kurd-partuk

الليالي من--(351 ← 400)

﴿اللیلة 351

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الخراساني قال للزيادي: والله لو أصدقتني من أول الأمر ما طالبتك، وأنا الآن والله لا أقبل شيئًا من هذا المال، وأنت في حلٍّ منه. وانصرف من عندي، ثم أصلحت أمري وذهبت في يوم الموكب إلى باب المأمون، فدخلت عليه وهو جالس، فلما مَثُلتُ بين يدَيْه استدناني وأخرج لي عهدًا من تحت مصلاه وقال: هذا عهد بقضاء المدينة الشريفة من الجانب الغربي من باب السلام إلى ما لا نهايةَ له، وقد أجريتُ لك كذا وكذا في كل شهر. فاتقِّ الله عزَّ وجل وحافِظْ على عناية رسول الله ﷺ بك. فتعجَّبَ الناس من كلامه وسألوني عن معناه، فأخبرتهم بالقصة من أولها إلى آخرها، فشاع الخبر بين الناس، وما زال أبو حسان الزيادي قاضيًا في المدينة الشريفة إلى أن مات في أيام المأمون، رحمة الله عليه.

 

حكاية الصديق عند الضيق

ومما يُحكَى أن رجلًا كان ذا مال كثير، ففقد منه وصار لا يملك شيئًا، فأشارت عليه زوجته أن يقصد بعض أصدقائه فيما يُصلِح به حاله، فقصد صديقًا له وذكر له ضرورته له، فأقرضه خمسمائة دينار على أنه يتجر فيها، وكان في ابتداء حاله جوهريًّا، فأخذ الذهب ومضى إلى سوق الجواهر وفتح دكانه ليشتري ويبيع، فلما قعد في الدكان أتاه ثلاثة رجال وسألوه عن والده، فذكر لهم وفاته، فقالوا له: هل خلف أحدًا من الذرية؟ قال: خلف العبد الذي بين أيديكم. قالوا: مَن يعرف أنك ولده؟ قال: أهل السوق. فقالوا له: اجمعهم حتى يشهدوا أنك ولده. فجمعهم وشهدوا بذلك، فأخرج الثلاثة رجال خُرْجًا فيه مقدار ثلاثين ألف دينار، وفيه جواهر ومعادن ثمينة، وقالوا: هذا كان عندنا أمانة لأبيك. ثم انصرفوا، فأتته امرأة وطلبت منه شيئًا من ذلك الجوهر يساوي خمسمائة دينار، فاشترته منه بثلاثة آلاف دينار فباعه لها، ثم قام وأخذ الخمسمائة دينار التي كان اقترضها من صديقه وحملها إليه وقال له: خذ الخمسمائة دينار التي اقترضتُها منك، فقد فتح الله عليَّ ويسَّرَ لي. فقال له صديقه: إني أعطيتك إياها وخرجت عنها لله، فخذها وخذ هذه الورقة ولا تقرأها إلا وأنت في دارك، واعمل بما فيها. فأخذ المال والورقة وذهب إلى بيته، فلما فتحها وجد مكتوبًا فيها هذه الأبيات:

إِنَّ الرِّجَالَ الْأُولَى جَاءُوكَ مِنْ نَسَبِي        أَبِي وَعَمِّي وَخَالِي صَالِحُ بْنُ عَلِي

كَذَاكَ مَا بِعْتُهُ نَقْدًا لِوَالِدَتِي        الْمَالَ وَالْجَوْهَرَ الْمَبْعُوثَ مِنْ قِبَلِي

وَمَا أَرَدْتُ بِهَذَا مِنْكَ مَنْقَصَةً        لَكِنْ لَأَكْفِيكَ مِنِّي وَرْطَةَ الْخَجَلِ

 

حكاية إفلاس رجل من بغداد

ومما يُحكَى أنَّ رجلًا من بغداد كان صاحب نعمة وافرة ومال كثير، فنفد ماله وتغيَّرَ حاله وصار لا يملك شيئًا، ولا ينال قُوتَه إلا بجهد جهيد، فنام ذات ليلة وهو مغمور مقهور، فرأى في منامه قائلًا يقول له: إن رزقك بمصر فاتبعه وتوجَّهْ إليه. فسافَرَ إلى مصر، فلما وصل إليها أدركه المساء فنام في مسجد، وكان بجوار المسجد بيت، فقدَّرَ الله تعالى أن جماعة من اللصوص دخلوا المسجد وتوصَّلوا منه إلى ذلك البيت، فانتبه أهل البيت على حركة اللصوص وقاموا بالصياح، فأغاثهم الوالي بأتباعه فهرب اللصوص، ودخل الوالي المسجد فوجد الرجل البغدادي نائمًا في المسجد، فقبض عليه وضربه بالمقارع ضربًا مؤلمًا حتى أشرف على الهلاك وسجنه، فمكث ثلاثة أيام في السجن، ثم أحضره الوالي وقال له: من أي البلاد أنت؟ قال: من بغداد. قال له: وما حاجتك التي هي سبب في مجيئك إلى مصر؟ قال: إني رأيت في منامي قائلًا يقول لي: إن رزقك بمصر فتوجَّهْ إليه. فلما جئتُ إلى مصر وجدتُ الرزقَ الذي أخبرني به؛ تلك المقارع التي نلتُها منك. فضحك الوالي حتى بدت نواجذه وقال له: يا قليل العقل، أنا رأيتُ ثلاثَ مرات في منامي قائلًا يقول لي: إن بيتًا في بغداد بخط كذا ووصفه كذا، بحوشه جنينة تحتها فسقية بها مال له جرم عظيم، فتوجَّهْ إليه وخذه، فلم أتوجَّهْ، وأنت من قلة عقلك سافرتَ من بلدة إلى بلدة من أجل رؤيا رأيتَها وهي أضغاث أحلام. ثم أعطاه دراهم وقال له: استعِنْ بها على عودك إلى بلدك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 352

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الوالي أعطى البغدادي دراهم وقال له: استعِنْ بها على عودك إلى بلدك. فأخذها وعاد إلى بغداد، وكان البيت الذي وصفه الوالي ببغداد هو بيت ذلك الرجل، فلما وصل إلى منزله حفر تحت الفسقية، فرأى مالًا كثيرًا ووسَّعَ الله عليه رزقَه، وهذا اتفاق عجيب.

 

حكاية المتوكل ومحبوبة

ومما يُحكَى أنه كان في قصر أمير المؤمنين المتوكِّل على الله أربعة آلاف سرية؛ مائتان روميات، ومائتان مولدات وحبش، وقد أهدى عبيد بن طاهر إلى المتوكل أربعمائة جارية؛ مائتان بيض، ومئتان حبش ومولدات، وكان من جملة ذلك جاريةٌ من مولدات البصرة يقال لها محبوبة، وكانت فائقة في الحُسْن والجمال والظرف والدلال، وكانت تضرب بالعود وتُحسِن الغناء وتنظم الشعر وتكتب خطًّا جيدًا، فافتتن بها المتوكل وكان لا يصبر عنها ساعة واحدة، فلما رأت ميله إليها تكبَّرَتْ عليه وبطرت النعمة، فغضب عليها غضبًا شديدًا وهجرها، ومنع أهل القصر من كلامها، فمكثت على ذلك أيامًا، وكان المتوكل له ميل إليها، فأصبح ذات يوم وقال لجلسائه: إني رأيت في هذه الليلة في منامي كأني صالَحْتُ محبوبة. فقالوا له: نرجو من الله تعالى أن يكون ذلك يقظة. فبينما هو في الكلام وإذا بخادمة قد أقبلت وأسَرَّتْ إلى المتوكل حديثًا، فقام من المجلس ودخل دار الحريم. وكان الذي أسَرَّتْه إليه أنها قالت له: سمعنا من حجرة محبوبة غناءً وضربًا بالعود، وما ندري سبب ذلك. فلما وصل إلى حجرتها سمعها تغني على العود، وتُحسِن الضربات وتنشد هذه الأبيات:

أَدُورُ فِي الْقَصْرِ لَا أَرَى أَحَدًا        أَشْكُو إِلَيْهِ وَلَا يُكَلِّمُنِي

حَتَّى كَأَنِّي ارْتَكَبْتُ مَعْصِيَةً        لَيْسَ لَهَا تَوْبَةٌ تُخَلِّصُنِي

فَهَلْ لَنَا شَافِعٌ إِلَى مَلِكٍ        قَدْ زَارَنِي فِي الْكَرَى وَصَالَحَنِي

حَتَّى إِذَا مَا الصَّبَاحُ لَاحَ لَنَا        عَادَ إِلَى هَجْرِهِ وَقَاطَعَنِي

فلما سمع المتوكل كلامها، تعجَّبَ من هذه الأبيات ومن هذا الاتفاق الغريب؛ حيث رأت محبوبة منامًا موافِقًا لمنامه، فدخل عليها في الحجرة، فلما دخل حجرتها وأحَسَّتْ به، بادرت بالقيام إليه وانكَبَّتْ على أقدامه وقبَّلَتْها وقالت: والله يا سيدي، لقد رأيتُ هذه الواقعة في منامي ليلةَ البارحة، فلما انتبهت من النوم نظمت هذه الأبيات. فقال لها المتوكل: والله إني رأيتُ منامًا مثل ذلك. ثم إنهما تعانَقَا واصطلحَا، وأقام عندها سبعة أيام بلياليها، وكانت محبوبة قد كتبت على خدها بالمسك اسم المتوكل، وكان اسمه جعفر، فلما رأى المتوكل اسمه مكتوبًا بأعلى خدِّها بالمسك، أنشد يقول:

وَكَاتِبَةٍ بِالْمِسْكِ فِي الْخَدِّ جَعْفَرَا        بِنَفْسِي مَنْ قَدْ خَطَّ فِي الْخَدِّ مَا أَرَى

لَئِنْ كَتَبَتْ فِي الْخَدِّ سَطْرًا بَنَانُهَا        لَقَدْ أَوْدَعَتْ قَلْبِي مِنَ الْخَطِّ أَسْطُرَا

فَيَا مَنْ هَدَاهَا فِي الْبَرِيَّةِ جَعْفَرٌ        سَقَى اللهُ مِنْ سُقْيَا شَرَابِكِ جَعْفَرَا

ولما مات المتوكل، سلاه جميع مَن كان له من الجواري إلا محبوبة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 353

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أنه لما مات المتوكل، سلاه جميع مَن كان له من الجواري إلا محبوبة، فإنها لم تزل حزينة عليه حتى ماتت ودُفِنت بجانبه رحمة الله عليهم أجمعين.

 

حكاية وردان الجزار والمرأة والدب

ومما يُحكَى أنه كان في زمن الحاكم بأمر الله رجل بمصر يُسمَّى وردان، وكان جزَّارًا في اللحم الضاني، وكانت امرأة تأتيه كل يوم بدينار يقارب وزنُه وزنَ دينارين ونصف من الدنانير المصرية، وتقول له: أعطني خروفًا. وتُحضِر معها حمَّالًا بقفص، فيأخذ منها الدينار ويعطيها خروفًا، فتحمله إلى الحمال وتأخذه وتروح به إلى مكانها، وفي ثاني يوم وقت الضحى تأتي. وكان ذلك الجزار يكتسب منها كل يوم دينارًا، وأقامت مدة طويلة على ذلك؛ فتفكَّر وردان الجزَّار ذات يوم في أمرها، وقال في نفسه: هذه المرأة كل يوم تشتري مني بدينار، ولم تغلط يومًا واحدًا، وتشتري مني بدراهم، فهذا أمر عجيب. ثم إن وردان سأل الحمال في غيبة المرأة فقال له: إلى أين تروح كل يوم مع هذه المرأة؟ فقال له: أنا في غاية العجب منها؛ فإنها كل يوم تحمِّلني الخروف من عندك، وتشتري حوائج الطعام والفاكهة والشمع والنقل بدينار آخَر، وتأخذ من شخص نصراني مروقتين نبيذًا وتعطيه دينارًا، وتحمِّلني الجميع وأسير معها إلى بساتين الوزير، ثم تعصب عيني بحيث إني لا أنظر موضعًا من الأرض أحطُّ فيه قدمي، وتأخذ بيدي فما أعرف أين تذهب بي، ثم تقول: حطَّ هنا. وعندها قفص آخَر فتعطيني الفارغ، ثم تمسك يدي وتعود بي إلى الموضع الذي شدَّتْ عينيَّ فيه بالعصابة، فتحلها وتعطيني عشرة دراهم. فقال له الجزار: الله يكون في عونها. ولكن ازداد فكرًا في أمرها، وكثرت عنده الوساوس، وبات في قلق عظيم. ثم قال وردان الجزار: فلما أصبحتُ أتتني على العادة، وأعطتني الدينار، وأخذت الخروف وحملته إلى الحمال وراحت؛ فأوصيت صبيِّي على الدكان وتبعتها بحيث لا تراني. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 354

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن وردان الجزار قال: فأوصيت صبيي على الدكان، وتبعتها بحيث لا تراني، ولم أزل أعاينها إلى أن خرجَتْ من مصر، وأنا أتوارى خلفها حتى وصلت إلى بساتين الوزير، فاختفيت حتى عصبت عينَيِ الحمال، وتبعتها من مكان إلى مكان إلى أن أتت الجبل، فوصلَتْ إلى مكان فيه حجر كبير، وحطَّتِ القفصَ عن الحمال، فصبرتُ إلى أن عادت بالحمال ورجعَتْ ونزعَتْ جميعَ ما كان في القفص وغابت ساعة، فأتيتُ إلى ذلك الحجر فزحزحته ودخلت، فوجدت خلفه طابقًا من نحاس مفتوحًا ودَرَجًا نازلة، فنزلت في تلك الدَّرَج قليلًا قليلًا حتى وصلت إلى دهليز طويل كثير النور، فمشيت فيه حتى رأيت هيئةَ باب قاعة، فارتكنت في زوايا الباب، فوجدتُ صفة بها سلالم خارج باب القاعة، فتعلقت فيها فوجدت صفة صغيرة بها طاقة تشرف على قاعة، فنظرت في القاعة فوجدت المرأة قد أخذت الخروف، وقطعت منه مطايبه، وعملته في قِدْر، ورمت الباقي إلى دبٍّ كبير عظيم الخلقة، فأكله عن آخره وهي تطبخ، فلما فرغت أكلت كفايتها، ووضعت الفاكهة والنقل، وحطت النبيذ، وصارت تشرب بقدح وتسقي الدب بطاسة من ذهب، حتى حصل لهما نشوة السُّكْر، فنزعت لباسها ونامت، فقام الدب وواقَعَها وهي تعاطيه من أحسن ما يكون لبني آدم حتى فرغ وجلس، ثم وثب إليها وواقَعَها، ولما فرغ جلس واستراح، ولم يزل كذلك حتى فعل ذلك عشر مرات، ثم وقع كلٌّ منهما مغشيًّا عليه، وصارا لا يتحركان، فقلت في نفسي: هذا وقت انتهاز الفرصة، فنزلت ومعي سكين تبري العظم قبل اللحم، فلما صرت عندهما وجدتهما لا يتحرك فيهما عرق لما حصل لهما من المشقة، فجعلت السكين في منحر الدب واتكأت عليه حتى خلَّصته، وانعزلت رأسه عن بدنه، فصار له شخير عظيم مثل الرعد، فانتبهت المرأة مرعوبة، فلما رأت الدبَّ مذبوحًا وأنا واقف والسكين في يدي، زعقت زعقة عظيمة حتى ظننتُ أن روحها قد خرجت، وقالت لي: يا وردان، أيكون هذا جزاء الإحسان؟ فقلت لها: يا عدوة نفسها، هل عُدِمت الرجال حتى تفعلي هذا الفعل الذميم؟ فأطرقت رأسها إلى الأرض لا ترد جوابًا، وتأمَّلت الدبَّ وقد نُزِعت رأسه عن جثته، ثم قالت: يا وردان، أي شيء أحبُّ إليك؛ أن تسمع الذي أقوله لك ويكون سببًا لسلامتك … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 355

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن المرأة قالت: يا وردان، أيُّ شيءٍ أحبُّ إليك؛ أن تسمع الذي أقوله لك ويكون سببًا لسلامتك وغناك إلى آخر الدهر، أم تخالفني ويكون سببًا لهلاكك؟ قلتُ: أختار أن أسمع كلامك، فحدِّثيني بما شئتِ. فقالت: اذبحني كما ذبحتَ هذا الدبَّ، وخذ من هذا الكنز حاجتك، وتوجَّه إلى حال سبيلك. فقلت لها: أنا خير من هذا الدب، فارجعي إلى الله تعالى وتوبي وأتزوَّج بك، ونعيش باقي عمرنا بهذا الكنز. قالت: يا وردان، إن هذا بعيد، كيف أعيش بعده؟ والله إن لم تذبحني لأتلفنَّ روحك، فلا تراجعني تتلف، وهذا ما عندي من الرأي، والسلام. فقلتُ: أذبحك وتروحين إلى لعنة الله. ثم جذبتها من شعرها وذبحتها وراحت إلى لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. وبعد ذلك نظرت في المحل فوجدت فيه من الذهب والفصوص واللؤلؤ ما لا يقدر على جمعه أحدٌ من الملوك، فأخذتُ قفص الحمال وملأته على قدر ما أطيق، ثم سترته بقماشي الذي كان عليَّ وحملته، وطلعت من الكنز وسرت، ولم أزل سائرًا إلى باب مصر، وإذا بعشرة من جماعة الحاكم بأمر الله مُقبِلون، والحاكم خلفهم، فقال لي: يا وردان. قلت: لبيك أيها الملك. قال: هل قتلتَ الدبَّ والمرأة؟ قلتُ: نعم. قال: حطَّ عن رأسك، وطِبْ نفسًا، فجميع ما معك من المال لك لا ينازعك فيه أحد. فحططتُ القفصَ بين يديه، فكشفه ورآه وقال: حدِّثني بخبرهما، وإن كنت أعرفه كأنني حاضر معكم. فحدَّثته بجميع ما جرى وهو يقول: صدقتَ. فقال: يا وردان، قُمْ سِرْ بنا إلى الكنز. فتوجَّهْتُ معه إليه، فوجد الطابق مغلقًا، فقال: ارفعه يا وردان، فإن هذا الكنز لا يقدر أحد أن يفتحه غيرك، فإنه مرصود باسمك وصفتك. فقلت: والله لا أطيق فتحه. فقال: تقدَّمْ أنت على بركة الله. فتقدَّمْتُ إليه وسمَّيْتُ الله تعالى، ومددت يدي إلى الطابق فارتفع كأنه أخف ما يكون، فقال الحاكم: انزل وأطلع ما فيه، فإنه لا ينزله إلا مَن هو باسمك وصورتك وصفاتك من حين وُضِع، وقَتْل هذا الدب وهذه المرأة على يديك وهو عندي مؤرَّخ، وكنتُ أنتظر وقوعَه حتى وقع. قال وردان: فنزلت ونقلت له جميع ما في الكنز، ثم دعا بالدواب وحمله، وأعطاني قفصي بما فيه، فأخذته وعدتُ إلى بيتي، وفتحتُ لي دكانًا في السوق، وهذا السوق موجود إلى الآن، ويُعرَف بسوق وردان.

 

حكاية بنت السلطان والقرد

ومما يُحكَى أيضًا أنه كان لبعض السلاطين ابنة، وقد تعلَّق قلبها بحبِّ عبد أسود، فافتض بكارتها، وأُولِعت بالنكاح، فكانت لا تصبر عنه ساعة واحدة، فشكت أمرها إلى بعض القهرمانات، فأخبرتها أنه لا شيء ينكح أكثر من القرد. فاتفق أن قرَّادًا مرَّ تحت طاقتها بقرد كبير، فأسفرت عن وجهها ونظرت إلى القرد وغمزته بعيونها، فقطع القرد وثاقه وسلاسله وطلع لها، فخبَّأته في مكان عندها، وصار ليلًا ونهارًا على أكل وشرب وجماع، ففطن أبوها بذلك وأراد قتلها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 356

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السلطان لما فطن بأمر ابنته، وأراد قتلها شعرت بذلك؛ فتزيَّت بزيِّ المماليك وركبت فرسًا، وأخذت لها بغلًا وحمَّلته من الذهب والمعدن والقماش ما لا يُوصَف، وحملت القرد معها، وسارت حتى وصلت إلى مصر، فنزلت في بعض بيوت الصحراء، وصارت كل يوم تشتري لحمًا من شاب جزار، ولكن لا تأتيه إلا بعد الظهر وهي مصفرة اللون متغيِّرة الوجه، فقال الشاب في نفسه: لا بد لهذا المملوك من سبب عجيب. فلما جاءت على العادة وأخذت اللحم تَبِعها من حيث لا تراه، قال: ولم أزل خلفها من حيث لا تراني من محل إلى محل حتى وصلَتْ إلى مكانها الذي بالصحراء ودخلت هناك، فنظرتُ إليها من بعض جهاته فرأيتها استقرت بمكانها، وأوقدت النار، وطبخت اللحم وأكلت كفايتها، وقدَّمت باقيه إلى القرد الذي معها فأكل كفايته، ثم إنها نزعت ما عليها من الثياب ولبست أفخر ما عندها من ملابس النساء، فعلمتُ أنها أنثى، ثم إنها أحضرت خمرًا وشربت منه، وسقت القرد، ثم واقَعَها القرد نحو عشر مرات حتى غُشِي عليها، وبعد ذلك نشر القرد عليها ملاءة من حرير، وراح إلى محله؛ فنزلتُ إلى وسط المكان فأحَسَّ بي القرد وأراد افتراسي، فبادرتُه بسكين كانت معي فضربتُ بها كرشه، فانتبهت الصبية فَزِعة مرعوبة، فرأت القرد على هذه الحالة؛ فصرخت صرخة عظيمة حتى كادت أن تزهق روحها، ثم وقعت مغشيًّا عليها، فلما أفاقت من غشيتها قالت لي: ما حملك على ذلك؟ ولكن بالله عليك أن تُلحِقني به. فلا زلت ألاطفها، وأضمن لها أني أقوم بما قام به القرد من كثرة النكاح إلى أن سكن روعها، وتزوَّجْتُ بها، فعجزت عن ذلك ولم أصبر عليه؛ فشكوت حالي إلى بعض العجائز، وذكرتُ لها ما كان من أمرها، فالتزمت لي بتدبير هذا الأمر، وقالت لي: لا بد أن تأتيني بقِدْر وتملأه من الخل البكر، وتأتيني بقَدر رطل من العود القرح.

فأتيتُ لها بما طلبته، فوضعته في القِدر ووضعت القِدر على النار، وغلته غليانًا قويًّا، ثم أمرتني بنكاح الصبية، فنكحتُها إلى أن غُشِي عليها، فحملتها العجوز وهي لا تشعر، وألقت فرجها على فم القدر، فصعد دخانه حتى دخل فرجها، فنزل من فرجها شيء، فتأمَّلْتُه فإذا هو دودتان؛ إحداهما سوداء، والأخرى صفراء، فقالت العجوز: الأولى تربَّتْ من نكاح العبد، والثانية تربَّتْ من نكاح القرد. فلما أفاقت من غشيتها استمرت معي وهي لم تطلب النكاح، وقد صرف الله عنها تلك الحالة، وتعجَّبَتْ من ذلك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 357

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشاب قال: وقد صرف الله عنها تلك الحالة، وتعجَّبَتْ من ذلك، فأخبرتها بالقصة. واستمرت معه في أرغد عيش وأحسن لذة، واتخذت عندها العجوز مكان والدتها، وما زالت هي وزوجها والعجوز في هناء وسرور إلى أن أتاهم هادم اللذات، ومفرِّق الجماعات؛ فسبحان الحي الذي لا يموت، وبيده الملك والملكوت.

 

حكاية الفرس الطائر

ومما يُحكَى أنه كان في قديم الزمان ملك عظيم ذو خطر جسيم، وكان له ثلاث بنات مثل البدور السافرة، والرياض الزاهرة، وولد ذكر كأنه القمر. فبينما الملك جالس على كرسي مملكته يومًا من الأيام إذ دخل عليه ثلاثة من الحكماء، مع أحدهم طاوس من ذهب، ومع الثاني بوق من نحاس، ومع الثالث فرس من عاج وأبنوس، فقال لهم الملك: ما هذه الأشياء؟ وما منفعتها؟ فقال صاحب الطاوس: إن منفعة هذا الطاوس أنه كلما مضت ساعة من ليل أو نهار يصفِّق بأجنحته ويزعق. وقال صاحب البوق: إنه إذا وضع هذا البوق على باب المدينة يكون كالمحافظ عليها، فإذا دخل إلى تلك المدينة عدوٌّ، يزعق عليه هذا البوق فيُعرَف ويُمسَك باليد. وقال صاحب الفرس: يا مولاي، إن منفعة هذه الفرس أنه إذا ركبها إنسان فإنها توصله إلى أي بلاد أراد.

فقال الملك: لا أنعم عليكم حتى أجرِّب منافع هذه الصور. ثم إنه جرَّب الطاوس فوجده كما قال صاحبه، وجرَّب البوق فوجده كما قال صاحبه، فقال الملك للحكيمين: تمنَّيَا عليَّ. فقالَا: نتمنَّى عليك أن تزوِّج كل واحد منَّا بنتًا من بناتك. فأنعم الملك عليهما ببنتين من بناته، ثم تقدَّم الحكيم الثالث صاحب الفرس، وقبَّل الأرض بين يدي الملك وقال له: يا ملك الزمان، أَنعِم عليَّ كما أنعمت على أصحابي. فقال له الملك: حتى أجرِّب ما أتيتَ به. فعند ذلك تقدَّمَ ابن الملك وقال: يا والدي، أنا أركب هذه الفرس وأجرِّبها وأختبر منفعتها. فقال الملك: يا ولدي، جرِّبها كما تحب. فقام ابن الملك وركب الفرس وحرَّك رجليه، فلم تتحرك من مكانها. فقال: يا حكيم، أين الذي ادَّعَيْتَه من سرعة سيرها؟ فعند ذلك جاء الحكيم إلى ابن الملك، وأراه لولب الصعود، وقال له: افرك هذا اللولب. ففركه ابن الملك، وإذا بالفرس قد تحرَّكَ، وطار بابن الملك إلى عنان السماء، ولم يزل طائرًا به حتى غاب عن الأعين، فعند ذلك احتار ابن الملك في أمره، وندم على ركوبه الفرس، ثم قال: إن الحكيم قد عمل حيلةً على هلاكي، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ثم إنه جعل يتأمل في جميع أعضاء الفرس، فبينما هو يتأمل فيها إذ نظر إلى شيءٍ مثل رأس الديك على كتف الفرس الأيمن، وكذلك الأيسر، فقال ابن الملك: ما أرى فيه أثرًا غير هذين الزِّرَّين. ففرك الزر الذي على الكتف الأيمن، فازدادت به الفرس سيرًا طالعة إلى الجو فتركه، ثم نظر إلى الكتف الأيسر فرأى ذلك الزرَّ ففركه، فتناقصت حركات الفرس من الصعود إلى الهبوط، ولم تزل هابطة به إلى الأرض قليلًا قليلًا، وهو محترس على نفسه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 358

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن ابن الملك لما فرك الزر الأيسر تناقصت حركات الفرس من الصعود إلى الهبوط، ولم تزل هابطة به إلى الأرض قليلًا قليلًا، وهو محترس على نفسه، فلما نظر ابن الملك ذلك وعرف منافع الفرس، امتلأ قلبه فرحًا وسرورًا، وشكر الله تعالى على ما أنعَمَ به عليه حيث أنقذه من الهلاك، ولم يزل هابطًا طول نهاره؛ لأنه كان في حال صعوده بعدت عنه الأرض، وجعل يدوِّر وجه الفرس كما يريد وهي هابطة به، وإذا شاء نزل بها، وإذا شاء طلع بها. فلما تمَّ له من الفرس ما يريد، أقبل بها إلى جهة الأرض، وصار ينظر إلى ما فيها من البلاد والمدن التي لا يعرفها؛ لأنه لم يرها طول عمره، وكان من جملة ما رآه مدينة مبنية بأحسن البنيان، وهي في وسط أرض خضراء ناضرة ذات أشجار وأنهار، فتفكَّرَ في نفسه وقال: يا ليت شعري! ما اسم هذه المدينة؟ وفي أي الأقاليم هي؟ ثم إنه جعل يطوف حول تلك المدينة ويتأملها يمينًا وشمالًا، وكان النهار قد ولى، ودنت الشمس للمغيب، فقال في نفسه: إني لا أجد موضعًا للمبيت أحسن من هذه المدينة، فأنا أبيت فيها هذه الليلة، وعند الصباح أتوجه إلى أهلي ومحل ملكي، وأُعلِم أهلي ووالدي بما جرى لي، وأخبره بما نظرت عيناي. وصار يفتش على موضع يأمن فيه على نفسه وعلى فرسه، ولا يراه أحد.

فبينما هو كذلك، وإذا به قد نظر في وسط المدينة قصرًا شاهقًا في الهواء، وقد أحاط بذلك القصر سور متَّسِع بشرافات عاليات، فقال ابن الملك في نفسه: إن هذا الموضع مليح. وجعل يحرك الزر الذي يهبط به الفرس، ولم يزل هابطًا به حتى نزل مستويًا على سطح القصر، ثم نزل من فوق الفرس، وحمد الله تعالى، وجعل يدور حول الفرس ويتأمَّلها ويقول: والله إن الذي عملك بهذه الصفة لحكيم ماهر، فإنْ مدَّ الله تعالى في أجلي وردَّني إلى بلادي وأهلي سالِمًا، وجمع بيني وبين والدي؛ لَأُحسِننَّ إلى هذا الحكيم كل الإحسان، ولأنعِمنَّ عليه غاية الإنعام. ثم جلس فوق سطح القصر حتى علم أن الناس قد ناموا، وكان قد أضرَّ به الجوع والعطش؛ لأنه منذ فارق والده لم يأكل طعامًا، فقال في نفسه: إن مثل هذا القصر لا يخلو من الرزق. فترك الفرس في مكان ونزل يتمشى لينظر شيئًا يأكله، فوجد سُلَّمًا فنزل منه إلى أسفل، فوجد ساحة مفروشة بالرخام؛ فتعجَّبَ من ذلك المكان ومن حُسْن بنيانه، ولكنه لم يجد في ذلك القصر حسَّ حسيسٍ، ولا أُنْسَ أنيسٍ، فوقف متحيِّرًا وصار ينظر يمينًا وشمالًا وهو لا يعرف أين يتوجه، ثم قال في نفسه: ليس لي أحسن من أن أرجع إلى المكان الذي فيه فرسي وأبيت عندها، فإذا أصبح الصباح ركبتها وسرت. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 359

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن ابن الملك قال في نفسه: ليس لي أحسن من البيات عند فرسي، فإذا أصبح الصباح ركبتها وسرت. فبينما هو واقف يحدِّث نفسه بهذا الكلام إذ نظر إلى نورٍ مقبل إلى ذلك المحل الذي هو فيه، فتأمَّلَ ذلك النور فوجده مع جماعة من الجواري، وبينهن صبية بهية، بقامة ألفية، تحاكي البدر الزاهر، كما قال فيها الشاعر:

جَاءَتْ بِلَا مَوْعِدٍ فِي ظُلْمَةِ الْغَسَقِ        كَأَنَّهَا الْبَدْرُ فِي دَاجٍ مِنَ الْأُفُقِ

هَيْفَاءُ مَا فِي الْبَرَايَا مَنْ يُشَابِهُهَا        فِي بَهْجَةِ الْحُسْنِ أَوْ فِي رَوْنَقِ الْخَلَقِ

نَادَيْتُ لَمَّا رَأَتْ عَيْنِي مَحَاسِنَهَا        سَبْحَانَ مَنْ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقِ

أُعِيذُهَا مِنْ عُيُونِ النَّاسِ كُلِّهِمِ        بِقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ وَالْفَلَقِ

وكانت تلك الصبية بنت ملك هذه المدينة، وكان أبوها يحبها حبًّا شديدًا، ومن محبته إياها بنى لها هذا القصر، فكانت كلما ضاق صدرها تجيء إليه وجواريها وتقيم فيه يومًا أو يومين أو أكثر، ثم تعود إلى سرايتها؛ فاتفق أنها قد أتت تلك الليلة من أجل الفرجة والانشراح، وصارت ماشية بين الجواري، ومعها خادم مقلَّد بسيف، فلما دخلوا ذلك القصر فرشوا الفرش، وأطلقوا مجامر البخور، ولعبوا وانشرحوا. فبينما هم في لعب وانشراح، إذ هجم ابن الملك على ذلك الخادم، ولطمه لطمة فبطحه، وأخذ السيف من يده وهجم على الجواري اللاتي مع ابنة الملك، فشتَّتهنَّ يمينًا وشمالًا، فلما نظرت ابنة الملك إلى حسنه وجماله قالت: لعلك أنت الذي خطبتني من والدي بالأمس وردَّك وزعم أنك قبيح المنظر، والله لقد كذب أبي حيث قال ذلك الكلام، فما أنت إلا مليح. وكان ابن ملك الهند قد خطبها من أبيها فردَّه؛ لأنه كان بشع المنظر، فظنت أنه هو الذي خطبها، ثم أقبلت عليه وعانقته وقبَّلته ورقدت هي وإياه، فقالت لها الجواري: يا سيدتي، هذا ما هو الذي خطبك من أبيك؛ لأن ذاك قبيح وهذا مليح، وما يصلح الذي خطبك من أبيك وردَّه أن يكون خادمًا لهذا، ولكن يا سيدتي إن هذا الفتى له شأن عظيم. ثم توجهت الجواري إلى الخادم المبطوح وأيقظنه، فوثب مرعوبًا وفتَّش على سيفه فلم يجده بيده، فقالت له الجواري: إن الذي أخذ سيفك وبطحك جالس مع ابنة الملك. وكان ذلك الخادم قد وكَّله الملك بالمحافظة على ابنته خوفًا عليها من نوائب الزمان وطوارق الحدثان؛ فقام ذلك الخادم وتوجَّه إلى الستر ورفعه، فرأى ابنة الملك جالسة مع ابن الملك وهما يتحدثان، فلما نظرهما الخادم قال لابن الملك: يا سيدي، هل أنت إنسي أم جني؟ فقال له ابن الملك: ويلك يا أنحس العبيد! كيف تجعل أولاد الملوك الأكاسرة من الشياطين الكافرة؟ ثم إنه أخذ السيف بيده وقال له: أنا صهر الملك، وقد زوَّجني بابنته، وأمرني بالدخول عليها.

