kurd-partuk

الليالي من--(301 ← 350)

﴿اللیلة 301

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أبا محمد الكسلان قال للخليفة: يا أمير المؤمنين اسمع حديثي؛ فإنه عجيب وأمره غريب، لو كُتِب بالإبر على آماق البصر لَكان عبرةً لمَن اعتبر. فقال الرشيد: حدِّث بما عندك، وأخبرني به يا أبا محمد. فقال: اعلم يا أمير المؤمنين أدام الله لك العز والتمكُّن، من أخبار الناس بأني أُعرَف بالكسلان، وأن أبي لم يخلف لي مالًا صدق؛ لأن أبي لم يكن إلا كما ذكرت، فإنه كان حجَّامًا في حمام، وكنتُ أنا في صغري أكسل مَن يوجد على وجه الأرض، وبلغ من كسلي أني إذا كنتُ نائمًا في أيام الحر وطلعت عليَّ الشمس، أكسل عن أن أقوم وأنتقل من الشمس إلى الظل، وأقمت على ذلك خمسة عشر عامًا، ثم إن أبي توفي إلى رحمة الله تعالى، ولم يخلف لي شيئًا، وكانت أمي تخدم الناس وتطعمني وتسقيني وأنا راقد على جنبي. فاتفق أن أمي دخلت عليَّ في بعض الأيام ومعها خمسة دراهم من الفضة، وقالت لي: يا ولدي، بلغني أن الشيخ أبا المظفر عزم على أن يسافر إلى الصين. وكان ذلك الشيخ يحب الفقراء، وهو من أهل الخير، فقالت أمي: يا ولدي، خذ هذه الخمسة دراهم وامضِ بنا إليه، ونسأله أن يشتري لك بها شيئًا من بلاد الصين، لعله يحصل لك فيه ربح من فضل الله تعالى. فكسلت عن القيام معها، فأقسمَتْ بالله إنْ لَمْ أَقُمْ معها إنها لا تُطعِمني ولا تسقيني ولا تدخل عليَّ، بل تتركني أموت جوعًا وعطشًا.

فلما سمعت كلامها يا أمير المؤمنين علمت أنها تفعل ذلك لما تعلم من كسلي، فقلت لها: أقعديني. فأقعدتني وأنا باكي العين، وقلت: ائتيني بمداسي. فأتتني به، فقلت: ضعيه في رجليَّ. فوضعته فيهما، فقلت لها: احمليني حتى ترفعيني عن الأرض. ففعلَتْ ذلك، فقلت: اسنديني حتى أمشي. فصارت تسندني، وما زلت أمشي وأتعثر في أذيالي إلى أن وصلنا إلى ساحل البحر، فسلمنا على الشيخ، وقلت له: يا عم أنت أبو المظفر؟ قال: لبيك. قلت: خذ هذه الدراهم، واشترِ بها لي شيئًا من بلاد الصين، عسى الله أن يربحني فيه. فقال الشيخ أبو المظفر لأصحابه: أتعرفون هذا الشاب؟ قالوا: نعم، هذا يُعرَف بأبي محمد الكسلان، وما رأيناه قطُّ خرج من داره إلا في هذا الوقت. فقال الشيخ أبو المظفر: يا ولدي، هات الدراهم على بركة الله تعالى. ثم أخذ مني الدراهم وقال: باسم الله. ثم رجعت مع أمي إلى البيت، وتوجَّه الشيخ أبو المظفر إلى السفر، ومعه جماعة من التجار، ولم يزالوا مسافرين حتى وصلوا إلى بلاد الصين، ثم إن الشيخ باع واشترى، وبعد ذلك توجَّه إلى الرجوع هو ومَن معه بعد قضاء أغراضهم، وساروا في البحر ثلاثة أيام، فقال الشيخ لأصحابه: قفوا بالمركب. فقال التجار: ما حاجتك؟ فقال: اعلموا أن الرسالة التي معي لأبي محمد الكسلان نسيتها، فارجعوا بنا حتى نشتري له بها شيئًا ينتفع به. فقالوا له: سألناك بالله تعالى ألَّا تردنا؛ فإننا قطعنا مسافة طويلة زائدة، وحصل لنا في ذلك أهوال عظيمة ومشقة زائدة. فقال: لا بد لنا من الرجوع. فقالوا: خذ منا أضعاف ربح الخمسة دراهم ولا تردَّنا. فسمع منهم، وجمعوا له مالًا جزيلًا، ثم ساروا حتى أشرفوا على جزيرة فيها خلق كثير فأرسوا عليها، وطلع التجار يشترون منها متجرًا من معادن وجواهر ولؤلؤ وغير ذلك.

ثم رأى أبو المظفر رجلًا جالسًا وبين يديه قرود كثيرة، وبينهم قرد منتوف الشعر، وكانت تلك القرود كلما غفل صاحبهم يمسكون ذلك القرد المنتوف ويضربونه ويرمونه على صاحبهم، فيقوم ويضربهم ويقيِّدهم ويعذبهم على ذلك، فتغتاظ القرود كلها من ذلك القرد ويضربونه، ثم إن الشيخ أبا المظفر لما رأى ذلك القرد حزن عليه ورفق به، فقال لصاحبه: أتبيعني هذا القرد؟ قال: اشترِ. قال: إن معي لصبي يتيم خمسة دراهم، هل تبيعني إياه بها؟ قال له: بعتك، بارك الله لك فيه. ثم تسلَّمَه وأقبضه الدراهم، وأخذ القرد عبيد الشيخ وربطوه في المركب، ثم حلوا وسافروا إلى جزيرة أخرى فأرسوا عليها، فنزل الغطاسون الذين يغطسون على المعادن واللؤلؤ والجوهر وغير ذلك، فأعطاهم التجار دراهم أجرة على الغطاس فغطسوا، فرآهم القرد يفعلون ذلك فحلَّ نفسه من رباطه ونطَّ من المركب وغطس معهم، فقال أبو المظفر: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، قد عدم القرد منَّا بخت هذا المسكين الذي أخذناه له. ويئسوا من القرد، ثم طلع جماعة من الغطاسين، وإذا بالقرد طلع معهم، وفي يديه نفائس الجواهر، فرماها بين يدي أبي المظفر، فتعجَّبَ من ذلك وقال: إن هذا القرد فيه سر عظيم. ثم حلوا وسافروا إلى أن وصلوا جزيرةً تُسمَّى جزيرة الزنوج، وهم قوم من السودان يأكلون لحم بني آدم، ورآهم السودان فركبوا عليهم في القوارب وأتوا إليهم، وأخذوا كلَّ مَن في المركب، وكتفوهم وأتوا بهم إلى الملك، فأمرهم بذبح جماعة من التجار، فذبحوهم وأكلوا لحومهم، ثم إن بقية التجار باتوا محبوسين وهم في نكد عظيم، فلما كان وقت الليل قام القرد إلى أبي المظفر وحلَّ قيده، فلما رأى التجار أبا المظفر قد انحلَّ قالوا: عسى الله أن يكون خلاصنا على يدَيْك يا أبا المظفر. فقال لهم: اعلموا أنه ما خلَّصني بإرادة الله تعالى إلَّا هذا القرد. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 302

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن أبا المظفر قال: ما خلَّصني بإرادة الله تعالى إلا هذا القرد، وقد خرجت له عن ألف دينار. فقال التجار: نحن كذلك، كل واحد منَّا خرج له عن ألف دينار إن خلَّصنا. فقام القرد إليهم وصار يحل واحدًا بعد واحد حتى حلَّ الجميع من قيودهم، وذهبوا إلى المركب وطلعوا عليها، فوجدوها سالمة ولم ينقص منها شيء، ثم حلُّوا وسافروا، فقال أبو المظفر: يا تجار، أوفوا بالذي قلتم عليه للقرد. فقالوا: سمعًا وطاعة. ودفع له كل واحد منهم ألف دينار، وأخرج أبو المظفر من ماله ألف دينار؛ فاجتمع للقرد من المال شيء عظيم، ثم سافروا حتى وصلوا إلى مدينة البصرة فتلقَّاهم أصحابهم حين طلعوا من المركب، فقال أبو المظفر: أين أبو محمد الكسلان؟ فبلغ الخبر إلى أمي، فبينما أنا نائم إذ أقبلت عليَّ أمي وقالت: يا ولدي، إن الشيخ أبا المظفر قد أتى ووصل إلى المدينة، فقم وتوجَّه إليه وسلِّم عليه، واسأله عن الذي جاء به لك، فلعل الله تعالى يكون قد فتح عليك بشيء. فقلت لها: احمليني عن الأرض، واسنديني حتى أخرج وأمشي إلى ساحل البحر. ثم مشيت وأنا أتعثر في أذيالي حتى وصلت إلى الشيخ أبي المظفر، فلما رآني قال لي: أهلًا بمَن كانت دراهمه سببًا لخلاصي وخلاص هؤلاء التجار بإرادة الله تعالى. ثم قال لي: خذ هذا القرد فإني اشتريته لك، وامضِ به إلى بيتك حتى أجيء إليك. فأخذت القرد بين يدي ومضيت، وقلت في نفسي: والله ما هذا إلَّا متجر عظيم. ثم دخلت بيتي وقلت لأمي: كلما أنام تأمريني بالقيام لأتَّجر، فانظري بعينك هذا المتجر. ثم جلستُ.

فبينما أنا جالس، وإذا بعبيد أبي المظفر قد أقبلوا عليَّ وقالوا لي: هل أنت أبو محمد الكسلان؟ فقلت لهم: نعم. وإذا بأبي المظفر أقبل خلفهم، فقمت إليه وقبَّلت يديه، فقال لي: سِرْ معي إلى داري. فقلت: سمعًا وطاعة. وسرت معه إلى أن دخلت الدار، فأمر عبيده أن يحضروا بالمال، فحضروا به، فقال: يا ولدي، لقد فتح الله عليك بهذا المال من ربح الخمسة دراهم. ثم حملوه في صناديق على رءوسهم، وأعطاني مفاتيح تلك الصناديق، وقال لي: امضِ قدَّام العبيد إلى دارك فإن هذا المال كله لك. فمضيت إلى أمي ففرحت بذلك، وقالت: يا ولدي، لقد فتح الله عليك بهذا المال الكثير، فدع عنك هذا الكسل، وانزل السوق، وبِعْ واشترِ. فتركت الكسل وفتحت دكانًا في السوق، وصار القرد يجلس معي على مرتبتي، فإذا أكلت يأكل معي، وإذا شربت يشرب معي، وصار كل يوم من بكرة النهار يغيب إلى وقت الظهر، ثم يأتي ومعه كيس فيه ألف دينار فيضعه في جانبي ويجلس، ولم يزل على هذه الحالة مدة من الزمان حتى اجتمع عندي مال كثير؛ فاشتريت يا أمير المؤمنين الأملاك والربوع، وغرست البساتين، واشتريت المماليك والعبيد والجواري. فاتفق في بعض الأيام أنني كنت جالسًا والقرد جالس معي على المرتبة، وإذا به التفت يمينًا وشمالًا، فقلت في نفسي: أي شيء خبر هذا؟ فأنطق الله القرد بلسان فصيح، وقال: يا أبا محمد. فلما سمعت كلامه فزعت فزعًا شديدًا، فقال لي: لا تفزع، أنا أخبرك بحالي، إني مارد من الجن، ولكن جئتُك بسبب ضعف حالك، وأنت اليوم لا تدري قدر مالك، وقد وقعت لي عندك حاجة، وهي خير لك. فقلت: ما هي؟ قال: أريد أن أزوجك بصبية مثل البدر. فقلت له: وكيف ذلك؟ فقال لي: في غد البس قماشك الفاخر، واركب بغلتك بالسرج الذهب، وامضِ إلى سوق العلَّافين، واسأل عن دكان الشريف، واجلس عنده وقل له: إني جئتك خاطبًا راغبًا في ابنتك. فإن قال لك: أنت ليس لك مال ولا حسب ولا نسب. فادفع له ألف دينار، فإن قال لك: زدني. فزده ورغِّبه في المال. فقلت: سمعًا وطاعة، في غد أفعل ذلك إن شاء الله تعالى. قال أبو محمد: فلما أصبحت لبست أفخر قماشي، وركبت البغلة بالسرج الذهب، ثم مضيت إلى سوق العلافين وسألت عن دكان الشريف، فوجدته جالسًا في دكانه، فنزلت وسلَّمت عليه وجلست عنده. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 303

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن أبا محمد الكسلان قال: فنزلت وسلَّمت عليه وجلست عنده، وكان معي عشرة من العبيد والمماليك، فقال الشريف: لعل لك عندنا حاجة نفوز بقضائها. فقلت: نعم، لي عندك حاجة. قال: وما حاجتك؟ فقلت: جئتك خاطبًا راغبًا في ابنتك. فقال لي: أنت ليس لك مال ولا حسب ولا نسب. فأخرجت له كيسًا فيه ألف دينار ذهبًا أحمر، وقلت له: هذا حسبي ونسبي، وقد قال ﷺ » نِعم الحسب المال ». وما أحسن قول مَن قال:

مَنْ كَانَ يَمْلُكُ دِرْهَمَيْنِ تَعَلَّمَتْ        شَفَتَاهُ أَنْوَاعَ الْكَلَامِ فَقَالَا

وَتَقَدَّمَ الْإِخْوَانُ فَاسْتَمَعُوا لَهُ        وَرَأَيْتَهُ بَيْنَ الْوَرَى مُخْتَالَا

لَوْلَا دَرَاهِمُهُ الَّتِي يَزْهُو بِهَا        لَوَجَدْتَهُ فِي النَّاسِ أَسْوَأَ حَالَا

إِنَّ الْغَنِيَّ إِذَا تَكَلَّمَ بِالْخَطَا        قَالُوا صَدَقْتَ وَمَا نَطَقْتَ مُحَالَا

أَمَّا الْفَقِيرُ إِذَا تَكَلَّمَ صَادِقًا        قَالُوا كَذَبْتَ وَأَبْطَلُوا مَا قَالَا

إِنَّ الدَّرَاهِمَ فِي الْمَوَاطِنِ كُلِّهَا        تَكْسُو الرِّجَالَ مَهَابَةً وَجَمَالَا

فَهْيَ اللِّسَانُ لِمَنْ أَرَادَ فَصَاحَةً        وَهْيَ السِّلَاحُ لِمَنْ أَرَادَ قِتَالَا

فلما سمع الشريف مني هذا الكلام، وفهم الشعر والنظام، أطرق برأسه إلى الأرض ساعة، ثم رفع رأسه وقال لي: إن كان ولا بد فإني أريد منك ثلاثة آلاف دينار أخرى. فقلت: سمعًا وطاعة. ثم أرسلت بعض المماليك إلى منزلي، فجاء لي بالمال الذي طلبه، فلما رأى ذلك وصل إليه، قام من الدكان وقال لغلمانه: اقفلوها. ثم دعا أصحابه من السوق إلى داره، وكتب كتابي على بنته، وقال لي: بعد عشرة أيام أدخلك عليها. ثم مضيت إلى منزلي وأنا فرحان، فخلوت مع القرد وأخبرته بما جرى لي، فقال: نِعم ما فعلت. فلما قرب ميعاد الشريف، قال لي القرد: إن لي عندك حاجة إن قضيتها لي فلك عندي ما شئتَ. قلت: وما حاجتك؟ قال لي: إن في صدر القاعة التي تدخل فيها على بنت الشريف خزانة، وعلى بابها حلقة من نحاس، والمفاتيح تحت الحلقة، فخذها وافتح الباب تجد صندوقًا من حديد على أركانه أربع رايات من الطلسم، وفي وسط ذلك طشت ملآن من المال، وفي جانبه إحدى عشرة حية، وفي الطشت ديك أفرق أبيض مربوط، وهناك سكين بجنب الصندوق، فخذ السكين واذبح بها الديك، واقطع الرايات وكُب الصندوق، وبعد ذلك اخرج للعروسة وأَزِلْ بكارتها، فهذه حاجتي عندك. فقلت له: سمعًا وطاعة. ثم مضيت إلى دار الشريف فدخلت القاعة، ونظرت إلى الخزانة التي وصفها لي القرد، فلما خلوت بالعروسة تعجَّبْتُ من حُسْنها وجمالها، وقدِّها واعتدالها؛ لأنها لا تستطيع الألسن أن تصف حسنها وجمالها، ثم فرحت بها فرحًا شديدًا.

فلما كان نصف الليل ونامت العروسة، قمت أخذت المفاتيح وفتحت الخزانة، وأخذت السكين وذبحت الديك، ورميت الرايات وقلبت الصندوق، فاستيقظت الصبية فرأت الخزانة قد فُتِحت، والديك قد ذُبِح، فقالت: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، قد أخذني المارد. فما استتمَّتْ كلامها إلا وقد أحاط المارد بالدار وخطف العروسة، فعند ذلك وقعت الضجة، وإذا بالشريف قد أقبل وهو يلطم على وجهه، وقال: يا أبا محمد، ما هذا الفعل الذي فعلتَه معنا؟ هل هذا جزاؤنا منك؟ وأنا قد عملت هذا الطلسم في هذه الخزنة خوفًا على بنتي من هذا الملعون، فإنه كان يقصد أخذ هذه الصبية من منذ ست سنين، ولا يقدر على ذلك، ولكن ما بقي لك عندنا مقام، فامضِ إلى حال سبيلك. فخرجت من دار الشريف وجئت إلى داري، وفتَّشت على القرد فلم أجده، ولم أرَ له أثرًا؛ فعلمت أنه هو المارد الذي أخذ زوجتي، وتحيَّلَ عليَّ حتى فعلتُ ذلك بالطلسم والديك اللذين كانَا يمنعانه من أخذها، فندمتُ وقطَّعت أثوابي، ولطمت على وجهي، ولم تسعني الأرض؛ فخرجت من ساعتي وقصدت البرية، ولم أزل سائرًا إلى أن أمسى عليَّ المساء ولا أعلم أين أروح. فبينما أنا مشغول الفكر، إذ أقبل عليَّ حيَّتان؛ واحدة سمراء والأخرى بيضاء، وهما يتقاتلان، فأخذت حجرًا من الأرض، وضربت به الحية السمراء فقتلتُها؛ فإنها كانت باغية على البيضاء، ثم ذهبت الحية البيضاء فغابت ساعة، وعادت ومعها عشر حيَّات بيض، فجاءوا إلى الحية التي ماتت وقطَّعوها قطعًا حتى لم يَبْقَ إلا رأسها، ثم مضوا إلى حال سبيلهم، واضطجعت في مكاني من التعب. فبينما أنا مضطجع متفكِّر في أمري، وإذا أنا بهاتف أسمع صوته، ولم أرَ شخصه وهو يقول هذين البيتين:

دَعِ الْمَقَادِيرَ تَجْرِي فِي أَعِنَّتِهَا        وَلَا تَبِيتَنَّ إِلَّا خَالِيَ الْبَالِ

مَا بَيْنَ طَرْفَةِ عَيْنٍ وَانْتِبَاهَتِهَا        يُغَيِّرُ اللهُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالِ

فلما سمعتُ ذلك لحقني - يا أمير المؤمنين - أمرٌ شديد، وفِكْر ما عليه من مزيد، وإذا بصوت من خلفي أسمعه ينشد هذين البيتين:

يَا مُسْلِمًا أَمَامَهُ الْقُرْآنُ        أَبْشِرْ بِهِ قَدْ جَاءَكَ الْأَمَانُ

وَلَا تَخَفْ مَا سَوَّلَ الشَّيْطَانُ        فَنَحْنُ قَوْمٌ دِينُنَا الْإِيمَانُ

فقلت له: بحق معبودك أن تعرِّفني مَن أنت؟ فانقلب ذلك الهاتف في صورة إنسان وقال لي: لا تَخَفْ، فإن جميلك قد وصل إلينا، ونحن قوم من جن المؤمنين، فإن كان لك حاجة فأخبرنا بها حتى نفوز بقضائها. فقلت له: إن لي حاجة عظيمة؛ لأني أُصِبت بمصيبة جسيمة، ومَن الذي حصل له مثل مصيبتي؟ فقال لي: لعلك أبو محمد الكسلان. فقلت: نعم. فقال: يا أبا محمد، أنا أخو الحية البيضاء التي قتلتَ أنت عدوَّها، ونحن أربع إخوة من أب وأم، وكلنا شاكرون لفضلك، واعلم أن الذي كان على صورة القرد وفعل معك المكيدة مارد من مَرَدَة الجن، ولولا أنه تحيَّلَ بهذه الحيلة ما كان يقدر على أخذها أبدًا؛ لأن له مدة طويلة وهو يريد أخذها فيمنعه من ذلك هذا الطلسم، ولو بقي ذلك الطلسم ما كان يمكنه الوصول إليها، ولكن لا تجزع من هذا الأمر، فنحن نوصِّلك إليها، ونقتل المارد؛ فإن جميلك لا يضيع عندنا. ثم إنه صاح صيحة عظيمة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 304

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن العفريت قال: فإنَّ جميلك لا يضيع عندنا. ثم إنه صاح صيحة عظيمة بصوت هائل، وإذا بجماعة قد أقبلوا عليه، فسألهم عن القرد، فقال واحد منهم: أنا أعرف مستقرَّه. قال: أين مستقرُّه؟ قال: في مدينة النحاس التي لا تطلع عليها الشمس. فقال: يا أبا محمد، خذ عبدًا من عبيدنا وهو يحملك على ظهره ويعلمك كيف تأخذ الصبية، واعلم أن ذلك العبد مارد من المردة، فإذا حملك لا تذكر اسم الله وهو حاملك؛ فإنه يهرب منك فتقع وتهلك. فقلت: سمعًا وطاعة. وأخذت عبدًا من عبيدهم فانحنى وقال: اركب. فركبت، ثم طار بي في الجو حتى غاب عن الدنيا، ورأيت النجوم كالجبال الرواسي، وسمعت تسبيح الملائكة في السماء؛ كل هذا والمارد يحدِّثني ويفرِّجني ويلهيني عن ذكر الله تعالى.

فبينما أنا كذلك، وإذا بشخص عليه لباس أخضر، وله ذوائب شعر ووجه منير، وفي يده حربة يطير منها الشرر قد أقبل عليَّ وقال لي: يا أبا محمد، قل لا إله إلا الله محمد رسول الله، وإلا ضربتك بهذه الحربة. وكانت مهجتي قد تقطَّعت من سكوتي عن ذِكْر الله تعالى، فقلت: لا إله إلا الله محمد رسول الله. ثم إن ذلك الشخص ضرب المارد بالحربة فذاب وصار رمادًا، وسقطتُ من فوق ظهره، فصرت أهوي إلى الأرض حتى وقعت في بحرٍ عجاج متلاطم بالأمواج، وإذا بسفينة فيها خمسة أشخاص بحرية، فلما رأوني أتوا إليَّ وحملوني إلى السفينة، وجعلوا يكلمونني بكلام لا أعرفه، فأشرت لهم أني لا أعرف كلامهم، فساروا إلى آخر النهار، ثم رموا شبكة واصطادوا حوتًا، وشووه وأطعموني، ولم يزالوا سائرين حتى وصلوا بي إلى مدينتهم، فدخلوا بي إلى ملكهم وأوقفوني بين يدَيْه، فقبَّلت الأرض فخلع عليَّ، وكان ذلك الملك يعرف العربية، فقال: قد جعلتُكَ من أعواني. فقلتُ له: ما اسم هذه المدينة؟ قال: اسمها هناد، وهي من بلاد الصين. ثم إن الملك سلَّمني إلى وزير المدينة، وأمره أن يفرِّجني في المدينة، وكان أهل تلك المدينة في الزمن الأول كفارًا، فمسخهم الله تعالى حجارة، فتفرجت فيها ولم أرَ أكثر من أشجارها وأثمارها. فأقمت فيها مدة شهر ثم أتيت إلى نهر، وجلست على شاطئه، فبينما أنا جالس وإذا بفارس قد أتى وقال: هل أنت أبو محمد الكسلان؟ فقلت له: نعم. قال: لا تخف فإن جميلك وصل إلينا. فقلت له: مَن أنت؟ قال: أنا أخو الحيَّة، وأنت قريب من مكان الصبية التي تريد الوصول إليها. ثم خلع أثوابه وألبسني إياها، وقال لي: لا تخف؛ فإن العبد الذي هلك من تحتك بعض عبيدنا. ثم إن ذلك الفارس أردفني خلفه، وسار بي إلى برية، وقال: انزل من خلفي، وسر بين هذين الجبلين حتى ترى مدينة النحاس، فقف بعيدًا عنها ولا تدخلها حتى أعود إليك وأقول لك كيف تصنع. فقلت له: سمعًا وطاعة. ونزلت من خلفه ومشيت حتى وصلت إلى المدينة، فرأيت سورها من نحاس، فجعلت أدور حولها لعلي أجد لها بابًا فما وجدت لها.

فبينما أنا أدور حولها، وإذا بأخي الحية قد أقبل عليَّ، وأعطاني سيفًا مطلسمًا حتى لا يراني أحد، ثم إنه مضى إلى حال سبيله، فلم يغب عني إلا قليلًا، وإذا بصياح قد علا، ورأيت خلقًا كثيرًا وأعينهم في صدورهم، فلما رأوني قالوا: مَن أنت؟ وما الذي رماك في هذا المكان؟ فأخبرتهم بالواقعة فقالوا: إن الصبية التي ذكرتها مع المارد في هذه المدينة، وما ندري ما فعل بها، ونحن إخوة الحية. ثم قالوا: امضِ إلى تلك العين وانظر من أين يدخل الماء وادخل معه؛ فإنه يوصلك إلى المدينة. ففعلت ذلك ودخلت مع الماء في سرداب تحت الأرض، ثم طلعت منه فرأيت نفسي في وسط المدينة، ووجدت الصبيَّة جالسةً على سريرٍ من ذهب، وعليها ستارة من ديباج، وحول الستارة بستان فيه أشجار من الذهب، وأثمارها من نفيس الجواهر كالياقوت والزبرجد واللؤلؤ والمرجان، فلما رأتني تلك الصبية عرفتني، وابتدأتني بالسلام، وقالت لي: يا سيدي، مَن أوصلك إلى هذا المكان؟ فأخبرتها بما جرى، فقالت: اعلم أن هذا الملعون من كثرة محبته لي أعلمني بالذي يضره والذي ينفعه، وأعلمني أن في هذه المدينة طلسمًا إنْ شاء هلاك جميع مَن في المدينة أهلكهم به، ومهما أمر العفاريت فإنهم يمتثلون أمره، وذلك الطلسم في عمود. فقلت لها: وأين العمود؟ فقالت: في المكان الفلاني. فقلت: وأي شيء يكون ذلك الطلسم؟ قالت: هو صورة عُقاب، وعليه كتابة لا أعرفها، فخذه بين يديك، وخذ مجمرة نار وارمِ فيه شيئًا من المسك، فيطلع دخان يجذب العفاريت، فإذا فعلت ذلك فإنهم يحضرون بين يديك كلهم، ولا يغيب منهم أحد، ويمتثلون أمرك، ومهما أمرتهم به فإنهم يفعلونه، فقُمْ وافعل ذلك على بركة الله تعالى. فقلت لها: سمعًا وطاعة. ثم قمت وذهبت إلى ذلك العمود، وفعلت جميع ما أمرتني به؛ فجاءت العفاريت وحضرت بين يدي، وقالوا: لبيك يا سيدي، فمهما أمرتنا به فعلناه. فقلت لهم: قيِّدوا المارد الذي جاء بهذه الصبية من مكانها. فقالوا: سمعًا وطاعة. ثم ذهبوا إلى ذلك المارد وقيَّدوه وشدُّوا وثاقه ورجعوا إليَّ وقالوا: قد فعلنا ما أمرتنا به. فأمرتهم بالرجوع، ثم رجعت إلى الصبية وأخبرتها بما حصل، ثم قلت: يا زوجتي، هل تروحين معي؟ فقالت: نعم. ثم إني طلعت بها من السرداب الذي دخلت منه، وسرنا حتى وصلنا إلى القوم الذي كانوا دلُّوني. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 305

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أنه قال: وسرنا حتى وصلنا إلى القوم الذين كانوا دلُّوني عليها، ثم قلت: دلوني على طريق توصلني إلى بلادي. فدلوني ومشوا معي إلى ساحل البحر، وأنزلوني في مركب، وطاب لنا الريح وسار بنا ذلك المركب حتى وصلنا إلى مدينة البصرة، فلما دخلت الصبية دار أبيها رآها أهلها ففرحوا بها فرحًا شديدًا. ثم إني بخَّرت العقاب بالمسك، وإذا بالعفاريت قد أقبلوا عليَّ من كل مكان، وقالوا: لبيك، فما تريد أن نفعل؟ فأمرتهم أن ينقلوا كل ما في مدينة النحاس من المال والمعادن والجواهر إلى داري التي في البصرة، ففعلوا ذلك، ثم أمرتهم أن يأتوا بالقرد، فأتوا به ذليلًا حقيرًا، فقلت له: يا ملعون، لأي شيء غدرتَ بي؟ ثم أمرتهم أن يدخلوه في قمقم من نحاس، فأدخلوه في قمقم ضيِّق من نحاس، وسدوا عليه بالرصاص، وأقمت أنا وزوجتي في هناء وسرور، وعندي الآن يا أمير المؤمنين من نفائس الذخائر وغرائب الجواهر وكثير الأموال، ما لا يحيط به عدٌّ ولا يحصره حدٌّ، وإذا طلبتَ شيئًا من المال أو غيره أمرت الجن أن يأتوا لك به في الحال، وكل ذلك من فضل الله تعالى. فتعجَّبَ أمير المؤمنين من ذلك غاية العجب، ثم أعطاه من مواهب الخلافة عوضًا عن هديته، وأنعم عليه إنعامًا بما يليق به.

 

حكاية يحيى بن خالد

ومما يُحكَى أن هارون الرشيد استدعى رجلًا من أعوانه يقال له صالح، قبل الوقت الذي تغير فيه على البرامكة، فلما حضر بين يديه قال له: يا صالح، سِرْ إلى منصور وقل له: إن لنا عندك ألف ألف درهم، والرأي قد اقتضى أنك تحمل لنا هذا المبلغ في هذه الساعة، وقد أمرتك يا صالح أنه إن لم يحصل لك ذلك المبلغ من هذه الساعة إلى قبل المغرب، أن تزيل رأسه عن جسده وتأتيني به. فقال صالح: سمعًا وطاعة. ثم سار إلى منصور وأخبره بما ذكره أمير المؤمنين، فقال منصور: قد هلكتُ والله، فإن جميع متعلقاتي وما تملكه يدي إذا بيعت بأغلى قيمة لا يزيد ثمنها على مائة ألف، فمن أين أقدر يا صالح على التسعمائة ألف درهم الباقية؟ فقال له صالح: دبِّرْ لك حيلة تتخلَّص بها عاجلًا وإلا هلكتَ، فإني لا أقدر أن أتمهَّل عليك لحظة بعد المدة التي عيَّنَها لي الخليفة، ولا أقدر أن أخلَّ بشيء مما أمرني به أمير المؤمنين، فأَسْرِعْ بحيلة تخلص بها نفسك قبل أن تنصرم الأوقات. فقال منصور: يا صالح، أسألك من فضلك أن تحملني إلى بيتي لأودِّع أولادي وأهلي وأوصي أقاربي. قال صالح: فمضيت معه إلى بيته، فجعل يودِّع أهله وارتفع الضجيج في منزله وعلا البكاء والصياح والاستغاثة بالله تعالى، فقال صالح: قد خطر ببالي أن الله يجعل لك الفرج على يد البرامكة، فأذهب بنا إلى دار يحيى بن خالد.

