﴿اللیلة 251﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن أم علاء الدين قالت للنسوان: إن أباه خاف عليه من
العين، فجعل مرباه في طابق تحت الأرض، فلعل الخادم نسي الطابق مفتوحًا فطلع منه،
ولم يكن مرادنا أن يطلع منه حتى تطلع لحيته. فهنَّأها النسوة بذلك، وطلع الغلام من
عند النسوة إلى حوش البيت، ثم طلع المقعد وجلس فيه. فبينما هو جالس، وإذا بالعبيد
قد دخلوا ومعهم بغلة أبيه، فقال لهم علاء الدين: أين كانت هذه البغلة؟ فقالوا له:
نحن وصَّلنا أباك إلى الدكان وهو راكب عليها وجئنا بها. فقال لهم: أي شيء صنعة أبي؟
فقالوا له: إن أباك شاه بندر التجار بأرض مصر، وهو سلطان أولاد العرب. فدخل علاء
الدين على أمه، وقال لها: يا أمي ما صناعة أبي؟ فقالت له: يا ولدي، إن أباك تاجر،
وهو شاه بندر التجار بأرض مصر، وسلطان أولاد العرب، وعبيده لا تشاوره في البيع إلا
على البيعة التي يكون أقل ثمنها ألف دينار، وأما البيعة التي تكون بتسعمائة دينار
فأقل فإنهم لا يشاورونه عليها، بل يبيعونها بأنفسهم، ولا يأتي متجر من بلاد الناس
قليلًا أو كثيرًا إلا ويدخل تحت يده، ويتصرف فيه كيف يشاء، ولا ينحزم متجر ويروح
بلاد الناس إلا ويكون من تحت يد أبيك، والله تعالى أعطى أباك يا ولدي مالًا كثيرًا
لا يُحصَى. فقال لها: يا أمي، الحمد لله أنا ابن سلطان أولاد العرب، ووالدي شاه
بندر التجار، ولأي شيء يا أمي تحطونني في الطابق، وتتركونني محبوسًا فيه؟ فقالت
له: يا ولدي، نحن ما حطَطْناك في الطابق إلا خوفًا عليك من أعين الناس، فإن العين
حق، وأكثر أهل القبور من العين. فقال لها: يا أمي، وأين المفر من القضاء؟ والحذر
لا يمنع القدر، والمكتوب ما منه مهروب، وإن الذي أخذ جدي لا يترك أبي، فإنه إن عاش
اليوم ما يعيش غدًا، وإذا مات أبي وطلعت أنا وقلت: أنا علاء الدين ابن التاجر شمس
الدين، لا يصدقني أحد من الناس، والاختيارية يقولون: عمرنا ما رأينا لشمس الدين
ولدًا ولا بنتًا. فينزل بيت المال، ويأخذ مال أبي، ورحم الله مَن قال: يموت الفتى
ويذهب ماله، ويأخذ أندل الرجال نساءه. فأنت يا أمي تكلمين أبي حتى يأخذني معه إلى
السوق، ويفتح لي دكانًا، وأقعد فيه ببضائع، ويعلمني البيع والشراء، والأخذ
والعطاء. فقالت له: يا ولدي، لما يحضر أبوك أخبره بذلك.
فلما
رجع التاجر إلى بيته، وجد ابنه علاء الدين أبا الشامات قاعدًا عند أمه، فقال لها:
لأي شيء أخرجتِه من الطابق؟ فقالت له: يا ابن عمي، أنا ما أخرجته، ولكن الخدم نسوا
الطابق مفتوحًا. فبينما أنا قاعدة وعندي محضر من أكابر النساء، وإذا به دخل علينا
… وأخبرَتْه بما قاله ولده، فقال له: يا ولدي، في غد إن شاء الله تعالى آخذك معي
إلى السوق، ولكن يا ولدي قعود الأسواق والدكاكين يحتاج إلى الأدب والكمال في كل
حال. فبات علاء الدين وهو فرحان من كلام أبيه، فلما أصبح الصباح أدخله الحمام،
وألبسه بدلة تساوي جملةً من المال، ولما أفطروا وشربوا الشربات ركب بغلته وأركب
ولده بغلة، وأخذه وراءه، وتوجه به إلى السوق؛ فنظر أهل السوق شاه بندر التجار
مقبلًا ووراءه غلام كأنَّ وجهه القمر في ليلة أربعة عشر، فقال واحد منهم لرفيقه:
انظر هذا الغلام الذي وراء شاه بندر التجار، قد كنا نظن به الخير وهو مثل الكرات
شائب وقلبه أخضر. فقال الشيخ محمد سمسم النقيب المتقدم ذكره للتجار: نحن ما بقينا
نرضى به أن يكون شيخًا علينا أبدًا.
وكان
من عادة شاه بندر التجار أنه لما يأتي من بيته في الصباح ويقعد في دكانه، يتقدم
نقيب السوق ويقرأ الفاتحة للتجار، فيقومون معه ويأتون إلى شاه بندر التجار،
ويقرءون له الفاتحة ويصبِّحون عليه، ثم ينصرف كل واحد منهم إلى دكانه. فلما قعد
شاه بندر التجار في دكانه ذلك اليوم على عادته، لم تأتِ إليه التجار حسب عادتهم،
فنادى النقيب وقال له: لأي شيء لم تجتمع التجار على جري عادتهم؟ فقال له: أنا ما
أعرف نقل الفتن، إن التجار اتفقوا على عزلك من المشيخة، ولا يقرءون لك فاتحة. فقال
له: ما سبب ذلك؟ فقال له: ما شأن هذا الولد الجالس بجانبك، وأنت اختيار ورئيس
التجار؟ فهل هذا الولد مملوكك أو يقرب لزوجتك؟ وأظن أنك تعشقه وتميل إلى الغلام.
فصرخ عليه وقال له: اسكت قبَّح الله ذاتك وصفاتك، هذا ولدي. فقال له: عمرنا ما
رأينا لك ولدًا. فقال له: لما جئتني بمعكِّر البيض حملَتْ زوجتي وولدته، ولكن من
خوفي عليه من العين ربيته في طابق تحت الأرض، وكان مرادي أنه لا يطلع من الطابق
حتى يمسك لحيته بيده، فما رضيت أمه، وطلب مني أن أفتح دكانًا وأحط عنده بضائع
وأعلِّمه البيع والشراء. فذهب النقيب إلى التجار، وأخبرهم بحقيقة الأمر، فقاموا
كلهم بصحبته وتوجهوا إلى شاه بندر التجار، ووقفوا بين يديه، وقرءوا الفاتحة،
وهنَّوه بذلك الغلام، وقالوا له: ربنا يبقي الأصل والفرع، ولكن الفقير منا لما
يأتيه ولد أو بنت لا بد أن يصنع لإخوانه دست عصيدة، ويعزم معارفه وأقاربه، وأنت لم
تعمل ذلك. فقال لهم: لكم عليَّ ذلك، ويكون اجتماعنا في البستان. وأدرك شهرزاد
الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 252﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن شاه بندر التجار وعد التجار بالسماط، وقال لهم: يكون
اجتماعنا في البستان. فلما أصبح الصباح أرسل الفرَّاش للقاعة والقصر اللذين في
البستان، وأمره بفرشهما، وأرسل آلة الطبخ من خرفان وسمن وغير ذلك مما يحتاج إليه
الحال، وعمل سماطين؛ سماطًا في القصر، وسماطًا في القاعة. وتحزم التاجر شمس الدين،
وتحزم ولده علاء الدين، وقال له: يا ولدي، إذا دخل الرجل الشائب فأنا أتلقاه
وأُجلِسه على السماط الذي في القصر، وأنت يا ولدي إذا دخل الولد الأمرد فخذه،
وادخل به القاعة، وقعِّده على السماط. فقال له: لأي شيء يا أبي؟ ما سبب أنك تعمل
سماطين؛ واحدًا للرجال، وواحدًا للأولاد؟ فقال: يا ولدي، إن الأمرد يستحي أن يأكل
عند الرجال. فاستحسن ذلك ولده، فلما جاء التجار، صار شمس الدين يقابل الرجال
ويُجلِسهم في القصر، وولده علاء الدين يقابل الأولاد ويجلسهم في القاعة، ثم وضعوا
الطعام فأكلوا وشربوا، وتلذَّذوا وطربوا، وشربوا الشربات، وأطلقوا البخور، ثم قعد
الاختيارية في مذاكرة العلم والحديث، وكان بينهم رجل تاجر يُسمَّى محمود البلخي،
وكان مسلمًا في الظاهر ومجوسيًّا في الباطن، وكان يبغي الفساد ويهوى الأولاد، فنظر
إلى علاء الدين نظرة أعقبته ألف حسرة، وعلق له الشيطان جوهرة في وجهه، فأخذه به
الغرام والوَجْد والهيام. وكان ذلك التاجر الذي اسمه محمود البلخي يأخذ القماش
والبضائع من والد علاء الدين، ثم إن محمود البلخي قام يتمشى وانعطف نحو الأولاد،
فقاموا لملتقاه، وكان علاء الدين انحصر فقام يزيل الضرورة، فالتفت التاجر محمود
إلى الأولاد وقال لهم: إن طيَّبتم خاطر علاء الدين على السفر معي، أعطيتُ كل واحد
منكم بدلة تساوي جملة من المال. ثم توجه من عندهم إلى مجلس الرجال.
