الخدِّ، وملاحة الابتسام، وعذوبة
الكلام؛ فالغلمان بهذا الاعتبار أفضل من النساء، والدليل على ذلك ما رُوِي عن
النبي ﷺ أنه قال: «لا تديموا النظر إلى المُرد، فإن فيهم لمحة من الحور
العين». وتفضيل الغلام على الجارية لا يخفى على أحد من الناس، وما أحسن قول أبي
نواس:
أَقَلُّ
مَا فِيهِ مِنْ فَضَائِلِهِ أَمْنُكَ
مِنْ طَمْثِهِ وَمِنْ حَبَلِهِ
وقول
الشاعر:
قَالَ
الْإِمَامُ أَبُو نُواسٍ وَهْوَ فِي
شَرْعِ الْخَلَاعَةِ وَالْمُجُونِ يُقَلَّدُ
يَا
أُمَّةً تَهْوَى الْعِذَارَ تَمَتَّعُوا
مِنْ لَذَّةٍ فِي الْخُلْدِ لَيْسَتْ تُوجَدُ
ولأن
الجارية إذ بالَغَ الواصف في وصفها، وأراد ترويجها بذِكْر محاسن أوصافها، شبَّهَها
بالغلام. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 421﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الشيخ قال: ولأن الجارية إذا بالَغَ الواصف في وصفها،
وأراد ترويجها بذكر محاسن أوصافها، شبَّهها بالغلام لما له من المآثر، كما قال
الشاعر:
غُلَامِيَّةُ
الْأَرْدَافِ تَهْتَزُّ فِي الصِّبَا
كَمَا اهْتَزَّ فِي رِيحِ الشَّمَالِ قَضِيبُ
فلولا
أن الغلام أفضل وأحسن لما شُبِّهت به الجارية، واعلمي صانك الله تعالى أن الغلام
سهل القياد، موافق على المراد، حسن العشرة والأخلاق، مائل عن الخلاف للوفاق، ولا
سيما إن تنمنم عذاره، واخضرَّ شاربه، وجرت حمرة الشبيبة في وجنته حتى صار كالبدر
التمام، وما أحسن قول أبي تمام:
قَالَ
الْوُشَاةُ بَدَا فِي الْخَدِّ عَارِضُهُ
فَقُلْتُ لَا تُكْثِرُوا مَا ذَاكَ عَايِبُهُ
لَمَّا
اسْتَقَلَّ بِأَرْدَافٍ تُجَاذِبُهُ
وَاخْضَرَّ فَوْقَ جُمَانِ الدُّرِّ شَارِبُهُ
وَأَقْسَمَ
الْوَرْدُ أَيْمَانًا مُغَلَّظَةً ألَّا
تُفَارِقَ خَدَّيْهِ عَجَائِبُهُ
كَلَّمْتُهُ
بِجُفُونٍ غَيْرِ نَاطِقَةٍ فَكَانَ
مِنْ رَدِّهِ مَا قَالَ حَاجِبُهُ
الْحُسْنُ
مِنْهُ عَلَى مَا كُنْتَ تَعْهَدُهُ
وَالشِّعْرَ أَحْرَزَهُ مِمَّنْ يُطَالِبُهُ
أَحْلَى
وَأَحْسَنُ مَا كَانَتْ شَمَائِلُهُ
إِذْ لَاحَ عَارِضُهُ وَاخْضَرَّ شَارِبُهُ
وَصَارَ
مَنْ كَانَ يُلْحَى فِي مَحَبَّتِهِ
إِنْ يُحْكَ عَنِّي وَعَنْهُ قَالَ صَاحِبُهُ
وقال
الآخَر وأجاد:
قَالَ
الْعَوَاذِلُ: مَا هَذَا الْغَرَامُ بِهِ
أَمَا تَرَى الشَّعْرَ فِي خَدَّيْهِ قَدْ نَبَتَا
فَقُلْتُ:
وَاللهِ لَوْ أَنَّ الْمُفَنِّدَ لِي
تَأَمَّلَ الرُّشْدَ فِي عَيْنَيْهِ مَا ثَبَتَا
وَمَنْ
أَقَامَ بِأَرْضٍ لَا نَبَاتَ بِهَا
فَكَيْفَ يَرْحَلُ عَنْهَا وَالرَّبِيعُ أَتَى
وقول
الآخَر:
قَالَ
الْعَوَاذِلُ عَنِّي قَدْ سَلَا كَذِبُوا
مَنْ مَسَّهُ الشَّوْقُ لَا يَعْرُوهُ سُلْوَانُ
مَا
كُنْتُ أَسْلُو وَوَرْدُ الْخَدِّ مُنْفَرِدٌ فَكَيْفَ أَسْلُو وَحَوْلَ الْوَرْدِ
رَيْحَانُ
وقول
الآخَر:
وَمُهَفْهَفٍ
أَلْحَاظُهُ وَعِذَارُهُ يَتَعَاضَدَانِ
عَلَى قِتَالِ النَّاسِ
سَفَكَ
الدِّمَاءَ بِصَارِمٍ مِنْ نَرْجِسٍ
كَانَتْ حَمَائِلُ غِمْدِهِ مِنْ آسِ
وقول
الآخَر:
مَا
مِنْ سُلَافَتِهِ سَكِرْتُ وَإِنَّمَا
تَرَكَتْ سَوَالِفُهُ الْأَنَامَ سُكَارَى
حَسَدَ
الْمَحَاسِنُ بَعْضَهَا حَتَّى اشْتَهَتْ
كُلُّ الْمَحَاسِنِ أَنْ تَكُونَ عِذَارَا
فهذه
فضيلة في الغلمان لم تُعطَها النساء، وكفى بذلك للغلمان عليهن فخرًا ومزيَّة.
فقالت له: عافاكَ الله تعالى، إنك قد شرطتَ على نفسك المناظرة، وقد تكلَّمتَ وما
قصَّرتَ، واستدللتَ بهذه الأدلة على ما ذكرتَ، ولكن الآن قد حصحص الحقُّ فلا تعدل
عن سبيله، وإن لم تقنع بإجمال الدليل فأنا آتيك بتفصيله؛ بالله عليك أين الغلام من
الفتاة؟ ومَن يقيس السخل على المهاة؟ إنما الفتاة رخيمة الكلام، حَسَنة القوام،
فهي كقضيب الريحان، بثغر كالأقحوان، وشعر كالأرسان، وخدٍّ كشقائق النعمان، ووجه
كتفاح، وشفة كالراح، وثدي كالرمان، ومعاطف كالأغصان، وهي ذات قدٍّ معتدل، وجسم
متجدل، وخد كحد السيف اللائح، وجبين واضح، وحاجبين مقرونين، وعينين كحلاوين، إنْ
نطقَتْ فاللؤلؤ الرطب يتناثر من فِيها، وتجذب القلوب برقة معانيها، وإن تبسَّمَتْ
ظننتَ البدر يتلألأ من بين شفتَيْها، وإنْ رنت فالسيوف تُسلُّ من مقلتيها، إليها
تنتهي المحاسن، وعليها مدار الظاعن والقاطن، ولها شفتان حمراوان ألين من الزبد،
وأحلى مذاقًا من الشهد. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 422﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن المرأة الواعظة لما وصفت الفتاة قالت: ولها شفتان
حمراوان ألين من الزبد، وأحلى مذاقًا من الشهد. ثم قالت بعد ذلك: ولها صدر كجادة
الفجاج، فيه ثديان كأنهما حقَّان من عاج، وبطن لطيف الكشح كالزهر الغض، وعكن قد
انعطفت وانطوى بعضها على بعض، وفخذان ملتفان كأنهما من الدر عمودان، وأرداف تموج
كأنها بحر من بلور أو جبال من نور، ولها قدمان لطيفتان، وكفان كأنهما سبائك
العقبان، فيا مسكين أين الإنس من الجان؟ أَمَا علمتَ أن الملوك القادة والأشراف
السادة أبدًا للنساء خاضعون، وعليهن في التلذُّذ معتمدون؟ وهنَّ يقُلْنَ: قد ملكنا
الرقاب وسلبنا الألباب، فالأنثى كم غنيٍّ أفقرته، وعزيزٍ أذَلَّتْه، وشريفٍ
استخدمته، فالنساء قد فتنَّ الأدباء، وهتكن الأنقياء، وأفقرن الأغنياء، وصيَّرن أهل
النعيم أشقياء، ومع ذلك لا تزداد العقلاء لهن إلا محبة وإجلالًا، ولا يعدُّون ذلك
ضيمًا ولا إذلالًا، فكم عبدٍ قد عصى فيهن ربه وأسخط أباه وأمه! كل ذلك لغلبة
هواهنَّ على القلوب؛ أَمَا علمتَ يا مسكين أن لهنَّ تُبنَى القصور، وعليهن تُرخَى
الستور، ولهنَّ تُشترَى الجواري، وعليهن الدمع جارٍ، ولهن يُتَّخذ المسك الأذفر
والحلي والعنبر، ولأجلهن تُجمَع العساكر وتُعقَد الدساكر، وتُجمَع الأرزاق وتُضرب
الأعناق؟ ومَن قال إن الدنيا عبارة عن النساء كان صادقًا.
وأما
ما ذكرتَ من الحديث الشريف فهو حجة عليك لا لك؛ لأن النبي ﷺ قال: «لا
تديموا النظر إلى المرد فإن فيهم لمحة من الحور العين». فشبَّه المرد بالحور
العين، ولا شك أن المشبَّه به أفضل من المشبَّه، فلولا أن النساء أفضل وأحسن لما
شُبِّه بهن غيرهن. وأما قولك إن الجارية تُشبَّه بالغلام، فليس الأمر كذلك، بل
الغلام يُشبَّه بالجارية فيقال: هذا الغلام كأنه جارية.
وأما
ما استدللتَ به من الأشعار فهي ناشئة عن شذوذ الطبيعة عند الاعتبار، وأما اللاطة
العادون والفَسَقة المخالفون، الذين ذمَّهم الله تعالى في كتابه العزيز، وأنكر
عليهم فعلهم الشنيع فقال: أَتَأْتُونَ
الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِنْ
أَزْوَاجِكُم ۚ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ، فهؤلاء الذين يشبِّهون الجارية
بالغلام؛ لغلُوِّهم في الفسق والعصيان واتِّباع النفس والشيطان، حتى قالوا إنها
تصلح للأمرين جميعًا، عدولًا منهم عن سلوك طريق الحق عند الناس، كما قال كبيرهم
أبو نواس:
مَمْشُوقَةُ
الْخَصْرِ غُلَامِيَّةٌ تَصْلُحُ
لِلُّوطِيِّ وَالزَّانِي
وأما
ما ذكرتَه من حسن نبات العذار، واخضرار الشارب، وأن الغلام يزداد به حسنًا
وجمالًا؛ فوالله لقد عدلت عن الطريق، وقلتَ غير التحقيق؛ لأن العذار يبدل حسنات
الجمال بالسيئات. ثم أنشدَتْ هذه الأبيات:
بَدَا
الشَّعْرُ فِي وَجْهِهِ فَانْتَقَمْ
لِعَاشِقِهِ مِنْهُ لَمَّا ظَلَمْ
وَلَمْ
أَرَ فِي وَجْهِهِ كَالدُّخَانِ إِلَّا
وَسَالِفُهُ كَالْحِمَمْ
إِذَا
اسْوَدَّ فَاضِلُ قِرْطَاسِهِ فَمَا
ظَنُّكُمْ بِمَكَانِ الْقَلَمْ
فَإِنْ
فَضَّلُوهُ عَلَى غَيْرِهِ فَمَا
ذَاكَ إِلَّا لِجَهْلِ الْحَكَمْ
فلما
فرغت من شعرها قالت للرجل: سبحان الله العظيم … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن
الكلام المباح.
﴿اللیلة 423﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن المرأة الواعظة لما فرغت من شعرها قالت للرجل: سبحان
الله العظيم، كيف يخفى عليك أن كمال اللذة في النساء، وأن النعيم المقيم لا يكون
إلا بهِنَّ؟ وذلك أن الله سبحانه وتعالى وعد الأنبياء والأولياء في الجنة بالحور
العين، وجعلهن جزاء لأعمالهم الصالحة، ولو علم الله تعالى أن في غيرهن لذة
الاستمتاع لجزاهم به، ووعدهم إياه، وقال ﷺ «حُبِّب إليَّ من دنياكم ثلاث:
النساء، والطيب، وقرَّة عيني في الصلاة». وإنما جعل الله الولدان خدمًا للأنبياء
والأولياء في الجنة؛ لأن الجنة دار نعيم وتلذُّذ، ولا يكمل ذلك إلا بخدمة الولدان.
وأما استعمالهم لغير الخدمة فهو من الخبال والوبال، وما أحسن قول الشاعر حيث قال:
لَحَاجَةُ
الْمَرْءِ فِي الْأَدْبَارِ إِدْبَارُ
وَالْمَائِلُونَ إِلَى الْأَحْرَارِ أَحْرَارُ
كَمْ
مِنْ ظَرِيفٍ لَطِيفٍ بَاتَ مُمْتَطِيًا
رِدْفَ الْغُلَامِ فَأَضْحَى وَهْوَ عَطَّارُ
تَصْفَرُّ
أَثْوَابُهُ مِنْ وَرَسِ فَقْحَتِهِ
فَيَسْتَبِينُ لِذَاكَ الْخِزْيُ وَالْعَارُ
لَا
يَسْتَطِيعُ جُحُودًا إِذْ تُقَذِّرُهُ
يَوْمًا وَفِي ثَوْبِهِ لِلسَّلْحِ آثَارُ
كَمْ
بَيْنَ ذَاكَ وَمَنْ بَاتَتْ مَطِيَّتَهُ
حَوْرَاءُ نَاظِرُهَا بِاللَّحْظِ سَحَّارُ
يَقُومُ
عَنْهَا وَقَدْ أَهْدَتْ لَهُ أَرِجًا
تَضَوَّعَتْ مِنْ غَوَالِي طِيبِهِ الدَّارُ
لَيْسَ
الْغُلَامُ لَهَا عِدْلًا يُقَاسُ بِهَا
وَهَلْ يُقَاسُ بِعُودِ النَّدِّ أَقْذَارُ
ثم
قالت: يا قوم، لقد أخرجتموني عن قانون الحياء ودائرة أحرار النساء، إلى ما لا يليق
بالعلماء من اللغو والفحشاء، ولكنَّ صدور الأحرار قبور الأسرار، والمجالس
بالأمانات، وإنما الأعمال بالنيَّات، وأنا أستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر
المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم.
ثم
سكتَتْ فلم تُجِبنا عن شيء بعد ذلك، فخرجنا من عندها مسرورين بما استفدناه من
مناظرتها متأسِّفين على مفارقتها.
حكاية أبي سويد والعجوز الصبيحة
ومما
يُحكَى أن أبا سويد قال: اتفق أنني أنا وجماعة من أصحابي دخلنا بستانًا يومًا من
الأيام لنشتري شيئًا من الفاكهة، فرأينا في جانب ذلك البستان عجوزًا صبيحة الوجه
غير أن شعر رأسها أبيض، وهي تسرِّحه بمشط من العاج، فوقفنا عندها فلم تحتفل بنا،
ولم تُغطِّ رأسها، فقلت لها: يا عجوز، لو صبغتِ شعرك أسود لَكنتِ أحسن من صبية،
فما منعك من ذلك؟ فرفعت رأسها إليَّ … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام
المباح.
﴿اللیلة 424﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن أبا سويد قال: لما قلتُ للعجوز ذلك الكلام رفعَتْ
رأسَها إليَّ، وحملقت العينين، وأنشدت هذين البيتين:
وَصَبَغْتُ
مَا صَبَغَ الزَّمَانُ فَلَمْ يَدُمْ
صِبْغِي وَدَامَتْ صَبْغَةُ الْأَيَّامِ
أَيَّامَ
أَرْفُلُ فِي ثِيَابِ شَبِيبَتِي وَأُنَاكَ
مِنْ خَلْفِي وَمِنْ قُدَّامِي
فقلت
لها: لله دَرُّك من عجوز! ما أصدقك في اللهج بالحرام! وأكذبك في دعوى التوبة من
الآثام.