فلما ذهبَا إلى يحيى بن خالد أخبره بحاله، فاغتمَّ لذلك وأطرق إلى الأرض ساعة، ثم رفع رأسه واستدعى خازن داره وقال له: كم في خزنتنا من الدراهم؟ فقال له: مقدار خمسة آلاف درهم. فأمر بإحضارها، ثم أرسل رسولًا إلى ولده الفضل برسالة مضمونها: «إنه قد عرض عليَّ للبيع جليلة لا تخرب أبدًا، فأرسِلْ لنا شيئًا من الدراهم». فأرسل إليه ألف درهم، ثم أرسل إنسانًا آخر إلى ولده جعفر برسالة مضمونها: «إنه حصل لنا شغل مهم ونحتاج فيه إلى شيء من الدراهم». فأنفذ له جعفر في الحال ألف ألف درهم، ولم يزل يحيى يرسل إلى البرامكة حتى جمع منهم لمنصور مالًا كثيرًا، وصالح ومنصور لا يعلمان هذا، فقال منصور ليحيى: يا مولاي، قد تمسكت بذلك وما أعرف هذا المال إلا منك كما هو عادة كرمك، فتمِّمْ لي بقية ديني واجعلني عتيقك. فأطرق يحيى وبكى وقال: يا غلام، إن أمير المؤمنين قد كان وهب لجاريتنا «دنانير» جوهرةً عظيمة القيمة، فاذهب إليها وقل لها ترسل لنا هذه الجوهرة. فمضى الغلام وأتى بها إليه فقال: يا صالح، أنا ابتعت هذه الجوهرة لأمير المؤمنين من التجار بمائتَيْ ألف دينار، ووهبها أمير المؤمنين لجاريتنا دنانير العوادة، وإذا رآها معك عرفها وأكرمك وحقن دمك من أجلنا إكرامًا لنا، وقد تمَّ الآن مالُكَ يا منصور. قال صالح: فحملت المال والجوهرة إلى الرشيد ومنصور معي، فبينما نحن في الطريق إذ سمعته يتمثَّل بهذا البيت:

وَمَا حُبًّا سَعَتْ قَدَمِي إِلَيْهِمْ        وَلَكِنْ خِفْتُ مِنْ ضَرْبِ النِّبَالِ

فعجبت من سوء طبعه ورداءته وفساده وخبث أصله وميلاده، ورددتُ عليه وقلت له: ما على وجه الأرض خير من البرامكة، ولا أخبث ولا أشر منك، فإنهم اشتروك من الموت، وأنقذوك من الهلاك، ومنوا عليك بالفكاك، ولم تشكرهم ولم تحمدهم ولم تفعل فعل الأحرار، بل قابلتَ إحسانهم بهذا المقال. ثم مضيت إلى الرشيد وقصصتُ عليه القصة وأخبرته بجميع ما جرى. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 306

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن صالحًا قال: فقصصت القصة على أمير المؤمنين وأخبرته بجميع ما جرى، فتعجَّبَ الرشيد من كرم يحيى وسخائه ومروءته وخساسة منصور ورداءته، وأمر أن تُرَدَّ الجوهرة إلى يحيى بن خالد وقال: كل شيء قد وهبناه لا يجوز أن نعود فيه. وعاد صالح إلى يحيى بن خالد وذكر له قصة منصور وسوء فعله، فقال يحيى: يا صالح، إذا كان الإنسان مثلًا ضيق الصدر مشغول الفكر، فمهما صدر منه لا يُؤاخَذ به؛ لأنه ليس ناشئًا عن قلبه. وصار يتطلَّب العذر لمنصور، فبكى صالح وقال: لا يجري الفلك الدائر بإبراز رجل إلى الوجود مثلك، فوا أسفَا! كيف يتوارى مَن له خُلُقٌ مثل خُلُقك، وكرمٌ مثل كرمك تحت التراب! وأنشد هذين البيتين:

بَادِرْ إِلَى أَيِّ مَعْرُوفٍ هَمَمْتَ بِهِ        فَلَيْسَ فِي كُلِّ وَقْتٍ يُمْكِنُ الْكَرَمُ

كَمْ مَانِعٍ نَفْسَهُ إِمْضَاءَ مَكْرُمَةٍ        عِنْدَ التَّمَكُّنِ حَتَّى عَاقَهُ الْعَدَمُ

 

حكاية المزور

ومما يُحكَى أنه كان بين يحيى بن خالد وبين عبد الله بن مالك الخزاعي عداوة في السر ما كانا يظهرانها، وسبب العداوة بينهما أن أمير المؤمنين هارون الرشيد كان يحب عبد الله بن مالك محبة عظيمة، بحيث إن يحيى بن خالد وأولاده كانوا يقولون: إن عبد الله يسحر أمير المؤمنين. حتى مضى على ذلك زمان طويل والحقد في قلوبهما، فاتفق أن الرشيد قلَّدَ ولايةَ أرمينية لعبد الله بن مالك الخزاعي وسيَّرَه إليها، فلما استقرَّ في تختها قصده رجل من أهل العراق كان فيه فضل أدب وذكاء وفطنة، إلا أنه ضاق ما بيده وفني ما له واضمحل حاله، فزوَّرَ كتابًا على لسان يحيى بن خالد إلى عبد الله بن مالك وسافَرَ إليه في أرمينية، فلما وصل إلى بابه سلَّمَ الكتابَ إلى بعض حجَّابه، فأخذ الحاجب الكتاب وسلَّمَه إلى عبد الله بن مالك بن الخزاعي، ففتحه وقرأه وتدبَّرَه، فعلم أنه مزوَّر، فأمر بإحضار الرجل، فلما تمثَّلَ بين يدَيْه دعا له وأثنى عليه وعلى أهل مجلسه، فقال له عبد الله بن مالك: ما حملك على بُعْد المشقة ومجيئك إليَّ بكتاب مزوَّر؟ ولكن طِبْ نفسًا فإننا لا نخيِّب سعيك. فقال الرجل: أطال الله بقاء مولانا الوزير، إن كان ثقل عليك وصولي فلا تحتج في منعي بحجة، فإن أرض الله واسعة، والرازق حي، والكتاب الذي أوصلتُه إليك من يحيى بن خالد صحيح غير مزوَّر. فقال عبد الله: أنا أكتب كتابًا لوكيلي ببغداد وآمره فيه أن يسأل عن حال هذا الكتاب الذي أتيتني به، فإن كان ذلك حقًّا صحيحًا غير مزوَّر، قلَّدْتُك إمارةَ بعض بلادي أو أعطيتك مائتَيْ ألف درهم مع الخيل والنجب الجليلة والتشريف إنْ أردتَ العطاء، وإنْ كان الكتابُ مزوَّرًا أمرتُ أن تُضرَب مائتَيْ خشبة وأن تحلق لحيتك. ثم أمر به عبد الله أن يُحمَل إلى حجرة، وأن يُجعَل له فيها ما يحتاج إليه حتى يتحقَّق أمره، ثم كتب كتابًا إلى وكيله ببغداد مضمونه: «إنه قد وصل إليَّ رجل ومعه كتاب يزعم أنه من يحيى بن خالد، وأنا أسيء الظن بهذا الكتاب، فيجب ألَّا تهمل هذا الأمر، بل تمضي بنفسك وتحقق أمر هذا الكتاب، وتُسرِع إليَّ بردِّ الجواب لأجل أن نعلم صدقه من كذبه». فلما وصل إليه الكتاب ببغداد ركب … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 307

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن وكيل عبد الله بن مالك الخزاعي لما وصل إليه الكتاب ببغداد، ركب من ساعته ومضى إلى دار يحيى بن خالد فوجده جالسًا مع ندمائه وخواصه، فسلَّمَ عليه وسلَّمَ إليه الكتاب، فقرأه يحيى بن خالد ثم قال للوكيل: عُدْ إليَّ من الغد حتى أكتب لك الجواب. ثم التفت إلى ندمائه بعد انصراف الوكيل وقال: ما جزاء مَن تحمَّل عني كتابًا مزوَّرًا وذهب به إلى عدوي؟ فقال كل واحد من الندماء مقالًا، وجعل كلُّ واحد منهم يذكر نوعًا من العذاب، فقال لهم يحيى: لقد أخطأتم فيما ذكرتم، وهذا الذي أشرتم به من دناءة الهمم وخستها، وكلكم تعرفون قرب منزلة عبد الله من أمير المؤمنين، وتعلمون ما بيني وبينه من الغضب والعداوة، وقد سبَّبَ الله تعالى هذا الرجل وجعله واسطة في الصلح بيننا ووفَّقَه لذلك، وقيَّدَه ليخمد نار الحقد من قلوبنا، وهي تتزايد من مدة عشرين سنة وتصطلح بواسطته شئوننا، وقد وجب عليَّ أن أَفِي لهذا الرجل بتحقيق ظنونه وإصلاح شئونه، واكتب له كتابًا إلى عبد الله بن مالك الخزاعي مضمونه أنه يزيد في إكرامه ويستمر على أعذاره واحترامه. فلما سمع الندماء ذلك دعوا له بالخيرات، وتعجَّبوا من كرمه ووفور مروءته، ثم إنه طلب الورقة والدواة، وكتب إلى عبد الله بن مالك كتابًا بخط يده مضمونه:

بسم الله الرحمن الرحيم، وصل كتابك - أطال الله بقاءَك - وقرأته وسررت بسلامتك، وابتهجت باستقامتك وشمول سعادتك، وكان ظنك ذلك الرجل الحر زوَّرَ عني كتابًا ولم يحمل مني خطابًا، وليس الأمر كذلك، فإن الكتاب أنا كتبته وليس بمزوَّر ورجائي من إكرامك وإحسانك وحسن شيمتك أن تفي لذلك الرجل الكريم بأمله وأمنيته، وترعى له حقَّ حرمته وتوصله إلى غرضه، وأن تخصَّه منك بغامر الإحسان ووافر الامتنان، ومهما فعلته في حقِّه فأنا المقصود به والشاكر عليه.

ثم عنون الكتاب وختمه وسلَّمَه إلى الوكيل، فأنفذه الوكيل إلى عبد الله، فحين قرأه ابتهج بما حواه وأحضر ذلك الرجل وقال له: أي الأمرين اللذين وعدتك بهما أحبُّ إليك لأحضره لك بين يديك؟ فقال الرجل: العطاء أحبُّ إليَّ من كل شيء. فأمر له بمائتَيْ ألف درهم وعشرة أفراس عربية؛ خمسة منها بالجلال الحرير، وخمسة بسروج المواكب المحلاة، وبعشرين تختًا من الثياب، وعشرة من المماليك ركاب خيل، وما يليق بذلك من الجواهر المثمنة، ثم خلع عليه وأحسن إليه ووجهه إلى بغداد في هيئة عظيمة، فلما وصل إلى بغداد قصد باب دار يحيى بن خالد قبل أن يصل إلى أهله، وطلب الإذن في الدخول عليه، فدخل الحاجب إلى يحيى وقال له: يا مولاي، إن ببابنا رجلًا ظاهرَ الحشمة، جميلَ الخلقة، حَسَنَ الحال، كثير الغلمان، يريد الدخول عليك. فأذن له بالدخول، فلما دخل عليه قبَّلَ الأرض بين يديه، فقال له يحيى: مَن أنت؟ فقال له الرجل: أيها السيد، أنا الذي كنت ميتًا من جور الزمان، فأحييتَني من رمس النوائب، وبعثتني إلى جنة المطالب، أنا الذي زوَّرت كتابًا عنك وأوصلته إلى عبد الله بن مالك الخزاعي. فقال له يحيى: ما الذي فعل معك؟ وأي شيء أعطاك؟ فقال: أعطاني من يدك وجميل طويتك وشمول نِعَمك وعموم كرمك وعلو همتك وواسع فضلك، حتى أغناني وخولني وهاداني، وقد حملت جميع عطيته ومواهبه، وها هي ببابك والأمر إليك والحكم في يديك. فقال له يحيى: إن صنيعك معي أجمل من صنيعي معك، ولك عليَّ المنَّة العظيمة واليد البيضاء الجسيمة؛ حيث بدَّلْتَ العداوة التي كانت بيني وبين ذلك الرجل المحتشم بالصداقة والمودة، فأنا أهب لك من المال مثل ما وهب لك عبد الله بن مالك. ثم أمر له من المال والخيل والتخوت بمثل ما أعطاه عبد الله، فعادت لذلك الرجل نعمته كما كانت بمروءة هذين الكريمين.

 

حكاية المأمون والفقيه الغريب

ورُوِي أن المأمون لم يكن في خلفاء بني العباس خليفة أعلم منه في جميع العلوم، وكان له في كل أسبوع يومان يجلس فيهما لمناظرة العلماء، فيجلس المناظرون من الفقهاء والمتكلمين بحضرته على طبقاتهم ومراتبهم، فبينما هو جالس معهم إذ دخل في مجلسه رجل غريب وعليه ثياب بيض رثَّة، فجلس في آخِر الناس وقعد من وراء الفقهاء في مكان مجهول، فلما ابتدءوا في الكلام وشرعوا في معضلات المسائل، وكان من عادتهم أنهم يديرون المسألة على أهل المجلس واحدًا بعد واحد، فكلُّ مَن وجد زيادة لطيفة أو نكته غريبة ذكرها، فدارت المسألة إلى أن وصلت إلى ذلك الرجل الغريب، فتكلَّمَ وأجاب بجواب أحسن من أجوبة الفقهاء كلهم، فاستحسن الخليفة كلامه … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 308

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الخليفة المأمون استحسن كلامه وأمر أن يرفع ذلك المكان إلى أعلى منه، فلما وصلَتْ إليه المسألةُ الثانية أجاب بجواب أحسن من الجواب الأول، فأمر المأمون أن يُرفَع إلى أعلى من تلك الرتبة، فلما دارت المسألة الثالثة أجاب بجواب أحسن وأصوب من الجوابين الأولين، فأمر المأمون أن يجلس قريبًا منه، فلما انقضت المناظرة، أحضروا الماء وغسلوا أيديهم وأحضروا الطعام فأكلوا، ثم نهض الفقهاء فخرجوا ومنع المأمون ذلك الشخص من الخروج معهم، وأدناه منه ولاطَفَه ووعده بالإحسان إليه والإنعام عليه، ثم تهيَّأ مجلس الشراب وحضر الندماء الملاح ودارت الراح، فلما وصل الدور إلى ذلك الرجل وثَبَ قائمًا على قدميه وقال: إنْ أذن لي أمير المؤمنين تكلَّمْتُ كلمة واحدة. قال له: قل ما تشاء. فقال: قد علم الرأي العالي زاده الله علوًّا أن العبد كان اليومَ في هذا المجلس الشريف من مجاهيل الناس ووضعاء الجلَّاس، وأن أمير المؤمنين قرَّبَه وأدناه بيسيرٍ من العقل الذي أبداه، وجعله مرفوعًا على درجة غيره، وبلغ به الغايةَ التي لم تسمُ إليها همتُه، والآن يريد أن يفرِّق بينه وبين ذلك القدر اليسير من العقل الذي أعَزَّه بعد الذلة، وكثَّرَه بعد القلة، وحاشا وكلا أن يحسده أمير المؤمنين على هذا القدر الذي معه من العقل والنباهة والفضل؛ لأن العبد إذا شرب الشراب تباعَدَ عنه العقل، وقَرُب منه الجهلُ، وسُلِب أدبه، وعاد إلى تلك الدرجة الحقيرة كما كان، وصار في أعين الناس حقيرًا مجهولًا، فأرجو من الرأي العالي أنه لا يسلب منه هذه الجوهرة بفضله وكرمه وسيادته وحُسْن شِيَمه. فلما سمع الخليفة المأمون منه هذا القول، مدحه وشكره وأجلسه في رتبته ووقَّرَه وأمر له بمائة ألف درهم، وحمله على فرس وأعطاه ثيابًا فاخرة، وكان في كل مجلس يرفعه ويقرُّ به على جماعة الفقهاء حتى صار أرفع منهم درجةً وأعلى مرتبةً، والله أعلم.

 

حكاية علي شار وزمرد

وحُكِي أنه كان في قديم الزمان، وسالف العصر والأوان، تاجر من التجار في بلاد خراسان اسمه مجد الدين، وله مال كثير، وعبيد ومماليك وغلمان، إلا أنه بلغ من العمر ستين سنة، ولم يُرزَق ولدًا، وبعد ذلك رزقه الله تعالى ولدًا فسمَّاه عليًّا. فلما نشأ ذلك الغلام صار كالبدر ليلة التمام، ولما بلغ مبلغ الرجال، وحاز صفات الكمال، ضعف والده بمرض الموت، فدعا بولده وقال له: يا ولدي، إنه قد قرب وقت المنية، وأريد أن أوصيك وصية. فقال له: وما هي يا والدي؟ فقال له: أوصيك أنك لا تعاشِر أحدًا من الناس، وتجتنب ما يجلب الضرَّ والبأس، وإياك وجليس السوء، فإنه كالحدَّاد إن لم تحرقك ناره يضرك دخانه، وما أحسن قول الشاعر:

مَا فِي زَمَانِكَ مَنْ تَرْجُو مَوَدَّتَهُ        وَلَا صَدِيقٌ إِذَا خَانَ الزَّمَانُ وَفَى

فَعِشْ فَرِيدًا وَلَا تَرْكَنْ إِلَى أَحَدٍ        هَا قَدْ نَصَحْتُكَ فِيمَا قُلْتُهُ وَكَفَى

وقول الآخر:

النَّاسُ دَاءٌ دَفِينٌ        لَا تَرْكُنَنَّ إِلَيْهِمْ

فِيهِمْ خِدَاعٌ وَمَكْرٌ        لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ

وقول الآخر:

لِقَاءُ النَّاسِ لَيْسَ يُفِيدُ شَيْئًا        سِوَى الْهَذَيَانِ مِنْ قِيلٍ وَقَالِ

فَأَقْلِلْ مِنْ لِقَاءِ النَّاسِ إِلَّا        لِأَخْذِ الْعِلْمِ أَوْ إِصْلَاحِ حَالِ

وقول الآخر:

إِذَا مَا النَّاسُ جَرَّبَهُمْ لَبِيبٌ        فَإِنِّي قَدْ أَكَلْتُهُمُ ذَوَاقَا

فَلَمْ أَرَ وُدَّهُمْ إِلَّا خِدَاعًا        وَلَمْ أَرَ دِينَهُمْ إِلَّا نِفَاقَا

فقال: يا أبي، سمعتُ وأطعتُ، ثم ماذا أفعل؟ فقال: افعل الخير إذا قدرتَ عليه، ودُمْ على صنع الجميل مع الناس، واغتنم بذل المعروف، فما في كل وقت ينجح الطلب، وما أحسن قول الشاعر:

لَيْسَ فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَأَوَانِ        تَتَأَتَّى صَنَائِعُ الْإِحْسَانِ

فَإِذَا أَمْكَنَتْكَ بَادِرْ إِلَيْهَا        حَذَرًا مِنْ تَعَذُّرِ الْإِمْكَانِ

فقال: سمعت وأطعت. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 309

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الصبي قال لأبيه: سمعت وأطعت، ثم ماذا؟ قال: يا ولدي، احفظ الله يحفظك، وصن مالك ولا تفرِّط فيه، فإنك إن فرَّطت فيه تحتَجْ إلى أقل الناس، واعلم أن قيمة المرء ما ملكت يمينه، وما أحسن قول الشاعر:

إِنْ قَلَّ مَالِي فَلَا خِلٌّ يُصَاحِبُنِي        أَوْ زَادَ مَالِي فَكُلُّ النَّاسِ خِلَّانِي

فَكَمْ عَدُوٍّ لِأَجْلِ الْمَالِ صَاحَبَنِي        وَكَمْ صَدِيقٍ لِفَقْدِ الْمَالِ عَادَانِي

فقال: ثم ماذا؟ قال: يا ولدي، شاور مَن هو أكبر منك سنًّا، ولا تعجل في الأمر الذي تريده، وارحم مَن هو دونك يرحمك مَن هو فوقك، ولا تظلم أحدًا فيسلط الله عليك مَن يظلمك، وما أحسن قول الشاعر:

اقْرِنْ بِرَأْيِكَ رَأْيَ غَيْرِكَ وَاسْتَشِرْ        فَالرَّأْيُ لَا يَخْفَى عَلَى الْإِثْنَيْنِ

فَالْمَرْءُ مِرَآةٌ تُرِيهِ وَجْهَهُ        وَيَرَى قَفَاهُ بِجَمْعِ مِرْآتَيْنِ

وقول الآخَر:

تَأَنَّ وَلَا تَعْجَلْ لِأَمْرٍ تُرِيدُهُ        وَكُنْ رَاحِمًا لِلنَّاسِ تُبْلَ بِرَاحِمِ

فَمَا مِنْ يَدٍ إِلَّا يَدُ اللهِ فَوْقَهَا        وَلَا ظَالِمٌ إِلَّا سَيُبْلَى بِأَظْلَمِ

وقول الآخر:

لَا تَظْلِمَنَّ إِذَا مَا كُنْتَ مُقْتَدِرًا        إِنَّ الظَّلُومَ عَلَى حَدٍّ مِنَ النِّقَمِ

تَنَامُ عَيْنَاكَ وَالْمَظْلُومُ مُنْتَبِهٌ        يَدْعُو عَلَيْكَ وَعَيْنُ اللهِ لَمْ تَنَمْ

وإياك وشرب الخمر، فهو رأس كل شر، وشُربه مُذهِب للعقول، ويزري بصاحبه، وما أحسن قول الشاعر:

تَاللهِ لَا خَامَرَتْنِي الْخَمْرُ مَا عَلِقَتْ        رُوحِي بِجِسْمِي وَأَقْوَالِي بِإِفْصَاحِي

وَلَا صَبَوْتُ إِلَى مَشْمُولَةٍ أَبَدًا        يَوْمًا وَلَا اخْتَرْتُ نَدْمَانِي سِوَى الصَّاحِي

فهذه وصيتي لك فاجعلها بين عينيك، والله خليفتي عليك. ثم غشي عليه فسكت ساعة واستفاق فاستغفر الله وتشهَّد، وتوفي إلى رحمة الله تعالى؛ فبكى عليه ولده وانتحب، ثم أخذ في تجهيزه على ما يجب، ومشت في جنازته الأكابر والأصاغر، وصار القراء يقرءون حول تابوته، وما ترك ولده من حقِّه شيئًا إلا وفعله، ثم صلوا عليه وواروه في التراب، وكتبوا على قبره هذين البيتين:

خُلِقْتَ مِنَ التُّرَابِ فَصِرْتَ حَيًّا        وَعُلِّمْتَ الْفَصَاحَةَ فِي الْخِطَابِ

وَعُدْتَ إِلَى التُّرَابِ فَصِرْتَ مَيْتًا        كَأَنَّكَ مَا بَرِحْتَ مِنَ التُّرَابِ

وحزن عليه ولده علي شار حزنًا شديدًا، وعمل عزاءه على عادة الأعيان، واستمر حزينًا على أبيه إلى أن ماتت أمه بعده بمدة يسيرة، ففعل بوالدته مثل ما فعل بأبيه، ثم بعد ذلك جلس في الدكان يبيع ويشتري، ولا يعاشر أحدًا من خلق الله تعالى عملًا بوصية أبيه، واستمر على ذلك مدة سنة، وبعد السنة دخل عليه أولاد النساء الزواني بالحِيَل، وصاحبوه حتى مال معهم إلى الفساد، وأعرض عن طريق الرشاد، وشرب الراح بالأقداح، وإلى الملاح غدا وراح، وقال في نفسه: إن والدي جمع لي هذا المال، وأنا إن لم أتصرَّف فيه فلمَن أخلِّيه؟ والله لا أفعل إلا كما قال الشاعر:

إِنْ كُنْتَ دَهْرَكَ كُلَّهُ        تَحْوِي إِلَيْكَ وَتَجْمَعُ

فَمَتَى بِمَا حَصَّلْتَهُ        وَحَوَيْتَهُ تَتَمَتَّعُ

وما زال علي شار يبذل في المال آناء الليل وأطراف النهار حتى أذهَبَ ماله كله وافتقر؛ فساء حاله، وتكدَّر باله، وباع الدكان والأماكن وغيرها، ثم بعد ذلك باع ثياب بدنه، ولم يترك لنفسه غير بدلة واحدة. فلما ذهبت السكرة وجاءت الفكرة وقع في الحسرة، وقعد يومًا من الصبح إلى العصر بغير إفطار، فقال في نفسه: أنا أدور على الذين كنتُ أنفق مالي عليهم، لعل أحدًا منهم يُطعِمني في هذا اليوم. فدار عليهم جميعًا، وكلما طرق باب أحد منهم ينكر نفسه ويتوارى منه حتى أحرقه الجوع، ثم ذهب إلى سوق التجار. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 310

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن علي شار أحرقه الجوع، فذهب إلى سوق التجار، فوجد حلقة ازدحام والناس مجتمعون فيها، فقال في نفسه: يا ترى ما سبب اجتماع هؤلاء الناس؟ والله لا أنتقل من هذا المكان حتى أتفرج على هذه الحلقة. ثم تقدَّمَ فوجد جارية خماسية معتدلة القدِّ، موردة الخد، قاعدة النهد، قد فاقت أهل زمانها في الحسن والجمال، والبهاء والكمال، كما قال فيها بعض واصفيها:

كَمَا اشْتَهَتْ خُلِقَتْ حَتَّى إِذَا كَمُلَتْ        فِي قَالَبِ الْحُسْنِ لَا طُولٌ وَلَا قِصَرُ

وَالْحُسْنُ أَصْبَحَ مَشْغُوفًا بِصُورَتِهَا        وَالصَّدُّ يَعْذِلُهَا وَالتِّيهُ وَالْخَفَرُ

فَالْبَدْرُ طَلْعَتُهَا وَالْغُصْنُ قَامَتُهَا        وَالْمِسْكُ نَكْهَتُهَا مَا مِثْلُهَا بَشَرُ

كَأَنَّهَا أُفْرِغَتْ مِنْ مَاءِ لُؤْلُؤَةٍ        فِي كُلِّ جَارِيَةٍ مِنْ حُسْنِهَا قَمَرُ

وكانت تلك الجارية اسمها زمرد، فلما نظرها علي شار تعجَّبَ من حسنها وجمالها، وقال: والله ما أبرح حتى أنظر القدر الذي يبلغه ثمن هذه الجارية، وأعرف الذي يشتريها. ثم وقف بجملة التجار فظنوا أنه يشتري، لما يعلمون من غناه بالمال الذي ورثه عن والديه، ثم إن الدلال قد وقف على رأس الجارية وقال: يا تجار، يا أرباب الأموال، مَن يفتح باب السعر في هذه الجارية سيدة الأقمار، الدرة السنية زمرد السنورية، بُغية الطالب ونزهة الراغب؟ فافتحوا الباب فليس على مَن فتحه لوم ولا عتاب. فقال بعض التجار: عليَّ بخمسمائة دينار. قال آخَر: وعشرة. فقال شيخ يُسمَّى رشيد الدين، وكان أزرق العين قبيح المنظر: ومائة. فقال آخَر: وعشرة. قال الشيخ: بألف دينار. فحبس التجار ألسنتهم وسكتوا، فشاوَرَ الدلال سيدها فقال: أنا حالف أني ما أبيعها إلا لمَن تختاره فشاوِرْها، فجاء الدلَّال إليها وقال: يا سيدة الأقمار، إن هذا التاجر يريد أن يشتريكِ. فنظرت إليه فوجدته كما ذكرنا، فقالت للدلَّال: أنا لا أُباع لشيخ أوقعه الهرم في أسوأ حال، ولله درُّ مَن قال:

سَأَلْتُهَا قُبْلَةً يَوْمًا وَقَدْ نَظَرَتْ        شَيْبِي وَقَدْ كُنْتُ ذَا مَالٍ وَذَا نِعَمِ

فَأَعْرَضَتْ ثُمَّ صَدَّتْ وَهْيَ قَائِلَةٌ        لَا وَالَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَدَمِ

مَا كَانَ لِي فِي بَيَاضِ الشَّيْبِ مِنْ أَرَبٍ        أَفِي الْحَيَاةِ يَكُونُ الْقُطْنُ حَشْوَ فَمِي؟

فلما سمع الدلَّال قولها قال لها: والله إنك معذورة، وقيمتك عشرة آلاف دينار. ثم أعلم سيدها أنها ما رضيت بذلك الشيخ، فقال: شاوِرْها في غيره. فتقدم إنسان آخر وقال: عليَّ بما أعطى فيها الشيخ الذي لم ترضَ به. فنظرت إلى ذلك الرجل فوجدَتْه مصبوغَ اللحية، فقالت: ما هذا العيب والريب، وسواد وجه الشيب. ثم أكثرَتِ التعجُّبات وأنشدت هذه الأبيات:

بَدَا لِي مِنْ فُلَانٍ مَا بَدَا لِي        قَفًا وَاللهِ يُصْفَعُ بِالنِّعَالِ

وَذَقْنًا لِلْبَعُوضِ بِهَا مَجَالٌ        وَقَرْنًا مَالَ مِنْ رَبْطِ الْحِبَالِ

أَيَا مَفْتُونَ فِي خَدِّي وَقَدِّي        تَزَوَّرْ بِالْمُحَالِ وَلَا تُبَالِ

أَتَصْبُغُ بِالْعُيُوبِ بَيَاضَ شَيْبٍ        لِتُخْفِيَ مَا بَدَا لِلْإِحْتِيَالِ

تَرُوحُ بِلِحْيَةٍ وَتَجِي بِأُخْرَى        لِتُخْفِيَ فِعْلَ صُنَّاعِ الْخَيَالِ

وما أحسن قول الشاعر:

قَالَتْ أَرَاكَ خَضَبْتَ الشَّيْبَ قُلْتُ لَهَا        سَتَرْتُهُ عَنْكِ يَا سَمْعِي وَيَا بَصَرِي

فَقَهْقَهَتْ ثُمَّ قَالَتْ إِنَّ ذَا عَجَبٌ        تَكَاثَرَ الْغِشُّ حَتَّى صَارَ فِي الشَّعَرِ

فلما سمع الدلال شعرها قال لها: والله إنك صدقتِ. فقال التاجر: ما الذي قالت؟ فأعاد عليه الأبيات فعرف أن الحق على نفسه، وامتنع من اشترائها. فتقدَّمَ تاجر آخَر وقال: شاورها عليَّ بالثمن الذي سمعته. فشاوَرَها عليه فنظرت إليه فوجدته أعور، فقالت: هذا أعور، وقد قال فيه الشاعر:

لَا تَصْحَبِ الْأَعْوَرَ يَوْمًا وَكُنْ        فِي حَذَرٍ مِنْ شَرِّهِ وَمَيْنِهِ

لَوْ كَانَ فِي الْأَعْوَرِ مِنْ خِيرَةٍ        مَا أَوْجَدَ اللهُ الْعَمَى بِعَيْنِهِ

فقال لها الدلال: أتُباعي لذلك التاجر؟ فنظرت إليه فوجدته قصيرًا وذقنه سابلة سرَّته، فقالت: هذا الذي قال فيه الشاعر:

فَلِي صَدِيقٌ وَلَهُ لِحْيَةٌ        أَنْبَتَهَا اللهُ بِلَا فَائِدَهْ

كَأَنَّهَا بَعْضُ لَيَالِي الشِّتَاذ        طَوِيلَةٌ مُظْلِمَةٌ بَارِدَهْ

فقال لها الدلَّال: يا سيدتي، انظري مَن يعجبك من الحاضرين، وقولي عليه حتى أبيعك له. فنظرت إلى حلقة التجار وتفرَّستهم واحدًا بعد واحدٍ، فوقع نظرها على علي شار. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 311

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية لما وقع نظرُها على علي شار نظرته نظرة أعقبتها ألف حسرة، وتعلَّق قلبها به؛ لأنه كان بديع الجمال، وألطف من نسيم الشمال، فقالت: يا دلَّال، أنا لا أُباع إلا لسيدي هذا، صاحب الوجه المليح والقد الرجيح، الذي قال فيه بعض واصفيه:

أَبْرَزُوا وَجْهَكَ الْجَمِيــلَ        وَلَامُوا مَنِ افْتَتَنْ

لَوْ أَرَادُوا صِيَانَتِي        سَتَرُوا وَجْهَكَ الْحَسَنْ

فلا يملكني إلا هو؛ لأن خده أسيل، ورضابه سلسبيل، وريقه يشفي العليل، ومحاسنه تحيِّر الناظم والناثر، كما قال فيه الشاعر:

فَرِيقُهُ خَمْرٌ وَأَنْفَاسُهُ        مِسْكٌ وَذَاكَ الثَّغْرُ كَافُورُ

أَخْرَجَهُ رَضْوَانُ مِنْ دَارِهِ        مَخَافَةً أَنْ تُفْتَنَ الْحُورُ

يَلُومُهُ النَّاسُ عَلَى تِيهِهِ        وَالْبَدْرُ مَهْمَا تَاهَ مَعْذُورُ

صاحب الشعر الأجعد، والخد المورد، واللحظ الساحر، الذي قال فيه الشاعر:

وَشَادِنٍ بِوِصَالٍ مِنْهُ وَاعَدَنِي        فَالْقَلْبُ فِي قَلَقٍ وَالْعَيْنُ مُنْتَظِرَهْ

أَجْفَانُهُ ضَمِنَتْ لِي صِدْقَ مَوْعِدِهِ        فَكَيْفَ تُوفِي ضَمَانًا وَهْيَ مُنْكَسِرَهْ

وقال الآخر:

قَالُوا بَدَا خَطُّ الْعِذَارِ بِخَدِّهِ        كَيْفَ التَّعَشُّقُ فِيهِ وَهْوَ مُعَذَّرُ

فَأَجَبْتُهُمْ كُفُّوا الْمَلَامَةَ وَاقْصِرُوا        إِنْ صَحَّ ذَاكَ الْخَطُّ فَهْوَ مُزَوَّرُ

جَنَّاتُ عَدَنٍ فِي جَنَى وَجَنَاتِهِ        وَدَلِيلُهُ أَنَّ الْمَرَاشِفَ كَوْثَرُ

فلما سمع الدلَّال ما أنشدته من الأشعار في محاسن علي شار، تعجَّبَ من فصاحتها، وإشراق بهجتها، فقال له صاحبها: لا تعجب من بهجتها التي تفضح شمس النهار، ولا من حفظها لرقائق الأشعار، فإنها مع ذلك تقرأ القرآن العظيم بالسبع قراءات، وتروي الأحاديث الشريفة بصحيح الروايات، وتكتب بالسبعة أقلام، وتعرف من العلوم ما لا يعرفه العالم العلَّام، ويداها أحسن من الذهب والفضة؛ فإنها تعمل الستور الحرير وتبيعها، فتكسب في كل واحد خمسين دينارًا، وتشتغل الستر في ثمانية أيام. فقال الدلال: يا سعادة مَن تكون هذه في داره، ويجعلها من ذخائر أسراره. ثم قال له سيدها: بِعْها لكلِّ مَن أرادته.

فرجع الدلال إلى علي شار وقبَّل يديه، وقال: يا سيدي، اشترِ هذه الجارية فإنها اختارتك. وذكر له صفتها وما تعرفه، وقال له: هنيئًا لك إذا اشتريتَها؛ فإنه قد أعطاك مَن لا يبخل بالعطاء. فأطرق علي شار برأسه ساعة إلى الأرض وهو يضحك على نفسه، وقال في سرِّه: إني إلى هذا الوقت من غير إفطار، ولكن أختشي من التجار أن أقول ما عندي مال أشتريها به. فنظرَتِ الجارية إلى إطراقه، وقالت للدلَّال: خذ بيدي وامضِ بي إليه حتى أعرض نفسي عليه، وأرغِّبه في أخذي؛ فإني ما أُباع إلا له.