فلما سمع الخادم منه ذلك الكلام قال له: يا سيدي، إن كنتَ من الإنس كما زعمت، فإنها ما تصلح إلا لك، وأنت أحقُّ بها من غيرك. ثم إن الخادم توجه إلى الملك وهو صارخ، وقد شقَّ ثيابه، وحثا التراب على رأسه، فلما سمع الملك صياحه قال له: ما الذي دهاك؟ فقد أرجفتَ فؤادي، أخبرني بسرعة وأوجز في الكلام. فقال له: أيها الملك أدرك ابنتك؛ فإنها قد استولى عليها شيطان من الجن في زيِّ الإنس، مُصوَّر بصورة أولاد الملوك، فدونك وإياه. فلما سمع الملك منه ذلك الكلام همَّ بقتله، وقال له: كيف تغافلت عن ابنتي حتى لحقها هذا العارض؟ ثم إن الملك توجَّه إلى القصر الذي فيه ابنته، فلما وصل إليه وجد الجواري قائمات، فقال لهن: ما الذي جرى لابنتي؟ فقلن له: أيها الملك، بينما نحن جالسات معها فلم نشعر إلا وقد هجم علينا هذا الغلام الذي كأنه بدر التمام، ولم نَرَ قطُّ أحسنَ منه وجهًا، وبيده سيف مسلول، فسألناه عن حاله فزعم أنك قد زوَّجْتَه ابنتك، ونحن لا نعلم شيئًا غير هذا، ولا نعرف هل هو إنسي أم جني، ولكنه عفيف أديب لا يتعاطى القبيح. فلما سمع الملك مقالتهن برد ما به، ثم إنه رفع الستر قليلًا قليلًا ونظر، فرأى ابن الملك جالسًا مع ابنته يتحدثان، وهو في أحسن التصوير، ووجهه كالبدر المنير؛ فلم يقدر الملك أن يمسك نفسه من غيرته على ابنته، فرفع الستر ودخل وبيده سيف مسلول، وهجم عليهما كأنه الغول، فلما نظره ابن الملك قال لها: أهذا أبوكِ؟ قالت: نعم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 360

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن ابن الملك لما رأى الملك بيده سيف مسلول، وقد هجم عليهما كأنه الغول، قال لها: أهذا أبوكِ؟ قالت: نعم. فعند ذلك وثب قائمًا على قدميه، وتناول سيفه بيديه، وصاح على الملك صيحة منكرة فأدهشه، وهَمَّ أن يحمل عليه بالسيف، فعلم الملك أنه أوثب منه، فأغمد سيفه، ثم وقف حتى انتهى إليه ابن الملك فقابَلَه بملاطفة، وقال له: يا فتى، هل أنت إنسي أم جني؟ فقال له ابن الملك: لولا أني أرعى ذمامك وحرمة ابنتك لسفكتُ دمَك، كيف تنسبني إلى الشياطين، وأنا من أولاد الملوك الأكاسرة الذين لو شاءوا أخذوا مُلْكَك، وَلَزَلْزَلُوك عن عزك وسلطانك، وسلبوا عنك جميع ما في أوطانك؟ فلما سمع الملك كلامه هابه، وخاف على نفسه منه، وقال له: إن كنتَ من أولاد الملوك كما زعمتَ فكيف دخلت قصري بغير إذني، وهتكت حرمتي، ووصلت إلى بنتي، وزعمت أنك بعلها، وادَّعيت أني قد زوجتك بها؟ وأنا قد قتلت الملوك وأبناء الملوك حين خطبوها مني، ومَن ينجيك من سطوتي، وأنا إن صحتُ على عبيدي وغلماني وأمرتهم بقتلك قتلوك في الحال؟ فمَن يخلِّصك من يدي؟ فلما سمع ابن الملك منه ذلك الكلام قال للملك: إني لا أعجب منك ومن قلة بصيرتك، هل تطمع لابنتك في بعل أحسن مني؟ وهل رأيت أحدًا أثبتَ جنانًا، وأكثرَ مكافأةً، وأعزَّ سلطانًا وجنودًا وأعوانًا مني؟ فقال له الملك: لا والله، ولكن وددتُ يا فتى أن تكون خاطبًا لها على رءوس الأشهاد حتى أزوِّجَك بها، وأما إذا زوَّجْتُك بها خفيةً فإنك تفضحني فيها. فقال له ابن الملك: لقد أحسنتَ في قولك، ولكن أيها الملك إذا اجتمع عبيدك وخدمك وجنودك عليَّ وقتلوني كما زعمت، فإنك تفضح نفسك، وتبقى الناس فيك بين مصدِّق ومكذِّب، ومن الرأي عندي أن ترجع أيها الملك إلى ما أشير به عليك. فقال له الملك: هاتِ حديثك. فقال له ابن الملك: الذي أحدثك به؛ إما أن تبارزني أنا وأنت خاصة، فمَن قتل صاحبه كان أحقَّ وأولى بالمُلْك، وإما أن تتركني في هذه الليلة، وإذا كان الصباح فاخرج إلى عسكرك وجنودك وغلمانك وأخبرني بعدتهم. فقال له الملك: إن عدتهم أربعون ألف فارس غير العبيد الذين لي، وغير أتباعهم وهم مثلهم في العدد. فقال ابن الملك: إذا كان طلوع النهار فأخرجهم إليَّ، وقل لهم … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 361

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن ابن الملك قال له: إذا كان طلوع النهار فأخرجهم إليَّ، وقل لهم: هذا قد خطب مني ابنتي على شرط أن يبارزكم جميعًا، وادَّعى أنه يغلبكم ويقهركم، وأنكم لا تقدرون عليه. ثم اتركني معهم أبارزهم، فإذا قتلوني فذلك أخفى لسرك وأصوَنُ لعرضك، وإن غلبتهم وقهرتهم فمثلي يرغب الملك في مصاهرته. فلما سمع الملك كلامه استحسن رأيه، وقِبَل رأيه مع ما استعظمه من قوله، وما أهاله من أمره في عزمه على مبارزة جميع عسكره الذين وصفهم له، ثم جلسا يتحدثان، وبعد ذلك دعا الملك بالخادم وأمره أن يخرج من وقته وساعته إلى وزيره، ويأمره أن يجمع العساكر، ويأمرهم بحمل أسلحتهم، وأن يركبوا خيولهم؛ فسار الخادم إلى الوزير وأعلمه بما أمره به الملك، فعند ذلك طلب الوزير نُقباء الجيش وأكابر الدولة، وأمرهم أن يركبوا خيولهم، ويخرجوا لابسين آلات الحرب.

هذا ما كان من أمرهم، وأما ما كان من أمر الملك، فإنه ما زال يتحدث مع الغلام حيث أعجبه حديثه وعقله وأدبه. فبينما هما يتحدثان وإذا بالصباح قد أصبح، فقام الملك وتوجَّه إلى تخته، وأمر جيشه بالركوب، وقدَّم لابن الملك فرسًا جيدًا من خيار خيله، وأمر أن تُسرَج له بعدَّة حَسَنة، فقال له: أيها الملك، إني ما أركب حتى أشرف على الجيش وأشاهدهم. فقال له الملك: الأمر كما تحب. ثم سار الملك والفتى بين يديه حتى وصلا إلى الميدان، فنظر الغلام إلى الجيش وكثرته ثم نادى الملك: يا معاشر الناس، إنه قد وصل إليَّ غلام يخطب ابنتي، ولم أَرَ قطُّ أحسنَ منه ولا أشدَّ قلبًا ولا أعظمَ بأسًا منه، وقد زعم أنه يغلبكم ويقهركم وحده، ويدَّعي أنكم ولو بلغتم مائة ألف ما أنتم عنده إلا قليل، فإذا بارزكم فخذوه على أسنة رماحكم وأطراف صفاحكم، فإنه قد تعاطى أمرًا عظيمًا.

ثم إن الملك قال له: يا ابني، دونك وما تريد منهم. فقال له: أيها الملك، إنك ما أنصفتني، كيف أبارزهم وأنا مترجِّل وأصحابك ركَّاب خيل؟ فقال له: قد أمرتك بالركوب فأبيتَ، فدونك والخيل فاخْتَرَ منها ما تريد. فقال له: لا يعجبني شيء من خيلك، ولا أركب إلا الفرس التي جئتُ راكبًا عليها. فقال له الملك: وأين فرسك؟ فقال له: هي فوق قصرك. فقال له: في أي موضع في قصري؟ فقال: على سطح القصر. فلما سمع كلامه قال له: هذا أول ما ظهر من خبالك، يا ويلك! كيف تكون الفرس فوق السطح؟ ولكن في هذا الوقت يظهر صدقك من كذبك.

ثم إن الملك التفت إلى بعض خواصه وقال له: امضِ إلى قصري وأحضر الذي تجده فوق السطح. فصار الناس متعجبين من قول الفتى، ويقول بعضهم لبعض: كيف ينزل هذا الفرس من سلالم السطح؟ إن هذا شيء ما سمعنا بمثله. ثم إن الذي أرسله الملك إلى القصر صعد إلى أعلاه فرأى الفرس قائمًا، ولم يَرَ أحسنَ منه، فتقدَّمَ إليه وتأمَّله فوجده من الأبنوس والعاج، وكان بعض خواص الملك طلع معه أيضًا، فلما نظروا إلى الفرس تضاحكوا، وقالوا: وعلى مثل هذا الفرس يكون ما ذكره الفتى! فما نظنُّه إلا مجنونًا، ولكن سوف يظهر لنا أمره. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 362

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن خواص الملك لما نظروا الفرس تضاحكوا، وقالوا: وعلى مثل هذا الفرس يكون ما ذكره الفتى! فما نظنه إلا مجنونًا، ولكن سوف يظهر لنا أمره، وربما يكون له شأن عظيم. ثم إنهم رفعوا الفرس على أيديهم، ولم يزالوا حاملين لها حتى وصلوا إلى قدَّام الملك، وأوقفوها بين يديه؛ فاجتمع عليها الناس ينظرون إليها، ويتعجَّبون من حسن صنعتها، وحسن سرجها ولجامها، واستحسنها الملك أيضًا، وتعجَّب منها غاية العجب، ثم قال لابن الملك: يا فتى، أهذه فرسك؟ فقال: نعم أيها الملك هذه فرسي، وسوف ترى منها العجب. فقال له الملك: خذ فرسك واركبها. قال: لا أركبها إلا إذا بَعُدَ عنها العساكر، فأمر الملك العسكر الذين حوله أن يبعدوا عنها مقدار رمية السهم، فقال له: أيها الملك، ها أنا رائح أركب فرسي، وأحمل على جيشك فأفرِّقهم يمينًا وشمالًا، وأصدِّع قلوبهم. فقال له الملك: افعل ما تريد، ولا تُبْقِ عليهم، فإنهم لا يبقون عليك. ثم إن ابن الملك توجَّهَ إلى فرسه وركبها، واصطفت له الجيوش، وقال بعضهم لبعض: إذا وصل الغلام بين الصفوف نأخذه بأسنَّة الرماح، وشفار الصفاح. فقال واحد منهم: والله إنها مصيبة، كيف نقتل هذا الغلام صاحب الوجه المليح، والقدِّ الرجيح؟ فقال واحد آخر: والله لن تصلوا إليه إلا بعد أمر عظيم، وما فعل الفتى هذه الفعال إلا لما علم من شجاعة نفسه وبراعته.

فلما استوى ابن الملك على فرسه فرك لولب الصعود، فتطاولت إليه الأبصار لينظروا ماذا يريد أن يفعل، فماجت فرسه واضطربت حتى عملت أغرب حركات تعملها الخيل، وامتلأ جوفها بالهواء، ثم ارتفعت وصعدت إلى الجو، فلما رآه الملك قد ارتفع وصعد، نادى على جيشه وقال: ويلكم! خذوه قبل أن يفوتكم. فعند ذلك قال له وزراؤه ونوَّابه: أيها الملك، هل أحد يلحق الطير الطائر؟ وما هذا إلا ساحر عظيم قد نجَّاكَ الله منه، فاحمد الله تعالى على خلاصك من يده. فرجع الملك إلى قصره بعدما رأى من ابن الملك ما رأى، ولما وصل إلى قصره ذهب إلى ابنته، وأخبرها بما جرى له مع ابن الملك في الميدان، فوجدها كثيرة التأسُّف عليه وعلى فراقها له، ثم إنها مرضت مرضًا شديدًا، ولزمت الوساد؛ فلما رآها أبوها على تلك الحالة ضمَّها إلى صدره، وقبَّلها بين عينيها، وقال لها: يا بنتي، احمدي الله تعالى واشكريه حيث خلَّصنا من هذا الساحر الماكر. وجعل يكرِّر عليها ما رآه من ابن الملك، ويذكر لها صفة صعوده في الهواء، وهي لا تصغي إلى شيء من قول أبيها، واشتدَّ بكاؤها ونحيبها، ثم قالت في نفسها: والله لا آكل طعامًا، ولا أشرب شرابًا، حتى يجمع الله بيني وبينه. فحصل لأبيها الملك همٌّ عظيم من أجل ذلك، وشقَّ عليه حالُ ابنته، وصار حزين القلب عليها، وكلَّما يلاطفها لا تزداد إلا شغفًا به. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 363

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك صار حزينَ القلب على ابنته، وكلما يلاطفها لا تزداد إلا شغفًا به. هذا ما كان من أمر الملك وابنته، وأما ما كان من أمر ابن الملك، فإنه لما صعد في الجو اختلى بنفسه، وتذكَّرَ حُسْن الجارية وجمالها، وكان قد سأل أصحاب الملك عن اسم المدينة واسم الملك واسم ابنته، وكانت تلك المدينة مدينة صنعاء. ثم إنه جَدَّ في السير حتى أشرف على مدينة أبيه، ودار حول المدنية، ثم توجَّه إلى قصر أبيه، ونزل فوق السطح، وترك فرسه هناك، ونزل إلى والده ودخل عليه، فوجده حزينًا كئيبًا لأجل فراقه، فلما رآه والده قام إليه واعتنقه وضمَّه إلى صدره، وفرح به فرحًا شديدًا. ثم إنه لما اجتمع بوالده سأله عن الحكيم الذي عمل الفرس وقال: يا والدي، ما فعل الدهر به؟ فقال له والده: لا بارَكَ الله في الحكيم، ولا في الساعة التي رأيتُه فيها؛ لأنه هو الذي كان سببًا لفراقك منَّا، وهو مسجون يا ولدي من يوم غبتَ عنَّا. فأمر ابن الملك بالإفراج عنه وإخراجه من السجن، وإحضاره بين يديه؛ فلما حضر بين يدي الملك خلع عليه خلعة الرضا، وأحسن إليه غاية الإحسان، إلا أنه لم يُزوِّجه ابنته؛ فغضب الحكيم من أجل ذلك غضبًا شديدًا، وندم على ما فعل، وعلم أن ابن الملك قد عرف سر الفرس وكيفية سيرها.

ثم إن الملك قال لابنه: الرأي عندي أنك لا تقرب هذه الفرس بعد ذلك، ولا تركبها أبدًا بعد يومك هذا؛ لأنك لا تعرف أحوالها، فأنت منها على غرور. وكان ابن الملك حدَّث أباه بما جرى له مع ابنه الملك صاحب تلك المدينة، وما جرى له مع أبيها، فقال له أبوه: لو أراد الملك قتلك لقتلك، ولكن في أَجَلك تأخير. ثم إن ابن الملك هاجت بلابله بحبِّ الجارية ابنة الملك صاحب صنعاء، فقام إلى الفرس وركبها، وفرك لولب الصعود فطارت به في الهواء، وعلت به إلى عنان السماء، فلما أصبح الصباح افتقده أبوه فلم يجده، فطلع إلى أعلى القصر وهو ملهوف، فنظر إلى ابنه وهو صاعد في الهواء فتأسَّفَ على فراقه، وندم كل الندم حيث لم يأخذ الفرس ويُخفِي أمرها، ثم قال في نفسه: والله إنْ رجع إليَّ ولدي ما بقيت أخلِّي هذه الفرس؛ لأجل أن يطمئن قلبي على ولدي. ثم إنه عاد إلى بكائه ونحيبه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 364

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك عاد إلى بكائه ونحيبه من حزنه على ولده. هذا ما كان من أمره، وأما ما كان من أمر ابنه فإنه لم يزل سائرًا في الجو حتى وقف على مدينة صنعاء، ونزل في المكان الذي كان فيه أولًا، ومشى مستخفيًا حتى وصل إلى محل ابنة الملك فلم يجدها لا هي ولا جواريها ولا الخادم الذي كان محافظًا عليها؛ فعَظُم ذلك عليه، ثم إنه دار يفتِّش عليها في القصر، فوجدها في مجلس آخر غير محلها الذي اجتمع معها فيه، وقد لزمت الوساد، وحولها الجواري والدايات، فدخل عليهن وسلَّم عليهن، فلما سمعت الجارية كلامه قامت إليه واعتنقته وجعلت تقبِّله بين عينيه، وتضمُّه إلى صدرها؛ فقال لها: يا سيدتي، أوحشتِني هذه المدة. فقالت له: أنت الذي أوحشتني، ولو طالت غيبتك عني لَكنتُ هلكت بلا شك. فقال لها: يا سيدتي، كيف رأيت حالي مع أبيك وما صنع بي؟ ولولا محبَّتك يا فتنة العالمين لقتلته وجعلته عبرة للناظرين، ولكن أحبه من أجلك. فقالت له: كيف تغيب عني؟ وهل تطيب حياتي بعدك؟ فقال لها: أتطيعينني وتصغين إلى قولي؟ فقالت له: قل ما شئتَ فإني أجيبك إلى ما تدعوني إليه، ولا أخالفك في شيء. فقال لها: سيري معي إلى بلادي وملكي. فقالت له: حبًّا وكرامة.

فلما سمع ابن الملك كلامها فرح فرحًا شديدًا، وأخذ بيدها وعاهدها بعهد الله تعالى على ذلك، ثم صعد بها إلى أعلى سطح القصر وركب فرسه وأركبها خلفه، ثم ضمَّها إليه وشدَّها شدًّا وثيقًا، وحرَّك لولب الصعود الذي في كتف الفرس فصعدت بهما إلى الجو، فعند ذلك زعقت الجواري، وأعلمن الملك أباها وأمها، فصعدا مبادرَيْن إلى سطح القصر، والتفت الملك إلى الجو فرأى الفرس الأبنوس وهي طائرة بهما في الهواء؛ فعند ذلك انزعج الملك وزاد انزعاجه، وصاح وقال: يا ابن الملك، سألتك بالله أن ترحمني وترحم زوجتي ولا تفرق بيننا وبين بنتنا. فلم يجبه ابن الملك، ثم إن ابن الملك ظن في نفسه أن الجارية ندمت على فراق أمها وأبيها، فقال لها: يا فتنة الزمان، هل لك أن أردَّكِ إلى أمك وأبيك؟ فقالت له: يا سيدي، والله ما مرادي ذلك، إنما مرادي أن أكون معك أينما تكون؛ لأنني مشغولة بمحبَّتك عن كل شيء حتى أبي وأمي. فلما سمع ابن الملك كلامها فرح بذلك فرحًا شديدًا، وجعل يسير الفرس بهما سيرًا لطيفًا لكيلا يزعجها، ولم يزل يسير بها حتى نظر إلى مرج أخضر، وفيه عين ماء جارية، فنزلا هناك وأكلا وشربا، ثم إن ابن الملك ركب فرسه وأردفها خلفه، وأوثقها بالرباط خوفًا عليها وسار بها، ولم يزل سائرًا بها في الهواء حتى وصل إلى مدينة أبيه فاشتدَّ فرحه، ثم أراد أن يُظهِر للجارية محل سلطانه وملك أبيه، ويُعرِّفها أن مُلْك أبيه أعظم من مُلْك أبيها، فأنزلها في بعض البساتين التي يتفرج فيها والده، وأدخلها في المقصورة المعدَّة لأبيه، وأوقف الفرس الأبنوس على باب تلك المقصورة، وأوصى الجارية بالمحافظة على الفرس، وقال لها: اقعدي ها هنا حتى أرسل إليك رسولي؛ فإني متوجِّه إلى أبي لأُهيِّئ لك قصرًا، وأُظهِر لك مُلْكي. ففرحت الجارية عندما سمعت منه هذا الكلام وقالت له: افعل ما تريد. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 365

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية فرحت عندما سمعت من ابن الملك هذا الكلام، وقالت له: افعل ما تريد. ثم خطر ببالها أنها لا تدخل إلا بالتبجيل والتشريف كما يصلح لأمثالها، ثم إن ابن الملك تركها وسار حتى وصل إلى المدينة ودخل على أبيه، فلما رآه أبوه فرح بقدومه وتلقَّاه ورحَّب به. ثم إن ابن الملك قال لوالده: اعلم أنني قد أتيت ببنت الملك التي كنتُ أعلمتُكَ بها، وقد تركتها خارج المدينة في بعض البساتين، وجئت أعلمك بها لأجل أن تهيِّئ الموكب وتخرج لملاقتها، وتُظهِر لها مُلْكَك وجنودك وأعوانك. فقال له الملك: حبًّا وكرامةً. ثم أمر من وقته وساعته أهل المدينة أن يُزيِّنوا المدينة بالزينة الحسنة، وركب في أكمل هيبة وأحسن زينة هو وجميع عساكره وأكابر دولته، وسائر مملكته وخدمه، وأخرج ابن الملك من قصره الحُليَّ والحلل، وما تدَّخره الملوك، وهيَّأ لها عمارة من الديباج الأخضر والأحمر والأصفر، وأجلس على تلك العمارة الجواري الهنديات والروميات والحبشيات، وأظهر من الذخائر شيئًا عجيبًا. ثم إن ابن الملك ترك العمارة بمَن فيها وسبق إلى البستان، ودخل المقصورة التي تركها فيها وفتَّش عليها فلم يجدها، ولم يجد الفرس؛ فعند ذلك لطم على وجهه ومزَّق ثيابه، وجعل يطوف في البستان وهو مدهوش العقل، ثم بعد ذلك رجع إلى عقله وقال في نفسه: كيف علمتْ بسرِّ هذا الفرس وأنا لم أُعلِمها بشيء من ذلك؟ ولعل الحكيم الفارسي الذي عمل الفرس قد وقع عليها، وأخذها جزاء ما عمله والدي معه. ثم إن ابن الملك طلب حرَّاسَ البستان وسألهم عمَّن مرَّ بهم، وقال لهم: هل نظرتم أحدًا مرَّ بكم ودخل هذا البستان؟ فقالوا: ما رأينا أحدًا دخل هذا البستان سوى الحكيم الفارسي، فإنه دخل ليجمع الحشائش النافعة. فلما سمع كلامهم صحَّ عنده أن الذي أخذ الجارية هو ذلك الحكيم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 366

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن ابن الملك لما سمع كلامهم صحَّ عنده أن الذي أخذ الجارية هو ذلك الحكيم، وكان بالأمر المقدَّر أن ابن الملك لما ترك الجارية في المقصورة التي في البستان وذهب إلى قصر أبيه ليهيِّئ أمره، دخل الحكيم الفارسي البستان ليجمع شيئًا من الحشيش النافع، فشمَّ رائحة المسك والطيب التي عبق منها المكان، وكان ذلك الطيب من رائحة ابنة الملك، فقصد الحكيم صوب تلك الرائحة حتى وصل إلى تلك المقصورة، فرأى الفرس التي صنعها بيده واقفة على باب المقصورة، فلما رأى الحكيم الفرس امتلأ قلبه فرحًا وسرورًا؛ لأنه كان كثير التأسُّف على الفرس حيث خرجت من يده، فتقدَّم إلى الفرس وافتقد جميع أجزائها فوجدها سالمة، ولما أراد أن يركبها ويسير قال في نفسه: لا بد أن أنظر إلى ما جاء به ابن الملك وتركه مع الفرس ها هنا. فدخل المقصورة فوجد الجارية جالسة وهي كالشمس الضاحية في السماء الصاحية، فلما نظرها علم أنها جارية لها شأن عظيم، وقد أخذها ابن الملك وأتى بها على الفرس وتركها في تلك المقصورة، ثم توجَّه إلى المدينة ليجيء لها بموكب ويُدخِلها المدينة بالتبجيل والتشريف، فعند ذلك دخل الحكيم إليها وقبَّل الأرض بين يديها، فرفعت إليه طرفها ونظرت إليه، فوجدته قبيح المنظر جدًّا بَشِع الصورة، فقالت له: مَن أنت؟ فقال لها: يا سيدتي، أنا رسول ابن الملك، قد أرسلني إليك وأمرني أن أنقلك إلى بستان آخَر قريب من المدينة. فلما سمعت الجارية منه ذلك الكلام قالت له: وأين ابن الملك؟ قال لها: هو في المدينة عند أبيه، وسيأتي إليك في هذه الساعة بموكب عظيم. فقالت له: يا هذا، وهل ابن الملك لم يجد أحدًا يُرسِله إليَّ غيرك؟ فضحك الحكيم من كلامها وقال لها: يا سيدتي، لا يغرنَّك قُبْح وجهي وبشاعة منظري، فلو نلتِ مني ما ناله ابن الملك لحمدتِ أمري، وإنما خصَّني ابن الملك بالإرسال إليك لقُبْح منظري ومهول صورتي؛ غيرةً منه عليكِ ومحبةً لكِ، وإلا فعنده من المماليك والعبيد والغلمان والخدم والحشم ما لا يُحصَى. فلما سمعت الجارية كلامه دخل في عقلها وصدَّقته، وقامت معه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 367

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الحكيم الفارسي لما أخبر الجارية بأحوال ابن الملك صدَّقت كلامه، ودخل في عقلها، وقامت معه ووضعت يدها في يده، ثم قالت له: يا والدي، ما الذي جئتَ لي به معك حتى أركبه؟ فقال: يا سيدتي، الفرس التي جئتِ عليها تركبينها. فقالت له: أنا لا أقدر على ركوبها وحدي. فتبسَّمَ الحكيم عندما سمع منها ذلك، وعلم أنه قد ظفر بها، فقال لها: أنا أركب معك بنفسي. ثم إنه ركب وأركب الجارية خلفه وضمَّها إليه، وشدَّ وثاقها، وهي لا تعلم ما يريد بها، ثم إنه حرَّكَ لولب الصعود فامتلأ جوف الفرس بالهواء، وتحرَّكت وماجت، ثم ارتفعت صاعدة إلى الجو، ولم تزل سائرة بهما حتى غابت عن المدينة، فقالت له الصبية: يا هذا، أين الذي قلته عن ابن الملك حيث زعمتَ أنه أرسلك إليَّ؟ فقال لها الحكيم: قبَّحَ الله ابن الملك! فإنه خبيث لئيم. فقالت له: يا ويلك! كيف تخالف أمر مولاك فيما أمرك به؟ فقال لها: ليس هو مولاي، فهل تعرفين مَن أنا؟ فقالت له: لا أعرفك إلا بما عرَّفتني به عن نفسك. فقال لها: إنما كان إخباري لك بهذا الخبر حيلةً مني عليك وعلى ابن الملك، ولقد كنتُ متأسِّفًا طول عمري على هذه الفرس التي تحتك؛ فإنها صناعتي، وكان استولى عليها، والآن قد ظفرت بها وبكِ أيضًا، وقد أحرقتُ قلبه كما أحرق قلبي، ولا يتمكَّن منها بعد ذلك أبدًا، فطيبي قلبًا وقرِّي عينًا، فأنا لك أنفعُ منه.

فلما سمعت الجارية كلامه لطمت على وجهها ونادت: يا أسفاه! لا حصَّلت حبيبي ولا بقيت عند أبي وأمي. وبكت بكاءً شديدًا على ما حلَّ بها، ولم يزل الحكيم سائرًا بها إلى بلاد الروم حتى نزل بها في مرج أخضر ذي أنهار وأشجار، وكان ذلك المرج بالقرب من مدينة، وفي تلك المدينة ملك عظيم الشأن، فاتفق في ذلك اليوم أن ملك تلك المدينة خرج إلى الصيد والنزهة، فجاز على ذلك المرج، فرأى الحكيم واقفًا والفرس والجارية بجانبه، فلم يشعر الحكيم إلا وقد هجم عليه عبيد الملك وأخذوه هو والجارية والفرس، وأوقفوا الجميع بين يدي الملك، فلما نظر إلى قُبْح منظره وبشاعته، ونظر إلى حُسْن الجارية وجمالها، قال لها: يا سيدتي، ما نسبة هذا الشيخ منك؟ فبادَرَ الحكيم بالجواب وقال: هي زوجتي وابنة عمي. فكذَّبته الجارية عندما سمعت قوله وقالت: أيها الملك، والله لا أعرفه ولا هو بعلي، بل أخذني بالحيلة. فلما سمع الملك مقالها أمر بضربه فضربوه حتى كاد أن يموت، ثم أمر الملك أن يحملوه إلى المدينة ويطرحوه في السجن، ففعلوا به ذلك. ثم إن الملك أخذ الجارية والفرس منه، ولكنه لم يعلم بأمر الفرس، ولا بكيفية سيرها.