فبينما
الأولاد جالسون، وإذا بعلاء الدين أقبل عليهم فقاموا لملتقاه، وأجلسوه بينهم في
صدر المقام؛ فقام ولد منهم وقال لرفيقه: يا سيدي حسن، أخبرني برأس المال الذي عندك
تبيع فيه وتشتري، من أين جاء؟ فقال له: أنا لما كبرت وانتشأت وبلغت مبلغ الرجال
قلت لأبي: يا والدي أحضر لي متجرًا. فقال: يا ولدي، ما عندي شيء، ولكن رح خذ لك
مالًا من واحد تاجر واتَّجر به، وتعلم البيع والشراء، والأخذ والعطاء. فتوجَّهت
إلى واحد من التجار، واقترضت منه ألف دينار، فاشتريت بها قماشًا وسافرت به إلى
الشام، فربحت المثل مثلين، ثم أخذت متجرًا من الشام، وسافرت به إلى بغداد وبعته،
ثم ربحت المثل مثلين، ولم أزل أتَّجر حتى صار رأس مالي نحو عشرة آلاف دينار. وصار
كل واحد من الأولاد يقول لرفيقه مثل ذلك إلى أن دار الدور، وجاء الكلام إلى علاء
الدين أبي الشامات، فقالوا له: وأنت يا سيدي علاء الدين؟ فقال لهم: أنا تربيت في
طابق تحت الأرض، وطلعت منه في هذه الجمعة، وأنا أروح الدكان وأرجع منه إلى البيت.
فقالوا له: أنت متعود على قعود البيت، ولا تعرف لذة السفر، والسفر ما يكون إلا
للرجال. فقال لهم: أنا ما لي حاجة بالسفر، وليس للراحة قيمة. فقال واحد منهم
لرفيقه: هذا مثل السمك إذا فارق الماء مات.
ثم
قالوا له: يا علاء الدين، ما فخر أولاد التجار إلا بالسفر لأجل المكسب. فحصل لعلاء
الدين غيظ بسبب ذلك، وطلع من عند الأولاد وهو باكي العين حزين الفؤاد، وركب بغلته
وتوجه إلى البيت، فرأته أمه في غيظ زائد، باكي العين، فقالت له: ما يبكيك يا ولدي؟
فقال لها: إن أولاد التجار جميعًا عايروني، وقالوا لي: ما فخر أولاد التجار إلا
بالسفر لأجل أن يكسبوا الدراهم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 253﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن علاء الدين قال لوالدته: إن أولاد التجار عايروني،
وقالوا لي: ما فخر أولاد التجار إلا بالسفر لأجل أن يكسبوا الدراهم والدنانير.
فقالت له أمه: يا ولدي، هل مرادك السفر؟ قال: نعم. فقالت له: تسافر إلى أي البلاد؟
فقال لها: إلى مدينة بغداد، فإن الإنسان يكتسب فيها المثل مثلين. فقالت له: يا
ولدي، إن أباك عنده مال كثير، وإن لم يجهِّز لك متجرًا من ماله فأنا أجهز لك
متجرًا من عندي. فقال لها: خير البر عاجله، وإن كان معروفًا فهذا وقته. فأحضرت
العبيد وأرسلتهم إلى الذين يحزمون القماش، وفتحت حاصلًا وأخرجت له منه قماشًا،
وحزموا له عشرة أحمال.
هذا
ما كان من أمر أمه، وأما ما كان من أمر أبيه، فإنه التفت فلم يجد ابنه علاء الدين
في البستان، فسأل عنه فقالوا له: إنه ركب بغلته وراح إلى البيت. فركب وتوجَّه
خلفه، فلما دخل منزله رأى أحمالًا محزومة فسأل عنها، فأخبرته زوجته بما وقع من
أولاد التجار لولده علاء الدين، فقال له: يا ولدي، خيَّبَ الله الغربة! فقد قال
رسول الله ﷺ: «من
سعادة المرء أن يُرزَق في بلده» وقال الأقدمون: دع السفر ولو كان ميلًا.
ثم
قال لولده: هل صممت على السفر، ولا ترجع عنه؟ فقال له ولده: لا بد لي من السفر إلى
بغداد بمتجر، وإلا قلعت ثيابي ولبست ثياب الدراويش، وطلعت سائحًا في البلاد. فقال
له: ما أنا محتاج ولا معدم، بل عندي مال كثير. وأراه جميع ما عنده من المال
والمتاجر والقماش، وقال له: أنا عندي لكل بلد ما يناسبه من القماش والمتاجر. وأراه
من جملة ذلك أربعين حملًا محزومة، مكتوبًا بأعلى كل حمل ثمنه ألف دينار، ثم قال
له: يا ولدي، خذ الأربعين حملًا، والعشرة أحمال التي من عند أمك، وسافر مع سلامة
الله تعالى، ولكن يا ولدي أخاف عليك من غابة في طريقك تُسمَّى غابة الأسد، ووادٍ
هناك يقال له وادي الكلاب؛ فإنهما تروح فيهما الأرواح بغير سماح. فقال له: لماذا
يا والدي؟ فقال: من بدوي قاطع الطريق يقال له عجلان. فقال له: الرزق رزق الله، وإن
كان لي فيه نصيب لم يصبني ضرر. ثم ركب علاء الدين مع والده، وسار إلى سوق الدواب،
وإذا بعكام نزل من فوق بغلته، وقبَّل يد شاه بندر التجار، وقال له: والله زمان يا
سيدي ما استقضيتنا في تجارات. فقال له: لكل زمان دولة ورجال، ورحم الله مَن قال:
وَشَيْخٍ
فِي جِهَاتِ الْأَرْضِ يَمْشِي وَلِحْيَتُهُ
تُقَابِلُ رُكْبَتَيْهِ
فَقُلْتُ
لَهُ لِمَاذَا أَنْتَ مُحْنًى فَقَالَ
وَقَدْ لَوَى نَحْوِي يَدَيْهِ
شَبَابِي
فِي الثَّرَى قَدْ ضَاعَ مِنِّي وَهَا
أَنَا مُنْحَنٍ بَحْثًا عَلَيْهِ
فلما
فرغ من شعره قال: يا مقدِّم، ما مراده السفر إلا ولدي هذا. فقال له العكام: الله
يحفظه عليك. ثم إن شاه بندر التجار عاهَدَ بين ولده وبين العكام، وجعله ولده
وأوصاه عليه، وقال له: خذ هذه المائة دينار لغلمانك. ثم إن شاه بندر التجار اشترى
ستين بغلًا وسترًا لسيدي عبد القادر الجيلاني، وقال له: يا ولدي، أنا غائب وهذا
أبوك عوضًا عني، وجميع ما يقوله طاوعه فيه. ثم توجَّه بالبغال والغلمان، وعملوا في
تلك الليلة ختمة ومولدًا للشيخ عبد القادر الجيلاني، ولما أصبح الصباح أعطى شاه
بندر التجار لولده عشرة آلاف دينار، وقال له: إذا دخلت بغداد، ولقيت القماش رائجًا
معه فبعه، وإن لقيت حاله واقفًا فاصرف من هذه الدنانير.
ثم
حمَّلوا البغال، وودعوا بعضهم، وساروا متوجِّهين حتى خرجوا من المدينة، وكان محمود
البلخي تجهَّز للسفر إلى جهة بغداد، وأخرج حموله ونصب صواوينه خارج المدينة، وقال
في نفسه: ما تحظى بهذا الولد إلا في الخلاء؛ لأنه لا واشي ولا رقيب يعكِّر عليك.
وكان لأبي الولد ألف دينار عند محمود البلخي بقية معاملة، فذهب إليه وودَّعه وقال
له: أعطِ الألف دينار لولدي علاء الدين. وأوصاه عليه وقال له: إنه مثل ولدك.
فاجتمع علاء الدين بمحمود البلخي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 254﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن علاء الدين اجتمع بمحمود البلخي، فقام محمود البلخي
وأوصى طباخ علاء الدين أنه لا يطبخ شيئًا، وصار محمود يقدِّم لعلاء الدين المأكل
والمشرب هو وجماعته، ثم توجهوا للسفر. وكان للتاجر محمود البلخي أربعة بيوت: واحد
في مصر، وواحد في الشام، وواحد في حلب، وواحد في بغداد، ولم يزالوا مسافرين في
البراري والقفار حتى أشرفوا على الشام، فأرسل محمود عبدَه إلى علاء الدين فرآه
قاعدًا يقرأ، فتقدم وقبَّل أياديه، فقال: ما تطلب؟ فقال له: سيدي يسلم عليك،
ويطلبك لعزومته في منزله. فقال له: لمَّا أشاور أبي المقدم كمال الدين العكام.