فأخذها الدلال وأوقفها قدَّام علي شار، وقال له: ما رأيك يا سيدي؟ فلم يردَّ عليه جوابًا، فقالت الجارية: يا سيدي وحبيب قلبي، ما لك لا تشتريني؟ فاشترني بما شئتَ وأكون سبب سعادتك. فرفع رأسه إليها وقال: هل الشراء بالغصب؟ أنت غالية بألف دينار. فقالت له: يا سيدي، اشترني بتسعمائة. قال: لا. قالت: بثمانمائة. قال: لا. فما زالت تنقص من الثمن إلى أن قالت له: بمائة دينار. قال: ما معي مائة كاملة. فضحكت وقالت له: كم تنقص مائتك؟ قال: ما معي لا مائة ولا غيرها، أنا والله لا أملك أبيض ولا أحمر من درهم ولا دينار، فانظري لك زبونًا غيري. فلما علمت أنه ما معه شيء قالت له: خذ بيدي على أنك تقبلني في عطفة. ففعل ذلك، فأخرجت من جيبها كيسًا فيه ألف دينار، وقالت: زِنْ منه تسعمائة في ثمني، وأبقِ المائة معك تنفعنا. ففعل ما أمرته به، واشتراها بتسعمائة دينار، ودفع ثمنها من ذلك الكيس، ومضى بها إلى الدار، فلمَّا وصلت إلى الدار وجدتها قاعًا صفصفًا لا فرشَ بها ولا أواني، فأعطته ألف دينار وقالت له: امضِ إلى السوق، واشترِ لنا بثلاثمائة دينار فرشًا وأواني للبيت. ففعل ثم قالت له: اشترِ لنا مأكولًا ومشروبًا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 312

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية قالت له: اشترِ لنا مأكولًا ومشروبًا بثلاثة دنانير. ففعل ثم قالت له: اشترِ لنا خرقة حرير قدر ستر، واشترِ قصبًا أصفر وأبيض، وحريرًا ملونًا سبعة ألوان. ففعل، ثم إنها فرشت البيت، وأوقدت الشمع، وجلست تأكل وتشرب هي وإياه، وبعد ذلك قاموا إلى الفرش، وقضوا الغرض من بعضهما، ثم باتا معتنقين خلف الستائر، وكانا كما قال الشاعر:

زُرْ مَنْ تُحِبُّ وَدَعْ كَلَامَ الْحَاسِدِ        لَيْسَ الْحَسُودُ عَلَى الْهَوَى بِمُسَاعِدِ

إِنِّي نَظَرْتُكَ فِي الْمَنَامِ مُضَاجِعِي        وَلَثَمْتُ مِنْ شَفَتَيْكَ أَحْلَى بَارِدِ

حَقٌّ صَحِيحٌ كُلُّ مَا عَايَنْتُهُ        وَلَسَوْفَ أَبْلُغُهُ بِرَغْمِ الْحَاسِدِ

لَمْ تَنْظُرِ الْعَيْنَانِ أَحْسَنَ مَنْظَرًا        مِنْ عَاشِقَيْنِ عَلَى فِرَاشٍ وَاحِدِ

مُتَعَانِقَيْنِ عَلَيْهِمَا حُلَلُ الرِّضَا        مُتَوَسِّدَيْنِ بِمِعْصَمٍ وَبِسَاعِدِ

وَإِذَا تَآلَفَتِ الْقُلُوبُ لِبَعْضِهَا        فَالنَّاسُ تَضْرِبُ فِي حَدِيدٍ بَارِدِ

يَا مَنْ يَلُومُ عَلَى الْهَوَى أَهْلَ الْهَوَى        هَلْ تَسْتَطِيعُ صَلَاحَ قَلْبٍ فَاسِدِ

وَإِذَا صَفَا لَكَ مِنْ زَمَانِكَ وَاحِدٌ        فَهْوَ الْمُرَادُ وَعِشْ بِذَاكَ الْوَاحِدِ

واستمرَّا متعانقين إلى الصباح، وقد سكنت محبة كل واحد منهما في قلب صاحبه، ثم أخذت الستر وطرَّزته بالحرير الملوَّن، وزركشته بالقصب، وجعلت فيه منطقة بصور طيور، وصوَّرت في دائرها الوحوش، ولم تترك وحشًا في الدنيا إلا وصوَّرت صورته فيه، ومكثت تشتغل فيه ثمانية أيام. فلمَّا فرغ قطعته وصقلته، ثم أعطته لسيدها، وقالت له: اذهب به إلى السوق وبِعْه بخمسين دينارًا للتاجر، واحذر أن تبيعه لأحد عابر طريق؛ فإن ذلك يكون سببًا للفراق بيني وبينك؛ لأن لنا أعداء لا يغفلون عنا. فقال: سمعًا وطاعة.

ثم ذهب به إلى السوق وباعه لتاجر كما أمرته، وبعد ذلك اشترى الخرقة والحرير والقصب على العادة، وما يحتاجان إليه من الطعام، وأحضر لها ذلك وأعطاها بقية الدراهم؛ فصارت كل ثمانية أيام تعطيه سترًا يبيعه بخمسين دينارًا، ومكثت على ذلك سنة كاملة، وبعد السنة راح إلى السوق بالستر على العادة وأعطاه للدلال، فعرض له نصراني فدفع له ستين دينارًا، فامتنع، فما زال يزيده حتى عمله بمائة دينار، وبَرْطَلَ الدلَّال بعشرة دنانير، فرجع الدلال إلى علي شار وأخبره بالثمن، وتحيَّلَ عليه في أن يبيع الستر للنصراني بذلك المبلغ، وقال له: يا سيدي، لا تَخَفْ من هذا النصراني، وما عليك منه بأس، وقامت التجار عليه، فباعه للنصراني وقلبه مرعوب، ثم قبض المال ومضى إلى البيت، فوجد النصراني ماشيًا خلفه، فقال له: يا نصراني، ما لك ماشيًا خلفي؟ فقال له: يا سيدي، إن لي حاجة في صدر الزقاق، الله لا يحوجك. فما وصل علي شار إلى منزله إلا والنصراني لاحقه، فقال: يا ملعون، ما لك تتبعني أينما أسير؟ فقال: يا سيدي، اسقني شربة ماء فإني عطشان، وأجرك على الله تعالى. فقال علي شار في نفسه: هذا رجل ذمي وقصدني في شربة ماء، فوالله لا أخيبه.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 313

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن علي شار قال في نفسه: هذا رجل ذمي، وقصدني في شربة ماء، فوالله لا أخيبه. ثم دخل البيت وأخذ كوز ماء، فرأته جاريته زمرد، فقالت له: يا حبيبي، هل بعت الستر؟ قال: نعم. قالت: لتاجر أم لعابر سبيل، فقد حس قلبي بالفراق؟ قال: ما بعته إلا لتاجر. قالت: أخبرني بحقيقة الأمر حتى أتدارك شأني، وما بالك أخذت كوز الماء؟ قال: لأسقي الدلَّال. فقالت: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ثم أنشدت هذين البيتين:

يَا طَالِبًا لِلْفِرَاقِ مَهْلًا        فَلَا يَغُرَّنَّكَ الْعِنَاقُ

مَهْلًا فَطَبْعُ الزَّمَانِ غَدْرٌ        وَآخِرُ الصُّحْبَةِ الْفِرَاقُ

ثم خرج بالكوز فوجد النصراني داخلًا في دهليز البيت، فقال له: هل وصلت إلى هنا يا كلب؟ كيف تدخل منزلي بغير إذني؟ فقال: يا سيدي، لا فرق بين الباب والدهليز، وما بقيت أنتقل من مكاني هذا إلا للخروج، وأنت لك الفضل والإحسان، والجود والامتنان. ثم إنه تناول كوز الماء وشرب ما فيه، وبعد ذلك ناوله إلى علي شار، فأخذه وانتظره أن يقوم فما قام، فقال له: لأي شيء لم تقم وتذهب إلى حال سبيلك؟ فقال: يا مولاي، لا تكن ممَّن فعل الجميل ومَنَّ به، ولا من الذين قال فيهم الشاعر:

ذَهَبَ الَّذِينَ إِذَا وَقَفْتَ بِبَابِهِمْ        كَانُوا لِقَصْدِكَ أَكْرَمَ الْكُرَمَاءِ

وَإِذَا وَقَفْتَ بِبَابِ قَوْمٍ بَعْدَهُمْ        مَنُّوا عَلَيْكَ بِشَرْبَةٍ مِنْ مَاءِ

ثم قال: يا مولاي، إني قد شربت ولكن أريد منك أن تطعمني مهما كان من البيت، سواء كان كسرة أو قرقوشة وبصلة. فقال له: قم بلا مماحكة، ما في البيت شيء. فقال: يا مولاي، إن لم يكن في البيت شيء فخذ هذه المائة دينار، وَأْتِنا بشيء من السوق، ولو برغيف واحد؛ ليصير بيني وبينك خبز وملح. فقال علي شار في سره: إن هذا النصراني مجنون، فأنا آخذ منه المائة دينار وأجيء له بشيء يساوي درهمين، وأضحك عليه. فقال له النصراني: يا سيدي، إنما أريد شيئًا يطرد الجوع، ولو رغيفًا واحدًا يابسًا وبصلة، فخير الزاد ما دفع الجوع لا الطعام الفاخر، وما أحسن قول الشاعر:

الْجُوعُ يُطْرَدُ بِالرَّغِيفِ الْيَابِسِ        فَعَلَى التَّعَظُّمِ حَسْرَتِي وَوَسَاوِسِي

وَالْمَوْتُ أَعْدَلُ حِينَ أَصْبَحَ مُنْصِفًا        بَيْنَ الْخَلِيفَةِ وَالْفَقِيرِ الْبَائِسِ

فقال له علي شار: اصبر هنا حتى أقفل القاعة وآتيك بشيء من السوق. فقال له: سمعًا وطاعة. ثم خرج وقفل القاعة، وحطَّ على الباب كيلونًا وأخذ المفتاح معه وذهب إلى السوق، واشترى جبنًا مقليًّا، وعسلًا أبيض، وموزًا وخبزًا، وأتى به إليه، فلما نظر النصراني إلى ذلك قال: يا مولاي، هذا شيء كثير يكفي عشرة رجال وأنا وحدي، فلعلك تأكل معي. فقال له: كُل وحدك فإني شبعان. فقال له: يا مولاي، قالت الحكماء: مَن لم يأكل مع ضيفه فهو ولد زِنا. فلما سمع علي شار من النصراني هذا الكلام جلس وأكل معه شيئًا قليلًا، وأراد أن يرفع يده … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 314

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن علي شار جلس وأكل معه شيئًا قليلًا، وأراد أن يرفع يده، فأخذ النصراني موزة وقشَّرها وشقَّها نصفين، وجعل في نصفها بنجًا مكررًا ممزوجًا بأفيون، الدرهم منه يرمي الفيل، ثم غمس نصف الموزة في العسل وقال له: يا مولاي، وحق دينك أن تأخذ هذه. فاستحى علي شار أن يحنثه في يمينه، فأخذها منه وابتلعها، فما استقرت في بطنه حتى سبقت رأسه رجلَيْه، وصار كأنه له سنة وهو راقد. فلما رأى النصراني ذلك قام على قدميه كأنه ذئب أمعط مسلَّط، وأخذ منه مفتاح القاعة وتركه مرميًّا، وذهب يجري إلى أخيه وأخبره بالخبر، وسببُ ذلك أن أخا النصراني هو الشيخ الهرم الذي أراد أن يشتريها بألف دينار فلم ترضَ به وهجته بالشعر، وكان كافرًا في الباطن ومسلمًا في الظاهر، وسمَّى نفسه رشيد الدين، ولما هجته ولم ترضَ به شكا إلى أخيه النصراني الذي تحيَّلَ في أخذها من سيدها علي شار، وكان اسمه برسوم، فقال له: لا تحزن من هذا الأمر، فأنا أتحيَّل لك في أخذها بلا درهم ولا دينار. لأنه كان كاهنًا ماكرًا مخادعًا فاجرًا، ثم إنه لم يزل يمكر ويتحيل حتى عمل الحيلة التي ذكرناها، وأخذ المفتاح وذهب إلى أخيه وأخبره بما حصل، فركب بغلته وأخذ غلمانه، وتوجه مع أخيه إلى بيت علي شار، وأخذ معه كيسًا فيه ألف دينار، إذا صادفه الوالي فيعطيه إياه، ففتح القاعة وهجمت الرجال الذين معه على زمرد وأخذوها قهرًا، وهدَّدوها بالقتل إنْ تكلمت، وتركوا المنزل على حاله ولم يأخذوا منه شيئًا، وتركوا علي شار راقدًا في الدهليز، ثم ردُّوا الباب عليه، وتركوا مفتاح القاعة في جانبه، ومضى بها النصراني إلى قصره، ووضعها بين جواريه وسراريه، وقال لها: يا فاجرة، أنا الشيخ الذي ما رضيتِ بي وهجوتني، وقد أخذتك بلا درهم ولا دينار. فقالت له وقد ترغرغت عيناها بالدموع: حسبك الله يا شيخ السوء، حيث فرَّقْتَ بيني وبين سيدي. فقال لها: يا فاجرة يا عشاقة، سوف تنظرين ما أفعل بك من العذاب، وحق المسيح والعذراء إن لم تطاوعيني وتدخلي في ديني لَأعذِّبَنَّكِ بأنواع العذاب. فقالت له: والله لو قطعتَ لحمي قطعًا ما أفارق دين الإسلام، ولعل الله تعالى يأتي بالفرج القريب، إنه على ما يشاء قدير، وقد قالت العقلاء: مصيبة في الأبدان، ولا مصيبة في الأديان. فعند ذلك صاح على الخدم والجواري، وقال لهم: اطرحوها. فطرحوها، وما زال يضربها ضربًا عنيفًا، وصارت تستغيث فلا تُغاث، ثم أعرضت عن الاستغاثة، وصارت تقول: حسبي الله وكفى. إلى أن انقطع نفسها وخفي أنينها، فلما اشتفى قلبه منها قال للخدم: اسحبوها من رجليها، وارموها في المطبخ، ولا تطعموها شيئًا. ثم بات الملعون تلك الليلة، ولما أصبح الصباح طلبها وكرَّر عليها الضرب، وأمر الخدم أن يرموها في مكانها ففعلوا، فلما برد عليها الضرب قالت: لا إله إلا الله محمد رسول الله، حسبي الله ونعم الوكيل. ثم استغاثت بسيدنا محمد ﷺ. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 315

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن زمرد استغاثت بالنبي ﷺ. هذا ما كان من أمرها، وأما ما كان من أمر علي شار، فإنه لم يزل راقدًا إلى ثاني يوم، ثم طار البنج من رأسه ففتح عينيه وصاح قائلًا: يا زمرد. فلم يجِبْه أحد، فدخل القاعة فوجد الجو قفرًا، والمزار بعيدًا، فعلم أنه ما جرى عليه هذا الأمر إلا من النصراني؛ فحنَّ وبكى، وأنَّ واشتكى، وأفاض العَبَرات، وأنشد هذه الأبيات:

يَا وَجْدُ لَا تُبْقِي عَلَيَّ وَلَا تَذَرْ        هَا مُهْجَتِي بَيْنَ الْمَشَقَّةِ وَالْخَطَرْ

يَا سَادَتِي رِقُّوا لِعَبْدٍ ذَلَّ فِي        شَرْعِ الْهَوَى وَغَنِيِّ قَوْمٍ افْتَقَرْ

مَا حِيلَةُ الرَّامِي إِذَا الْتَفَّ الْعِدَا        وَأَرَادَ رَمْيَ السَّهْمِ فَانْقَطَعَ الْوَتَرْ

وَإِذَا تَكَاثَرَتِ الْهُمُومُ عَلَى الْفَتَى        وَتَرَاكَمَتْ أَيْنَ الْمَفَرُّ مِنَ الْقَدَرْ؟

وَلَكَمْ أُحَاذِرُ مِنْ تَفَرُّقِ شَمْلِنَا        لَكِنْ إِذَا نَزَلَ الْقَضَا عَمِيَ الْبَصَرْ

فلما فرغ من شعره، صعَّد الزفرات وأنشد أيضًا هذه الأبيات:

خَلَعَتْ هَيَاكِلَهَا بِجَرْعَاءِ الْحِمَى        فَصَبَا لِمَغْنَاهَا الْكَئِيبُ تَشَوُّقَا

وَتَلَفَّتَتْ نَحْوَ الدِّيَارِ فَشَاقَهَا        رَبْعٌ عَفَتْ أَطْلَالُهُ فَتَمَزَّقَا

وَقَفَتْ تُسَائِلُهُ فَرَدَّ جَوَابَهَا        رَجْعُ الصَّدَى أَنْ لَا سَبِيلَ إِلَى اللِّقَا

فَكَأَنَّهُ بَرْقٌ تَأَلَّقَ بِالْحِمَى        وَمَضَى فَمَا يُبْدِي إِلَيْكَ تَأَلُّقَا

وندم حيث لا ينفعه الندم، وبكى ومزَّق أثوابه، وأخذ بيده حجرين ودار حول المدينة، وصار يدق بهما على صدره ويصيح قائلًا: يا زمرد. فدارت الصغار حوله، وقالوا: مجنون مجنون. فكان كلُّ مَن عرفه يبكي عليه ويقول: هذا فلان، ما الذي جرى له؟ ولم يزل على هذه الحالة إلى آخر النهار، فلما جنَّ عليه الليل نام في بعض الأزقَّة إلى الصباح، ثم أصبح دائرًا بالأحجار حول المدينة إلى آخر النهار، وبعد ذلك رجع إلى قاعته ليبيت فيها، فنظرته جارته، وكانت امرأة عجوزًا من أهل الخير، فقالت له: يا ولدي سلامتك، متى جُنِنت؟ فأجابها بهذين البيتين:

قَالُوا جُنِنْتَ بِمَنْ تَهْوَى فَقُلْتُ لَهُمْ        مَا لَذَّةُ الْعَيْشِ إِلَّا لِلْمَجَانِينِ

دَعُوا جُنُونِي وَهَاتُوا مَنْ جُنِنْتُ بِهِ        إِنْ كَانَ يَشْفِي جُنُونِي لَا تَلُومُونِي

فعلمَتْ جارته العجوز أنه عاشق مفارق، فقالت: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، يا ولدي، أشتهي منك أن تحكي لي خبر مصيبتك، عسى الله أن يقدرني على مساعدتك عليها بمشيئته. فحكى لها جميع ما وقع له مع برسوم النصراني أخي الكاهن الذي سمَّى نفسه رشيد الدين، فلما علمت ذلك قالت له: يا ولدي، إنك معذور. ثم أفاضت دمع العين، وأنشدت هذين البيتين:

كَفَى الْمُحِبِّينَ فِي الدُّنْيَا عَذَابُهُمُ        تَاللهِ لَا عَذَّبَتْهُمْ بَعْدَهَا سَقَرُ

لِأَنَّهُمْ هَلَكُوا عِشْقًا وَقَدْ كَتَمُوا        مَعَ الْعَفَافِ بِهَذَا يَشْهَدُ الْخَبَرُ

فلما فرغت من شعرها قالت له: يا ولدي، قُمِ الآن واشترِ قفصًا مثل أقفاص أهل الصاغة، واشتر أساور وخواتم وحلقانًا، وحُليًّا يصلح للنساء، ولا تبخل بالمال، وضع جميع ذلك في القفص، وهات القفص وأنا أضعه على رأسي في صورة دلَّالة، وأدور أفتش عليها في البيوت حتى أقع على خبرها إن شاء الله تعالى. ففرح علي شار بكلامها وقبَّل يدها، ثم ذهب بسرعة وأتى لها بما طلبته، فلما حضر ذلك عندها قامت ولبست مرقعة، ووضعت على رأسها إزارًا عسليًّا، وأخذت في يدها عكازًا، وحملت القفص ودارت في العُطَف والبيوت، ولم تزل دائرة من مكان إلى مكان، ومن حارة إلى حارة، ومن درب إلى درب، إلى أن دلَّها الله تعالى على قصر الملعون رشيد الدين النصراني، فسمعت من داخله أنينًا فطرقت الباب. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 316

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن العجوز لما سمعت من داخل البيت أنينًا طرقت الباب، فنزلت لها جارية ففتحت لها الباب وسلَّمت عليها، فقالت لها العجوز: إنَّ معي هذه الحويجات للبيع، هل عندكم مَن يشتري منها شيئًا؟ فقالت لها الجارية: نعم. ثم أدخلتها الدار وأجلستها، وجلس الجواري حولها، وأخذت كل واحدة شيئًا منها، فصارت العجوز تلاطف الجواري وتتساهل معهن في الثمن؛ ففرح بها الجواري بسبب معروفها ولين كلامها، وهي تتأمل في جهات المكان على صاحبة الأنين، فلاحت منها التفاتة إليها فحابتهم وأحسنت إليهم، وتأملت فوجدتها زمرد مطروحة فعرفتها، فبكت وقالت لهن: يا أولادي، ما بال هذه الصبية في هذا الحال؟ فحكى لها الجواري جميع القصة، وقلن لها: هذا الأمر ليس باختيارنا، ولكن سيدنا أمرنا بهذا، وهو مسافر الآن. فقالت لهم: يا أولادي، لي عندكن حاجة، وهي أنكن تحللن هذه المسكينة من الرباط إلى أن تعلمن بمجيء سيدكن فتربطنها كما كانت، وتكسبن الأجرَ من رب العالمين. فقلن لها: سمعًا وطاعة. ثم إنهن حللْنَها وأطعمْنَها وأسقيْنَها، ثم قالت العجوز: يا ليت رجلي انكسرت ولا دخلتُ لَكُنَّ منزلًا. وبعد ذلك ذهبت إلى زمرد، وقالت لها: يا بنتي سلامتك، سيفرِّج الله عنك. ثم ذكرت لها أنها جاءت من عند سيدها علي شار، وواعدتها أنها في ليلة غدٍ تكون حاضرة، وتلقي سمعها للحس، وقالت لها: إن سيدك يأتي إليك تحت مصطبة القصر ويصفِّر لك، فإذا سمعتِ ذلك فصفِّري له، وتدلي له من الطاقة بحبلٍ وهو يأخذكِ ويمضي. فشكرتها على ذلك، ثم خرجت العجوز وذهبت إلى علي شار وأعلمته، وقالت له: توجَّهْ في الليلة القابلة نصف الليل إلى الحارة الفلانية، فإن بيت الملعون هناك، وعلامته كذا وكذا، فقف تحت قصره وصفِّر، فإنها تتدلَّى إليك، فخذها وامضِ بها إلى حيث شئتَ. فشكرها على ذلك، ثم إنه أفاض العَبَرات وأنشد هذه الأبيات:

كُفَّ الْعَوَاذِلَ عَنْ قِيلٍ وَعَنْ قَالِ        قَلْبِي مُعَنًّى وَجِسْمِي نَاحِلٌ بَالِ

وَلِلدُّمُوعِ أَحَادِيثٌ مُسَلْسَلَةٌ        عَنِ الصَّحِيحِ بِإِعْضَالٍ وَإِرْسَالِ

يَا خَالِيَ الْبَالِ مِنْ هَمِّي وَمِنْ هِمَمِي        أَقْصِرْ عَنَاكَ عَنِ التَّسْآلِ عَنْ حَالِي

عَذْبُ الْمَرَاشِفِ لَدْنُ الْقَدِّ مُعْتَدِلٌ        سَبَى فُؤَادِي بِمَعْسُولٍ وَعَسَّالِ

مَا قَرَّ قَلْبِيَ مُذْ غِبْتُمْ وَلَا هَجَعَتْ        عَيْنِي وَلَا نَجَعَتْ فِي الصَّبْرِ آمَالِي

تَرَكْتُمُونِي رَهِينَ الشَّوْقِ مُكْتَئِبًا        مُذَبْذَبًا بَيْنَ حُسَّادٍ وَعُذَّالِ

أَمَّا السُّلُوُّ فَشَيْءٌ لَسْتُ أَعْرِفُهُ        وَغَيْرُكُمْ قَطُّ لَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِي

فلما فرغ من شعره تنهَّد وأفاض دمع العين، وأنشد هذين البيتين:

للهِ دَرُّ مُبَشِّرِي بِقُدُومِكُمْ        فَلَقَدْ أَتَى بِلَطَائِفِ الْمَسْمُوعِ

لَوْ كَانَ يَقْنَعُ بِالْخَلِيعِ مَنَحْتُهُ        قَلْبًا تَمَزَّقَ سَاعَةَ التَّوْدِيعِ

ثم إنه صبر إلى أن جنَّ الليل، وجاء وقت الميعاد، فذهب إلى تلك الحارة التي وصفتها له جارته، ورأى القصر فعرفه، وجلس على مصطبة تحته، وغلب عليه النوم فنام، وجلَّ مَن لا ينام، وكان له مدة لم يَنَمْ من الوَجْد الذي به، فصار كالسكران، فبينما هو نائم … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 317

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أنه بينما هو نائم، وإذا بلصٍّ من اللصوص خرج تلك الليلة في أطراف المدينة ليسرق شيئًا، فرمته المقادير تحت قصر ذلك النصراني، فدار حوله فلم يجد له سبيلًا إلى الصعود إليه، فصار دائرًا حوله إلى أن وصل إلى المصطبة، فرأى علي شار نائمًا فأخذ عمامته، وبعد أن أخذها لم يشعر إلا وزمرد طلَّتْ في ذلك الوقت فرأته واقفًا في الظلام، فحسبته سيدها فصفَّرَتْ له، فصفَّرَ لها الحرامي، فتدلَّت له بالحبل وصحبتها خُرْج ملآن ذهبًا، فلما رآه اللص قال في نفسه: ما هذا إلا أمر عجيب له سبب غريب. ثم حمل الخُرْج وحملها على أكتافه، وذهب بهما مثل البرق الخاطف، فقالت له: إن العجوز أخبرتني أنك ضعيف بسببي، وها أنت أقوى من الفرس. فلم يرد عليها جوابًا، فحسست على وجهه فوجدت لحيته مثل مقشة الحمام، كأنه خنزير ابتلع ريشًا فطلع زَغَبه من حلقه، ففزعت منه وقالت له: أي شيء أنت؟ فقال لها: يا عاهرة، أنا الشاطر جوان الكردي من جماعة أحمد الدنف، ونحن أربعون شاطرًا، وكلهم في هذه الليلة يفسقون في رَحِمك من العشاء إلى الصباح. فلما سمعت كلامه بكت ولطمت على وجهها، وعلمت أن القضاء غلب عليها، وأنه لا حيلةَ لها إلا التفويض إلى الله تعالى، فصبرت وسلَّمت لحكم الله تعالى وقالت: لا إله إلا الله، كلما خلصنا من هَمٍّ وقعنا في همٍّ أكبر منه. وكان السبب في مجيء جوان إلى هذا المحل أنه قال لأحمد الدنف: يا شاطر، أنا دخلت هذه المدينة قبل الآن، وأعرف فيها غارًا خارج البلد يسع أربعين نفسًا، وأنا أريد أن أسبقكم إليه، وأُدخِل أمي في ذلك الغار، ثم أرجع إلى المدينة وأسرق منها شيئًا على بختكم، وأحفظه على اسمكم إلى أن تحضروا، فتكون ضيافتكم في ذلك النهار من عندي. فقال له أحمد: افعل ما تريد. فخرج قبلهم وسبقهم إلى ذلك المحل، ووضع أمه في ذلك الغار، ولما خرج وجد جنديًّا راقدًا وعنده فرس مربوط، فذبحه وأخذ ثيابه، وأخذ فرسه وسلاحه وثيابه وأخفاها في الغار عند أمه، وربط الحصان هناك ثم رجع إلى المدينة، ومشى حتى وصل إلى قصر النصراني، وفعل ما تقدَّم ذكره من أخذ عمامة علي شار، ومن أخذ زمرد جاريته، ولم يزل يجري بها إلى أن حطَّها عند أمه، وقال لها: احتفظي عليها إلى حين أرجع إليكِ في بُكرة النهار. ثم ذهب. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 318

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن جوان الكردي قال لأمه: احتفظي عليها حتى أرجع إليك في بُكرة النهار. ثم ذهب، فقالت زمرد في نفسها: وما هذه الغفلة عن خلاص روحي بالحيلة، كيف أصبر إلى أن يجيء هؤلاء الأربعون رجلًا، فيتعاقبون عليَّ حتى يجعلوني كالمركب الغريقة في البحر؟ ثم إنها التفتت إلى العجوز أم جوان الكردي وقالت لها: يا خالتي، أَمَا تقومين بنا إلى خارج الغار حتى أفلِّيك في الشمس؟ فقالت: إي والله يا بنتي، فإن لي مدة وأنا بعيدة عن الحمام؛ لأن هؤلاء الخنازير لم يزالوا دائرين بي من مكان إلى مكان. فخرجت معها فصارت تفلِّيها وتقتل القمل من رأسها إلى أن استلذَّت بذلك ورقدت، فقامت زمرد ولبست ثياب الجندي الذي قتله جوان الكردي، وشدَّت سيفه في وسطها، وتعمَّمَتْ بعمامته حتى صارت كأنها رجل، وركبت الفرس وأخذت الخُرْج الذهب معها، وقالت: يا جميل الستر، استرني بجاه محمد ﷺ. ثم إنها قالت في نفسها: إن رُحْتُ إلى البلد ربما ينظرني أحدٌ من أهل الجندي فلا يحصل لي خير. ثم أعرضَتْ عن دخول المدينة وسارت في البر الأقفر، ولم تزل سائرة بالخُرْج والفرس، وتأكل من نبات الأرض وتطعم الفرس منه، وتشرب من الأنهار مدة عشرة أيام، وفي اليوم الحادي عشر أقبلَتْ على مدينة طيبة أمينة بالخير مكينة، قد ولَّى عنها فصل الشتاء ببرده، وأقبل عليها فصل الربيع بزهره وورده، فزهت أزهارها وتدفَّقت أنهارها، وغرَّدت أطيارها.