هذا ما كان من أمر الحكيم والجارية، وأما ما كان من أمر ابن الملك فإنه لبس ثياب السفر، وأخذ ما يحتاج إليه من المال، وسافَرَ وهو في أسوأ حال، وسار مُسرِعًا يقتصُّ الأثر في طلبهما من بلد إلى بلد، ومن مدينة إلى مدينة، ويسأل عن الفرس الأبنوس، وكلُّ مَن سمع منه خبر الفرس الأبنوس يتعجَّب منه ويستعظم قوله. فأقام على هذا الحال مدةً من الزمان، ومع كثرة السؤال والتفتيش عليهما لم يقع لهما على خبر، ثم إنه سار إلى مدينة أبي الجارية وسأل عنها هناك، فلم يسمع لها بخبر، ووجد أباها حزينًا على فقدها، فرجع وقصد بلاد الروم، وجعل يقتصُّ أثرهما ويسأل عنهما. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 368

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن ابن الملك قصد بلاد الروم، وجعل يقتصُّ أثرهما ويسأل عنهما، فاتفق أنه نزل في خان من الخانات فرأى جماعة من التجار جالسين يتحدثون، فجلس قريبًا منهم، فسمع أحدهم يقول: يا أصحابي، لقد رأيت عجبًا من العجائب. فقالوا له: وما هو؟ قال: إني كنت في بعض الجهات في مدينة كذا - وذكر اسم المدينة التي فيها الجارية - فسمعت أهلها يتحدثون بحديث غريب، وهو أن ملك المدينة خرج يومًا من الأيام إلى الصيد والقنص، ومعه جماعة من أصحابه وأكابر دولته، فلما طلعوا إلى البرية جازوا على مرج أخضر فوجدوا هناك رجلًا واقفًا وإلى جانبه امرأة جالسة، ومعه فرس من أبنوس؛ فأما الرجل فإنه قبيح المنظر مهول الصورة جدًّا، وأما المرأة فإنها صبية ذات حُسْن وجمال، وبهاء وكمال، وقدٍّ واعتدال، وأما الفرس الأبنوس فإنها من العجائب التي لم يَرَ الراءُون أحسن منها ولا أجمل من صنعتها. فقال له الحاضرون: فما فعل الملك بهم؟ فقال: أما الرجل فإنه أخذه الملك وسأله عن الجارية فادَّعى أنها زوجته وابنة عمه، وأما الجارية فإنها كذَّبته في قوله فأخذها الملك منه، وأمر بضربه وطرحه في السجن، وأما الفرس الأبنوس فما لي بها علم. فلما سمع ابن الملك هذا الكلام من التاجر دنا منه، وصار يسأله برفق وتلطُّف حتى أخبره باسم المدينة واسم ملكها، فلما عرف ابن الملك اسم المدينة واسم ملكها بات ليلته مسرورًا. فلما أصبح الصباح خرج وسافَرَ، ولم يزل مسافرًا حتى وصل إلى تلك المدينة، فلما أراد أن يدخلها أخذه البوابون وأرادوا إحضاره قدَّام الملك ليسأله عن حاله، وعن سبب مجيئه إلى تلك المدينة، وعمَّا يُحسِنه من الصنائع، وكانت هذه عادة الملك من سؤال الغرباء عن أحوالهم وصنائعهم، وكان وصول ابن الملك إلى تلك المدينة في وقت المساء، وهو وقت لا يمكن الدخول فيه على الملك ولا المشاورة عليه، فأخذه البوابون وأتوا به إلى السجن ليضعوه فيه، فلما نظر السجانون إلى حُسْنه وجماله لم يهُنْ عليهم أن يُدخِلوه السجن، بل أجلسوه معهم خارج السجن. فلما جاءهم الطعام أكل معهم بحسب الكفاية، فلما فرغوا من الأكل جعلوا يتحدثون، ثم أقبلوا على ابن الملك وقالوا له: من أي البلاد أنت؟ فقال: أنا من بلاد فارس بلاد الأكاسرة. فلما سمعوا كلامه ضحكوا، وقال له بعضهم: يا كسروي، لقد سمعت حديث الناس وأخبارهم وشاهدت أحوالهم، فما رأيت ولا سمعت أكذب من هذا الكسروي الذي عندنا في السجن. فقال آخَر: ولا رأيت أقبح من خلقته، ولا أبشع من صورته. فقال لهم ابن الملك: ما الذي بانَ لكم من كذبه؟ فقالوا: يزعم أنه حكيم، وكان الملك قد رآه في طريقه وهو ذاهب إلى الصيد، ومعه امرأة بديعة الحسن والجمال، والبهاء والكمال، والقدِّ والاعتدال، ومعه أيضًا فرس من الأبنوس الأسود ما رأينا قطُّ أحسنَ منها؛ فأما الجارية فهي عند الملك وهو لها محب، ولكن تلك المرأة مجنونة، ولو كان ذلك الرجل حكيمًا كما يزعم لداواها، والملك مجتهد في علاجها، وغرضه مداواتها مما هي فيه، وأما الفرس الأبنوس فإنها في خزانة الملك، وأما الرجل القبيح المنظر الذي كان معها فإنه عندنا في السجن، فإذا جنَّ عليه الليل يبكي وينتحب أسفًا على نفسه، ولا يدعنا ننام. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 369

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الموكلين بالسجن لما أخبروه بخبر الحكيم الفارسي الذي عندهم في السجن، وبما هو فيه من البكاء والنحيب، خطر بباله أن يدبِّر تدبيرًا يبلغ به غرضه، فلما أراد البوَّابون النومَ أدخلوه السجن، وأغلقوا عليه الباب، فسمع الحكيم يبكي وينوح على نفسه بالفارسية، ويقول في نوحه: الويل لي بما جنيتُ على نفسي وعلى ابن الملك، وبما فعلتُ بالجارية حيث لم أتركها ولم أظفر بمرادي، وذلك كله من سوء تدبيري؛ فإني طلبت لنفسي ما لا أستحقه، وما لا يصلح لمثلي، ومَن طلب ما لا يصلح له وقع في مثل ما وقعتُ فيه. فلما سمع ابن الملك كلامَ الحكيم كلَّمه بالفارسية وقال له: إلى كم هذا البكاء والعويل، هل ترى أنه أصابك ما لم يُصِبْ غيرك؟ فلما سمع الحكيم كلامه أنس به، وشكا إليه حاله وما يجده من المشقة. فلما أصبح الصباح أخذ البوَّابون ابن الملك وأتوا به إلى ملكهم، وأعلموه أنه وصل إلى المدينة بالأمس في وقتٍ لا يمكن الدخول فيه على الملك، فسأله الملك وقال له: من أيِّ البلاد أنتَ؟ وما اسمك؟ وما صنعتك؟ وما سبب مجيئك إلى هذه المدينة؟ فقال ابن الملك: أما اسمي فإنه بالفارسية حرجة، وأما بلادي فهي بلاد فارس، وأنا من أهل العلم وخصوصًا علم الطب؛ فإني أداوِي المرضى والمجانين، ولهذا أطواف في الأقاليم والمدن لأستفيد علمًا على علمي، وإذا رأيتُ مريضًا فإني أداويه، فهذه صنعتي.

فلما سمع الملك كلامه فرح به فرحًا شديدًا، وقال له: أيها الحكيم الفاضل، لقد وصلتَ إلينا في وقت الحاجة إليك. ثم أخبره بخبر الجارية وقال له: إنْ داويتَها وأبرأتَها من جنونها، فلك عندي جميع ما تطلبه. فلما سمع كلام الملك قال له: أعزَّ الله الملك، صِفْ لي كلَّ شيء رأيتَه من جنونها، وأخبرني منذ كَمْ يوم عرض لها هذا الجنون، وكيف أخذتها هي والفرس والحكيم؟ فأخبره بالخبر من أوله إلى آخِره، ثم قال له: إن الحكيم في السجن. فقال له: أيها الملك السعيد، ما فعلت بالفرس التي كانت معهما؟ فقال له: باقية عندي إلى الآن محفوظة في بعض المقاصير. فقال ابن الملك في نفسه: إن من الرأي عندي أن أتفقَّد الفرس وأنظرها قبل كل شيء، فإن كانت سالمة لم يحدث فيها أمر فقد تمَّ لي كل ما أريده، وإن رأيتها قد بطلت حركاتها تحيَّلت بحيلة في خلاص مهجتي. ثم التفت إلى الملك وقال له: أيها الملك، ينبغي أن أنظر الفرس المذكورة لعلي أجد شيئًا يعينني على بُرْء الجارية. فقال له الملك: حبًّا وكرامة. ثم قام الملك وأخذ بيده ودخل معه إلى الفرس؛ فجعل ابن الملك يطوف حول الفرس ويتفقَّدها وينظر أحوالها، فوجدها سالمة لم يعِبْها شيء؛ ففرح ابن الملك بذلك فرحًا شديدًا، وقال: أعزَّ الله الملك، إني أريد الدخول إلى الجارية حتى أنظر ما يكون منها، وأرجو الله أن يكون بُرْؤُها على يدي بسبب الفرس إن شاء الله تعالى. ثم أمر بالمحافظة على الفرس، ومضى به الملك إلى البيت الذي فيه الجارية، فلما دخل عليها ابن الملك وجدها تختبط وتنصرع على عادتها، ولم يكن بها جنون، وإنما تفعل ذلك حتى لا يقربها أحد، فلما رآها ابن الملك على هذه الحالة قال لها: لا بأس عليك يا فتنة العالَمِين. ثم إنه جعل يرفق بها ويلاطفها إلى أن عرَّفها بنفسه، فلما عرفته صاحت صيحة عظيمة حتى غُشِي عليها من شدة ما حصل لها من الفرح؛ فظن الملك أن هذه الصرعة من فزعها منه.

ثم إن ابن الملك وضع فمه على أذنها، وقال لها: يا فتنة العالَمِين، احقني دمي ودمك واصبري وتجلَّدي؛ فإن هذا موضع نحتاج فيه إلى الصبر وإتقان التدبير في الحِيَل حتى نتخلَّص من هذا الملك الجائر، ومن الحيلة أني أخرج إليه وأقول له: إن المرض الذي بها عارض من الجنون، وأنا أضمن لك بُرْءَها. وأشرط عليه أن يفكَّ عنكِ القيد ويزول هذا العارض عنكِ، فإذا دخل إليكِ فكلِّميه بكلام مليح حتى يرى أنكِ برِئت على يدي، فيتم لنا كل ما نريد. فقالت له: سمعًا وطاعة. ثم إنه خرج من عندها، وتوجَّه إلى الملك فَرِحًا مسرورًا، وقال: أيها الملك السعيد، قد عرفتُ بسعادتك داءها ودواءها، وقد داويتها لكَ، فقُمِ الآن وادخل إليها، وليِّنْ كلامَك لها، وترفَّقْ بها، وعِدْها بما يسرُّها؛ فإنه يتم لك كل ما تريد منها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 370

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن ابن الملك لما جعل نفسه حكيمًا، ودخل على الجارية وأعلمها بنفسه، أخبرها بالتدبير الذي يدبره، فقالت له: سمعًا وطاعة. ثم خرج من عندها، وتوجَّه إلى الملك وقال له: قُمِ ادخلْ إليها، وليِّنْ لها الكلام، وعِدْها بما يسرها؛ فإنه يتم لك كل ما تريد منها. فقام الملك ودخل عليها، فلما رأته قامت إليه وقبَّلت الأرض بين يديه ورحَّبت به؛ ففرح الملك بذلك فرحًا شديدًا، ثم أمر الجواري والخدم أن يقوموا بخدمتها، ويُدخِلوها الحمام ويجهِّزوا لها الحلي؛ فدخلوا إليها وسلَّموا عليها، فردَّتْ عليهم السلام بألطف منطق وأحسن كلام، ثم ألبسوها حللًا من ملابس الملوك، ووضعوا في عنقها عقدًا من الجواهر، وساروا بها إلى الحمام وخدموها، ثم أخرجوها من الحمام كأنها البدر التمام، ولما وصلت على الملك سلَّمت عليه، وقبَّلت الأرض بين يديه؛ فحصل للملك بها سرور عظيم، وقال لابن الملك: كل ذلك ببركتك زادنا الله من نفحاتك. فقال له: أيها الملك، إن تمام بُرئها وكمال أمرها أنك تخرج أنت وكل مَن معك من أعوانك وعسكرك إلى المحل الذي كنتَ وجدتها فيه، وتكون صحبتك الفرس الأبنوس التي كانت معها؛ لأجل أن أعقد عنها العارض هناك وأسجنه وأقتله، فلا يعود إليها أبدًا. فقال له الملك: حبًّا وكرامةً. ثم أخرج الفرس الأبنوس إلى المرج الذي وجدها فيه هي والجارية والحكيم الفارسي، وركب الملك مع جيشه، وأخذ الجارية صحبته، وهم لا يدرون ما يريد أن يفعل. فلما وصلوا إلى ذلك المرج أمر ابن الملك الذي جعل نفسه حكيمًا أن تُوضَع الجارية والفرس بعيدًا عن الملك والعساكر بمقدار مد البصر، وقال للملك: دستور عن إذنك، أنا أريد أن أطلق البخور وأتلو العزيمة، وأسجن العارض هنا حتى لا يعود إليها أبدًا، ثم بعد ذلك أركب الفرس الأبنوس وأركب الجارية خلفي؛ فإذا فعلتُ ذلك فإن الفرس تضطرب وتمشي حتى تصل إليك، فعند ذلك يتم الأمر فافعل بها بعد ذلك ما تريد.

فلما سمع الملك كلامه فرح فرحًا شديدًا، ثم إن ابن الملك ركب الفرس ووضع الصبية خلفه، وصار الملك وجميع عسكره ينظرون إليه، ثم إنه ضمَّها إليه وشدَّ وثاقها، وبعد ذلك فرك ابن الملك لولب الصعود، فصعدت بهما الفرس في الهواء، والعساكر تنظر إليه حتى غاب عن أعينهم، ومكث الملك نصف يوم ينتظر عودته إليه فلم يَعُدْ، فيئس منه وندم ندمًا عظيمًا، وتأسَّف على فراق الجارية، ثم أخذ عسكره وعاد إلى مدينته.

هذا ما كان من أمره، وأما ما كان من أمر ابن الملك، فإنه قصد مدينة أبيه فَرِحًا مسرورًا، ولم يزل سائرًا إلى أن نزل على قصره، وأنزل الجارية في القصر وأمَّنَ عليها، ثم ذهب إلى أبيه وأمه فسلَّمَ عليهما وأعلمها بقدوم الجارية، ففرحَا بذلك فرحًا شديدًا.

هذا ما كان من أمر ابن الملك والفرس والجارية، وأما ما كان من أمر ملك الروم، فإنه لما عاد إلى مدينته احتجَبَ في قصره حزينًا كئيبًا، فدخل عليه وزراؤه وجعلوا يسلُّونه ويقولون له: إن الذي أخذ الجارية ساحر، والحمد لله الذي نجَّاك من سحره ومكره. وما زالوا به حتى تسلَّى عنها. وأما ابن الملك فإنه عمل الولائم العظيمة لأهل المدينة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 371

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن ابن الملك عمل الولائم العظيمة لأهل المدينة، وأقاموا في الفرح شهرًا كاملًا، ثم دخل على الجارية، وفرحَا ببعضهما فرحًا شديدًا. هذا ما كان من أمره، وأما ما كان من أمر والده، فإنه كسر الفرس الأبنوس، وأبطل حركاتها. ثم إن ابن الملك كتب كتابًا إلى أبي الجارية، وذكر له فيه حالها، وأخبره أنه تزوَّجَ بها، وهي عنده في أحسن حال، وأرسله إليه مع رسول، وصحبته هدايا وتحف نفيسة، فلما وصل الرسول إلى مدينة أبي الجارية، وهي صنعاء اليمن، أوصل الكتاب والهدايا إلى ذلك الملك، فلما قرأ الكتاب فرح فرحًا شديدًا، وقبل الهدايا، وأكرم الرسول. ثم جهَّز هدية لصهره ابن الملك، وأرسلها إليه مع ذلك الرسول؛ فرجع بها إلى ابن الملك، وأعلمه بفرح الملك أبي الجارية حين بلغه خبر ابنته، فحصل له سرور عظيم، وصار ابن الملك في كل سنة يكاتب صهره ويهاديه، ولم يزالوا كذلك حتى تُوفي الملك أبو الغلام، وتولَّى هو بعده في المملكة؛ فعدل في الرعية، وسار فيهم بسيرة مرضية؛ فدانت له البلاد وأطاعته العباد، واستمروا على هذه الحالة في ألذ عيش وأهنئه، وأرغده وأمرئه، إلى أن أتاهم هادم اللذات ومفرِّق الجماعات، ومخرِّب القصور ومعمر القبور، فسبحان الحي الذي لا يموت، وبيده الملك والملكوت.

 

حكاية أنس الوجود والورد في الأكمام

ومما يُحكَى أيضًا أنه كان في قديم الزمان، وسالف العصر والأوان، ملك عظيم الشان، ذو عزٍّ وسلطان، وكان له وزير يُسمَّى إبراهيم، وكانت له ابنة بديعة في الحُسْن والجمال، فائقة في البهجة والكمال، ذات عقل وافر وأدب باهر، إلا أنها تهوى المنادمة والراح والوجوه الملاح، ورقائق الأشعار ونوادر الأخبار، تدعو العقولَ إلى الهوى رقَّةُ معانيها، كما قال فيها بعض واصفيها:

كَلِفْتُ بِهَا فَتَّانَةِ التُّرْكِ وَالْعَرَبْ        تُجَادِلُنِي فِي الْفِقْهِ وَالنَّحْوِ وَالْأَدَبْ

تَقُولُ: أَنَا الْمَفْعُولُ بِي وَخَفَضْتَنِي        لِمَاذَا؟ وَهَذَا فَاعِلٌ فَلِمَ انْتَصَبْ؟

فَقُلْتُ لَهَا: نَفْسِي وَرُوحِي لَكِ الْفِدَا        أَلَمْ تَعْلَمِي أَنَّ الزَّمَانَ قَدِ انْقَلَبْ

وَإِنْ كُنْتِ يَوْمًا تُنْكِرِينَ انْقِلَابَهُ        فَهَا فَانْظُرِي مَا عُقْدَةُ الرَّأْسِ فِي الذَّنَبْ

وكان اسمها «الورد في الأكمام»، وسبب تسميتها بذلك فرطُ رقَّتها، وكمال بهجتها، وكان الملك محبًّا لمنادمتها لكمال أدبها، ومن عادة الملك أنه في كل عام يجمع أعيان مملكته ويلعب الكرة، فلما كان ذلك اليوم الذي يجمع فيه الناس للعب الكرة، جلست ابنة الوزير في الشباك لتتفرج؛ فبينما هم في اللعب إذ لاحت منها التفاتة، فرأت بين العسكر شابًّا لم يكن أحسن منه منظرًا ولا أبهى طلعةً؛ نيِّر الوجه، ضاحك السن، طويل الباع، واسع المنكب؛ فكرَّرت فيه النظر مرارًا فلم تشبع منه نظرًا، فقالت لدايتها: ما اسم هذا الشاب المليح الشمائل الذي بين العسكر؟ فقالت لها: يا بنتي، الكل ملاح، فمَن هو فيهم؟ فقالت لها: اصبري حتى أشير لك إليه. ثم أخذت تفاحة ورمتها عليه؛ فرفع رأسه فرأى ابنة الوزير في الشباك كأنها البدر في الأفلاك، فلم يردَّ إليه طرفه إلا وهو بعشقها مشغول الخاطر، فأنشد قول الشاعر:

أَرَمَانِي الْقَوَّاسُ أَمْ جِفْنَاكِ        فَتْكًا بِقَلْبِ الصَّبِّ حِينَ رَآكِ

أَأَتَانِي السَّهْمُ الْمُفَوَّقُ بُرْهَةً        مِنْ جَحْفَلٍ أَمْ جَاءَ مِنْ شُبَّاكِ

فلما فرغ اللعب قالت لدايتها: ما اسم هذا الشاب الذي أريته لك؟ قالت: اسمه أنس الوجود. فهزت رأسها ونامت في مرتبتها، وقدحت فكرتها، ثم صعَّدت الزفرات وأنشدت هذه الأبيات:

مَا خَابَ مَنْ سَمَّاكَ أُنْسَ الْوُجُودْ        يَا جَامِعًا مَا بَيْنَ أُنْسٍ وَجُودْ

يَا طَلْعَةَ الْبَدْرِ الَّذِي وَجْهُهُ        قَدْ نَوَّرَ الْكَوْنَ وَعَمَّ الْوُجُودْ

مَا أَنْتَ إِلَّا مُفْرَدٌ فِي الْوَرَى        سُلْطَانُ ذِي حُسْنٍ وَعِنْدِي شُهُودْ

حَاجِبُكَ النُّونُ الَّتِي حُرِّرَتْ        وَمُقْلَةٌ كَالصَّادِ صُنْعُ الْوَدُودْ

وَقَدُّكَ الْغُصْنُ الرَّطِيبُ الَّذِي        إِذَا دُعِيَ فِي كُلِّ شَيْءٍ يَجُودْ

قَدْ فُقْتَ فُرْسَانَ الْوَرَى سَطْوَةً        وَفُقْتَهُمْ أُنْسًا وَحُسْنَ وُجُودْ

فلما فرغت من شعرها كتبته في قرطاس، ولفَّته في خرقة من الحرير مطرَّزة بالذهب، ووضعته تحت المخدة، وكانت واحدة من داياتها تنظر إليها، فجاءتها وصارت تمارسها في الحديث حتى نامت، وسرقت الورقة من تحت المخدة وقرأتها؛ فعرفت أنها حصل لها وَجْد بأُنْس الوجود، وبعد أن قرأت الورقة وضعتها في مكانها. فلما استفاقت سيدتها الورد في الأكمام من نومها، قالت لها: يا سيدتي، إني لكِ من الناصحات، وعليك من الشفيقات، اعلمي أن الهوى شديد، وكتمانه يذيب الحديد، ويورث الأمراض والأسقام، وما على مَن يبوح بالهوى ملام. فقالت لها الورد في الأكمام: يا دايتي، وما دواء الغرام؟ قالت: دواؤه الوصال. قالت: وكيف يوجد الوصال؟ قالت: يا سيدتي، يوجد بالمراسلة ولين الكلام، وإكثار التحيات والسلام، فهذا يجمع بين الأحباب، وبه تسهُل الأمور الصعاب، وإن كان لكِ أمرٌ يا مولاتي، فأنا أولى بكتم سرك وقضاء حاجتك وحمل رسالتك. فلما سمعت منها الورد في الأكمام ذلك الكلام، طار عقلها من الفرح، لكن أمسكت نفسها عن الكلام حتى تنظر عاقبة أمرها، وقالت في نفسها: إن هذا الأمر ما عرفه أحدٌ مني، فلا أبوح به لهذه المرأة إلا بعد اختبارها. فقالت لها المرأة: يا سيدتي، إني رأيت في منامي كأنَّ رجلًا جاءني، وقال لي: إن سيدتك وأُنْس الوجود متحابَّان فمارسي أمرهما، واحملي رسائلهما، واقضي حوائجهما، واكتمي أمرهما وأسرارهما؛ يحصل لك خير كثير، وها أنا قد قصصت ما رأيتُ عليكِ، والأمر إليكِ. فقالت الورد في الأكمام لدايتها لما أخبرتها بالمنام … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 372

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الورد في الأكمام قالت لدايتها لما أخبرتها بالمنام الذي رأته: هل تكتمين الأسرار يا دايتي؟ فقالت: كيف لا أكتم الأسرار وأنا من خلاصة الأحرار؟ فأخرجَتْ لها الورقة التي كتبت فيها الشعر، وقالت لها: اذهبي برسالتي هذه إلى أُنْس الوجود، وائتيني بجوابه. فأخذتها وتوجَّهت بها إلى أُنْس الوجود، فلما دخلت عليه قبَّلت يديه، وحيَّته بألطف كلام، ثم أعطته القرطاس، فقرأه وفهم معناه، ثم كتب في ظهره هذه الأبيات:

أُعَلِّلُ قَلْبِي فِي الْغَرَامِ وَأَكْتُمُ        وَلَكِنَّ حَالِي عَنْ هَوَايَ يُتَرْجِمُ

وَإِنْ فَاضَ دَمْعِي قُلْتُ جُرْحٌ بِمُقْلَتِي        لِئَلَّا يَرَى حَالِي الْعَذُولُ فَيَفْهَمُ

وَكُنْتُ خَلِيًّا لَسْتُ أَعْرِفُ مَا الْهَوَى        فَأَصْبَحْتُ صَبًّا وَالْفُؤَادُ مُتَيَّمُ

رَفَعْتُ إِلَيْكُمْ قِصَّتِي أَشْتَكِي بِهَا        غَرَامِي وَوَجْدِي كَيْ تَرِقُّوا وَتَرْحَمُوا

وَسَطَّرْتُهَا مِنْ دَمْعِ عَيْنِي لَعَلَّهَا        بِمَا حَلَّ بِي مِنْكُمْ إِلَيْكُمْ تُتَرْجِمُ

رَعَى اللهُ وَجْهًا بِالْجَمَالِ مُبَرْقَعًا        لَهُ الْبَدْرُ عَبْدٌ وَالْكَوَاكِبُ تَخْدُمُ

عَلَى حُسْنِ ذَاتٍ مَا رَأَيْتُ مَثِيلَهَا        وَمِنْ مَيْلِهَا الْأَغْصَانُ عَطْفًا تَعَلَّمُ

وَأَسْأَلُكُمْ مَنْ غَيْرِ حَمْلِ مَشَقَّةٍ        زَيَارَتَنَا إِنَّ الْوِصَالَ مُعَظَّمُ

وَهَبْتُ لَكُمْ رُوحِي عَسَى تَقْبَلُونَهَا        فَلِي الْوَصْلُ خُلْدٌ وَالصُّدُودُ جَهَنَّمُ

ثم طوى الكتاب وقبَّله وأعطاه لها، وقال لها: يا داية، استعطفي خاطر سيدتك. فقالت له: سمعًا وطاعة. ثم أخذت منه المكتوب ورجعت إلى سيدتها، وأعطتها القرطاس، فقبَّلته ورفعته فوق رأسها، ثم فتحته وقرأته وفهمت معناه، وكتبت في أسفله هذه الأبيات:

يَا مَنْ تَوَلَّعَ قَلْبُهُ بِجَمَالِنَا        اصْبِرْ لَعَلَّكَ فِي الْهَوَى تَحْظَى بِنَا

لَمَّا عَلِمْنَا أَنَّ حُبَّكَ صَادِقٌ        وَأَصَابَ قَلْبَكَ مَا أَصَابَ فُؤَادَنَا

زِدْنَاكَ فَوْقَ الْوَصْلِ وَصْلًا مِثْلَهُ        لَكِنَّ مَنْعَ الْوَصْلِ مِنْ حُجَّابِنَا

لَمَّا يُجَنُّ اللَّيْلُ مِنْ فَرْطِ الْهَوَى        تَتَوَقَّدُ النِّيرَانُ فِي أَحْشَائِنَا

وَجَفَتْ مَضَاجِعُنَا الْمَنَامَ وَرُبَّمَا        قَدْ بَرَّحَ التَّبْرِيحُ فِي أَجْسَامِنَا

الْفَرْضُ فِي شَرْعِ الْهَوَى كَتْمُ الْهَوَى        لَا تَرْفَعُوا الْمَسْبُولَ مِنْ أَسْتَارِنَا

وَقَدِ انْحَشَى مِنِّي الْحَشَا بِهَوَى الرَّشَا        يَا لَيْتَهُ مَا غَابَ عَنْ أَوْطَانِنَا

فلما فرغت من شعرها طوت القرطاس وأعطته للداية، فأخذته وخرجت من عند الورد في الأكمام بنت الوزير، فصادفها الحاجب وقال لها: أين تذهبين؟ فقالت: إلى الحمام. وقد انزعجت منه فوقعت منها الورقة حين خرجت من الباب وقت انزعاجها.

هذا ما كان من أمرها، وأما ما كان من أمر الورقة، فإن بعض الخدم رآها مرمية في الطريق فأخذها، ثم إن الوزير خرج من باب الحريم وجلس على سريره، فقصده الخادم الذي التقط الورقة، فبينما الوزير جالس على سريره وإذا بذلك الخادم تقدَّم إليه وفي يده الورقة، وقال له: يا مولاي، إني وجدت هذه الورقة مرمية في الدار فأخذتها. فتناولها الوزير من يده وهي مطوية ففتحها، فرأى مكتوبًا فيها الأشعار التي تقدَّمَ ذِكْرها، فقرأها وفهم معناها، ثم تأمل كتابتها فرآها بخط ابنته، فدخل على أمها وهو يبكي بكاءً شديدًا حتى ابتلَّت لحيته، فقالت له زوجته: ما أبكاك يا مولاي؟ فقال لها: خذي هذه الورقة، وانظري ما فيها. فأخذت الورقة وقرأتها، فوجدتها مشتملة على مراسلة من بنتها الورد في الأكمام إلى أنس الوجود؛ فجاءها البكاء لكنَّها غلبت على نفسها وكفكفت دموعها، وقالت للوزير: يا مولاي، إن البكاء لا فائدة فيه، وإنما الرأي الصواب أن نتبصَّر في أمرٍ يكون فيه صون عرضك، وكتمان أمر بنتك. وصارت تسلِّيه وتخفف عنه الأحزان، فقال لها: إني خائف على ابنتي من العشق؛ أَمَا تعلمين أن السلطان يحب أنس الوجود محبة عظيمة؟ ولخوفي من هذا الأمر سببان؛ الأول من جهتي، وهو أنها ابنتي، والثاني من جهة السلطان، وهو أن أنس الوجود محظي عند السلطان، وربما يحدث من هذا أمر عظيم، فما رأيك في ذلك؟ وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 373

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الوزير لما أخبر زوجته بخبر بنته، وقال لها: فما رأيك في ذلك؟ قالت له: اصبر عليَّ حتى أصلي صلاة الاستخارة. ثم إنها صلت ركعتين سنَّة الاستخارة، فلما فرغت من صلاتها قالت لزوجها: إن في وسط بحر الكنوز جبلًا يُسمَّى جبل الثكلى - وسبب تسميته بذلك سيأتي - وذلك الجبل لا يقدر على الوصول إليه أحدٌ إلا بالمشقة، فاجعل لها موضعًا هناك. فاتفق الوزير مع زوجته على أنه يبني فيه قصرًا منيعًا ويجعلها فيه، ويضع عندها مئُونتها عامًا بعد عام، ويجعل عندها مَن يؤانسها ويخدمها، ثم جمع النجارين والبنَّائين والمهندسين، وأرسلهم إلى ذلك الجبل، وقد بنوا لها قصرًا منيعًا لم يَرَ مثلَه الراءُون. ثم هيَّأ الزاد والراحلة ودخل على ابنته في الليل وأمرها بالسير؛ فحسَّ قلبها بالفراق، فلما خرجت ورأت هيئة الأسفار بكت بكاءً شديدًا، وكتبت على الباب تُعرِّف أنس الوجود بما جرى لها من الوَجْد الذي تقشعر منه الجلود، ويذيب الجلمود، ويُجرِي العَبَرات، والذي كتبته هذه الأبيات:

بِاللهِ يَا دَارُ إِنْ مَرَّ الْحَبِيبُ ضُحًى        مُسَلِّمًا بِإِشَارَاتِ الْمُحِبِّينَا

أَهْدِيهِ مِنَّا سَلَامًا زَاكِيًا عَطِرًا        لِأَنَّهُ لَيْسَ يَدْرِي أَيْنَ أَمْسَيْنَا

وَلَسْتُ أَدْرِي إِلَى أَيْنَ الرَّحِيلُ بِنَا        لَمَّا مَضَوْا بِي سَرِيعًا مُسْتَخِفِّينَا

فِي جُنْحِ لَيْلٍ وَطَيْرُ الْأَيْكِ قَدْ عَكَفَتْ        عَلَى الْغُصُونِ تُبَاكِينَا وَتَنْعِينَا

وَقَالَ عَنْهَا لِسَانُ الْحَالِ وَا حَرَبَا        مِنَ التَّفَرُّقِ مَا بَيْنَ الْمُحِبِّينَا

لَمَّا رَأَيْتُ كُئُوسَ الْبُعْدِ قَدْ مُلِئَتْ        وَالدَّهْرُ مِنْ صِرْفِهَا بِالْقَهْرِ يَسْقِينَا

مَزَجْتُهَا بِجَمِيلِ الصَّبْرِ مُعْتَذِرًا        وَعَنْكُمُ الْآنَ لَيْسَ الصَّبْرُ مُجْدِينَا

فلما فرغت من شعرها ركبت، وساروا بها يقطعون البراري والقفار، والسهول والأوعار، حتى وصلوا إلى بحر الكنوز، ونصبوا الخيام على شاطئ البحر، ومدُّوا لها مركبًا عظيمةً، وأنزلوها فيها هي وعائلتها، وقد أمرهم أنهم إذا وصلوا إلى الجبل، وأدخلوها في القصر هي وعائلتها يرجعون بالمركب، وبعد أن يطلعوا من المركب يكسرونها، فذهبوا وفعلوا جميع ما أمرهم به، ثم رجعوا وهم يبكون على ما جرى.