فشاوره على الرواح فقال له: لا تَرُح. ثم سافروا من الشام إلى أن دخلوا حلب، فعمل
محمود البلخي عزومة وأرسل يطلب علاء الدين، فشاور المقدم فمنعه، وسافروا من حلب
إلى أن بقي بينهم وبين بغداد مرحلة، فعمل محمود البلخي عزومة وأرسل يطلب علاء
الدين، فشاور المقدم فمنعه، فقال علاء الدين: لا بد لي من الرواح. ثم قام وتقلَّدَ
بسيف تحت ثيابه، وسار إلى أن دخل على محمود البلخي، فقام لملتقَّاه وسلَّم عليه،
وأحضر له سفرة عظيمة، فأكلوا وشربوا وغسلوا أيديهم، ومال محمود البلخي على علاء
الدين ليأخذ منه قُبلة فلاقاها في كفه، وقال له: ما مرادك أن تعمل؟ فقال: إني
أحضرتك، ومرادي أعمل معك حظًّا في هذا المجال، وتفسر قول مَن قال:
أَيُمْكِنُ
أَنْ تَجِيءَ لَنَا لُحَيْظَةْ كَحَلْبِ
شُوَيْهَةٍ أَوْ شَيِّ بَيْضَةْ
وَتَأْكُلُ
مَا تَيَسَّرَ مِنْ خُبَيْزٍ وَتَقْبِضُ مَا تُحَصِّلُ مِنْ فُضَيْضَةْ
وَتَحْمِلُ
مَا تَشَاءُ بِغَيْرِ عُسْرٍ شُبَيْرًا
أَوْ فُتَيْرًا أَوْ قُبَيْضَةْ
ثم
إن محمود البلخي همَّ بعلاء الدين وأراد أن يفترسه، فقام علاء الدين وجرَّد سيفه،
وقال له: وا شيبتاه! أَمَا تخشى الله، وهو شديد المحال؟ ولم تسمع قول مَن قال:
احْفَظْ
مَشِيبَكَ مِنْ عَيْبٍ يُدَنِّسُهُ إِنَّ
الْبَيَاضَ سَرِيعُ الْحَمْلِ لِلدَّنَسِ
فلما
فرغ علاء الدين من شعره قال لمحمود: إن هذه البضاعة أمانة الله لا تباع، ولو بعتها
لغيرك بالذهب لبعتها لك بالفضة، ولكن والله يا خبيث ما بقيت أرافقك أبدًا. ثم رجع
علاء الدين إلى المقدم كمال الدين وقال له: إن هذا رجل فاسق، فأنا ما بقيتُ أرافقه
أبدًا، ولا أمشي معه في طريق. فقال له: يا ولدي، أَمَا قلتُ لك لا تَرُح عنده؟
ولكن يا ولدي إن افترقنا معه نخشى على أنفسنا التلف، فخلِّنا قفلًا واحدًا. فقال
له: لا يمكن أن أرافقه في الطريق أبدًا. ثم حمل علاء الدين حموله وسار هو ومَن معه
إلى أن نزلوا في وادٍ، وأرادوا أن يحطوا فيه، فقال العكام: لا تحطوا هنا، واستمروا
رائحين، وأسرعوا في المسير لعلَّنا نحصِّل بغداد قبل أن تقفل أبوابها؛ فإنهم لا
يفتحونها ولا يقفلونها إلا بشمسٍ؛ خوفًا على المدينة أن يملكها الروافض، ويرموا
كتب العلم في الدجلة. فقال له: يا والدي، أنا ما توجهت بهذا المتجر إلى هذه البلد
لأجل السبب، بل لأجل الفرجة على بلاد الناس. فقال له: يا ولدي، نخشى عليك وعلى
مالك من العرب. فقال له: يا رجل، هل أنت خادم أم مخدوم؟ أنا ما أدخل بغداد إلا مع
الصباح؛ لأجل أن تنظر أولاد بغداد إلى متجري ويعرفوني. فقال له العكام: افعل ما
تريد، فأنا نصحتك وأنت تعرف خلاصك.
فأمرهم
علاء الدين بتنزيل الأحمال عن البغال، فأنزلوا الأحمال ونصبوا الصيوان، واستمروا
مقيمين إلى نصف الليل، ثم طلع علاء الدين يزيل ضرورة، فرأى شيئًا يلمع على بُعْدٍ،
فقال للعكام: يا مقدم، ما هذا الشيء الذي يلمع؟ فتأمل العكام وحقَّق النظر، فرأى
الذي يلمع أَسِنَّة رماح وحديد وسلاح، وسيوفًا بدوية، وإذا بهم عرب، ورئيسهم
يُسمَّى شيخ العرب عجلان أبو نائب، ولما قرب العرب منهم، ورأوا حمولهم قالوا
لبعضهم: يا ليلة الغنيمة! فلما سمعوهم يقولون ذلك، قال المقدم كمال الدين العكام:
حاس يا أقل العرب. فلطشه أبو نائب بحربته في صدره، فخرجت تلمع من ظهره، فوقع على
باب الخيمة قتيلًا، فقال السقاء: حاس يا أخسَّ العرب. فضربوه بسيف على عاتقه فخرج
يلمع من علائقه، ووقع قتيلًا. كل هذا جرى وعلاء الدين واقف ينظر، ثم إن العرب
جالوا وصالوا على القافلة فقتلوهم، ولم يبقوا أحدًا من طائفة علاء الدين، ثم حملوا
الأحمال على ظهور البغال وراحوا، فقال علاء الدين لنفسه: ما يقتلك إلا بغلتك
وبدلتك هذه. فقام وقطع البدلة ورماها على ظهر البغلة، وصار القميص واللباس فقط،
والتفت قدامه إلى باب الخيمة فوجد بركة دم سائلة من القتلى، فصار يتمرغ فيها
بالقميص واللباس حتى صار كالقتيل الغريق في دمه.
هذا
ما كان من أمره، وأما ما كان من أمر شيخ العرب عجلان، فإنه قال لجماعته: يا عرب،
هذه القافلة داخلة من مصر أم خارجة من بغداد؟ وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام
المباح.
﴿اللیلة 255﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن البدوي لما قال لجماعته: هذه القافلة داخلة من مصر أم
خارجة من بغداد؟ قالوا له: داخلة من مصر إلى بغداد. فقال لهم: ردُّوا على القتلى؛
لأني أظن أن صاحب هذه القافلة لم يَمُتْ. فردَّ العرب على القتلى، وصاروا يردون
القتلى بالطعن والضرب إلى أن وصلوا إلى علاء الدين، وكان قد ألقى بنفسه بين
القتلى، فلما وصلوا إليه قالوا: أنت جعلت نفسك ميتًا فنحن نكمل قتلك. وسحب البدوي
الحربة وأراد أن يغرزها في صدر علاء الدين، فقال علاء الدين: يا بركتك يا سيدي عبد
القادر يا جيلاني. فنظر علاء الدين إلى يد حوَّلت الحربة عن صدره إلى صدر المقدِّم
كمال الدين العكام، فطعنه البدوي بها وامتنع عن علاء الدين. ثم حمَّلوا الأحمال
على ظهور البغال ومشوا بها، فنظر علاء الدين فرأى الطير قد طارت بأرزاقها، فقام
يجري وإذا بالبدوي أبي نائب قال لرفقاته: أنا رأيت زوالًا يا عرب. فطلع واحد منهم
فرأى علاء الدين يجري، فقال له: لا ينفعك الهروب ونحن وراءك. ولكز فرسه فأسرعت
وراءه، وكان علاء الدين قد رأى قدَّامه حوضًا فيه ماء وبجانبه صهريج، فطلع علاء
الدين إلى شباك في الصهريج وتمدد وجعل نفسه أنه نائم وقال: يا جميل الستر سترك
الذي لا ينكشف. وإذا بالبدوي وقف تحت الصهريج ومدَّ يده ليقتنص علاء الدين، فقال
علاء الدين: يا بركتك يا سيدتي نفيسة، هذا وقتك. وإذا بعقرب لدغ البدوي في كفِّه
فصرخ، وقال: يا عرب، تعالوا فإني لُدِغت. ونزل من فوق ظهر فرسه، فأتاه رفقاؤه
وأركبوه ثانيًا على فرسه، وقالوا له: أي شيء أصابك؟ فقال لهم: لدغني عقرب. ثم
أخذوا القافلة وساروا.
هذا
ما كان من أمرهم، وأما ما كان من أمر علاء الدين فإنه استمر نائمًا في شباك
الصهريج.