فلما وصلت إلى المدينة وقربت من بابها، وجدت العساكر والأمراء وأكابر أهل المدينة، فتعجَّبت لما نظرتهم على هذه الحالة، وقالت في نفسها: إن أهل هذه المدينة كلهم مجتمعون، ولا بد لذلك من سبب. ثم إنها قصدتهم، فلما قربت منهم تسابق إليها العساكر وترجَّلوا وقبَّلوا الأرض بين يديها، وقالوا: الله ينصرك يا مولانا السلطان. واصطفت بين يديها المناصب، فصارت العساكر يرتبون الناس ويقولون: الله ينصرك، ويجعل قدومك مباركًا على المسلمين يا سلطان العالمين، ثبَّتَكَ الله يا ملك الزمان، يا فريد العصر والأوان. فقالت لهم زمرد: ما خبركم يا أهل هذه المدينة؟ فقال الحاجب: إنه أعطاك مَن لا يبخل بالعطاء، وجعلك سلطانًا على هذه المدينة، وحاكمًا على رقاب جميع مَن فيها، واعلم أن عادة أهل هذه المدينة إذا مات ملكهم ولم يكن له ولد، تخرج العساكر إلى ظاهر المدينة ويمكثون ثلاثة أيام، فأي إنسان جاء من طريقك التي جئتَ منها يجعلونه سلطانًا عليهم، والحمد لله الذي ساق لنا إنسانًا من أولاد الترك جميل الوجه، فلو طلع علينا أقل منك كان سلطانًا. وكانت زمرد صاحبة رأي في جميع أفعالها، فقالت: لا تحسبوا أنني من أولاد عامة الأتراك، بل أنا من أولاد الأكابر، لكنني غضبت من أهلي فخرجت من عندهم وتركتهم، وانظروا إلى هذا الخُرْج الذهب الذي جئتُ به تحتي لأتصدَّق منه على الفقراء والمساكين طول الطريق. فدعوا لها وفرحوا بها غاية الفرح، وكذلك زمرد فرحت بهم، ثم قالت في نفسها: بعد أن وصلت إلى هذا الأمر … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 319

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن زمرد قالت في نفسها: بعد أن وصلت إلى هذا الأمر، لعل الله يجمعني بسيدي في هذا المكان، إنه على ما يشاء قدير. ثم سارت فسار العسكر بسيرها حتى دخلوا المدينة، وترجل العسكر بين يديها حتى أدخلوها القصر، فنزلت وأخذها الأمراء والأكابر من تحت إبطَيْها حتى أجلسوها على الكرسي، وقبَّلوا الأرض جميعًا بين يديها. فلما جلست على الكرسي أمرت بفتح الخزائن ففُتِحت، وأنفقت على جميع العسكر، فدعوا لها بدوام الملك، وأطاعها العباد وسائر أهل البلاد، واستمرت على ذلك مدة من الزمان وهي تأمر وتنهى، وقد صار لها في قلوب الناس هيبة عظيمة من أجل الكرم والعفة، وأبطلت المكوس، وأطلقت مَن في الحبوس، ورفعت المظالم؛ فأحَبَّها جميع الناس، وكلما تذكرت سيدها تبكي، وتدعو الله أن يجمع بينها وبينه. واتفق أنها تذكرته في بعض الليالي، وتذكرت أيامها التي مضت لها معه، فأفاضت دمع العين، وأنشدت هذين البيتين:

شَوْقِي إِلَيْكَ عَلَى الزَّمَانِ جَدِيدُ        وَالدَّمْعُ قَرَّحَ مُقْلَتِي وَيَزِيدُ

وَإِذَا بَكَيْتُ بَكَيْتُ مِنْ أَلَمِ الْجَوَى        إِنَّ الْفِرَاقَ عَلَى الْمُحِبِّ شَدِيدُ

فلما فرغَتْ من شعرها مسحت دموعها، وطلعت القصر، ودخلت الحريم، وأفردت للجواري والسراري معازل، ورتَّبت لهن الرواتب والجرايات، وزعمت أنها تريد أن تجلس في مكان وحدها عاكفة على العبادة، وصارت تصوم وتصلي حتى قالت الأمراء: إن هذا السلطان له ديانة عظيمة. ثم إنها لم تدع عندها أحدًا من الخدم غير طواشيَّين صغيرين لأجل الخدمة، وجلست في تخت الملك سنة، وهي لم تسمع لسيدها خبرًا، ولم تقف له على أثر، فقلقت من ذلك، فلما اشتد قلقها دعت بالوزراء والحجَّاب وأمرتهم أن يُحضروا لها المهندسين والبنَّائين، وأن يبنوا لها تحت القصر ميدانًا طوله فرسخ، وعرضه فرسخ، ففعلوا ما أمرتهم به في أسرع وقت، فجاء الميدان على طِبق مرادها، فلما تم ذلك الميدان نزلت فيه، وضربت لها فيه قبة عظيمة، وصفَّت فيه كراسي الأمراء، وأمرت أن يمدوا سماطًا من سائر الأطعمة الفاخرة في ذلك الميدان، ففعلوا ما أمرتهم به، ثم أمرت أرباب الدولة أن يأكلوا فأكلوا، ثم قالت للأمراء: أريد إذا هلَّ الشهر الجديد أن تفعلوا هكذا، وتنادوا في المدينة أنه لا يفتح أحد دكانه، بل يحضرون جميعًا ويأكلون من سماط الملك، وكل مَن خالَفَ منهم يُشنَق على باب داره. فلما هلَّ الشهر الجديد فعلوا ما أمرَتْهم به، واستمروا على هذه العادة إلى أن هلَّ أول شهر في السنة الثانية، فنزلت إلى الميدان، ونادى المنادي: يا معاشر الناس كافة، كلُّ مَن فتح دكانه أو حاصله أو منزله شُنِق في الحال على باب مكانه، بل يجب عليكم أنكم تحضرون جميعًا لتأكلوا من سماط الملك. فلما فرغت المناداة وقد وضعوا السماط، جاءت الخلق أفواجًا، فأمرتهم بالجلوس على السماط ليأكلوا حتى يشبعوا من سائر الألوان، فجلسوا يأكلون كما أمرتهم، وجلست على كرسي المملكة تنظر إليهم، فصار كل مَن جلس على السماط يقول في نفسه: إن الملك لا ينظر إلا إليَّ. وجعلوا يأكلون، وصار الأمراء يقولون للناس: كلوا ولا تستحوا، فإن الملك يحب ذلك. فأكلوا حتى شبعوا وانصرفوا داعين للملك، وصار بعضهم يقول لبعض: عمرنا ما رأينا سلطانًا يحب الفقراء مثل هذا السلطان. ودعوا له بطول البقاء، وذهبت إلى قصرها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 320

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملكة زمرد ذهبت إلى قصرها وهي فرحانة بما رتبته، وقالت في نفسها: إن شاء الله تعالى بسبب ذلك أقع على خبر سيدي علي شار. ولما هلَّ الشهر الثاني فعلَتْ ذلك الأمر على جري العادة، ووضعوا السماط، ونزلت زمرد، وجلست على كرسيها، وأمرت الناس أن يجلسوا ويأكلوا. فبينما هي جالسة على رأس السماط، والناس يجلسون عليه جماعة بعد جماعة، وواحدًا بعد واحد، إذ وقعت عينها على برسوم النصراني الذي كان اشترى الستر من سيدها، فعرفته وقالت: هذا أول الفرج وبلوغ المنى. ثم إن برسوم تقدَّمَ وجلس مع الناس يأكل، فنظر إلى صحن أرز حلو مرشوش عليه سكَّر، وكان بعيدًا عنه، فزاحَمَ عليه ومدَّ يده إليه وتناوله ووضعه قدَّامه، فقال له رجل بجانبه: لِمَ لا تأكل من قدَّامك؟ أَمَا هذا عيب عليك، كيف تمد يدك إلى شيء بعيد عنك، أَمَا تستحي؟ فقال له برسوم: ما آكل إلا منه. فقال له الرجل: كُلْ لا هنَّاكَ الله به. فقال رجل حشَّاش: دعه يأكل منه حتى آكل أنا الآخر معه. فقال له الرجل: يا أنحس الحشاشين، هذا ما هو مأكولكم، وإنما هو مأكول الأمراء، فاتركوه حتى يرجع إلى أصحابه فيأكلوه. فخالَفَه برسوم وأخذ منه لقمة وحطَّها في فمه وأراد أن يأخذ الثانية، والملكة تنظر إليه، فصاحت على بعض الجند وقالت لهم: هاتوا هذا الذي قدامه الصحن الأرز الحلو، ولا تدعوه يأكل اللقمة التي في يده، بل ارموها من يده. فجاءه أربعة من العساكر وسحبوه على وجهه بعد أن رموا اللقمة من يده، وأوقفوه قدَّام زمرد، فامتنعت الناس عن الأكل، وقال بعضهم لبعض: والله إنه ظالم؛ لأنه لم يأكل من طعام أمثاله. فقال واحد: أنا قنعت بهذا الكشك الذي قدَّامي. فقال الحشاش: الحمد لله الذي منعني أن آكل من الصحن الأرز الحلو شيئًا؛ لأني كنتُ أنتظر أن يستقر قدَّامه ويتهنَّى عليه ثم آكل معه، فحصل له ما رأينا. فقالت الناس لبعضهم: اصبروا حتى ننظر ما يجري عليه. فلما قدَّموه بين يدي الملكة زمرد قالت له: ويلك من أزرق العينين! ما اسمك؟ وما سبب قدومك إلى بلادنا؟ فأنكر الملعون اسمه، وكان متعمِّمًا بعمامة بيضاء، فقال: يا ملك اسمي علي، وصنعتي حبَّاك، وجئت إلى هذه المدينة من أجل التجارة. فقالت زمرد: ائتوني بتخت رمل وقلم من نحاس. فجاءوا بما طلبته في الحال، فأخذت التخت الرمل والقلم وضربت تخت رمل، وخطَّت بالقلم صورة مثل صورة قرد، ثم بعد ذلك رفعت رأسها، وتأملت في برسوم ساعة زمانية، وقالت له: يا كلب، كيف تكذب على الملوك؟ أَمَا أنت نصراني، واسمك برسوم، وقد أتيتَ إلى حاجةٍ تفتِّش عليها؟ فاصدقني الخبر وإلا وعزة الربوبية أضرب عنقك. فتلجلج النصراني، فقال الأمراء والحاضرون: إن هذا الملك يعرف ضرب الرمل، سبحان مَن أعطاه! ثم صاحت على النصراني وقالت له: اصدقني الخبر وإلا أهلكتك. فقال النصراني: العفو يا ملك الزمان، إنك صادق في ضرب الرمل، فإن الأبعد نصراني. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 321

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن النصراني قال: العفو يا ملك الزمان، إنك صادق في ضرب الرمل، فإن الأبعد نصراني. فتعجب الحاضرون من الأمراء وغيرهم من إصابة الملك في ضرب الرمل، وقالوا: إن هذا الملك منجِّم ما في الدنيا مثله. ثم إن الملكة أمرت بأن يُسلَخ النصراني ويُحشَى جلده تبنًا، ويُعلَّق على باب الميدان، وأن تُحفَر حفرة في خارج البلد ويُحرَق فيها لحمه وعظمه، وتُرمَى عليه الأوساخ والأقذار، فقالوا: سمعًا وطاعة. وفعلوا جميع ما أمرتهم به، فلما نظر الخلق ما حلَّ بالنصراني قالوا: جزاؤه ما حلَّ به، فما كان أشأمها لقمة عليه! فقال واحد منهم: على البعيد الطلاق، عمري ما بقيت آكل أرزًا حلوًا. فقال الحشاش: الحمد لله الذي عافاني مما حلَّ بهذا؛ حيث حفظني من أكل ذلك الأرز. ثم خرج الناس جميعهم وقد حرموا الجلوس على الأرز الحلو في موضع ذلك النصراني. ولما كان الشهر الثالث، مدوا السماط على جري العادة، وملئُوه بالأصحن، وقعدت الملكة على الكرسي، ووقف العسكر على جري العادة وهم خائفون من سطوتها، ودخلت الناس من أهل المدينة على العادة، وداروا حول السماط، ونظروا إلى موضع الصحن، فقال واحد منهم للآخر: يا حاج خلف. قال له: لبيك يا حاج خالد. قال: تجنَّبِ الصحنَ الأرز الحلو، واحذر أن تأكل منه، فإن أكلت منه تصبح مشنوقًا.

ثم إنهم جلسوا حول السماط للأكل، فبينما هم يأكلون والملكة زمرد جالسة، إذ حانت منها التفاتة إلى رجل داخل يهرول من باب المدينة، فتأمَّلته فوجدته جوان الكردي اللص الذي قتل الجندي، وسبب مجيئه أنه كان ترك أمه ومضى إلى رفقائه، وقال لهم: إني كسبت البارحة كسبًا طيبًا وقتلت جنديًّا، وأخذت فرسه، وحصل لي في تلك الليلة خُرْج ملآن ذهبًا، وصبية قيمتها أكثر من الذهب الذي في الخُرْج، ووضعت جميع ذلك في الغار عند والدتي. ففرحوا بذلك، وتوجهوا إلى الغار في آخِر النهار، ودخل جوان الكردي قدامهم وهم خلفه، وأراد أن يأتي لهم بما قال لهم عليه، فوجد المكان قفرًا، فسأل أمه عن حقيقة الأمر فأخبرته بجميع ما جرى؛ فعضَّ على كفَّيْه ندمًا وقال: والله لأدورنَّ على هذه الفاجرة، وآخذها من المكان الذي هي فيه، ولو كانت في قشور الفستق، وأشفي غليلي منها. وخرج يفتش عليها، ولم يزل دائرًا في البلاد حتى وصل إلى مدينة الملكة زمرد. فلما دخل المدينة لم يجد فيها أحدًا، فسأل بعض النساء الناظرات من الشبابيك، فأعلمنه أن أول كل شهر يمد السلطان سماطًا، وتروح الناس وتأكل منه، ودلُّوه على الميدان الذي يُمَدُّ فيه السماط، فجاء وهو يهرول فلم يجد مكانا خاليًا يجلس فيه إلا عند الصحن المتقدِّم ذكره، فقعد وصار الصحن قدَّامه فمدَّ يده إليه، فصاحت عليه الناس وقالوا له: يا أخانا، ما تريد أن تعمل؟ قال: أريد أن آكل من هذا الصحن حتى أشبع. فقال له واحد: إن أكلت منه تصبح مشنوقًا. فقال له: اسكت، ولا تنطق بهذا الكلام. ثم مدَّ يده إلى الصحن وجرَّه قدَّامه، وكان الحشاش المتقدم ذكره جالسًا في جنبه، فلمَّا رآه جرَّ الصحن قدامه هرب من مكانه، وطارت الحشيشة من رأسه، وجلس بعيدًا وقال: أنا ما لي حاجة بهذا الصحن. ثم إن جوان الكردي مدَّ يده إلى الصحن وهي في صورة رجل الغراب، وغرف بها وأطلعها منه وهي في صورة خُفِّ الجمل. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 322

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن جوان الكردي أطلع يده من الصحن وهي في صورة خُفِّ الجمل، ودوَّر اللقمة في كفه حتى صارت مثل النارنجة الكبيرة، ثم رماها في فمه بسرعة فانحدرت في حلقه ولها فرقعه مثل الرعد، وبان قعر الصحن من موضعها، فقال له مَن بجانبه: الحمد لله الذي لم يجعلني طعامًا بين يدَيْك؛ لأنك خسفت الصحن بلقمة واحدة. فقال الحشاش: دعوه يأكل فإني تخيَّلت فيه صورة المشنوق. ثم التفت إليه وقال له: كُل لا هنَّاك الله. فمدَّ يده إلى اللقمة الثانية، وأراد أن يدوِّرها في يده مثل اللقمة الأولى، وإذا بالملكة صاحت على بعض الجند وقالت لهم: هاتوا ذلك الرجل بسرعة، ولا تدعوه يأكل اللقمة التي في يده. فتجارت عليه العساكر وهو مكبٌّ على الصحن، وقبضوا عليه وأخذوه قدَّام الملكة زمرد، فشمتت الناس فيه وقالوا لبعضهم: إنه يستأهل؛ لأننا نصحناه فلم ينتصح، وهذا المكان موعود بقتل من جلس فيه، وذلك الأرز مشئوم على كل مَن يأكل منه.

ثم إن الملكة زمرد قالت له: ما اسمك؟ وما صنعتك؟ وما سبب مجيئك مدينتنا؟ قال: يا مولانا السلطان اسمي عثمان، وصنعتي خولي بستان، وسبب مجيئي إلى هذه المدينة أنني دائر أفتش على شيء ضاع مني. فقالت الملكة: عليَّ بتخت الرمل. فأحضروه بين يديها، فأخذت القلم وضربت تخت رمل، ثم تأملت فيه ساعة، وبعد ذلك رفعت رأسها وقالت له: ويلك يا خبيث! كيف تكذب على الملوك؟ هذا الرمل يخبرني أن اسمك جوان الكردي، وصنعتك أنك لص تأخذ أموال الناس بالباطل، وتقتل النفس التي حرَّمَ الله قتلها إلا بالحق. ثم صاحت عليه وقالت له: يا خنزير، اصدقني بخبرك وإلا قطعت رأسك. فلما سمع كلامها اصفرَّ لونه، واصطكت أسنانه، وظنَّ أنه إن نطق بالحق ينجو، فقال: صدقت أيها الملك، ولكنني أتوب على يديك من الآن، وأرجع إلى الله تعالى. فقالت له الملكة: لا يحل لي أن أترك آفة في طريق المسلمين. ثم قالت لبعض أتباعها: خذوه واسلخوا جلده، وافعلوا به مثل ما فعلتم بنظيره في الشهر الماضي. ففعلوا ما أمرتهم به، ولما رأى الحشاش العسكر حين قبضوا على ذلك الرجل، أدار ظهره إلى الصحن الأرز وقال: إن استقبالك بوجهي حرام. ولما فرغوا من الأكل تفرَّقوا وذهبوا إلى أماكنهم، وطلعت الملكة قصرها وأذنت للمماليك بالانصراف.

ولما هلَّ الشهر الرابع نزلوا إلى الميدان على جري العادة، وأحضروا الطعام، وجلس الناس ينتظرون الإذن، وإذا بالملكة قد أقبلت وجلست على الكرسي وهي تنظر إليهم، فوجدت موضع الصحن الأرز خاليًا وهو يسع أربع أنفس، فتعجَّبت من ذلك. فبينما هي تجول بنظرها إذ حانت منها التفاتة فنظرت إنسانًا داخلًا من باب الميدان يهرول، وما زال يهرول حتى وقف على السماط، فلم يجد مكانًا خاليًا إلا عند الصحن فجلس فيه، فتأمَّلته فوجدته الملعون النصراني الذي سمَّى نفسه رشيد الدين، فقالت في نفسها: ما أبركَ هذا الطعام الذي وقع في حبائله هذا الكافر! وكان لمجيئه سبب عجيب، وهو أنه لما رجع من سفره … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 323

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملعون الذي سمَّى نفسه رشيد الدين لما رجع من سفره أخبره أهل بيته أن زمرد قد فُقِدت ومعها خُرْج مال، فلما سمع ذلك الخبر شقَّ أثوابه ولطم على وجهه ونتف لحيته، وأرسل أخاه برسوم يفتش عليها في البلاد؛ فلما أبطأ عليه خبره خرج هو بنفسه ليفتش على أخيه وعلى زمرد في البلاد، فرمته المقادير إلى مدينة زمرد، ودخل تلك المدينة في أول يوم من الشهر، فلما مشى في شوارعها وجدها خالية، ورأى الدكاكين مقفولة، ونظر النساء في الطيقان، فسأل بعضهن عن الحال فقلن له: إن الملك يعمل سماطًا لجميع الناس في أول كل شهر، وتأكل منه الخلق جميعًا، وما يقدر أحد أن يجلس في بيته ولا في دكانه. ودللْنَه على الميدان، فلما دخل الميدان وجد الناس مزدحمين على الطعام، ولم يجد موضعًا خاليًا إلا الموضع الذي فيه الصحن الأرز المعهود، فجلس فيه ومدَّ يده ليأكل منه، فصاحت الملكة على بعض العسكر وقالت: هاتوا الذي قعد على الصحن الأرز. فعرفوه بالعادة وقبضوا عليه، وأوقفوه قدَّام الملكة زمرد. فقالت له: ويلك! ما اسمك؟ وما صنعتك؟ وما سبب مجيئك إلى مدينتنا؟ فقال: يا ملك الزمان اسمي رستم، ولا صنعة لي؛ لأني فقير درويش. فقالت لجماعتها: هاتوا لي تخت رمل والقلم النحاس. فأتوها بما طلبته على العادة، فأخذت القلم وخطَّت به تخت رمل، ومكثت تتأمل فيه ساعة، ثم رفعت رأسها إليه وقالت: يا كلب، كيف تكذب على الملوك؟ أنت اسمك رشيد الدين النصراني، وصنعتك أنك تنصب الحِيَل لجواري المسلمين وتأخذهن، وأنت مسلم في الظاهر ونصراني في الباطن، فانطق بالحق، وإن لم تنطق بالحق فإني أضرب عنقك. فتلجلج في كلامه، ثم قال: صدقتَ يا ملك الزمان. فأمرت به أن يُمدَّ ويُضرَب على كل رجل مائة سوط، وعلى جسده ألف سوط، وبعد ذلك يُسلَخ ويُحشَى جلده ساسًا، ثم تُحفَر له حفرة في خارج المدينة ويُحرَق، وبعد ذلك يضعون عليه الأوساخ والأقذار. ففعلوا ما أمرتهم به، ثم أذنت للناس بالأكل فأكلوا. ولما فرغ الناس من الأكل وانصرفوا إلى حال سبيلهم، طلعت الملكة زمرد إلى قصرها وقالت: الحمد لله الذي أراح قلبي من الذين آذوني. ثم إنها شكرت فاطر الأرض والسموات، وأنشدت هذه الأبيات:

تَحَكَّمُوا فَاسْتَطَالُوا فِي تَحَكُّمِهِمْ        وَبَعْدَ حِينٍ كَأَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَكُنِ

لَوْ أَنْصَفُوا أَنْصَفُوا لَكِنْ بَغَوْا فَأَتَى        عَلَيْهُمُ الدَّهْرُ بِالْآفَاتِ وَالْمِحَنِ

فَأَصْبَحُوا وَلِسَانُ الْحَالِ يُنْشِدُهُمْ        هَذَا بِذَاكَ وَلَا عَتْبٌ عَلَى الزَّمَنِ

ولما فرغت من شعرها خطر ببالها سيدها علي شار فبكت بالدموع الغزار، وبعد ذلك رجعت إلى عقلها وقالت في نفسها: لعل الله الذي مكنني من أعدائي يمنُّ عليَّ برجوع أحبَّائي. فاستغفرت الله عزَّ وجَلَّ. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 324

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملكة استغفرت الله عز وجل وقالت: لعل الله يجمع شملي بحبيبي علي شار قريبًا، إنه على ما يشاء قدير، وبعباده لطيف خبير. ثم حمدت الله ووالت الاستغفار، وسلَّمت لمواقع الأقدار، وأيقنت أنه لا بد لكل أول من آخِر، وأنشدت قول الشاعر:

هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنَّ الْأُمُورَ        بِكَفِّ الْإِلَهِ مَقَادِيرُهَا

فَلَيْسَ بِمُؤذِيكَ مَنْ هَابَهَا        وَلَا قَاصِرٌ عَنْكَ مَأْمُورُهَا

وقول الآخَر:

دَرِّجِ الْأَيَّامَ تَنْدَرِجِ        وَبُيُوتَ الْهَمِّ لَا تَلِجِ

رُبَّ أَمْرٍ عَزَّ مَطْلَبُهُ        قَرَّبَتْهُ سَاعَةُ الْفَرَجِ

وقول الآخَر:

كُنْ حَلِيمًا إِذَا بُلِيتَ بِغَيْظٍ        وَصَبُورًا إِذَا أَتَتْكَ مُصِيبَةْ

فَاللَّيَالِي مِنَ الزَّمَانِ حَبَالَى        مُثْقِلَاتٌ يَلِدْنَ كُلَّ عَجِيبَةْ

وقول الآخَر:

اصْبِرْ فَفِي الصَّبْرِ خَيْرٌ لَوْ عَلِمْتَ بِهِ        لَطِبْتَ نَفْسًا وَلَمْ تَجْزَعْ مِنَ الْأَلَمِ

وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ لَوْ لَمْ تَصْطَبِرْ كَرَمًا        صَبَرْتَ رَغْمًا عَلَى مَا خُطَّ بِالْقَلَمِ

فلما فرغت من شعرها مكثت بعد ذلك شهرًا كاملًا، وهي بالنهار تحكم بين الناس، وتأمر وتنهى، وبالليل تبكي وتنتحب على فراق سيدها علي شار. ولما هلَّ الشهر الجديد أمرت بمد السماط في الميدان على جري العادة، وجلست فوق الناس وصاروا ينتظرون الإذن في الأكل، وكان موضع الصحن الأرز خاليًا، وجلست هي على رأس السماط، وجعلت عينها قبال باب الميدان لتنظر كلَّ مَن يدخل منه، وصارت تقول في سرِّها: يا مَن ردَّ يوسف على يعقوب، وكشف البلاء عن أيوب، امنُنْ عليَّ بردِّ سيدي علي شار بقدرتك وعظمتك، إنك على كل شيء قدير يا رب العالمين، يا هادي الضالين، يا سامع الأصوات، يا مجيب الدعوات، استجِبْ مني يا رب العالمين. فلم يتم دعاؤها إلا وشخص داخل من باب الميدان كأن قوامه غصن بان، إلا أنه نحيل البدن يلوح عليه الاصفرار، وهو أحسن ما يكون من الشباب، كامل العقل والآداب. فلما دخل لم يجد موضعًا خاليًا إلا الموضع الذي عند الصحن الأرز فجلس فيه، ولما رأته زمرد خفق قلبها فحقَّقت النظر فيه، فتبيَّنَ لها أنه سيدها علي شار، فأرادت أن تصرخ من الفرح فثبَّتت نفسها، وخشيت من الفضيحة بين الناس، ولكن تقلقلت أحشاؤها، واضطرب قلبها، فكتمت ما بها، وكان السبب في مجيء علي شار أنه لما رقد على المصطبة ونزلت زمرد وأخذها جوان الكردي، استيقظ بعد ذلك فوجد نفسه مكشوف الرأس، فعرف أن إنسانًا تعدَّى عليه وأخذ عمامته وهو نائم، فقال الكلمة التي لا يخجل قائلها، وهي: إنا لله وإنا إليه راجعون. ثم إنه رجع إلى العجوز التي كانت أخبرته بمكان زمرد، وطرق عليها الباب فخرجت إليه، فبكى بين يديها حتى وقع مغشيًّا عليه، فلما أفاق أخبرها بجميع ما حصل له، فلامته وعنَّفته على ما وقع منه، وقالت له: إن مصيبتك وداهيتك من نفسك. وما زالت تلومه حتى طفح الدم من منخرَيْه، ووقع مغشيًّا عليه، فلما أفاق من غشيته … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 325

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن علي شار لما أفاق من غشيته رأى العجوز تبكي من أجله، وتفيض دمع العين، فتضجر وأنشد هذين البيتين:

مَا أَمَرَّ الْفِرَاقَ لِلْأَحْبَابِ        وَأَلَذَّ الْوِصَالَ لِلْعُشَّاقِ

جَمَعَ اللهُ شَمْلَ كُلِّ مُحِبٍّ        وَرَعَانِي لِأَنَّنِي فِي السِّيَاقِ

فحزنت عليه وقالت له: اقعد هنا حتى أكشف لك الخبر وأعود بسرعة. فقال: سمعًا وطاعة. ثم تركته وذهبت وغابت عنه إلى نصف النهار ثم عادت إليه وقالت: يا علي، ما أظن إلا أنك تموت بحسرتك؛ لأنك ما بقيت تنظر محبوبتك إلا على الصراط؛ وذلك أن أهل القصر لما أصبحوا وجدوا الشباك الذي يطل على البستان مخلوعًا، ووجدوا زمرد مفقودة ومعها خُرْج مال للنصراني، ولما وصلتُ هناك وجدت الوالي واقفًا على باب القصر هو وجماعته، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فلمَّا سمع علي شار منها هذا الكلام تبدَّلَ الضياء في وجهه بالظلام، ويئس من الحياة وأيقن بالوفاة، وما زال يبكي حتى وقع مغشيًّا عليه، فلما أفاق أضرَّ به العشق والفراق، ومرض مرضًا شديدًا ولزم داره، فما زالت العجوز تأتيه بالأطباء وتسقيه الأشربة وتعمل له المساليق مدة سنة كاملة حتى رُدَّتْ له روحه، فتذكَّر ما فات وأنشد هذه الأبيات:

الْهَمُّ مُجْتَمِعٌ وَالشَّمْلُ مُفْتَرِقُ        وَالدَّمْعُ مُسْتَبِقٌ وَالْقَلْبُ مُحْتَرِقُ

زَادَ الْغَرَامُ عَلَى مَنْ لَا قَرَارَ لَهُ        وَقَدْ ضَنَاهُ الْهَوَى وَالشَّوْقُ وَالْقَلَقُ

يَا رَبُّ إِنْ كَانَ شَيْءٌ فِيهِ لِي فَرَجٌ        فَامْنُنْ عَلَيَّ بِهِ مَا دَامَ لِي رَمَقُ

ولما دخلت عليه السنة الثانية قالت له العجوز: يا ولدي، هذا الذي أنت فيه من الكآبة والحزن لا يرد عليك محبوبتك، فقُمْ وشدَّ حيلك وفتِّش عليها في البلاد، لعلك أن تقع على خبرها. ولم تزل تجلِّده وتقوِّيه حتى نشَّطته وأدخلته الحمام، وأسقته الشراب وأطعمته الدجاج، وصارت كل يوم تفعل معه كذلك مدة شهر حتى تقوَّى وسافر، ولم يزل مسافرًا إلى أن وصل إلى مدينة زمرد، ودخل الميدان وجلس على الطعام، ومد يده ليأكل فحزنت عليه الناس، وقالوا له: يا شاب، لا تأكل من هذا الصحن؛ لأن مَن أكل منه يحصل له ضرر. فقال: دعوني آكل منه، ويفعلون بي ما يريدون، لعلي أستريح من هذه الحياة المتعبة. ثم أكل أول لقمة وأرادت زمرد أن تحضره بين يديها، فخطر ببالها أنه جائع، فقالت في نفسها: المناسب أني أدعه يأكل حتى يشبع. فصار يأكل والخلق باهتة له ينتظرون الذي يجري له، فلما أكل وشبع قالت لبعض الطواشية: امضوا إلى ذلك الشاب الذي يأكل من الأرز وهاتوه برفق، وقولوا له: كلِّم الملك لسؤال لطيف وجواب. فقالوا: سمعًا وطاعة. ثم ذهبوا إليه حتى وقفوا على رأسه، وقالوا له: يا سيدي، تفضَّلْ كلِّم الملك وأنت منشرح الصدر. فقال: سمعًا وطاعة. ثم مضى مع الطواشية. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 326

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن علي شار قال: سمعًا وطاعة. ثم ذهب مع الطواشية، فقال الخلق لبعضهم: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، يا ترى ما الذي يفعله به الملك؟ فقال بعضهم: لا يفعل به إلا خيرًا؛ لأنه لو كان يريد ضرره ما كان تركه يأكل حتى يشبع. فلما وقف قدَّام زمرد سلَّم وقبَّل الأرض بين يديها، فردَّت عليه السلام، وقابلته بالإكرام، وقالت له: ما اسمك؟ وما صنعتك؟ وما سبب مجيئك إلى هذه المدينة؟ فقال لها: يا ملك اسمي علي شار، وأنا من أولاد التجار، وبلدي خراسان، وسبب مجيئي إلى هذه المدينة التفتيش على جارية ضاعت مني، وكانت عندي أعزَّ من سمعي وبصري، فروحي متعلِّقة من حين فقدتُها، وهذه قصتي. ثم بكى حتى غشي عليه، فأمرت أن يرشوا على وجهه ماء الورد، فرشوا على وجهه ماء الورد حتى أفاق، فلما أفاق من غشيته قالت: عليَّ بتخت الرمل والقلم النحاس. فجاءوا به فأخذت القلم وضربت تخت رمل، وتأمَّلت فيه ساعة من الزمان، ثم بعد ذلك قالت له: صدقتَ في كلامك، الله يجمعك عليها قريبًا فلا تقلق. ثم أمرت الحاجب أن يمضي به إلى الحمام، ويُلبِسه بدلة حسنة من ثياب الملوك، ويركبه فرسًا من خواص خيل الملك، ويمضي به بعد ذلك إلى القصر في آخِر النهار. فقال الحاجب: سمعًا وطاعة. ثم أخذه من قدَّامها وتوجَّه به، فقال الناس لبعضهم: ما بال السلطان لاطَفَ الغلام هذه الملاطفة؟ وقال بعضهم: أَمَا قلتُ لكم إنه لا يسيئه فإن شكله حسن، ومن حين صبر عليه لما شبع عرفت ذلك. وصار كل واحد منهم يقول مقالة، ثم تفرَّق الناس إلى حال سبيلهم، وما صدقت زمرد أن الليل يقبل حتى تختلي بمحبوب قلبها. فلما أتى الليل دخلَتْ محل مبيتها، وأظهرت أنه غلب عليها النوم، ولم يكن لها عادة بأن ينام عندها أحد غير خادمين صغيرين برسم الخدمة، فلما استقرَّتْ في ذلك المحل أرسلَتْ إلى محبوبها علي شار، وقد جلست على السرير، والشمع يضيء فوق رأسها وتحت رجليها، والتعاليق الذهب مشرقة في ذلك المحل، فلما سمع الناس بإرسالها إليه تعجَّبوا من ذلك، وصار كل واحد منهم يظن ظنًّا، ويقول مقالة، وقال بعضهم: إن الملك على كل حال تعلَّقَ بهذا الغلام، وفي غدٍ يجعله قائد عسكر. فلما دخلوا به عليها قبَّلَ الأرض بين يديها ودعا لها، فقالت في نفسها: لا بد أن أمزح معه ساعة، ولا أُعلِمه بنفسي. ثم قالت: يا علي، هل ذهبت إلى الحمام؟ قال: نعم يا مولاي. قالت: قم كُلْ من هذا الدجاج واللحم، واشرب من هذا السُّكْر والشراب فإنك تعبان، وبعد ذلك تعال هنا. فقال: سمعًا وطاعة. ثم فعل ما أمرته به، ولما فرغ من الأكل والشرب قالت له: اطلع عندي على السرير وكبِّسني. فشرع يكبِّس رجليها وسيقانها فوجدها أنعم من الحرير، فقالت له: اطلع بالتكبيس إلى فوق. فقال: العفو يا مولاي، من عند الركبة ما أتعدَّى. قالت: أتخالفني فتكون ليلة مشئومة عليك؟ وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 327

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن زمرد قالت لسيدها علي شار: أتخالفني فتكون ليلة مشئومة عليك، بل ينبغي لك أن تطاوعني، وأنا أعملك معشوقي، وأجعلك أميرًا من أمرائي. فقال علي شار: يا ملك الزمان، ما الذي أطيعك فيه؟ قالت: حلَّ لباسك، ونَمْ على وجهك. فقال: هذا شيء عمري ما فعلته، وإن قهرتني على ذلك فإني أخاصمك فيه عند الله يوم القيامة، فخذ كل شيء أعطيتني إياه ودعني أروح من مدينتك. ثم بكى وانتحب، فقالت له: حلَّ لباسك ونَمْ على وجهك وإلا ضربتُ عنقك. ففعل، فطلعت على ظهره، فوجد شيئًا ناعمًا أنعم من الحرير، وألين من الزبد، فقال في نفسه: إن هذا الملك خير من جميع النساء. ثم إنها صبرت ساعة وهي على ظهره، وبعد ذلك انقلبت على الأرض، فقال علي شار: الحمد لله، كأن ذكره لم ينتصب. فقالت: يا علي، إن من عادة ذكري أنه لا ينتصب إلا إذا عركوه بأيديهم، فقُمْ واعركه بيدك حتى ينتصب وإلا قتلتك. ثم رقدت على ظهرها، وأخذت يده ووضعتها على فرجها، فوجد فرجًا أنعم من الحرير، وهو أبيض مربرب كبير، يحكي في السخونة حرارة الحمام أو قلب صبٍّ أضناه الغرام، فقال علي شار في نفسه: إن الملك له كس فهذا من العجب العجاب. وأدركته الشهوة فصار ذكره في غاية الانتصاب، فلما رأت منه ذلك ضحكت وقهقهت، وقالت: يا سيدي، قد حصل هذا كله وما تعرفني؟ فقال: ومَن أنت أيها الملك؟ قالت: أنا جاريتك زمرد. فلما علم ذلك قبَّلها وعانقها، وانقضَّ عليها مثل الأسد على الشاة، وتحقَّقَ أنها جاريته بلا اشتباه؛ فأغمد قضيبه في جرابها، ولم يزل بوابًا لبابها، وإمامًا لمحرابها، وهي معه في ركوع وسجود، وقيام وقعود، إلا أنها صارت تتبع التسبيحات بغنج في ضمنه حركات، حتى سمع الطواشية فجاءوا ونظروا من خلف الأستار، فوجدوا الملك راقدًا وفوقه علي شار، وهو يرصع ويرهز، وهي تشخر وتغنج. فقالت الطواشية: إن هذا الغنج ما هو غنج رجل، لعل هذا الملك امرأة! ثم كتموا أمرهم ولم يظهروه على أحد.