حكاية علي بن طاهر والجارية مؤنس
ومما
يُحكَى أن علي بن محمد بن عبد الله بن طاهر استعرض جارية اسمها مؤنس للشراء، وكانت
فاضلة أديبة شاعرة، فقال لها: ما اسمك يا جارية؟ قالت: أعَزَّ الله الأمير، اسمي
مؤنس. وكان قد عرف اسمها قبل ذلك، فأطرق ساعة ثم رفع رأسه إليها، وأنشد هذا البيت:
مَاذَا
تَقُولِينَ فِيمَنْ شَفَّهُ سَقَمُ مِنْ أَجْلِ حُبِّكِ حَتَّى صَارَ
حَيْرَانَا
فقالت:
أعَزَّ الله الأمير. وأنشدت هذا البيت:
إِذَا
رَأَيْنَا مُحِبًّا قَدْ أَضَرَّ بِهِ
دَاءُ الصَّبَابَةِ أَوْلَيْنَاهُ إِحْسَانَا
فأعجبته،
فاشتراها بسبعين ألف درهم، وأولدها عبيد الله بن محمد صاحب المآثر.
حكاية أبي العيناء عن امرأتين عاشقتين
وقال
أبو العيناء: كان عندنا في الدرب امرأتان؛ إحداهما تعشق رجلًا، والأخرى تعشق
أمردَ، فاجتمعَتَا ليلة على سطح إحداهما، وهو قريب من داري، وهما لا يعلمان بي،
فقالت صاحبة الأمرد للأخرى: يا أختي، كيف تصبرين على خشونة اللحية حين تقع على
صدرك وقت لثمك، وتقع شواربه على شفتَيْك وخدَّيك؟ فقالت لها: يا رعناء، وهل يزين
الشجر إلا ورقه، والخيار إلا زغبه؟ وهل رأيت في الدنيا أقبح من أقرع منتوف؟ أَمَا
علمتِ أن اللحية للرجل مثل الذوائب للمرأة؟ وما الفرق بين الخدِّ واللحية؟ أَمَا علمتِ
أن الله سبحانه وتعالى خلق في السماء ملكًا يقول: سبحان مَن زيَّن الرجال باللحى
والنساء بالذوائب. فلولا أن اللحى كالذوائب في الجمال لما قُرِن بينهما. يا رعناء،
ما لي أفرش نفسي تحت الغلام الذي يعاجلني إنزاله، ويسابقني انحلاله، وأترك الرجل
الذي إذا شمَّ ضمَّ، وإذا أدخل أمهل، وإذا فرغ رجع، وإذا هزَّ أجاد، وكلما خلص
عاد. فاتَّعَظَتْ صاحبة الغلام بمقالها، وقالت: سلوت صاحبي وربِّ الكعبة.
حكاية علي المصري التاجر من بغداد
ومما
يُحكَى أنه كان بمدينة مصر رجل تاجر، وكان عنده شيء كثير من مال ونقود وجواهر ومعادن
وأملاك لا تُحصَى، وكان اسمه حسن الجوهري البغدادي، وقد رزقه الله بولد حسن الوجه،
معتدل القد، مورد الخد، ذي بهاء وكمال وبهجة وجمال، فسمَّاه عليًّا المصري، وقد
علَّمَه القرآن والعلم والفصاحة والأدب، وصار بارعًا في كامل العلوم، وكان تحت يد
والده في التجارة، فحصل لوالده مرض وزاد عليه الحال، فأيقن بالموت وأحضر ولده.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 425﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن التاجر الجوهري البغدادي لما مرض وأيقن بالموت أحضر
ولده الذي اسمه علي المصري وقال له: يا ولدي، إن الدنيا فانية، والآخرة باقية، وكل
نفس ذائقة الموت، والآن يا ولدي، قد قربت وفاتي وأريد أن أوصيك وصية، إن عملتَ بها
لم تزل آمِنًا سعيدًا إلى أن تلقى الله تعالى، وإن لم تعمل بها فإنه يحصل لك تعب
زائد وتندم على ما فرَّطْتَ في وصيتي. فقال له: يا أبت، كيف لا أسمع ولا أعمل
بوصيتك، مع أن طاعتك فرض عليَّ، وسماع قولك عليَّ واجب. فقال له: يا ولدي، إني
خلفت لك أماكن ومحلات وأمتعة ومالًا لا يُحصَى، بحيث إذا كنتَ تنفق منه في كل يوم
خمسمائة دينار لم ينقص عليك شيء من ذلك، ولكن يا ولدي عليك بتقوى الله واتِّبَاع
ما أمر به من الفرائض، وباتِّبَاع المصطفى ﷺ فيما ورد عنه مما أمر به
ونهى عنه في سنته، وكُنْ مواظِبًا على فعل الخيرات، وبذل المعروف، وصحبة أهل الخير
والصلاح والعلم، وعليك بالوصية بالفقراء والمساكين، وتجنَّبِ الشحَّ والبخل وصحبة
الأشرار وذوي الشبهات، وانظر لخَدَمك وعيالك بالرأفة، ولزوجتك أيضًا فإنها من بنات
الأكابر، وهي حامل منك لعل الله يرزقك منها بالذرية الصالحة. وما زال يوصيه ويبكي
ويقول له: يا ولدي، اسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يخلِّصك من كل ضيق يحصل
لك، ويدركك بالفرج القريب منه. فبكى الولد بكاءً شديدًا وقال: يا والدي، واللهِ
إني ذبتُ من هذا الكلام، كأنك تقول قول مودِّع. فقال له: نعم يا ولدي، أنا عارف
بحالي، فلا تَنْسَ وصيتي. ثم إن الرجل صار يتشهَّد ويقرأ إلى أن حضر الوقت
المعلوم، فقال لولده: ادْنُ مني يا ولدي. فدنا منه فقبَّله وشهق، ففارقَتْ روحه
جسده وتُوفي إلى رحمة الله تعالى، فحصل لولده غاية الحزن، وعلا الضجيج في بيته،
واجتمع عليه أصحاب والده، فأخذ في تجهيزه وتشهيله وأخرجه خرجة عظيمة، وحملوا
جنازته إلى الصلاة فصلوا عليه وانصرفوا بجنازته إلى المقبرة فدفنوه، وقرءوا عليه
ما تيسَّرَ من القرآن العظيم ثم رجعوا إلى المنزل، فعَزَّوْا ولده وانصرف كلُّ
واحد منهم إلى حال سبيله، وعمل له ولده الجُمَع والختمات إلى تمام أربعين يومًا،
وهو مقيم في البيت لا يخرج إلا إلى المصلَّى، ومن يوم الجمعة إلى الجمعة يزور
والده، ولم يزل في صلاته وقراءته وعبادته مدةً من الزمان، حتى دخل عليه أقرانه من
أولاد التجار وسلَّموا عليه وقالوا له: إلى متى هذا الحزن الذي أنت فيه، وترك شغلك
وتجارتك واجتماعك على أصحابك؟ وهذا أمر يطول عليك ويحصل لجسدك منه ضرر زائد. وحين
دخلوا عليه كان صحبتهم إبليس اللعين يوسوس لهم، فصاروا يحسِّنون له أن يخرج معهم
إلى السوق، وإبليس يغريه بموافقتهم إلى أن وافَقَهم على الخروج معهم من البيت.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 426﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن أولاد التجار لما دخلوا على التاجر علي المصري ابن
التاجر حسن الجوهري، حسَّنوا له أن يخرج معهم إلى السوق، فوافَقَهم على ذلك لأمرٍ
يريده الله سبحانه وتعالى، وخرج معهم من البيت فقالوا له: اركب بغلتك وتوجَّهْ بنا
إلى البستان الفلاني لنتفرج فيه ويذهب عنك الحزن والفكر. فركب بغلته وأخذ عبده معه
وتوجَّهَ معهم إلى البستان الذي قصدوه، فلما صاروا في البستان ذهب واحد منهم وعمل
لهم الغداء وأحضره في البستان، فأكلوا وانبسطوا وجلسوا يتحدَّثون إلى آخِر النهار،
ثم ركبوا وانصرفوا وسار كلٌّ منهم إلى منزله وباتوا. فلما أصبح الصباح جاءوا إليه
وقالوا له: قُمْ بنا. فقال لهم: إلى أين؟ فقالوا: إلى البستان الفلاني، فإنه أحسن
من الأول وأنزه. فركب وتوجَّهَ معهم إلى البستان الذي قصدوه، فلما صاروا في
البستان ذهب واحد منهم وعمل لهم الغداء وأحضره إلى البستان، وأحضر صحبته المدام
المسكر، فأكلوا ثم أحضروا الشراب، فقال لهم: ما هذا؟ فقالوا له: هذا الذي يُذهِب
الحزن ويُجلِي السرور. ولم يزالوا يحسِّنونه له حتى غلبوا عليه، فشرب معهم،
واستمروا في حديث وشرب إلى آخِر النهار، ثم توجَّهوا إلى منازلهم، ولكن علي المصري
حصل له دوخة من الشراب، فدخل على زوجته وهو بهذا الحال، فقالت له: ما بالك
متغيِّرًا؟ فقال: نحن اليوم كنَّا في حظ وانبساط، ولكن بعض أصحابنا جاء لنا بماء
فشرب أصحابي وشربتُ معهم فحصلت لي هذه الدوخة. فقالت له زوجته: يا سيدي، هل نسيتَ
وصيةَ والدك، وفعلتَ ما نهاك عنه من معاشرة أصحاب الشبهات؟ فقال لها: إن هؤلاء من
أولاد التجار ولم يكونوا أصحاب شبهات، وإنما هم أصحاب حظ وانبساط.
وما
زال كلَّ يوم مع أصحابه على هذه الحالة، يتوجهون إلى محل بعد محل وهم في أكل وشرب،
إلى أن قالوا له: قد فرغ دورنا وصار الدور عليك. فقال لهم: أهلًا وسهلًا ومرحبًا.
ولما أصبح أحضر كامل ما يحتاج إليه الحال من المأكل والمشرب أضعاف ما فعلوه، وأخذ
معه الطباخين والفراشين والقهوجية، وتوجَّهوا إلى الروضة والمقياس، ومكثوا فيها
شهرًا كاملًا على أكل وشرب وسماع وانبساط، فلما مضى الشهر رأى نفسه قد صرف جملةً
من المال لها صورة، فغَرَّه إبليس اللعين وقال له: لو صرفتُ كلَّ يوم قدر الذي
صرفتُه لم ينقص مالك. فلم يبالِ بصرف المال واستمرَّ على هذا الحال مدة ثلاث
سنوات، وزوجته تنصحه وتذكِّره بوصية والده، فلم يسمع كلامها إلى أن نفَدَ المال
الذي كان عنده من النقود جميعه، فصار يأخذ من الجواهر ويبيع ويصرف أثمانها إلى أن
أنفدها، ثم أخذ في بيع البيوت والعقارات حتى لم يَبْقَ منها شيء، فلما نفدت صار
يبيع في الضياع والبساتين واحدًا بعد واحد، إلى أن ذهبَتْ جميعها ولم يَبْقَ عنده
شيء يملكه إلا البيت الذي هو فيه، فصار يقلع رخامه وأخشابه ويتصرَّف فيها إلى أن
أفناها جميعها، ونظر في نفسه فلم يجد عنده شيئًا يصرفه، فباع البيت وتصرَّفَ في
ثمنه، ثم بعد ذلك جاءه الذي اشترى منه البيت وقال له: انظر لك محلًّا فإني محتاج
إلى بيتي. فنظر في نفسه فلم يجد عنده شيئًا يحتاج إلى بيت غير زوجته، وقد ولدَتْ
منه ولدًا وبنتًا، ولم يَبْقَ عنده خَدَم غير نفسه وعياله، فأخذ له قاعة في بعض
الحيشان وسكن فيها بعد العز والدلال، وكثرة الخدم والمال، وصار لا يملك قوت يوم،
فقالت له زوجته: من هذا كنتُ أحذِّرك وأقول لك: احفظ وصية والدك، فلم تسمع قولي،
فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ومن أين تأكل الأولاد الصغار؟ فقُمْ
وطُفْ على أصحابك أولاد التجار، لعلهم يعطونك شيئًا نتقوَّت به في هذا اليوم، فقام
وتوجَّهَ إلى أصحابه واحد بعد واحد، وكلُّ مَن توجَّهَ إليه منهم يواري وجهه منه،
ويُسمِعه ما يكره من الكلام المؤلم، ولم يُعطِه أحدٌ منهم شيئًا، فرجع إلى زوجته
وقال لها: لم يعطوني شيئًا. فقامت إلى جيرانها لتطلب منهم شيئًا. وأدرك شهرزاد
الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 427﴾
قالت: بلغني أيها الملك السعيد،
أن زوجة علي المصري ابن التاجر حسن الجوهري لما رجع إليها زوجها من غير شيء، قامت
إلى جيرانها لتطلب شيئًا يتقوَّتون به في ذلك اليوم، فتوجَّهَتْ إلى امرأة كانت
تعرفها في الأيام السابقة، فلما دخلت عليها ورأت حالها، قامت وأخذتها بقبول وبكت
وقالت لها: ما الذي أصابكم؟ فحكت لها جميع ما كان من زوجها، فقالت لها: مرحبًا بك
وأهلًا وسهلًا، فجميع ما تحتاجينه اطلبيه مني من غير مقابل. فقالت لها: جزاكِ الله
خيرًا. ثم أعطتها ما يكفيها هي وعيالها مؤنة شهر كامل، فأخذته وتوجَّهَتْ إلى
محلها، فلما رآها زوجها بكى وقال لها: من أين لك ذلك؟ فقالت له: من فلانة؟ فإني
لما أخبرتها بما حصل لم تقصِّر في شيء وقالت لي: جميع ما تحتاجين إليه اطلبيه مني.
فعند ذلك قال لها زوجها: حيث صار عندك هذا، فأنا متوجِّه إلى محل أقصده لعل الله
تعالى يفرج عنا. وأخذ بخاطرها وقبَّل أولاده ثم خرج ولم يعرف أين يقصد، وما زال
ماشيًا حتى وصل إلى بولاق، فرأى مركبًا مسافرة إلى دمياط، فرآه رجلٌ كان بينه وبين
أبيه صحبه، فسلَّمَ عليه وقال له: أين تريد؟ قال: أريد دمياط، فإنَّ لي أصحابًا
أسأل عنهم وأزورهم ثم أرجع. فأخذه إلى بيته وأكرمه وعمل له زادًا، وأعطاه شيئًا من
الدنانير، وأنزله في المركب المتوجِّهة إلى دمياط، فلما وصلوا إليها طلع من المركب
ولم يعرف أين يقصد.
فبينما
هو ماشٍ إذ رآه رجل من التجار، فحنَّ عليه وأخذه معه إلى منزله، فمكث عنده مدة،
وبعد ذلك قال في نفسه: وإلى متى هذا القعود في بيوت الناس؟ ثم طلع من بيت ذلك
التاجر فرأى مركبًا مسافرة إلى الشام، فعمل له الرجل الذي كان نازلًا عنده زادًا
وأنزله في تلك المركب، وتوجَّهَتْ بهم حتى وصلوا إلى ساحل الشام، فنزل من المركب
وسافَرَ حتى دخل دمشق، فبينما هو ماشٍ في شوارعها إذ رآه رجل من أهل الخير، فأخذه
إلى منزله فأقام عنده مدة، ثم بعد ذلك خرج فرأى قافلة متوجهة إلى بغداد، فخطر
بباله أن يسافر مع تلك القافلة، ثم رجع إلى التاجر الذي كان مُقِيمًا عنده في
منزله وأخذ خاطره وطلع مع القافلة، فحنَّنَ الله سبحانه وتعالى عليه رجل من التجار،
فأخذه عنده وصار يأكل ويشرب معه إلى أن بقي بينهم وبين بغداد يوم واحد، فطلع على
القافلة جماعة من قطَّاع الطريق، فأخذوا كامل ما معهم ولم ينجُ منهم إلا القليل،
فسار كل واحد من القافلة يقصد محلًّا يأوي إليه، وأما علي المصري فإنه قصد بغداد،
ثم وصل إليها عند غروب الشمس، وما حصل باب المدينة حتى رأى البوَّابين مرادهم أن
يقفلوا الباب، فقال لهم: دعوني أدخل عندكم. فأدخلوه عندهم وقالوا له: من أين أتيتَ
وإلى أين تسير؟ فقال: أنا رجل من مدينة مصر، ومعي تجارة وبغال وأحمال وعبيد
وغلمان، فسبقتهم لكي أنظر لي محلًّا أحطُّ فيه تجارتي، فلما سبقتهم وأنا راكب على
بغلتي قابَلَني جماعة من قطَّاع الطريق فأخذوا بغلتي وحوائجي، وما نجوت منهم إلا
وأنا على آخِر رمق. فأكرموه وقالوا له: مرحبًا بك، فبِتْ عندنا إلى الصباح، ثم
ننظر لك محلًّا يليق بك. ففتَّشَ في جيبه فرأى دينارًا كان باقيًا من الدنانير
التي أعطاها له التاجر في بولاق، فأعطى ذلك الدينار لواحد من البوابين وقال له: خذ
هذا واصرفه وائتنا بشيء نأكله. فأخذه وذهب إلى السوق وصرفه وجاء له بخبز ولحم
مطبوخ، فأكل هو وإياهم ونام عندهم إلى الصباح.