هذا ما كان من أمرهم، وأما ما كان من أمر أنس الوجود، فإنه قام من نومه وصلَّى الصبح، ثم ركب وتوجَّه إلى خدمة السلطان، فمَرَّ في طريقه على باب الوزير على جري العادة، لعله يرى أحدًا من أتباع الوزير الذين كان يراهم، ونظر إلى الباب فرأى الشعر المتقدِّم ذِكْره مكتوبًا عليه، فلما رآه غاب عن وجوده واشتعلت النار في أحشائه ورجع إلى داره، ولم يقر له قرار ولم يطاوعه اصطبار، ولم يزل في قلقٍ ووَجْدٍ إلى أن دخل الليل، فكتم أمره وتنكَّر وخرج في جوف الليل هائمًا على غير طريق، وهو لا يدري أين يسير؛ فسار الليل كله وثاني يوم إلى أن اشتدَّ حرُّ الشمس، وتلهَّبت الجبال، واشتدَّ عليه العطش، فنظر إلى شجرة فوجد بجانبها جدول ماء يجري، فقصد تلك الشجرة وجلس في ظلِّها على شاطئ ذلك الجدول، وأراد أن يشرب فلم يجد للماء طعمًا في فمه، وقد تغيَّرَ لونه، واصفرَّ وجهه، وتورَّمت قدماه من المشي والمشقة؛ فبكى بكاءً شديدًا، وسكب العَبَرات وأنشد هذه الأبيات:

سَكَرُ الْعَاشِقِ فِي حُبِّ الْحَبِيبْ        إِنْ سَأَلْنَاهُ سُؤَالًا لَا يُجِيبْ

هَائِمٌ فِي الْحُبِّ صَبٌّ تَائِهٌ        طَعْمُ زَادٍ عِنْدَهُ لَيْسَ يَطِيبْ

كَيْفَ يَهْنَا الْعَيْشُ لِلصَّبِّ الَّذِي        فَارَقَ الْأَحْبَابُ ذَا شَيْءٍ عَجِيبْ

ذُبْتُ لَمَّا أَنْ ذَكَا وَجْدِي بِهِمْ        وَجَرَى دَمْعِي عَلَى خَدِّي صَبِيبْ

هَلْ أَرَاهُمْ أَوْ أَرَى مِنْ رَبْعِهِمْ        أَحَدًا يَبْرَى بِهِ الْقَلْبُ الْكَئِيبْ

فلما فرغ من شعره بكى حتى بَلَّ الثَّرَى، ثم قام من وقته وساعته، وسار من ذلك المكان؛ فبينما هو سائر في البراري والقِفار، إذ خرج عليه سَبْعٌ رقبته مختنقة بشعره، ورأسه قدر القبة، وفمه أوسع من الباب، وأنيابه مثل أنياب الفيل، فلما رآه أنس الوجود أيقن بالموت، واستقبل القبلة وتشهَّد واستعد للموت، وكان قد قرأ في الكتب أن مَن خادع السبع انخدع له؛ لأنه ينخدع بالكلام الطيب وينتخي بالمديح، فشرع يقول له: يا أسد الغابة، يا ليث الفضاء، يا ضرغام، يا أبا الفتيان، يا سلطان الوحوش، إنني عاشق مشتاق، وقد أتلفني العشق والفراق، وحين فارقت الأحباب، غبت عن الصواب، فاسمع كلامي، وارحم لوعتي وغرامي. فلما سمع الأسد مقالته تأخَّرَ عنه، وجلس مُقعِيًا على ذَنَبِه، ورفع رأسه إليه، وصار يلعب له بذَنَبه ويديه؛ فلما رأى أنس الوجود هذه الحركات، أنشد هذه الأبيات:

أَسَدَ الْبَيْدَاءِ هَلْ تَقْتُلُنِي        قَبْلَمَا أَلْقَى الَّذِي تَيَّمَنِي

لَسْتُ صَيْدًا لَا وَلَا بِيَّ سِمَنْ        فَقْدُ مَنْ أَهْوَاهُ قَدْ أَسْقَمَنِي

وَفِرَاقُ الْحُبِّ أَضْنَى مُهْجَتِي        فَمِثَالِي صُورَةٌ فِي كَفَنِي

يَا أَبَا الْحَارِثِ يَا لَيْثَ الْوَغَى        لَا تُشَمِّتْ عُذَّلِي فِي شَجَنِي

أَنَا صَبٌّ مَدْمَعِي غَرَّقَنِي        وَفِرَاقُ الْحُبِّ قَدْ أَقْلَقَنِي

وَاشْتِغَالِي فِي دُجَى اللَّيْلِ بِهِمْ        عَنْ وُجُودِي فِي الْهَوَى غَيَّبَنِي

فلما فرغ من شعره قام الأسد ومشى نحوه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 374

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن أنس الوجود لما فرغ من شعره، قام الأسد ومشى نحوه بلطف وعيناه مغرغرتان بالدموع، ولما وصل إليه لحسه بلسانه ومشى قدَّامه، وأشار إليه أن اتبعني فتبعه، ولم يزل سائرًا وهو خلفه ساعةً من الزمان حتى طلع به فوق جبل، ثم نزل به من فوق ذلك الجبل، فرأى آثار المشي في البراري؛ فعرف أن ذلك أثر مشي القوم بالورد في الأكمام، فتبع الأثر ومشى فيه، فلما رآه الأسد تبع الأثر وعرف أنه أثر مشي القوم بمحبوبته، رجع الأسد إلى حال سبيله. وأما أنس الوجود فإنه لم يزل ماشيًا في الأثر أيامًا وليالي حتى أقبل على بحرٍ عجاجٍ متلاطِم بالأمواج، ووصل الأثر إلى شاطئ البحر وانقطع؛ فعلم أنهم ركبوا البحر وساروا فيه، وانقطع رجاؤه منهم هناك، فسكب العَبَرات وأنشد هذه الأبيات:

شَطَّ الْمَزَارُ وَعَنْهُمْ قَلَّ مُصْطَبَرِي        وَكَيْفَ أَمْشِي لَهُمْ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ

أَوْ كَيْفَ أَصْبِرُ وَالْأَحْشَاءُ قَدْ تَلَفَتْ        فِي حُبِّهِمْ وَبَدَلْتُ النَّوْمَ بِالسَّهَرِ

مِنْ يَوْمِ غَابُوا عَنِ الْأَوْطَانِ وَارْتَحَلُوا        وَمُهْجَتِي فِي لَهِيبٍ أَيِّ مُسْتَعِرِ

سَيْحُون جَيْحُون دَمْعِي كَالْفُرَاتِ جَرَى        فَفَيْضُهُ فَائِقُ الطُّوفَانِ وَالْمَطَرِ

تَقَرَّحَ الْجَفْنُ مِنْ جَرْي الدُّمُوعُ بِهِ        وَأَحْرَقَ الْقَلْبَ بِالنِّيرَانِ وَالشَّرَرِ

جُيُوشُ وَجْدِيَ وَالْأَشْوَاقُ قَدْ هَجَمَتْ        وَجَيْشُ صَبْرِيَ فِي إِدْبَارِ مُنْكَسِرِ

خَاطَرْتُ بِالرُّوحِ بَذْلًا فِي مَحَبَّتِهِ        وَكَانَتِ الرُّوحُ عِنْدِي أَسْهَلَ الْخَطَرِ

لَا آخَذَ اللهُ عَيْنًا فِي الْحِمَى نَظَرَتْ        ذَاكَ الْجَمَالَ الَّذِي أَبْهَى مِنَ الْقَمَرِ

أَصْبَحْتُ مُنْطَرِحًا مِنْ أَعْيُنٍ نُجْلٍ        سِهَامُهَا رَشَقَتْ قَلْبِي بِلَا وَتَرِ

وَخَادَعَتْنِي بِلِينٍ مِنْ مَعَاطِفِهَا        كَمَا تَلِينُ غُصُونُ الْبَانِ فِي الشَّجَرِ

طَمِعْتُ مِنْهُمْ بِوَصْلٍ أَسْتَعِينُ بِهِ        عَلَى أُمُورِ الْهَوَى وَالْغَمِّ وَالْكَدَرِ

وَصِرْتُ فِيهِمْ كَمَا أَمْسَيْتُ مُكْتَئِبًا        وَكُلُّ مَا حَلَّ بِي مِنْ فِتْنَةِ النَّظَرِ

فلما فرغ من شعره بكى حتى وقع مغشيًّا عليه، واستمر في غشيته مدة مديدة، ثم أفاق من غشيته والتفت يمينًا وشمالًا فلم يرَ أحدًا في البرية، فخشي على نفسه من الوحوش فصعد على جبل عالٍ. فبينما هو في ذلك الجبل إذ سمع صوت آدمي يتكلم في مغارة فصغى إليه، وإذا هو عابد قد ترك الدنيا واشتغل بالعبادة، فطرق عليه المغارة ثلاث مرات فلم يُجِبْه العابد ولم يخرج إليه؛ فصعَّد الزفرات وأنشد هذه الأبيات:

كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى أَنْ أَبْلُغَ الْأَرَبَا        وَأَتْرُكَ الْهَمَّ وَالتَّكْدِيرَ وَالتَّعَبَا

وَكُلُّ هَوْلٍ مِنَ الْأَهْوَالِ شَيَّبَنِي        قَلْبًا وَرَأْسًا مَشِيبًا فِي زَمَانِ صِبَا

وَلَمْ أَجِدْ لِي مُعِينًا فِي الْغَرَامِ وَلَا        خِلًّا يُخَفِّفُ عَنِّي الْوَجْدَ وَالنَّصَبَا

وَكَمْ أُكَابِدُ فِي الْأَشْوَاقِ مِنْ وَلَهٍ        كَأَنَّ دَهْرِي عَلَيَّ الْآنَ قَدْ قَلَبَا

وَا رَحْمَتَاهُ لِصَبٍّ عَاشِقٍ قَلِقٍ        كَأْسَ التَّفَرُّقِ وَالْهِجْرَانِ قَدْ شَرِبَا

فَالنَّارُ فِي الْقَلْبِ وَالْأَحْشَاءِ قَدْ مُحِيَتْ        وَالْعَقْلُ مِنْ لَوْعَةِ التَّفْرِيقِ قَدْ سُلِبَا

مَا كَانَ أَعْظَمَ يَوْمًا جِئْتُ مَنْزِلَهُمْ        وَقَدْ رَأَيْتُ عَلَى الْأَبْوَابِ مَا كُتِبَا

بَكَيْتُ حَتَّى سُقِيتُ الْأَرْضَ مِنْ وَلَهٍ        لَكِنْ كَتَمْتُ عَنِ الدَّانِينَ وَالْغُرَبَا

يَا عَابِدًا قَدْ تَغَاضَى فِي مَغَارَتِهِ        كَأَنَّهُ ذَاقَ طَعْمَ الْعِشْقِ وَانْسَلَبَا

وَبَعْدَ هَذَا وَهَذَا كُلِّهِ فَإِذَا        بَلَغْتُ قَصْدِي فَلَا هَمًّا وَلَا تَعَبَا

فلما فرغ من شعره، وإذا بباب المغارة قد انفتح، وسمع قائلًا يقول: وا رحمتاه! فدخل الباب وسلَّم على العابد، فردَّ عليه السلام وقال له: ما اسمك؟ قال: اسمي أنس الوجود. فقال له: ما سبب مجيئك إلى هذا المكان؟ فقصَّ عليه قصته من أولها إلى آخرها، وأخبره بجميع ما جرى له؛ فبكى العابد وقال له: يا أنس الوجود، إن لي في هذا المكان عشرين عامًا ما رأيت فيه أحدًا إلا بالأمس؛ فإني سمعت بكاءً وغواشًا، فنظرت إلى جهة الصوت فرأيت ناسًا كثيرين، وخيامًا منصوبة على شاطئ البحر، وأقاموا مركبًا ونزل فيها قوم منهم، وساروا بها في البحر، ثم رجع بالمركب بعض مَن نزل فيها وكسروها، وتوجَّهوا إلى حال سبيلهم، وأظن أن الذين ساروا على ظهر البحر ولم يرجعوا هم الذين أنت في طلبهم يا أنس الوجود، وحينئذٍ همُّك عظيم، وأنت معذور، ولكن لا يوجد مُحِبٌّ إلا وقد قاسى الحسرات. ثم أنشد العابد هذه الأبيات:

أُنْسُ الْوُجُودِ خَلِيَّ الْبَالِ تَحْسَبُنِي        وَالشَّوْقُ وَالْوَجْدُ يَطْوِينِي وَيَنْشُرُنِي

إِنِّي عَرَفْتُ الْهَوَى وَالْعِشْقَ مِنْ صِغَرِي        مِنْ حِينَ كُنْتُ صَبِيًّا رَاضِعَ اللَّبَنِ

مَارَسْتُهُ زَمَنًا حَتَّى عُرِفْتُ بِهِ        إِنْ كُنْتَ تَسْأَلُ عَنِّي فَهْوَ يَعْرِفُنِي

شَرِبْتُ كَأْسَ الْجَوَى مِنْ لَوْعَةٍ وَضَنًى        فَصِرْتُ مَحْوًا بِهِ مِنْ رِقَّةِ الْبَدَنِ

قَدْ كُنْتُ ذَا قُوَّةٍ لَكِنْ وَهَى جَلَدِي        وَجَيْشُ صَبْرِي بِأَسْيَافِ اللِّحَاظِ فَنِي

لَا تَرْتَجِي فِي الْهَوَى وَصْلًا بِغَيْرِ جَفَا        فَالضِّدُّ بِالضِّدِّ مَقْرُونٌ مَدَى الزَّمَنِ

قَضَى الْغَرَامُ عَلَى العُشَّاقِ أَجْمَعِهِمْ        إِنَّ السُّلُوَّ حَرَامٌ حِكْمَةُ الْفَطِنِ

فلما فرغ العابد من إنشاد شعره، قام إلى أنس الوجود وعانَقَه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 375

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن العابد لما فرغ من إنشاد شعره قام إلى أنس الوجود وعانقه، وتباكيا حتى دوت الجبال من بكائهما، ولم يزالا يبكيان حتى وقعا مغشيًّا عليهما، ثم أفاقا وتعاهدا على أنهما أخوان في الله تعالى، ثم قال العابد لأنس الوجود: أنا في هذه الليلة أصلِّي وأستخير الله لك على شيء تعمله. فقال له أنس الوجود: سمعًا وطاعة.

هذا ما كان من أمر أنس الوجود، وأما ما كان من أمر الورد في الأكمام، فإنها لما وصلوا بها إلى الجبل وأدخلوها القصر ورأته ورأت ترتيبه، بكت وقالت: والله إنك مكان مليح، غير أنك ناقص وجود الحبيب فيك. ورأت في تلك الجزيرة أطيارًا، فأمرت بعض أتباعها أن ينصب لها فخًّا، ويصطاد به منها، وكل ما اصطاده يضعه في أقفاص من داخل القصر، ففعل ما أمرته به. ثم إنها قعدت في شباك القصر وتذكرت ما جرى لها، وزاد بها الغرام، والوَجْد والهيام؛ فسكبت العَبَرات وأنشدت هذه الأبيات:

يَا لِمَنْ أَشْتَكِي الْغَرَامَ الَّذِي بِي        وَشُجُونِي وَفِرْقَتِي عَنْ حَبِيبِي

يَا لَهِيبًا بَيْنَ الضُّلُوعِ تَلَظَّى        لَسْتُ مُبْدِيكَ خِيفَةً مِنْ رَقِيبِي

أَصْبَحَ الْقَدُّ رِقَّ عُودِ خِلَالٍ        مِنْ بُعَادٍ وَحُرْقَةٍ وَنَحِيبِ

أَيْنَ عَيْنُ الْحَبِيبِ حَتَّى تَرَانِي        كَيْفَ أَمْسَيْتُ مِثْلَ حَالِ السَّلِيبِ

قَدْ تَعَدَّوْا عَلَيَّ إِذْ حَجَبُونِي        فِي مَكَانٍ لَمْ يَسْتَطِعْهُ حَبِيبِي

أَسْأَلُ الشَّمْسَ حَمْلَ أَلْفِ سَلَامٍ        عِنْدَ وَقْتِ الشُّرُوقِ ثُمَّ الْغُرُوبِ

لِحَبِيبٍ قَدْ أَخْجَلَ الْبَدْرَ حُسْنًا        مُذْ تَبَدَّى بِقَامَةٍ كَالْقَضِيبِ

إِنْ حَكَى الْوَرْدُ خَدَّهُ قُلْتُ فِيهِ        ذَلِكَ الْوَرْدُ نُورُهُ مِنْ نَصِيبِي

إِنَّ فِي ثَغْرِهِ لَسِلْسَالَ رَيقٍ        يَجْلِبُ الْبَرْدَ عِنْدَ حَرِّ اللَّهِيبِ

كَيْفَ أَسْلُوهُ وَهْوَ قَلْبِي وَرُوحِي        مُسْقِمِي مُمْرِضِي حَبِيبِي طَبِيبِي

فلما جنَّ عليها الظلام اشتدَّ بها الغرام وتذكرَتْ ما فات، فأنشدت هذه الأبيات:

جَنَّ الظَّلَامُ وَهَاجَ الْوَجْدُ بِالسَّقَمِ        وَالشَّوْقُ حَرَّكَ مَا عِنْدِي مِنَ الْأَلَمِ

وَلَوْعَةُ الْبَيْنِ فِي الْأَحْشَاءِ قَدْ سَكَنَتْ        وَالْفِكْرُ صَيَّرَنِي فِي حَالَةِ الْعَدَمِ

وَالْوَجْدُ أَقْلَقَنِي وَالشَّوْقُ أَحْرَقَنِي        وَالدَّمْعُ بَاحَ بِسِرٍّ أَيُّ مُكْتَتِمِ

وَلَيْسَ لِي حَالَةٌ فِي الشَّوْقِ أَعْرِفُهَا        مِنْ رِقِّ عُودِي وَمِنْ ضَعْفِي وَمِنْ أَلَمِي

جَحِيمُ قَلْبِي مِنَ النِّيرَانِ قَدْ سُعِرَتْ        وَمِنْ لَظَى حَرِّهَا الْأَكْبَادُ فِي نِقَمِ

مَا كُنْتُ أَمْلُكُ نَفْسِي أَنْ أُوَدِّعَهُمْ        يَوْمَ الْفِرَاقِ فَيَا قَهْرِي وَيَا نَدَمِي

يَا مَنْ يُبَلِّغُهُمْ مَا حَلَّ بِي وَكَفَى        أَنِّي صَبَرْتُ عَلَى مَا خُطَّ بِالْقَلَمِ

وَاللهِ لَا حِلْتُ عَنْهُمْ فِي الْهَوَى أَبَدًا        يَمِينُ شَرْعِ الْهَوَى مَبْرُورَةُ الْقَسَمِ

يَا لَيْلُ سَلِّمْ عَلَى الْأَحْبَابِ مُخْبِرَهُمْ        وَاشْهَدْ بِعِلْمِكَ أَنِّي فِيكَ لَمْ أَنَمِ

هذا ما كان من أمر الورد في الأكمام، وأما ما كان من أمر أنس الوجود، فإن العابد قال له: انزل إلى الوادي وائتني من النخيل بليف. فنزل وجاء له بليف، فأخذه العابد وفتله وجعله شنفًا مثل أشناف التبن، وقال له: يا أنس الوجود، إن في جوف الوادي فرعًا يطلع وينشف على أصوله، فانزل إليه واملأ هذا الشنف منه، واربطه وارمه في البحر واركب عليه، وتوجَّه به إلى وسط البحر لعلَّك تبلغ قصدك؛ فإن مَن لم يخاطر بنفسه لم يبلغ المقصود. فقال: سمعًا وطاعة. ثم ودَّعه وانصرف من عنده إلى ما أمره به بعد أن دعا له العابد. ولم يزل أنس الوجود سائرًا إلى جوف الوادي، وفعل كما قال له العابد، ولما وصل بالشنف إلى وسط البحر خرج عليه ريح فزفَّه بالشنف حتى غاب عن عين العابد، ولم يزل سابحًا في لجَّة البحر ترفعه موجة وتحطُّه أخرى، وهو يرى ما في البحر من العجائب والأهوال، إلى أن رمته المقادير على جبل الثكلى بعد ثلاثة أيام، فنزل إلى البر مثل الفرخ الدائخ لهفان من الجوع والعطش؛ فوجد في ذلك المكان أنهارًا جارية، وأطيارًا مغرِّدة على الأغصان، وأشجارًا مثمرة صنوانًا وغير صنوان؛ فأكل من الأثمار، وشرب من الأنهار، وقام يمشي فرأى بياضًا على بُعْدٍ، فمشى جهته حتى وصل إليه فوجده قصرًا منيعًا حصينًا، فأتى باب القصر فوجده مقفولًا، فجلس عنده ثلاثة أيام. فبينما هو جالس وإذا بباب القصر قد فُتِح وخرج منه شخص من الخدم، فرأى أنس الوجود قاعدًا، فقال له: من أين أتيتَ؟ ومَن أوصلك إلى هنا؟ فقال: من أصبهان، وكنت مسافرًا في البحر بتجارة فانكسرت المركب التي كنتُ فيها، فرمتني الأمواج على ظهر هذه الجزيرة. فبكى الخادم وعانَقَه وقال: حيَّاك الله يا وجه الأحباب، إن أصبهان بلادي، ولي فيها بنت عمٍّ كنتُ أحبُّها وأنا صغير، وكنتُ مولعًا بها، فغزانا قوم أقوى منَّا وأخذوني في جملة الغنائم، وكنت صغيرًا فقطعوا إحليلي ثم باعوني خادمًا، وها أنا في تلك الحالة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 376

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الخادم الذي خرج من قصر الورد في الأكمام حدَّث أنس الوجود بجميع ما حصل له، وقال له: إن القوم الذين أخذوني قطعوا إحليلي وباعوني خادمًا، وها أنا في تلك الحالة. وبعدما سلَّم عليه وحيَّاه أدخله ساحة القصر، فلما دخل رأى بحيرة عظيمة، وحولها أشجار وأغصان، وفيها أطيار في أقفاص من فضة، وأبوابها من الذهب، وتلك الأقفاص معلَّقة على الأغصان، والأطيار فيها تناغي وتسبِّح الملك الديان، فلما وصل إلى أولها تأمَّله فإذا هو قمري، فلما رآه الطير مدَّ صوته وقال: يا كريم. فغشي على أنس الوجود، فلما أفاق من غشيته صعَّد الزفرات، وأنشد هذه الأبيات:

أَيُّهَا الْقُمْرِيُّ هَلْ مِثْلِي تَهِيمْ        فَاسْأَلِ الْمَوْلَى وَغَرِّدْ يَا كَرِيمْ

يَا تُرَى نَوْحُكَ هَذَا طَرَبٌ        أَوْ غَرَامٌ مِنْكَ فِي الْقَلْبِ مُقِيمْ

إِنْ تَنُحْ وَجْدًا لِأَحْبَابٍ مَضَوْا        إِنَّنِي مُضْنًى بِهِمْ دَوْمًا سَقِيمْ

أَوْ فَقَدْتَ الْحُبَّ مِثْلِي فِي الْهَوَى        فَالتَّجَافِي يُظْهِرُ الْوَجْدَ الْقَدِيمْ

يَا رَعَى اللهُ مُحِبًّا صَادِقًا        لَسْتُ أَسْلُوهُ وَلَوْ عَظْمِي رَمِيمْ

فلما فرغ من شعره بكى حتى وقع مغشيًّا عليه، وحين أفاق من غشيته مشى حتى وصل إلى ثاني قفص فوجده فاختًا، فلمَّا رآه الفاخت غرَّدَ وقال: يا دايم أشكرك. فصعَّد أنس الوجود الزفرات، وأنشد هذه الأبيات:

وَفَاخِتٍ قَدْ قَالَ فِي نَوْحِهِ        يَا دَايِمًا شُكْرًا عَلَى بَلْوَتِي

عَسَى لَعَلَّ اللهَ مِنْ فَضْلِهِ        يَقْضِي بِوَصْلِ الْحُبِّ فِي سَفْرَتِي

وَرُبَّ مَعْسُولِ اللَّمَى زَارَنِي        فَزَادَنِي عِشْقًا عَلَى صَبْوَتِي

فَقُلْتُ وَالنِّيرَانُ قَدْ أُضْرِمَتْ        فِي الْقَلْبِ حَتَّى أَحْرَقَتْ مُهْجَتِي

وَالدَّمْعُ مَسْفُوحٌ يُحَاكِي دَمًا        قَدْ فَاضَ جَارِيهِ عَلَى وَجْنَتِي

مَا ثَمَّ مَخْلُوقٌ بِلَا مِحْنَةٍ        لَكِنَّ لِي صَبْرًا عَلَى مِحْنَتِي

بِقُدْرَةِ اللهِ مَتَّى لَمَّنِي        وَقْتَ الصَّفَا يَوْمًا عَلَى سَادَتِي

جَعَلْتُ لِلْعُشَّاقِ مَالِي قِرًى        لِأَنَّهُمْ قَوْمٌ عَلَى سُنَّتِي

وَأَطْلُقُ الْأَطْيَارَ مِنْ سِجْنِهَا        وَأَتْرُكُ الْأَحْزَانَ مِنْ فَرْحَتِي

فلما فرغ من شعره تمشَّى إلى ثالث قفص فوجده هَزارًا، فزعق الهزار عند رؤيته؛ فلما سمعه أنشد هذه الأبيات:

إِنَّ الْهَزَارَ لَطِيفُ الصَّوْتِ يُعْجِبُنِي        كَأَنَّهُ صَوْتُ صَبٍّ فِي الْغَرَامِ فَنِي

وَا رَحْمَتَاهُ عَلَى الْعُشَّاقِ كَمْ قَلِقُوا        مِنْ لَيْلَةٍ بِالْهَوَى وَالشَّوْقِ وَالْمِحَنِ

كَأَنَّهُمْ مِنْ عَظِيمِ الشَّوْقِ قَدْ خُلِقُوا        بِلَا صَبَاحٍ وَلَا نَوْمٍ مِنَ الشَّجَنِ

لَمَّا جُنِنْتُ بِمَنْ أَهْوَاهُ قَيَّدَنِي        فِيهِ الْغَرَامُ وَلَمَّا عَادَ قَيَّدَنِي

تَسَلْسَلَ الدَّمْعُ مِنْ عَيْنِي فَقُلْتُ لَهُ        سَلَاسِلُ الدَّمْعِ قَدْ طَالَتْ فَسَلْسَلَنِي

زَادَ اشْتِيَاقِي وَطَالَ الْبُعْدُ وَانْعَدَمَتْ        كُنُوزُ صَبْرِي وَفَرْطُ الْوَجْدُ أَتْلَفَنِي

إِنْ كَانَ الدَّهْرُ صَافٍ قَامَ يَجْمَعُنِي        بِمَنْ أُحِبُّ وَسَتْرُ اللهِ يَشْمُلُنِي

قَلَعْتُ ثَوْبِي لِحِبِّي كَيْ يَرَى جَسَدِي        بِالصَّدِّ وَالْبُعْدِ وَالْهِجْرَانِ كَيْفَ ضُنِي

فلما فرغ من شعره تمشَّى إلى رابع قفص فرآه بُلبلًا، فناح وغرَّد عند رؤية أنس الوجود؛ فلما سمع تغريده سكب العَبَرات، وأنشد هذه الأبيات:

إِنَّ لِلْبُلْبُلِ صَوْتًا فِي السَّحَرْ        يُشْغِلُ الْعَاشِقَ عَنْ حُسْنِ الْوَتَرْ

فِي الْهَوَى أُنْسَ الْوُجُودِ الْمُشْتَكِي        مِنْ غَرَامٍ قَدْ مَحَا مِنْهُ الْأَثَرْ

كَمْ سَمِعْنَا صَوْتَ أَلْحَانٍ مَحَتْ        طَرَبًا صَلْدَ حَدِيدٍ وَحَجَرْ

وَنَسِيمُ الصُّبْحِ قَدْ يَرْوِي لَنَا        عَنْ رِيَاضٍ يَانِعَاتٍ بِالزَّهَرْ

فَطَرِبْنَا بِسَمَاعٍ وَشَذَا        مِنْ نَسِيمٍ وَطُيُورٍ فِي السَّحَرْ

وَتَذَكَّرْنَا حَبِيبًا غَائِبًا        فَجَرَى الدَّمْعُ سُيُولًا وَمَطَرْ

وَلَهِيبُ النَّارِ فِي أَحْشَائِنَا        مُضْرَمٌ ذَاكَ كَجَمْرٍ بِالشَّرَرْ

مَتَّعَ اللهُ مُحِبًّا عَاشِقًا        مِنْ حَبِيبٍ بِوِصَالٍ وَنَظَرْ

إِنَّ لِلْعُشَّاقِ عُذْرًا وَاضِحًا        لَيْسَ يَدْرِي الْعُذْرَ إِلَّا ذُو نَظَرْ

فلما فرغ من شعره مشى قليلًا فرأى قفصًا حسنًا لم يكن هناك أحسن منه، فلما قرب منه وجده حمام الأيك، وهو اليمام المشهور من بين الطيور ينوح بالغرام، وفي عنقه عقد من جوهر بديع النظام، وتأمَّله فوجده ذاهلًا باهتًا في قفصه، فلما رآه بهذه الحالة أفاض العَبَرات، وأنشد هذه الأبيات:

يَا حَمَامَ الْأَيْكِ أُقْرِيكَ السَّلَامْ        يَا أَخَا الْعُشَّاقِ مِنْ أَهْلِ الْغَرَامْ

إِنَّنِي أَهْوَى غَزَالًا أَهْيَفَ        لَحْظُهُ أَقْطَعُ مِنْ حَدِّ الْحُسَامْ

فِي الْهَوَى أَحْرَقَ قَلْبِي وَالْحَشَا        وَعَلَا جِسْمِي نُحُولِي وَالسَّقَامْ

وَلَذِيذُ الزَّادِ قَدْ حُرِمْتُهُ        مِثْلَمَا حُرِمْتُ مِنْ طِيبِ الْمَنَامْ

وَاصْطِبَارِي وَسُلُوِّي رَحَلَا        وَالْهَوَى بِالْوَجْدِ عِنْدِي قَدْ أَقَامْ

كَيْفَ يَهْنَا الْعَيْشُ لِي مِنْ بَعْدِهِمْ        وَهُمُو رُوحِي وَقَصْدِي وَالْمَرَامْ

فلما فرغ أنس الوجود من شعره … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 377

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن أنس الوجود لما فرغ من شعره، كان حمام الأيك قد انتبه من ذهوله وسمع إنشاده، فصاح وناح، وأكثر التغريد والنواح، حتى كاد أن ينطق بالترنيمات، وأنشد عنه لسان الحال هذه الأبيات:

أَيُّهَا الْعَاشِقُ قَدْ ذَكَّرْتَنِي        زَمَنًا فِيهِ شَبَابِي قَدْ فَنِي

وَحَبِيبًا كُنْتُ أَهْوَى شَكْلَهُ        ذَا جَمَالٍ فَائِقٍ وَمُفْتِنِ

صَوْتُهُ مِنْ فَوْقِ أَغْصَانِ النَّقَى        عَنْ سَمَاعِ النَّاي وَجْدًا رَدَّنِي

نَصَبَ الصَّيَادُ فَخًّا صَادَهُ        قَائِلًا لَوْ لِلْفَضَا يَتْرُكُنِي

كُنْتُ أَرْجُو أَنَّهُ ذُو رَأْفَةٍ        أَوْ يَرَانِي عَاشِقًا يَرْحَمُنِي

فَرَمَاهُ اللهُ لَمَّا أَنَّهُ        مِنْ حَبِيبِي بِالْجَفَا أَفْرَقَنِي

وَغَرَامِي فِيهِ أَضْحَى زَائِدًا        وَبِنَارِ البُعْدِ قَدْ أَحْرَقَنِي

يَا رَعَى اللهُ مُحِبًّا عَاشِقًا        مَارَسَ الْحُبَّ وَقَاسَى شَجَنِي

إِذْ يَرَانِي لَابِثًا فِي قَفَصِي        لِحَبِيبِي رَحْمَةً يُطْلِقُنِي

ثم إن أنس الوجود التفت إلى صاحبه الأصبهاني وقال له: ما هذا القصر؟ وما فيه؟ ومَن بناه؟ قال له: بناه وزير الملك الفلاني لابنته خوفًا عليها من عوارض الزمان، وطوارق الحدثان، وأسكنها فيه هي وأتباعها، ولا تفتحه إلا في كل سنة مرة لما تأتي إليهم مئونتهم. فقال في نفسه: قد حصل المقصود، ولكن المدة طويلة.