وأما
ما كان من أمر محمود البلخي فإنه أمر بتحميل الأحمال، وسافر إلى أن وصل إلى غابة
الأسد، فوجد غلمان علاء الدين كلهم قتلى، ففرح بذلك وترجَّلَ إلى أن وصل إلى
الصهريج والحوض، وكانت بغلته شديدة العطش، فمالت لتشرب من الحوض، فرأت خيال علاء
الدين فجفلت منه، فرفع محمود البلخي عينه فرأى علاء الدين نائمًا وهو عريان،
بالقميص واللباس فقط، فقال له: مَن فعل بك هذه الفعال، وخلَّاك في أسوأ حال؟ فقال
له: العرب. فقال له: يا ولدي، فداك البغال والأموال، وتسلَّ بقول مَن قال:
إِذَا
سَلِمَتْ هَامُ الرِّجَالِ مِنَ الرَّدَى
فَمَا الْمَالُ إِلَّا مِثْلُ قَصِّ الْأَظَافِرِ
ولكن
يا ولدي انزل، ولا تخشَ بأسًا. فنزل علاء الدين من شباك الصهريج، وأركبه بغلة،
وسافروا إلى أن دخلوا مدينة بغداد في دار محمود البلخي، فأمر بدخول علاء الدين
الحمام، وقال له: المال والأحمال فداؤك يا ولدي، وإن طاوعتني أُعطِك قدر مالك
وأحمالك مرتين. وبعد طلوعه من الحمام أدخله قاعة مزركشة بالذهب لها أربعة لواوين،
ثم أمر بإحضار سفرة فيها جميع الأطعمة، فأكلوا وشربوا، ومال محمود البلخي على علاء
الدين ليأخذ من خدِّه قُبلة، فلقيها علاء الدين بكفِّه وقال له: هل أنت إلى الآن
تابع لضلالك؟ أَمَا قلتُ لك أنا لو كنتُ بعت هذه البضاعة لغيرك بالذهب، لَكنت
أبيعها لك بالفضة. فقال له: أنا ما أعطيك المتجر والبغلة والبدلة إلا لأجل هذه
القضية، فإنني من غرامي بك في خبال، ولله در مَن قال:
حَدَّثَنَا
عَنْ بَعْضِ أَشْيَاخِهِ أَبُو
بِلَالٍ شَيْخُنَا عَنْ شَرِيكْ
لَا
يَشْتَفِي الْعَاشِقُ مِمَّا بِهِ بِالضَّمِّ
وَالتَّقْبِيلِ حَتَّى يَنِيكْ
فقال
له علاء الدين: إن هذا شيء لا يمكن أبدًا، فخُذْ بدلتك وبغلتك، وافتح لي الباب حتى
أروح. ففتح له الباب، فطلع علاء الدين والكلاب تنبح وراءه وسار. فبينما هو سائر في
الظلام إذ رأى باب مسجد، فدخل في دهليز المسجد واستكنَّ فيه، وإذا بنور مقبل عليه،
فتأمَّله فرأى فانوسين في يدَيْ عبدين قدَّام اثنين من التجار: واحد منهما اختيار
حسن الوجه، والثاني شاب. فسمع الشاب يقول للاختيار: بالله يا عمي أن ترد لي بنت
عمي. فقال له: أَمَا نهيتك مرارًا عديدة، وأنت جاعل الطلاق مصحفك. ثم إن الاختيار
التفت على يمينه فرأى ذلك الولد كأنه فلقة قمر، فقال له: السلام عليك. فردَّ عليه
السلام، فقال له: يا غلام، مَن أنت؟ فقال له: أنا علاء الدين بن شمس الدين شاه
بندر التجار بمصر، وتمنيت على والدي المتجر فجهَّز لي خمسين حملًا من البضاعة …
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 256﴾
علاء الدين مع
زبيدة العودية
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن علاء الدين قال: فجهَّزَ لي والدي خمسين حملًا من
البضاعة، وأعطاني عشرة آلاف دينار، وسافرت حتى وصلت إلى غابة الأسد؛ فطلع عليَّ
العرب وأخذوا مالي وأحمالي، فدخلت هذه المدينة، وما أدري أين أبيت، فرأيت هذا
المحل فاستكننت فيه. فقال له: يا ولدي، ما تقول في أني أعطيك ألف دينار، وبدلة
بألف دينار؟ فقال له علاء الدين: على أي وجه تعطيني ذلك يا عمي؟ فقال له: إن هذا
الغلام الذي معي ابن أخي، ولم يكن لأبيه غيره، وأنا عندي بنت لم يكن لي غيرها
تُسمَّى زبيدة العودية، وهي ذات حسن وجمال، فزوَّجتها له وهو يحبها وهي تكرهه،
فحنث في يمينه بالطلاق ثلاثًا، فما صدَّقت زوجته بذلك حتى افترقت عنه، فساق عليَّ
جميع الناس أني أردها له، فقلت له هذا لا يصح إلا بالمستحل، واتفقت معه على أن
نجعل المحلَّل له واحدًا غريبًا لا يعايره أحد بهذا الأمر، وحيث كنت أنت غريبًا
فتعال معنا لنكتب كتابك عليها، وتبيت عندها هذه الليلة، وتصبح تطلقها، ونعطيك ما
ذكرته لك. فقال علاء الدين في نفسه: مبيت ليلة مع عروس في بيت على فراشٍ، أحسن من
مبيت في الأزقة والدهاليز. فسار معهما إلى القاضي، فلما نظر القاضي إلى علاء الدين
وقعت محبته في قلبه، وقال لأبي البنت: أي شيء مرادكم؟ فقال: مرادنا أن نعمل هذا
مستحلًّا لبنتنا، ولكن نكتب عليه حجة بمقدم الصداق عشرة آلاف دينار، فإن بات عندها
ومتى أصبح طلَّقها، أعطينا له بدلة بألف دينار، وبغلة بألف دينار، وأعطيناه ألف
دينار، وإن لم يطلقها يحط عشرة آلاف دينار. فعقدوا العقد على هذا الشرط، وأخذ أبو
البنت حجة بذلك، ثم أخذ علاء الدين معه وألبسه البدلة، وساروا به إلى أن وصلوا دار
بنته، فأوقفه على باب الدار، ودخل على بنته، وقال لها: خذي حجة صداقك، فإني كتبتُ
كتابك على شاب مليح يُسمَّى علاء الدين أبا الشامات، فتوصي به غاية الوصية. ثم
أعطاها الحجَّة، وتوجَّه إلى بنته.
وأما
ابن عم البنت فإنه كان له قهرمانة تتردد على زبيدة العودية بنت عمه، وكان يحسن
إليها، فقال لها: يا أمي، إن زبيدة بنت عمي متى رأت هذا الشاب المليح لم تقبلني
بعد ذلك، فأنا أطلب منك أن تعملي حيلة، وتمنعي الصبية عنه. فقالت له: وحياة شبابك
ما أخليه يقربها. ثم إنها جاءت لعلاء الدين وقالت له: يا ولدي، أنصحك لله تعالى
فاقبل نصيحتي، ولا تقرب تلك الصبية، ودعها تنام وحدها، ولا تلمسها، ولا تدنُ منها.
فقال: لأي شيء؟ فقالت له: إن جسدها ملآن بالجذام، وأخاف عليك منها أن تعدي شبابك
المليح. فقال لها: ليس لي بها حاجة. ثم انتقلت إلى الصبية وقالت لها مثل ما قالت
لعلاء الدين، فقالت لها: لا حاجة لي به، بل أدعه ينام وحده، ولما يصبح الصباح يروح
إلى حال سبيله. ثم دعت جارية وقالت لها: خذي سفرة الطعام، وأعطيها له يتعشَّى.