ثم
أخذه رجل من البوَّابين وتوجَّه إلى رجل من تجار بغداد وحكى له حكايته، فصدَّقَه
ذلك الرجل وظنَّ أنه تاجر ومعه أحمال، فأطلعه دكانه وأكرمه وأرسل إلى منزله، فأحضر
له بدلة عظيمة من ملبوسه وأدخله الحمام. قال علي المصري ابن التاجر حسن الجوهري:
فدخلتُ معه الحمام، وعند خروجنا أخذني وتوجَّهَ بي إلى منزله وأحضر لنا الغداء،
فأكلنا وانبسطنا وقال لواحد من عبيده: يا مسعود، خذ سيدك واعرض عليه البيتين
اللذين في المكان الفلاني، والذي يعجبه منهما أَعْطِه مفتاحه وتعال. فتوجَّهْتُ
أنا والعبد حتى وصلنا إلى درب فيه ثلاثة بيوت بجانب بعضهما جديدة مقفولة، ففتح أول
بيت وتفرجت عليه، وخرجنا وتوجهنا إلى الثاني ففتحه وتفرجت عليه، فقال لي: أيهما
أعطيك مفتاحه؟ فقلت له: وهذا البيت الكبير لمَن؟ قال: لنا. قلت له: افتحه لأجل أن
نتفرَّج عليه. فقال: ليس لك حاجة به. فقلتُ له: لِمَ ذلك؟ فقال: لأنه معمور، ولم
يسكنه أحدٌ إلا ويصبح ميتًا، ولا نفتح بابه لإخراج الميت منه، بل نطلع على سطح أحد
البيتين ونُخرِجه منه، فمن ذلك تركه سيدي وقال: أنا ما بقيت أعطيه لأحد. فقلت:
افتحه لي حتى أتفرَّج عليه. وقلت في نفسي: هذا هو المطلوب، فأبيتُ فيه وأصبح ميتًا
وأرتاح من هذا الحال الذي أنا فيه. ففتحه ودخلتُه فرأيته بيتًا عظيمًا لا مثيلَ
له، فقلت للعبد: أنا ما أختار إلا هذا البيت، فأَعْطِني مفتاحَه. فقال لي العبد:
لا أعطيك المفتاح حتى أشاور سيدي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 428﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن العبد قال لي: لا أعطيك المفتاح حتى أشاور سيدي. ثم
توجَّهَ إلى سيده وقال له: إن التاجر المصري يقول: ما أسكن إلا في البيت الكبير.
فقام وجاء إلى علي المصري وقال له: يا سيدي، ليس لك بهذا البيت حاجة. فقال له علي
المصري: ما أسكن إلا فيه، ولا أبالي بهذا القول. فقال له: أكتب بيني وبينك حجة أنه
إذا حصل لك شيء لا علاقةَ لي بك. قال: كذلك. فأحضر شاهدًا من المحكمة وكتب عليه
حجة وأخذها عنده وأعطاه المفتاح، فأخذه ودخل البيت، فأرسل إليه التاجر فرشًا مع
عبد، ففرشه له على المصطبة التي خلف الباب ورجع، ثم بعد ذلك قام علي المصري ودخل،
فرأى بئرًا في حوش البيت وعليها منطال، فأنزله في البئر وملأه وتوضأ منه وصلَّى
فرضه وجلس قليلًا، فجاء له العبد بالعشاء من بيت سيده، وجاء له بقنديل وشمعة
وشمعدان وطشت وإبريق وقلَّة، ثم تركه وتوجَّهَ إلى بيت سيده، فأوقد الشمعة وتعشَّى
وانبسط وصلَّى العشاء وقال في نفسه: قُمِ اطلع فوق وخذ الفرش ونَمْ هناك أحسن من
هنا. فقام وأخذ الفرش وأطلعه فوق، فرأى قاعةً عظيمةً سقفها مُذهَّب، وأرضها
وحيطانها بالرخام الملون، ففرش فرشة وجلس يقرأ شيئًا من القرآن العظيم، فلم يشعر
إلا وشخص يناديه ويقول له: يا علي يا ابن حسن، هل أُنزِل عليك الذهب؟ قال له: وأين
الذهب الذي تُنزِله؟ فما قال له ذلك حتى صبَّ عليه ذهبًا كالمنجنيق، ولم يزل الذهب
منصبًّا حتى ملأ القاعة، فلما فرغ انصباب الذهب قال له: اعتقني حتى أتوجَّه إلى
حال سبيلي، فقد فرغَتْ خدمتي. فقال له علي المصري: أقسمتُ عليك بالله العظيم أن
تخبرني عن سبب هذا الذهب؟ فقال له: إن هذا الذهب كان مرصودًا عليك من قديم الزمن،
وكان كلُّ مَن دخل هذا البيت نأتيه ونقول له: يا علي يا ابن حسن، هل نُنزِل الذهب؟
فيخاف من كلامنا ويصرخ، فنُنْزِل له ونكسر رقبته ونروح، فلما جئتَ أنت وناديناك
باسمك واسم أبيك، وقلنا لك: هل نُنزِل الذهب؟ قلت لنا: وأين الذهب؟ فعرفنا أنك
صاحبه فأنزلناه، وبقي لك كنز في بلاد اليمن، فإذا سافرتَ وأخذتَه وأتيتَ إلى هنا
كان أولى لك، وأريد منك أن تعتقني حتى أروح إلى حال سبيلي. فقال: والله ما أعتقك
إلا إذا أتيتَني بالذي في بلاد اليمن إلى هنا. فقال له: إذا أتيتُكَ به هل تعتقني
وتعتق خادم ذلك الكنز؟ فقال: نعم. قال له: احلف لي. فحلف له، وأراد أن يتوجَّه
فقال له علي المصري: بقي لي عندك حاجة. قال: وما هي؟ قال: لي زوجة وأولاد بمصر في
المحل الفلاني ينبغي أن تأتيني بهم على راحة من غير ضرر. فقال له: آتيك بهم في موكب
من تختروان، وخدم وحشم مع الكنز الذي نأتيك به من بلاد اليمن إن شاء الله تعالى.
ثم
أخذ منه إجازة على ثلاثة أيام، ويكون جميع ذلك عنده وتوجه، فأصبح يدور في القاعة
على محل يأوي فيه الذهب، فرأى رخامة على طرف ليوان القاعة وفيها لولب، فرك اللولب
فانزاحت الرخامة وبان له باب ففتحه ودخل، فرأى خزنة كبيرة وفيها أكياس من القماش
مخيطة، فصار يأخذ الأكياس ويملؤها من الذهب ويُدخِلها في الخزنة، إلى أن حوَّلَ
الذهب جميعه وأدخَلَه الخزنة وقفل الباب وفرك اللولب، فرجعت الرخامة محلها، ثم قام
ونزل وقعد على المصطبة التي وراء الباب، فبينما هو قاعد وإذا بطارق يطرق عليه
الباب، فقام وفتحه فرآه عبد صاحب البيت، فلما رآه العبدُ جالسًا رجع بسرعة إلى
سيده. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 429﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن عبدَ صاحبِ البيت لما جاء وطرق الباب على علي المصري
ابن التاجر حسن، فتح له الباب، فلما رآه جالسًا رجع بسرعة إلى سيده ليُبشِّره،
فلما وصل إلى سيده قال له: يا سيدي، إن التاجر الذي سكن في البيت المعمور بالجن
طيِّب بخير، وهو جالس على المصطبة التي وراء الباب. فقام سيده وهو فرحان وتوجَّهَ
إلى ذلك البيت ومعه الفطور، فلما رآه عانَقَه وقبَّلَه بين عينيه وقال له: ما فعل
الله بك؟ قال: خيرًا، وما نمتُ إلا فوق في القاعة المرخمة. فقال له: هل أتاكَ شيء
أو نظرتَ شيئًا؟ قال: لا، وإنما قرأتُ ما تيسَّرَ من القرآن العظيم ونمتُ إلى
الصباح، ثم قمتُ وتوضأت ونزلت وجلست على المصطبة. فقال: الحمد لله على السلامة. ثم
قام من عنده وأرسل إليه عبيدًا ومماليك وجواري وفرشًا، فكنسوا البيت من فوق وتحت،
وفرشوه له فرشًا عظيمًا، وبقي عنده ثلاثة مماليك وثلاثة عبيد وأربع جوارٍ للخدمة،
والباقي توجَّهوا إلى بيت سيدهم، ولما سمع بخبره التجار أرسلوا إليه هدايا من كل
شيء نفيس، حتى من المأكول والمشروب والملبوس، وأخذوه عندهم في السوق وقالوا له:
متى تجيء حملتك؟ فقال لهم: بعد ثلاثة أيام تدخل. فلما مضت الثلاثة أيام، جاء له
خادم الكنز الأول الذي أنزل له الذهب من البيت وقال له: قُمْ لاقِ الكنز الذي جئتُ
لك به من اليمن، وحريمك وصحبتهم من جملة الكنز مال على صورة المتجر العظيم، وجميع
ما معه من البغال والخيل والجمال والخَدَم والمماليك كلهم من الجان، وكان ذلك
الخادم قد توجَّهَ إلى مصر فرأى زوجةَ علي وأولاده في هذه المدة صاروا في عري وجوع
زائد، فحملهم من مكانهم في تختروان خارجًا عن مصر، وألبسهم خلعًا عظيمة من الخلع
التي في كنز اليمن، فلما جاء إليه وأخبره بذلك الخبر، قام وتوجَّهَ إلى التجار
وقال لهم: قوموا بنا نطلع خارج المدينة لنلاقي القافلة التي فيها متجرنا، وتشرفونا
بحريماتكم لأجل ملاقاة حريمنا. فقالوا له: سمعًا وطاعةً. ثم أرسلوا أحضروا حريمهم
وطلعوا جميعًا وقعدوا في بستان من بساتين المدينة وجلسوا يتحدثون.
فبينما
هم في الحديث وإذا بغبار قد ثار من كبد البر، فقاموا ينظرون ما سبب ذلك الغبار،
فانكشف وبان عن بغال ورجال وعكامة وفراشين وضويه، وهم مقبلون في غناء ورقص إلى أنا
أقبلوا، فتقدَّمَ مقدم العكامة إلى علي المصري ابن التاجر حسن الجوهري وقبَّلَ يده
وقال له: يا سيدي، إننا تعوقنا في الطريق لأننا أردنا الدخول بالأمس فخفنا من قطاع
الطريق، فمكثنا أربعة أيام ونحن مُقِيمون في محلنا إلى أن صرفهم الله تعالى عنَّا.
فقام التجار وركبوا بغالهم وساروا مع القافلة، وتأخرت الحريمات عند حريم التاجر
علي المصري إلى أن ركبوا معهم ودخلوا في موكب عظيم، وصار التجار يتعجَّبون من
البغال المحملة بالصناديق، ونساء التجار يتعجَّبن من ملبس زوجة التاجر علي وملبس
أولادها، ويقلن: إن هذه الملابس لا يوجد مثلها عند ملك بغداد ولا غيره من سائر
الملوك والأكابر والتجار. ولم يزلوا سائرين في موكبهم؛ الرجال مع التاجر علي
المصري، والنساء مع حريمه، إلى أن دخلوا المنزل. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن
الكلام المباح.
﴿اللیلة 430﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أنهم لم يزالوا سائرين في موكبهم؛ الرجال مع التاجر علي
المصري، والنساء مع حريمه، حتى دخلوا المنزل ونزلوا، وأدخلوا البغال بأحمالها في
وسط الحوش، ثم نزلوا الأحمال وخزنوها في الحواصل، وطلع الحريمات مع الحريم إلى
القاعة، فرأوها مثل الروضة الغنَّاء، مفروشة بالفرش العظيم، فجلسوا في حظ وسرور،
واستمروا جالسين إلى وقت الظهر، فطلع الغداء لهم على أحسن ما يكون من أنواع
الأطعمة والحلويات، فأكلوا وشربوا الشربات العظيمة، وتطيَّبوا بعدها بماء الورد
والبخور، ثم أخذوا خاطره وانصرفوا إلى محلاتهم رجالًا ونساء، ولما رجع التجار إلى أماكنهم
صاروا يرسلون إليه الهدايا على قدر أحوالهم، وصار الحريمات يهادين الحريم إلى أن
جاء لهم شيء كثير من جوارٍ وعبيد ومماليك، ومن كامل الأصناف كالحبوب والسكر وغير
ذلك من الخير الذي لا يُحصَى، وأما التاجر البغدادي صاحب البيت الذي هو فيه، فإنه
أستمرَّ مُقِيمًا عنده ولم يفارقه وقال له: خل العبيد والخدم يُدخِلون البغال
وغيرها من البهائم في بيت من البيوت لأجل الراحة. فقال له: إنهم مسافرون في هذه
الليلة إلى محل كذا. وأعطاهم إجازة بأن يخرجوا إلى خارج المدينة حتى يأتي الليل
يسافرون، فما صدقوا أن يعيطهم الإجازة بذلك حتى آخذوا خاطره، وانصرفوا إلى ظاهر
المدينة وطاروا في الهواء إلى أماكنهم.
وقعد
التاجر علي مع صاحب البيت الذي هو فيه إلى ثلث الليل، ثم انفضَّ مجلسهما وذهب صاحب
البيت إلى محله، وطلع التاجر علي إلى حريمه وسلَّمَ عليهم وقال لهم: ما الذي جرى
لكم بَعْدي في هذه المدة؟ فأخبرته زوجته بما قاسوه من الجوع والعري والتعب، فقال
لها: الحمد لله على السلامة، وكيف جئتُم؟ فقالت: يا سيدي، بينما أنا نائمة مع
أولادي ليلةَ البارحة، فلم أشعر إلا والذي رفعني عن الأرض أنا وأولادي إلى أن صرنا
طائرين في الهواء، ولكن لم يحصل لنا ضرر، ولم نزل طائرين حتى نزلنا على الأرض في
مكان على شكل حلة العرب، فرأينا هناك بغالًا محمَّلة وتختروانًا على بغلتين
كبيرتين، وحوله خدم من غلمان ورجال، فقلت لهم: مَن أنتم؟ وما هذه الأحمال؟ ونحن في
أي مكان؟ فقالوا: نحن خدَّام التاجر علي المصري ابن التاجر حسن الجوهري، وقد
أرسلنا نأخذكم ونوصلكم إليه في مدينة بغداد. فقلتُ لهم: وهل المسافة التي بيننا
وبين بغداد بعيدة أم قريبة؟ فقالوا لي: قريبة، فما بيننا وبينها غير سواد الليل.
ثم أركبونا في التختروان، فما أصبح الصباح إلا ونحن عندكم ولم يحصل لنا ضرر قطُّ.