هذا ما كان من أمر أنس الوجود، وأما ما كان من أمر الورد في الأكمام، فإنها لم يهنأ لها شراب ولا طعام، ولا قعود ولا منام، فقامت وقد زاد بها الغرام، والوَجْد والهيام، ودارت في أركان القصر فلم تجد لها مصرفًا؛ فسكبت العَبَرات، وأنشدت هذه الأبيات:

حَبَسُونِي عَنْ حَبِيبِي قَسْوَةً        وَأَذَاقُونِي بِسِجْنِي لَوْعَتِي

أَحْرَقُوا قَلْبِي بِنِيرَانِ الْهَوَى        حَيْثُ رَدُّوا عَنْ حَبِيبِي نَظْرَتِي

حَبَسُونِي فِي قُصُورٍ شُيِّدَتْ        فِي جِبَالٍ خُلِقَتْ فِي لُجَّةٍ

إِنْ يَكُونُوا قَدْ أَرَادُوا سَلْوَتِي        لَمْ تَزِدْ فِي الْحُبِّ إِلَّا مِحْنَتِي

كَيْفَ أَسْلُو وَالَّذِي بِي كُلُّهُ        أَصْلُهُ فِي وَجْهِ حِبِّي نَظْرَتِي

فَنَهَارِي كُلُّهُ فِي أَسَفٍ        أَقْطَعُ اللَّيْلَ بِهِمْ فِي فِكْرَتِي

وَأَنِيسِي ذِكْرُهُمْ فِي وِحْدَتِي        حِينَ أَلْقَى مِنْ لُقَاهُمْ وَحْشَتِي

يَا تُرَى هَلْ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ        يَرْتَضِي الدَّهْرُ لِقَلْبِي مُنْيَتِي

فلما فرغت من شعرها طلعت إلى سطح القصر، وأخذت أثوابًا بعلبكية، وربطت نفسها فيها، وتدلَّت حتى وصلت إلى الأرض، وقد كانت لابسة أفخر ما عندها من اللباس، وفي عنقها عقد من الجواهر، وسارت في تلك البراري والقفار حتى وصلت إلى شاطئ البحر، فرأت صيادًا في مركب دائرًا في البحر يصطاد، فرماه الريح على تلك الجزيرة، فالتفت فرأى الورد في الأكمام في تلك الجزيرة، فلما رآها فزع منها وخرج بالمركب هاربًا، فنادته وأكثرت إليه الإشارات، وأنشدت هذه الأبيات:

يَا أَيُّهَا الصَّيَادُ لَا تَخْشَ الْكَدَرْ        فَإِنَّنِي إِنْسِيَّةٌ مِثْلُ الْبَشَرْ

أُرِيدُ مِنْكَ أَنْ تُجِيبَ دَعْوَتِي        وَتَسْمَعَنْ قَوْلِي بِإِسْنَادِ الْخَبَرْ

فَارْحَمْ وَقَاكَ اللهُ حَرَّ صَبْوَتِي        إِنْ أَبْصَرَتْ عَيْنَاكَ مَحْبُوبًا نَفَرْ

فَإِنَّنِي أَهْوَى مَلِيحًا وَجْهُهُ        قَدْ فَاقَ وَجْهَ الشَّمْسِ نُورًا وَالْقَمَرْ

وَالظَّبْيُ لَمَّا أَنْ رَأَى أَلْحَاظَهُ        قَدْ قَالَ إِنِّي عَبْدُهُ ثُمَّ اعْتَذَرْ

قَدْ كَتَبَ الْحُسْنُ عَلَى وَجْنَتِهِ        سَطْرًا بَدِيعًا فِي الْمَعَانِي مُخْتَصَرْ

فَمَنْ رَأَى نُورَ الْهَوَى قَدِ اهْتَدَى        أَمَّا الَّذِي ضَلَّ تَعَدَّى وَكَفَرْ

عَسَى حَبِيبِي أَنْ يُوَفِّي بِالْمُنَى        فَإِنَّ قَلْبِي ذَابَ شَوْقًا وَانْفَطَرْ

فلما سمع الصياد كلامها، بكى وأنَّ واشتكى، وتذكَّر ما مضى له في صباه حين غلب عليه هواه، واشتدَّ به الغرام وزاد به الوَجْد والهيام، وأحرقته نيران الصبابات، وأنشد هذه الأبيات:

بِغَرَامِي أَيُّ عُذْرٍ وَاضِحِ        سَقِيمُ أَعْضَاءٍ بِدَمْعٍ سَافِحِ

تِلْكَ عَيْنِي فِي الدُّجَى سَاهِرَةٌ        مَنْ لِقَلْبٍ كَزِنَادٍ قَادِحِ

قَدْ بَلَوْنَا الْعِشْقَ مِنْ نَشْأَتِنَا        وَعَرَفْنَا نَاقِصًا مِنْ رَاجِحِ

ثُمَّ بِعْنَا فِي الْهَوَى أَنْفُسَنَا        بِوِصَالٍ مِنْ حَبِيبٍ نَازِحِ

ثُمَّ بِالْأَرْوَاحِ خَاطَرْنَا عَسَى        أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ بَيْعَ الرَّابِحِ

مَذْهَبُ الْعُشَّاقِ أَنَّ الْمُشْتَرِي        وَصْلَ مَحْبُوبٍ سَمَا عَنْ رَابِحِ

فلما فرغ من شعره أرسى مركبه على البر، وقال لها: انزلي في المركب حتى أعدي بك إلى أي موضع تريدين. فنزلت في المركب وعوَّمَ بها، فلما فارق البر بقليل هبَّت على المركب ريح من خلفها، فسارت المركب بسرعة حتى غاب البر عن أعينهما، وصار الصياد لا يعرف أين يذهب، ومكث اشتداد الريح مدة ثلاثة أيام، ثم سكنت الريح بإذن الله تعالى، ولم تزل المركب تسير بهما حتى وصلت إلى مدينة على شاطئ البحر. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 378

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن المركب لما وصلت بالصياد والورد في الأكمام إلى مدينة على شاطئ البحر، أراد الصياد أن يرسي مركبه على تلك المدينة، وكان فيها ملك عظيم السطوة يقال له درباس، وكان في ذلك الوقت جالسًا هو وابنه في قصر مملكته، وصارا ينظران من شباك القصر فالتفتا إلى جهة البحر فرأيا تلك المركب، فتأمَّلاها فوجدا فيها صبية كأنها البدر في أفق السماء، وفي أذنيها حلق من البلخش النفيس، وفي عنقها عقد من الجوهر النفيس، فعرف الملك أنها من بنات الأكابر والملوك، فنزل الملك من قصره وخرج من باب القيطون، فرأى المركب قد رست على الشاطئ، وكانت البنت نائمة، والصياد مشغولًا بربط المركب، فأيقظها الملك من منامها فاستيقظت وهي تبكي، فقال لها الملك: من أين أنتِ؟ وابنة مَن أنتِ؟ وما سبب مجيئكِ هنا؟ فقالت له الورد في الأكمام: أنا ابنة إبراهيم، وزير الملك شامخ، وسبب مجيئي هنا أمر عجيب وشأن غريب. وحكت له جميع قصتها من أولها إلى آخرها، ولم تُخْفِ عنه شيئًا، ثم صعَّدت الزفرات، وأنشدت هذه الأبيات:

قَدْ قَرَّحَ الدَّمْعُ جَفْنِي فَاقْتَضَى عَجَبَا        مِنَ التَّكَدُّرِ لَمَّا فَاضَ وَانْسَكَبَا

مِنْ أَجْلِ خِلٍّ ثَوَى فِي مُهْجَتِي أَبَدًا        وَلَمْ أَنَلْ فِي الْهَوَى مِنْ وَصْلِهِ أَرَبَا

لَهُ مُحَيَّا جَمِيلٌ بَاهِرٌ نَضِرٌ        وَفِي الْمَلَاحَةِ فَاقَ التُّرْكَ وَالْعَرَبَا

وَالشَّمْسُ وَالْبَدْرُ قَدْ مَالَا لِطَلْعَتِهِ        كَالصَّبِّ وَالْتَزَمَا فِي حُبِّهِ الْأَدَبَا

وَطَرْفُهُ بِعَجِيبِ السِّحْرِ مُكْتَحِلٌ        يُرِيكَ قَوْسًا لِرَمْيِ السَّهْمِ مُنْتَصِبَا

يَا مَنْ لَهُ حَالَتِي كَمْ جِئْتُ مُعْتَذِرًا        ارْحَمْ مُحِبًّا بِهِ صَرْفُ الْهَوَى لَعِبَا

إِنَّ الْهَوَى قَدْ رَمَانِي فِي وَسْطِ سَاحَتِكُمْ        ضَعِيفَ عَزْمٍ وَمِنْكُمْ أَرْتَجِي حَسَبَا

إِنَّ الْكِرَامَ إِذَا مَا حَلَّ سَاحَتَهُمْ        مُسْتَحْسِبٌ فَحَمَاهُمْ يَرْفَعُ الْحَسَبَا

فَاسْتُرْ فَضَائِحَ أَهْلِ الْعِشْقِ يَا أَمَلِي        وَكُنْ لِوَصْلَتِهِمْ يَا سَيِّدِي سَبَبَا

فلما فرغَتْ من شعرها حكت للملك قصَّتها من أولها إلى آخِرها، ثم أفاضت العَبَرات وأنشدت هذه الأبيات:

عِشْنَا إِلَى أَنْ رَأَيْنَا فِي الْهَوَى عَجَبَا        كُلُّ الشُّهُورِ وَفِي الْأَمْثَالِ عِشْ رَجَبَا

أَلَيْسَ مِنْ عَجَبٍ أَنِّي ضُحَى ارْتَحَلُوا        أَوْقَدْتُ مِنْ مَاءِ دَمْعِي فِي الْحَشَا لَهَبَا

وَإِنَّ أَجْفَانَ عَيْنِي أَمْطَرَتْ وَرَقًا        وَإِنَّ سَاحَةَ خَدِّي أَنْبَتَتْ ذَهَبَا

كَأَنَّ مَا انْعَقَّ عَنْهُ مِنْ مُعَصْفَرِهِ        قَمِيصُ يُوسُفَ غَشَّوْهُ دَمًا كَذِبَا

فلما سمع الملك كلامها تحقَّقَ وَجْدَها وغرامَها، فأخذته الشفقة عليها وقال لها: لا خوف عليك ولا فزع، قد وصلتِ إلى مرادكِ، فلا بدَّ أن أبلغك ما تريدين، وأوصل إليك ما تطلبين، فاسمعي مني هذه الكلمات. ثم أنشد هذه الأبيات:

بِنْتَ الْكِرَامِ بَلَغْتِ الْقَصْدَ وَالْأَرَبَا        لَكِ الْبِشَارَاتُ لَا تَخْشَيْ هُنَا نَصَبَا

الْيَوْمَ أَجْمَعُ أَمْوَالًا وَأُرْسِلُهَا        لِشَامِخٍ صَحِبَ الْفُرْسَانَ وَالنُّجُبَا

نَوَافِحَ الْمِسْكِ وَالدِّيبَاجِ أُرْسِلُهَا        وَأُرْسِلُ الْفِضَّةَ الْبَيْضَاءَ وَالذَّهَبَا

نَعَمْ وَتُخْبِرُهُ عَنِّي مُكَاتَبَتِي        أَنِّي مُرِيدٌ لَهُ صِهْرًا وَمُنْتَسِبَا

وَأَبْذُلُ الْيَوْمَ جَهْدِي فِي مُعَاوَنَةٍ        حَتَّى يَكُونَ الَّذِي تَهْوِينَ مُقْتَرِبَا

قَدْ ذُقْتُ طَعْمَ الْهَوَى دَهْرًا وَأَعْرِفُهُ        وَأَعْذُرُ الْيَوْمَ مَنْ كَأْسَ الْهَوَى شَرِبَا

فلما فرغ من شعره خرج إلى عسكره ودعا بوزيره، وحزم له مالًا لا يُحصَى، وأمره أن يذهب بذلك إلى الملك شامخ، وقال له: لا بد أن تأتيني بشخص عنده اسمه أنس الوجود، وقل له: إنه يريد مصاهرتك بأن يزوِّج ابنته لأنس الوجود تابعك، فلا بد من إرساله معي حتى نعقد عقده عليها في مملكة أبيها. ثم إن الملك درباس كتب مكتوبًا للملك شامخ بمضمون ذلك وأعطاه لوزيره، وأكَّد عليه في الإتيان بأنس الوجود، وقال له: إن لم تأتِني به تكون معزولًا عن مرتبتك. فقال له: سمعًا وطاعة. ثم توجَّه بالهدية إلى الملك شامخ، فلما وصل إليه بلَّغه السلام عن الملك درباس، وأعطاه المكاتبة والهدية التي معه، فلما رآها الملك شامخ وقرأ المكاتبة ونظر اسم أنس الوجود، بكى بكاءً شديدًا، وقال للوزير المرسل إليه: وأين أنس الوجود؟ فإنه ذهب ولا نعلم مكانه، فَأْتِني به وأنا أعطيك أضعاف ما جئتَ به من الهدية. ثم بكى وأنَّ واشتكى، وأفاض العَبَرات، وأنشد هذه الأبيات:

رُدُّوا عَلَيَّ حَبِيبِي        لَا حَاجَةَ لِي بِمَالِ

وَلَا أُرِيدُ هَدَايَا        مِنْ جَوْهَرٍ وَلَآلِي

قَدْ كَانَ عِنْدِي بَدْرًا        سَمَا بِأُفْقِ جَمَالِ

وَفَاقَ حِسًّا وَمَعْنًى        وَلَمْ يُقَسْ بِغَزَالِ

وَقَدُّهُ غُصْنُ بَانٍ        أَثْمَارُهُ مِنْ دَلَالِ

وَلَيْسَ فِي الْغُصْنِ طَبْعٌ        يُسْبِي عُقُولَ الرِّجَالِ

رَبَّيْتُهُ وَهْوَ طِفْلٌ        عَلَى مِهَادِ الدَّلَالِ

وَإِنَّنِي لِحَزِينٌ        عَلَيْهِ مَشْغُولُ بَالِي

ثم التفت إلى الوزير الذي جاء بالهدية والرسالة وقال له: اذهب إلى سيدك، وأخبره أن أنس الوجود مضى له عام وهو غائب، وسيده لم يَدْرِ أين ذهب، ولا يعرف له خبرًا. فقال له الوزير: يا مولاي، إن سيدي قال لي: إن لم تأتني به تكن معزولًا عن الوزارة، ولا تدخل مدينتي. فكيف أذهب إليه بغيره؟ فقال الملك شامخ لوزيره إبراهيم: اذهب معه صحبة جماعة، وفتِّشوا على أنس الوجود في سائر الأماكن. فقال له: سمعًا وطاعة. ثم أخذ جماعة من أتباعه، واستصحب وزير الملك درباس، وساروا في طلب أنس الوجود. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 379

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن إبراهيم وزير الملك شامخ أخذ جماعة من أتباعه، واستصحب وزير الملك درباس، وساروا في طلب أنس الوجود، فكانوا كلما مروا بعرب أو قوم يسألونهم عن أنس الوجود فيقولون لهم: هل مرَّ بكم شخص اسمه كذا، وصفته كذا وكذا؟ فيقولون: لا نعلمه. وما زالوا يسألون في المدائن والقرى، ويفتِّشون في السهول والأوعار، والبراري والقفار، حتى وصلوا إلى شاطئ البحر، وطلبوا مركبًا ونزلوا فيها، وساروا بها حتى أقبلوا على جبل الثكلى، فقال وزير الملك درباس لوزير الملك شامخ: لأي شيء سُمِّي هذا الجبل بذلك الاسم؟ فقال له: لأنه نزلت به جنِّية في قديم الزمان، وكانت تلك الجنية من جن الصين، وقد أحَبَّتْ إنسانًا ووقع له فيها غرام، وخافت على نفسها من أهلها، فلما زاد بها الغرام فتَّشت في الأرض على مكان تخفيه فيه عن أهلها، فوجدت هذا الجبل منقطعًا عن الإنس والجن، بحيث لا يهتدي إلى طريقه أحد لا من الإنس ولا من الجن، فاختطفَتْ محبوبها ووضعته فيه، وصارت تذهب إلى أهلها وتأتيه في خفية، ولم تزل على ذلك زمنًا طويلًا حتى ولدت منه في ذلك الجبل أطفالًا متعددة، وكان كلُّ مَن يمرُّ على هذا الجبل من التجار المسافرين في البحر، يسمع بكاء الأطفال كبكاء المرأة التي ثكلت أولادها؛ أي فقدتهم، فيقول: هل هنا ثكلى؟ فتعجَّبَ وزير الملك درباس من ذلك الكلام، ثم إنهم ساروا حتى وصلوا إلى القصر وطرقوا الباب، فانفتح الباب وخرج لهم خادم فعرف إبراهيم وزير الملك شامخ فقبَّلَ يديه، ثم دخل القصر فوجد في فسحته رجلًا فقيرًا بين الخدامين، وهو أنس الوجود، فقال لهم: من أين هذا؟ فقالوا له: إنه رجل تاجر غرق ماله ونجا بنفسه وهو مجذوب. فتركه ثم مشى إلى داخل القصر فلم يجد لابنته أثرًا، فسأل الجواري التي هناك فقلن له: ما عرفنا كيف راحت، ولا أقامت معنا سوى مدة يسيرة. فسكب العَبَرات، وأنشد هذه الأبيات:

أَيُّهَا الدَّارُ الَّتِي أَطْيَارُهَا        قَدْ تَغَنَّتْ وَازْدَهَتْ أَعْتَابُهَا

كَمْ أَتَاهَا الصَّبُّ يَنْعَى شَوْقَهُ        وَرَآهَا فُتِّحَتْ أَبْوَابُهَا

لَيْتَ شِعْرِي أَيْنَ ضَاعَتْ مُهْجَتِي        عِنْدَ دَارٍ قَدْ نَأَتْ أَرْبَابُهَا

كَانَ فِيهَا كُلُّ شَيْءٍ فَاخِرًا        وَاسْتَطَابَتْ وَاعْتَلَتْ حُجَّابُهَا

وَكَسَوْهَا حُلَلًا مِنْ سُنْدُسٍ        يَا تُرَى أَيْنَ غَدَتْ أَصْحَابُهَا

فلما فرغ من شعره بكى وأنَّ واشتكى، وقال: لا حيلة في قضاء الله، ولا مفر مما قدَّره وقضاه. ثم طلع إلى سطح القصر فوجد الثياب البعلبكية مربوطة في شراريف القصر واصلة إلى الأرض، فعرف أنها قد نزلت من ذلك المكان، وراحت كالهائم الولهان، والتفت فرأى هناك طيرين غرابًا وبومة؛ فتشاءم من ذلك، وصعَّد الزفرات، وأنشد هذه الأبيات:

أَتَيْتُ إِلَى دَارِ الْأَحِبَّةِ رَاجِيًا        بِآثَارِهِمْ إِطْفَاءَ وَجْدِي وَلَوْعَتِي

فَلَمْ أَجِدِ الْأَحْبَابَ فِيهَا وَلَمْ أَجِدْ        بِهَا غَيْرَ مَشْئُومَيْ غُرَابٍ وَبُومَةِ

وَقَالَ لِسَانُ الْحَالِ قَدْ كُنْتَ ظَالِمًا        وَفَرَّقْتَ بَيْنَ الْمُغْرَمِينَ الْأَحِبَّةِ

فَذُقْ طَعْمَ مَا ذَاقُوهُ مِنْ أَلَمِ الْجَوَى        وَعِشْ أَبَدًا مَا بَيْنَ دَمْعٍ وَحُرْقَةِ

ثم نزل من فوق القصر وهو يبكي، وقد أمر الخفلما فرغَتْ من شعرها حكت للملك دام أن يخرجوا إلى الجبل ويفتشوا على سيدتهم، ففعلوا ذلك فلم يجدوها. هذا ما كان من أمرها، وأما ما كان من أمر أنس الوجود، فإنه لما تحقَّق أن الورد في الأكمام قد ذهبت، صاح صيحة عظيمة، ووقع مغشيًّا عليه، واستمر في غشيته؛ فظنوا أنه أخذته جذبة من الرحمن، واستغرق في جمال هيئة الديَّان، ولما يئسوا من وجود أنس الوجود، واشتغل قلب الوزير إبراهيم بفقد بنته الورد في الأكمام، أراد وزير الملك درباس أن يتوجه إلى بلاده، وإن لم يفُزْ من سفره بمراده، فأخذ يودعه الوزير إبراهيم والد الورد في الأكمام، فقال له وزير الملك درباس: إني أريد أن آخذ هذا الفقير معي، عسى الله تعالى أن يعطف عليَّ قلب الملك ببركته لأنه مجذوب، ثم بعد ذلك أُرسِله إلى بلاد أصبهان؛ لأنها قريبة من بلادنا. فقال له: افعل ما تريد. ثم انصرف كلٌّ منهما متوجِّهًا إلى بلاده، وقد أخذ وزير الملك درباس أنس الوجود معه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 380

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن وزير الملك درباس أخذ أنس الوجود معه وهو مغشيٌّ عليه، وسار به ثلاثة أيام وهو في غشيته محمول على البغال، ولا يدري هل هو محمول أو لا، فلما أفاق من غشيته قال: في أي مكان أنا؟ فقالوا له: أنت صحبة وزير الملك درباس. ثم ذهبوا إلى الوزير وأخبروه أنه قد أفاق، فأرسل إليه ماء الورد والسكر، فسقوه وأنعشوه، ولم يزالوا مسافرين حتى قربوا من مدينة الملك درباس، فأرسل الملك إلى الوزير يقول له: إن لم يكن أنس الوجود معك فلا تأتني أبدًا. فلما قرأ مرسوم الملك عسر عليه ذلك، وكان الوزير لا يعلم أن الورد في الأكمام عند الملك، ولا يعلم ما سبب إرسال الملك إياه إلى أنس الوجود، ولا يعلم ما سبب رغبته في مصاهرته، وأنس الوجود لا يعلم أين يذهبون به، ولا يعلم أن الوزير مرسل في طلبه، والوزير لا يعلم أن هذا هو أنس الوجود. فلما رأى الوزير أن أنس الوجود قد استفاق قال له: إن الملك أرسلني في حاجة، وهي لم تُقضَ، ولما علم بقدومي أرسل إليَّ مكتوبًا يقول لي فيه: إن لم تكن الحاجة قد قُضِيت فلا تدخل مدينتي. فقال له: وما حاجة الملك؟ فحكى له جميع الحكاية، فقال له أنس الوجود: لا تَخَفْ، واذهب إلى الملك وخذني معك، وأنا أضمن لك مجيء أنس الوجود. ففرح الوزير بذلك وقال له: أحقٌّ ما تقول؟ فقال: نعم. فركب وأخذه معه وسار به إلى الملك، فلما وصلَا إلى الملك قال له: أين أنس الوجود؟ فقال أنس الوجود: أيها الملك، أنا أعرف مكان أنس الوجود. فقرَّبه إليه وقال له: في أي مكان هو؟ قال: في مكان قريب جدًّا، ولكن أخبِرْني ماذا تريد منه، وأنا أُحضِره بين يديك. فقال له: حبًّا وكرامة، ولكن هذا الأمر يحتاج إلى خلوة. ثم أمر الناس بالانصراف، ودخل معه خلوة، وأخبره الملك بالقصة من أولها إلى آخِرها، فقال له أنس الوجود: ائتني بثياب فاخرة وألبسني إياها، وأنا آتيك بأنس الوجود سريعًا. فأتاه ببدلة فاخرة فلبسها وقال: أنا أنس الوجود، وكمد الحسود. ثم رمى القلوب باللحظات، وأنشد هذه الأبيات:

يُؤَانِسُنِي ذِكْرُ الْحَبِيبِ بِخَلْوَتِي        وَيَطْرُدُ عَنِّي فِي التَّبَاعُدِ وَحْشَتِي

وَمَا لِيَ غَيْرُ الدَّمْعِ عَوْنٌ وَإِنَّمَا        إِذَا فَاضَ مِنْ عَيْنِي يُخَفِّفُ زَفْرَتِي

وَشَوْقِي شَدِيدٌ لَيْسَ يُوجَدُ مِثْلُهُ        وَأَمْرِي عَجِيبٌ فِي الْهَوَى وَالْمَحَبَّةِ

فَأَقْطَعُ لَيْلِي سَاهِرَ الْجَفْنِ لَمْ أَنَمْ        وَفِي الْعِشْقِ أَسْعَى بَيْنَ نَارٍ وَجَنَّةِ

وَقَدْ كَانَ لِي صَبْرٌ جَمِيلٌ عَدِمْتُهُ        وَمَا مِنْحَتِي فِي الْحُبِّ إِلَّا بِمِحْنَتِي

وَقَدْ رَقَّ جِسْمِي مِنْ أَلِيمِ بِعَادِهِمْ        وَغَيَّرَتِ الْأَشْوَاقُ وَصْفِي وَصُورَتِي

وَأَجْفَانُ عَيْنِي بِالدُّمُوعِ تَقَرَّحَتْ        وَلَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أُسْكِتَ الْآنَ دَمْعَتِي

وَقَدْ قَلَّ حَيْلِي وَالْفُؤَادُ عَدِمْتُهُ        وَكَمْ ذَا أُلَاقِي لَوْعَةً بَعْدَ لَوْعَةِ

وَقَلْبِي وَرَأْسِي فِي الْمَشِيبِ تَشَابَهَا        عَلَى سَادَةٍ فِي الْحُسْنِ أَحْسَنَ سَادَةِ

عَلَى رُغْمِهِمْ كَانَ التَّفَرُّقِ بَيْنَنَا        وَمَا قَصْدُهُمْ إِلَّا لِقَائِي وَوَصْلَتِي

فَيَا هَلْ تُرَى بَعْدَ التَّقَاطُعِ وَالنَّوَى        يُمَتِّعُنِي دَهْرِي بِوَصْلِ أَحِبَّتِي

وَيَطْوِي كِتَابَ الْبُعْدِ مِنْ بَعْدِ نَشْرِهِ        وَتُمْحَى بِرَاحَاتِ الْوِصَالِ مَشَقَّتِي

وَيَبْقَى حَبِيبِي فِي الدِّيَارِ مُنَادِمِي        وَتُبْدَلُ أَحْزَانٌ بِصَفْوِ سَرِيرَتِي

فلما فرغ من شعره، قال له الملك: والله إنكما لمحبَّان صادقان، وفي سماء الحسن كوكبان نيِّران، وأمركما عجيب، وشأنكما غريب. ثم حكى له حكاية الورد في الأكمام إلى آخرها، فقال له: وأين هي يا ملك الزمان؟ قال: هي عندي الآن. ثم أحضر الملك القاضي والشهود وعقد عقدها عليه، وأكرمه وأحسن إليه، ثم أرسل الملك درباس إلى الملك شامخ، وأخبره بجميع ما اتفق له من أمر أنس الوجود والورد في الأكمام؛ ففرح الملك شامخ بذلك غاية الفرح، وأرسل إليه مكتوبًا مضمونه: «حيث حصل عقد العقد عندك، ينبغي أن يكون الفرح والدخول عندي». ثم جهَّزَ الجمال والخيل والرجال، وأرسل في طلبهما، فلما وصلت الرسالة إلى الملك درباس مدَّهما بمال عظيم، وأرسلهما مع جملة من عسكره، فساروا بهما حتى دخلوا مدينتهما، وكان يومًا مشهودًا لم يُرَ أعظم منه، وجمع الملك شامخ سائر المطربات من آلات المغاني، وعمل الولائم، ومكثوا على ذلك سبعة أيام، وفي كل يوم يخلع الملك شامخ على الناس الخِلَع السنية ويُحسِن إليهم. ثم إن أنس الوجود دخل على الورد في الأكمام فعانَقَها، وجلسَا يبكيان من فرط الفرح والمسرَّات؛ فأنشدت الورد في الأكمام هذه الأبيات:

جَاءَ السُّرُورُ أَزَالَ الْهَمَّ وَالْحَزَنَا        ثُمَّ اجْتَمَعْنَا وَأَكْمَدْنَا حَوَاسِدَنَا

وَنَسْمَةُ الْوَصْلِ قَدْ هَبَّتْ مُعَطَّرَةً        فَأَحْيَتِ الْقَلْبَ وَالْأَحْشَاءَ وَالْبَدَنَا

وَبَهْجَةُ الْأُنْسِ قَدْ لَاحَتْ خَوَالِفُهَا        وَفِي الْخَوَافِقِ قَدْ دَقَّتْ بَشَائِرَنَا

لَا تَحْسَبُوا أَنَّنَا بَاكُونَ مِنْ حَزَنٍ        لَكِنْ فَرِحْنَا وَقَدْ فَاضَتْ مَدَامِعُنَا

فَكَمْ رَأَيْنَا مِنَ الْأَهْوَالِ وَانْصَرَفَتْ        وَقَدْ صَبَرْنَا عَلَى مَا هَيَّجَ الشَّجَنَا

فَسَاعَةٌ مِنْ وِصَالٍ قَدْ نَسِينَا بِهَا        مَا كَانَ مِنْ شِدَّةِ الْأَهْوَالِ شَيَّبَنَا

فلما فرغت من شعرها تعانقا، ولم يزالا متعانقين حتى وقعا مغشيًّا عليهما. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 381

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن أنس الوجود والورد في الأكمام لما اجتمعا تعانَقَا، ولم يزالَا متعانِقَيْن حتى وقعَا مغشيًّا عليهما من لذَّة الاجتماع، فلما أفاقا من غشيتهما أنشد أنس الوجود هذه الأبيات:

مَا أُحَيْلَاهَا لُيَيْلَاتِ الْوَفَا        حَيْثُ أَمْسَى لِي حَبِيبِي مُنْصِفَا

وَتَوَالَى الْوَصْلُ فِيمَا بَيْنَنَا        وَانْفِصَالُ الْهَجْرِ عَنَّا قَدْ وَفَى

وَإِلَيْنَا الدَّهْرُ يَسْعَى مُقْبِلًا        بَعْدَمَا مَالَ وَعَنَّا انْحَرَفَا

نَصَبَ السَّعْدُ لَنَا أَعْلَامُهُ        وَشَرِبْنَا مِنْهُ كَأْسًا قَدْ صَفَا

وَاجْتَمَعْنَا وَتَشَاكَيْنَا الْأَسَى        وَلُيَيْلَاتٍ تَقَضَّتْ بِالْجَفَا

وَنَسِينَا مَا مَضَى يَا سَادَتِي        وَعَفَا الرَّحْمَنُ عَمَّا سَلَفَا

مَا أَلَذَّ الْعَيْشَ مَا أَطْيَبَهُ        لَمْ يَزِدْنِي الْوَصْلُ إِلَّا شَغَفَا

فلما فرغ من شعره تعانقا، واضطجعا في خلوتهما، ولم يزالا في منادمة وأشعار، ولطيف حكايات وأخبار، حتى غرقا في بحر الغرام، ومضت عليهما سبعة أيام، وهما لا يدريان ليلًا من نهار؛ لفرط ما هما فيه من لذة وسرور، وصفو وحبور، فكأنَّ السبعة أيام يوم واحد ليس له ثانٍ، وما عرفا يوم الأسبوع إلا بمجيء آلات المغاني؛ فأكثرت الورد في الأكمام التعجُّبات، ثم أنشدت هذه الأبيات:

عَلَى غَيْظِ الْحَوَاسِدِ وَالرَّقِيبِ        بَلَغْنَا مَا نُرِيدُ مِنَ الْحَبِيبِ

وَأَسْعَفَنَا التَّوَاصُلُ بِاعْتِنَاقٍ        عَلَى الدِّيبَاجِ وَالْقَزِّ الْقَشِيبِ

وَفَرْشٍ مِنْ أَدِيمٍ قَدْ حَشَوْنَا        بِرِيشِ الطَّيْرِ مِنْ شَكْلٍ غَرِيبِ

وَعَنْ شُرْبِ الْمُدَامِ قَدِ اغْتَنَيْنَا        بِرِيقِ الْحِبِّ جُلَّ عَنِ الضَّرِيبِ

وَمِنْ طِيبِ الْوِصَالِ فَلَيْسَ نَدْرِي        بِأَوْقَاتِ الْبَعِيدِ مِنَ الْقَرِيبِ

لَيَالٍ سَبْعَةٌ مَرَّتْ عَلَيْنَا        وَلَمْ نَشْعُرْ بِهَا كَمْ مِنْ عَجِيبِ

فَهَنُّونِي بِأُسْبُوعٍ وَقُولُوا        أَدَامَ اللهُ وَصْلَكَ بِالْحَبِيبِ

فلما فرغت من شعرها قبَّلها أنس الوجود ما ينوف عن المئات، ثم أنشد هذه الأبيات:

أَتَى يَوْمُ السُّرُورِ مَعَ التَّهَانِي        وَجَاءَ الْحِبُّ مِنْ صَدٍّ وَقَانِي

فَآنَسَنِي بِطِيبِ الْوَصْلِ مِنْهُ        وَنَادَمَنِي بِأَلْطَافِ الْمَعَانِي

وَأَسْقَانِي شَرَابَ الْأُنْسِ حَتَّى        ذُهِلْتُ عَنِ الْوُجُودِ بِمَا سَقَانِي

طَرِبْنَا وَانْشَرَحْنَا وَاضْطَجَعْنَا        وَصِرْنَا فِي شَرَابٍ مَعْ أَغَانِي

وَمِنْ فَرْطِ السُّرُورِ فَلَيْسَ نَدْرِي        مِنَ الْأَيَّامِ أَوَّلَها وَثَانِي

هَنِيئًا لِلْمُحِبِّ بِطِيبِ وَصْلٍ        وَوَافَاهُ السُّرُورُ كَمَا وَفَانِي

وَلَا يَدْرِي لِمُرِّ الصَّدِّ طَعْمًا        وَرَبِّي قَدْ حَبَاهُ كَمَا حَبَانِي

فلما فرغ من شعره قاما وخرجا من مكانهما، وأنعما على الناس بالمال والخلع، وأعطيا ووهبا، ثم أمرت الورد في الأكمام أن يُخلوا لها الحمَّام، وقالت لأنس الوجود: يا قرة عيني، قصدي أن أراك في الحمام ونكون بمفردنا من غير أحد معنا. وزادت بها المسرَّات فأنشدت هذه الأبيات:

أَيَا مَنْ قَدْ تَمَلَّكَنِي قَدِيمًا        وَلَمْ يُغْنِ الْحَدِيثُ عَنِ الْقَدِيمِ

وَيَا مَنْ لَيْسَ لِي عَنْهُ غَنَاءٌ        وَلَا أَرْجُو سِوَاهُ مِنْ نَدِيمِ

إِلَى الْحَمَّامِ قُمْ يَا نُورَ عَيْنِي        نَرَى الْفِرْدَوْسَ فِي وَسَطِ الْجَحِيمِ

وَنَعْبَقُهَا بِعُودِ النَّدِّ حَتَّى        يَفُوحُ الطِّيبُ فِي الْقَطْرِ الْعَمِيمِ

وَنَصْفَحُ عَنْ ذُنُوبِ الدَّهْرِ طُرًّا        وَنَشْكُرُ فَضْلَ مَوْلَانَا الرَّحِيمِ

وَأَنْشُدُ إِذْ أَرَاكَ هُنَاكَ فِيهَا        هَنِيئًا يَا حَبِيبِي بِالنَّعِيمِ

فلما فرغت من شعرها، قاما وذهبا إلى الحمام وتنعَّما فيه، ثم عادا إلى قصرهما وأقاما به في ألذِّ المسرات إلى أن أتاهما هادم اللذات، ومفرِّق الجماعات، فسبحان مَن لا يحول ولا يزول، وإليه كل الأمور تئُول.