فلما أصبحت زمرد أرسلت إلى كامل العسكر وأرباب الدولة وأحضرتهم، وقالت لهم: أنا أريد أن أسافر إلى بلد هذا الرجل، فاختاروا لكم نائبًا يحكم بينكم حتى أحضر عندكم، فأجابوا زمرد بالسمع والطاعة، ثم شرعت في تجهيز آلة السفر من زاد وأموال وأرزاق، وتحف وجمال وبغال، وسافرَتْ من المدينة، ولم تزل مسافرة إلى أن وصلت إلى بلد علي شار، ودخل منزله، وأعطى وتصدَّقَ ووهب، ورُزِق منها الأولاد، وعاشَا في أحسن المسرات إلى أن أتاهما هادم اللذات ومفرِّق الجماعات، فسبحان الباقي بلا زوال، والحمد لله على كل حال.

 

حكاية جبير بن عمير والست بدور

ومما يُحكَى أن أمير المؤمنين هارون الرشيد أرق ليلة من الليالي، وتعذَّر عليه النوم، ولم يزل يتقلب من جنب إلى جنب لشدة أرقه، فلما أعياه ذلك أحضر مسرورًا وقال له: يا مسرور، انظر إلى مَن يسلِّيني على هذا الأرق. فقال له: يا مولاي، هل لك أن تدخل البستان الذي في الدار، وتتفرَّج على ما فيه من أزهار، وتنظر إلى الكواكب وحسن ترصيعها، والقمر بينها مشرق على الماء؟ قال له: يا مسرور، إن نفسي لا تهفو إلى شيء من ذلك. قال: يا مولاي، إن في قصرك ثلاثمائة سرية، لكل سرية مقصورة، فَأْمُرْ كلَّ واحدة منهن أن تختلي بنفسها في مقصورتها، وتدور أنت تتفرج عليهنَّ وهن لا يدرين. قال: يا مسرور، القصر قصري والجواري ملكي، غير أن نفسي لا تهفو إلى شيء من ذلك. قال: يا مولاي، اؤمر العلماء والحكماء والشعراء أن يحضروا بين يديك، ويفيضوا في المباحث، وينشدون لك الأشعار، ويقصون عليك الحكايات والأخبار. قال: ما تهفو نفسي إلى شيء من ذلك. قال: يا مولاي، اؤمر العلماء والندماء والظرفاء أن يحضروا بين يديك، ويتحفوك بغريب النكات. قال: يا مسرور، ما تهفو نفسي إلى شيء من ذلك. قال: يا مولاي، فاضرب عنقي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 328

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن مسرورًا قال للخليفة: يا مولاي، فاضرب عنقي لعله يزيل أرقك، ويُذهِب القلق عنك. فضحك الرشيد من قوله، وقال له: يا مسرور، انظر مَن بالباب من الندماء. فخرج مسرور ثم عاد وقال: يا مولاي، الذي على الباب علي بن منصور الخليعي الدمشقي. قال: عليَّ به. فذهب وأتى به، فلما دخل قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين. فردَّ عليه السلام وقال: يا ابن منصور، حدِّثنا بشيء من أخبارك. فقال: يا أمير المؤمنين، هل أحدِّثك بشيء رأيته عيانًا أم بشيء سمعت به؟ فقال أمير المؤمنين: إن كنت عاينتَ شيئًا غريبًا فحدِّثنا به، فإنه ليس الخبر كالعيان. قال: يا أمير المؤمنين أخلِ لي سمعك وقلبك. قال: يا ابن منصور، ها أنا سامع لك بأذني، ناظر لك بعيني، مصغٍ لك بقلبي. قال: يا أمير المؤمنين، اعلم أن لي كل سنة رسمًا على محمد بن سليمان الهاشمي سلطان البصرة، فمضيت إليه على عادتي، فلما وصلت إليه وجدته متهيئًا للركوب إلى الصيد والقنص، فسلَّمت عليه وسلَّم عليَّ، وقال لي: يا ابن منصور، اركب معنا إلى الصيد. فقلت له: يا مولاي، ما لي قدرة على الركوب، فأجلسني في دار الضيافة، ووصِّ عليَّ الحجَّاب والنواب. ففعل، ثم توجَّه إلى الصيد، فأكرموني غاية الإكرام، وضيَّفوني أحسن الضيافة، فقلت في نفسي: بالله العجب، إن لي مدةً أقدمُ من بغداد إلى البصرة ولم أعرف في البصرة سوى من القصر إلى البستان، ومن البستان إلى القصر، ومتى يكون لي فرصة أنتهزها في الفرجة على جهات البصرة مثل هذه النوبة، فأنا أقوم في هذه الساعة وأتمشَّى وحدي لأتفرج، وينهضم عني الأكل. فلبست أفخر ثيابي وتمشيت في جانب البصرة، ومعلومك يا أمير المؤمنين أن فيها سبعين دربًا، طول كل درب سبعون فرسخًا بالعراقي؛ فتهت في أزِقَّتها ولحقني العطش. فبينما أنا ماشٍ يا أمير المؤمنين، وإذا بباب كبير له حلقتان من النحاس الأصفر، ومرخيٌّ عليه ستور من الديباج الأحمر، وفي جانبيه مصطبتان، وفوقه مكعب لدوالي العنب، وقد ظللت على ذلك الباب فوقفت أتفرج على هذا المكان. فبينما أنا واقف إذ سمعت صوتَ أنينٍ ناشئ من قلب حزين يقلِّب النغمات، وينشد هذه الأبيات:

جِسْمِي غَدَا مَنْزِلَ الْأَسْقَامِ وَالْمِحَنِ        مِنْ أَجْلِ ظَبْيٍ بَعِيدِ الدَّارِ وَالْوَطَنِ

فَيَا نَسِيمَيْ زَرُودٍ هَيَّجَا شَجَنِي        بِاللهِ رَبِّكُمَا عُوجَا عَلَى سَكَنِي

وَعَاتِبَاهُ لَعَلَّ الْعَتْبَ يَعْطِفُهُ

فَذَوِّقَا الْقَوْلَ إِذْ يُصْغِي لِقَوْلِكُمَا        وَاسْتَدْرِجَا خَبَرَ الْعُشَّاقِ بَيْنَكُمَا

وَأَوْلِيَانِي جَمِيلًا مِنْ صَنِيعِكُمَا        وَعَرِّضَا بِي وَقُولَا فِي حَدِيثِكُمَا

مَا بَالُ عَبْدِكَ بِالْهِجْرَانِ تَتْلِفُهُ

مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ جَنَاهُ أَوْ مُخَالَفَةٍ        أَوْ مَيْلِ قَلْبٍ لِغَيْرٍ أَوْ مُحَارَفَةٍ

أَوْ نَقْضِ عَهْدٍ وَثِيقٍ أَوْ مُعَاسَفَةٍ        فَإِنْ تَبَسَّمَ قُولَا فِي مُلَاطَفَةٍ

مَا ضَرَّ لَوْ بِوِصَالٍ مِنْكَ تُسْعِفُهُ

فَإِنَّهُ بِكَ مَشْغُوفٌ كَمَا يَجِبُ        وَطَرْفُهُ سَاهِرٌ يَبْكِي وَيَنْتَحِبُ

فَإِنْ أَبَانَ الرِّضَا فَالْقَصْدُ وَالْأَدَبُ        وَإِنْ بَدَا لَكُمَا فِي وَجْهِهِ غَضَبُ

فَغَالِطَاهُ وَقُولَا لَيْسَ تَعْرِفُهُ

فقلت في نفسي: إن كان صاحب النغمة مليحًا، فقد جمع بين الملاحة والفصاحة وحسن الصوت. ثم دنوت من الباب، وجعلت أرفع الستر قليلًا قليلًا، وإذا أنا بجارية بيضاء كأنها البدر إذا بَدَرَ في ليلة أربعة عشر، بحاجبين مقرونين، وجفنين ناعسين، ونهدين كرمانتين، ولها شفتان رقيقتان كأنهما أقحوانتان، وفم كأنه خاتم سليمان، ونضيد أسنان يلعب بعقل الناظم والناثر، كما قال فيه الشاعر:

يَا دُرَّ ثَغْرِ الْحَبِيبِ مَنْ نَظَمَكْ        وَأَوْدَعَ الرَّاحَ وَالْأَقَاحَ فَمَكْ

وَمَنْ أَعَارَ الصَّبَاحَ مُبْتَسَمَكْ        وَمَنْ بِفِعْلِ الْعَقِيقِ قَدْ خَتَمَكْ

فَأَصْبَحَ مَنْ رَآكَ مِنْ طَرَبٍ        يَتِيهُ عُجْبًا فَكَيْفَ مَنْ لَثَمَكْ

وقول الآخَر:

يَا دُرَّ ثَغْرِ حَبِيبِي        كُنْ بِالْعَقِيقِ رَحِيمَا

وَلَا تُعْالِ عَلَيْهِ        أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمَا

وبالجملة فقد حازت أنواع الجمال، وصارت فتنة للنساء والرجال، لا يشبع من رؤية حسنها الناظر، وهي كما قال فيها الشاعر:

إِنْ أَقْبَلَتْ قَتَلَتْ وَإِنْ هِيَ أَدْبَرَتْ        جَعَلَتْ جَمِيعَ النَّاسِ مِنْ عُشَّاقِهَا

شَمْسِيَّةٌ بَدْرِيَّةٌ لَكِنَّهَا        لَيْسَ الْجَفَا وَالصَّدُّ مِنْ أَخْلَاقِهَا

جَنَّاتُ عَدْنٍ فَتَّحَتْ بِقَمِيصِهَا        وَالْبَدْرُ فِي فَلَكٍ عَلَى أَطْوَاقِهَا

فبينما أنا أنظر إليها من خلال الستارة، وإذا هي التفتت فرأتني واقفًا على الباب، فقالت لجاريتها: انظري مَن بالباب؟ فقامت الجارية وأتت إليَّ وقالت: يا شيخ، أليس عندك حياء؟ وهل شيب وعيب؟ فقلت لها: يا سيدتي، أمَّا الشيب فقد عرفناه، وأما العيب فما أظن أني أتيتُ بعيب. فقالت سيدتها: وأي عيب أكثر من تهجُّمِكَ على دارٍ غير دارك، ونظرك إلى حريمٍ غير حريمك؟ فقلت لها: يا سيدتي، إن لي عذرًا في ذلك. فقالت: وما عذرك؟ فقلتُ لها: إني رجل غريب عطشان، وقد قتلني العطش. فقالت: قبلنا عذرك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 329

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية قالت: قبلنا عذرك. ثم نادت بعض جواريها وقالت: يا لطف، اسقيه شربة بالكوز الذهب. فجاءتني بكوز من الذهب الأحمر مرصَّع بالدُّر والجوهر، ملآن ماءً ممزوجًا بالمسك الأذفر، وهو مغطًّى بمنديل من الحرير الأخضر، فجعلتُ أشرب وأطيل في شربي، وأنا سارق النظر إليها حتى طال وقوفي، ثم رددتُ الكوز على الجارية ووقفت، فقالت: يا شيخ، امضِ إلى حال سبيلك. فقلت لها: يا سيدتي، أنا مشغول الفكر. فقالت: في ماذا؟ فقلت: في تقلُّب الزمان، وتصرُّف الحدثان. قالت: يحقُّ لك؛ لأن الزمان ذو عجائب، ولكن ما الذي رأيت من عجائبه حتى تفكِّر فيه؟ فقلت لها: أفكر في صاحب هذه الدار؛ لأنه كان صديقي في حال حياته. فقالت لي: ما اسمه؟ فقلت: محمد بن علي الجوهري، وكان ذا مال جزيل، فهل خلَّف أولادًا؟ قالت: نعم، خلَّف بنتًا يقال لها بدور، وقد ورثت أمواله جميعها. فقلت لها: كأنك ابنته. قالت: نعم. وضحكت، ثم قالت: يا شيخ، قد أطلت الخطاب فاذهب إلى حال سبيلك. فقلت لها: لا بد من الذهاب، ولكني أرى محاسنك متغيِّرة، فأخبريني بشأنك لعل الله يجعل لك على يديَّ فرجًا. فقالت لي: يا شيخ، إن كنتَ من أهل الأسرار كشفنا لك سرنا، فأخبرني مَن أنت حتى أعرف هل أنت محلٌّ للسر أم لا، فقد قال الشاعر:

لَا يَكْتُمُ السِّرَّ إِلَّا كُلُّ ذِي ثِقَةٍ        وَالسِّرُّ عِنْدَ خِيَارِ النَّاسِ مَكْتُومُ

قَدْ صُنْتُ سِرِّيَ فِي بَيْتٍ لَهُ غُلُقٌ        قَدْ ضَاعَ مِفْتَاحُهُ وَالْبَابُ مَخْتُومُ

فقلت لها: يا سيدتي، كأن قصدك أن تعلمي مَن أنا، فأنا علي بن منصور الخليعي الدمشقي نديم أمير المؤمنين هارون الرشيد. فلما سمعت باسمي نزلت من على كرسيها وسلَّمت عليَّ، وقالت لي: مرحبًا بك يا ابن منصور، الآن أخبرك بحالي وأستأمنك على سري، أنا عاشقة مفارقة. فقلت لها: يا سيدتي، أنت مليحة وما تعشقين إلا كل مليح، فمَن الذي تعشقينه؟ قالت: أعشق جبير بن عمير الشيباني أمير بني شيبان. وقد وصفَتْ لي شابًّا لم يكن بالبصرة أحسن منه، فقلت لها: يا سيدتي، هل جرى بينكما مواصلة أو مراسلة؟ قالت: نعم، إلا أنه قد عشقَنَا عشقًا باللسان، لا بالقلب والجنان؛ لأنه لم يَفِ بوعد، ولم يحافظ على عهد. فقلت لها: يا سيدتي، وما سبب الفراق بينكما؟ قالت: سببه أني كنت يومًا جالسة، وجاريتي هذه تسرِّح شعري، فلما فرغتْ من تسريحه جدلت ذوائبي فأعجبها حُسْني وجمالي، فطأطأت عليَّ وقبَّلَتْ خدي، وكان في ذلك الوقت داخلًا عليَّ فرأى ذلك، فلما رأى الجارية تقبِّل خدي ولَّى من وقته غضبان، عازمًا على دوام البَيْن، وأنشد هذين البيتين:

إِذَا كَانَ لِي فِي مَنْ أُحِبُّ مُشَارِكٌ        تَرَكْتُ الَّذِي أَهْوَى وَعِشْتُ وَحِيدَا

فَلَا خَيْرَ فِي الْمَعْشُوقِ إِنْ كَانَ فِي الْهَوَى        لِغَيْرِ الَّذِي يُرْضِي الْمُحِبَّ مُرِيدَا

ومن حين ولَّى معرضًا عني إلى الآن لم يأتنا من عنده كتاب ولا جواب يا ابن منصور. فقلت لها: فما تريدين؟ قالت: أريد أن أرسل إليه معك كتابًا، فإن أتيتني بجوابه فلك عندي خمسمائة دينار، وإن لم تأتني بجوابه فلك حق مشيك مائة دينار. فقلت لها: افعلي ما بَدَا لكِ. فقالت: سمعًا وطاعة. ثم نادت بعض جواريها وقالت: ائتيني بدواة وقرطاس. فأتتها بدواة وقرطاس، فكتبت هذه الأبيات:

حَبِيبِيَ مَا هَذَا التَّبَاعُدُ وَالْقِلَا        فَأَيْنَ التَّغَاضِي بَيْنَنَا وَالتَّعَطُّفُ

وَمَا لَكَ بِالْهِجْرَانِ عَنِّيَ مُعْرِضًا        فَمَا وَجْهُكَ الْوَجْهُ الَّذِي كُنْتُ أَعْرِفُ

نَعَمْ نَقَلَ الْوَاشُونَ عَنِّي بَاطِلًا        فَمِلْتَ لِمَا قَالُوا فَزَادُوا وَأَسْرَفُوا

فَإِنْ تَكُ قَدْ صَدَّقْتَهُمْ فِي حَدِيثِهِمْ        فَحَاشَاكَ مِنْ هَذَا وَرَأْيَكَ أَعْرِفُ

بِعَيْشِكَ قُلْ لِي مَا الَّذِي قَدْ سَمِعْتُهُ        فَإِنَّكَ تَدْرِي مَا يُقَالُ وَتُنْصِفُ

فَإِنْ كَانَ قَوْلًا صَحَّ أَنِّيَ قُلْتُهُ        فَلِلْقَوْلِ تَأْوِيلٌ وَلِلْقَوْلِ مَصْرِفُ

وَهَبْ أَنَّهُ قَوْلٌ مِنَ اللهِ مُنْزَلٌ        فَقَدْ بَدَّلَ التَّوْرَاةَ قَوْمٌ وَحَرَّفُوا

وَبِالزُّورِ كَمْ قَدْ قِيلَ فِي النَّاسِ قَبْلَنَا        فَهَا عِنْدَ يَعْقُوبَ تُلَوَّمُ يُوسُفُ

وَهَا أَنَا وَالْوَاشِي وَأَنْتَ جَمِيعُنَا        يَكُونُ لَنَا يَوْمٌ عَظِيمٌ وَمَوْقِفُ

ثم بعد ذلك ختمَتِ الكتابَ وناولتني إياه، فأخذتُه ومضيت إلى دار جبير بن عمير الشيباني فوجدته في الصيد، فجلست أنتظره، فبينما أنا جالس وإذا به قد أقبل من الصيد، فلما رأيته يا أمير المؤمنين على فرسه ذهل عقلي من حسنه وجماله، فالتفت فرآني جالسًا بباب داره، فلما رآني نزل عن جواده وأتى إليَّ واعتنقني وسلَّم عليَّ؛ فخُيِّلَ لي أني اعتنقت الدنيا وما فيها، ثم دخل بي إلى داره، وأجلسني على فراشه، وأمر بتقديم المائدة، فقدموا مائدة من الخولنج الخراساني، وقوائمها من الذهب، عليها جميع الأطعمة وأنواع اللحم من مقلي ومشوي وما أشبه ذلك، فلما جلست على المائدة، أمعنتُ إليها الالتفات، فوجدت مكتوبًا عليها هذه الأبيات … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 330

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن علي بن منصور قال: لما جلستُ على مائدة جبير بن عمير الشيباني، أمعنت إليها الالتفات، فوجدتُ مكتوبًا عليها هذه الأبيات:

عُجْ بِالْغَرَانِيقِ فِي رَبْعِ السَّكَارِيجِ        وَانْزِلْ بِحَيِّ الْقَلَايَا وَالسَّكَابِيجِ

وَانْدُبْ بَنَاتَ الْقَطَا مَا زِلْتُ أَنْدُبُهَا        مَعَ الْمُحَمَّرِ فِي وَسْطِ الْفَرَارِيجِ

يَا لَهْفَ قَلْبِي عَلَى لَوْنَيْنِ مِنْ سَمَكٍ        لَدَى رَغِيفٍ طَرِيٍّ فِي الْمَعَارِيجِ

للهِ دَرُّ الْعَشَا مَا كَانَ أَحْسَنَهُ        وَالْبَقْلُ يُغْمَسُ فِي خَلِّ الدَّكَاكِيجِ

كَذَا الْأَرُزُّ بِأَلْبَانِ الْجَمُوسِ غَدَتْ        فِيهِ الْأَكُفُّ إِلَى حَدِّ الدَّمَالِيجِ

يَا نَفْسُ صَبْرًا فَإِنَّ اللهَ ذُو كَرَمٍ        إِنْ ضِقْتِ ذَرْعًا أَتَاكِ بِالتَّفَارِيجِ

ثم إن جبير بن عمير قال: مُدَّ يدك إلى طعامنا، واجبر خاطرنا بأكل زادنا. فقلت له: والله ما آكل من طعامك لقمة واحدة حتى تقضي حاجتي. قال: فما حاجتك؟ فأخرجت إليه الكتاب، فلما قرأه وفهم ما فيه مزَّقه ورماه في الأرض وقال لي: يا ابن منصور، مهما كان لك من الحوائج قضيناه، إلا هذه الحاجة التي تتعلَّق بصاحبة هذا الكتاب؛ فإن كتابها ليس له عندي جواب. فقمتُ من عنده غضبان، فتعلَّق بأذيالي وقال لي: يا ابن منصور، أنا أخبرك بالذي قالته لك، وإن لم أكن حاضرًا معكما. فقلت له: ما الذي قالته لي؟ قال: أَمَا قالَتْ لك صاحبة هذا الكتاب إن أتيتني بجوابه فلك عندي خمسمائة دينار، وإن لم تأتِني بجوابه فلك عندي حق مشيك مائة دينار؟ قلت: نعم. قال: اجلس عندي اليوم، وكُلْ واشرب وتلذَّذْ واطرب، وخذ لك خمسمائة دينار. فجلستُ عنده وأكلت وشربت وتلذَّذت وطربت وسامرته، ثم قلت: يا سيدي، ما في دارك سماع؟ قال لي: إن لنا مدة نشرب من غير سماع. ثم نادى بعض جواريه وقال: يا شجرة الدر. فأجابته جارية من مقصورتها، ومعها عود من صنع الهنود ملفوف في كيس من الإبريسم، ثم جاءت وجلست ووضعته في حجرها، وضربت عليه إحدى وعشرين طريقة، ثم عادت إلى الطريقة الأولى، وأطربت بالنغمات، وأنشدت هذه الأبيات:

مَنْ لَمْ يَذُقْ حُلْوَ الْغَرَامِ وَمُرَّهُ        لَمْ يَدْرِ وَصْلَ حَبِيبِهِ مِنْ هَجْرِهِ

وَكَذَاكَ مَنْ قَدْ حَادَ عَنْ سُنَنِ الْهَوَى        لَمْ يَدْرِ سَهْلَ طَرِيقِهِ مِنْ وَعْرِهِ

مَا زِلْتُ مُعْتَرِضًا عَلَى أَهْلِ الْهَوَى        حَتَّى بُلِيتُ بِحُلْوِهِ وَبِمُرِّهِ

وَشَرِبْتُ كَأْسَ مِرَارِهِ مُتَجَرِّعًا        وَخَضَعْتُ فِيهِ لِعَبْدِهِ وَلِحُرِّهِ

كَمْ لَيْلَةٍ بَاتَ الْحَبِيبُ مُنَادِمِي        وَرَشَفْتُ حُلْوَ رِضَابِهِ مِنْ ثَغْرِهِ

مَا كَانَ أَقْصَرَ عُمْرَ لَيْلِ وِصَالِنَا        مُذْ جَاءَ وَقْتُ عَشَائِهِ مَعْ فَجْرِهِ

نَذَرَ الزَّمَانُ بِأَنْ يُفَرِّقَ شَمْلَنَا        وَالْآنَ قَدْ أَوْفَى الزَّمَانُ بِنَذْرِهِ

حَكَمَ الزَّمَانُ فَلَا مَرَدَّ لِحُكْمِهِ        مَنْ ذَا يُعَارِضُ سَيِّدًا فِي أَمْرِهِ

فلما فرغت الجارية من شعرها، صرخ سيدها صرخة عظيمة، ووقع مغشيًّا عليه. فقالت الجارية: لا آخذك الله أيها الشيخ، إن لنا مدة ونحن نشرب بلا سماع مخافةً على سيدنا من مثل هذه الصرعة، ولكن اذهب إلى تلك المقصورة ونَمْ فيها. فتوجَّهتُ إلى المقصورة التي أشارت إليها ونمت فيها إلى الصباح، وإذا أنا بغلامٍ أتاني ومعه كيس فيه خمسمائة دينار، وقال: هذا الذي وعدك به سيدي، ولكنك لا تَعُدْ إلى هذه الجارية التي أرسلَتْك، وكأنك لا سمعتَ بهذا الخبر ولا سمعنا. فقلت له: سمعًا وطاعة. ثم أخذت الكيس ومضيت إلى حال سبيلي، وقلت في نفسي: إن الجارية في انتظاري من أمس، والله لا بد أن أرجع إليها، وأخبرها بما جرى بيني وبينه؛ لأنني إن لم أَعُدْ إليها ربما تشتمني وتشتم كلَّ مَن طلع من بلادي. فمضيتُ إليها فوجدتها واقفةً خلف الباب، فلما رأتني قالت: يا ابن منصور، إنك ما قضيت لي حاجة. فقلت لها: مَن أعلمك بهذا؟ فقالت: يا ابن منصور، إن معي مكاشفة أخرى، وهي أنك لما ناولْتَه الورقة مزَّقها ورماها لك وقال: يا ابن منصور، مهما كان لك من الحوائج قضيناها لك إلا حاجة صاحبة هذه الورقة؛ فإنها ليس لها عندي جواب. فقمتَ أنت من عنده مغضبًا فتعلَّق بأذيالك وقال لك: يا ابن منصور، اجلس عندي اليوم فإنك ضيفي، فكُلْ واشرب والْتَذَّ واطرب، وخذ لك خمسمائة دينار. فجلست عنده وأكلت وشربت وتلذَّذت وطربت وسامرته، وغنَّت الجارية بالصوت الفلاني، والشعر الفلاني فوقع مغشيًّا عليه. فقلتُ لها يا أمير المؤمنين: هل أنتِ كنتِ معنا؟ فقالت لي: يا ابن منصور، أَمَا سمعتَ قول الشاعر:

قُلُوبُ الْعَاشِقِينَ لَهَا عُيُونٌ        تَرَى مَا لَا يَرَاهُ النَّاظِرُونَ

ولكن يا ابن منصور، ما تعاقب الليل والنهار على شيء إلَّا وغيَّرَاه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 331

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية قالت: يا ابن منصور، ما تعاقب الليل والنهار على شيء إلا وغيَّرَاه. ثم رفعت طرفها إلى السماء وقالت: إلهي وسيدي ومولاي، كما بليتني بمحبة جبير بن عمير أن تبليه بمحبتي، وأن تنقل المحبة من قلبي إلى قلبه. ثم إنها أعطتني مائة دينار حق طريقي، فأخذتها ومضيت إلى سلطان البصرة فوجدته قد جاء من الصيد، فأخذت رسمي منه ورجعت إلى بغداد. فلما أقبلَتِ السنة الثانية توجَّهت إلى مدينة البصرة لأطلب رسمي على عادتي، ودفع السلطان إليَّ رسمي، ولما أردتُ الرجوع إلى بغداد تفكَّرت في نفسي أمر الجارية بدور، وقلت: والله لا بد أن أذهب إليها، وأنظر ما جرى بينها وبين صاحبها. فجئتُ إلى دارها فرأيت على بابها كنسًا ورشًّا، وخدمًا وحشمًا وغلمانًا، فقلت: لعل الجارية طفح الهمُّ على قلبها فماتت، ونزل في دارها أمير من الأمراء. فتركتها ورجعت إلى دار جبير بن عمير الشيباني، فوجدت مصاطبها قد هُدِّمت، ولم أجد على بابه غلمانًا مثل العادة، فقلت في نفسي: لعله مات. ثم وقفت على باب داره وجعلت أفيض العَبَرات وأندبه بهذه الأبيات:

يَا سَادَةً رَحَلُوا وَالْقَلْبُ يَتْبَعُهُمْ        عُودُوا تَعُدْ لِي أَعْيَادِي بِعَوْدِكُمُ

وَقَفْتُ فِي دَارِكُمْ أَنْعِي مَسَاكِنَكُمْ        وَالدَّمْعُ يَدْفُقُ وَالْأَجْفَانُ تَلْتَطِمُ

أُسَائِلُ الدَّارَ عَنْكُمْ وَهْيَ بَاكِيَةٌ        أَيْنَ الَّذِي كَانَ مِنْهُ الْجُودُ وَالنِّعَمُ

اقْصِدْ سَبِيلَكَ فَالْأَحْبَابُ قَدْ رَحَلُوا        مِنَ الرُّبُوعِ وَتَحْتَ التُّرْبِ قَدْ رُدِمُوا

لَا أَوْحَشَ اللهُ مِنْ رُؤْيَا مَحَاسِنَهُمْ        طُولًا وَعَرْضًا وَلَا غَابَتْ لَهُمْ شِيَمُ

فبينما أنا أندب أهل هذه الدار بهذه الأبيات يا أمير المؤمنين، وإذا بعبد أسود قد خرج عليَّ من الدار، فقال: يا شيخ اسكت ثكلتك أمك، ما لي أراك تندب هذه الدار بهذه الأبيات؟ فقلت له: إني كنت أعهدها لصديق من أصدقائي. فقال: وما اسمه؟ قلت: جبير بن عمير الشيباني. قال: وأي شيء جرى له؟ الحمد لله ها هو على حاله من الغنى والسعادة والملك، ولكن ابتلاه الله بمحبة جارية يقال لها السيدة بدور، وهو في محبتها مغمور، ومن شدة الوَجْد والتبريح فهو كالحجر الجلمود الطريح، فإن جاع لا يقول لهم أطعموني، وإن عطش لا يقول اسقوني. فقلت: استأذن لي في الدخول عليه. فقال: يا سيدي، أتدخل على مَن يفهم أو على مَن لا يفهم؟ فقلت: لا بد أن أدخل إليه على كل حال. فدخل الدار مستأذنًا، ثم عاد إليَّ آذنًا، فدخلت عليه فوجدته كالحجر الطريح لا يفهم بإشارة ولا تصريح، وكلَّمته فلم يكلِّمني، فقال لي بعض أتباعه: يا سيدي، إن كنت تحفظ شيئًا من الشعر فأنشده إياه، وارفع صوتك به فإنه ينتبه لذلك ويخاطبك. فأنشدت هذين البيتين:

أَسَلَوْتَ حُبَّ بُدُورَ أَمْ تَتَجَلَّدُ        وَسَهِرْتَ لَيْلَكَ أَمْ جُفُونُكَ تَرْقُدُ

إِنْ كَانَ دَمْعُكَ سَائِلًا مَهْمُولَهُ        فَاعْلَمْ بِأَنَّكَ فِي الْجِنَانِ مُخَلَّدُ

فلما سمع هذا الشعر فتح عينيه وقال لي: مرحبًا يا ابن منصور، قد صار الهزل جدًّا. فقلت له: يا سيدي، ألك بي حاجة؟ قال: نعم، أريد أن أكتب لها ورقة، وأرسلها معك إليها، فإن أتيتني بجوابها فلك عليَّ ألف دينار، وإن لم تأتني بجوابها فلك عليَّ حق مشيك مائتا دينار. فقلت له: افعل ما بَدَا لك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 332

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن ابن منصور قال: فقلت له افعل ما بدا لك. فنادى بعض جواريه وقال: ائتيني بدواة وقرطاس. فأتَتْه بما طلبه، فكتب هذه الأبيات:

سَأَلْتُكُمُ بِاللهِ يَا سَادَتِي مَهْلَا        عَلَيَّ فَإِنَّ الْحُبَّ لَمْ يُبْقِ لِي عَقْلَا

تَمَكَّنَ مِنِّي حُبُّكُمْ وَهَوَاكُمُ        فَأَلْبَسَنِي سَقْمًا وَأَوْرَثَنِي ذُلَّا

لَقَدْ كُنْتُ قَبْلَ الْيَوْمِ أَسْتَصْغِرُ الْهَوَى        وَأَحْسَبُهُ يَا سَادَتِي هَيِّنًا سَهْلَا

فَلَمَّا أَرَانِي الْحُبُّ أَمْوَاجَ بَحْرِهِ        رَجَعْتُ لِحُكْمِ اللهِ أُعْذِرُ مَنْ يَبْلَى

فَإِنْ شِئْتُمُ الْإِسْعَادَ سَعْدِي وِصَالُكُمْ        وَإِنْ شِئْتُمُ الْهِجْرَانَ فَلْتَذْكُرُوا الْفَضْلَا

ثم ختم الكتاب وناولني إياه، فأخذته ومضيت به إلى دار بدور، وجعلت أرفع الستر قليلًا قليلًا على العادة، وإذا أنا بعشر جوارٍ نُهَّاد أبكارٍ كأنهن الأقمار، والسيدة بدور جالسة في وسطهن كأنها البدر في وسط النجوم، أو الشمس إذا خلت عن الغيوم، وليس بها ألم ولا وجع. فبينما أنا أنظر إليها وأتعجَّب من هذا الحال، إذ لاحت منها التفاتة إليَّ فرأتني واقفًا بالباب، فقالت لي: أهلًا وسهلًا ومرحبًا بك يا ابن منصور، ادخل. فدخلْتُ وسلَّمْتُ عليها وناولتها الورقة، فلما قرأتها وفهمت ما فيها ضحكت، وقالت لي: يا بن منصور، ما كذب الشاعر حيث قال:

فَلَأَصْبِرَنَّ عَلَى هَوَاكَ تَجَلُّدًا        حَتَّى يَجِيءَ إِلَيَّ مِنْكَ رَسُولُ