فحملت له الجارية سفرة الطعام، ووضعتها بين يديه، فأكل حتى اكتفى، ثم قعد وقرأ
سورة يس بصوت حسن، فصغت له الصبية فوجدت صوته يشبه مزامير آل داود، فقالت في
نفسها: الله ينكد على هذه العجوز التي قالت لي عليه إنه مبتلًى بالجذام، فمَن كانت
به هذه الحالة لا يكون صوته هكذا، وإنما هذا الكلام كذب عليه. ثم إنها وضعت في
يديها عودًا من صنعة الهنود، وأصلحت أوتاره، وغنت عليه بصوت يوقف الطير في كبد
السماء، وأنشدت هذين البيتين:
تعشَّقْتُ
ظَبْيًا نَاعِسَ الطَّرْفِ أَحْوَرَا
تَغَارُ غُصُونُ الْبَانِ مِنْهُ إِذَا مَشَى
يُمَانِعُنِي
وَالْغُيرُ يَحْظَى بِوَصْلِهِ وَذَلِكَ
فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَا
فلما
سمعها أنشدت هذا الكلام بعد أن ختم السورة، غنَّى هو وأنشد هذا البيت:
سَلَامِي
عَلَى مَا فِي الثِّيَابِ مِنَ الْقَدِّ
وَمَا فِي بَسَاتِينِ الْخُدُودِ مِنَ الْوَرْدِ
فقامت
الصبية وقد زادت محبتها، ورفعت الستارة؛ فلما رآها علاء الدين أنشد هذين البيتين:
بَدَتْ
قَمَرًا وَمَالَتْ غُصْنَ بَانٍ وَفَاحَتْ
عَنْبَرًا وَرَنَتْ غَزَالَا
كَأَنَّ
الْحُزْنَ مَشْغُوفٌ بِقَلْبِي فَسَاعَةَ
هَجْرِهَا يَجِدُ الْوِصَالَا
ثم
إنها خطرت تهز أردافًا تميل بأعطاف صنعة خفيِّ الألطاف، ونظر كل واحد منهما صاحبه
نظرةً أعقبَتْه ألف حسرة، فلما تمكَّنَ في قلبه منها سهمُ اللحظين، أنشد هذين
البيتين:
رَأَتْ
قَمَرَ السَّمَاءِ فَأَذْكَرَتْنِي لَيَالِيَ
وَصْلِهَا بِالرَّقْمَتَيْنِ
كِلَانَا
نَاظِرٌ قَمَرًا وَلَكِنْ رَأَيْتُ
بِعَيْنِهَا وَرَأَتْ بِعَيْنِي
فلما
قربت منه ولم يَبْقَ بينه وبينها إلا خطوتان، أنشد هذين البيتين:
نَشَرَتْ
ثَلَاثَ ذَوَائِبٍ مِنْ شَعْرِهَا فِي
لَيْلَةٍ فَأَرَتْ لَيَالِيَ أَرْبَعًا
وَاسْتَقْبَلَتْ
قَمَرَ السَّمَاءِ بِوَجْهِهَا فَأَرَتْنِيَ
الْقَمَرَيْنِ فِي وَقْتٍ مَعًا
فلما
أقبلت عليه قال لها: ابعدي عني لئلا تعديني. فكشفت عن معصمها، فانفرق المعصم
فرقتين، وبياضه كبياض اللجين، ثم قالت له: ابعد عني فإنك مبتلًى بالجذام لئلا
تعديني. فقال لها: مَن أخبرك أني مجذوم؟ فقالت له: العجوز أخبرتني بذلك. فقال لها:
وأنا الآخَر أخبرتني العجوز أنك مصابة بالبرص. ثم كشف لها عن ذراعيه فوجدت بدنه
كالفضة النقية، فضمَّته إلى حضنها، وضمَّها إلى صدره، واعتنق الاثنان ببعضهما، ثم
أخذته وراحت على ظهرها، وفكَّت لباسها، فتحرَّك الذي خلَّفه له الوالد، فقال: مددك
يا شيخ زكريا يا أبا العروق. وحطَّ يديه في خاصرتها، ووضع عرق الحلاوة في باب
الخرق ودفعه، فوصل إلى باب الشعرية، وكان مروره من باب الفتوح، وبعد ذلك دخل سوق
الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، فوجد البساط على قدر الليوان، ودور الحق على
غطاه حتى التقاه. فلما أصبح الصباح قال لها: يا فرحة ما تمت أخذها الغراب وطار.
فقالت له: ما معنى هذا الكلام؟ فقال لها: يا سيدتي، ما بقي لي قعود معك غير هذه
الساعة. فقالت له: مَن يقول ذلك؟ فقال لها: إن أباك كتب عليَّ حجَّة بعشرة آلاف
دينار مهرك، وإن لم أُوردها في هذا اليوم حبسوني عليها في بيت القاضي، والآن يدي
قصيرة عن نصف فضة واحد من العشرة آلاف دينار. فقالت له: يا سيدي، هل العصمة بيدك
أم بأيديهم؟ فقال لها: العصمة بيدي، ولكن ما معي شيء. فقالت له: إن الأمر سهل، ولا
تخشَ شيئًا، ولكن خذ هذه المائة دينار، ولو كان معي غيرها لأعطيتُك ما تريد، فإن
أبي من محبته لابن أخيه حوَّل جميع ماله من عندي إلى بيته، حتى صيغتي أخذها كلها،
وإذا أرسل إليك رسولًا من طرف الشرع في غدر … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن
الكلام المباح.
﴿اللیلة 257﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الصبية قالت لعلاء الدين: وإذا أرسلوا إليك رسولًا من
طرف الشرع في غد، وقال لك القاضي وأبي: طلِّق. فقُلْ لهما: في أي مذهب يجوز أنني
أتزوج في العشاء، وأطلِّق في الصباح؟ ثم إنك تقبِّل يد القاضي وتعطيه إحسانًا،
وكذا كل شاهد تقبِّل يده وتعطيه عشرة دنانير؛ فكلهم يتكلمون معك، فإذا قالوا لك:
لأي شيء ما تطلِّق وتأخذ ألف دينار والبغلة والبدلة على حكم الشرط الذي شرطناه
عليك؟ فقل لهم: أنا عندي فيها كل شعرة بألف دينار ولا أطلِّقها أبدًا، ولا آخذ
بدلة ولا غيرها. فإذا قال لك القاضي: ادفع المهر. فقل له: أنا معسر الآن. وحينئذٍ
يترفَّق بك القاضي والشهود، ويمهلونك مدة.
فبينما
هما في الكلام، وإذا برسول القاضي يدق الباب، فخرج إليه، فقال له الرسول: كلِّم
الأفندي، فإن نسيبك طالبك. فأعطاه خمسة دنانير وقال له: يا مُحضر، في أي شرع أني
أتزوج في العشاء، وأطلِّق في الصباح؟ فقال له: لا يجوز عندنا أبدًا، وإن كنتَ تجهل
الشرع فأنا أعمل وكيلك. وساروا إلى المحكمة فقال له القاضي: لأي شيء لم تطلق
المرأة وتأخذ ما وقع عليه الشرط؟ فتقدَّمَ إلى القاضي وقبَّل يده ووضع فيها خمسين
دينارًا، وقال له: يا مولانا القاضي، في أي مذهب أني أتزوج في العشاء وأطلِّق في
الصباح قهرًا عني؟ فقال القاضي: لا يجوز الطلاق بالإجبار في أي مذهب من مذاهب
المسلمين. فقال أبو الصبية: إن لم تطلق فادفع لي الصداق عشرة آلاف دينار. فقال
علاء الدين: أمهلني ثلاثة أيام. فقال القاضي: لا تكفي ثلاثة أيام في المهلة، بل
يمهلك عشرة أيام. واتفقوا على ذلك، وشرطوا عليه بعد العشرة أيام؛ إما المهر وإما
الطلاق، وطلع من عندهم على هذا الشرط، فأخذ اللحم والأرز والسمن وما يحتاج إليه
الأمر من المأكل وتوجَّهَ إلى البيت، فدخل على الصبية وحكى لها جميع ما جرى له،
فقالت له: بين الليل والنهار عجائب، ولله در مَن قال:
كُنْ
حَلِيمًا إِذَا بُلِيتَ بِغَيْظٍ وَصَبُورًا
إِذَا أَتَتْكَ مُصِيبَةْ
فَاللَّيَالِي
مِنَ الزَّمَانِ حَبَالَى مُثْقَلَاتٌ
يَلِدْنَ كُلَّ عَجِيبَةْ
ثم
قامت وهيَّأت الطعام وأحضرت السفرة، فأكلا وشربا وتلذَّذا وطربا، ثم طلب منها أن
تعمل نوبة سماع، فأخذت العود وعملت نوبة يطرب منها الحجر الجلمود، ونادت الأوتار
في الحضرة: يا داود. ودخلت في دارج النوبة. فبينما هما في حظ ومزاح، وبسط وانشراح،
وإذا بالباب يطرق، فقالت له: قم انظر مَن بالباب. فنزل وفتح الباب فوجد أربعة
دراويش واقفين، فقال لهم: أي شيء تطلبون؟ فقالوا له: يا سيدي، نحن دراويش غرباء
الديار، وقوت أرواحنا السماع ورقائق الأشعار، ومرادنا أن نرتاح عندك هذه الليلة
إلى وقت الصباح، ثم نتوجه إلى حال سبيلنا، وأجرك على الله تعالى؛ فإننا نعشق
السماع، وما فينا واحد إلا ويحفظ القصائد والأشعار والموشحات. فقال لهم: عليَّ
مشورة. ثم طلع وأعلمها، فقالت له: افتح لهم الباب. ففتح لهم الباب وأطلعهم وأجلسهم
ورحَّب بهم، ثم أحضر لهم طعامًا فلم يأكلوا، وقالوا له: يا سيدي، إنَّ زادَنَا
ذِكْرُ الله بقلوبنا، وسماعُ المغنى بآذاننا، ولله در مَن قال:
وَمَا
الْقَصْدُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ اجْتَمَاعُنَا وَمَا الْأَكْلُ إِلَّا سِيمَةٌ
لِلْبَهَائِمِ
وقد
كنا نسمع سماعًا لطيفًا، فلما طلعنا بطل السماع، فيا هل ترى التي كانت تعمل النوبة
جارية بيضاء أم سوداء أم بنت ناس؟ فقال لهم: هذه زوجتي. وحكى لهم جميع ما جرى له،
وقال لهم: إن نسيبي عمل عليَّ عشرة آلاف دينار مهرها، وأمهلوني عشرة أيام. فقال
درويش منهم: لا تحزن، ولا تأخذ في خاطرك إلا الطيب، فأنا شيخ التكية، وتحت يدي
أربعون درويشًا أحكم عليهم، وسوف أجمع لك العشرة آلاف دينار منهم، وتوفي المهر
الذي عليك لنسيبك، ولكن اؤمرها أن تعمل لنا نوبة لأجل أن ننحظ ويحصل لنا انتعاش،
فإن السماع لقوم كالغذاء، ولقوم كالدواء، ولقوم كالمروحة. وكان هؤلاء الدراويش
الأربعة: الخليفة هارون الرشيد، والوزير جعفر البرمكي، وأبو نواس الحسن بن هاني،
ومسرور سيَّاف النقمة؛ وسببُ مرورهم على هذا البيت أن الخليفة حصل له ضيق صدر،
فقال للوزير: يا وزير، إن مرادنا أن ننزل، ونشق في المدينة؛ لأنه حاصل عندي ضيق
صدر. فلبسوا لبس الدراويش ونزلوا إلى المدينة، فجازوا على تلك الدار فسمعوا
النوبة، فأحبوا أن يعرفوا حقيقة الأمر، ثم إنهم باتوا في حظٍّ ونظام، ومناقلة
كلام، إلى أن أصبح الصباح، فحط الخليفة مائة دينار تحت السجادة، ثم أخذوا خاطره
وتوجهوا إلى حال سبيلهم؛ فلما رفعت الصبية السجادة رأت مائة دينار تحتها، فقالت
لزوجها: خذ هذه المائة دينار التي وجدتها تحت السجادة؛ فإن الدراويش حطوها قبلما
يروحوا، وليس لنا علم بذلك. فأخذها علاء الدين وذهب إلى السوق، واشترى منها اللحم
والأرز والسمن، وجميع ما يحتاج إليه.