 

حكاية أبي نواس والغلمان الحسان

ومما يُحكَى أن أبا نواس خلا بنفسه يومًا من الأيام، وهيَّأ مجلسًا فاخرًا وجمع فيه من أنواع الأطعمة وسائر الألوان كل ما تشتهي الشفة واللسان، ثم إنه خرج يمشي في طلب محبوب لائق بذلك المجلس وقال: يا إلهي وسيدي ومولاي، أسألك أن تسوق لي مَن يناسب ذلك المجلس ويصلح للمنادمة معي في هذا اليوم. فما استتم كلامه إلا وقد رأى ثلاثة من المُرْد الحسان، كأنهم من ولدان الجنان، إلا أن ألوانهم مختلفة ومحاسنهم في الإبداع مؤتلفة، وفي تثني معاطفهم تطمع الآمال، على حدِّ قول مَن قال:

مَرَرْتُ بِأَمْرَدَيْنِ فَقُلْتُ إِنِّي        أُحِبُّكُمَا فَقَالَ الْأَمْرَدَانِ

أَذُو مَالٍ؟ فَقُلْتُ وَذُو سَخَاءٍ        فَقَالَ الْأَمْرَدَانِ الْأَمْرُ دَانِ

وكان أبو نواس يذهب هذا المذهب، ومع الملاح يلهو ويطرب، ويجتني ورد كل خد ناضر، كما قال الشاعر:

وَشَيْخٍ كَبِيرٍ لَهُ صَبْوَةٌ        يُحِبُّ الْمِلَاحَ وَيَهْوَى الطَّرَبْ

غَدَا مُوصِلِيًّا بِأَرْضِ النَّقَا        فَمَا إِنْ تَذَكَّرَ إِلَّا حَلَبْ

فذهب إلى هؤلاء الغلمان وحيَّاهم بالسلام، فقابلوه بأوفى تحية وإكرام، ثم أرادوا الانصراف إلى بعض الجهات، فحجزهم أبو نواس وأنشد هذه الأبيات:

فَلَا تَسْعَوْا إِلَى غَيْرِي        فَعِنْدِي مَعْدَنُ الْخَيْرِ

وَعِنْدِي قَهْوَةٌ تُجْلَى        سَبَاهَا رَاهِبُ الدَّيْرِ

وَعِنْدِي اللَّحْمُ مِنْ ضَأْنٍ        وَأَصْنَافٌ مِنَ الطَّيْرِ

كُلُوا ذَا وَاشْرَبُوا خَمْرًا        عَتِيقًا مُذْهِبَ الضَّيْرِ

وَنِيكُوا بَعْضَكُمْ بَعْضًا        وَدُسُّوا بَيْنَكُمْ أَيْرِي

فلما خدع الغلمان بأبياته مالوا إلى مرضاته وأجابوه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 382

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن أبا نواس لما خدع الغلمان بأبياته، مالوا إلى مرضاته وأجابوه بالسمع والطاعة، وذهبوا معه إلى منزله، فوجدوا جميع ما وصفه في شعره حاضرًا في المجلس، فجلسوا وأكلوا وشربوا وتلذذوا وطربوا وتحاكموا عند أبي نواس في أيهم أحسن بهجةً وجمالًا، وأقوم قدًّا واعتدالًا. فأشار إلى أحدهم بعد تقبيله مرتين، ثم أنشد هذين البيتين:

بِرُوحِيَ أَفْدِي خَالَهُ فَوْقَ خَدِّهِ        وَمِنْ أَيْنَ هَذَا الْخَالُ أَفْدِيهِ بِالْمَالِ

تَبَارَكَ مَنْ أَخْلَى مِنَ الشَّعْرِ خَدَّهُ        وَأَسْكَنَ كُلَّ الْحُسْنِ فِي ذَلِكَ الْخَالِ

ثم أشار إلى الثاني بعد لثم الشفتين، وأنشد هذين البيتين:

وَمَعْشُوقٍ لَهُ فِي الْخَدِّ خَالٌ        كَمِسْكٍ فَوْقَ كَافُورٍ نَقِيِّ

تَعَجَّبَ نَاظِرِي لَمَّا رَآهُ        فَقَالَ الْخَالُ صَلِّ عَلَى النَّبِيِّ

ثم أشار إلى الثالث بعد تقبيله عشر مرات، وأنشد هذه الأبيات:

أَذَابَ التِّبْرَ فِي كَأْسِ اللُّجَيْنِ        فَتًى بِالرَّاحِ مَخْضُوبُ الْيَدَيْنِ

وَطَافَ مَعَ السُّقَاةِ بِكَأْسِ رَاحٍ        وَطَافَتْ مُقْلَتَاهُ بِآخَرَيْنِ

مَلِيحٌ مِنْ بَنِي الْأَتْرَاكِ ظَبْيٌ        يُجَاذِبُ خَصْرُهُ جَبَلَيْ حُنَيْنِ

لَئِنْ سَكَنَتْ إِلَى الزَّوْرَاءِ نَفْسِي        فَإِنَّ الْقَلْبَ بَيْنَ مُحَرَّكَيْنِ

هُوَ يَقْتَادُهُ لِدِيَارِ بَكْرٍ        وَآخَرُ نَحْوَ أَرْضِ الْجَامِعَيْنِ

وكان كل واحد من الغلمان قد شرب قدحين، فلما وصل الدور إلى أبي نواس أخذ القدح وأنشد هذين البيتين:

لَا تَشْرَبِ الرَّاحَ إِلَّا مِنْ يَدَيْ رَشَأٍ        تَحْكِيهِ فِي رِقَّةِ الْمَعْنَى وَيَحْكِيهَا

إِنَّ الْمُدَامَةَ لَا يَلْتَذُّ شَارِبُهَا        حَتَّى يَكُونَ نَقِيَّ الْخَدِّ سَاقِيهَا

ثم شرب كأسه ودار الدور، فلما وصل الدور إلى أبي نواس ثانيًا، غلبت عليه المسرات فأنشد هذه الأبيات:

اجْعَلْ نَدِيمَكَ أَقْدَاحًا تُوَاصِلُهَا        مِنَ الْمُدَامِ وَأَتْبِعْهَا بِأَقْدَاحِ

مِنْ كَفِّ أَلْمَى بَدِيعِ الْحُسْنِ رِيقَتُهُ        بَعْدَ الْهُجُوعِ كَمِسْكٍ أَوْ كَتُفَّاحِ

لَا تَشْرَبِ الرَّاحَ إِلَّا مِنْ يَدَيْ رَشَأٍ        تَقْبِيلُ وَجْنَتِهِ أَشْهَى مِنَ الرَّاحِ

فلما غلب السكر على أبي نواس ولم يعرف له يدًا من رأس، مال على الغلمان بالبوس والعناق والتفاف الساق على الساق، ولم يبالِ بإثم ولا عار، وأنشد هذه الأشعار:

مَا اسْتَكْمَلَ اللَّذَاتِ إِلَّا فَتًى        يَشْرَبُ وَالْمُرْدُ نَدَامَاهُ

هَذَا يُغَنِّيهِ وَهَذَا إِذَا        أَنْعَشَهُ بِالْكَأْسِ حَيَّاهُ

وَكُلَّمَا احْتَاجَ إِلَى قُبْلَةٍ        مِنْ وَاحِدٍ أَرْشَفَهُ فَاهُ

سَقْيًا لَهُمْ قَدْ طَابَ يَوْمِي بِهِمْ        وَا عَجَبَا مَا كَانَ أَحْلَاهُ

نَشْرَبُهَا صِرْفًا وَمَمْزُوجَةً        وَشَرْطُنَا مَنْ نَامَ نِكْنَاهُ

فبينما هم كذلك وإذا بطارق يطرق الباب، فأذنوا له في الدخول، فلما دخل وجدوه أمير المؤمنين هارون الرشيد، فقام له الجميع وقبلوا الأرض بين يديه، واستفاق أبو نواس من سكره لهيبة الخليفة، فقال له أمير المؤمنين: يا أبا نواس. فقال: لبيك يا أمير المؤمنين أيَّدَكَ الله. قال له: ما هذا الحال؟ قال: يا أمير المؤمنين، لا شكَّ أن الحال يُغنِي عن السؤال. فقال له الخليفة: يا أبا نواس، قد استخرتُ الله تعالى ووليتك قاضي المعرصين. فقال أبو نواس: وهل تحب لي هذه الولاية يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم. فقال: يا أمير المؤمنين، هل لك من دعوة تدعيها عندي؟ فاغتاظ منه أمير المؤمنين ثم ولَّى وتركهم وهو ممزوج بالغضب، فلما جنَّ الليل بات أمير المؤمنين في غيظ شديد من أبي نواس، وبات أبو نواس في أسر الليالي بما هو فيه من البسط والانشراح، فلما أصبح الصباح وأضاء كوكبه ولاح، فضَّ أبو نواس المجلس وصرف الغلمان، ولبسَ لبْسَ الموكب وخرج من بيته متوجِّهًا إلى أمير المؤمنين، وكان من عادة أمير المؤمنين أنه إذا فضَّ الديوان يدخل قاعة الجلوس، ثم يحضر فيها الشعراء والندماء وأرباب الآلات، ويجلس كل منهم في مرتبته لا يتعداها، فأتفق أن كان في ذلك اليوم نزل من الديوان إلى القاعة وأحضر ندماءه وأجلسهم في مراتبهم، فلما جاء أبو نواس وأراد أن يجلس في موضعه، دعا أمير المؤمنين بمسرور السياف وأمره أن ينزع عن أبي نواس ثيابه، ويشد على ظهره برذعة حمار، ويجعل في رأسه مقودًا وفي دبره طفرًا، ويدور به على مقاصير الجواري. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 383

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن أمير المؤمنين أمر مسرور السياف أن ينزع عن أبي نواس ثيابه، ويشد على ظهره برذعة، ويجعل في رأسه مقودًا وفي دبره طفرًا، ثم يدور به على مقاصير الجواري وعلى منازل الحريم وسائر المحلات، ليسخروا به، وبعد ذلك يقطع رأسه ويأتيه بها، فقال مسرور: سمعًا وطاعة. وأخذ يفعل ما أمره به الخليفة ودار به على المقاصير، وكان عددها بعدد أيام السنة، وكان أبو نواس مُضحِكًا وكلُّ مَن رآه يعطيه مالًا، فما رجع إلا وجبه ملآن مالًا، فبينما هو على هذه الحالة وإذا بجعفر البرمكي مُقبِل، فدخل على الخليفة وكان غائبًا في أمر مهم لأمير المؤمنين، فرأى أبا نواس في هذه الحالة فعرفه، فقال له: يا أبا نواس. فقال له: لبيك يا مولانا. قال له: أي ذنب فعلتَ حتى حصلَتْ لك هذه العقوبة؟ فقال له أبو نواس: ما فعلتُ ذنبًا إلا أني هاديتُ مولانا الخليفة بمحاسن أشعاري، فهاداني بمحاسن ملبوسه. فلما سمع أمير المؤمنين ذلك، ضحك ضحكًا ناشئًا عن قلب مملوء بالغيظ، وعفا عنه وأمر له ببدرة من المال.

من حكايات العشق ومكارم الأخلاق

 

حكاية عبد الله بن معمر ورجل من البصرة

ومما يُحكَى أن بعض أهل البصرة اشترى جارية فأدَّبَها وأحسن أدبها وتعليمها، وكان يحبها غاية المحبة، وأنفق ماله على البسط والانشراح وهو معها، ولم يَبْقَ عنده شيء، وقد أضرَّ به الفقر الشديد، فقالت له الجارية: يا سيدي، بعني لأنك محتاج إلى ثمني، وقد أشفقت على حالك مما أرى بك من الفقر، فلو بعتني وأنفقتَ ثمني لَكان ذلك أصلح لك من بقائي عندك، ولعل الله تعالى يوسع عليك رزقك، فأجابها إلى ذلك من ضيق حاله، ثم أخذها ونزل بها السوق فعرضها الدلال على أمير البصرة وكان اسمه عبد الله بن معمر التيمي، فأعجبته فاشتراها بخمسمائة دينار، ودفع ذلك المبلغ إلى سيدها، فلما قبضه سيدها وأراد الانصراف، بكت الجارية وأنشدت هذين البيتين:

هَنِيئًا لَكَ الْمَالُ الَّذِي قَدْ حَوَيْتَهُ        وَلَمْ يَبْقَ لِي غَيْرُ الْأَسَى وَالتَّفَكُّرِ

أَقُولُ لِنَفْسِي وَهْيَ فِي سُوءِ كَرْبِهَا        أَقِلِّي فَقَدْ بَانَ الْحَبِيبُ أَوِ اكْثِرِي

فلما سمعها سيدها صعد الزفرات وأنشد هذه الأبيات:

إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْأَمْرِ عِنْدَكَ حِيلَةٌ        وَلَمْ تَجِدِي شَيْئًا سِوَى الْمَوْتِ فَاعْذِرِي

أَرُوحُ وَأَغْدُو وَالْأَوَانِسُ ذِكْرَهُمْ        أُنَاجِي بِهِ قَلْبًا شَدِيدَ التَّفَكُّرِ

عَلَيْكِ سَلَامٌ لَا زِيَارَةَ بَيْنَنَا        وَلَا وَصْلَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ ابْنُ مَعْمَرِ

فلما سمع عبد الله بن معمر شعرهما ورأى كآبتهما قال: والله كنت معينًا على فراقكما وقد ظهر لي أنكما متحابان، فخذ المال والجارية أيها الرجل بارك الله لك فيهما، فإن افتراق الحبيبين من بعضهما صعب عليهما. فقبَّلَ الاثنان يده وانصرفا، وما زالا مجتمعين إلى أن فرَّقَ بينهما الموت، فسبحان مَن لا يدركه فوت.

 

حكاية العاشق العذري

ومما يُحكَى أنه كان في بني عذرة رجل ظريف وكان لا يخلو من العشق يومًا واحدًا، فاتفق له أنه أحب امرأة جميلة من الحي، فراسَلَها أيامًا وهي لا تزال تجفوه وتصدُّ عنه إلى أن أضرَّ به الغرام والوَجْد والهيام، فمرض مرضًا شديدًا ولزم الوساد وجفا الرقاد، وظهر للناس أمره واشتهر بالعشق ذِكْرُه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 384

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الرجل لزم الوساد وجفا الرقاد، وظهر للناس أمره واشتهر بالعشق ذِكْرُه، وازداد سقمه وعَظُمَ ألمه حتى كاد أن يموت، ولم يزل أهله وأهلها يسألونها أن تزوره وهي تأبى، إلى أن أشرف على الموت فأخبروها بذلك، فرَقَّتْ له وأنعمت عليه بالزيارة، فلما نظرها تحدَّرَتْ عيناه بالدموع، وأنشد عن قلب مصدوع:

بِعَيْشِكِ إِنْ مَرَّتْ عَلَيْكِ جَنَازَتِي        وَقَدْ رُفِعَتْ مِنْ فَوْقِ أَعْنَاقِ أَرْبَعِ

أَمَا تَتْبَعِينَ النَّعْشَ حَتَّى تُسَلِّمِي        عَلَى قَبْرِ مَيْتٍ فِي الْحَفِيرَةِ مُودَعِ

فلما سمعت كلامه بكت بكاء شديدًا وقالت له: والله ما كنت أظن أنه بلغ بك الغرام إلى أن يلقيك بين أيدي الحمام، ولو علمتُ بذلك لساعدتك على حالك وتمتَّعْتُ بوصالك. فلما سمع كلامها، صارت دموعه كالسحاب الماطر، وأنشد قول الشاعر:

دَنَتْ حِينَ حَالَ الْمَوْتُ بَيْنِي وَبَيْنَهَا        وَجَادَتْ بِوَصْلٍ حِينَ لَا يَنْفَعُ الْوَصْلُ

ثم شهق شهقة فمات، فوقعت عليه تلثمه وتبكي، ولم تزل تبكي حتى وقعت عنده مغشيًّا عليها، فلما أفاقت أوصت أهلها أنهم يدفنونها في قبره إذا ماتت، ثم أَجْرَتْ دمعَ العين وأنشدت هذين البيتين:

كُنَّا عَلَى ظَهْرِهَا وَالْعَيْشُ فِي رَغَدٍ        وَالْحَيُّ يَزْهُو بِنَا وَالدَّارُ وَالْوَطَنُ

فَفَرَّقَ الدَّهْرُ وَالتَّصْرِيفُ أُلْفَتَنَا        وَصَارَ يَجْمَعُنَا فِي بَطْنِهَا الْكَفَنُ

فلما فرغت من شعرها بكت بكاءً شديدًا، ولم تزل تبكي حتى وقعت مغشيًّا عليها، واستمرت في غشيتها ثلاثة أيام، وماتت ودُفِنت في قبره، وهذا من عجيب الاتفاق في المحبة.

 

حكاية بدر الدين وزير اليمن والشيخ

ومما يُحكَى أن الصاحب بدر الدين وزير اليمن كان له أخ بديع الجمال، وكان شديد الحرص عليه، فالتمس له مَن يعلِّمه فوجد شيخًا ذا هيبة ووقار وعفة وديانة، فأسكنه بمنزل بجانب منزله وأقام على ذلك مدة أيام، وهو كل يوم يذهب من بيته إلى بيت الصاحب بدر الدين ليعلم أخاه ثم ينصرف إلى منزله، ثم إن الشيخ تعلق قلبه بحب ذلك الشاب وقوي به غرامه وهاجت بلابله، فشكا حاله يومًا إلى الشاب، فقال له الشاب: ما حيلتي وأنا لا أستطيع مفارقة أخي ليلًا ونهارًا، فهو ملازم لي كما ترى. فقال له الشيخ: إن منزلي بجانب منزلكم، فيمكن إذا نام أخوك أن تقوم أنت تدخل الخلوة وتظهر للناس أنك تنام، ثم تأتي إلى حائط السطح وأنا أتناولك من وراء الجدار، فتجلس عندي لحظة ثم تعود من غير أن يشعر بك أخوك. فقال الشاب: سمعًا وطاعة. فجهَّزَ الشيخ من التحف ما يليق بمقامه.

هذا ما كان من أمره، وأما ما كان من أمر الشاب، فإنه دخل الخلوة وصبر حتى أخذ أخوه في مضجعه، ومضت ساعة من الليل حتى استغرق أخوه في النوم، ثم قام وتمشى إلى الحائط فوجد الشيخ واقفًا ينتظره، فناوله يده فأخذه ودخل به المجلس، وكانت تلك الليلة ليلة البدر، فجلسا وتنادما ودارت بينهما كاسات الراح، فأخذ الشيخ في الغناء وقد ألقى البدر شعاعه عليهما.

فبينما هما في فرح وسرور، ولذة وحبور، وحظ يدهش العقل والطرف ويجل عن الوصف، إذ انتبه الصاحب بدر الدين من منامه فلم يجد أخاه، فقام فزعًا فوجد الباب مفتوحًا، فطلع منه فسمع همس الكلام، فصعد من الحائط إلى السطح فوجد نورًا ساطعًا بالبيت، فنظر من خلف جدار فوجدهما والكأس دائر بينهما، فحسَّ به الشيخ والكأس في يده، فأطرب بالنغمات وأنشد هذه الأبيات:

سَقَانِي خَمْرَةً مِنْ رِيقِ فِيهِ        وَحَيَّا بِالْعَذَارِ وَمَا يَلِيهِ

وَبَاتَ مُعَانِقِي خَدًّا لِخَدٍّ        مَلِيحٌ فِي الْأَنَامِ بِلَا شَبِيهِ

وَبَاتَ الْبَدْرُ مُطَّلِعًا عَلَيْنَا        سَلُوهُ لَا يَنِمُّ عَلَى أَخِيهِ

فكان من لطافة الصاحب بدر الدين أنه لم سمع هذه الأبيات قال: والله لا أنمُّ عليكما. ومضى وتركهما في أتمِّ سرور.

 

حكاية العاشقين في مكتب التعليم

ومما يُحكَى أن غلامًا وجارية كانَا يقرآن في مكتب، فتعلَّقَ الغلام بحب الجارية. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 385

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الغلام تعلَّقَ بحبِّ الجارية وأحَبَّها حبًّا شديدًا، فلما كان في بعض الأيام في ساعة غفلة الصبيان، أخذ الغلام لوح الجارية وكتب فيه هذين البيتين:

مَاذَا تَقُولِينَ فِيمَنْ شَفَّهُ سَقَمُ        مِنْ فَرْطِ حُبِّكِ حَتَّى صَارَ حَيْرَانَا

يَشْكُو الصَّبَابَةَ مِنْ وَجْدٍ وَمِنْ أَلَمٍ        لَا يَسْتَطِيعُ لِمَا فِي الْقَلْبِ كِتْمَانَا

فلما أخذت الجارية لوحها رأت هذا الشعر مكتوبًا فيه، فلما قرأته وفهمت معناه بكت رحمةً له، وكتبت تحت خط الغلام هذين البيتين:

إِذَا رَأَيْنَا مُحِبًّا قَدْ أَضَرَّ بِهِ        حَالُ الصَّبَابَةِ أَوْلَيْنَاهُ إِحْسَانَا

وَيَبْلُغُ الْقَصْدَ مِنَّا فِي مَحَبَّتِهِ        وَلَوْ يَكُونُ عَلَيْنَا كُلُّ مَا كَانَا

فاتفق أن الفقيه دخل عليهما فوجد اللوح على حين غفلة، فأخذه وقرأ ما فيه فرَقَّ لحالهما، وكتب في اللوح تحت كتابهما هذين البيتين:

صِلِي مُحِبَّكِ لَا تَخْشَيْ مُعَاقَبَةً        إِنَّ الْمُحِبَّ غَدَا فِي الْحُبِّ حَيْرَانَا

أَمَّا الْفَقِيهُ فَلَا تَخْشَى مَهَابَتَهُ        فَإِنَّهُ قَدْ بُلِيَ بِالْعِشْقِ أَزْمَانَا

فاتفق أن سيد الجارية دخل المكتب في تلك الساعة، فوجد لوح الجارية فأخذه وقرأ ما فيه من كلام الجارية وكلام الشاب وكلام الفقيه، فكتب الآخر في اللوح تحت كتابة الجميع هذين البيتين:

لَا فَرَّقَ اللهُ طُولَ الدَّهْرِ بَيْنَكُمَا        وَظَلَّ وَاشِيكُمَا حَيْرَانَ تَعْبَانَا

أَمَّا الْفَقِيهُ فَلَا وَاللهِ مَا نَظَرَتْ        عَيْنَايَ أَعْرَسَ مِنْهُ قَطُّ إِنْسَانَا

ثم إن سيد الجارية أرسل خلف القاضي والشهود، وكتب كتابها على الشاب في المجلس، وجعل لهما وليمة وأحسن إليهما إحسانًا عظيمًا، وما زالا مجتمعين في هناء وسرور إلى أن أدركهما هادم اللذات ومفرِّق الجماعات.

 

حكاية المتلمس وزوجته أميمة

ومما يُحكَى أن المتلمس هرب من النعمان بن المنذر وغاب غيبة طويلة حتى ظنوا أنه مات، وكان له زوجة جميلة تُسمَّى أميمة، فشار عليها أهلها بالزواج فأَبَتْ، فألحوا عليها لكثرة خطَّابها وغصبوها على الزواج، فأجابتهم إلى ذلك وهي كارهة، فزوَّجوها رجلًا من قومها، وكانت تحبُّ زوجَها المتلمس محبةً عظيمة، فلما كانت ليلة زفافها على ذلك الرجل الذي غصبوها على الزواج به، قَدِمَ زوجُها المتلمس في تلك الليلة، فسمع في الحي صوت المزامير والدفوف ورأى علامات الفرح، فسأل من بعض الصبيان عن هذا الفرح فقالوا له: إن أميمة زوجة المتلمس زوَّجوها لفلان، وها هو داخل في هذه الليلة. فلما سمع المتلمس ذلك الكلام تحيَّلَ في الدخول مع جملة النساء، فوجدهما على منصتهما وقد تقدَّمَ إليها العريس، فتنفست الصعداء وبكت وأنشدت هذا البيت:

أَيَا لَيْتَ شِعْرِي وَالْحَوَادِثُ جَمَّةٌ        بِأَيِّ بِلَادٍ أَنْتَ يَا مُتَلَمِّسُ؟

وكان زوجها المتلمِّس من الشعراء المشهورين، فأجابها بقوله:

بِأَقْرَبِ دَارٍ يَا أُمَيْمَةُ فَاعْلَمِي        وَمَا زِلْتُ مُشْتَاقًا إِذَا الرَّكْبُ عَرَّسُوا

فعند ذلك فطن العريس بهما، فخرج من بينهما بسرعة وهو ينشد قوله:

فَكُنْتُ بِخَيْرٍ ثُمَّ بِتُّ بِضِدِّهِ        وَضَمَّكُمَا بَيْتٌ رَحِيبٌ وَمَجْلِسُ

ثم تركهما وذهب، واختلى بها زوجها المتلمِّس، وما زالا في أطيب عيش وأصفاه وأرغده وأهناه، إلى أن فرَّقَ بينهما الممات، فسبحان مَن تقوم بأمره الأرض والسموات.

 

حكاية هارون الرشيد والسيدة زبيدة في البحيرة

ومما يُحكَى أن الخليفة هارون الرشيد كان يحب السيدة زبيدة محبةً عظيمة، وبنى لها مكانًا للتنزُّه، وعمل فيه بحيرة من الماء، وعمل لها سياجًا من الأشجار، وأرسل إليها الماء من كل جانب، فالتفَّتْ عليها الأشجار حتى لو دخل أحد يغتسل في تلك البحيرة لم يره أحد من كثرة أوراق الشجر، فاتفق أن السيدة زبيدة دخلت ذلك المكان يومًا، وأتت إلى البحيرة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 386

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السيدة زبيدة لما دخلت ذلك المكان يومًا، وأتت إلى البحيرة وتفرَّجت على حُسْنها، فأعجبها رونقها، والتفاف الأشجار عليها، وكان ذلك في يوم شديد الحر، فقلعت أثوابها ونزلت في البحيرة ووقفت، وكانت البحيرة لا تستر مَن يقف فيها، فجعلت تملأ الماء بإبريقٍ من لُجَيْن، وتصبُّ الماء على بدنها، فعلم الخليفة بذلك فنزل من قصره يتجسَّس عليها من خلف أوراق الأشجار، فرآها عريانة وقد بان منها ما كان مستورًا، فلمَّا أحست بأمير المؤمنين خلف أوراق الأشجار وعرفت أنه رآها عريانة، التفتت إليه ونظرته؛ فاستحت منه ووضعت يديها على فرجها، ففاض من بين يديها لفرط كبره وغلظه؛ فولَّى من ساعته وهو يتعجَّب من ذلك، وينشد هذا البيت:

نَظَرَتْ عَيْنِي لِحَيْنِي        وَذَكَا وَجْدِي لِبَيْنِي

ولم يدرِ بعد ذلك ما يقول، فأرسل خلف أبي نواس يحضر، فلما حضر بين يديه قال له الخليفة: أنشدني شعرًا أقول في أوَّله: نظرتْ عيني لحيني وذكا وَجْدي لبيني. فقال أبو نواس: سمعًا وطاعة. وارتجل في أقرب اللحظات، وأنشد هذه الأبيات:

نَظَرَتْ عَيْنِي لِحَيْنِي        وَذَكَا وَجْدِي لِبَيْنِي

مِنْ غَزَالٍ قَدْ سَبَانِي        تَحْتَ ظِلِّ السِّدْرَتَيْنِ

سَكَبَ الْمَاءُ عَلَيْهِ        بِأَبَارِيقِ اللُّجَيْنِ

نَظَرَتْنِي سَتَرَتْهُ        فَاضَ مِنْ بَيْنَ الْيَدَيْنِ

لَيْتَنِي كُنْتُ عَلَيْهِ        سَاعَةً أَوْ سَاعَتَيْنِ

فتبسَّمَ أمير المؤمنين من كلامه وأحسن إليه، وانصرف من عنده مسرورًا.