فقال لها: ومَن أعطاكم هذا الملبس؟ فقالت: مقدم القافلة؛ فتح صندوقًا من الصناديق
التي على البغال وأخرَجَ منه هذه الحلل، فألبسني حلة وألبس أولادك كل واحد حلة، ثم
قفل الصندوق الذي أخذ منه الحلل وأعطاني مفتاحه، وقال لي: احرصي عليه حتى تعطيه
لزوجك. وها هو محفوظ عندي، ثم أخرَجَتْه له، فقال لها: هل تعرفين الصندوق؟ قالت:
نعم أعرفه. فقام ونزل معها إلى الحواصل وأراها الصناديق، فقالت له: هذا هو الصندوق
الذي أخذ منه الحلل. فأخذ المفتاح منها وحطَّه في القفل وفتحه، فرأى فيه حللًا
كثيرة، ورأى فيه مفاتيح كامل الصناديق، فأخذها منه وصار يفتح الصناديق صندوقًا بعد
ويتفرج على ما فيها من الجواهر والمعادن الكنوزية التي لم يوجد عند أحدٍ من الملوك
نظيرها، ثم قفلها وأخذ مفاتيحها وطلع هو وزوجته إلى القاعة وقال لها: هذا من فضل
الله تعالى. ثم بعد ذلك أخذها وتوجه بها إلى الرخامة التي فيها اللولب، وفركه وفتح
باب الخزنة ودخل هو وإياها وفرَّجها على الذهب الذي وضعه فيها، فقالت له: من أين
جاءك هذا كله؟ فقال لها: جاءني من فضل ربي، فإني خرجتُ من عندك بمصر … وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 431﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أنه لما فرَّجَ التاجر علي المصري زوجتَه على الذهب،
قالت له: من أين جاءك هذا كله؟ فقال لها: جاءني من فضل ربي، فإني خرجت من عندك
بمصر وطلعت وأنا لا أدري أين أذهب، فتمشيت حتى وصلت إلى بولاق، فوجدت مركبًا
مسافرة إلى دمياط فنزلت فيها، فلما وصلت إلى دمياط قابلني رجل تاجر كان يعرف والدي
فأخذني وأكرمني وقال لي: إلى أين تسافر؟ فقلت له: أريد أن أسافر إلى دمشق الشام،
فإن لي فيها أصحابًا. وحكى لها ما وقع له من أوله إلى آخِره، فقالت له: يا سيدي،
هذا كله ببركة دعاء والدك حين كان يدعو لك قبل موته ويقول: أسأل الله ألَّا يوقعك
في شدة إلا ويدركك بالفرج القريب. فالحمد لله تعالى حيث أتاك بالفرج وعوَّضَ عليك
بأكثر مما ذهب منك، فبالله عليك يا سيدي لا تَعُدْ إلى ما كنت فيه من عِشْرة أصحاب
الشُّبَه، وعليك بتقوى الله تعالى في السر والعلانية. وصارت توصيه، فقال لها:
قبلتُ وصيتك، وأسال الله تعالى أن يُبعِد عنَّا أقرانَ السوء، وأن يوفِّقنا لطاعته
واتِّباع سُنَّة نبيه ﷺ، وصار هو وزوجه وأولاده في أرغد عيش، ثم إنه أخذ له
دكانًا في سوق التجار، ووضع فيه شيئًا من الجواهر والمعادن المثمنة وجلس في الدكان
وعنده أولاده ومماليكه، وصار أجلَّ التجَّار في مدينة بغداد، فسمع بخبره ملك
بغداد، فأرسل إليه رسولًا بطلبه، فلما جاءه الرسول قال له: أجِبِ الملكَ فإنه
يطلبك. فقال: سمعًا وطاعةً. ثم جهَّزَ هديةً للملك، فأخذ أربع صواني من الذهب
الأحمر وملأها من الجواهر والمعادن التي لا يوجد مثلها عند الملوك، وأخذ الصواني
وطلع بها إلى الملك.
فلما
دخل عليه قبَّلَ الأرض بين يدَيْه ودعا له بدوام العز والنِّعَم وأحسن ما به
تكلَّم، فقال له الملك: يا تاجر، قد آنستَ بلادنا. فقال له: يا ملك الزمان، إن
العبد أتاك بهدية ويرجو من فضلك قبولها. ثم قدَّمَ الأربع صواني بين يدَيْه، فكشف
عنها الملك وتأملها، فرأى فيها شيئًا من الجواهر لم يكن عنده مثله، وقيمته تساوي
خزائن مال. فقال له: هديتك مقبولة يا تاجر، وإن شاء الله تعالى نجازيك بمثلها.
فقبَّلَ يدي الملك وانصرف من عنده، فأحضر الملك أكابر دولته وقال لهم: كم ملكًا من
الملوك خطب ابنتي؟ قالوا له: كثير. فقال لهم: هل أحد منهم هاداني بمثل هذه الهدية؟
فقالوا جميعًا: لا، لأنه لا يوجد عند أحدٍ منهم مثل هذا قطُّ. فقال الملك: استخرتُ
الله تعالى في أن أزوِّجَ ابنتي لهذا التاجر، فما تقولون؟ فقالوا له: الأمر كما
ترى. فأمر الطواشية أن يحملوا الأربع صواني بما فيها ويُدخِلوها إلى سرايته، ثم
اجتمع بزوجته ووضع الصواني بين يدَيْها، فكشفت عنها فرأت فيها شيئًا لم يكن عندها
مثله ولا قطعة واحدة، فقالت له: من أي الملوك هذا؟ لعله من أحد الملوك الذين خطبوا
بنتك. فقال: لا، وإنما هذا من رجل تاجر مصري جاء عندنا في هذه المدينة، فلما سمعتُ
بقدومه أرسلتُ إليه رسولًا يُحضِره لنا كي نصاحبه، لعلنا نجد عنده شيئًا من
الجواهر فنشتريه منه من أجل جهاز بنتنا، فامتثل أمرنا وجاء لنا بهذه الأربع صواني
وقدَّمَها لنا هدية، فرأيتُه شابًّا حسنًا ذا مهابة وعقل كامل وشكل ظريف يكاد أن
يكون من أبناء الملوك، فلما رأيتُه مالَ إليه قلبي وانشرح له صدري، وأحبَبْتُ أن
أزوِّجه بنتي، وقد عرضتُ الهدية على أرباب دولتي وقلت لهم: كم واحدًا من الملوك
خطب ابنتي؟ فقالوا: كثير. فقلت لهم: وهل جاءني أحد منهم بمثل ذلك؟ فقالوا كلهم: لا
والله يا ملك الزمان، إنه لا يوجد عند أحد منهم مثل ذلك. فقلت لهم: إني استخرتُ
الله تعالى في أن أزوِّجه ابنتي، فما تقولون؟ قالوا: الأمر كما تراه. فما تقولين
أنتِ في جوابك؟ وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 432﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن ملك مدينة بغداد لما عرض الهدية على زوجته وأخبرها
بشمائل التاجر علي الجوهري، وأنه يريد أن يزوِّجه ابنته، ثم قال لها: فما تقولين
أنتِ في جوابك؟ قالت له: الأمر لله ولك يا ملك الزمان، والذي يريده الله هو الذي
يكون. فقال: إن شاء الله تعالى لا نزوِّجها إلا لهذا الشاب. وبات تلك الليلة، فلما
أصبح الصباح طلع إلى ديوانه وأمر بإحضار التاجر علي المصري وكامل تجار بغداد،
فحضروا جميعًا، فلما تمثَّلوا بين يدَيِ الملك أمرهم بالجلوس فجلسوا، ثم قال:
أحضروا قاضي الديوان. فحضر بين يدَيْه فقال له: يا قاضي، اكتب كتاب ابنتي على
التاجر علي المصري. فقال علي المصري: العفو يا مولانا السلطان، لا يصح أن يكون صهر
الملك تاجر مثلي. فقال الملك: قد أنعمتُ عليك بذلك وبالوزارة. ثم خلع عليه خلعة
الوزراء في الحال، فعند ذلك جلس على كرسي الوزارة وقال: يا ملك الزمان، أنت أنعمتَ
عليَّ بذلك وقد تشرَّفْتُ بإنعامك، ولكن اسمع لي كلمة أقولها لك. فقال: قُلْ ولا
تَخَفْ. قال: حيث صدر أمرك الشريف بزواج ابنتك، فينبغي أن يكون زواجها لولدي.
فقال: هل لك ولد؟ قال: نعم. فقال الملك: أرسِلْ إليه في هذه الساعة. فقال: سمعًا
وطاعةً. ثم أرسل واحدًا من مماليكه إلى ولده وأحضره، فلما حضر بين يدي الملك
قبَّلَ الأرض بين يدَيْه ووقف متأدِّبًا، فنظر إليه الملك فرآه أجمل من بنته وأحسن
منها قدًّا واعتدالًا وبهجةً وكمالًا، فقال له: ما اسمك يا ولدي؟ فقال: يا مولانا
السلطان اسمي حسن. وكان عمره حينئذٍ أربعة عشر عامًا، فقال الملك للقاضي: اكتب
كتابَ بنتي حسن الوجود على حسن ابن التاجر علي المصري. فكتب كتابه عليها وتمَّ
الأمر على أحسن حال، وانصرف كلُّ مَن في الديوان إلى سبيله، ونزل التجار خلف
الوزير علي المصري إلى أن وصل إلى منزله وهو في منصب الوزارة، ثم هنوه بذلك
وانصرفوا إلى حال سبيلهم.
ثم
دخل الوزير علي المصري على زوجته، فرأته لابسًا خلعة الوزارة، فقالت له: ما هذا؟
فحكى لها الحكاية من أولها إلى آخِرها وقال لها: إن الملك زوَّجَ ابنته لحسن ولدي.
ففرحت بذلك فرحًا زائدًا، ثم بات علي المصري تلك الليلة، ولما أصبح الصباح طلع
الديوان، فلاقاه الملك ملاقاةً حَسَنة وأجلَسَه إلى جانبه وقرَّبَه منه، وقال له:
يا وزير، قصدنا أننا نقيم الفرح ونُدخِل ابنَك على بنتي. فقال: يا مولانا السلطان،
ما تراه حسنًا فهو حسن. فأمر الملك بقيام الفرح وزيَّنوا المدينة، واستمروا في
إقامة الفرح ثلاثين يومًا وهم في هناء وسرور، وفي تمام الثلاثين يومًا دخل حسن ابن
الوزير على بنت الملك وتمتَّع بحُسْنها وجمالها، وأما زوجة الملك فإنها حين رأت
زوج ابنتها أحَبَّتْه حبًّا شديدًا، وكذلك فرحت بأمه فرحًا زائدًا.
ثم
إن الملك أمر لحسن ابن الوزير بسراية، فبنوا له سراية عظيمة بسرعة، وسكن فيها ابن
الوزير، وصارت أمه تقعد عنده أيامًا ثم تنزل إلى بيتها، فقالت زوجة الملك لزوجها:
يا ملك الزمان، إن والدة حسن لا يمكنها أن تقعد عند ولدها وتترك الوزير، ولا
يمكنها أن تقعد عند الوزير وتترك ولدها. فقال: صدقتِ. وأمر أن تُبنَى سراية ثالثة
بجنب سراية حسن ابن الوزير، فبنوا سراية ثالثة في أيام قلائل، وأمر الملك أن
ينقلوا حوائج الوزير إلى السراية، فنقلوها وسكن بها الوزير، وصارت الثلاث سرايات
نافذات لبعضها، فإذا أراد الملك أن يتحدَّث مع الوزير يمشي له ليلًا أو يرسل إليه
يُحضِره، وكذلك حسن وأمه وأبوه، وما زالوا مع بعضهم في حالة مرضية وعيشة هنية.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 433﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك والوزير وابنه ما زالوا مع بعضهم في حالة مرضية
وعيشة هنية مدة من الزمان، ثم إن الملك حصل له ضعف وزاد سقمه، فأحضر أكابر دولته
وقال لهم: إنه حصل لي مرض شديد وربما كان مرض الموت، وأحضرتكم لأشاوركم في أمرٍ،
فشوروا عليَّ بما ترونه حسنًا. فقالوا: إني صرت كبيرًا وقد مرضتُ وأخاف على
المملكة بعدي من الأعداء، وقصدي أن تتفقوا أنتم الجميع على واحد حتى أبايعه على
المملكة في حياتي لكي ترتاحوا. فقالوا جميعًا: نحن نرضى كلنا بزوج ابنتك حسن ابن
الوزير علي، فإننا رأينا عقله وكماله وفهمه، وهو يعرف مقام الكبير والصغير. فقال
لهم الملك: وهل رضيتم بذلك؟ قالوا: نعم. قال لهم: ربما تقولون ذلك بين يديَّ حياءً
مني، وفي خلفي تقولون غير ذلك! فقالوا جميعًا: والله إن كلامنا ظاهرًا وباطنًا
واحد لا يتغيَّر، وقد ارتضيناه بطيب قلوبنا وانشراح صدورنا. فقال لهم: إن كان
الأمر كذلك فأَحْضِروا قاضي الشرع الشريف، وسائر الحجاب والنوَّاب وأرباب الدولة
جميعًا بين يدي في غدٍ، ونتمِّم الأمر على أحسن حال. فقالوا له: سمعًا وطاعة. ثم
انصرفوا من عنده ونبَّهوا على كامل العلماء ووجهاء الناس من الأمراء.
فلما
أصبح الصباح طلعوا إلى الديوان وأرسلوا إلى الملك يستأذنونه في الدخول عليه،
فأذِنَ لهم، فدخلوا وسلموا عليه وقالوا: نحن الجميع قد حضرنا بين يديك. فقال لهم
الملك: يا أمراء بغداد، مَن ترضوا يكون عليكم ملكًا بعدي لأجل أن أبايعه في حياتي
قبل مماتي في حضوركم جميعًا؟ فقالوا كلهم: قد اتفقنا على حسن ابن الوزير عليٍّ زوج
ابنتك. فقال لهم: إن كان الأمر كذلك فقوموا جميعًا وأحضروه بين يدي. فقاموا جميعًا
ودخلوا سرايته وقالوا له: قُمْ بنا إلى الملك. فقال لهم: لأي شيء؟ فقالوا له:
لأمرٍ فيه صلاحٌ لنا ولك. فقام معهم حتى دخلوا على الملك، فقبَّلَ حسن الأرض بين
يدَيْه، فقال له الملك: اجلس يا ولدي. فجلس، فقال له: يا حسن، إن الأمراء جميعًا
استرضوا عنك واتفقوا على أن يجعلوك ملكًا عليهم من بعدي، وقصدي أن أبايعك في حياتي
لأجل انفضاض الأمر. فعند ذلك قام حسن وقبَّلَ الأرض بين يدي الملك وقال له: يا
مولانا الملك، إن في الأمراء مَن هو أكبر مني سنًّا وأعلى قدرًا، فأقيلوني من ذلك
الأمر. فقالت الأمراء جميعًا: لا نرضى إلا أن تكون مَلِكًا علينا. فقال لهم: إن أبي
أكبر مني، وأنا وأبي شيء واحد ولا يصح تقديمي عليه. فقال له أبوه: أنا لا أرضى إلا
بما رضي به إخواني، وقد رضوا بك واتفقوا عليك، فلا تخالف أمر الملك ولا أمر
إخوانك. فأطرَقَ حسن برأسه إلى الأرض حياءً من الملك ومن أبيه، فقال لهم الملك: هل
رضيتم به؟ قالوا: رضينا به. فقرءوا جميعًا على ذلك فواتح سبع، ثم قال الملك: يا
قاضي، اكتب حجةً شرعيةً على هؤلاء الأمراء أنهم اتفقوا على سلطنة حسن زوج بنتي،
وأنه يكون عليهم مَلِكًا. فكتب الحجة بذلك وأمضاها بعد أن بايعوه جميعًا على
المُلْك، وبايَعَه الملك وأمره بالجلوس على كرسي المملكة، فقاموا جميعًا وقبَّلوا
يدَيِ الملك حسن ابن الوزير وأبدوا له الطاعة، فحكم في ذلك النهار حكمًا عظيمًا،
وخلع على أرباب الدولة الخلع السنية، ثم انفَضَّ الديوان ودخل حسن على والد زوجته
وقبَّلَ يدَيْه، فقال له: يا حسن عليك بتقوى الله في الرعية. وأدرك شهرزاد الصباح
فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 434﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك حسن لما فرغ من الديوان دخل على والد زوجته
وقبَّلَ يديه، فقال له: يا ولدي، عليك بتقوى الله في الرعية. فقال له: بدعائك لي
يا والدي يحصل لي التوفيق. ثم دخل سرايته فلاقته زوجته هي وأمها وأتباعها وقبَّلوا
يدَيْه وقالوا له: يوم مبارك. وهنوه بالمنصب، ثم قام من سرايته ودخل سراية والده،
وفرحوا فرحًا زائدًا بما أنعم الله به عليه من تقليد الملك، وأوصاه والده بتقوى
الله والشفقة على الرعية، وبات تلك الليلة في فرح وسرور إلى الصباح، ثم صلى فرضه
وختم ورده وطلع إلى الديوان، وطلع إليه كامل العسكر وأرباب المناصب، فحكم بين
الناس وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر وولَّى وعزل، ولم يزل في الحكومة إلى آخِر
النهار، ثم انفضَّ الديوان على أحسن حال، وانصرف العسكر وسار كل واحد منهم إلى حال
سبيله. ثم قام ودخل السراية فرأى والد زوجته قد ثقل عليه الضعف، فقال له: لا بأس
عليك. ففتح عينيه وقال له: يا حسن. قال: لبيك يا سيدي. قال له: أنا الآن قد قرب
أجلي فكُنْ متوصيًا بزوجتك ووالدتها، وعليك بتقوى الله وبر والديك، واخشَ مهابة
الملك الديَّان، واعلم بأن الله يأمر بالعدل والإحسان. فقال له الملك حسن: سمعًا
وطاعةً. ثم إن الملك القديم أقام ثلاثة أيام بعد ذلك وتُوفِّيَ إلى رحمة الله
تعالى، فجهَّزوه وكفَّنوه وعملوا له القراءات والختمات إلى تمام الأربعين يومًا،
واستقل الملك حسن ابن الوزير بالملك، وفرحت به الرعية، وكانت أيامه كلها سرورًا،
وما زال والده وزيرًا كبيرًا على ميمنته، وأتخذ له وزيرًا آخَر على ميسرته،
واستقامت به الأحوال، ومكث مَلِكًا في بغداد مدةً مستطيلةً، ورُزِق من بنت الملك
ثلاثة أولاد ذكور، وتوارثوا المملكة من بعده، وصاروا في أرغد عيش وأهناه، إلى أن
أتاهم هادم اللذات ومفرق الجماعات، فسبحان مَن له الدوام وبيده النقض والإبرام.