وفي
ثاني ليلة قاد الشمع، وقال لها: إن الدراويش لم يأتوا بالعشرة آلاف دينار التي
وعدوني بها، ولكن هؤلاء فقراء. فبينما هما في الكلام، وإذا بالدراويش قد طرقوا
الباب، فقالت له: انزل افتح لهم. ففتح لهم وطلعوا، فقال لهم: هل أحضرتم العشرة
آلاف دينار التي وعدتموني بها؟ فقالوا له: ما تيسَّرَ منها شيء، ولكن لا تخشَ
بأسًا، إن شاء الله تعالى في غد نطبخ طبخة كيمياء، وأمُر زوجتك أن تُسمعنا نوبة
عظيمة تنتعش بها قلوبنا، فإننا نحب السماع. فعملت لهم نوبة على العود تُرقِص الحجر
الجلمود، فباتوا في هناء وسرور، ومسامرة وحبور، إلى أن طلع الصباح، وأضاء بنوره
ولاح، فحط الخليفة مائة دينار تحت السجادة، ثم أخذوا خاطره وانصرفوا من عنده إلى
حال سبيلهم، ولم يزالوا يأتون إليه على هذا الحال مدة تسع ليالٍ، وكل ليلة يحط
الخليفة تحت السجادة مائة دينار إلى أن أقبلت الليلة العاشرة فلم يأتوا، وكان
السبب في انقطاعهم أن الخليفة أرسل إلى رجل عظيم من التجار، وقال له: أحضر لي
خمسين حملًا من الأقمشة التي تجيء من مصر … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام
المباح.
﴿اللیلة 258﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن أمير المؤمنين قال لذلك التاجر: أحضِرْ لي خمسين
حملًا من القماش الذي يجيء من مصر، يكون كل حملٍ ثمنه ألف دينار، واكتب على كل حمل
ثمنه، وأحضر لي عبدًا حبشيًّا. فأحضر له التاجر جميع ما أمره به، ثم إن الخليفة
أعطى العبد طشتًا وإبريقًا من الذهب، وهدية، والخمسين حملًا، وكتب كتابًا على لسان
شمس الدين شاه بندر التجار بمصر، والد علاء الدين، وقال له: خذ هذه الأحمال وما
معها، ورُحْ بها الحارة الفلانية التي فيها بيت شاه بندر التجار، وقل: أين سيدي
علاء الدين أبو الشامات؟ فإن الناس يدلونك على الحارة، وعلى البيت. فأخذ العبد
الأحمال وما معها، وتوجه كما أمره الخليفة.
هذا
ما كان من أمره، وأما ما كان من أمر ابن عم الصبية، فإنه توجه إلى أبيها وقال له:
تعالَ نروح لعلاء الدين لنطلِّق بنت عمي. فنزل وسار هو وإياه، وتوجَّها إلى علاء
الدين، فلما وصلا إلى البيت وجدَا خمسين بغلًا، وعليها خمسون حملًا من القماش،
وعبدًا راكب بغلة، فقالا له: لمَن هذه الأحمال؟ فقال: لسيدي علاء الدين أبي
الشامات، فإن أباه كان جهَّزَ له متجرًا وسفَّره إلى مدينة بغداد، فطلع عليه العرب
فأخذوا ماله وأحماله، فبلغ الخبر إلى أبيه فأرسلني إليه بأحمال عوضها، وأرسل له
معي بغلًا عليه خمسون ألف دينار، وبقجة تساوي جملة من المال، وكرك سمور، وطشتًا
وإبريقًا من الذهب. فقال له أبو البنت: هذا نسيبي، وأنا أدلك على بيته. فبينما
علاء الدين قاعد في البيت وهو في غمٍّ شديد، وإذا بالباب يطرق، فقال علاء الدين:
يا زبيدة الله، أعلم إن أباكِ أرسل إليَّ رسولًا من طرف القاضي أو من طرف الوالي.
فقالت له: انزل وانظر الخبر. فنزل وفتح الباب فرأى نسيبه شاه بندر التجار أبا
زبيدة، ووجد عبدًا حبشيًّا أسمر اللون حلو المنظر راكبًا فوق بغلة، فنزل العبد
وقبَّل يديه، فقال له: أي شيء تريد؟ فقال له: أنا عبد سيدي علاء الدين أبي الشامات
ابن شمس الدين شاه بندر التجار بأرض مصر، وقد أرسلني إليه أبوه بهذه الأمانة. ثم
أعطاه الكتاب، فأخذه علاء الدين وفتحه وقرأه، فرأى مكتوبًا فيه:
يَا
كِتَابِي إِذَا رَآكَ حَبِيبِي قَبِّلِ
الْأَرْضَ وَالنِّعَالَ لَدَيْهِ
وَتَمَهَّلْ
وَلَا تَكُنْ بِعَجُولٍ إِنَّ
رُوحِي وَرَاحَتِي فِي يَدَيْهِ
بعد
السلام التام والتحية والإكرام، من شمس الدين إلى ولده علاء الدين أبي الشامات؛
اعلم يا ولدي أنه بلغني خبر قتل رجالك، ونهب أموالك وأحمالك، فأرسلت إليك غيرها
هذه الخمسين حملًا من القماش المصري، والبدلة، والكرك السمور، والطشت والإبريق
الذهب، ولا تخشَ بأسًا، والمال فداؤك يا ولدي، ولا يحصل لك حزن أبدًا، وإن أمك
وأهل البيت طيبون بخير وعافية، وهم يسلِّمون عليك كثير السلام. وبلغني يا ولدي خبر
أنهم عملوك مستحلًا للبنت زبيدة العودية، وعملوا عليك مهرها خمسين ألف دينار، فهي
واصلة إليك صحبة الأحمال مع عبدك سليم.
فلما
فرغ من قراءة الكتاب تسلَّم الأحمال، ثم التفت إلى نسيبه وقال له: يا نسيبي، خذ
الخمسين ألف دينار مهر بنتك زبيدة، وخذ الأحمال تصرَّف فيها، ولك المكسب وردَّ لي
رأس المال. فقال له: والله لا آخذ شيئًا، وأما مهر زوجتك فاتفق أنت وإياها من
جهته. فقام علاء الدين هو ونسيبه ودخلا البيت بعد إدخال الأحمال، فقالت زبيدة
لأبيها: يا أبي، لمَن هذه الأحمال؟ فقال لها: هذه الأحمال لعلاء الدين زوجك،
أرسلها إليه أبوه عوضًا عن الأحمال التي أخذها العرب منه، وأرسل إليه خمسين ألف
دينار، وبقجة، وكركًا، وبغلة، وطشتًا وإبريقًا ذهبًا، وأما من جهة مهرك فالرأي لك
فيه. فقام علاء الدين وفتح الصندوق وأعطاها مهرها، فقال الولد ابن عم البنت: يا
عمي، خل علاء الدين يطلق لي امرأتي. فقال له: هذا شيء ما بقي يصحُّ أبدًا، والعصمة
بيده. فراح الولد مغمومًا مقهورًا، ورقد في بيته ضعيفًا، فكان فيها القاضية فمات.