يا ابن منصور، ها أنا أكتب لك جوابًا حتى يعطيك الذي وعدك به. فقلتُ لها: جزاكِ الله خيرًا. فنادت بعض جواريها وقالت: ائتيني بدواة وقرطاس. فلما أتتها بما طلبت كتبَتْ إليه هذه الأبيات:

مَا لِي وَفَيْتُ بِعَهْدِكُمْ فَغَدَرْتُمُو        وَأَرَيْتُمُونِي مُنْصِفًا فَظَلَمْتُمُو

بَادَيْتُمُونِي بِالْقَطِيعَةِ وَالْجَفَا        وَغَدَرْتُمُو وَالْغَدْرُ بَادٍ مِنْكُمُو

مَا زِلْتُ أَحْفَظُ فِي الْبَرِيَّةِ عَهْدَكُمْ        وَأَصُونُ عِرْضَكُمُو وَأَحْلِفُ عَنْكُمُو

حَتَّى رَأَيْتُ بِنَاظِرِي مَا سَاءَنِي        وَسَمِعْتُ أَخْبَارَ الْقَبَايِحِ عَنْكُمُو

أَيَهُونُ قَدْرِي حِينَ أَرْفَعُ قَدْرَكُمْ        وَاللهِ لَوْ أَكْرَمْتُمُو كُرِّمْتُمُو

فَلَأَصْرِفَنَّ الْقَلْبَ عَنْكُمْ سَلْوَةً        وَلَأَنْفُضَنَّ يَدَيَّ يَأْسًا مِنْكُمُو

فقلت لها: والله يا سيدتي إنه ما بينه وبين الموت إلا حتى يقرأ هذه الورقة. ثم مزَّقتُها وقلت لها: اكتبي إليه غير هذه الأبيات. فقالت: سمعًا وطاعة. ثم إنها كتبت إليه هذه الأبيات:

أَنَا قَدْ سَلَوْتُ وَلَذَّ فِي طَرْفِي الْكَرَى        وَسَمِعْتُ مِنْ قَوْلِ الْعَوَاذِلِ مَا جَرَى

وَأَجَابَنِي قَلْبِي إِلَى سَلَوْانِكُمْ        وَرَأَتْ جُفُونِي بَعْدَكُمْ أَنْ تَسْهَرَا

كَذَبَ الَّذِي قَالَ الْبِعَادُ مَرَارَةٌ        مَا ذُقْتُ طَعْمَ الْبُعْدِ إِلَّا سُكَّرَا

قَدْ صِرْتُ أَكْرَهُ مَنْ يَمُرُّ بِذِكْرِكُمْ        مُتَعَرِّضًا وَأَرَاهُ شَيْئًا مُنْكَرَا

هَا قَدْ سَلَوْتُكُمُو بِكُلِّ جَوَارِحِي        فَلْيَعْلَمِ الْوَاشِي وَيَدْرِي مَنْ دَرَى

فقلت لها: والله يا سيدتي إنه ما يقرأ هذه الأبيات إلا وتفارق روحه جسده. فقالت لي: يا ابن منصور، قد بلغ بي الوَجْد إلى هذا الحد حتى قلتُ ما قلتَ. فقلت لها: لو قلت أكثر من ذلك الحق لك، ولكن العفو من شيم الكرام. فلما سمعت كلامي ترغرغت عيناها بالدموع، وكتبت إليه رقعة، والله يا أمير المؤمنين ما في ديوانك مَن يُحسِن أن يكتب مثلها، وكتبت فيها هذه الأبيات:

إِلَى كَمْ ذَا الدَّلَالِ وَذَا التَّجَنِّي        شَفَيْتَ وَحَقِّكَ الْحُسَّادَ مِنِّي

لَعَلِّي قَدْ أَسَأْتُ وَلَسْتُ أَدْرِي        فَقُلْ لِي مَا الَّذِي بُلِّغْتَ عَنِّي

مُرَادِي لَوْ وَضَعْتُكَ يَا حَبِيبِي        مَكَانَ النَّوْمِ مِنْ عَيْنِي وَجَفْنِي

وَكَيْفَ شَرِبْتَ كَأْسَ الْحُبِّ صِرْفًا        فَإِنْ تَرَنِي سَكِرْتُ فَلَا تَلُمْنِي

فلما فرغت من كتابة المكتوب. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 333

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن بدور لما فرغت من كتابة المكتوب وختمته، ناولتني إياه، فقلت لها: يا سيدتي، إن هذه الرقعة تداوي العليل وتشفي الغليل. ثم أخذت المكتوب وخرجت، فنادتني بعدما خرجت من عندها وقالت لي: يا ابن منصور، قل له: إنها في هذه الليلة ضيفتك. ففرحتُ أنا بذلك فرحًا شديدًا، ومضيت بالكتاب إلى جبير بن عمير، فلما دخلت عليه وجدتُ عينه شاخصة إلى الباب ينتظر الجواب، فلما ناولته الورقة فتحها وقرأها وفهم معناها؛ فصاح صيحة عظيمة ووقع مغشيًّا عليه. فلما أفاق قال: يا ابن منصور، هل كتبَتْ هذه الرقعة بيدها، ولمستها بأناملها؟ قلت: يا سيدي، وهل الناس يكتبون بأرجلهم؟ فوالله يا أمير المؤمنين ما استتم كلامي أنا وإياه إلا وقد سمعنا شن خلاخلها في الدهليز وهي داخلة، فلما رآها قام على أقدامه كأنه لم يكن به ألمٌ قطُّ، وعانقها عناق اللام للألف، وزالت عنه علَّة الذي لا ينصرف، ثم جلس ولم تجلس هي، فقلت لها: يا سيدتي، لأي شيء لم تجلسي؟ قالت: يا ابن منصور، لا أجلس إلا بالشرط الذي بيننا. فقلتُ لها: وما ذلك الشرط الذي بينكما؟ قالت: إن العشاق لا يطَّلِع أحد على أسرارهم. ثم وضعَتْ فمها على أذنه وقالت له كلامًا سرًّا، فقال: سمعًا وطاعة. ثم نام جبير ووشوش بعض عبيده، فغاب العبد ساعة، ثم أتى ومعه قاضٍ وشاهدان، فقام جبير وأتى بكيس فيه مائة ألف دينار وقال: أيها القاضي، اعقد عقدي على هذه الصبية بهذا المبلغ. فقال لها القاضي: قولي رضيتُ بذلك. فقالت: رضيتُ بذلك. فعقدوا العقد ثم فتحَتِ الكيسَ وملأت يدها منه وأعطَتِ القاضي والشهود،

ثم ناولَتْه بقية الكيس، فانصرف القاضي والشهود، وقعدتُ أنا وإياهما في بسط وانشراح إلى أن مضى من الليل أكثره، فقلت في نفسي: إنهما عاشقان، ومضت عليهما مدة من الزمان وهما متهاجران، فأنا أقوم في هذه الساعة لأنام في مكان بعيد عنهما، وأتركهما يختليان ببعضهما. ثم قمتُ فتعلَّقت بأذيالي وقالت لي: ما الذي حدَّثَتْك به نفسُك؟ فقلت: ما هو كذا وكذا. فقالت: اجلس، وإذا أردنا انصرافك صرفناك. فجلست معهما إلى أن قرب الصبح، فقالت: يا ابن منصور، امضِ إلى تلك المقصورة لأننا فرشناها لك، وهي محل نومك. فقمت ونمت فيها إلى الصباح، فلما أصبحت جاءني غلام بطشت وإبريق فتوضأت وصلَّيت الصبح ثم جلست.

فبينما أنا جالس وإذا بجبير ومحبوبته خرجا من حمام في الدار، وكلٌّ منهما يعصر ذوائبه، فصبَّحت عليهما وهنَّأتهما بالسلامة وجمع الشمل، ثم قلت له: الذي أوله شرط آخره رضا. فقال لي: صدقت، وقد وجب لك الإكرام. ثم نادى خازن داره وقال له: ائتني بثلاثة آلاف دينار. فأتاه بكيس فيه ثلاثة آلاف دينار، فقال لي: تفضَّلْ علينا بقبول هذا. فقلت له: لا أقبله حتى تحكي لي ما سبب انتقال المحبة منها إليك بعد ذلك الصد العظيم. قال: سمعًا وطاعة. اعلم أن عندنا عيدًا يقال له عيد النواريز، يخرج الناس فيه وينزلون في الزوارق ويتفرجون في البحر، فخرجت أتفرَّج أنا وأصحابي، فرأيت زورقًا فيه عشر جوارٍ كأنهن الأقمار، والسيدة بدور هذه في وسطهن وعودها معها؛ فضربت عليه إحدى عشرة طريقة، ثم عادت إلى الطريقة الأولى وأنشدت هذين البيتين:

النَّارُ أَبْرَدُ مِنْ نِيرَانِ أَحْشَائِي        وَالصَّخْرُ أَلْيَنُ مِنْ قَلْبٍ لِمُولَائِي

إِنِّي لَأَعْجَبُ مِنْ تَأْلِيفِ خَلْقَتِهِ        قَلْبٌ مِنَ الصَّخْرِ فِي جِسْمٍ مِنَ الْمَاءِ

فقلت لها: أعيدي البيتين والطريقة. فما رضيت. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 334

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن جبيرًا قال: فقلت لها: أعيدي البيتين والطريقة. فما رضيت، فأمرت النواتية أن يرجموها، فرجموها بالنارنج حتى خشينا الغرق على الزورق الذي هي فيه، ثم مضت إلى حال سبيلها، وهذا سبب انتقال المحبة من قلبها إلى قلبي. فهنَّأتهما بجمع الشمل، وأخذت الكيس بما فيه، وتوجَّهْتُ إلى بغداد. فانشرح صدر الخليفة، وزال عنه ما كان يجده من الأرق وضيق الصدر.

 

حكاية اليمني والست جوار

ومما يُحكَى أن أمير المؤمنين المأمون جلس يومًا من الأيام في قصره، وأحضر رؤساء دولته وأكابر مملكته جميعًا، وكذلك أحضر الشعراء والندماء بين يديه، وكان من جملة ندمائه نديم يُسمَّى محمدًا البصري، فالتفت إليه المأمون وقال له: يا محمد، أريد منك في هذه الساعة أن تحدِّثني بشيء ما سمعتُه قطُّ. فقال له: يا أمير المؤمنين، أتريد أن أحدِّثك بحديثٍ سمعتُه بأُذُني أو بأمرٍ عاينْتُه ببصري. فقال المأمون: حدِّثني يا محمد بالأغرب منهما. فقال: اعلم يا أمير المؤمنين أنه كان في الأيام الماضية رجلٌ من أرباب النِّعَم، وكان موطنه باليمن، ثم إنه ارتحل من اليمن إلى مدينة بغداد هذه، فطاب له مسكنها، فنقل أهله وماله وعياله إليها، وكان له ستُّ جوارٍ كأنهن الأقمار؛ الأولى بيضاء، والثانية سمراء، والثالثة سمينة، والرابعة هزيلة، والخامسة صفراء، والسادسة سوداء. وكُنَّ حسان الوجوه كاملات الأدب، عارفاتٍ بصناعة الغناء وآلات الطرب، فاتفق أنه أحضر هؤلاء الجواري بين يديه يومًا من الأيام وطلب الطعام والمدام، فأكلوا وشربوا وتلذَّذوا وطربوا، ثم ملأ الكأس وأخذه في يده، وأشار للجارية البيضاء وقال لها: يا وجه الهلال، أسمعينا من لذيذ المقال. فأخذت العود وأصلحته، ورجعت عليه الألحان حتى رقص المكان، ثم أطربت بالنغمات، وأنشدت هذه الأبيات:

لِي حَبِيبٌ خَيَالُهُ نُصْبَ عَيْنِي        وَاسْمُهُ فِي جَوَارِحِي مَكْنُونُ

إِنْ تَذَكَّرْتُهُ فَكُلِّي قُلُوبٌ        أَوْ تَأَمَّلْتُهُ فَكُلِّي عُيُونُ

قَالَ لِي عَاذِلِي: أَتَسْلُو هَوَاهُ        قُلْتُ: مَا لَا يَكُونُ كَيْفَ يَكُونُ

قُلْتُ: يَا عَاذِلِي امْضِ عَنِّي وَدَعْنِي        لَا تُهَوِّنْ عَلَيَّ مَا لَا يَهُونُ

فطرب مولاهن وشرب قدحه وسقى الجواري، ثم ملأ الكأس وأخذه في يده وأشار إلى الجارية السمراء، وقال لها: يا نور المقباس وطيبة الأنفاس، أسمعينا صوتك الحسن الذي مَنْ سمعه افتتن. فأخذت العود ورجعت عليه الألحان حتى طرب المكان، وأخذت القلوب باللفتات، وأنشدت هذه الأبيات:

وَحَيَاةِ وَجْهِكَ لَا أُحِبُّ سِوَاكَا        حَتَّى أَمُوتَ وَلَنْ أَخُونَ هَوَاكَا

يَا بَدْرَ تِمٍّ بِالْجَمِيلِ مُبَرْقَعًا        كُلُّ الْمِلَاحِ تَسِيرُ تَحْتَ لِوَاكَا

أَنْتَ الَّذِي فُقْتَ الْمِلَاحَ لَطَافَةً        وَاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَبَاكَا

فطرب مولاهن وشرب كأسه وسقى الجواري، ثم ملأ القدح وأخذه في يده، وأشار إلى الجارية السمينة، وأمرها بالغناء وتقليب الأهواء؛ فأخذت العود وضربت عليه ضربًا يُذهِب الحسرات، وأنشدت هذه الأبيات:

إِنْ صَحَّ مِنْكَ الرِّضَا يَا مَنْ هُوَ الطَّلَبُ        فَلَا أُبَالِي بِكُلِّ النَّاسِ إِنْ غَضِبُوا

وَإِنْ تَبَدَّى مُحَيَّاكَ الْجَمِيلُ فَلَمْ        أَعْبَأْ بِكُلِّ مُلُوكِ الْأَرْضِ إِنْ حُجِبُوا

قَصْدِي رِضَاكَ مِنَ الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا        يَا مَنْ إِلَيْهِ جَمِيعُ الْحُسْنِ يَنْتَسِبُ

فطرب مولاهن وأخذ الكأس وسقى الجواري، ثم ملأ الكاس وأخذه في يده، وأشار إلى الجارية الهزيلة وقال: يا حور الجنان، أسمعينا الألفاظ الحسان. فأخذت العود وأصلحته ورجعت عليه الألحان، وأنشدت هذين البيتين:

أَلَا فِي سَبِيلِ اللهِ مَا حَلَّ بِي مِنْكَا        بِصَدِّكَ عَنِّي حَيْثُ لَا صَبْرَ لِي عَنْكَا

أَلَا حَاكِمٌ فِي الْحُبِّ يَحْكُمُ بَيْنَنَا        فَيَأْخُذُ لِي حَقِّي وَيُنْصِفُنِي مِنْكَا

فطرب مولاهن وشرب القدح وسقى الجواري، ثم ملأ القدح وأخذه بيده، وأشار إلى الجارية الصفراء وقال: يا شمس النهار، أَسْمِعينا من لطيف الأشعار. فأخذت العود وضربت عليه أحسن الضربات، وأنشدت هذه الأبيات:

لِي حَبِيبٌ إِذَا نَظَرْتُ إِلَيْهِ        سَلَّ سَيْفًا عَلَيَّ مِنْ مُقْلَتَيْهِ

أَخَذَ اللهُ بَعْضَ حَقِّيَ مِنْهُ        إِذْ جَفَانِي وَمُهْجَتِي فِي يَدَيْهِ

كُلَّمَا قُلْتُ يَا فُؤَادِيَ دَعْهُ        لَا يَمِيلُ الْفُؤَادُ إِلَّا إِلَيْهِ

هُوَ سُؤْلِي مِنَ الْأَنَامِ وَلَكِنْ        حَسَدَتْنِي عَيْنُ الزَّمَانِ عَلَيْهِ

فطرب مولاهن وشرب وسقى الجواري، ثم ملأ الكأس وأخذه في يده، وأشار إلى الجارية السوداء وقال: يا سوداء العين، أسمعينا ولو كلمتين. فأخذت العود وأصلحته وشدَّت أوتاره، وضربت عليه عدة طرق، ثم رجعت إلى الطريقة الأولى، وأطربت بالنغمات وأنشدت هذه الأبيات:

أَلَا يَا عَيْنُ بِالْعَبَرَاتِ جُودِي        فَوَجْدِي قَدْ عَدِمْتُ بِهِ وُجُودِي

أُكَابِدُ كُلَّ وَجْدٍ مِنْ حَبِيبٍ        أَلِفْتُ بِهِ وَيَشْمَتُ بِي حَسُودِي

وَتَمْنَعُنِي الْعَوَاذِلُ وَرْدَ خَدٍّ        وَلِي قَلْبٌ يَحِنُّ إِلَى الْوُرُودِ

لَقَدْ دَارَتْ هُنَاكَ كُئُوسُ رَاحٍ        بِأَفْرَاحٍ لَدَى ضَرْبٍ وَعُودِ

وَوَافَانِي الْحَبِيبُ فَهِمْتُ فِيهِ        وَأَشْرَقَ بِالْوَفَا نَجْمُ السُّعُودِ

تَصَدَّى لِلصُّدُودِ بِغَيْرِ ذَنْبٍ        وَهَلْ شَيْءٌ أَمَرُّ مِنَ الصُّدُودِ

وَفِي وَجَنَاتِهِ وَرْدٌ جَنِيٌّ        فَيَا للهِ مِنْ وَرْدِ الْخُدُودِ

فَلَوْ أَنَّ السُّجُودَ يُحَلُّ شَرْعًا        لِغَيْرِ اللهِ كَانَ لَهُ سُجُودِي

ثم بعد ذلك قامت الجواري وقبَّلن الأرض بين يدي مولاهن وقلن له: أنصف بيننا يا سيدي. فنظر مولاهن إلى حسنهن وجمالهن واختلاف ألوانهن؛ فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال لهن: ما منكن إلا وقد قرأت القرآن، وتعلَّمت الألحان، وعرفَتْ أخبارَ المتقدمين، واطَّلعت على سِيَر الأمم الماضين، وقد اشتهيت أن تقوم كل واحدة منكن وتشير بيدها إلى ضرَّتها؛ يعني تشير البيضاء إلى السمراء، والسمينة إلى الهزيلة، والصفراء إلى السوداء، وتمدح كل واحدة منكن نفسها وتذمُّ ضرتها، ثم تقوم ضرتها وتفعل معها مثلها، ولكن يكون ذلك بدليل من القرآن الشريف، وشيء من الأخبار والأشعار؛ لننظر أدبَكُنَّ وحُسْنَ ألفاظكنَّ. فقلن له: سمعًا وطاعة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 335

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الرجل اليمني قالت له جواريه: سمعًا وطاعة. ثم قامت أولاهنَّ، وهي البيضاء، وأشارت إلى السوداء وقالت لها: ويحك يا سوداء، قد ورد أن البياض قال: أنا النور اللامع، أنا البدر الطالع، لوني ظاهر، وجبيني زاهر في حسن، قال الشاعر:

بَيْضَاءُ مَصْقُولَةُ الْخَدَّيْنِ نَاعِمَةٌ        كَأَنَّها لُؤْلُؤٌ فِي الْحُسْنِ مَكْنُونُ

فَقَدُّهَا أَلِفٌ يَزْهُو وَمَبْسِمُهَا        مِيمٌ وَحَاجِبُهَا مِنْ فَوْقِهِ نُونُ

كَأَنَّ أَلْحَاظَهَا نَبْلٌ وَحَاجِبَهَا        قَوْسٌ عَلَى أَنَّهُ بِالْمَوْتِ مَقْرُونُ

الْخَدُّ وَالْقَدُّ وَالْجِيدُ وَوَجْنَتُهَا        وَرْدٌ وَآسٌ وَرَيْحَانٌ وَنِسْرِينُ

وَالْغُصْنُ يُعْهَدُ فِي الْبُسْتَانِ مَغْرِسُهُ        وَغُصْنَ قَدِّكِ لَمْ تَشْهَدْ بَسَاتِينُ

فلوني مثل النهار الهنيِّ، والزهر الجَنيِّ، والكوكب الدريِّ، وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز لنبيه موسى — عليه السلاموَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ، وقال الله تعالىوَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ. فلوني آية، وجمالي غاية، وحسني نهاية، وعلى مثلي يحسُن الملبوس، وإليه تميل النفوس، وفي البياض فضائل كثيرة؛ منها: أن الثلج ينزل من السماء أبيض، وقد ورد أن أحسن الألوان البياض، ويفتخر المسلمون بالعمائم البيض، ولو ذهبت أذكر ما فيه من المدح لطال الشرح، ولكن ما قلَّ وكفى خير مما كثر وما وفى، وسوف أبتدي بذمِّك يا سوداء، يا لون المداد، وهباب الحداد، ووجه الغراب المفرِّق بين الأحباب، وقد قال الشاعر يمدح البياض ويذمُّ السواد:

أَلَمْ تَرَ أَنَّ الدُّرَّ يَغْلُو بِلَوْنِهِ        وَأَنَّ سَوَادَ الْفَحْمِ حِمْلٌ بِدِرْهَمِ

وَأَنَّ الْوُجُوهَ الْبِيضَ تَدْخُلُ جَنَّةً        وَأَنَّ الْوُجُوهَ السُّودَ حَشْوُ جَهَنَّمِ

وقد ورد في بعض الأخبار المروية عن الأخبار أن نوحًا - عليه السلام - نام في بعض الأيام وولداه سام وحام جالسان عند رأسه، فجاءت ريح فرفعت أثوابه وانكشفت عورته، فنظر إليه حام وضحك ولم يغطِّه، فقام سام وغطَّاه؛ فانتبه أبوهما من منامه وقد علم بما جرى من ولديه، فدعا لسام ودعا على حام؛ فابيضَّ وجه سام وجاءت الأنبياء والخلفاء الراشدون والملوك من أولاده، واسودَّ وجه حام وخرج هاربًا إلى بلاد الحبشة، وجاءت السودان من نسله، وقد أجمعت الناس على قلة عقل السودان. وفي المثل يقول القائل: كيف يوجد أسود عاقل؟ فقال لها سيدها: اجلسي ففي هذا القدر كفاية، فقد أسرفتِ. ثم أشار إلى السوداء؛ فقامت وأشارت بيدها إلى البيضاء وقالت: أَمَا علمتِ أنه ورد في القرآن المنزَّل على نبيه المرسل قولُ الله تعالىوَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ، ولولا أن الليل أجَلُّ لَمَا أقسم الله به وقدَّمه على النهار، وقبلته ألوف البصائر والأبصار، أَمَا علمتِ أن السواد زينة الشباب، فإذا نزل المشيب ذهبت اللذات، ودنَتْ أوقات الممات، ولو لم يكن أجلَّ الأشياء ما جعله الله في حبة القلب والناظر، وما أحسن قول الشاعر:

لَمْ أَعْشَقِ السُّمْرَ إِلَّا مِنْ حِيَازَتِهِمْ        لَوْنَ الشَّبَابِ وَحَبَّ الْقَلْبِ وَالْحَدَقِ

لَا مَا سَلَوْتُ بَيَاضَ الْبِيضِ عَنْ غَلَطٍ        إِنِّي مِنَ الشَّيْبِ وَالْأَكْفَانِ فِي فَرَقِ

وقول الآخَر:

السُّمْرُ دُونَ الْبِيضِ هُمْ        أَوْلَى بِعِشْقِي وَأَحَقْ

السُّمْرُ فِي لَوْنِ اللَّمَى        وَالْبِيضُ فِي لَوْنِ الْبَهَقْ

وقول الآخَر:

سَوْدَاءُ بَيْضَاءُ الْفِعَالِ كَأَنَّهَا        مِثْلُ الْعُيُونِ تُخَصُّ بِالْأَضْوَاءِ

أَنَا إِنْ جُنِنْتُ بِحُبِّهَا لَا تَعْجَبُوا        أَصْلُ الْجُنُونِ يَكُونُ بِالسَّوْدَاءِ

فَكَأَنَّ لَوْنِي فِي الدَّيَاجِي غَيْهَبٌ        لَوْلَاهُ مَا قَمَرٌ أَتَى بِضِيَاءِ

وأيضًا فهل يحسُن اجتماع الأحباب إلا في الليل؟ فيكفيك هذا الفضل والنبل، فما ستر الأحباب عن الواشين واللوَّام مثل سواد الظلام، ولا خوَّفهم من الافتضاح مثل بياض الصباح، فكم للسواد من مآثر! وما أحسن قول الشاعر:

أَزُورُهُمْ وَسَوَادُ اللَّيْلِ يَشْفَعُ لِي        وَأَنْثَنِي وَبَيَاضُ الصُّبْحِ يُغْرِي بِي

وقول الآخر:

وَكَمْ لَيْلَةٍ بَاتَ الْحَبِيبُ مُؤَانِسِي        وَقَدْ سَتَرَتْنَا مِنْ دُجَاهَا ذَوَائِبُ

فَلَمَّا بَدَا نُورُ الصَّبَاحِ أَرَاعَنِي        فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ الْمَجُوسَ كَوَاذِبُ

وقول الآخر:

وَزَارَنِي فِي قَمِيصِ اللَّيْلِ مُسْتَتِرًا        يَسْتَعْجِلُ الْخَطْوَ مِنْ خَوْفٍ وَمِنْ حَذَرِ

وَقُمْتُ أَفْرِشُ خَدِّي فِي الطَّرِيقِ لَهُ        ذُلًّا وَأَسْحَبُ أَذْيَالِي عَلَى أَثَرِي

وَلَاحَ ضَوْءُ هِلَالٍ كَادَ يَفْضَحُنَا        مِثْلُ الْقُلَامَةِ قَدْ قُدَّتْ مِنَ الظُّفُرِ

وَكَانَ مَا كَانَ مِمَّا لَسْتُ أَذْكُرُهُ        فَظُنَّ خَيْرًا وَلَا تَسْأَلْ عَنِ الْخَبَرِ

وقول الآخر:

لَا تَلْقَ إِلَّا بِلَيْلٍ مَنْ تُوَاصِلُهُ        فَالشَّمْسُ نَمَّامَةٌ وَاللَّيْلُ قَوَّادُ

وقول الآخر:

لَا أَعْشَقُ الْأَبْيَضَ الْمَنْفُوخَ مِنْ سِمَنٍ        لَكِنَّنِي أَعْشَقُ السُّمْرَ الْمَهَازِيلَا

إِنِّي امْرُؤٌ أَرْكَبُ الْمُهْرَ الْمُضَمَّرَ فِي        يَوْمِ الرِّهَانِ وَغَيْرِي يَرْكَبُ الْفِيلَا

وقول الآخر:

زَارَنِي الْمَحْبُوبُ لَيْلًا        فَتَعَانَقْنَا جَمِيعَا

ثُمَّ بِتْنَا وَإِذَا قَدْ        طَلَعَ الصُّبْحُ سَرِيعَا

أَسْأَلُ اللهَ إِلَهِي        يَجْمَعُ الشَّمْلَ رُجُوعَا

وَيُدِيمُ اللَّيْلَ لِي مَا        دَامَ لِي الْإِلْفُ ضَجِيعَا

ولو ذهبتُ أذكر ما في السواد من المدح لَطالَ الشرح، ولكن ما قلَّ وكفى خير مما كثر وما وفى. وأما أنت يا بيضاء فلونك لون البَرَص، ووصالك من الغصص، وقد ورد أن البرد والزمهرير في جهنم لعذاب أهل النكير. ومن فضيلة السواد أن منه المِداد الذي يُكتَب به كلام الله، ولولا سواد المسك والعنبر ما كان الطيب يُحمَل للملوك ولا يُذكَر، وكم للسواد من مفاخر! وما أحسن قول الشاعر:

أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْمِسْكَ يَعْظُمُ قَدْرُهُ        وَأَنَّ بَيَاضَ الْجِيرِ حِمْلٌ بِدِرْهَمِ

وَأَنَّ بَيَاضَ الْعَيْنِ يَقْبَحُ بِالْفَتَى        وَأَنَّ سَوَادَ الْعَيْنِ يَرْمِي بِأَسْهُمِ

فقال لها سيدها: اجلسي ففي هذا القدر كفاية. فجلست، ثم أشار إلى السمينة فقامت. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 336

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن اليمني سيد الجواري أشار إلى الجارية السمينة فقامت، وأشارت بيدها إلى الهزيلة، وكشفت سيقانها ومعاصمها، وكشفت عن بطنها فبانت طيَّاته، وظهر تدوير سُرَّتها، ثم لبست قميصًا رفيعًا، فبان منه جميع بدنها، وقالت: الحمد لله الذي خلقني فأحسن صورتي، وسمَّنني فأحسن سمنتي، وشبَّهني بالأغصان، وزاد في حسني وبهجتي، فله الحمد على ما أولاني وشرَّفني؛ إذ ذكرني في كتابه العزيز فقال تعالىفَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ، وجعلني كالبستان المشتمل على خوخ ورمَّان. وإن أهل المدن يشتهون الطيرَ السمين فيأكلون منه، ولا يحبون طيرًا هزيلًا، وبنو آدم يشتهون اللحم السمين ويأكلونه، وكم للسمن من مفاخر، وما أحسن قول الشاعر:

وَدِّعْ حَبِيبَكَ إِنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ        وَهَلْ تُطِيقُ وَدَاعًا أَيُّهَا الرَّجُلُ

كَأَنَّ مَشْيَتَهَا فِي بَيْتِ جَارَتِهَا        مَشْيَ السَّمِينَةِ لَا عَيْبٌ وَلَا مَلَلُ

وما رأيت أحدًا يقف على الجزار إلا ويطلب منه اللحم السمين. وقالت الحكماء: اللذة في ثلاثة أشياء: أكل اللحم، والركوب على اللحم، وإدخال اللحم في اللحم. وأما أنت يا رفيعة فسيقانك كسيقان العصفور، ومحراك التنُّور، وأنت خشبة المصلوب، ولحم المعيوب، وليس فيكِ شيء يسرُّ الخاطر، كما قال فيكِ الشاعر:

أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ أَشْيَاءَ تُحْوِجُنِي        إِلَى مُضَاجَعَةٍ كَالدَّلْكِ بِالْمَسَدِ

فِي كُلِّ عُضْوٍ لَهَا قَرْنٌ يُنَاطِحُنِي        عِنْدَ الْمَنَامِ فَأُمْسِي وَاهِيَ الْجَسَدِ

فقال لها سيدها: اجلسي، ففي هذا القدر كفاية. فجلست، ثم أشار إلى الهزيلة فقامت كأنها غصن بان أو قضيب خيزران أو عود ريحان، وقالت: الحمد لله الذي خلقني فأحسنني، وجعل وصلي غاية المطلوب، وشبَّهني بالغصن الذي تميل إليه القلوب، فإن قمتُ قمتُ خفيفةً، وإن جلستُ جلستُ ظريفة؛ فأنا خفيفة الروح عند المزاح، طيبة النفس من الارتياح، وما رأيت أحدًا وصف حبيبه فقال: حبيبي قدر الفيل، ولا مثل الجبل العريض الطويل، وإنما حبيبي له قدٌّ أهيف، وقوام مهفهف. فاليسير من الطعام يكفيني، والقليل من الماء يرويني، لعبي خفيف، ومزاجي ظريف؛ فأنا أنشط من العصفور، وأخف حركة من الزرزور، ووصلي منية الراغب، ونزهة الطالب. وأنا مليحة القوام حسنة الابتسام، كأني غصن بان أو قضيب خيزران أو عود ريحان، وليس لي في الجمال مماثِل، كما قال فيَّ القائل:

شَبَّهْتُ قَدَّكِ بِالْقَضِيبِ        وَجَعَلْتُ شَكْلَكِ مِنْ نَصِيبِي

وَغَدَوْتُ خَلْفَكِ هَائِمًا        خَوْفًا عَلَيْكِ مِنَ الرَّقِيبِ

وفي مثلي تهيم العشاق، ويتولَّه المشتاق، وإن جذبني حبيبي أنجذب إليه، وإن استمالني ملت له لا عليه، وها أنت يا سمينة البدن، فإن أكلك أكل الفيل، ولا يُشبِعك كثير ولا قليل، وعند الاجتماع لا يستريح معك خليل، ولا يوجد لراحته معك سبيل؛ فكبر بطنك يمنعه من جماعك، وعند التمكن من فرجك يدفعه غلظ أفخاذك، أي شيء في غلظك من الملاحة؟ أو في فظاظتك من اللطف والسماحة؟ ولا يليق باللحم السمين غير الذبح، وليس فيه شيء من موجبات المدح، إنْ مازَحَكِ أحدٌ غضبتِ، وإن لاعَبَكِ حزنتِ، فإنْ غنجتِ شخرتِ، وإنْ مشيتِ لهثتِ، وإنْ أكلتِ ما شبعتِ. وأنت أثقل من الجبال، وأقبح من الخبال والوبال، ما لك حركة، ولا فيك بركة، وليس لك شغل إلا الأكل والنوم، وإنْ بُلْتِ شرشرْتِ، وإنْ تغوَّطتِ بطبطتِ، كأنك زقٌّ منفوخ أو فيل ممسوخ، إنْ دخلتِ بيت الخلا تريدين مَن يغسل لك فرجكِ، وينتف من فوقه شعرك، وهذا غاية الكسل، وعنوان الخبل، وبالجملة ليس فيك شيء من المفاخر، وقد قال فيك الشاعر:

ثَقِيلَةٌ مِثْلُ زِقِّ الْبَوْلِ مُنْتَفِخٌ        أَوْرَاكُهَا كَعَوَامِيدَ مِنَ الْجَبَلِ