 

حكاية هارون الرشيد والشعراء الثلاثة

ومما يُحكَى أن أمير المؤمنين الرشيد قلق ذات ليلة قلقًا شديدًا، فقام يتمشَّى في جوانب قصره، فوجد جارية تتمايل من السُّكْر، وكان يهوى تلك الجارية ويحبها محبة عظيمة، فلاعَبَها وجذبها إليه، فسقط رداؤها وانحَلَّ إزارها، فسألها الوصل، فقالت: امهلني إلى ليلة غدٍ يا أمير المؤمنين، فإني غير متهيِّئة لك؛ لأنه لم يكن لي عِلْم بحضورك. فتركها ومضى، فلما أقبل النهار وأشرقت من شمسه الأنوار، أرسل إليها غلامًا يعرِّفها أن أمير المؤمنين حاضر إلى حجرتها، فأرسلت تقول له: كلام الليل يمحوه النهار. فقال الرشيد لندمائه: أنشدوني شعرًا فيه: «كلام الليل يمحوه النهار». فقالوا: سمعًا وطاعة. ثم تقدَّمَ الرقاشي وأنشد هذه الأبيات:

أَمَا وَاللهِ لَوْ تَجِدِينَ وَجْدِي        لَوَلَّى مُعْرِضًا عَنْكِ الْقَرَارُ

وَقَدْ تَرَكَتْكَ صَبًّا مُسْتَهَامًا        فَتَاةٌ لَا تَزُورُ وَلَا تُزَارُ

إِذَا وَعَدَتْكَ صَدَّتْ ثُمَّ قَالَتْ        كَلَامُ اللَّيْلِ يَمْحُوهُ النَّهَارُ

وبعد ذلك تقدَّمَ أبو مصعب وأنشد هذه الأبيات:

مَتَّى تَصْحُو وَقَلْبُكَ مُسْتَطَارُ        وَلَمْ تَهْجَعْ وَقَدْ مُنِعَ الْقَرَارُ

أَمَا يَكْفِيكَ أَنَّ الْعَيْنَ عَبْرَى        وَفِي الْأَحْشَاءِ آلَامٌ وَنَارُ

تَبَسَّمَ ضَاحِكًا إِذْ قَالَ عُجْبًا        كَلَامُ اللَّيْلِ يَمْحُوهُ النَّهَارُ

ثم تقدَّمَ أبو نواس وأنشد هذه الأبيات:

تَمَادَّى الْحُبُّ وَانْقَطَعَ الْمَزَارُ        وَجَاهَرْنَا فَلَمْ يُغْنِ الْجِهَارُ

وَلَيْلَةَ أَقْبَلَتْ فِي الْقَصْرِ سَكْرَى        وَلَكِنْ زَيَّنَ السُّكْرَ الْوَقَارُ

وَقَدْ سَقَطَ الرِّدَا عَنْ مَنْكِبَيْهَا        مِنَ التَّخْمِيشِ وَانْحَلَّ الْإِزَارُ

وَهَزَّ الرِّيحُ أَرْدَافًا ثِقَالًا        وَغُصْنًا فِيهِ رُمَّانٌ صِغَارُ

فَقُلْتُ: عِدِي مُحِبَّكِ وَعْدَ صِدْقٍ        فَقَالَتْ: فِي غَدٍ يَصْفُو الْمَزَارُ

فَجِئتُ وَقُلْتُ: أَيْنَ الْوَعْدُ؟ قَالَتْ:        كَلَامُ اللَّيْلِ يَمْحُوهُ النَّهَارُ

فأمر الخليفة لكل واحد من الشعراء ببدرة من المال إلا أبا نواس، فإنه أمر بضرب عنقه وقال له: أنت كنتَ حاضرًا معنا في القصر ليلًا؟ فقال: والله ما نمتُ إلا في بيتي، وإنما استدللتُ بكلامك على مضمون الشعر، وقد قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ. فعفا عنه وأمر له ببدرتين من المال، ثم انصرفوا من عنده.

 

حكاية مصعب بن الزبير وعائشة بنت طلحة

ومما يُحكَى عن مصعب بن الزبير أنه وجد عزة في المدينة وكانت من أعقل النساء، فقال لها: إني عزمتُ على زواج عائشة بنت طلحة، وأنا أحب منك أن تسيري إليها متأملة لخلقها. فسارت إليها ثم رجعت إلى مصعب وقالت له: رأيت وجهًا أحسن من العافية، لها عينان نجلاوان من تحتهما أنف أقنى، وخدان أسيلان، وفم كفم الرمانة، وعنق كإبريق فضة، وتحت ذلك صدر فيه نهدان كأنهما رمانتان، وتحت ذلك بطن أقب فيه سرَّة كأنها حق عاج، ولها عجيزة كدعص الرمل، وفخذان ملفوفتان، وساقان كأنهما من المرمر عمودان، غير أني رأيتُ في رجلها كبرًا وأنت تغيب عندها وقت الحاجة. فلما وصفَتْها عزة بتلك الصفات، تزوَّجَها مصعب ودخل بها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 387

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن عزة لما وصفت عائشة بنت طلحة بتلك الصفات تزوَّجَها مصعب ودخل بها، ثم إن عزة دعت عائشة ونساء قريش إلى بيتها، فغَنَّتْ عزة - ومصعب قائم - بهذين البيتين:

وَثَغْرُ الْبَنَاتِ لَهُ نَكْهَةٌ        لَذِيذُ الْمُقَبَّلِ وَالْمُبْتَسَمْ

وَمَا ذُقْتُهُ غَيْرَ ظَنِّي بِهِ        وَبِالظَّنِّ يَحْكُمُ فِيهَا الْحَكَمْ

وليلة دخول مصعب بها لم ينصرف عنها إلا بعد سبع مرات، فلقيته مولاة له حين أصبح، فقالت له: فديتك، كملت في كل شيء حتى في هذا. وقالت امرأة: كنت عند عائشة بنت طلحة فدخل زوجها فحنت إليه، فوقع عليها فشخرت ونخرت، وأتت من الحركات بالعجائب وبدائع الغرائب وأنا أسمع، فلما خرج من عندها قلتُ لها: كيف تفعلين هذا وأنا في بيتك مع شرفك ونَسَبك وحَسَبك؟ فقالت: إن المرأة تأتي لزوجها بكل ما تقدر عليه من المهيِّجات وغريب الحركات، فما الذي تُنكِرينه من ذلك؟ فقلتُ: أحِبُّ أن يكون ذلك ليلًا. قالت: ذاك هكذا بالنهار، وبالليل أفعل أعظم منه؛ لأنه حين يراني تتحرَّك شهوته وتهيج عليه باءته، فيمد يده إليَّ فأطاوعه، فيكون ما ترين.

 

حكاية أبي الأسود والجارية الحولاء

وبلغني أن أبا الأسود اشترى جاريةً حولاء مولدة فأُعجِب بها، فذمَّها أهله عنده، فتعجَّبَ منهم وقلب الكفين وأنشد هذين البيتين:

يُعِيبُونَهَا عِنْدِي وَلَا عَيْبَ عِنْدَهَا        سِوَى أَنَّ فِي الْعَيْنَيْنِ بَعْضَ الْمَآثِرِ

فَإِنْ يَكُ فِي الْعَيْنَيْنِ عَيْبٌ فَإِنَّهَا        مُهَفْهَفَةُ الْكَشْحَيْنِ تَحْتَ الْمَآزِرِ

 

حكاية هارون الرشيد والجواري

ومما يُحكَى أن أمير المؤمنين هارون الرشيد كان ليلة بين جاريتين؛ مدنية وكوفية، فجعلت الكوفية تكبس يديه، والمدنية تكبس رجليه، وجعلت ترفع البضاعة، فقالت لها الكوفية: أراكِ قد انفردتِ دوننا برأس المال وحدك، فأعطيني نصيبي منه. فقالت المدنية: حدَّثَنِي مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن النبي ﷺ أنه قال: «مَن أحيا مواتًا فهو له ولعقبه». فاستغفلتها الكوفية ثم دفعتها وأخذته بيديها جميعًا وقالت: حدَّثنا الأعمش عن خيثمة عن عبد الله بن مسعود أن النبي ﷺ قال: «الصيد لمَن صاده لا لمَن أثاره».

وحُكِي أيضًا أن هارون الرشيد رقد مع ثلاث جوارٍ؛ مكية ومدنية وعراقية، فمدت المدنية يدها إلى ذَكَره وأنعظته فقام، فوثبت المكية وجذبته إليها، فقالت لها المدنية: ما هذا التعدِّي؟ حدَّثني مالك عن الزهري عن عبد الله بن سالم عن سعيد بن زيد، أن رسول الله ﷺ قال: «مَن أحيا أرضًا ميتة فهي له». فقالت المكية: حدَّثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، أن رسول الله ﷺ قال: «الصيد لمَن صاده لا لمَن أثاره». فدفعتهما العراقية عنه وقالت: هذا لي حتى تنقضي مخاصمتكما.

 

حكاية الطحان وزوجته

ومما يُحكَى أن رجلًا كان عنده طاحون وله حمار يطحن عليه، وكان له زوجة سوء وهو يحبها وهي تكرهه، وكانت تحب جارًا لها وهو يبغضها ويمتنع منها، فرأى زوجها في النوم قائلًا يقول له: احفر في الموضع الفلاني من مدار الحمار بالطاحون تجد كنزًا. فلما انتبه من منامه وحدَّثَ زوجته برؤياه وأمرها بكتمان السر، فأخبرت بذلك جارها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 388

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن زوجة الطحان أخبرت جارها الذي تهواه بذلك لأجل أن تتقرب إليه، فعاهدها أن يأتيها ليلًا، فأتاها ليلًا وحفر في مدار الطاحون، فوجدَا الكنز فاستخرجاه، فقال لها الجار: كيف نصنع بهذا؟ فقالت: نقسمه نصفين بالسوية، وتفارق أنت زوجتك وأنا أحتال في فراق زوجي، ثم تتزوج بي، فإذا اجتمعنا جمعنا المال كله على بعضه فيصير بأيدينا. فقال لها جارها: أنا أخاف أن يطغيك الشيطان فتأخذي غيري، فإن الذهب في المنزل كالشمس في الدنيا، والرأي السديد أن يكون المال كله عندي لتحرصي أنتِ على الخلاص من زوجك والإتيان إليَّ. فقالت له: إني أيضًا أخاف مثل ما تخاف أنتَ، ولا أسلِّم إليك نصيبي من هذا المال، فإني أنا التي قد دللتُكَ عليه.

فلما سمع منها هذا الكلام دعاه البغي إلى قتلها، فقتلها وألقاها في موضع الكنز، ثم أدركه النهار فعوقه عن مداراتها، فحمل المال وخرج؛ فاستيقظ الطحان من النوم فلم يجد زوجته، فدخل الطاحون وعلَّقَ حماره في الطاحون وصاح عليه فمشى ووقف، فضربه الطحان ضربًا شديدًا وكلما ضربه يتأخَّر؛ لأنه قد جفل من المرأة الميتة وصار لا يمكنه التقدُّم، كل ذلك والطحان لا يدري ما سبب توقُّف الحمار، فأخذ سكينًا ونخسه نخسًا كثيرًا، فلم ينتقل من موضعه، فغضب منه وطعنه بها في خاصرته، فسقط الحمار ميتًا. فلما طلع النهار رأى الطحان الحمار ميتًا، ورأى زوجته ميتة ووجدها في موضع الكنز، اشتدَّ غيظه على ذهاب الكنز وهلاك زوجته والحمار وحصل له همٌّ عظيم؛ فهذا كله من إظهار سره لزوجته وعدم كتمانها له.

 

حكاية المغفل والشاطر

ومما يُحكَى أن أحد المغفلين كان سائرًا وبيده مقود حماره وهو يجره خلفه، فنظره رجلان من الشطار، فقال واحد منهما لصاحبه: أنا آخذ هذا الحمار من هذا الرجل. فقال له: كيف تأخذه؟ فقال له: اتعبني وأنا أريك.

فتبعه فتقدَّمَ ذلك الشاطر إلى الحمار، وفكَّ منه المقود وأعطاه لصاحبه وحط المقود في رأسه، ومشى خلف المغفل حتى علم أن صاحبه ذهب بالحمار ثم وقف، فجَرَّه المغفل بالمقود فلم يمشِ، فالتفت إليه فرأى المقود في رأس رجل، فقال له: أي شيء أنتَ؟ فقال له: أنا حمارك ولي حديث عجيب، وهو أنه كان لي والدة عجوز صالحة جئتُ إليها في بعض الأيام وأنا سكران، فقالت لي: يا ولدي، تُبْ إلى الله تعالى من هذه المعاصي.

فأخذتُ العصا وضربتُها بها، فدعت عليَّ فمسخني الله تعالى حمارًا، وأوقعني في يدك، فمكثت عندك هذا الزمان كله، فلما كان هذا اليوم تذكَّرَتْني أمي وحنَّنَ الله قلبها عليَّ، فدعت لي فأعادني الله أدميًّا كما كنتُ. فقال الرجل: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، بالله عليك يا أخي أن تجعلني في حلٍّ مما فعلتُه بكَ من الركوب وغيره. ثم خلى سبيله ومضى ورجع صاحب الحمار إلى داره وهو سكران من الهمِّ والغمِّ، فقالت له زوجته: ما الذي دهاك وأين الحمار؟ فقال لها: أنتِ ما عندك خبر بأمر الحمار، فأنا أخبرك به. ثم حكى لها الحكاية فقالت: يا ويلنا من الله تعالى، كيف مضى لنا هذا الزمان كله ونحن نستخدم بني آدم؟ ثم إنها تصدَّقَتْ واستغفرَتْ، وجلس الرجل في الدار مدةً وهو من غير شغل، فقالت له زوجته: إلى متى هذا القعود في البيت من غير شغل؟ فامضِ إلى السوق واشترِ لنا حمارًا واشتغل عليه، فمضى إلى السوق ووقف عند الحمير، وإذا هو بحماره يُباع، فلما عرفه تقدَّمَ إليه ووضع فمه على أذنه وقال له: ويلك يا مشئوم، لعلك رجعت إلى السكر وضربتَ أمك، والله ما بقيت أشتريك أبدًا. ثم تركه وانصرف.

 

حكاية هارون الرشيد والسيدة زبيدة والقاضي

ومما يُحكَى أن أمير المؤمنين هارون الرشيد آوَى إلى فراشه ذات يوم في وقت الظهيرة، فلما رَقِيَ السرير الذي ينام عليه، وجد منيًّا طريًّا في فراشه، فهاله ذلك وانحرف مزاجه انحرافًا شديدًا، وحصل له غمٌّ زائد، فدعا السيدة زبيدة، فلما حضرت بين يديه قال لها: ما هذا الملقَى على الفراش؟ فنظرت إليه ثم قالت له: هذا مني يا أمير المؤمنين. فقال لها: أصدقيني عن سبب هذا المني وإلا بطشتُ بكِ في الوقت. فقالت له: يا أمير المؤمنين والله لا أعلم لذلك سببًا، وإني بريئة مما توهمته فيَّ. فطلب القاضي أبا يوسف وذكر له القصة وأراه المني، فرفع القاضي أبو يوسف رأسه إلى السقف، فرأى فيه فرجة، فقال: يا أمير المؤمنين إن للخفاش منيًّا كمنيِّ الرجال، وهذا مني خفاش. وطلب رمحًا فأخذه بيده وطعن به في الفرجة، فوقع الخفاش فاندفع الوهم عن هارون الرشيد. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 389

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن القاضي أبا يوسف لما أخذ الرمح بيده وطعن به في الفرجة وقع الخفاش، فاندفع الوهم عن هارون الرشيد وظهرت براءة زبيدة، ثم إنها تفوَّهَتْ بلسانها فرحًا ببراءتها، وأقَرَّتْ لأبي يوسف بجائزة وافرة، وكان عندها فاكهة عظيمة في غير أوانها، وتعلم بفاكهة أخرى في غير أوانها أيضًا في البستان، فقالت له: يا إمام الدين، أي الفاكهتين أحبُّ إليك؛ الفاكهة الحاضرة أم الغائبة؟ فقال: مذهبنا لا يحكم غائب، فإذا حضر يحكم عليه. فأحضرتُ له الفاكهتين فأكل من هذه ومن هذه. فقالت: ما الفرق بينهما؟ فقال: كلما أردتُ أن أشكر إحداهما، قامت عليَّ الأخرى بحجتها. فلما سمع الرشيد كلامه ضحك وأعطاه الجائزة، وأعطته أيضًا زبيدة الجائزة التي وعدَتْه بها، وانصرف من عندهما مسرورًا. فانظر فضيلة الإمام، وما حصل على يديه من براءة السيدة زبيدة وإظهار السبب.

 

حكاية الحاكم بأمر الله

ومما يُحكَى أن الحاكم بأمر الله كان راكبًا في موكبه يومًا من الأيام، فمَرَّ على بستان فرأى رجلًا هناك وحوله عبيد وخدم، فاستسقاه ماء فسقاه، ثم قال: لعل أمير المؤمنين أن يكرمني بنزوله عندي في هذا البستان. فنزل الملك ونزل جيشه في ذلك البستان، فأخرج الرجل المذكور مائة بساط، ومائة نطع، ومائة وسادة، ومائة طبق من الفاكهة، ومائة جام ملآن حلوى، ومائة زبدية ملآى بالشربات السكرية، فاندهش عقل الحاكم بأمر الله من ذلك وقال له: أيها الرجل، إن خبرك عجيب! فهل علمتَ بمجيئنا فأعددتَ لنا هذا؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين، ما علمتُ بمجيئكم وإنما أنا تاجر من جملة رعيتك، ولكن لي مائة محظية، فلما أكرمني أمير المؤمنين بنزوله عندي، أرسلتُ إلى كل واحدة منهن أن ترسل لي الغدا في البستان، فأرسلَتْ كل واحدة منهن شيئًا من فراشها، وزائد أكلها وشربها، فإن كل واحدة منهن ترسل لي في يومٍ طبقَ طعام، وطبق مبردات، وطبق فاكهة، وجامًا ممتلئًا حلوى، وزبدية شراب، وهذا غذائي في كل يوم لم أَزِدْ لكَ فيه شيئًا. فسجد أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله تعالى وقال: الحمد لله الذي جعل في رعايانا مَن وسَّعَ الله عليه حتى يُطعِم الخليفة وعسكره من غير استعداد لهم، بل من فاضل طعامه. ثم أمر له بما في بيت المال من الدراهم المضروبة في تلك السنة، فكانت ثلاثة آلاف ألف وسبعمائة ألف، ولم يركب حتى أحضرها وأعطاها لذلك الرجل وقال له: استعِنْ بها على حالك، فإن مروءتك أكبر من ذلك. ثم ركب الملك وانصرف.

 

حكاية كسرى أنوشروان والصبية

ومما يُحكَى أن الملك العادل كسرى أنوشِروان ركب يومًا إلى الصيد، فانفرد عن عسكره خلف ظبي، فبينما هو ساعٍ خلف الظبي، إذ رأى ضيعة قريبة منه، وكان قد عطش عطشًا شديدًا؛ فتوجَّه إلى تلك الضيعة، وقصد باب دار قوم في طريقه، فطلب ماءً ليشرب، فخرجت له صبية فأبصرته ثم عادت إلى البيت، وعصرت له عودًا واحدًا من قصب السكر، ومزجت ما عصرته منه بالماء، ووضعته في قدح، ووضعت عليه شيئًا من الطيب يشبه التراب، ثم سلَّمته إلى أنوشروان، فنظر في القدح فرأى فيه شيئًا يشبه التراب، فجعل يشرب منه قليلًا حتى انتهى إلى آخره، ثم قال للصبية: أيتها الصبية، نِعْمَ الماء ما أحلاه! لولا ذلك القَذَى الذي فيه فإنه كدَّره. فقالت الصبية: أيها الضيف، أنا عمدًا ألقيتُ فيه ذلك القذى الذي كدَّرَه. فقال الملك: ولِمَ فعلتِ ذلك؟ فقالت: لأني رأيتُكَ شديد العطش، وخفتُ أن تشربه نهلةً واحدةً فيضرُّك، فلو لم يكن فيه قذًى لكنتَ شربته بسرعة نهلةً واحدةً، وكان يضرُّك شرْبُه على هذه الطريقة. فتعجَّبَ الملك العادل أنوشِروان من كلامها وذكاء عقلها، وعلم أن ما قالته ناشئ عن ذكاء وفطنة وجودة عقل، فقال لها: من كم عود عصرت ذلك الماء؟ فقالت: من عود واحد. فتعجب أنوشِروان وطلب جريدة الخراج الذي يحصل من تلك القرية، فرأى خراجها قليلًا، فأضمر في نفسه أنه إذا عاد إلى تخته يزيد في خراج تلك القرية، وقال: قرية يكون في عود واحد منها هذا الماء، كيف يكون خراجها هذا القدر القليل؟ ثم إنه انصرف عن تلك القرية إلى الصيد، وفي آخر النهار رجع إليها، واجتاز على ذلك الباب منفردًا، وطلب الماء ليشرب، فخرجَتْ له تلك الصبية بعينها، فرأته فعرفته، ثم عادت لتخرج له الماء فأبطأت عليه، فاستعجلها أنوشِروان وقال: لأيِّ شيء أبطأتِ؟ وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 390

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك أنوشِروان لما استعجل الصبية قال لها: لأي شيء أبطأتِ؟ فقالت له: لأنه لم يخرج من عود واحد قدر حاجتك، فعصرت ثلاثة أعواد، ولم يخرج منها مثل ما كان يخرج من عود واحد. فقال الملك أنوشِروان: ما سبب ذلك؟ فقالت: سببه أن نيَّة السلطان قد تغيَّرَتْ. فقال لها: من أين جاءك هذا؟ فقالت: سمعنا من العقلاء أنه إذا تغيَّرَتْ نيَّة السلطان على قومٍ زالت بركتهم وقلَّت خيراتهم. فضحك أنوشِروان، وأزال من نفسه ما كان أضمر لهم عليه، وتزوَّج بتلك الصبية حالًا؛ حيث أعجبه فرْطُ ذكائها وفطنتها، وحسن كلامها.

 

حكاية السقاء وزوجة الصائغ

ومما يُحكَى أنه كان بمدينة بخارى رجل سقَّاء يحمل الماء إلى دار رجل صائغ، ومضى له على تلك الحالة ثلاثون سنة، وكان لذلك الصائغ زوجة في غاية الحُسْن والجمال، والبهاء والكمال، موصوفة بالديانة والحفظ والصيانة، فجاء السقَّاء على عادته يومًا وصبَّ الماء في الجباب، وكانت المرأة قائمة في وسط الدار، فدنا منها السقَّاء وأخذ بيدها وفركها وعصرها، ثم مضى وتركها، فلما جاء زوجها من السوق قالت: إني أريد أن تعرِّفني أي شيء صنعتَ هذا اليوم في السوق مما يُغضِب الله تعالى. فقال الرجل: ما صنعتُ شيئًا يُغضِب الله تعالى. فقالت المرأة: لا والله، إنك فعلتَ شيئًا يُغضِب الله تعالى، وإن لم تحدِّثني بما صنعت وتصدقني في حديثك، لا أقعد في بيتك، ولا تراني ولا أراك. فقال: أخبرك بما فعلتُه في يومي هذا على وجه الصدق؛ اتفق أنني جالس في الدكان على عادتي إذ جاءتني امرأة إلى دكاني، وأمرتني أن أصوغ لها سوارًا وانصرفت، فصغت لها سوارًا من ذهب ورفعته، فلما حضرَتْ أتيتُها به، فأخرجت يدها ووضعتُ السوار في ساعِدِها؛ فتحيَّرتُ من بياض يدها وحُسْن زندها الذي يُسبِي الناظر، وتذكرتُ قولَ الشاعر:

وَسَوَاعِدٍ تَزْهُو بِحُسْنِ أَسَاوِرٍ        كَالنَّارِ تُضْرَمُ فَوْقَ مَاءٍ جَارِ

فَكَأَنَّهَا وَالتِّبْرُ مُحْتَاطٌ بِهَا        مَاءٌ تَمَنْطَقَ مُعْجَبًا بِالنَّارِ

فأخذتُ يدها وعصرتها ولويتها. فقالت له المرأة: الله أكبر، لِمَ فعلتَ هذا الجرم؟ إن ذلك الرجل السقاء الذي كان يدخل بيتنا منذ ثلاثين سنة ولم نَرَ فيه خيانة، أخذ اليوم يدي وعصرها ولواها. فقال الرجل: نسأل الله الأمان أيتها المرأة، إني تائب ممَّا كان مني فاستغفري الله لي. فقالت المرأة: غفر الله لنا ولك، ورزقنا حسن العاقبة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 391

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن زوجة الصائغ قالت: غفَرَ الله لنا ولك، ورزقنا حسن العاقبة. فلما كان الغد جاء الرجل السقاء وألقى نفسه بين يدي المرأة، وتمرَّغ على التراب واعتذر إليها، وقال: يا سيدتي، اجعليني في حِلٍّ مما أغراني به الشيطان، حيث أضلَّني وأغواني. فقالت له المرأة: امضِ إلى حال سبيلك؛ فإن ذلك الخطأ لم يكن منك، وإنما كان سببه من زوجي؛ حيث فعل ما فعل في الدكان، فاقتصَّ الله منه في الدنيا.

وقيل: إن الرجل الصائغ لما أخبرته زوجته بما فعل السقاء معها قال: دقَّة بدقَّة، ولو زِدتُ لزاد السقا. فصار هذا الكلام مثلًا سائرًا بين الناس، فينبغي للمرأة أن تكون مع زوجها ظاهرًا وباطنًا، وتقنع منه بالقليل إن لم يقدر على الكثير، وتقتدي بعائشة الصدِّيقة، وفاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنهما لتكون مع حواشي السلف.

 

حكاية خسرو وشيرين والصياد

ومما يُحكَى أن خسرو وهو ملك من الملوك كان يحب السمك، فكان يومًا جالسًا في قاعته هو وشيرين زوجته، فجاء صياد ومعه سمكة كبيرة فأهداها لخسرو، فأعجبته تلك السمكة فأمر له بأربعة آلاف درهم، فقالت له شيرين: بئس ما فعلتَ. فقال: ولِمَ؟ قالت: لأنك بعد هذا إذا أعطيتَ أحدًا من حشمك هذا القدر يحتقره، ويقول: إنما أعطاني مثل القدر الذي أعطاه للصياد. وإنْ أعطيتُه أقلَّ منه يقول: قد احتقرني وأعطاني أقل مما أعطى الصياد. فقال خسرو: لقد صدقتِ، ولكن يقبح بالملوك أن يرجعوا في هبتهم، وقد فات هذا. فقالت شيرين: أنا أدبِّر لك أمرًا في استرجاع العطية منه. فقال لها: وكيف ذلك؟ قالت له: إذا أردتَ ذلك فادعُ الصيادَ وقُلْ له: هل هذه السمكة ذكرًا أم أنثى؟ فإن قال: ذكر. فقُلْ له: إنما أردنا أنثى. وإنْ قال: أنثى. فقُلْ له: إنما أردنا ذكرًا. فأرسل خلف الصياد فعاد، وكان الصياد صاحب ذكاء وفطنة، فقال له الملك خسرو: هل هذه السمكة ذكرًا أم أنثى؟ فقبَّلَ الصياد الأرض وقال: هذه السمكة خنثى، لا ذكر ولا أنثى. فضحك خسرو من كلامه، وأمر له بأربعة آلاف درهم أخرى، فمضى الصياد إلى الخازندار وقبض منه ثمانية آلاف درهم، ووضعها في جراب كان معه وحملها على عنقه، وهَمَّ بالخروج، فوقع منه درهم واحد، فوضع الصياد الجراب عن كاهله وانحنى على الدرهم فأخذه، والملك وشيرين ينظران إليه، فقالت شيرين: أيها الملك، رأيت خِسَّةَ هذا الرجل وسفالته؛ حيث سقط منه درهم لم يسهل عليه أن يتركه ليأخذه بعض غلمان الملك. فلما سمع الملك كلامها اشمأَزَّ من الصياد وقال: لقد صدقتِ يا شيرين. ثم إنه أمر بإعادة الصياد وقال له: يا ساقِطَ الهمة لستَ بإنسان، كيف وضعتَ هذا المال عن كاهلك وانحنيتَ لأجل درهم، وبخلتَ أن تتركه في مكانه؟ فقبَّلَ الصياد الأرض وقال: أطال الله بقاء الملك، إنني لم أرفع ذلك الدرهم عن الأرض لخطره عندي، وإنما رفعته عن الأرض لأن على أحد وجهَيْه صورة الملك، وعلى وجهه الآخر اسمه، فخشيتُ أن يضع أحدٌ رجله عليه بغير علم، فيكون ذلك استخفافًا باسم الملك وصورته، فأكون أنا المؤاخذ بهذا الذنب. فتعجَّبَ الملك من قوله واستحسن ما ذكره، فأمر له بأربعة آلاف درهم أخرى، وأمر الملك مناديًا أن ينادي في مملكته ويقول: لا ينبغي لأحد أن يقتدي برأي النساء، فمَن اقتدَى برأيهن خسر مع درهمه درهمين.

 

حكاية يحيى بن خالد والفقير

ومما يُحكَى أن يحيى بن خالد البرمكي خرج من دار الخلافة متوجِّهًا إلى داره، فرأى على باب الدار رجلًا، فلما قرب منه نهض الرجل قائمًا وسلَّمَ عليه وقال له: يا يحيى، أنا محتاج إلى ما في يدك، وقد جعلتُ اللهَ وسيلتي إليك. فأمر يحيى أن يُفرَد له موضع في داره، وأمر خازنداره أن يحمل إليه في كل يوم ألف درهم، وأن يكون طعامه من خاص طعامه، فاستمرَّ الرجل على ذلك الحال شهرًا كاملًا، فلما انقضى الشهر كان قد وصل إليه ثلاثون ألف درهم، فخاف الرجل أن يحيى يأخذ منه الدراهم لكثرتها، فانصرف خفية. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 392

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الرجل أخذ الدراهم وانصرف خفية، فأخبروا يحيى بذلك، فقال: والله لو أقام عندي عمره وطول دهره لما منعْتُه صلتي، ولا قطعتُ عنه إكرامَ ضيافتي. وفضائل البرامكة لا تُحصَى، ومناقبهم لا تُستقصَى، وخصوصًا يحيى بن خالد؛ فإنه جمُّ المفاخر كما قال فيه الشاعر:

سَأَلْتُ النَّدَى هَلْ أَنْتَ حُرٌّ فَقَالَ: لَا        وَلَكِنَّنِي عَبْدٌ لِيَحْيَى بْنِ خَالِدِ

فَقُلْتُ شِرَاءٌ قَالَ حَاشَا وَإِنَّمَا        تَوَارَثَنِي مِنْ وَالِدٍ بَعْدَ وَالِدِ

 

حكاية جعفر بن موسى ومحمد الأمين

ومما يُحكَى أن جعفر بن موسى الهادي كانت له جارية عوادة اسمها البدر الكبير، ولم يكن في زمانها أحسن منها وجهًا، ولا أعدل قدًّا، ولا ألطف معنًى، ولا أعْرَفُ بصناعة الغناء وضرب الأوتار، وكانت في غاية الجمال ونهاية الظرف والكمال، فسمع بخبرها محمد الأمين ابن زبيدة، والتمس من جعفر أن يبيعها له، فقال له جعفر: أنتَ تعلم أنه لا يليق بمثلي بيع الجواري والمساومة على السراري، ولولا أنها تربية داري لَأرسلتُها هديةً إليك ولم أبخل بها عليك. ثم إن محمدًا الأمين ابن زبيدة توجَّهَ يومًا لقصد الطرب إلى دار جعفر، فأحضر له ما يحسن حضوره بين الأحباب، وأمر جاريته البدر الكبير أن تغني له وتطربه، فأصلحت الآلات وغنَّتْ بأطيب النغمات، فأخذ محمد الأمين ابن زبيدة في الشراب والطرب، وأمر السقاة أن يُكثِروا الشراب على جعفر حتى يُسكِروه، ثم أخذ الجارية معه وانصرف إلى داره ولم يمدَّ إليها يده. فلما أصبح الصباح، أمر باستدعاء جعفر، فلما حضر قدم بين يديه الشراب، وأمر الجارية أن تغنِّي له من داخل الستارة، فسمع جعفر صوتها فعرفها فاغتاظ لذلك، ولكن لم يُظهِر غيظًا لشرف نفسه وعلوِّ همته، ولم يُبْدِ تغيُّرًا في منادمته؛ فلما انقضى مجلس الشراب أمر محمد الأمين ابن زبيدة بعض أتباعه أن يملأ الزورق الذي ركب فيه جعفر إليه من الدراهم والدنانير، وأصناف الجواهر واليواقيت، والثياب الفاخرة والأموال الباهرة، ففعل ما أمره به حتى إنه وضع في الزورق ألف بدرة، وألف درة، قيمة الدرة عشرون ألف درهم، ولم يزل يضع فيه أصناف التحف حتى استغاث الملَّاحون وقالوا: ما يقدر الزورق أن يحمل شيئًا آخَر. وأمر بحمله إلى دار جعفر، وهكذا همم الأكابر رحمهم الله.