وأما
علاء الدين فإنه طلع إلى السوق بعد أن أخذ الأحمال، وأخذ ما يحتاج إليه من المأكل
والمشرب والسمن، وعمل نظامًا مثل كل ليلة، وقال لزبيدة: انظري هؤلاء الدراويش
الكذَّابين قد وعدونا وأخلفوا وعدهم. فقالت له: أنت ابن شاه بندر التجار وكانت يدك
قصيرة عن نصف فضة، فكيف بالمساكين الدراويش؟! فقال لها: أغنانا الله تعالى عنهم،
ولكن ما بقيت أفتح الباب إذا أتوا إلينا. فقالت له: لأي شيء والخير ما جاءنا إلا
على قدومهم، وكل ليلة يحطون لنا تحت السجادة مائة دينار؟ فلا بد أن تفتح لهم الباب
إذا جاءوا. فلما ولَّى النهار بضيائه وأقبل الليل، أوقدوا الشمع، وقال لها: يا
زبيدة، قومي اعملي لنا نوبة. وإذا بالباب يطرق، فقالت له: قم انظر مَن بالباب.
فنزل وفتح الباب، فرآهم الدراويش فقال: مرحبًا بالكذابين، اطلعوا. فطلعوا معه،
وأجلسهم وجاء لهم بسفرة الطعام، فأكلوا وشربوا، وتلذَّذوا وطربوا، وبعد ذلك قالوا
له: يا سيدي، إن قلوبنا عليك مشغولة، أي شيء جرى لك مع نسيبك؟ فقال لهم: عوَّض
الله علينا بما فوق المراد. فقالوا: والله إنَّا كنَّا خائفين عليك. وأدرك شهرزاد
الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 259﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الدراويش قالوا لعلاء الدين: والله إنا كنا خائفين
عليك، وما منعنا عنك إلا قِصَر أيدينا عن الدراهم. فقال لهم: قد أتاني الفرج
القريب من عند ربي، وقد أرسل إليَّ والدي خمسين ألف دينار، وخمسين حملًا من
القماش، ثمنُ كلِّ حملٍ ألفُ دينار، وبدلةً، وكرك سمور، وبغلة، وعبدًا، وطشتًا
وإبريقًا من الذهب، ووقع الصلح بيني وبين نسيبي، وطابت لي زوجتي، والحمد لله على
ذلك. ثم إن الخليفة قام يزيل ضرورة، فمال الوزير جعفر على علاء الدين وقال له:
الزم الأدب فإنك في حضرة أمير المؤمنين. فقال له: أي شيء وقع مني من قلة الأدب في
حضرة أمير المؤمنين؟ ومَن هو أمير المؤمنين منكم؟ فقال له: إن الذي كان يكلمك وقام
يزيل الضرورة هو أمير المؤمنين الخليفة هارون الرشيد، وأنا الوزير جعفر، وهذا
مسرور سيَّاف نقمته، وهذا أبو النواس الحسن بن هاني، فتأمَّلْ بعقلك يا علاء
الدين، وانظر مسافة كم يوم في السفر من مصر إلى بغداد. فقال له: خمسة وأربعون
يومًا. فقال له: إن أحمالك نُهِبت من منذ عشرة أيام فقط، فكيف يروح الخبر لأبيك،
ويحزم لك الأحمال، وتقطع مسافة خمسة وأربعين يومًا في العشرة أيام؟ فقال له: يا
سيدي، ومن أين أتاني هذا؟ فقال له: من عند الخليفة أمير المؤمنين بسبب فرط محبته
لك.
فبينما
هم في هذا الكلام وإذا بالخليفة قد أقبل، فقام علاء الدين وقبَّل الأرض بين يديه،
وقال له: الله يحفظك يا أمير المؤمنين ويديم بقاءك، ولا عدم الناس فضلك وإحسانك.
فقال: يا علاء الدين خلِّ زبيدة تعمل لنا نوبة حلاوة السلامة. فعملت نوبة على
العود من غرائب الموجود إلى أن طرب لها الحجر الجلمود، وصاح العود في الحضرة: يا
داود. فباتوا على أسرِّ حال إلى الصباح، فلما أصبحوا قال الخليفة لعلاء الدين: في
غدٍ اطلع الديوان. فقال له: سمعًا وطاعة يا أمير المؤمنين، إن شاء الله تعالى وأنت
بخير. ثم إن علاء الدين أخذ عشرة أطباق، ووضع فيها هدية سنية، وطلع بها الديوان في
ثاني يوم، فبينما الخليفة قاعد على الكرسي في الديوان، وإذا بعلاء الدين مقبل من
باب الديوان وهو ينشد هذين البيتين:
تُصَحِّبُكَ
السَّعَادَةُ كُلَّ يَوْمٍ بِإِجْلَالٍ
وَقَدْ رُغِمَ الْحَسُودُ
وَلَا
زَالَتْ لَكَ الْأَيَّامُ بِيضًا وَأَيَّامُ
الَّذِي عَادَاكَ سُودُ
فقال
له الخليفة: مرحبًا يا علاء الدين. فقال علاء الدين: يا أمير المؤمنين، إن
النبي ﷺ قَبِل الهدية، وهذه العشرة أطباق، وما فيها هديةٌ مني إليك.
فقَبِل منه ذلك أمير المؤمنين، وأمر له بخلعة، وجعله شاه بندر التجار، وأقعده في
الديوان. فبينما هو جالس، وإذا بنسيبه أبي زبيدة مُقبِل، فوجد علاء الدين جالسًا
في رتبته وعليه خلعة، فقال لأمير المؤمنين: يا ملك الزمان، لأي شيء هذا جالس في
رتبتي وعليه هذه الخلعة؟ فقال له الخليفة: إني جعلته شاه بندر التجار، والمناصب
تقليد لا تخليد، وأنت معزول. فقال له: إنه منَّا وإلينا، ونِعْمَ ما فعلتَ يا أمير
المؤمنين، الله يجعل خيارنا أولياء أمورنا، وكم من صغير صار كبيرًا. ثم إن الخليفة
كتب فرمانًا لعلاء الدين وأعطاه للوالي، والوالي أعطاه للمشاعلي ونادى في الديوان:
ما شاه بندر التجار إلا علاء الدين أبو الشامات، وهو مسموع الكلمة محفوظ الحرمة،
يجب له الإكرام والاحترام ورفع المقام. فلما انفض الديوان نزل الوالي بالمنادي بين
يدي علاء الدين، وصار المنادي يقول: ما شاه بندر التجار إلا سيدي علاء الدين أبو
الشامات. وداروا به في شوارع بغداد والمنادي ينادي ويقول: ما شاه بندر التجار إلا
سيدي علاء الدين أبو الشامات. فلما أصبح الصباح فتح دكانًا للعبد، وأجلسه فيها
يبيع ويشتري، وأما علاء الدين فإنه كان يركب ويتوجَّه إلى مرتبته في ديوان
الخليفة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 260﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن علاء الدين كان يركب ويتوجَّه إلى ديوان الخليفة،
فاتفق أنه جلس في مرتبته يومًا على عادته، فبينما هو جالس وإذا بقائل يقول
للخليفة: يا أمير المؤمنين، تعيش رأسك في فلان النديم، فإنه تُوفي إلى رحمة الله
تعالى، وحياتك الباقية. فقال الخليفة: أين علاء الدين أبو الشامات؟ فحضر بين يديه،
فلما رآه خلع عليه خلعة سنية وجعله نديمه، وكتب له جامكية ألف دينار في كل شهر،
وأقام عنده يتنادم معه. فاتفق أنه كان جالسًا يومًا من الأيام في مرتبته على عادته
في خدمة الخليفة، وإذا بأمير المؤمنين طالع إلى الديوان بسيف وترس، فقال: يا أمير
المؤمنين، تعيش رأسك في رئيس الستين، فإنه مات في هذا اليوم. فأمر الخليفة بخلعة
لعلاء الدين أبي الشامات وجعله رئيس الستين مكانه. وكان رئيس الستين لا ولدَ له
ولا بنت ولا زوجة، فنزل علاء الدين ووضع يده على ماله. وقال الخليفة لعلاء الدين:
وارِهِ في التراب، وخذ جميع ما تركه من مال وعبيد، وجوارٍ وخدم. ثم نفض الخليفة
المنديل وانفض الديوان، فنزل علاء الدين وفي ركابه المقدم أحمد الدنف مقدم ميمنة
الخليفة هو وأتباعه الأربعون، وفي يساره المقدم حسن شومان مقدم ميسرة الخليفة هو
وأتباعه الأربعون، فالتفت علاء الدين إلى المقدم حسن شومان هو وأتباعه وقال لهم:
أنتم سياق على المقدم أحمد الدنف لعله يقبلني ولده في عهد الله. فقبَّله وقال له:
أنا وأتباعي الأربعون نمشي قدَّامك إلى الديوان في كل يوم.