حكاية رجل من الحجاج وامرأة عجوز
ومما
يُحكَى أن رجلًا من الحجاج نام نومة طويلة ثم انتبه، فلم يَرَ للحُجَّاج أثرًا،
فقام يمشي فضَلَّ عن الطريق، وصار يسير إلى أن رأى خيمة ورأى امرأة عجوزًا على باب
الخيمة، ووجد عندها كلبًا نائمًا، فدنا من الخيمة ثم سلَّمَ على العجوز وطلب منها
طعامًا، فقالت: امضِ إلى ذلك الوادي واصطد من الحيات بقدر كفايتك لأشوي لك منها
وأُطعِمك. فقال لها الرجل: أنا لا أجسر على أن أصطاد الحيات، وما أكلتها قطُّ.
فقالت العجوز: أنا أمضي معك وأتصيَّد منها، فلا تخف. ثم إنها مضت معه وتبعها
الكلب، فاصطادت من الحيات بقدر الكفاية، وجعلت تشوي منها. قال: فلم يَرَ الرجل
الحاج من الأكل بدًّا، وخاف من الجوع والهزال، فأكل من تلك الحيات، ثم إنه عطش
فطلب من العجوز ماءً ليشرب، فقالت له: دونك والعين فاشرب منها. فمضى إلى العين
فوجد ماءَها مُرًّا، ولم يجد له من شربه بدًّا، مع شدة مرارته؛ لما لحقه من العطش،
فشرب ثم عاد للعجوز وقال لها: عجبًا منك أيتها العجوز ومن مقامك بهذا الموضع ومكثك
في هذا المكان! وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 435﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الرجل الحاج لما شرب من ماء العين المر لكثرة ما لحقه
من العطش، ثم عاد للعجوز وقال لها: أعجب أيتها العجوز منك ومن مقامك بهذا الموضع
واغتذائك بهذا الطعام وشربك من هذا الماء! قالت له العجوز: فكيف تكون بلادكم؟ قال
لها: إن في بلادنا الدُّورَ الواسعة الرَّحبة، والفواكه اليانعة اللذيذة، والمياه
الغزيرة العذبة، والأطعمة الطيبة، واللحوم السمينة، والغنم الكثيرة، وكل شيء طيب،
والخيرات الحسان اللاتي لا يكون مثلهن إلا في الجنة التي وصفها الله تعالى لعباده
الصالحين. فقالت العجوز: قد سمعت هذا كله، فقل لي: هل يكون لكم من سلطان يحكم عليكم
ويجور في حكمه وأنتم تحت يده؟ وإن أذنب أحد منكم أخذ أمواله وأتلفه؟ وإذا أراد
أخرجكم من بيوتكم واستأصل شأفتكم؟ فقال لها الرجل: قد يكون ذلك. فقالت العجوز:
إذًا والله يكون ذلك الطعام اللطيف، والعيش الظريف، والنِّعَم اللذيذة، مع الجور
والظلم سمًّا ناقعًا، وتعود أطعمتنا مع الأمن درياقًا نافعًا؛ أَمَا سمعتَ أن
أجلَّ النعيم بعد الإسلام الصحةُ والأمن، وإنما يكون هذا من عدل السلطان خليفة
الله في أرضه وحُسْن سياسته، وكان مَن تقدَّمَ من السلاطين يحبُّ أن يكون له أدني
هيبة، بحيث إذا رأته الرعية خافوه، وسلطان هذا الزمان يحب أن يكون له أوفى سياسة
وأتم هيبة؛ لأن الناس الآن ليسوا كالمتقدِّمين، وزماننا هذا زمان ذوي الوصف الذميم
والخطب الجسيم؛ حيث اتصفوا بالسفاهة والقساوة، وانطووا على البغضاء والعداوة، وإذا
كان السلطان والعياذ بالله تعالى بينهم ضعيفًا أو غير ذي سياسة وهيبة، فلا شك في
أن ذلك يكون سببًا لخراب البلاد، وفي الأمثال: جور السلطان مائة سنة ولا جور
الرعية بعضهم على بعض سنة واحدة. وإذا جارت الرعية سلَّطَ الله عليهم سلطانًا
جائرًا ومَلِكًا قاهرًا، كما ورد في الأخبار: أن الحَجَّاج بن يوسف رُفِعت إليه في
بعض الأيام قصةٌ مكتوب فيها: اتقِّ الله ولا تُجِرْ على عباد الله كلَّ الجور.
فلما قرأ القصة رقي المنبر وكان فصيحًا، فقال: أيها الناس، إن الله تعالى سلَّطَني
عليكم بأعمالكم … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 436﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الحجَّاج بن يوسف لما قرأ القصة، رقي المنبر وكان
فصيحًا، فقال: أيها الناس، إن الله تعالى سلَّطَني عليكم بأعمالكم، فإنْ أنا متُّ
فأنتم لا تخلصون من الجور مع هذه الأعمال السيئة؛ لأن الله تعالى خلق أمثالي خلقًا
كثيرًا، وإذا لم أكن أنا، كان مَن هو أكثر مني شرًّا وأعظم جورًا وأشد سطوةً، كما
قال الشاعر في معنى ذلك:
وَمَا
مِنْ يَدٍ إِلَّا يَدُ اللهِ فَوْقَهَا
وَمَا ظَالِمٌ إِلَّا سَبِيلِي بِأَظْلَمِ
والجور
يخاف منه، والعدل أصلح كل شيء. نسأل الله أن يُصلِح أحوالنا.
حكاية الجارية تودد
ومما
يُحكَى أنه كان ببغداد رجل ذو مقدار، وكان موسرًا بالمال والعقار، وهو من التجار
الكبار، وقد وسَّع الله عليه دنياه، ولم يبلغه من الذرية ما يتمناه، ومضت عليه مدة
من الزمان، ولم يُرزَق بإناثٍ ولا ذكران، فكَبِر سنُّه، ورَقَّ عَظْمه، وانحنى
ظهره، وكثر وهنه وهمُّه، فخاف ذهابَ ماله ونسبه، إذا لم يكن له ولد يَرِثه ويُذكَر
به؛ فتضرَّعَ إلى الله تعالى، وصام النهار وقام الليل، ونذر النذور لله تعالى الحي
القيوم، وزار الصالحين، وأكثر التضرع إلى الله تعالى؛ فاستجاب الله له وقَبِل
دعاه، ورحم تضرُّعه وشكواه، فما كان إلا قليل من الأيام حتى جامَعَ إحدى نسائه،
فحملت منه في ليلتها ووقتها وساعتها، وأتَمَّتْ أَشْهُرها ووضعت حملها، وجاءت
بذَكَر كأنه فلقة قمر؛ فأوفى بالنذر شكرًا الله عزَّ وجَلَّ وأخرج الصدقات، وكسا
الأرامل والأيتام. وليلة سابع الولادة سمَّاه بأبي الحسن؛ فأرضعته المراضع، وحضنته
الحواضن، وحملته المماليك والخدم إلى أن كَبُر ونشأ، وترعرع وانتشأ، وتعلَّم
القرآن العظيم، وفرائض الإسلام وأمور الدين القويم، والخط والشعر والحساب، والرمي
بالنشاب؛ فكان فريدَ دهْرِه وأحسنَ أهلِ زمانه وعصره، ذا وجه مليح، ولسان فصيح،
يتهادى تمايلًا واعتدالًا، ويتزاهى تدلُّلًا واختيالًا، بخدٍّ أحمر، وجبين أزهر،
وعذار أخضر، كما قال فيه بعض واصفيه:
بَدَا
رَبِيعُ الْعِذَارِ لِلْحَدَقِ وَالْوَرْدُ
بَعْدَ الرَّبِيعِ كَيْفَ بَقِي
أَمَا
تَرَى النَّبْتَ فَوْقَ عَارِضِهِ بَنَفْسَجًا
طَالِعًا مِنَ الْوَرَقِ
فأقام
مع أبيه برهة من الزمن في أحسن حال، وأبوه به فَرِح مسرور، إلى أن بلغ مبالغ
الرجال، فأجلسه أبوه بين يديه يومًا من الأيام، وقال له: يا ولدي، إنه قد قرب
الأجل، وحانت وفاتي، ولم يَبْقَ غير لقاء الله عزَّ وجلَّ، وقد خلَّفت لك ما يكفيك
إلى ولد الولد من المال المتين، والضِّياع والأملاك والبساتين؛ فاتَّقِ الله تعالى
يا ولدي فيما خلَّفته لك، ولا تتبع إلا من رفدك. فلم يكن إلا قليل حتى مرض الرجل
ومات، فجهَّزه ولده أحسن تجهيز، ودفنه ورجع إلى منزله، وقعد للعزاء أيامًا وليالي،
وإذا بأصحابه قد دخلوا عليه وقالوا له: مَن خلَّف مثلك ما مات، وكل ما فات فقد
فات، وما يصلح العزاء إلا للبنات والنساء المخدرات. ولم يزالوا به حتى دخل الحمام،
ودخلوا عليه وفكُّوا حزنه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 437﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن أبا الحسن ابن الخواجا لما دخل عليه أصحابه الحمام
وفكُّوا حزنه، نسي وصيَّة أبيه، وذهل لكثرة المال، وظنَّ أن الدهر يبقى معه على
حال، وأن المال ليس له زوال؛ فأكل وشرب، ولذَّ وطرب، وخلع ووهب، وجاد بالذهب،
ولازَمَ أكل الدجاج، وفضَّ ختام الزجاج، وقهقهة القناني، واستماع الأغاني، ولم يزل
على هذا الحال إلى أن مال المال وقعد الحال، وذهب ما كان لديه، وسُقِط في يدَيْه،
ولم يَبْقَ له بعد أن أتلف ما أتلف، غير وصيفة خلَّفها له والده من جملة ما خلَّف،
وكانت الوصيفة هذه ليس لها نظير في الحُسْن والجمال، والبهاء والكمال، والقدِّ
والاعتدال، وهي ذات فنون وآداب، وفضائل تُستطاب، قد فاقت أهل عصرها وأوانها، وصارت
أشهر من عَلَم في افتنانها، وزادت على المِلَاح بالعلم والعمل، والتثنِّي والميل
مع كونها خماسية القد مقارنة للسعد، بجبينين كأنهما هلال شعبان، وحاجبين أزجين،
وعينين كعيون غزلان، وأنفٍ كحد الحسام، وخدٍّ كأنه شقائق النعمان، وفمٍ كخاتم
سليمان، وأسنانٍ كأنها عقود الجمان، وسرَّة تَسَع أوقية دهن بان، وخصر أَنْحَل من
جسمِ مَنْ أضناه الهوى وأسقمه الكتمان، وردف أثقل من الكثبان، وبالجملة فهي في
الجمال جديرة بقول مَن قال:
إِنْ
أَقْبَلَتْ فَتَنَتْ بِحُسْنِ قَوَامِهَا
أَوْ أَدْبَرَتْ قَتَلَتْ بِصَدِّ فِرَاقِهَا
شَمْسِيَّةٌ
بَدْرِيَّةٌ غُصْنِيَّةٌ لَيْسَ
الْجَفَا وَالْبُعْدُ مِنْ أَخْلَاقِهَا
جَنَّاتُ
عَدْنٍ تَحْتَ جَيْبِ قَمِيصِهَا وَالْبَدْرُ
فِي فَلَكٍ عَلَى أَطْوَاقِهَا
كأنها
البدر الطالع والغزال الراتع، بنت تسعٍ وخمس، تُخجِل القمر والشمس، كما قال الشاعر
البليغ الماهر:
شَبِيهَةُ
الْبَدْرِ إِذَا مَا مَضَى خَمْسٌ
وَخَمْسٌ بَعْدَهَا أَرْبَعُ
مَا
كَانَ ذَنْبِي حِينَ صَيَّرَتْنِي شَبِيهَهُ
أَوَّلَ مَا يَطْلَعُ
صافية
الأديم، عاطرة النسيم، كأنها خُلِقت من النور وتكوَّنت من البلور، تورَّد منها
الخد، واعتدل القوام والقد، كما قال فيها بعض واصفيها:
تَخْتَالُ
بَيْنَ مُعَصْفَرٍ وَمُدَنَّرٍ وَمُغَضَّضٍ
وَمُوَرَّدٍ وَمُصَنْدَلِ
هِيَ
زَهْرَةٌ فِي رَوْضَةٍ أَوْ دُرَّةٌ
فِي شَمْسِهِ أَوْ صُورَةٌ فِي هَيْكَلِ
هَيْفَاءُ
إِنْ قَالَ الْقَوَامُ لَهَا: انْهَضِي
قَالَتْ رَوَادِفُهَا: قِفِي وَتَمَهَّلِي
وَإِذَا
طَلَبْتُ الْوَصْلَ قَالَ جَمَالُهَا
جُودِي وَقَالَ دَلَالُهَا: لَا تَفْعَلِي
سُبْحَانَ
مَنْ جَعَلَ الْمَلَاحَةَ حَظَّهَا وَنَصِيبُ
عَاشِقِهَا كَلَامُ الْعُذَّلِ
تسلب
مَن يراها بحُسْن جمالها، وبريق ابتسامها، وترميه من عيونها بنبل سهامها، وهي مع
هذا كله فصيحة الكلام حَسَنة النظام. فلمَّا نفَدَ جميعُ ماله، وتبيَّن سوءُ حاله،
ولم يَبْقَ معه غير هذه الجارية، أقام ثلاثة أيام وهو لم يَذُقْ طَعْمَ طعام، ولم
يسترح في منامٍ. فقالت له الجارية: يا سيدي، احملني إلى أمير المؤمنين هارون
الرشيد. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 438﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية قالت لسيدها: يا سيدي، احملني إلى هارون
الرشيد الخامس من بني العباس، واطلب ثمني منه عشرة آلاف دينار، فإنِ استغلاني
فقُلْ له: يا أمير المؤمنين، وصيفتي أكثر من ذلك، فاختبرها يعظُم قدرها في عينك؛
لأن هذه الجارية ليس لها نظير، ولا تصلح إلا لمثلك. ثم قالت له: إياك يا سيدي أن
تبيعني بدون ما قلت لك من الثمن؛ فإنه قليل في مثلي. وكان سيد الجارية لا يعلم
قدرها، ولا يعرف أنها ليس لها نظير في زمانها. ثم إنه حملها إلى أمير المؤمنين
هارون الرشيد وقدَّمها له، وذكر ما قالت، فقال لها الخليفة: ما اسمك؟ قالت: اسمي
تودُّد. قال: يا تودُّد، ما تحسنين من العلوم؟ قالت: يا سيدي، إني أعرف النحو،
والشعر، والفقه، والتفسير، واللغة، وأعرف فن الموسيقى، وعلم الفرائض، والحساب،
والقسمة، والمساحة، وأساطير الأولين، وأعرف القرآن العظيم، وقد قرأته للسبع وللعشر
وللأربع عشرة، وأعرف عدد سوره وآياته وأحزابه وأنصافه وأرباعه وأثمانه وأعشاره،
وسجداته وعدد أحرفه، وأعرف ما فيه من الناسخ والمنسوخ، والمدنية والمكية، وأسباب
التنزيل، وأعرف الحديث الشريف درايةً وروايةً، المسند منه والمرسَل، ونظرت في علوم
الرياضة والهندسة، والفلسفة وعلم الحكمة والمنطق، والمعاني والبيان، وحفظت كثيرًا
من العلم، وتعلَّقْتُ بالشعر، وضربت العود، وعرفت مواضع النغم فيه، ومواقع حركات
أوتاره وسكناتها؛ فإنْ غنَّيتُ ورقصتُ فتنتُ، وإن تزيَّنْتُ وتطيَّبْتُ قتلتُ،
وبالجملة فإني وصلت إلى شيءٍ لم يعرفه إلا الراسخون في العلم.