إِذَا مَشَتْ فِي بِلَادِ الْغَرْبِ أَوْ خَطَرَتْ        سَرَى إِلَى الشَّرْقِ مَا تُبْدِي مِنَ الْهَبَلِ

فقال لها سيدها: اجلسي، ففي هذا القدر كفاية. فجلست، ثم أشار إلى الصفراء، فقامت على قدمَيْها وحمدت الله تعالى وأثنت عليه، وأتَتْ بالصلاة والسلام على خيار خلقه لديه، ثم أشارت بيدها إلى السمراء وقالت … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 337

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية الصفراء قامت على قدميها فحمدت الله تعالى وأثنت عليه، ثم أشارت بيدها إلى السمراء وقالت لها: أنا المنعوتة في القرآن، ووصَفَ لوني الرحمن، وفضَّله على سائر الألوان، بقوله تعالى في كتابه المبينصَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ فلوني آية، وجمالي غاية، وحسني نهاية؛ لأن لوني لون الدينار، ولون النجوم والأقمار، ولون التفاح، وشكلي شكل الملاح، ولون الزعفران يزهو على سائر الألوان، فشكلي غريب، ولوني عجيب، وأنا ناعمة البدن غالية الثمن، وقد حويت كلَّ معنًى حَسَن، ولوني في الوجود عزيز، مثل الذهب الإبريز، وكم من مآثر، وفي مثلي قال الشاعر:

لَهَا اصْفِرَارٌ كَلَوْنِ الشَّمْسِ فِي الْبَهَجِ        وَكَالدَّنَانِيرِ فِي حُسْنٍ مِنَ النَّظَرِ

مَا الزَّعْفَرَانُ يُحَاكِي بَعْضَ بَهْجَتِهَا        كَلَّا وَمَنْظَرُهَا يَعْلُو عَنِ الْقَمَرِ

وسوف أبتدي بذمِّك يا سمراء اللون؛ فلونك لون الجاموس، تشمئز عند رؤيتك النفوس، إنْ كان لونك في شيء فهو مذموم، وإن كان في طعام فهو مسموم، فلونك لون الذباب، وفيه بشاعة الكلاب، وهو محيِّر بين الألوان، ومن علامات الأحزان، وما سمعت قطُّ بذهبٍ أسمر، ولا دُرٍّ ولا جوهر، إنْ دخلتِ الخلاء يتغيَّر لونك، وإن خرجتِ ازددتِ قبحًا، فلا أنت سوداء فتُعرَفين، ولا أنت بيضاء فتُوصَفين، وليس لك شيء من المآثر، كما قال فيك الشاعر:

لَوْنُ الْهِبَابِ لَهَا لَوْنٌ فَغُبْرَتُهَا        كَالتُّرْبِ تَرْهَسُهُ فِي أَقْدَامِ قُصَّادِي

لَمَّا نَظَرْتُ إِلَيْهَا قُمْتُ أَرْمُقُهَا        وَقَدْ تَزَايَدَ بِي هَمِّي وَأَنْكَادِي

فقال لها سيدها: اجلسي، ففي هذا القدر كفاية. فجلست، ثم أشار إلى السمراء، وكانت ذات حسن وجمال، وقدٍّ واعتدال، وبهاء وكمال، لها جسم ناعم، وشعر فاحم، معتدلة القدِّ، موردة الخدِّ، ذات طرفٍ كحيل، وخدٍّ أسيل، ووجه مليح، ولسان فصيح، وخصر نحيل، وردف ثقيل. ثم قالت: الحمد لله الذي خلقني لا سمينة مذمومة، ولا هزيلة مهضومة، ولا بيضاء كالبَرَص، ولا صفراء كالمغص، ولا سوداء بلون الهِباب؛ بل جعل لوني معشوقًا لأولي الألباب، وسائر الشعراء يمدحون السُّمْر بكل لسان، ويفضِّلون ألوانهم على سائر الألوان؛ فأسمر اللون حميد الخصال، ولله دَرُّ مَن قال:

وَفِي السُّمْرِ مَعْنًى لَوْ عَلِمْتِ بَيَانَهُ        لَمَا نَظَرَتْ عَيْنَاكِ بِيضًا وَلَا حُمْرَا

لَبَاقَةُ أَلْفَاظٍ وَغُنْجُ لَوَاحِظٍ        يُعَلِّمْنَ هَارُوتَ الْكَهَانَةَ وَالسِّحْرَا

وقول الآخر:

مَنْ لِي بِأَسْمَرَ تَرْوِي عَنْ مَعَاطِفِهِ        السُّــمْرِ الرِّشَاقِ عَوَالٍ سَمْهَرِيَّاتُ

سَاجِي الْجُفُونِ حَرِيرِيُّ الْعِذَارِ لَهُ        فِي قَلْبِ عَاشِقِهِ الْمُضْنَى مَقَامَاتُ

وقول الآخر:

بِالرُّوحِ أَسْمَرُ نُقْطَةٌ مِنْ لَوْنِهِ        تَدَعُ الْبَيَاضَ يُفَاخِرُ الْأَقْمَارَا

وَلَوِ اسْتَقَلَّ مِنَ الْبَيَاضِ بِمِثْلِهَا        لَتَبَدَّلَتْ مِنْهُ الْمَلَاحَةُ عَارَا

مَا مِنْ سُلَافَتِهِ سَكِرْتُ وَإِنَّمَا        تَرَكَتْ سَوَالِفُهُ الْأَنَامَ سُكَارَى

حَسَدَ الْمَحَاسِنُ بَعْضَهَا حَتَّى اشْتَهَتْ        كُلُّ الْمَحَاسِنِ أَنْ تَكُونَ عِذَارَا

وقوله:

لِمَ لَا أَمِيلُ إِلَى الْعِذَارِ إِذَا بَدَا        مِنْ أَسْمَرَ كَالصَّعْدَةِ السَّمْرَاءِ

مَعَ أَنَّهُ قِصَصُ الْمَحَاسِنِ كُلُّهَا        فِي نَمْلِهِ الْأَنْفَالُ لِلشُّعَرَاءِ

وَرَأَيْتُ كُلَّ الْعَاشِقِينَ تَهَتَّكُوا        فِي الْخَالِ تَحْتَ الْمُقْلَةِ السَّوْدَاءِ

أَتَلُومُنِي الْعُذَّالُ فِيمَنْ كُلُّهُ        خَالٌ فَخَلُّونِي مِنَ السُّفَهَاءِ

فشكلي مليح، وقدِّي رجيح، ولوني ترغب فيه الملوك، ويعشقه كل غني وصعلوك، وأنا لطيفة خفيفة، مليحة ظريفة، ناعمة البدن غالية الثمن، وقد كملت في الملاحة والأدب والفصاحة؛ فظاهري مليح، ولساني فصيح، ومزاحي خفيف، ولعبي ظريف؛ وأما أنتِ فمثل ملوخية باب اللوق، صفراء وكلها عروق؛ فتعسًا لك يا قدرة الرواس، ويا صدأ النحاس، وطلعة البوم، وطعام الزقوم؛ فضجيعك مُضيِّق الأنفاس، مقبور في الأرماس، وليس لك في الحُسْن مآثر، وفي مثلك قال الشاعر:

عَلَيْهَا اصْفِرَارٌ زَادَ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ        يَضِيقُ لَهُ صَدْرِي وَتُوجِعُنِي رَاسِي

إِذَا لَمْ تَتُبْ نَفْسِي فَإِنِّي أَذِلُّهَا        بِلَثْمِ مُحَيَّاهَا فَتَقْلَعُ أَضْرَاسِي

فلما فرغت من شعرها، قال لها سيدها: اجلسي، ففي هذا القدر كفاية. ثم بعد ذلك … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 338

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية لما فرغت من شعرها قال لها سيدها: اجلسي، ففي هذا القدر كفاية. ثم بعد ذلك أصلح بينهن وألبسهن الخلع السنية، ونقَّطهن بنفيس الجواهر البرية والبحرية. فما رأيت يا أمير المؤمنين في مكان ولا زمان أحسن من هؤلاء الجواري الحسان.

فلما سمع المأمون هذه الحكاية من محمد البصري أقبل عليه، وقال له: يا محمد، هل تعرف لهؤلاء الجواري وسيدهن محلًّا؟ وهل يمكنك أن تشتريهن لنا من سيدهن؟ فقال له محمد: يا أمير المؤمنين، قد بلغني أن سيدهنَّ مغرم بهن، ولا يمكنه مفارقتهن. فقال المأمون: خذ معك إلى سيدهن في كل جارية عشرة آلاف دينار، فيكون مبلغ ذلك الثمن ستين ألف دينار، فاحملها صحبتك وتوجَّه إلى منزله، واشترِهُنَّ منه. فأخذ محمد البصري منه ذلك القدر وتوجَّه به، فلما وصل إلى سيد الجواري أخبره بأن أمير المؤمنين يريد اشتراءهن منه بذلك المبلغ.

فسمح ببيعهن لأجل خاطر أمير المؤمنين وأرسلهن إليه، فلما وصلت الجواري إلى أمير المؤمنين هيَّأ لهن مجلسًا لطيفًا، وصار يجلس فيه معهن وينادمنَهُ، وقد تعجَّب من حسنهن وجمالهن، واختلاف ألوانهن، وحسن كلامهن، وقد استمر على ذلك مدة من الزمان. ثم إن سيدهنَّ الأول الذي باعهن لما لم يكن له صبر على فراقهن، أرسل كتابًا إلى أمير المؤمنين المأمون يشكو إليه فيه ما عنده للجواري من الصبابات، ومن ضمنه هذه الأبيات:

سَلَبَتْنِي سِتُّ مِلَاحٍ حِسَانٍ        فَعَلَى السِّتَّةِ الْمِلَاحِ سَلَامِي

هُنَّ سَمْعِي وَنَاظِرِي وَحَيَاتِي        وَشَرَابِي وَنُزْهَتِي وَطَعَامِي

لَسْتُ أَسْلُو مِنْ حُسْنِهِنَّ وِصَالًا        ذَاهِبٌ بَعْدَهُنَّ طِيبُ مَنَامِي

آهِ يَا طُولَ حَسْرَتِي وَبُكَائِي        لَيْتَنِي مَا خُلِقْتُ بَيْنَ الْأَنَامِ

وَعُيُونٍ قَدْ زَانَهُنَّ جُفُونٌ        كَقِسِيٍّ رَمَيْنَنِي بِسِهَامِ

فلما وقع ذلك الكتاب في يد الخليفة المأمون كسا الجواري من الملابس الفاخرة، وأعطاهن ستين ألف دينار، وأرسلهن إلى سيدهن، فوصلن إليه وفرح بهن غاية الفرح أكثر مما أتى إليه من المال، وأقام معهن في أطيب عيش وأهناه، إلى أن أتاهم هادم اللذات، ومفرِّق الجماعات.

ومما يُحكَى أن الخليفة أمير المؤمنين هارون الرشيد قلق ذات ليلة قلقًا شديدًا، وتفكَّرَ فكرًا عظيمًا، فقام يتمشى في جوانب قصره حتى انتهى إلى مقصورة عليها ستر، فرفع ذلك الستر فرأى في صدرها تختًا، وعلى ذلك التخت شيء أسود كأنه إنسان نائم، وعلى يمينه شمعة وعلى يساره شمعة، فبينما هو ينظر إلى ذلك ويتعجَّب منه، وإذا بباطية مملوءة خمرًا عتيقًا والكأس عليها، فلما رأى ذلك أمير المؤمنين تعجب في نفسه وقال: أتكون هذه الصحبة لمثل هذا الأسود؟ ثم دَنَا من التخت فرأى الذي فوقه صبية نائمة وقد تجللت بشعرها، فكشف عن وجهها فرآها كأنها البدر ليلة تمامه، فملأ الخليفة الكأس من الخمر وشربه على ورد خدها، ومالت نفسه إليها فقبَّلَ أثرًا كان بوجهها، فانتبهت من منامها وهي قائلة: يا أمين الله ما هذا الخبر؟ فقال: ضيف طارق في حَيِّكم كي تضيفونه إلى وقت السحر. قالت: نعم بالسمع مني والبصر. ثم قدَّمَتِ الشراب فشربَا معًا، ثم أخذت العود وأصلحت أوتاره وضربت عليه إحدى وعشرين طريقة، ثم عادت إلى الطريقة الأولى وأطربت بالنغمات وأنشدت هذه الأبيات:

لِسَانُ الْهَوَى فِي مُهْجَتِي لَكَ نَاطِقُ        يُخَبِّرُ عَنِّي أَنَّنِي لَكَ عَاشِقُ

وَلِي شَاهِدٌ عَنْ فَرْطِ سَقْمِيَ مُعْرِبٌ        وَقَلْبٌ جَرِيحٌ مِنْ فِرَاقِكَ خَافِقُ

وَلَمْ أَكْتُمِ الْحُبَّ الَّذِي قَدْ أَذَابَنِي        وَوَجْدِي مَزِيدٌ وَالدُّمُوعُ سَوَابِقُ

وَمَا كُنْتُ أَدْرِي قَبْلَ حُبِّكَ مَا الْهَوَى        وَلَكِنْ قَضَاءُ اللهِ فِي الْخَلْقِ سَابِقُ

فلما فرغت من شعرها قالت: أنا مظلومة يا أمير المؤمنين. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 339

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية قالت: أنا مظلومة يا أمير المؤمنين. قال: ولِمَ ذلك؟ ومَن ظلمكِ؟ قالت: إن ولدك اشتراني من مدة بعشرة آلاف درهم وأراد أن يهبني لك، فأرسلَتْ إليه ابنةُ عمك الثمنَ المذكور وأمرته أن يحجبني عنك في هذه المقصورة. فقال لها: تَمَنِّي عليَّ. قالت: تمنَّيْتُ عليك أن تكون ليلة غدٍ عندي. فقال: إن شاء الله تعالى. ثم تركها ومضى، فلما أصبح الصباح توجه إلى مجلسه وأرسل إلى أبي نواس فلم يجده، فأرسل الحاجب يسأل عنه فرآه مرتهنًا في بعض الخمارات على ألف درهم أنفقها على بعد المُرْد، فسأله الحاجب عن حاله، فقَصَّ عليه قصته وما وقع له مع أمرد مليح أنفق عليه الألف درهم، فقال له: أَرِني إياه، فإن كان يستحق ذلك فأنت معذور. فقال له: اصبر وأنت تراه في هذه الساعة. فبينما هما في الحديث وإذا بالأمرد قد أقبَلَ ودخل عليهما وعليه ثوب أبيض، ومن تحته ثوب أحمر، ومن تحته ثوب أسود، فلما شاهَدَه أبو نواس صعد الزفرات وأنشد هذه الأبيات:

تَبَدَّى فِي قَمِيصٍ مِنْ بَيَاضِ        بِأَحْدَاقٍ وَأَجْفَانٍ مِرَاضِ

فَقُلْتُ لَهُ: عَبَرْتَ وَلَمْ تُسَلِّمْ        وَإِنِّي مِنْكَ بِالتَّسْلِيمِ رَاضِ

تَبَارَكَ مَنْ كَسَا خَدَّيْكَ وَرْدًا        وَيَخْلُقُ مَا يَشَاءُ بِلَا اعْتِرَاضِ

فَقَالَ: دَعِ الْجِدَالَ فَإِنَّ رَبِّي        بَدِيعُ الصُّنْعِ مِنْ غَيْرِ انْتِقَاضِ

فَثَوْبِي مِثْلُ وَجْهِي مِثْلُ حَظِّي        بَيَاضٌ فِي بَيَاضٍ فِي بَيَاضِ

فلما سمع الأمرد هذا الكلام نزع الثوب الأبيض من فوق الثوب الأحمر، فلما رآه أبو نواس أكثر التعجبات وأنشد هذه الأبيات:

تَبَدَّى فِي قَمِيصٍ مِنْ شَقِيقٍ        عَدُوٌّ لِي يُلَقَّبُ بِالْحَبِيبِ

فَقُلْتُ مِنَ التَّعَجُّبِ: أَنْتَ بَدْرٌ        وَقَدْ أَقْبَلْتَ فِي زِيٍّ عَجِيبِ

أَحُمْرَةُ وَجْنَتَيْكَ كَسَتْكَ هَذَا        أَمْ أَنْتَ صَبَغْتَهُ بِدَمِ الْقُلُوبِ

فَقَالَ: الشَّمْسُ أَهْدَتْ لِي قَمِيصًا        قَرِيبَ الْعَهْدِ مِنْ شَفَقِ الْمَغِيبِ

فَثَوْبِي وَالْمُدَامُ وَلَوْنُ خَدِّي        شَقِيقٌ فِي شَقِيقٍ فِي شَقِيقِ

فلما فرغ أبو نواس من شعره، خلع الأمرد الثوب الأحمر وبقي في الثوب الأسود، فلما رآه أبو نواس أكثر إليه الالتفات، وأنشد هذه الأبيات:

تَبَدَّى فِي قَمِيصٍ مِنْ سَوَادِ        تَجَلَّى فِي الظَّلَامِ عَلَى الْعِبَادِ

فَقُلْتُ لَهُ: عَبَرْتَ وَلَمْ تُسَلِّمْ        وَأَشْمَتَّ الْحَوَاسِدَ وَالْأَعَادِي

فَثَوْبُكَ مِثْلُ شَعْرِكَ مِثْلُ حَظِّي        سَوَادٌ فِي سَوَادٍ فِي سَوَادِ

فلما رأى ذلك الحاجب علم بحال أبي نواس وغرامه، فرجع إلى الخليفة وأخبره بحاله، فأحضر الخليفة ألف درهم وأمر الحاجب أن يأخذها ويرجع بها إلى أبي نواس ويدفعها عنه ويخلصها من الرهن، فرجع بها الحاجب إلى أبي نواس وخلَّصه وتوجه به إلى الخليفة، فلما وقف بين يديه قال له الخليفة: أنشدني شعرًا يكون فيه: «يا أمين الله ما هذا الخبر؟» فقال: سمعًا وطاعة يا أمير المؤمنين. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 340

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن أبا نواس قال: سمعًا وطاعة يا أمير المؤمنين. ثم أنشد هذه الأبيات:

طَالَ لَيْلِي بِالْعَوَادِي وَالسَّهَرْ        فَانْضَنَى جِسْمِي وَأَكْثَرْتُ الْفِكَرْ

قُمْتُ أَمْشِي فِي مَحَلِّي تَارَةً        ثُمَّ طَوْرًا فِي مَقَاصِيرِ الْحَجَرْ

فَرَأَتْ عَيْنَايَ شَخْصًا أَسْوَدَ        وَبُيَيْضَهُ قَدْ تَغَطَّتْ بِالشَّعَرْ

يَا لَهَا مِنْ بَدْرِ تِمٍّ زَاهِرٍ        تَنْثَنِي كَالْغُصْنِ فِي وَقْتِ الْمَطَرْ

فَشَرِبْتُ الْخَمْرَ مَفْتُونًا بِهَا        ثُمَّ أَقْبَلْتُ وَقَبَّلْتُ الْأَثَرْ

فَاسْتَفَاقَتْ وَهْيَ فِي غَشْيَتِهَا        صَفَّقَتْ تَصْفِيقَ أَوْرَاقِ الشَّجَرْ

بَعْدُ جَاءَتْ وَهْيَ لِي قَائِلَةً        يَا أَمِينَ اللهِ مَا هَذَا الْخَبَرْ؟

قُلْتُ: ضَيْفٌ طَارِقٌ فِي حَيِّكُمْ        يَرْتَجِي الْمَأْوَى إِلَى وَقْتِ السَّحَرْ

فَأَجَابَتْ: بِسُرُورٍ سَيِّدِي        أُكْرِمُ الضَّيْفَ بِسَمْعِي وَالْبَصَرْ

فقال له الخليفة: قاتلك الله كأنك كنتَ حاضرًا معنا. ثم أخذه الخليفة من يده وتوجه به إلى الجارية، فلما رآها أبو نواس وكان عليها بدلة زرقاء وقناع أزرق، أكثر التعجبات وأنشد هذه الأبيات:

قُلْ لِلْمَلِيحَةِ فِي الْقِنَاعِ الْأَزْرَقِ        نَاشَدْتُكَ بِاللهِ أَنْ تَتَرَفَّقِي

إِنَّ الْمُحِبَّ إِذَا جَفَاهُ حَبِيبُهُ        هَاجَتْ بِهِ زَفَرَاتُ كُلِّ تَشَوُّقِ

فَبِحَقِّ حُسْنِكَ مَعْ بَيَاضٍ زَانَهُ        هَلَّا رَثِيتِ لَقَلْبِ صَبٍّ مُحْرَقِ

حِنِّي عَلَيْهِ وَسَاعِدِيهِ عَلَى الْهَوَى        لَا تَقْبَلِي فِيهِ كَلَامَ الْأَحْمَقِ

فلما فرغ أبو نواس من شعره، قدَّمت الجارية الشراب للخليفة، ثم أخذت العود بيدها وأطربت بالنغمات وأنشدت هذه الأبيات:

أَتُنْصِفُ غَيْرِي فِي هَوَاكَ وَتَظْلِمُ        وَتُبْعِدُنِي وَالْغَيْرُ فِيكَ مُنَعَّمُ

وَلَوْ كَانَ لِلْعُشَّاقِ قَاضٍ شَكَوْتُكُمْ        إِلَيْهِ عَسَاهُ بِالْحَقِيقَةِ يَحْكُمُ

فَإِنْ تَمْنَعُونِي أَنْ أَمُرَّ بِبَابِكُمْ        فَإِنِّي عَلَيْكُمْ مِنْ بَعِيدٍ أُسَلِّمُ

ثم إن أمير المؤمنين أمر بإكثار الشراب على أبي نواس حتى غاب عن رشده، ثم ناوله قدحًا فشرب منه جرعة واستدامه في يده، فأمرها الخليفة أن تأخذ القدح من يده وتخفيه، فأخذت القدح من يده وأخفته بين أفخاذها، ثم إن الخليفة سحب سيفه في يده ووقف على رأس أبي نواس ووكزه بالسيف، فاستفاق فوجد السيف مسلولًا في يد الخليفة، فطار السُّكْر من رأسه، فقال له الخليفة: أنشدني شعرًا وأخبرني فيه عن قدحك وإلا ضربت عنقك. فأنشد هذه الأبيات:

قِصَّتِي أَعْظَمُ قِصَّةْ        صَارَتِ الظَّبْيَةُ لِصَّةْ

سَرَقَتْ كَأْسَ مُدَامِي        وَامْتِصَاصِي مِنْهُ مَصَّةْ

سَتَرَتْهُ فِي مَكَانٍ        بِفُؤَادِي مِنْهُ غَصَّةْ

لَا أُسَمِّيهِ وَقَارًا        لِلْخَلِيفَةِ فِيهِ حِصَّةْ

وقال له أمير المؤمنين: قاتلك الله، من أين علمتَ ذلك؟ ولكن قد قبلنا ما قلت. وأمر له بخلعة وألف دينار وانصرف مسرورًا.

 

حكاية الرجل والصحن من ذهب

ومما يُحكَى أن رجلًا كثرت عليه الديون وضاق عليه الحال، فترك أهله وعياله وخرج هائمًا على وجهه، ولم يزل سائرًا إلى أن أقبَلَ بعد مدة على مدينة عالية الأسوار، عظيمة البنيان، فدخلها وهو في حالة الذل والانكسار، وقد اشتدَّ به الجوع وأتعبه السفر، فمَرَّ في بعض شوارعها فرأى جماعة من الأكابر متوجِّهين، فذهب معهم إلى أن دخلوا في محلٍّ يشبه محلَّ الملوك، فدخل معهم، ولم يزالوا داخلين إلى أن انتهوا إلى رجل جالس في صدر المكان، وهو في هيئة عظيمة وجلالة جسيمة، وحوله الغلمان والخدم كأنه من أبناء الوزراء، فلما رآهم قام إليهم وأكرم مثواهم، فأخذ الرجل المذكور الوهم من ذلك الأمر واندهش مما رآه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 341

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الرجل المذكور أخذه الوهم من ذلك الأمر، واندهش مما رآه من حسن البنيان والخدم والحشم، فتأخَّرَ إلى ورائه وهو في حيرة وكرب؛ خائفًا على نفسه، حتى جلس في محل وحده بعيدًا عن الناس بحيث لا يراه أحد، فبينما هو جالس إذ أقبل رجل ومعه أربعة كلاب من كلاب الصيد، وعليها أنواع القز والديباج، وفي أعناقها أطواق من الذهب بسلاسل الفضة، فربط كلَّ واحد منها في محل منفرد له، ثم غاب وأتى لكل كلب بصحن من الذهب ملآن طعامًا من الأطعمة الفاخرة، ووضع لكل واحد صحنه على انفراد، ثم مضى وتركها، فصار هذا الرجل ينظر إلى الطعام من شدة جوعه ويريد أن يتقدَّم إلى كلبٍ منها ويأكل معه، فيمنعه الخوف منها، ثم إن كلبًا منها نظر إليه فألهمه الله تعالى معرفة حاله، فتأخَّرَ عن الصحن وأشار إليه، فأقبل وأكل حتى أكتفى، وأراد أن يذهب فأشار إليه الكلب أن يأخذ الصحن بما فيه من الطعام لنفسه وألقاه له بيده، فأخذه وخرج من الدار وسار ولم يتبعه أحد، ثم سافَرَ إلى مدينة أخرى، فباع الصحن وأخذ بثمنه بضائع وتوجه إلى بلده، فباع ما معه وقضى ما كان عليه من الديون، وكثر رزقه وصار في نعمة زائدة وبركة عميمة، ولم يزل مقيمًا في بلده مدةً من الزمان، وبعد ذلك قال في نفسه: لا بد أنني أسافر إلى مدينة صاحب الصحن، وآخذ له هدية مليحة لائقة، وأدفع له ثمنَ الصحن الذي أنعَمَ عليَّ به كلبٌ من كلابه. ثم إنه أخذ هدية تليق به، وأخذ معه ثمن الصحن وسافَرَ، ولم يزل مسافرًا أيامًا وليالي حتى وصل إلى تلك المدينة، فدخلها وأراد الاجتماع به، فمشى في شوارعها حتى أقبل على محله، فلم يَرَ إلا طللًا باليًا، وغرابًا ناعيًا، وديارًا قد قفرت، وأحوالًا قد تغيَّرَتْ، وحالًا قد تنكَّرَتْ، فارتجف منه القلب والبال، وأنشد قول مَن قال:

خَلَتِ الزَّوَايَا مِنْ خَبَايَاهَا كَمَا        خَلَتِ الْقُلُوبُ مِنَ الْمَعَارِفِ وَالتُّقَى

وَتَنَكَّرَ الْوَادِي فَمَا غِزْلَانُهُ        تِلْكَ الظِّبَاءُ وَلَا الْتَقَى ذَاكَ النَّقَا

وقول الآخر:

سَرَى طَيْفُ سَعْدَى طَارِقًا يَسْتَفِزُّنِي        سُحَيْرًا وَصَحْبِي بِالْفَلَاةِ رُقُودُ

فَلَمَّا انْتَبَهْنَا لِلْخَيَالِ الَّذِي سَرَى        أَرَى الْجَوَّ قَفْرًا وَالْمَزَارَ بَعِيدُ

ثم إن ذلك الرجل لما شاهَدَ تلك الأطلال البالية، ورأى ما صنعَتْ بها أيدي الدهر علانيةً، ولم يجد بعد العين إلا الأثر، أغناه الخبر عن الخبر، والتفت فرأى رجلًا مسكينًا في حالة تقشعر منها الجلود ويحن إليها الحجر الجلمود، فقال: يا هذا، ما صنع الدهر والزمان بصاحب هذا المكان؟ وأين بدوره السافرة ونجوسه الزاهرة؟ وما سبب الحادث الذي حدث على بنيانه حتى لم يبقَ فيه غير جدرانه؟ فقال له: هو هذا المسكين الذي تراه، وهو يتأوَّه مما عراه، ولكن أَمَا تعلم أن في كلام الرسول عبرةً لمَن به اقتدى، وموعظةً لمَن اهتدى؛ حيث قال ﷺ: إنَّ حقًّا على الله تعالى ألَّا يرفع شيئًا من هذه الدنيا إلا وضعه. فإن كان سؤالك عن مآل هذا الأمر من سبب، فليس مع انقلاب الدهر عجب، أنا صاحب هذا المكان ومُنشِئه ومالِكه وبانيه، وصاحب بدوره السافرة، وأحواله الفاخرة، وتُحَفه الزاهية، وجواريه الباهية، لكن الزمان قد مال، فأذهب الخدم والمال، وصيَّرني في هذه الحالة الراهنة، ودهمني بحوادث كانت عنده كامنة، لكن لا بد لسؤالك هذا من سبب، فأخبرني عنه واترك العجب. فأخبره الرجل بجميع القصة وهو في ألم وغصة، وقال له: قد جئتُكَ بهدية فيها النفوس ترغب، وثمن صحنك الذي أخذته فإنه كان سببًا لغناي بعد الفقر، ولعمار ربعي وهو قفر، ولزوال ما كان عندي من الهم والحصر، فهزَّ الرجل رأسه وبكى، وأنَّ واشتكى، وقال: يا هذا، أظنك مجنونًا؛ فإن هذا الأمر لا يكون من عاقل، كيف يتكرَّم عليك كلب من كلابنا بحصنٍ من الذهب وأرجع أنا فيه؟ فرجوعي فيما تكرَّمَ به كلبي من العجب، ولو كنتُ في أشد الهمِّ والوصب، والله لا يصل إليَّ منك شيء يساوي قلامة، فامضِ من حيث جئتَ بالصحة والسلامة. فقبل الرجل قدمَيْه وانصرف راجعًا يثني عليه، ثم إنه عند فراقه ووداعه أنشد هذا البيت:

ذَهَبَ النَّاسُ وَالْكِلَابُ جَمِيعًا        فَعَلَى النَّاسِ وَالْكِلَابِ السَّلَامُ

والله أعلم.

 

حكاية اللص ووالي الإسكندرية

ومما يُحكَى أنه كان بثغر الإسكندرية والٍ يقال له حسام الدين، فبينما هو جالس في دسته ذات ليلة إذ أقبل عليه رجل جندي وقال له: اعلم يا مولانا الوالي، أني دخلتُ هذه المدينة في هذه الليلة، ونزلت في خان كذا فنمتُ فيه إلى ثلث الليل، فلما انتبهتُ وجدتُ خُرْجي مشروطًا وقد سُرِق منه كيس فيه ألف دينار، فلم يتم كلامه حتى وصل الوالي وأحضر المقدمين وأمرهم بإحضار جميع مَن في الخان، وأمر بسجنهم إلى الصباح، فلما جاء الصبح أمر بإحضار آلة العقوبة، وأحضر هؤلاء الناس بحضرة الجندي صاحب الدراهم وأراد عقابهم، وإذا برجل قد أقبل وشقَّ الناس حتى وقف بين يدي الوالي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 342

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الوالي أراد عقابهم، وإذا برجل قد أقبَلَ وشقَّ الناس حتى وقف بين يدَيِ الوالي والجندي، فقال: أيها الأمير، أطلق هؤلاء الناس كلهم فإنهم مظلومون، وأنا الذي أخذت مالَ هذا الجندي، وها هو الكيس الذي أخذتُه من خُرْجه. ثم أخرجه من كمه ووضعه بين يدي الوالي والجندي، فقال الوالي للجندي: خذ مالك وتسلَّمه، فما بقي لك على الناس سبيل. وصار الناس وجميع الحاضرين يثنون على ذلك الرجل ويدعون له، ثم إن الرجل قال: أيها الأمير، ما الشطارة أني جئتُ إليك بنفسي وأحضرت هذا الكيس، وإنما الشطارة في أخذ الكيس ثانيًا من هذا الجندي. فقال له الوالي: وكيف فعلتَ يا شاطر حين أخذتَه؟ فقال: أيها الأمير، إني كنتُ واقفًا في مصر في سوق الصيارف إذ رأيت هذا الجندي لما صرف هذا الذهب ووضعه في هذا الكيس، فتبعته من زقاق إلى زقاق، فلم أجد لي إلى أخْذِ المال منه سبيلًا، ثم إنه سافَرَ فتبعته من بلد إلى بلد، وصرت أحتال عليه في أثناء الطريق فما قدرت على أخذه، فلما دخل هذه المدينة تبعته حتى دخل في هذا الخان، فنزلت إلى جانبه ورصدته حتى نام وسمعتُ غطيطَه، فمشيتُ إليه قليلًا قليلًا وقطعت الخُرْج بهذه السكين، وأخذت الكيس هكذا، ومَدَّ يده وأخذ الكيس من بين أيادي الوالي والجندي، وتأخَّرَ إلى خلف الوالي والجندي والناس ينظرون إليه، ويعتقدون أنه يُرِيهم كيف أخذ الكيس من الخُرْج، وإذا به قد جرى ورمى نفسه في بركة، فصاح الوالي على حاشيته وقال: الحقوه وانزلوا خلفه. فما نزعوا ثيابهم ونزلوا في الدرج، حتى كان الشاطر مضى إلى حال سبيله، وفتشوا عليه فلم يجدوه، وذلك أن أزِقَّة الإسكندرية كلها تنفذ إلى بعضها، ورجع الناس ولم يحصلوا الشاطر، فقال الوالي للجندي: لم يبقَ لك عند الناس حقٌّ؛ لأنك عرفت غريمك وتسلَّمْتَ مالك وما حفظتَه. فقام الجندي وقد ضاع عليه ماله، وخلصت الناس من يدي الجندي والوالي، وكل ذلك من فضل الله تعالى.