 

حكاية سعيد بن سالم وابنا يحيى بن خالد

ومما يُحكَى أن سعيد بن سالم الباهلي قال: اشتدَّ بي الحال في زمن هارون الرشيد واجتمع عليَّ ديون كثيرة أثقلت ظهري، وعجزتُ عن قضائها وضاقَتْ حيلي وبقيتُ متحيِّرًا لا أدري ما أصنع؛ حيث عسر عليَّ أداؤها إعسارًا عظيمًا، واحتاطت ببابي أرباب الديون وتزاحَمَ عليَّ المطالِبون، ولازمني الغرماء فضاقت حيلي وازدادت فكرتي، فلما رأيت الأمور متعسرة والأحوال متغيرة، قصدتُ عبد الله بن مالك الخزاعي والتمستُ منه أن يمدَّني برأيه ويرشدني إلى باب الفرج بحسن تدبيره، فقال عبد الله بن مالك الخزاعي: لا يقدر أحد على خلاصك من محنتك وهمك وضيقك وغمِّك غير البرامكة.

فقلت: ومَن يقدر على احتمال تكبُّرهم ويصبر على تجبُّرهم؟ فقال: تحمَّلْ ذلك لأجل إصلاح حالك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 393

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن عبد الله بن مالك الخزاعي قال لسعيد بن سالم: تحمَّلْ ذلك لأجل إصلاح حالك. فنهضت من عنده ومضيتُ إلى الفضل وجعفر ولدَيْ يحيى بن خالد، وقصصتُ عليهما قصتي، وأبديتُ لهما حالتي، فقالا: ساعَدَك الله بعونه، وأغناك عن خلقه بمَنِّه، وأجزل لك عظيم خير، وقام لك بالكفاية دون غيره، إنه على ما يشاء قدير وبعباده خبير. فانصرفتُ من عندهما ورجعتُ إلى عبد الله بن مالك ضيِّق الصدر، متحيِّر الفكر، منكسر القلب، وأعدتُ عليه ما قالاه، فقال: ينبغي أن تقيم اليومَ عندنا لننظر ما يقدِّره الله تعالى. فجلست عنده ساعة، وإذا بغلامي قد أقبَلَ وقال: يا سيدي، إن ببابنا بغالًا كثيرة بأحمالها، ومعها رجل يقول: أنا وكيل الفضل بن يحيى وجعفر بن يحيى. فقال عبد الله بن مالك: أرجو أن يكون الفرج قد أقبَلَ عليك، فقُمْ وانظُرْ ما الشأن. فنهضتُ من عنده وأسرعتُ عدوًا إلى بيتي، فرأيت ببابي رجلًا معه رقعة مكتوب فيها: إنك لما كنتَ عندنا وسمعنا كلامك توجَّهْنا بعد خروجك إلى الخليفة، وعرفناه أنه أفضى بك الحال إلى ذلِّ السؤال، فأمَرَنا أن نحمل إليك من بيت المال ألف درهم، فقلنا له: هذه الدراهم يصرفها إلى غرمائه ويؤدِّي بها دينه، ومن أين يقيم وجه نفقاته؟ فأمر لك بثلاثمائة ألف درهم أخرى، وقد حمل إليك كلُّ واحد منَّا من خالص ماله ألف ألف درهم، فصارت الجملة ثلاثة آلاف ألف وثلاثمائة ألف درهم، تصلح بها أحوالك وأمورك. فانظُرْ إلى هذا الكرم من هؤلاء الكرام رحمهم الله تعالى.

 

حكاية مكيدة امرأة مع زوجها

ومما يُحكَى أن امرأة فعلَتْ مع زوجها مكيدةً، وهي أن زوجها أتى لها بسمكة يوم الجمعة وأمرها بطبخها وإحضارها عقب صلاة الجمعة، وانصرف إلى أشغاله، فجاءها صديقها وطلبها لحضور عرس عنده، فامتثلت ووضعت السمكة في زير عندها وذهبَتْ معه، وقعدت غائبة عن بيتها إلى الجمعة الثانية، وزوجها يفتِّش في البيوت ويسأل عنها، فلم يخبره أحد بخبرها، ثم حضرت يوم الجمعة الثانية وأخرجت له السمكة بالحياة، وجمعت عليه الناس وأخبرتهم بالقصة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 394

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن المرأة لما جاءت لزوجها في الجمعة الثانية أخرجت السمكة من الزير حية، وجمعت عليه الناس، فأخبرهم بالقصة فكذبوه وقالوا له: لا يمكن أن السمكة تقعد بالحياة هذه المدة. وأثبتوا جنونه وسجنوه وصاروا يضحكون عليه، فأفاضَ دمعَ العين وأنشد هذين البيتين:

عَجُوزٌ تَوَلَّتْ فِي الْقَبَائِحِ مَنْصِبًا        عَلَى وَجْهِهَا لِلْفَاحِشَاتِ شُهُودُ

إِذَا طُمِّثَتْ قَادَتْ وَإِنْ طُهِّرَتْ زَنَتْ        مَدَى الدَّهْرِ تَزْنِي تَارَةً وَتَقُودُ

 

حكاية الإسرائيلية والشيخين

ومما يُحكَى أنه كان في قديم الزمان، وسالف العصر والأوان، امرأة صالحة في بني إسرائيل، وكانت تلك المرأة ديِّنة عابدة تخرج كلَّ يوم إلى المصلَّى، وكان بجانب تلك المصلَّى بستان، فإذا خرجت إلى المصلى تدخل ذلك البستان وتتوضَّأ منه، وكان في البستان شيخان يحرسانه، فتعلَّق الشيخان بتلك المرأة، وراوداها عن نفسها فأبت، فقالا لها: إن لم تمكِّنينا من نفسك، لَنشهدنَّ عليك بالزنا. فقالت لهما الجارية: الله يكفيني شرَّكما. ففتحا باب البستان وصاحا؛ فأقبل عليهما الناس من كل مكان وقالوا: ما خبركما؟ فقالا: إنَّا وجدنا هذه الجارية مع شاب يفجر بها، وانفلت الشاب من أيدينا. وكان الناس في ذلك الوقت ينادون بفضيحة الزاني ثلاثة أيام ثم يرجمونه؛ فنادوا عليها ثلاثة أيام من أجل الفضيحة، وكان الشيخان في كل يوم يدنوان منها ويضعان أيديهما على رأسها، ويقولان لها: الحمد لله الذي أنزَلَ بكِ نقمته. فلما أرادوا رجمها تبعهم دانيال، وهو ابن اثنتي عشرة سنة، وهذه أول معجزة له - على نبينا وعليه الصلاة والسلام - ولم يزل تابعًا لهم حتى لحقهم وقال: لا تعجلوا عليها بالرجم حتى أقضي بينهم. فوضعوا له كرسيًّا ثم جلس، وفرَّق بين الشيخين - وهو أول مَن فرَّقَ بين الشهود - فقال لأحدهما: ما رأيتَ؟ فذكر له ما جرى، فقال له: حصل ذلك في أي مكان في البستان؟ فقال: في الجانب الشرقي تحت شجرة الكمثرى. ثم سأل الثاني عمَّا رأى فأخبره بما جرى، فقال له: في أي مكان في البستان؟ فقال: في الجانب الغربي تحت شجرة التفاح. كل هذا والجارية واقفة رافعة رأسها ويديها إلى السماء، وهي تدعو الله بالخلاص؛ فأنزل الله تعالى صاعقةً من العذاب فأحرقت الشيخين، وأظهر الله تعالى براءة الجارية، وهذا أول ما جرى من المعجزات لنبي الله دانيال عليه السلام.

 

حكاية جعفر البرمكي والشيخ

ومما يُحكَى أن أمير المؤمنين هارون الرشيد خرج يومًا من الأيام هو وأبو يعقوب النديم وجعفر البرمكي وأبو نواس، وساروا في الصحراء فرأوا شيخًا متَّكِئًا على حمار له، فقال هارون الرشيد لجعفر: اسأل هذا الشيخ من أين هو؟ فقال له جعفر: من أين جئتَ؟ فقال: من البصرة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 395

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن جعفرًا البرمكي لما سأل الرجل وقال له: من أين جئت؟ قال: من البصرة. فقال له جعفر: وإلى أين سيرُك؟ قال: إلى بغداد. قال له: وما تصنع فيها؟ قال: ألتمِس دواءً لعيني. فقال هارون الرشيد: يا جعفر مازِحْه. فقال: إذا مازحْتُه أسمع منه ما أكره. فقال: بحقي عليك أن تمازحه. فقال جعفر للشيخ: إنْ وضعتُ لك دواءً ينفعك ما الذي تكافِئُني به؟ فقال له: الله تعالى يكافِئُك عني بما هو خير لك من مكافأتي. فقال: أنصِتْ إليَّ حتى أصف لك هذا الدواء الذي لا أصفه لأحد غيرك. فقال له: وما هو؟ قال له جعفر: خذ لك ثلاث أواقٍ من هبوب الريح، وثلاث أواقٍ من شعاع الشمس، وثلاث أواقٍ من زهر القمر، وثلاث أواقٍ من نور السراج، واجمع الجميع وضعها في الريح ثلاثة أشهر، ثم بعد ذلك ضعها في هون بلا قعر، ودُقَّها ثلاثة أشهر، فإذا دققتَها فضَعْها في جَفنة مشقوقة، وضَعِ الجفنةَ في الريح ثلاثة أشهر، ثم استعمل هذا الدواء في كل يوم ثلاثة دراهم عند النوم، واستمِرَّ على ذلك ثلاثة أشهر؛ فإنك تُعافَى إن شاء الله تعالى. فلما سمع الشيخ كلام جعفر، انسطح على حماره وضرط ضرطة منكرة، وقال: خُذْ هذه الضرطة مكافأةً لك على وصفك هذا الدواء، فإذا استعملتُه ورزقني الله العافية، أعطيتُكَ جاريةً تخدمك في حياتك خدمةً يقطع الله بها أجلك، فإذا متَّ وعجَّل الله بروحك إلى النار، سخمت وجهك بخراها من حزنها عليك، وتندب وتلطم وتنوح، وتقول في نياحتها: يا ساقع الذقن، ما أسقع ذقنك! فضحك هارون الرشيد حتى استلقى على قفاه، وأمر لذلك الرجل بثلاثة آلاف درهم.

 

حكاية عمر بن الخطاب والشاب الحسن

وحكى الشريف حسين بن ريَّان أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كان جالسًا في بعض الأيام للقضاء بين الناس، والحكم بين الرعايا، وعنده أكابر أصحابه من أهل الرأي والإصابة. فبينما هو جالس إذ أقبل عليه شاب من أحسن الشباب، نظيف الثياب، وقد تعلَّق به شابَّان من أحسن الشباب، وقد جذبه الشابان من طوقه، وأوقفاه بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب؛ فنظر أمير المؤمنين إليهما وإليه، فأمرهما بالكفِّ عنه وأدناه منه، وقال للشابين: ما قصتكما معه؟ فقالا: يا أمير المؤمنين، نحن أخوان شقيقان، وباتِّباع الحقِّ حقيقان، كان لنا أبٌ شيخٌ كبيرٌ حَسَنُ التدبير، مُعظَّمٌ في القبائل، مُنزَّهٌ عن الرذائل، معروفٌ بالفضائل، ربَّانا صغارًا وأولانا مِننًا كبارًا … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 396

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشابين قالا لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب: إنَّ أبانا كان مُعظَّمًا في القبائل، مُنزَّهًا عن الرذائل، معروفًا بالفضائل، ربَّانا صغارًا وأولانا مِننًا كبارًا، جمَّ المناقب والمفاخر، حقيقًا بقول الشاعر:

قَالُوا أَبُو الصَّقْرِ مِنْ شَيْبَانَ قُلْتُ لَهُمْ        كَلَّا لَعَمْرِي وَلَكِنْ مِنْهُ شَيْبَانُ

فَكَمْ أَبٍ قَدْ عَلَا بِابْنٍ ذَوِي شَرَفٍ        كَمَا عَلَتْ بِرَسُولِ اللهِ عَدْنَانُ

فخرج يومًا إلى حديقة له ليتنزَّه في أشجارها، ويقتطف يانع أثمارها، فقتله هذا الشاب، وعدل عن طريق الرشاد، ونسألك القصاص بما جناه، والحكم فيه بما أمر الله. فنظر عمر إلى الشاب نظرة مرهبة، وقال له: قد سمعتُ من هذين الغلامين الخطاب، فما تقول أنت في الجواب؟ وكان ذلك الغلام ثابت الجَنَان، جريء اللسان، قد خلع ثياب الهلع، ونزع لباس الجزع، فتبسَّم وتكلَّم بأفصح لسان، وحيَّا أمير المؤمنين بكلماتٍ حِسان، ثم قال: والله يا أمير المؤمنين لقد وعيتُ ما ادَّعياه، وصدَقَا فيما قالاه، حيث أخبرَا بما جرى، وكان أمر الله قدرًا مقدورًا، ولكن سأذكر قصَّتي بين يديك، والأمر فيها إليك؛ اعلم يا أمير المؤمنين، أني من صميم العرب العرباء، الذين هم أشرف مَن تحت الجرباء، نشأت في منازل البادية فأصابت قومي سود السنين العادية، فأقبلت إلى ظاهر هذه البلد بالأهل والمال والولد، وسلكت بعض طرائقها إلى المسير بين حدائقها، بنياق كريمة لديَّ، عزيزات عليَّ، بينهن فحلٌ كريم الأصل، كثير النسل، مليح الشكل، به يكثر منهن النِّتاج، ويمشي بينهن كأنه ملك عليه تاج، فندَّت بعض النياق إلى حديقة أبيهم، وقد ظهر من الحائط شجرها فتناولته بمشفرها فطردتُها عن تلك الحديقة، وإذا بشيخ من خلال الحائط قد ظهر، وزفير غيظه يرمي بالشرر، وفي يده اليمنى حجر، وهو يتهادى كالليث إذا حضر، فضرب الفحل بذلك الحجر فقتله؛ لأنه أصاب مقتله؛ فلما رأيتُ الفحل قد سقط بجانبي، آنست أن قلبي قد توقَّدَتْ فيه جمرات الغضب، فتناولت ذلك الحجر بعينه وضربته به، فكان سببًا لحينه، ولقي سوء منقلبه، والمرء مقتول بما قتل به، وعند إصابته بالحجر صاح صيحة عظيمة، وصرخ صرخة أليمة، فأسرعتُ بالسير من مكاني، فأسرع هذان الشابان وأمسكاني، وإليك أحضراني، وبين يديك أوقفاني.

فقال عمر رضي الله تعالى عنه: قد اعترفتَ بما اقترفت، وتعذَّر الخلاص، ووجب القصاص، ولات حين مناص. فقال الشاب: سمعًا وطاعة لما حكم به الإمام، ورضيت بما اقتضته شريعة الإسلام، ولكن لي أخٌ صغير، كان له أبٌ كبير، خصَّه قبل وفاته بمال جزيل، وذهب جليل، وسلَّم أمره إليَّ، وأشهدَ الله عليَّ، وقال: هذا لأخيك عندك فاحفظه جهدك. فأخذتُ ذلك المال منه ودفنتُه، ولا أحد يعلم به إلا أنا، فإن حكمتَ الآن بقتلي ذهب المال، وكنتَ أنتَ السببَ في ذهابه، وطالَبَك الصغير بحقه يومَ يقضي الله بين خلقه، وإنْ أنتَ أنظرتَني ثلاثة أيام، أقمتُ مَن يتولَّى أمر الغلام، وعُدت وافيًا بالذمام، ولي مَن يضمنني على هذا الكلام. فأطرق أمير المؤمنين رأسه، ثم نظر إلى مَن حضر، وقال: مَن يقوم لي بضمانه والعَوْدِ إلى مكانه؟ فنظر الغلام إلى وجوه مَن في المجلس وأشار إلى أبي ذَرٍّ دون الحاضرين، وقال: هذا يكفلني ويضمنني. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 397

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشاب لما أشار إلى أبي ذَرٍّ وقال: هذا يكفلني ويضمنني. قال عمر — رضي الله تعالى عنه: يا أبا ذرٍّ، أسمعتَ هذا الكلام، وتضمن لي حضور هذا الغلام؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أضمنه إلى ثلاثة أيام. فرضي بذلك وأذن للغلام في الانصراف، فلما انقضَتْ مدة الإمهال، وكاد وقتها أن يزول أو زال، ولم يحضر الشاب إلى مجلس عمر، والصحابة حوله كالنجوم حول القمر، وأبو ذرٍّ قد حضر، والخصمان ينتظران فقالا: أين الغريم يا أبا ذرٍّ؟ كيف رجوع مَن فرُّوا؟ لكن نحن لا نبرح من مكاننا حتى تأتينا به للأخذ بثأرنا. فقال أبو ذرٍّ: وحق الملك العلَّام، إنِ انقضَتِ الثلاثة أيام، ولم يحضر الغلام، وفَّيْتُ بالضمان وسلَّمْتُ نفسي للإمام. فقال عمر رضي الله عنه: واللهِ إنْ تأخَّرِ الغلام لَأقضين في أبي ذرٍّ ما اقتضَتْه شريعة الإسلام. فهملَتْ عَبَرات الحاضرين، وارتفعت زفرات الناظرين، وعَظُم الضجيج، فعرض أكابر الصحابة على الشابَّيْن أخْذَ الدية، واغتنام الأَثْنِية، فأبَيَا ولم يقبلَا شيئًا إلا الأخذ بالثأر. فبينما الناس يموجون ويضجون تأسُّفًا على أبي ذرٍّ، إذ أقبَلَ الغلام، ووقف بين يدي الإمام، وسلَّم عليه بأحسن سلام، ووجهه مشرق يتهلَّل، وبالعَرَق يتكلَّل، وقال له: قد أسلمتُ الصبي إلى أخواله، وعرَّفتهم بجميع أحواله، وأطلعتهم على مكان ماله، ثم اقتحمتُ هاجرةَ الحَرِّ، ووفَّيْتُ وفاءَ الحُرِّ. فتعجَّب الناس من صدقه ووفائه، وإقدامه على الموت واجترائه، فقال له بعضهم: ما أكرمك من غلام! وأوفاك بالعهد والزمام! فقال الغلام: أَمَا تحقَّقتم أن الموت إذا حضر لا ينجو منه أحد؟ وإنما وفَّيْتُ كي لا يقال: ذهب الوفاء من الناس. فقال أبو ذرٍّ: والله يا أمير المؤمنين لقد ضمنتُ هذا الغلام ولم أعرفه من أي قوم، ولا رأيتُه قبل ذلك اليوم، ولكن لما أعرض عمَّن حضر وقصدني وقال: هذا يضمنني ويكفلني. لم أستحسن ردَّه، وأَبَتِ المروءة أن تخيِّب قصده؛ إذ ليس في إجابة القصد من بأس، كي لا يقال: ذهب الفضل من الناس. فعند ذلك قال الشابان: يا أمير المؤمنين، قد وهبنا لهذا الشاب دمَ أبينا؛ حيث بدَّل الوحشة بالإيناس، كي لا يقال: ذهب المعروف من الناس. واستبشَرَ الإمام بالعفو عن الغلام، وصِدْقه ووفائه بالذمام، واستكبر مروءة أبي ذرٍّ دون جلسائه، واستحسن اعتماد الشابين في اصطناع المعروف، وأثنى عليهما ثناء الشاكر، وتمثَّل بقول الشاعر:

مَنْ يَصْنَعِ الْخَيْرَ بَيْنَ الْخَلْقِ يُجْزَ بِهِ        لَا يَذْهَبُ الْخَيْرُ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ

ثم عرض عليهما أن يصرف إليهما دية أبيهما من بيت المال فقالا: إنما عفونا عنه ابتغاءَ وجه الله الكريم المتعال، ومَن نيَّته كذا لا يُتبِع إحسانَه منًّا ولا أذًى.

 

حكاية المأمون والأهرام

ومما يُحكَى أن المأمون بن هارون الرشيد لما دخل مصر المحروسة أراد هدم الأهرام ليأخذ ما فيها، فلما حاوَلَ هدمها لم يقدر على ذلك، مع أنه اجتهد في هدمها وأنفق على ذلك أموالًا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 398

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن المأمون اجتهَدَ في هدم الأهرام وأنفق على ذلك أموالًا عظيمة، ولم يقدر على هدمها، وإنما فتح في أحدها طاقة صغيرة، ويقال: إن المأمون وجد في الطاقة التي فتحها من الأموال قدْرَ الذي أنفقه على فتحها لا يزيد ولا ينقص، فتعجب المأمون من ذلك، ثم أخذ ما هناك ورجع عن تلك النية. والأهرام ثلاثة، وهي من عجائب الدنيا، لم يكن على وجه الأرض مثلها في إحكامها وإتقانها وعلوِّها، وذلك أنها مبنية بالصخور العظام، وكان البناءون الذين بنوها يثقبون الحجر من طرفَيْه ويجعلون فيه القضبان الحديد قائمة، ويثقبون الحجر الثاني وينزلونه فيه ويذيبون الرصاص ويجعلونه فوق القضيب بترتيب الهندسة، حتى إذا كمل بناؤها وصار ارتفاع كل هرم في الهواء مائة ذراع بالذراع المعهود في ذلك الوقت، وهي مربعة الأطراف من كل جانب، منحدرة الأعالي من أواخرها، مقدار الواحد منها ثلاثمائة ذراع. ويقول القدماء: إن في داخل الهرم الغربي ثلاثين مخزنًا من حجارة الصوان، مملوءة بالجواهر النفيسة والأموال الجمة والتماثيل الغريبة، والآلات والأسحلة الفاخرة التي دُهِنت بالدهان المدبر بالحكمة، فلا تصدأ إلى يوم القيامة، وفيها الزجاج الذي ينطوي ولا ينكسر، وأصناف العقاقير المركبة والمياه المدبرة؛ وفي الهرم الثاني أخبار الكهنة مكتوبة في ألواح من الصوان، لكل كاهن لوح من ألواح الحكمة، وموسوم في ذلك اللوح عجائب صناعته وأعماله، وفي الحيطان صور أشخاص كالأصنام تعمل بأيديها جميع الصناعات وهي قاعدة على المراتب، ولكل هرم منها خازن حارس عليها، وتلك الحراس يحفظونها على مر الزمان من طوارق الحدثان، وعجائب الأهرام حيَّرَتْ أربابَ البصائر والأبصار، وقد كثرت في وصفها الأشعار، ولم تحصل منه على طائل، فمن ذلك قول القائل:

هِمَمُ الْمُلُوكِ إِذَا أَرَادُوا ذِكْرَهَا        مِنْ بَعْدِهِمْ فَبِأَلْسُنِ الْبُنْيَانِ

أَوَمَا تَرَى الْهَرَمَيْنِ قَدْ بَقِيَا وَلَمْ        يَتَغَيَّرَا بِطَوَارِقِ الْحَدَثَانِ

وقول الآخَر:

انْظُرْ إِلَى الْهَرَمَيْنِ وَاسْمَعْ مِنْهُمَا        مَا يَرْوِيَانِ عَنِ الزَّمَانِ الْغَابِرِ

لَوْ يَنْطِقَانِ لَأَخْبَرَانَا بِالَّذِي        فَعَلَ الزَّمَانُ بِأَوَّلٍ وَبِآخِرِ

وقول الآخَر:

خَلِيلِي هَلْ تَحْتَ السَّمَاءِ بِنَايَةٌ        تُضَارِعُ فِي إِتْقَانِهَا هَرَمَيْ مِصْرَ

بِنَاءُ يَخَافُ الدَّهْرُ مِنْهُ وَكُلُّ مَنْ        عَلَى ظَاهِرِ الدُّنْيَا يَخَافُ مِنَ الدَّهْرِ

تَنَزَّهَ طَرْفِي فِي بَدِيعِ بِنَائِهَا        وَلَمْ يَتَنَزَّهْ فِي الْمُرَادِ بِهَا فِكْرِي

وقول الآخَر:

أَيْنَ الَّذِي الْهَرَمَانِ مِنْ بُنْيَانِهِ        مَا قَوْمُهُ مَا يَوْمُهُ مَا الْمَصْرَعُ

تَتَخَلَّفُ الْآثَارُ عَنْ أَصْحَابِهَا        حِينًا وَيُدْرِكُهَا الْمَمَاتُ فَتُصْرَعُ

 

حكاية اللص وتاجر القماش

ومما يُحكَى أنَّ رجلًا كان لصًّا وتاب إلى الله تعالى وحسنت توبته، وفتح له دكانًا يبيع فيها القماش، ولم يزل على ذلك مدةً من الزمان، فاتفق في بعض الأيام أنه أغلق دكانه ومضى إلى بيته، فجاء اللصوص المحتالين وتزيَّا بزيِّ صاحب الدكان، وأخرج من كمه مفاتيح، وكان ذلك ليلًا، وقال لحارس السوق: أشعِلْ لي هذه الشمعة. فأخذها منه الحارس ومضى ليُشعِلها … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 399

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الحارس أخذ منه الشمعة ومضى ليشعلها، ففتح اللص الدكان وأشعل شمعة أخرى كانت معه، فلما جاء الحارس وجده جالسًا في الدكان ودفتر الحساب في يده، وهو ينظر إليه ويحسب بأصابعه، ولم يزل على تلك الحالة إلى وقت السَّحَر، ثم قال للحارس: ائتني بجمَّال وجَمَلِه ليحمل لي بعض البضائع. فأتاه بجمَّال وجَمَلِه، فتناوَلَ أربع رزم من القماش وناولها له، فحملها على الجمل، ثم أغلق الدكان وأعطى الحارس درهمين ومضى خلف الجمَّال والحارس معتقد أنه صاحب الدكان. فلما أصبح الصباح واتضح النهار، جاء صاحب الدكان فجعل الحارس يدعو له لأجل الدرهمين، فأنكَرَ صاحب الدكان مقالته وتعجَّبَ منها، فلما فتح الدكان وجد سيلان الشمع ودفتر الحساب مطروحًا، وتأمَّلَ في الدكان فوجد أربع رزم من القماش مفقودة، فقال للحارس: ما الخبر؟ فحكى له ما صنع بالليل ومقاولة الجمَّال على الرزم، فقال له: ائتني بالجمَّال الذي حمل القماش معك سَحَرًا. فقال: سمعًا وطاعةً. ثم أتاه به فقال له: إلى أين حملتَ القماش سَحَرًا؟ فقال له: إلى الموردة الفلانية، ووضعته في مركب فلان. فقال له: سِرْ معي إليها. فمضى معه إليها وقال له: هذه المركب وهذا صاحبها. فقال للمراكبي: إلى أين حملتَ التاجر والقماش؟ فقال له: إلى المكان الفلاني، وأتاني بجمَّال فحمل القماش على جملة ومضى ولم أعرف إلى أين ذهب. فقال له: ائتني بالجمال الذي حمل من عندك القماش. فأتاه به فقال له: إلى أين حملتَ القماشَ من المركب مع التاجر؟ فقال: إلى موضع كذا. فقال له: سِرْ معي إليه وأَرِنِي إياه. فمضى معه الجمَّال إلى مكان بعيد عن الشاطئ، وعرَّفَه الخان الذي وضع فيه القماش، وأراه حاصل التاجر، فتقدَّمَ إلى الحاصل وفتحه، فوجد الأربع رزم القماش بحالها لم تنفك، فناوَلَها إلى الجمَّال، وكان اللص قد وضع كساءه على القماش، فناوَلَه صاحب القماش إلى الجمَّال أيضًا، فحمل الجميع على الجمل ثم أغلق الحاصل وذهب مع الجمَّال، وإذا باللص واجهه، فتبعه إلى أن أنزل القماش في المركب، فقال له: يا أخي، أنت في وداعة الله وقد أخذتَ قماشك وما ضاع منه شيء، فأَعْطِني الكساء. فضحك منه التاجر وأعطاه الكساء ولم يشوِّش عليه، وانصرف كلٌّ منهما إلى حال سبيله.

 

حكاية مسرور السياف وابن القاربي

ومما يُحكَى أن أمير المؤمنين هارون الرشيد قلق ليلةً من الليالي قلقًا شديدًا، فقال لوزيره جعفر بن يحيى البرمكي: إني أرقت في هذه الليلة وضاق صدري، ولم أعرف كيف أصنع. وكان خادمه مسرور واقفًا أمامه فضحك، فقال له الخليفة: ومِمَّ تضحك؟ أتضحك استخفافًا بي أم جنونًا منك؟ فقال: لا والله يا أمير المؤمنين … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 400

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن هارون الرشيد قال لمسرور السياف: أتضحك استخفافًا بي أم جنونًا منك؟ فقال: لا والله يا أمير المؤمنين، وحق قرابتك من سيد المرسلين، ما فعلتُ ذلك باختياري، ولكنني خرجتُ بالأمس أتمشَّى بظاهر القصر حتى وصلت إلى شاطئ الدجلة، فرأيت الناس مجتمعين فوقفتُ، فرأيتُ رجلًا يُضحِك الناس يقال له ابن القاربي، فتذكَّرْتُ الآنَ كلامَه فغلب عليَّ الضحك، وأطلب منك العفو يا أمير المؤمنين. فقال الخليفة: عليَّ به في هذه الساعة. فخرج مسرور مُسرِعًا إلى أن وصل إلى ابن القاربي وقال له: أجِبْ أمير المؤمنين. فقال: سمعًا وطاعةً. فقال له مسرور: ولكن بشرط، أنك إذا دخلتَ عليه وأنعَمَ عليك بشيء، يكون لك فيه الربعُ والبقيةُ لي. فقال له ابن القاربي: بل لك النصف ولي النصف. فقال له مسرور: لا. فقال له ابن القاربي: لك الثلثان ولي الثلث. فأجابه مسرور إلى ذلك بعد جهد جهيد، ثم قام معه، فلما دخل على أمير المؤمنين حيَّاه بتحية الخلافة ووقف بين يديه، فقال له أمير المؤمنين: إذا أنتَ لم تُضحِكني ضربتُك بهذا الجراب ثلاثَ مرات. فقال ابن القاربي في نفسه: وما عسى أن تكون ثلاث ضربات بهذا الجراب، مع أن ضرب السياط لا يضرني. وظنَّ أنَّ الجراب فارغ، ثم تكلَّمَ بكلامٍ يُضحِك المغتاظ وأتى بأنواع السخرية، فلم يضحك أمير المؤمنين ولم يتبسَّم، فتعجب ابن القاربي منه وضجر وخاف، فقال له أمير المؤمنين: الآن استحققْتَ الضرب. ثم أخذ الجراب وضربه مرةً، وكان فيه أربع زلطات، كل زلطة زنتها رطلان، فوقعت الضربة في رقبته فصرخ صرخة عظيمة، وتذكَّرَ الشرطَ الذي بينه وبين مسرور، فقال: العفو يا أمير المؤمنين، اسمع مني كلمتين. قال له: قُلْ ما بَدَا لك. فقال: إن مسرور أشرط عليَّ شرطًا واتفقت معه عليه، وهو أن ما حصل لي من إنعام أمير المؤمنين، يكون لي منه الثلث وله الثلثان، وما أجابني إلى ذلك إلا بعد جهد عظيم، فالآن لم تُنعِم عليَّ إلا بالضرب، وهذه الضربة نصيبي والضربتان الباقيتان نصيبه، فأنا قد أخذتُ نصيبي، وها هو واقف يا أمير المؤمنين، فادفع له نصيبَه. فلما سمع أمير المؤمنين كلامه ضحك حتى استلقى على قفاه، ودعا بمسرور فضربه ضربة فصاح وقال: يا أمير المؤمنين، يكفيني الثلث وأَعْطِه الثلثين. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

 

 

 

السابق                                                                     التــــالي←

 

 

Read our comment Policy to know your rights & responsibilities before actually leaving a comment for this article.

Post a Comment (0)