فلما
سمع الخليفة هارون الرشيد كلامها على صِغَر سنِّها، تعجَّبَ من فصاحة لسانها،
والتفت إلى مولاها، وقال: إني أُحضِر مَن يناظرها في جميع ما ادَّعته، فإنْ
أجابَتْ دفعتُ لك ثمنها وزيادة، وإن لم تُجِبْ فأنت أولى بها. فقال مولاها: يا
أمير المؤمنين، حبًّا وكرامة. فكتب أمير المؤمنين إلى عامل البصرة بأن يرسل إليه
إبراهيم بن سيَّار النظَّام، وكان أعظم أهل زمانه في الحجة والبلاغة والشعر
والمنطق، وأمره أن يُحضِر القرَّاء، والعلماء، والأطباء، والمنجمين،
والحكماء، والمهندسين،
والفلاسفة؛ وكان إبراهيم أعلم من الجميع. فما كان إلا قليل حتى حضروا دار الخلافة،
وهم لا يعلمون الخبر، فدعاهم أمير المؤمنين إلى مجلسه، وأمرهم بالجلوس فجلسوا، ثم
أمر أن تحضر الجارية تودُّد فحضرت، وأظهرت نفسها وهي كأنها كوكب دري، فوُضِع لها
كرسي من ذهب، فسلَّمت ونطقت بفصاحة لسان، وقالت: يا أمير المؤمنين، مُر مَنْ حضر من
العلماء، والقرَّاء، والأطباء، والمنجمين، والحكماء، والمهندسين، والفلاسفة؛ أن
يناظروني. فقال لهم أمير المؤمنين: أريد منكم أن تناظروا هذه الجارية في أمر
دينها، وأن تدحضوا حجتها في كل ما ادَّعَتْه. فقالوا: السمع والطاعة لله، ولك يا
أمير المؤمنين. فعند ذلك أطرقت الجارية وقالت: أيكم الفقيه العالم المقرِئ
المحدِّث؟ فقال أحدهم: أنا ذلك الرجل الذي طلبتِ. قالت له: اسأل عمَّا شئتَ. قال
لها: أنت قرأتِ كتابَ الله العزيز، وعرفتِ ناسخه ومنسوخه، وتدبرت آياته وحروفه؟
قالت: نعم. فقال لها: أسألك عن الفرائض الواجبة، والسنن القائمة، فأخبريني أيتها
الجارية عن ذلك، ومَن ربك؟ ومَن نبيك؟ ومَن إمامك؟ وما قبلتك؟ وما إخوانك؟ وما
طريقتك؟ وما منهاجك؟ قالت: الله ربي، ومحمد ﷺ نبيي، والقرآن إمامي،
والكعبة قبلتي، والمؤمنون إخواني، والخير طريقتي، والسنة منهاجي. فتعجَّبَ الخليفة
من قولها، ومن فصاحة لسانها على صِغَر سنها، ثم قال لها: أيتها الجارية، أخبريني
بِمَ عرفتِ الله تعالى؟ قالت: بالعقل. قال: وما العقل؟ قالت: العقل عقلان؛ عقل
موهوب، وعقل مكسوب … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 439﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية قالت: العقل عقلان؛ موهوب ومكسوب؛ فالعقل
الموهوب هو الذي خلقه الله عزَّ وجلَّ يهدي به مَن يشاء من عباده، والعقل المكسوب
هو الذي يكسبه المرء بتأدُّبه وحُسْن معرفته. فقال لها: أحسنتِ. ثم قال: أين يكون
العقل؟ قالت: يقذفه الله في القلب، فيصعد شعاعه في الدماغ حتى يستقر. قال لها:
أحسنتِ. ثم قال: أخبريني بِمَ عرفتِ النبي ﷺ؟ قالت: بقراءة كتاب الله تعالى،
وبالآيات والدلالات، والبراهين والمعجزات. قال: أحسنتِ، فأخبريني عن الفرائض
الواجبة، والسنن القائمة. قالت: أما الفرائض الواجبة فخمس: شهادة أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم
رمضان، وحج بيت الله الحرام مَن استطاع إليه سبيلًا؛ وأما السُّنَن القائمة فهي
أربع: الليل، والنهار، والشمس، والقمر، وهن يبنين العمر والأمل، وليس يعلم ابن آدم
أنهن يهدمن الأجل. قال: أحسنتِ، فأخبريني ما شعائر الإيمان؟ قالت: شعائر الإيمان:
الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والجهاد، واجتناب الحرام. قال: أحسنتِ، فأخبريني
بأي شيء تقومين إلى الصلاة؟ قالت: بنية العبودية مُقِرَّة بالربوبية. قال:
فأخبريني كم فرَضَ الله عليك قبل قيامك على الصلاة؟ قالت: الطهارة، وستر العورة،
واجتناب الثياب المتنجسة، والوقوف على مكان طاهر، والتوجُّه للقبلة، والقيام،
والنية، وتكبيرة الإحرام. قال: أحسنتِ، فأخبريني بِمَ تخرجين من بيتك إلى الصلاة؟
قالت: بنية العبادة. قال: فبأيِّ نية تدخلين المسجد؟ قالت: بنية الخدمة. قال:
فبماذا تستقبلين القبلة؟ قالت: بثلاث فرائض وسُنَّة. قالت: أحسنتِ، فأخبريني ما
مبدأ الصلاة؟ وما تحليلها؟ وما تحريمها؟ قالت: مبدأ الصلاة الطهور، وتحريمها
تكبيرة الإحرام، وتحليلها السلام من الصلاة. قال: فماذا يجب على مَن تركها؟ قالت:
رُوِي في الصحيح: «مَن ترَكَ الصلاةَ عامدًا متعمِّدًا من غير عذرٍ، فلا حظَّ له
في الإسلام». وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 440﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية لما ذكرَتِ الحديث الشريف قال لها الفقيه:
أحسنتِ، فأخبريني عن الصلاة ما هي؟ قالت: الصلاة صلة بين العبد وربه، وفيها عشر
خصال: تنوِّر القلب، وتُضِيء الوجه، وترضي الرحمن، وتغضب الشيطان، وتدفع البلاء،
وتكفي شر الأعداء، وتُكثِر الرحمة، وتدفع النقمة، وتقرِّب العبد من مولاه، وتنهى
عن الفحشاء والمنكر، وهي من الواجبات المفروضات المكتوبات، وهي عماد الدين. قال:
أحسنتِ، فأخبريني ما مفتاح الصلاة؟ قالت: الوضوء. قال: فما مفتاح الوضوء؟ قالت:
التسمية. قال: فما مفتاح التسمية؟ قالت: اليقين. قال: فما مفتاح اليقين؟ قالت:
التوكُّل. قال: فما مفتاح التوكل؟ قالت: الرجاء. قال: فما مفتاح الرجاء؟ قالت:
الطاعة. قال: فما مفتاح الطاعة؟ قالت: الاعتراف لله تعالى بالوحدانية والإقرار له
بالربوبية. قال: أحسنتِ، فأخبريني عن فروض الوضوء. قالت: ستة أشياء على مذهب
الإمام الشافعي محمد بن إدريس رضي الله عنه: النية، وغسل الوجه، وغسل اليدين مع
المرفقين، ومسح بعض الرأس، وغسل الرجلين مع الكعبين، والترتيب؛ وسُنَّتُه عشرة
أشياء: التسمية، وغسل الكفين قبل إدخالهما الإناء، والمضمضة، والاستنشاق، ومسح
جميع الرأس، ومسح الأذنين ظاهرهما وباطنهما بماء جديد، وتخليل اللحية الكثَّة،
وتخليل أصابع اليدين والرجلين، وتقديم اليمنى على اليسرى، والطهارة ثلاثًا ثلاثًا،
والموالاة. فإذا فرغ من الوضوء قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوَّابين واجعلني من المتطهرين،
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك؛ فقد جاء في
الحديث الشريف عن النبي ﷺ أنه قال: «مَن قالها عقب كل وضوء، فُتِحت له
أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء.«
قال:
أحسنتِ، فإذا أراد الإنسان الوضوء ماذا يكون عنده من الملائكة والشياطين؟ قالت:
إذا تهيَّأَ الإنسان للوضوء أتَتِ الملائكة عن يمينه، والشياطين عن شماله؛ فإذا ذكر
الله تعالى في ابتداء الوضوء فرَّتْ منه الشياطين، واستولت عليه الملائكة بخيمة من
نور لها أربعة أطناب، مع كل طنب ملك يسبِّح الله تعالى ويستغفِر له ما دام في
إنصات أو ذِكْر، فإن لم يذكر الله عزَّ وجلَّ عند ابتداء الوضوء ولم يُنصِت،
استولَتْ عليه الشياطين، وانصرفت عنه الملائكة، ووسوَسَ له الشيطان حتى يدخل عليه
الشك والنقص في وضوئه؛ فقد قال عليه الصلاة والسلام: «الوضوء الصالح يطرد الشيطان،
ويؤمن من جور السلطان».
وقال
أيضًا: «مَن نزلت عليه بلية وهو على غير وضوء، فلا يلومَنَّ إلا نفسه» قال:
أحسنتِ، فأخبريني عمَّا يفعل الشخص إذا استيقظ من منامه. قالت: إذا استيقظ الشخص
من منامه، فليغسل يدَيْه ثلاثًا قبل إدخالهما الإناء. قال: أحسنتِ، فأخبريني عن
فروض الغُسْل وعن سُنَنه؟ قالت: فروض الغُسْل: النية، وتعميم البدن بالماء؛ أيْ
إيصال الماء إلى جميع الشعر والبشرة، وأما سُنَنه: فالوضوء قبله، والتدليك، وتخليل
الشعر، وتأخير غسل الرجلين في قول … إلى آخِر الغُسْل. قال: أحسنتِ. وأدرك شهرزاد
الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 441﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية لما أخبرت الفقيه عن فروض الغُسْل وسُنَنه،
قال: أحسنتِ، فأخبريني عن أسباب التيمُّم، وفروضه، وسُنَنه. قالت: أما أسبابه
فسبعة: فَقْدُ الماء، والخوف، والحاجة إليه، وإضلاله في رَحْله، والمرض، والجبيرة،
والجراح. وأما فروضه فأربعة: النية، والتراب، وضربة للوجه، وضربة لليدين. وأما
سُنَنه: فالتسمية، وتقديم اليمنى على اليسرى. قال: أحسنتِ، فأخبريني عن شروط
الصلاة، وعن أركانها، وعن سُنَنها. قالت: أما شروطها فخمسة أشياء: طهارة الأعضاء،
وستر العورة، ودخول الوقت يقينًا أو ظنًّا، واستقبال القبلة، والوقوف على مكان
طاهر. وأما أركانها: فالنية، وتكبيرة الإحرام، والقيام مع القدرة، وقراءة الفاتحة
وبسم الله الرحمن الرحيم آية منها على مذهب الإمام الشافعي، والركوع والطمأنينة
فيه، والاعتدال والطمأنينة فيه، والسجود والطمأنينة فيه، والجلوس بين السجدتين
والطمأنينة فيه، والتشهُّد الأخير والجلوس له، والصلاة على النبي ﷺ فيه،
والتسليمة الأولى، ونية الخروج من الصلاة في قول. وأما سُنَنها: فالأذان،
والإقامة، ورفع اليدين عند الإحرام، ودعاء الافتتاح، والتعوُّذ، والتأمين، وقراءة
السورة بعد الفاتحة، والتكبيرات عند الانتقالات، وقول سمع الله لمَن حَمِده وربنا
لك الحمد، والجهر في موضعه، والإسرار في موضعه، والتشهُّد الأول والجلوس له،
والصلاة على النبي ﷺ فيه، والصلاة على الآل في التشهُّد الأخير،
والتسليمة الثانية.
قال:
أحسنتِ، فأخبريني في ماذا تجب الزكاة؟ قالت: تجب في الذهب، والفضة، والإبل،
والبقر، والشاء، والحنطة، والشعير، والدخن، والذرة، والفول، والحمص، والأرز،
والزبيب، والتمر. قال: أحسنتِ، فأخبريني في كم تجب الزكاة في الذهب؟ قالت: لا زكاة
فيما دون عشرين مثقالًا، فإذا بلغَتِ العشرين ففيها نصف مثقال، وما زاد فبحسابه.
قال: فأخبريني في كم تجب الزكاة في الوَرِق؟ قالت: ليس فيما دون مائتَيْ درهم
زكاة، فإذا بلغَتِ المائتين ففيها خمسة دراهم، وما زاد فبحسابه. قال: أحسنتِ،
فأخبريني في كم تجب الزكاة في الإبل؟ قالت: في كل خمس شاة إلى خمس وعشرين ففيها
بنت مخاض. قال: أحسنتِ، فأخبريني في كم تجب الزكاة في الشياه؟ قالت: إذا بلغَتْ
أربعين ففيها شاة. قال: أحسنتِ، فأخبريني عن الصوم وفروضه. قالت: أما فروض الصوم:
فالنية، والإمساك عن الأكل والشرب والجماع وتعمُّد القيِّ، وهو واجب على كل مكلَّف
خالٍ عن الحيض والنفاس، ويجب برؤية الهلال أو بإخبار عدلٍ يقع في قلب المخبر صدقه،
ومن واجباته تبييت النية. وأما سُنَنه: فتعجيل الفِطْر، وتأخير السحور، وترك
الكلام إلا في الخير والذِّكْر وتلاوة القرآن. قال: أحسنتِ، فأخبريني عن شيء لا
يفسد الصوم. قالت: الأدهان، والاكتحال، وغبار الطريق، وابتلاع الريق، وخروج المني
بالاحتلام، والنظر لامرأة أجنبية، والفصادة والحجامة، هذا كله لا يفسد الصوم. قال:
أحسنتِ، فأخبريني عن صلاة العيدين. قالت: ركعتان، وهما سُنَّة من غير أذان ولا
إقامة، ولكن يقول الصلاة جامعة، ويكبِّر في الأولى سَبْعًا سوى تكبيرة الإحرام،
وفي الثانية خمسًا سوى تكبيرة القيام على مذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 442﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية لما أخبرَتِ الفقيه عن صلاة العيدين قال لها:
أحسنتِ، فأخبريني عن صلاة كسوف الشمس وخسوف القمر. قالت: ركعتان بغير أذان ولا
إقامة، يأتي في كل ركعة بقيامين، وركوعين، وسجودين، ويجلس ويتشهَّد ويسلِّم. قال:
أحسنتِ، فأخبريني عن صلاة الاستسقاء. قالت: ركعتان بغير أذان ولا إقامة، ويتشهَّد
ويسلِّم، ثم يخطب ويستغفر الله تعالى مكان التكبير في خطبتي العيدين، ويحول رداءه
بأن يجعل أعلاه أسفله، ويدعو ويتضرَّع. قال: أحسنتِ، فأخبريني عن صلاة الوتر.