 

حكاية الملك الناصر والولاة الثلاثة

ومما يُحكَى أن الملك الناصر أحضر الولاة الثلاثة في بعض الأيام؛ والي القاهرة، ووالي بولاق، ووالي مصر القديمة، وقال: أريد أن كل واحد منكم يخبرني بأعجب ما وقع له في مدة ولايته. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 343

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك الناصر قال للولاة الثلاثة: أريد أن كل واحد منكم يخبرني بأعجب ما وقع له في مدة ولايته. فأجابوه بالسمع والطاعة، ثم قال والي القاهرة: اعلم يا مولانا السلطان أن أعجب ما وقع في مدة ولايتي، أنه كان بهذه المدينة عدلان يشهدان على الدماء والجراحات، وكانَا مُولَعين بحب النساء وشرب الشراب والفساد، وما قدرت عليهما بحيلةٍ لأنتقم منهما بها وعجزتُ عن ذلك، فأوصيت الخمَّارين والنقليين والفكهانيين والشماعين وأرباب البيوت المعدَّة للفساد، أن يخبروني بهذين الشاهدين متى كانَا في مكان يشربان أو يُفسِدان، سواء كانا مع بعضهما أو متفرقين، وإن اشتريا أو اشترى أحدهما منهم شيئًا من الأشياء المعدَّة للشراب، فلا يخفوه عني. فقالوا: سمعًا وطاعة. فاتفق في بعض الأيام أنه حضر إليَّ رجل ليلًا وقال: يا مولانا، اعلم أن الشاهدين في المكان الفلاني، في الدرب الفلاني، في دار فلان، وأنهما في منكر عظيم. فقمتُ وتخفَّيْتُ أنا وغلامي ومضيت إليهما منفردًا، ليس من أحد معي غير غلامي، ولم أَزَلْ ماشيًا حتى وقفت على الباب وطرقته، فأتت إليَّ جارية وفتحت لي الباب وقالت: مَن أنت؟ فدخلتُ ولم أردَّ عليها جوابًا، فرأيتُ الشاهدين وصاحب الدار جلوسًا وعندهم نساء بغايا، ومن الشراب شيء كثير، فلما رأوني قاموا إليَّ وعظَّموني وأَجْلَسوني في صدر المقام وقالوا لي: مرحبًا بك من ضيف عزيز، ونديم ظريف. واستقبلوني من غير خوف مني ولا فزع، وبعد ذلك قام صاحب الدار من عندنا وغاب ساعة، ثم عاد ومعه ثلاثمائة دينار وليس عنده من الخوف شيء، وقالوا: اعلم يا مولانا الوالي أنك تقدر على أكثر من هتيكتنا، وفي يديك تعزيرنا، ولكن لا يعود عليك من ذلك إلا التعب، فالرأي أن تأخذ هذا القدر وتستر علينا، فإن الله تعالى اسمه الستار، ويحب من عباده الستيرين، ولك الأجر والثواب. فقلت في نفسي: خذ هذا الذهب منهم، واستر عليهم في هذه المرة، وإذا قدرت عليهم مرة أخرى فانتقم منهم.

فطمعت في المال وأخذتُه منهم وتركتهم، وانصرفت ولم يشعر بي أحد، فما أشعر في ثاني يوم إلا ورسول القاضي جاء إليَّ وقال: أيها الوالي تفضَّلْ كلِّم القاضي فإنه يدعوك. فقمت معه ومضيت إلى القاضي ولا اعلم ما سبب ذلك، فلما دخلت عليه رأيت الشاهدين وصاحب الدار الذي أعطاني الثلاثمائة دينار جالسين عنده، فقام صاحب الدار وادَّعَى عليَّ بثلاثمائة دينار، فما وسعني الإنكار، فخرج مسطورًا وشهد فيه هذان الشاهدان العدلان عليَّ بثلاثمائة دينار، فثبت ذلك عند القاضي بشهادة الشاهدين، فأمرني بدفع ذلك المبلغ، فما خرجت من عندهم حتى أخذوا مني الثلاثمائة دينار، فاغتظت ونويت لهم كل سوء، وندمت على عدم تنكيلهم وانصرفت وأنا في غاية الخجل، وهذا أعجب ما وقع لي في مدة ولايتي.

فقام والي بولاق وقال: وأما أنا يا مولانا السلطان، فأعجب ما وقع لي في مدة ولايتي أنه كمل عليَّ من الدين ثلاثمائة ألف دينار، فأضرَّ بي ذلك وبعتُ ما ورائي وما قدامي وما كان بيدي، فجمعتُ مائة ألف دينار من غير زيادة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 344

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن والي بولاق قال: بعت ما ورائي وما قدامي، فجمعت مائة ألف دينار من غير زيادة، وبقيت في حيرة عظيمة، فبينما أنا جالس في داري ليلة من الليالي وأنا في هذا الحال، وإذا بطارق يطرق الباب، فقلت لبعض الغلمان: انظر مَن بالباب. فخرج ثم عاد إليَّ وهو مصفرُّ الوجه، متغيِّر اللون، مرتعد الفرائص، فقلتُ له: ما دهاك؟ فقال: إن بالباب رجلًا عريانًا، وعليه ثياب من الجلد، ومعه سيف، وفي وسطه سكين، ومعه جماعة على هيئته وهو يطلبك. فأخذت السيف في يدي وخرجتُ لأنظر مَن هؤلاء، وإذا بهم كما قال الغلام، فقلت لهم: ما شأنكم؟ فقالوا: إننا لصوص وغنمنا في هذه الليلة غنيمة عظيمة، وجعلناها برسمك لتستعين بها على هذه القضية التي أنتَ مهموم بسببها، وتسدَّ بها الدَّيْن الذي عليك. فقلت لهم: وأين الغنيمة؟ فأحضروا لي صندوقًا كبيرًا ممتلئًا أواني من ذهب وفضة، فلما رأيته فرحت وقلت في نفسي: أسدُّ الدَّيْنَ الذي عليَّ من هذا، ويفضل لي قدرَ الدَّيْنِ مرةً أخرى. فأخذته ودخلت الدار وقلت في نفسي: ليس من المروءة أن أدعهم يذهبون من غير شيء، فأخذتُ المائة ألف دينار التي كانت عندي ودفعتُها إليهم وشكرت صنعهم، فأخذوا الدنانير ومضوا تحت الليل إلى حال سبيلهم ولم يعلم بهم أحد، فلما أصبح الصباح، رأيتُ ما في الصندوق نحاسًا مطليًّا بالذهب والقزير يساوي كله خمسمائة درهم، فعَظُم عليَّ ذلك وضاعت الدنانير التي كانت معي، وازددْتُ غمًّا على غمِّي، وهذا أعجب ما جرى لي في زمن ولايتي.

فقام والي مصر القديمة وقال: يا مولانا السلطان، وأما أنا فأعجب ما جرى لي في مدة ولايتي، أني شنقت عشرةَ لصوص وجعلتُ كلَّ واحد على خشبة وحده، وأوصيتُ الحارسين أنهم يحفظونهم ولا يتركون الناس يأخذون أحدًا منهم، فلما كان من الغد جئتُ لأنظرهم فنظرتُ مشنوقَيْن على خشبةٍ واحدة، فقلتُ للحارسين: مَن فعل هذا؟ وأين الخشبة التي كان عليها المشنوق الثاني؟ فأنكروا ذلك، فأردت أن أضربهم فقالوا: اعلم أيها الأمير أننا نمنا البارحة، فلما انتبهنا وجدنا مشنوقًا واحدًا سُرِق هو والخشبة التي كان عليها، فخفنا منك، وإذا برجل فلاح مسافر قد أقبل علينا ومعه حمار، فقبضنا عليه وقتلناه وشنقناه مكان الذي سُرِق على هذه الخشبة. فتعجَّبْتُ من ذلك وقلتُ لهم: وما كان مع الفلاح؟ فقالوا: كان معه خُرْج على الحمار. قلت لهم: وما فيه؟ قالوا: لا ندري. فقلتُ لهم: عليَّ به. فأحضروه بين يدي فأمرتُ بفتحه، وإذا فيه رجل مقتول مقطَّع، فلما رأيته تعجَّبْتُ من ذلك، وقلت في نفسي: سبحان الله، ما كان سبب شنق هذا الفلاح إلا ذنب هذا المقتول، وما ربك بظلَّام للعبيد.

 

حكاية اللص والصيرفي

ومما يُحكَى أن رجلًا من الصيارف كان معه كيس ملآن ذهبًا، وقد مرَّ على اللصوص فقال واحد من الشطار: أنا أقدر على أخذ هذا الكيس. فقالوا له: كيف تصنع؟ فقال: انظروا. ثم تبعه إلى منزله، فدخل الصيرفي ورمى الكيس على الصفة وكان حاقنًا، فدخل بيت الراحة لإزالة الضرورة، وقال للجارية: هاتي إبريق ماء. فأخذت الجارية الإبريق وتبعته إلى بيت الراحة، وتركَتِ البابَ مفتوحًا، فدخل اللص وأخذ الكيس وذهب إلى أصحابه وأعلمهم بما جرى. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 345

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن اللص أخذ الكيس وذهب إلى أصحابه وأعلمهم بما جرى له مع الصيرفي والجارية، فقالوا له: والله إن الذي عملته شطارة، وما كل إنسان يقدر عليه، ولكن في هذا الوقت يخرج الصيرفي من بيت الراحة، فلا يجد الكيس، فيضرب الجارية ويعذِّبها عذابًا أليمًا، فكأنك ما عملتَ شيئًا تُشكَر عليه، فإنْ كنتَ شاطرًا فخلِّص الجاريةَ من الضرب والعذاب. فقال لهم: إن شاء الله تعالى أخلِّص الجارية والكيس. ثم إن اللص رجع إلى دار الصيرفي فوجده يعاقب الجارية لأجل الكيس، فدقَّ عليه الباب، فقال له: مَن هذا؟ قال له: أنا غلام جارك الذي في القيسرية. فخرج إليه وقال له: ما شأنك؟ فقال له: إن سيدي يسلِّم عليك ويقول لك: قد تغيَّرَتْ أحوالك كلها، كيف ترمي بمثل هذا الكيس على باب الدكان وتروح وتخليه؟ ولو لقيه أحدٌ غريب كان أخذه وراح. ولولا أن سيدي رآه وحفظه لَكان ضاع عليك. ثم أخرج الكيس وأراه إياه، فلما رآه الصيرفي قال: هذا كيسي بعينه. ومدَّ يده ليأخذه منه، فقال له: والله ما أعطيك إياه حتى تكتب ورقةً لسيدي أنك تسلَّمْتَ الكيس مني، فإني أخاف ألَّا يصدِّقني في أنك أخذتَ الكيس وتسلَّمْتَه حتى تكتب لي ورقة وتختمها بختمك. فدخل الصيرفي ليكتب له ورقةً بوصول الكيس كما ذكر له، فذهب اللص بالكيس إلى حال سبيله، وخلصت الجارية من العذاب.

 

حكاية والي قوص وقاطع الطريق

ومما يُحكَى أن علاء الدين والي قوص كان جالسًا ذات ليلة من الليالي في بيته، وإذا بشخص حسن الصورة والمنظر، كامل الهيئة، قد أتاه في الليل ومعه صندوق على رأس خادم ووقف على الباب وقال لبعض غلمان الأمير: ادخل وأَعْلِم الأميرَ أني أريد الاجتماعَ به من أجل سرٍّ. فدخل الغلام وأعلَمَه بذلك، فأمره بإدخاله، فلما دخل رآه الأمير عظيمَ الهيئة حسنَ الصورة، فأجلسه إلى جانبه وأكرم مثواه، وقال له: ما حاجتك؟ فقال له: أنا رجل من قطَّاع الطريق، وأريد التوجُّه والرجوع إلى الله تعالى على يدَيْك، وأريد أن تساعدني على ذلك؛ لأني صرتُ في طرفك وتحت نظرك، ومعي هذا الصندوق فيه شيء قيمته نحو أربعين ألف دينار، فأنت أولى بها، وأعطني من خالص مالك ألفَ دينار حلالًا أجعلها رأسَ مالٍ، وأستعين بها على التوبة، وأستغني بها عن الحرام وأجرك على الله تعالى. ثم إنه فتح الصندوق ليرى الوالي ما فيه، وإذا به مصاغ وجواهر ومعادن وفصوص ولؤلؤ، فأدهشه ذلك وفرح به فرحًا شديدًا، وصاح على خازنداره وقال له: أحْضِرِ الكيسَ الفلاني. وكان فيه ألف دينار. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 346

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الوالي صاح على خازنداره وقال له: أحضر الكيس الفلاني. وكان فيه ألف دينار، فلما أحضر الخازندار ذلك الكيس أعطاه لذلك الرجل، فأخذه منه وشكره على فعله، ومضى إلى حال سبيله تحت الليل، فلما أصبح الصباح أحضر الوالي قيِّم الصاغة، فلما حضر أراه ذلك الصندوق وما فيه من المصاغ، فوجد جميع ذلك من القزير والنحاس، ورأى الجواهر والفصوص واللؤلؤ كلها من الزجاج، فعَظُم ذلك على الوالي وأرسل في طلبه، فلم يقدر أحدٌ على تحصيله.

 

حكاية زواج إبراهيم بن المهدي

ومما يُحكَى أن أمير المؤمنين المأمون قال لإبراهيم بن المهدي: حدثنا بأعجب ما رأيت. قال: سمعًا وطاعةً يا أمير المؤمنين، اعلم أني خرجت يومًا للنزهة فانتهى بي المشي إلى موضع، فشممت فيه رائحة الطعام، فاشتاقت نفسي إليه ووقفت يا أمير المؤمنين متحيِّرًا لا أقدر على المضي ولا على دخول ذلك الموضع، فرفعت بصري وإذا أنا بشباك، ومن خلفه كفٌّ ومِعْصَم ما رأيت أحسن منهما، وطار عقلي عند رؤيتهما ونسيتُ رائحةَ الطعام بذلك الكف والمعصم، وأخذت في الحيلة على الوصول إلى ذلك الموضع، وإذا بخياط قريب من ذلك الموضع فتقدَّمْتُ إليه وسلَّمْتُ عليه، فردَّ عليَّ السلام، فقلت: لمَن هذه الدار؟ فقال: لرجل من التجار. فقلت له: ما اسمه؟ قال: اسمه فلان ابن فلان، وهو لا ينادم إلا التجار. فبينما نحن في الكلام إذ أقبل رجلان نبيلان ذكيان، فأعلمني أنهما أخصُّ الناس بصحبته وأخبرني باسمهما، فحرَّكْتُ دابتي حتى لقيتهما وقلتُ لهما: جُعِلت فداكما قد استبطأكما أبو فلان. وسايرتهما حتى وصلنا إلى الباب، فدخلت ودخل الرجلان، فلما رآني صاحب الدار معهما لم يشك في أنني صاحبهما، فرحَّبَ بي وأجلسني في أرفع المواضع، ثم جاءوا بالمائدة، فقلت في نفسي: قد مَنَّ الله عليَّ ببلوغ الغرض من هذه الأطعمة، وبقي الكفُّ والمعصم. ثم انتقلنا إلى المنادمة في موضع آخَر، فرأيته محفوفًا باللطائف، وجعل صاحب المنزل يتلطَّف بي ويُقبِل عليَّ بالحديث لظنِّه أني ضيف لأضيافه، وهم كذلك يلاطفونني غايةَ الملاطَفَة لظنِّهم أنني صاحب ربِّ المنزل، ولم يزل جميعهم في ملاطفتي حتى شربنا أقداحًا، ثم خرجَتْ علينا جاريةٌ كأنها غصن بان، وهي في غاية الظرف وحسن الهيئة، فأخذَتِ العود وأطربَتْ بالنغمات وأنشدت هذه الأبيات:

أَلَيْسَ عَجِيبًا أَنَّ بَيْتَنَا يَضُمُّنَا        وَإِيَّاكَ لَا تَدْنُو وَلَا تَتَكَلَّمُ

سِوَى أَعْيُنٍ تُبْدِي سَرَائِرَ أَنْفُسٍ        وَتَقْطِيعَ أَكْبَادٍ عَلَى النَّارِ تُضْرَمُ

إِشَارَةُ أَلْحَاظٍ وَغَمْزُ حَوَاجِبٍ        وَتَكْسِيرُ أَجْفَانٍ وَكَفٌّ تُسَلِّمُ

فهيجت بلابلي يا أمير المؤمنين وأخذني الطرب من فرط جمالها ورِقَّة شِعْرها الذي غنَّتْ به، فحسدتُها على حُسْن صنعتها وقلتُ: بقي عليكِ شيء يا جارية. فرمت العود من يدها غضبًا وقالتْ: متى كنتم تحضرون السفهاء في مجالسكم؟ فندمتُ على ما كان مني، ورأيت القوم قد أنكروا عليَّ، فقلت: قد فاتني جميع ما أملت ولم أَرَ حيلةً لدفع اللوم عني، إلا أنني طلبت عودًا وقلت: أنا أبيِّنُ ما فاتها من الطريقة التي ضربَتْ بها. فقال القوم: سمعًا وطاعة. ثم أحضروا لي عودًا، فأصلحتُ منه الأوتار وغنَّيْتُ بهذه الأشعار:

هَذَا مُحِبُّكِ مَطْوِيًّا عَلَى كَمَدِهْ        صَبٌّ مَدَامِعُهُ تَجْرِي عَلَى جَسَدِهْ

لَهُ يَدٌ تَسْأَلُ الرَّحْمَنَ رَاجِيَةً        آمَالَهُ وَيَدٌ أُخْرَى عَلَى كَبِدِهْ

يَا مَنْ يَرَى هَالِكًا مِنْ عِشْقِهِ تَلِفًا        كَانَتْ مَنِيَّتُهُ مِنْ عَيْنِهِ وَيَدِهْ

فوثبَتِ الجارية وانكَبَّتْ على رجلي تقبِّلها وقالت: المعذرة إليك يا سيدي، والله ما علمتُ بمكانك ولا سمعتُ بمثل هذه الصناعة. ثم أخذ القوم في إكرامي وتبجيلي بعدما طربوا غايةَ الطرب، وسألني كلٌّ منهم الغناء، فغنَّيْتُ نوبة مطربة، فصار القوم سكارى وذهبت عقولهم، فحُمِلوا إلى منازلهم وبقي صاحب المنزل هو والجارية، فشرب معي أقداحًا ثم قال: يا سيدي، ذهب عمري مجانًا حيث لم أعرف مثلك قبل ذلك الوقت، فبالله يا سيدي مَن أنت حتى أعرف نديمي الذي مَنَّ الله عليَّ به في هذه الليلة؟ فأخذت أوري ولم أصرِّح له باسمي، وهو يقسم عليَّ فأعلمْتُه، فلما عرف اسمي وثب قائمًا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 347

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن إبراهيم بن المهدي قال: فلما عرف اسمي صاحب الدار وثب قائمًا على قدمَيْه وقال: عجبتُ من أن يكون هذا الفضل إلا لمثلك، ولقد أهدى الزمان إليَّ يدًا لا أقوم بشكرها، ولعل هذا منام وإلا فمتى طمعتُ أن تزورني الخلافة في منزلي وتنادمني ليلتي هذه؟ فأقسمت عليه أن يجلس فجلس وأخذ يسألني عن السبب في حضوري عنده بألطف معنى، فأخبرته بالقصة من أولها إلى آخرها وما سترت منها شيئًا، وقلت: أمَّا الطعام فقد نلتُ منه بغيتي، وأما الكف والمعصم فلم أنَلْ مرادي منهما. فقال: والكف والمعصم تنال مرادك منهما إن شاء الله تعالى. ثم قال: يا فلانة، قولي لفلانة أن تنزل. ثم جعل يستدعي جواريه واحدة بعد واحدة، ويعرض الجميع عليَّ وأنا لا أرى صاحبتي إلى أن قال: والله يا سيدي ما بقي إلا أمي وأختي، ولكن والله لا بد من إنزالهما إليك وعرضهما عليك حتى تراهما. فعجبت من كرمه وسعة صدره، فقلت: جُعِلْتُ فداك فأبدا بالأخت. قال: حبًّا وكرامة. ثم نزلت أخته فأراني يدها، فإذا هي صاحبة الكف والمعصم اللذين رأيتهما، فقلت: جُعِلت فداك، هذه الجارية هي التي رأيتُ كفَّها ومعصمها. فأمر الغلمان أن يحضروا الشهودَ في الوقت والساعة، فأحضروا الشهود ثم أحضر بدرتين من الذهب وقال للشهود: هذا مولانا سيدي إبراهيم بن المهدي عم أمير المؤمنين، خطب أختي فلانة وأشهدكم أني قد زوَّجتُها له وقد أمهرها ببدرة. ثم قال: زوَّجْتُك أختي فلانة على المهر المسمَّى. فقلت: قبلتُ ذلك ورضيتُه. ثم دفع إحدى البدرتين إلى أخته، والأخرى إلى الشهود، ثم قال: يا مولانا، أريد أن أمهِّد لك بعض البيوت لتنام مع أهلك. فأحشمني ما رأيتُ من كرمه، واستحيت أن أخلو بها في داره، فقلت له: جهَّزْها إلى منزلي. فوحقِّكَ يا أمير المؤمنين لقد حمل إليَّ من الجهاز ما ضاقت عنه بيوتنا مع سعتها، ثم أولدتها هذا الغلام القائم بين يدَيْك. فتعجَّبَ المأمون من كرم هذا الرجل وقال: لله دره، ما سمعتُ قطُّ بمثله! وأمر إبراهيم بن المهدي بإحضار الرجل ليشاهده، فأحضره بين يديه واستنطقه، فأعجبه ظرفه وأدبه، فصيَّرَه من جملة خواصه، والله هو المعطي الوهَّاب.

حكايات الصدقة

ومما يُحكَى أن ملكًا من الملوك قال لأهل مملكته: لئن تصدَّق أحد منكم بشيء لأقطعن يده. فأسكت الناس جميعًا عن الصدقة، ولم يقدر أحد أن يتصدَّق على أحدٍ، فاتفق أن سائلًا جاء إلى امرأة يومًا من الأيام، وقد أضرَّ به الجوع وقال لها: تصدَّقِي عليَّ بشيء. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 348

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الرجل السائل قال للمرأة: تصدَّقِي عليَّ بشيء. فقالت: كيف أتصدَّق عليك والملك يقطع يدَ كلِّ مَن تصدَّق؟ فقال: اسألك بالله تعالى أن تتصدَّقِي عليَّ. فلما سألها بالله رقَّتْ له وتصدقت عليه برغيفين، فوصل الخبر إلى الملك فأمر فإحضارها، فلما حضرت قطع يديها وتوجهت إلى دارها، ثم إن الملك بعد حين قال لأمه: إني أريد الزواج فزوِّجيني امرأةً جميلة. قال: إن في جوارنا امرأة لم يوجد أحسن منها ولكن بها عيب شديد. قال: ما هو؟ قالت: مقطوعة اليدين. قال: أريد أن أنظرها. فأتَتْ بها إليه، فلما نظرها افتتن بها، فتزوَّجَها ودخل بها، وكانت تلك المرأة هي التي تصدَّقت على السائل برغيفين وقطع يديها من أجل ذلك، فلما تزوَّجَ بها حسدها ضرائرها، وكتبن إلى الملك يخبرنه عنها بأنها فاجرة وقد ولدت غلامًا، فكتب الملك إلى أمه كتابًا وأمرها فيه أن تخرج بها إلى الصحراء وتتركها هناك ثم ترجع، ففعلت أمه ذلك وخرجت بها إلى الصحراء ثم رجعت، فصارت تلك المرأة تبكي على ما جرى لها، وتنتحب انتحابًا شديدًا ما عليه من مزيد، فبينما هي تمشي والولد على عنقها إذ مرَّتْ على نهر، فبركت لتشرب من شدة العطش الذي لحقها من مشيها وتعبها وحزنها، فعندما طأطأت سقط الولد في الماء، فجلست تبكي على ولدها بكاءً شديدًا، فبينما هي تبكي إذ مرَّ عليها رجلان فقالا لها: ما يُبكِيكِ؟ قالت لهما: كان لي ولد على عنقي فسقط في الماء. فقالا لها: أتحبين أن نُخرِجه لك؟ قالت: نعم. فدعَوَا الله تعالى فخرج الولد إليها سالمًا لم يُصِبه شيء. ثم قالَا لها: أتحبِّين أن يردَّ الله يدَيْك كما كانتا؟ قالت: نعم. فدعَوَا الله سبحانه وتعالى، فرجعت يداها أحسن مما كانتا عليه، ثم قالا لها: أتدرين مَن نحن؟ قالت: الله أعلم. قالا: نحن رغيفاك اللذان تصدَّقْتِ بنا على السائل، وكانت الصدقة سببًا لقطع يدَيْكِ، فاحمدي الله تعالى الذي ردَّ عليك يدَيْكِ وولدكِ. فحمدت الله تعالى وأثنت عليه.

ومما يُحكَى أنه كان في بني إسرائيل رجل عابد له عيال يغزلون القطن، فكان كل يوم يبيع الغزل ويشتري قطنًا، وما خرج من الكسب يشتري به طعامًا لعياله يأكلونه في ذلك اليوم، فخرج ذات يوم وباع الغزل، فلقيه أخ له فشكا إليه الحاجة، فدفع له ثمن الغزل ورجع إلى عياله من غير قطن ولا طعام، فقالوا له: أين القطن والطعام؟ فقال لهم: استقبلني فلان فشكا إليَّ الحاجةَ، فدفعت إليه ثمن الغزل. قالوا: وكيف نصنع وليس عندنا شيء نبيعه؟ وكان عندهم قصعة مكسورة وجرَّة، فذهب بهما إلى السوق فلم يشترهما أحدٌ منه، فبينما هو في السوق إذ مرَّ به رجل ومعه سمكة … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 349

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الرجل أخذ القصعة والجرة وذهب بهما إلى السوق، فلم يشترهما أحدٌ منه، فبينما هو في السوق إذ مرَّ به رجل ومعه سمكة مُنتِنة منفوخة لم يشترها أحد منه، فقال له صاحب السمكة: أتبيعني كاسدك بكاسدي؟ قال: نعم. فدفع القصعة والجرة وأخذ منه السمكة وجاء بها إلى عياله، فقالوا له: ما تفعل بهذه السمكة؟ قال: نشويها ونأكلها إلى أن يشاء الله تعالى لنا برزقنا. فأخذوها وشقُّوا بطنها، فوجدوا فيه حبة لؤلؤ، فأخبروا بها الشيخ فقال: أنظروا إنْ كانت مثقوبةً فهي لبعض الناس، وإنْ كانت غير مثقوبة فإنها رزق رزقكم الله تعالى به. فنظروا فإذا هي غير مثقوبة، فلما أصبح الصباح غدا بها إلى بعض إخوانه من أصحاب المعرفة بذلك، فقال: يا فلان من أين لك هذه اللؤلؤة؟ قال: رزقٌ رزَقَنا الله تعالى به. قال: إنها تساوي ألف درهم، وأنا أعطي لك ذلك، ولكن اذهب بها إلى فلان فإنه أكثر مني مالًا ومعرفةً. فذهب بها إليه فقال: إنها تساوي سبعين ألف درهم لا أكثر من ذلك. ثم دفع له سبعين ألف درهم، ودعا بالحمَّالين فحملوا له المال حتى وصل إلى باب منزله، فجاءه سائل وقال له: أعطني مما أعطاك الله تعالى. فقال للسائل: قد كنَّا بالأمس مثلك، خذ نصف هذا المال. فلما قسم المال شطرَيْن وأخذ كل واحد شطره، قال له السائل: أمسِكْ عليك مالك وخذه بارك الله لك فيه، وإنما أنا رسول ربك، بعثني إليك لأختبرك. فقال: لله الحمد والمنة. وما زال في أرغد عيش هو وعياله إلى الممات.

 

حكاية أبي حسان الزيادي والخراساني

ومما يُحكَى أن أبا حسان الزيادي قال: ضاق عليَّ الحال في بعض الأيام ضيقًا شديدًا، حتى إنه قد ألحَّ عليَّ البقالُ والخباز وسائر المعاملين، فاشتدَّ عليَّ الكربُ ولم أجد لي حيلةً، فبينما أنا على تلك الحالة لا أدري كيف أصنع؟ إذ دخل عليَّ غلام لي فقال: إن بالباب رجلًا حاجيًا يطلب الدخول عليك. فقلت: ائذن له. فدخل فإذا هو رجل خراساني، فسلَّمَ عليَّ، فرددتُ عليه السلام، ثم قال لي: هل أنت أبو حسان الزيادي؟ قلت: نعم، وما حاجتك؟ قال: إني رجل غريب، وأريد الحج، ومعي جملة من المال، وإنه قد أثقَلَني حمله، وأريد أن أدع عندك هذه العشرة آلاف درهم إلى أن أقضي حجي وأرجع، فإن رجع الركب ولم ترني، فاعلم أنني قد متُّ، فالمال هبة مني إليك، وإن رجعتُ فهي لي. فقلت له: لك ذلك إن شاء الله تعالى. فأخرَجَ جرابًا، فقلت للغلام: ائتني بميزان. فأتى بميزان فوزنها وسلَّمَها إليَّ وذهب إلى حال سبيله، فأحضرت المعاملين وقضيتُ ديني. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 350

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن أبا حسان الزيادي قال: أحضرت المعاملين وقضيتُ ما كان عليَّ من الدَّيْن، وأنفقت واتسعت وقلت في نفسي: إلى أن يرجع يفتح الله علينا بشيء من عنده. فلما كان بعد يوم دخل الغلام عليَّ وقال لي: إن صاحبك الخراساني بالباب. فقلت: ائذن له. فدخل ثم قال: إني كنتُ عازمًا على الحج، فجاءني خبرٌ بوفاة والدي، وقد عزمتُ على الرجوع فأعطني المالَ الذي أودعتُكَ إياه بالأمس. فلما سمعتُ منه هذا الكلام، حصل لي همٌّ عظيم لم يحصل لأحد مثله قط، وتحيَّرْتُ فلم أرد جوابًا، فإن جحدته استحلفني وكانت الفضيحة في الآخرة، وإن أخبرته بالتصرُّف فيه صاح وهتكني، فقلت له: عافاكَ الله، إن منزلي هذا ليس بحصين ولا حرز لذلك المال، وإني لما أخذتُ جرابك أرسلته إلى مَن هو عنده الآن، فعُدْ علينا في الغد لتأخذه إن شاء الله تعالى. فانصرف عني وبتُّ متحيِّرًا من أجل رجوع الخراساني إليَّ، فلم يأخذني نوم في تلك الليلة ولم أقدر على غمض عيني، فقمت للغلام وقلت له: أسرِجْ لي البغلة. قال: يا مولاي، إن هذا الوقت عتمة، ولم يمضِ من الليل شيء. فرجعتُ إلى فراشي فإذا النون ممتنع، فلم أزل أوقِظُ الغلام وهو يردُّني حتى طلع الفجر، فأسرج لي البغلة، فركبت وأنا لا أدري أين أذهب، فطرحت عنان على عاتقها وصرت مشغولًا بالفكر والهموم، وهي تسير إلى الجانب الشرقي من بغداد.

فبينما أنا سائر وإذا أنا بقوم قد رأيتهم، فانحرفت عنهم وعدلت عن طريقهم إلى طريق أخرى فتبعوني، فلما رأوني بطيلسان تبادروا إليَّ وقالوا لي: أتعرف منزل أبي حسان الزيادي؟ فقلتُ لهم: هو أنا. قالوا: أَجِبْ أميرَ المؤمنين. فسِرْتُ معهم حتى دخلت على المأمون، فقال لي: مَن أنت؟ قلت: رجل من أصحاب القاضي أبي يوسف، من الفقهاء وأصحاب الحديث. فقال: بأي شيء تُكنَّى؟ قلت: بأبي حسان الزيادي. قال: اشرح لي قصتك. فشرحتُ له خبري، فبكى بكاءً شديدًا وقال: ويحك، ما تركني رسول الله ﷺ أنام في هذه الليلة بسببك. فإني لما نمتُ أول الليل قال لي: أغِثْ أبا حسان الزيادي. فانتبهتُ ولم أعرفك، ثم نمتُ فأتاني وقال لي: ويحك! أغِثْ أبا حسان الزيادي. فانتبهتُ ولم أعرفك، ثم نمت فأتاني وقال لي: ويحك! أغث أبا حسان الزيادي. فما تجاسرتُ على النوم بعد ذلك، وسهرت الليل كله وقد أيقظت الناس وأرسلتهم في طلبك من كل جانب. ثم أعطاني عشرة آلاف درهم وقال: هذه للخراساني. ثم أعطاني عشرة آلاف درهم وقال: اتسع بهذه وأصلح بها أمرك. ثم أعطاني ثلاثين ألف درهم وقال: جهِّزْ نفسك بهذه، وإذا كان يوم الموكب فَائْتِني حتى أقلِّدَك عملًا. فخرجت والمال معي، فجئتُ إلى منزلي فصليتُ فيه الغداة، وإذا بالخراساني قد حضر. فأدخلتُه البيتَ وأخرجتُ له بدرة وقلت له: هذا مالك. قال: ليس هذا عين مالي. فقلت: نعم. فقال: ما سبب هذا؟ فقصصتُ عليه القصة، فبكى وقال: والله لو أصدَقْتَني من أول الأمر ما طالبتُكَ، وأنا الآن والله لا أقبل شيئًا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

 

 

 

السابق                                                                     التــــالي←

 

 

Read our comment Policy to know your rights & responsibilities before actually leaving a comment for this article.

Post a Comment (0)