قالت: الوتر أقله ركعة واحدة، وأكثره إحدى عشرة. قال: أحسنتِ، فأخبريني عن صلاة
الضحى. قالت: الضحى أقلها ركعتان، وأكثرها اثنتا عشرة ركعة. قال: أحسنتِ، فأخبريني
عن الاعتكاف. قالت: هو سُنَّة. قال: فما شرطه؟ قالت: النية، وألَّا يخرج من المسجد
إلا لحاجة، ولا يباشِر النساء، وأن يصوم ويترك الكلام. قال: أحسنتِ، فأخبريني
بماذا يجب الحج؟ قالت: بالبلوغ، والعقل، والإسلام، والاستطاعة، وهو واجب في العمر
مرة واحدة قبل الموت. قال: فما فروض الحج؟ قالت: الإحرام، والوقوف بعرفة، والطواف،
والسعي، والحلق أو التقصير. قال: فما فروض العمرة؟ قالت: الإحرام بها، وطوافها،
وسعيها. قال: فما فروض الإحرام؟ قالت: التجرُّد من المخيط، واجتناب الطيب، وترك
حلق الرأس وتقليم الأظافر وقتل الصيد والنكاح. قال: فما سنن الحج؟ قالت: التلبية،
وطواف القدوم والوداع، والمبيت بالمزدلفة وبمِنى، ورمي الجمار.
قال:
أحسنتِ، فما الجهاد؟ وما أركانه؟ قالت: أما أركانه؛ فخروج الكُفَّار علينا، ووجود
الإمام والعُدَّة، والثبات عند لقاء العدو. وأما سُنَنه؛ فهو التحريض على القتال
لقوله تعالى: يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ. قال: أحسنتِ، فأخبريني عن
فروض البيع وسُنَنه. قالت: أما فروض البيع؛ فالإيجاب والقبول، وأن يكون المبيع
مملوكًا مُنتفَعًا به مقدورًا على تسليمه، وترك الربا. وأما سننه؛ فالإقالة،
والخيار قبل التفرُّق لقوله ﷺ: »البيعان
بالخيار ما لم يتفرَّقَا». قال: أحسنتِ، فأخبريني عن شيء لا يجوز بيع بعضه ببعض.
قالت: حفظتُ في ذلك حديثًا صحيحًا عن نافع عن رسول الله ﷺ أنه نهى عن
بيع التمر بالرطب، والتين الرطب باليابس، والقديد باللحم، والزبد بالسمن، وكل ما
كان من صنف واحد مأكول فلا يجوز بيع بعضه ببعض. فلما سمع الفقيه كلامها، وعرف أنها
ذكية فَطِنة حاذقة، عالمة بالفقه والحديث والتفسير وغير ذلك، قال في نفسه: لا بد
من أن أتحيَّل عليها حتى أغلبها في مجلس أمير المؤمنين. فقال لها: يا جارية، ما
معنى الوضوء في اللغة؟ قالت: الوضوء في اللغة النظافة، والخلوص من الأدناس. قال:
فما معنى الصلاة في اللغة؟ قالت: الدعاء بخير. قال: فما معنى الغُسْل في اللغة؟
قالت: التطهير. قال: فما معنى الصوم لغةً؟ قالت: الإمساك. قال: فما معنى الزكاة
لغةً؟ قالت: الزيادة. قال: فما معنى الحج لغةً؟ قالت: القصد. قال: فما معنى
الجهاد؟ قالت: الدفاع. فانقطعت حجة الفقيه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام
المباح.
﴿اللیلة 443﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الفقيه لما انقطعت حجته قام قائمًا على قدمَيْه وقال:
اشهد عليَّ يا أمير المؤمنين بأن الجارية أعلم مني بالفقه. فقالت له الجارية:
أسألك عن شيء فَأْتِني بجوابه سريعًا إنْ كنتَ عارفًا. قال: اسألي. قالت: فما سهام
الدين؟ قال: هي عشرة: الأول الشهادة وهي الملة، الثاني الصلاة وهي الفطرة، الثالث
الزكاة وهي الطهارة، الرابع الصوم وهو الجنة، الخامس الحج وهو الشريعة، السادس
الجهاد وهو الكفاية، السابع والثامن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهما الغيرة،
التاسع الجماعة وهي الألفة، العاشر طلب العلم وهو الطريق الحميدة. قالت: أحسنتَ،
وقد بقيتْ عليك مسألة، فما أصول الإسلام؟ قال: هي أربعة: صحة العقد، وصدق القصد،
وحفظ الحد، والوفاء بالعهد. قالت: بقي مسألة أخرى، فإنْ أجبتَ وإلا أخذتُ ثيابك.
قال: قولي يا جارية. قالت: فما فروع الإسلام؟ فسكَتَ ساعةً ولم يُجِب بشيء. فقالت:
انزع ثيابك وأنا أفسِّرها لك. قال أمير المؤمنين: فَسِّريها، وأنا أنزع لك ما عليه
من الثياب. قالت: هي اثنان وعشرون فرعًا: التمسُّك بكتاب الله تعالى، والاقتداء
برسوله ﷺ، وكف الأذى، وأكل الحلال، واجتناب الحرام، ورد المظالم إلى أهلها،
والتوبة، والفقه في الدين، وحب الخليل، واتباع التنزيل، وتصديق المرسلين، وخوف
التبديل، والتأهُّب للرحيل، وقوة اليقين، والعفو عند القدرة، والقوة عند الضعف،
والصبر عند المصيبة، ومعرفة الله تعالى، ومعرفة ما جاء به نبيه ﷺ، ومخالفة
اللعين إبليس، ومجاهدة النفس ومخالفتها، والإخلاص لله. فلما سمع أمير المؤمنين ذلك
منها، أمر بنزع ثياب الفقيه وطيلسانه، فنزعهما ذلك الفقيه، وخرج مقهورًا منها
خجلًا من بين يدي أمير المؤمنين.
ثم
قام لها رجل آخَر وقال: يا جارية، اسمعي مني مسائل قليلة. قالت له: قُلْ. قال: فما
صحة التسليم؟ قالت: القدر المعلوم، والجنس المعلوم، والأجل المعلوم. قال: أحسنتِ،
فما فروض الأكل وسُنَنه؟ قالت: فروض الأكل الاعتراف بأن الله تعالى رزقه وأطعمه
وسقاه، والشكر لله تعالى على ذلك. قال: فما الشكر؟ قالت: صرف العبد جميع ما أنعم
الله به عليه فيما خُلِق لأجله. قال: فما سُنَن الأكل؟ قالت: التسمية، وغسل
اليدين، والجلوس على الورك الأيسر، والأكل بثلاث أصابع، والأكل مما يليك. قال:
أحسنتِ، فأخبريني ما آداب الأكل؟ قالت: أن تصغِّر اللقمة، وتقلَّ النظرة إلى
جليسك. قال: أحسنتِ. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 444﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية لما سُئِلت عن آداب الأكل وذكرت الجواب، قال
لها الفقيه السائل: أحسنتِ، فأخبريني عن عقائد القلب وأضدادها. قالت: هي ثلاث،
وأضدادها ثلاث؛ الأولى: اعتقاد الإيمان، وضدها مجانبة الكفر؛ والثانية: اعتقاد
السنة، وضدها مجانبة البدعة؛ والثالثة: اعتقاد الطاعة، وضدها مجانبة المعصية. قال:
أحسنتِ، فأخبريني عن شروط الوضوء. قالت: الإسلام، والتمييز، وطهور الماء، وعدم
المانع الحسي، وعدم المانع الشرعي. قال: أحسنتِ، فأخبريني عن الإيمان. قالت:
الإيمان ينقسم إلى تسعة أقسام: إيمان بالمعبود، وإيمان بالعبودية، وإيمان
بالخصوصية، وإيمان بالقبضتين، وإيمان بالقدر، وإيمان بالناسخ، وإيمان بالمنسوخ،
وأن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وتؤمن بالقضاء والقدر خيره وشرِّه حلوه
ومُرِّه. قال: أحسنتِ، فأخبريني عن ثلاث تمنع ثلاثًا. قالت: نعم، رُوِي عن سفيان
الثوري أنه قال: ثلاثٌ تُذهِب ثلاثًا: الاستخفاف بالصالحين يُذهِب الآخرة،
والاستخفاف بالملوك يُذهِب الروح، والاستخفاف بالنفقة يُذهِب المال. قال: أحسنتِ،
فأخبريني عن مفاتيح السموات، وكم لها من باب؟ قالت: قال الله تعالى: وَفُتِحَتِ
السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا، وقال عليه الصلاة والسلام: «ليس يعلم عدة أبواب
السماء إلا الذي خلق السماء، وما من أحد من بني آدم إلا وله بابان في السماء؛ باب
ينزل منه رزقه، وباب يصعد منه عمله، ولا يُغلَق باب رزقه حتى ينقطع أجله، ولا
يُغلَق باب عمله حتى تصعد روحه.«
قال:
أحسنتِ، فأخبريني عن شيء، وعن نصف شيء، وعن لا شيء. قالت: الشيء هو المؤمن، ونصف
الشيء هو المنافق، واللاشيء هو الكافر. قال: أحسنتِ، فأخبريني عن القلوب. قالت:
قلب سليم، وقلب سقيم، وقلب منيب، وقلب نذير، وقلب منير؛ فالقلب السليم هو قلب
الخليل، والقلب السقيم هو قلب الكافر، والقلب المنيب هو قلب المتقين الخائفين،
والقلب النذير هو قلب سيدنا محمد ﷺ، والقلب المنير هو قلب مَن يتبعه، وقلوب
العلماء ثلاثة: قلب متعلِّق بالدنيا، وقلب متعلِّق بالآخرة، وقلب متعلِّق بمولاه.
وقيل: إن القلوب ثلاثة: قلب معلَّق وهو قلب الكافر، وقلب معدوم وهو قلب المنافق،
وقلب ثابت وهو قلب المؤمن. وقيل: هي ثلاثة: قلب مشروح بالنور والإيمان، وقلب مجروح
من خوف الهجران، وقلب خائف من الخذلان. قال: أحسنتِ. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ
عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 445﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية لما سألها الفقيه الثاني عن المسائل وأجابته،
وقال لها: أحسنتِ. قالت: يا أمير المؤمنين، إنه قد سألني حتى عَيِيَ، وأنا أسأله
مسألتين، فإن أتى بجوابهما فذاك، وإلا أخذت ثيابه وانصرف بسلام. فقال لها الفقيه:
سليني عمَّا شئتِ. قالت: فما تقول في الإيمان؟ قال: إقرار باللسان، وتصديق بالقلب،
وعمل بالجوارح، قال عليه الصلاة والسلام: «لا يَكمُل المرء من الإيمان حتى يَكمُل
فيه خمس خصال: التوكل على الله، والتفويض إلى الله، والتسليم لأمر الله، والرضا
بقضاء الله، وأن تكون أموره لله؛ فإنه مَن أحَبَّ الله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد
استكمل الإيمان». قالت: فأخبرني عن فرض الفرض، وعن فرضٍ في ابتداء كل فرض، وعن
فرضٍ يحتاج إليه كل فرض، وعن فرضٍ يستغرق كل فرض، وعن سُنَّة داخلة في الفرض، وعن
سُنَّة يتم بها الفرض. فسكت ولم يُجِب بشيء، فأمرها أمير المؤمنين بأن تفسِّرها،
وأمره بأن ينزع ثيابه ويعطيها إياها، فعند ذلك قالت: يا فقيه، أما فرض الفرض
فمعرفة الله تعالى، وأما الفرض في ابتداء كل فرض فهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن
محمدًا رسول الله، وأما الفرض الذي يحتاج إليه كل فرض فهو الوضوء، وأما الفرض المستغرق
كل فرض فهو الغُسْل من الجنابة، وأما السُّنَّة الداخلة في الفرض فهي تخليل
الأصابع، وتخليل اللحية الكثيفة، وأما السُّنَّة التي يتم بها الفرض فهي الاختتان.
فعند ذلك تبيَّن عجز الفقيه، وقام على قدميه وقال: أشهد الله يا أمير المؤمنين أن
هذه الجارية أعلم مني بالفقه وغيره. ثم نزع ثيابه وانصرف مقهورًا.
وأما
حكايتها مع المقرئ، فإنها التفتت إلى مَن بقي من العلماء الحاضرين وقالت: أيكم
الأستاذ المقرئ العالِم بالقراءات السبع، والنحو، واللغة؟ فقام إليها المقرئ وجلس
بين يديها، وقال لها: هل قرأتِ كتابَ الله تعالى، وأحكمتِ معرفة آياته، وناسخه
ومنسوخه، ومُحكَمَه ومتشابهه، ومكيِّه ومدنيِّه، وفهمت تفسيره، وعرفته على
الروايات والأصول في القراءات؟ قالت: نعم. قال: أخبريني عن عدد سور القرآن، وكم
فيه من عُشْر؟ وكم فيه من آية؟ وكم فيه من حرف؟ وكم فيه من سجدة؟ وكم فيه من نبي
مذكور؟ وكم فيه من سورة مدنية؟ وكم فيه من سورة مكية؟ وكم فيه من طير؟ قالت: يا
سيدي، أما سور القرآن فمائة وأربع عشرة سورة، المكيُّ منها سبعون سورة، والمدني
أربع وأربعون سورة، وأما أعشاره فستمائة عُشْر وواحد وعشرون عُشْرًا، وأما الآيات
فستة آلاف ومائتان وستٌّ وثلاثون آية، وأما كلماته فتسعة وسبعون ألف كلمة
وأربعمائة وتسع وثلاثون كلمة، وأما حروفه فثلاثمائة ألف وثلاثة وعشرون ألفًا
وستمائة وسبعون حرفًا، وللقارئ بكل حرف عشر حسنات، وأما السجدات فأربع عشرة سجدة.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 446﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية لما سألها المقرئ عن القرآن أجابته وقالت له:
وأما الأنبياء الذين ذُكِرت أسماؤهم في القرآن فخمسة وعشرون نبيًّا، وهم: آدم،
ونوح، وإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، واليسع، ويونس، ولوط، وصالح،
وهود، وشعيب، وداود، وسليمان، وذو الكفل، وإدريس، وإلياس، ويحيى، وزكريا، وأيوب،
وموسى، وهارون، وعيسى، ومحمد، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وأما الطير فهن
تسع. قال: ما اسمهن؟ قالت: البعوض، والنحل، والذباب، والنمل، والهدهد، والغراب،
والجراد، والأبابيل، وطير عيسى — عليه السلام — وهو الخفاش. قال: أحسنتِ، فأخبريني
أي سورة في القرآن أفضل؟ قالت: سورة البقرة. قال: فأي آية أعظم؟ قالت: آية الكرسي،
وهي خمسون كلمة، مع كل كلمة خمسون بركة. قال: فأي آية فيها تسع آيات؟ قالت: قوله
تعالى: إِنَّ
فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ (البقرة:
١٦٩) إلى آخِر الآية. قال: أحسنتِ، فأخبريني أي آية أعدل؟ قالت: قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ
الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ (النحل: ٩٠) قال: فأي آية أطمع؟ قالت:
قوله تعالى: أَيَطْمَعُ
كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (المعارج: ٣٨) قال: فأي
آية أرجى؟ قالت: قوله تعالى: قُلْ
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن
رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ )الزمر:
٥٣(.
قال:
أحسنتِ، فأخبريني بأي قراءة تقرئين؟ قالت: بقراءة أهل الجنة، وهي قراءة نافع. قال:
فأي آية كذب فيها الأنبياء؟ قالت: قوله تعالى: وَجَاءُوا
عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ (يوسف: ١٨) وهم إخوة يوسف. قال: فأخبريني أي
آية صدق فيها الكفار؟ قالت: قوله تعالى: وَقَالَتِ
الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ
الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ (البقرة: ١١٣) وهم
صدقوا جميعًا. قال: فأي آية قالها الله لنفسه. قالت: قوله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (الذاريات: ٥٦). قال: فأي آية فيها
قول الملائكة؟ قالت: قوله تعالى: وَنَحْنُ
نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ (البقرة: ٣٠). قال: فأخبريني عن أعوذ
بالله من الشيطان الرجيم، وما جاء فيها. قالت: التعوُّذ واجبٌ أمَرَ الله به عند
القراءة، والدليل عليه قوله تعالى: فَإِذَا
قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ
الرَّجِيمِ (النحل: ٩٨). قال: فأخبريني ما لفظ الاستعاذة؟ وما الخلاف فيها؟
قالت: منهم مَن يستعيذ بقوله أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ومنهم
مَن يقول: أعوذ بالله القوي، والأحسنُ ما نطق به القرآن العظيم، ووردت به
السُّنَّة، وكان ﷺ إذا استفتح القرآن قال: أعوذ بالله من الشيطان
الرجيم. ورُوِي عن نافع عن أبيه قال: كان رسول الله ﷺ إذا قام يصلي في
الليل قال: «الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلًا» ثم
يقول: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ومن همزات الشياطين ونزعاتهم» ورُوِي عن ابن
عباس رضي الله عنهما أنه قال: «أول ما نزل جبريل على النبي ﷺ علَّمه
الاستعاذة، وقال له: قُلْ يا محمد: أعوذ بالله السميع العليم. ثم قُلْ: بسم الله
الرحمن الرحيم. ثم: اقْرَأْ
بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ )العلق: ١-٢.«(
فلما
سمع المقرئ كلامها تعجَّبَ من لفظها وفصاحتها، وعلمها وفضلها، ثم قال لها: يا
جارية، ما تقولين في قوله تعالى: بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (النمل: ١)، هل هي آية من آيات القرآن؟ قالت:
نعم، آية من القرآن في النمل، وآية بين كل سورتين، والاختلاف في ذلك بين العلماء
كثير. قال: أحسنتِ. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 447﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية لما أجابت المقرئ وقالت: إن بسم الله الرحمن
الرحيم فيها اختلاف كثير بين العلماء، قال: أحسنتِ، فأخبريني لِمَ لا تُكتَب بسم
الله الرحمن الرحيم في أول سورة براءة؟ قالت: لما نُزلت سورة براءة بنقض العهد
الذي كان بينه ﷺ وبين المشركين، وجَّهَ النبي ﷺ عليَّ بن أبي
طالب كرَّمَ الله وجهه في يوم موسم بسورة براءة، فقرأها عليهم ولم يقرأ بسم الله
الرحمن الرحيم. قال: فأخبريني عن فضل بسم الله الرحمن الرحيم، وبركتها. قالت:
رُوِي عن النبي ﷺ أنه قال: «ما قرأتُ بسم الله الرحمن الرحيم على شيء
إلا كان فيه البركة» وعنه ﷺ: «حلف
ربُّ العزة بعزته لا تُسمَّى بسم الله الرحمن الرحيم على مريض إلا عُوفِي من مرضه»
وقيل: لما خلق الله العرش اضطرب اضطرابًا عظيمًا، فكتب عليه: بسم الله الرحمن
الرحيم، فسكن اضطرابه. ولما نزلت بسم الله الرحمن الرحيم على رسول
الله ﷺ قال: «أمنت من ثلاثة: من الخسف، والمسخ، والغرق» وفضلها عظيم،
وبركتها كثيرة يطول شرحها، وقد رُوِي عن رسول الله ﷺ أنه قال: «يُؤتَى
برجل يوم القيامة فيُحاسَب فلا يلقى له حسنة، فيُؤمَر به إلى النار فيقول: إلهي ما
أنصفتَني. فيقول الله عز وجل: ولِمَ ذلك؟ فيقول: يا رب، لأنك سمَّيتَ نفسك الرحمن
الرحيم، وتريد أن تعذِّبني بالنار. فقال الله جل جلاله: أنا سمَّيتُ نفسي الرحمن
الرحيم، امضوا بعبدي إلى الجنة برحمتي، وأنا أرحم الراحمين» قال: أحسنتِ، فأخبريني
عن أول بدء بسم الله الرحمن الرحيم. قالت: لما أنزل الله تعالى القرآن كتبوا:
باسمك اللهم. فلما أنزل الله تعالى: قُلِ
ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ
الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (الإسراء: ١١٠) كتبوا: باسم الله الرحمن. فلما نزل: وَإِلَهُكُمْ
إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (البقرة: ١٦٣)
كتبوا: بسم الله الرحمن الرحيم.
فلما
سمع المقرئ كلامها أطرق وقال في نفسه: إن هذا العجب عجيب، وكيف تكلَّمَتْ هذه
الجارية في أول بَدْء بسم الله الرحمن الرحيم، والله لا بد من أن أتحيَّل عليها
لعلي أغلبها. ثم قال لها: يا جارية، هل أنزل الله القرآن جملة واحدة أم أنزله
متفرِّقًا؟ قالت: نزل به جبريل الأمين عليه السلام من عند رب العالمين على نبيه
محمد سيد المرسلين وخاتم النبيين، بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، والأخبار والأمثال،
في عشرين سنة آياتٍ متفرقات على حسب الوقائع. قال: أحسنتِ، فأخبريني عن أول سورة
نزلت على رسول الله ﷺ. قالت: في
قول ابن عباس سورة العلق، وفي قول جابر بن عبد الله سورة المدثر، ثم أُنزِلت السور
والآيات بعد ذلك. قال: فأخبريني عن آخِر آية نزلت. قالت: آخِر آية نزلت عليه آيةُ
الربا، وقيل: إِذَا
جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (النصر: ١). وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ
عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 448﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية لما أجابت المقرئ عن آخِر آية نزلت في
القرآن، قال لها: أحسنتِ، فأخبريني عن عدة الصحابة الذين جمعوا القرآن على عهد
رسول الله ﷺ. قالت: هم
أربعة؛ أُبَي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو عبيدة عامر بن الجراح، وعثمان بن عفان،
رضي الله عنهم أجمعين. قال: أحسنتِ، فأخبريني عن القرَّاء الذين تُؤخَذ عنهم
القراءات. قالت: هم أربعة؛ عبد الله بن مسعود، وأُبَي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وسالم
بن عبد الله. قال: فما تقولين في قوله تعالى: وَمَا ذُبِحَ
عَلَى النُّصُبِ (المائدة: ٣)؟ قالت: هي الأصنام التي تُنصب وتُعبَد من دون
الله تعالى، والعياذ بالله تعالى. قال: فما تقولين في قوله تعالى: تَعْلَمُ مَا
فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ (المائدة: ١١٦)؟ قالت: تعلم
حقيقتي وما عندي، ولا أعلم ما عندك، والدليل على هذا قوله: إِنَّكَ أَنتَ
عَلَّامُ الْغُيُوبِ (المائدة: ١١٦)، وقيل: تعلم عيني ولا أعلم عينك. قال:
فما تقولين في قوله تعالى: يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ
لَكُمْ (المائدة: ٨٧)؟ قالت: حدَّثني الشيخ — رحمه الله تعالى — عن الضحاك
أنه قال: هم قوم من المسلمين قالوا: نقطع مذاكيرنا، ونلبس المسوح، فنزلت هذه
الآية. وقال قتادة: إنها نزلت في جماعة من أصحاب رسول الله ﷺ، وهم: علي بن
أبي طالب، وعثمان بن مصعب، وغيرهما، قالوا: نخصي أنفسنا، ونلبس الشعر، ونترهَّب.
فنزلت هذه الآية. قال: فما تقولين في قوله تعالى: وَاتَّخَذَ
اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا؟ قالت: الخليل المحتاج الفقير، وفي قول آخَر هو المحب
المنقطع إلى الله تعالى الذي ليس لانقطاعه اختلال.
فلما
رآها المقرئ تمرُّ في كلامها مرَّ السحاب، ولم تتوقف في الجواب، قام على قدميه
وقال: أشهد الله يا أمير المؤمنين أن هذه الجارية أعلم مني بالقراءات وغيرها. فعند
ذلك قالت الجارية: أنا أسألك مسألة واحدة، فإن أتيتَ بجوابها فذاك، وإلا نزعتَ
ثيابك. قال أمير المؤمنين: سَلِيه. فقالت: ما تقول في آية فيها ثلاثة وعشرون
كافًا، وآية فيها ستة عشر ميمًا، وآية فيها مائة وأربعون عينًا، وحزب ليس فيه
جلالة؟ فعجز المقرئ عن الجواب، فقالت: انزع ثيابك. فنزع ثيابه، ثم قالت: يا أمير
المؤمنين، إن الآية التي فيها ستة عشر ميمًا في سورة هود، وهي قوله تعالى: قِيلَ يَا نُوحُ
اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ (هود: ٤٨) الآية، وإن الآية
التي فيها ثلاثة وعشرون كافًا في سورة البقرة، وهي آية الدين، وإن الآية التي فيها
مائة وأربعون عينًا في سورة الأعراف، وهي قوله تعالى: وَاخْتَارَ
مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا (الأعراف: ١٥٥) لكل رجل
عينان، وإن الحزب الذي ليس فيه جلالة هو سورة اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ
وَانشَقَّ الْقَمَرُ (القمر: ١)، والرحمن، والواقعة. فعند ذلك نزع المقرئ
ثيابه التي عليه، وانصرف خجلًا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 449﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية لما غلبت المقرئ ونزع ثيابه وانصرف خجلًا،
تقدَّمَ إليها الطبيب الماهر وقال: فرغنا من علم الأديان فتيقظي لعلم الأبدان،
وأخبريني عن الإنسان، وكيف خلقه؟ وكم في جسده من عرق؟ وكم من عظم؟ وكم من فقارة؟
وأين أول العروق؟ ولِمَ سُمِّيَ آدمُ آدمَ؟ قالت: سُمِّي آدم لأدمته؛ أيْ سُمْرة
لونه، وقيل: لأنه خُلِق من أديم الأرض؛ أيْ ظاهر وجهها، صدره من تربة الكعبة،
ورأسه من تربة المشرق، ورجلاه من تربة المغرب. وخلق الله له سبعة أبواب في رأسه،
وهي: العينان، والأذنان، والمنخران، والفم، وجعل له منفذين قُبُله ودُبُره، فجعل
العينين حاسة النظر، والأذنين حاسة السمع، والمنخرين حاسة الشم، والفم حاسة الذوق،
وجعل اللسان ينطق بما في ضمير الإنسان، وخَلق آدم مركبًا من أربعة عناصر، وهي:
الماء، والتراب، والنار، والهواء؛ فكانت الصفراء طبع النار وهي حارَّة يابسة،
والسوداء طبع التراب وهو بارد يابس، والبلغم طبع الماء وهو بارد رطب، والدم طبع
الهواء وهو حار رطب. وخَلق في الإنسان ثلاثمائة وستين عرقًا، ومائتين وأربعين
عظمًا، وثلاثة أرواح: حيواني، ونفساني، وطبيعي، وجعل لكلٍّ منها حكمًا، وخلق الله
له قلبًا، وطحالًا، ورئة، وستة أمعاء، وكبدًا، وكليتين، وإليتين، ومخًّا، وعظمًا،
وجلدًا، وخمس حواس: سامعة، وباصرة، وشامة، وذائقة، ولامسة، وجعل القلب في الجانب
الأيسر من الصدر، وجعل المعدة أمام القلب، وجعل الرئة مروحةً للقلب، وجعل الكبد في
الجانب الأيمن محاذية للقلب، وخلق ما دون ذلك من الحجاب والأمعاء، وركَّب ترائب
الصدر وشبكها بالأضلاع.
قال:
أحسنتِ، فأخبريني كم في رأس ابن آدم من بطن؟ قالت: ثلاثة بطون، وهي تشتمل على خمس
قوى تُسمَّى الحواس الباطنية، وهي: الحس المشترك، والخيال، والمتصرفة، والواهمة،
والحافظة. قال: أحسنتِ، فأخبريني عن هيكل العظام. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن
الكلام المباح.
﴿اللیلة 450﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية لما قال لها الطبيب: أخبريني عن هيكل العظام.
قالت: هو مؤلَّف من مائتين وأربعين عظمة، وينقسم إلى ثلاثة أقسام: رأس، وجذع،
وأطراف. أما الرأس: فتنقسم إلى جمجمة، ووجه؛ فالجمجمة مركَّبة من ثمانية عظام،
ويضاف إليها عظميات السمع الأربع، والوجه ينقسم إلى فكٍّ علوي، وفكٍّ سفلي؛
فالعلوي يشتمل على إحدى عشرة عظمة، والسفلي عظمة واحدة، ويضاف إليه الأسنان، وهي
اثنتان وثلاثون سنًّا، وكذا العظم اللامي. وأما الجذع فينقسم إلى سلسلة فقارية،
وصدر وحوض، فالسلسلة مركَّبة من أربعة وعشرين عظمة تُسمَّى الفقار، والصدر مركَّب
من القفص والأضلاع التي هي أربع وعشرون ضلعًا في كل جانب اثنتا عشرة، والحوض مركَّب
من العظمين الحرقفيين والعجز والعصعص. وأما الأطراف فتنقسم إلى طرفين علويين،
وطرفين سفليين؛ فالعلويان ينقسم كلٌّ منهما أولًا: إلى منكب مركب من الكتف،
والترقوة، وثانيًا: إلى عضد، وهو عظمة واحدة، وثالثًا: إلى ساعد مركب من عظمتين
هما: الكعبرة والزند، ورابعًا: إلى كف ينقسم إلى رسغ، ومشط، وأصابع، فالرسغ مركب
من ثمانية عظام مصفوفة صفين، كلٌّ منهما يشتمل على أربعة عظام، والمشط يشتمل على
خمسة عظام، والأصابع عدتها خمس، كلٌّ منها مركب من ثلاثة عظام تُسمَّى السلاميات،
إلا الإبهام فإنها مركبة من اثنين فقط، والطرفان السفليان ينقسم كلٌّ منهما أولًا:
إلى فخذ هو عظمة واحدة، وثانيًا: إلى ساق مركب من ثلاثة عظام: القصبة، والشظية،
والرصفة، وثالثًا: إلى قدم ينقسم كالكف إلى رسغ، ومشط، وأصابع، فالرسغ مركَّب من
سبعة عظام مصفوفة صفين: الأول فيه عظمان، والثاني فيه خمسة، والمشط مركب من خمسة
عظام، والأصابع عدتها خمس، كل منها مركبة من ثلاث سلاميات، إلا الإبهام فمن
سلاميَّين فقط.
قال:
أحسنتِ، فأخبريني عن أصل العروق؟ قالت: أصل العروق الوتين، ومنه تتشعب العروق، وهي
كثيرة لا يعلم عددها إلا الذي خلقها، وقيل إنها ثلاثمائة وستون عرقًا كما سبق، وقد
جعل الله اللسان ترجمانًا، والعينين سراجين، والمنخرين منشقين، واليدين جناحين. ثم
إن الكبد فيه الرحمة، والطحال فيه الضحك، والكليتين فيهما المكر، والرئة مروحة،
والمعدة خزانة، والقلب عماد الجسد، فإذا صلح القلب صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد
الجسد كله. قال: أخبريني عن الدلالات والعلامات الظاهرة التي يُستدَل بها على
المرض في الأعضاء الظاهرة والباطنة. قالت: نعم، إذا كان الطبيب ذا فهم نظر في
أحوال البدن، استدلَّ بجس اليدين على الصلابة والحرارة واليبوسة والبرودة
والرطوبة، وقد توجد في المحسوس دلالات على الأمراض الباطنة كصُفْرة العينين فإنها
تدل على اليرقان، وتحقُّف الظهر فإنه يدل على داء الرئة. قال: أحسنتِ. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.