ثم
إن علاء الدين مكث في خدمة الخليفة مدة أيام، فاتفق أن علاء الدين نزل من الديوان
يومًا من الأيام، وسار إلى بيته، وصرف أحمد الدنف هو ومَن معه إلى حال سبيلهم، ثم
جلس مع زوجته زبيدة العودية وقد أوقدت الشموع، وبعد ذلك قامت تزيل ضرورة. فبينما
هو جالس في مكانه إذ سمع صرخة عظيمة، فقام مسرعًا لينظر الذي صرخ، فرأى صاحب
الصرخة زوجته زبيدة العودية وهي مطروحة، فوضع يده على صدرها فوجدها ميتة، وكان بيت
أبيها قدام بيت علاء الدين فسمع صرختها، فقال لعلاء الدين: ما الخبر يا سيدي علاء
الدين؟ فقال له: تعيش رأسك يا والدي في بنتك زبيدة العودية، ولكن يا والدي إكرام
الميت دفنه. فلما أصبح الصباح، واروها في التراب، وصار علاء الدين يعزي أباها،
وأبوها يعزيه.
هذا
ما كان من أمر زبيدة العودية، وأما ما كان من أمر علاء الدين فإنه لبس ثياب الحزن،
وانقطع عن الديوان، وصار باكي العين حزين القلب، فقال الخليفة لجعفر: يا وزير، ما
سبب انقطاع علاء الدين عن الديوان؟ فقال له الوزير: يا أمير المؤمنين، إنه حزين
القلب على امرأته زبيدة ومشغول بعزائها. فقال الخليفة للوزير: واجب علينا أن
نعزِّيه. فقال الوزير: سمعًا وطاعة. ثم نزل الخليفة هو والوزير وبعض الخدم، وركبوا
وتوجهوا إلى بيت علاء الدين. فبينما هو جالس، وإذا بالخليفة والوزير ومَن معهما
مقبلون عليه، فقام لملتقاهم، وقبَّل الأرض بين يدي الخليفة، فقال له الخليفة:
عوَّضك الله خيرًا. فقال علاء الدين: أطال الله لنا بقاءك يا أمير المؤمنين. فقال
الخليفة: يا علاء الدين، ما سبب انقطاعك عن الديوان؟ فقال له: حزني على زوجتي
زبيدة يا أمير المؤمنين. فقال له الخليفة: ادفع الهم عن نفسك، فإنها ماتت إلى رحمة
الله تعالى، والحزن لا يفيدك شيئًا أبدًا. فقال: يا أمير المؤمنين، أنا لا أترك
الحزن عليها إلا إذا مت ودفنوني عندها. فقال له الخليفة: إن في الله عوضًا من كل
فائت، ولا يخلص من الموت حيلة ولا مال، ولله درُّ مَن قال:
كُلُّ
ابْنِ أُنْثَى وَإِنْ طَالَتْ سَلَامَتُهُ
يَوْمًا عَلَى آلَةٍ حَدْبَاءَ مَحْمُولُ
وَكَيْفَ
يَلْهُو بِعَيْشٍ أَوْ يَلَذُّ بِهِ
مِنَ التُّرَابِ عَلَى خَدَّيْهِ مَجْعُولُ
ولما
فرغ الخليفة من تعزيته أوصاه أنه لا ينقطع عن الديوان، وتوجَّه إلى محله، ثم بات
علاء الدين، ولما أصبح الصباح ركب وسار إلى الديوان، فدخل على الخليفة وقبَّل
الأرض بين يديه، فتحرَّك له الخليفة من على الكرسي، ورحَّب به وحيَّاه، وأنزله في
منزلته، وقال له: يا علاء الدين، أنت ضيفي في هذه الليلة. ثم دخل به سرايته ودعا
بجاريةٍ تُسمَّى قوت القلوب، وقال لها: إن علاء الدين كان عنده زوجة تُسمَّى زبيدة
العودية، وكانت تسليه عن الهم والغم، فماتت إلى رحمة الله تعالى، ومرادي أن
تُسمعيه نوبة على العود. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 261﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الخليفة قال لجاريته قوت القلوب: مرادي أن تُسمِعيه
نوبة على العود من غرائب الموجود؛ لأجل أن يتسلَّى عن الهم والأحزان. فقامت
الجارية وعملت نوبة من الغرائب، فقال الخليفة: ما تقول يا علاء الدين في صوت هذه
الجارية؟ فقال له: إن زبيدة أحسن صوتًا منها، إلا أنها صاحبة صناعة في ضرب العود؛
لأنها تطرب الحجر الجلمود. فقال له: هل هي أعجبتك؟ فقال له: أعجبتني يا أمير
المؤمنين. فقال الخليفة: وحياة رأسي وتربة جدودي إنها هبة مني إليك هي وجواريها.
فظن علاء الدين أن الخليفة يمزح معه، فلما أصبح الخليفة دخل على جاريته قوت القلوب
وقال لها: أنا وهبتك لعلاء الدين. ففرحت بذلك لأنها رأته وأحَبَّتْه. ثم تحول
الخليفة من قصر السراية إلى الديوان، ودعا بالحمَّالين، وقال لهم: انقلوا أمتعة
قوت القلوب وحطُّوها في التختروان هي وجواريها إلى بيت علاء الدين. فنقلوها هي
وجواريها وأمتعتها إلى بيت علاء الدين، وأدخلوها القصر، وجلس الخليفة في مجلس
الحكم إلى آخر النهار، ثم انفضَّ الديوان ودخل قصره.
هذا
ما كان من أمره، وأما ما كان من أمر قوت القلوب، فإنها لما دخلت قصر علاء الدين هي
وجواريها، وكانوا أربعين جارية غير الطواشية، قالت لاثنين من الطواشية: أحدكما
يقعد على كرسي في ميمنة الباب، والثاني يقعد على كرسي في ميسرته، ولما يأتي علاء
الدين قبِّلا يديه، وقولا له: إن سيدتنا قوت القلوب تطلبك إلى القصر، فإن الخليفة
وهبها لك هي وجواريها. فقالا لها: سمعًا وطاعة. ثم فعلا ما أمرتهما به؛ فلما أقبل
علاء الدين وجد اثنين من طواشية الخليفة جالسَيْن بالباب فاستغرب الأمر، وقال في
نفسه: لعل هذا ما هو بيتي، وإلا فما الخبر؟ فلما رأته الطواشية قاموا إليه
وقبَّلوا يديه، وقالوا: نحن من أتباع الخليفة، ومماليك قوت القلوب، وهي تسلِّم
عليك، وتقول لك: إن الخليفة قد وهبها لك هي وجواريها، وتطلبك عندها. فقال لهم:
قولوا لها مرحبًا بك، ولكن طول ما أنت عنده ما يدخل القصر الذي أنت فيه؛ لأن ما
كان للمولى لا يصلح أن يكون للخدام. وقولا لها: ما مقدار مصروفك عند الخليفة في كل
يوم؟ فطلعوا إليها وقالوا لها ذلك. فقالت: كل يوم مائة دينار. فقال لنفسه: أنا ليس
لي حاجة بأن يهب لي الخليفة قوت القلوب حتى أصرف عليها هذا المصروف، ولكن لا حيلةَ
في ذلك.
ثم
إنها أقامت عنده مدة أيام، وهو مرتب لها في كل يوم مائة دينار، إلى أن انقطع علاء
الدين عن الديوان يومًا من الأيام، فقال الخليفة: يا وزير جعفر، أنا ما وهبت قوت
القلوب لعلاء الدين إلا لتسلِّيه عن زوجته، فما سبب انقطاعه عنا؟ فقال: يا أمير
المؤمنين، لقد صدق مَن قال: مَن لقي أحبابه نسي أصحابه. فقال الخليفة: لعله ما
قطعه عنَّا إلا عذر، ولكن نحن نزوره. وكان قبل ذلك بأيام قال علاء الدين للوزير:
أنا شكوت للخليفة ما أجده من الحزن على زوجتي زبيدة العودية، فوهب لي قوت القلوب.
فقال له الوزير: لولا أنه يحبك ما وهبها لك، وهل دخلتَ بها يا علاء الدين؟ فقال:
لا، والله لا أعرف لها طولًا من عرض. فقال له: ما سبب ذلك؟ فقال: يا وزير، الذي
يصلح للمولى لا يصلح للخدام. ثم إن الخليفة وجعفر استخفيا، وسارا لزيارة علاء
الدين، ولم يزالا سائرين إلى أن دخلا على علاء الدين فعرفهما، وقام وقبَّل أيادي
الخليفة، ولما رآه الخليفة وجد عليه علامة الحزن، فقال له: يا علاء الدين، ما سبب
هذا الحزن الذي أنت فيه؟ أَمَا دخلتَ على قوت القلوب؟ فقال: يا أمير المؤمنين،
الذي يصلح للمولى لا يصلح للخدام، وإني إلى الآن ما دخلت عليها، ولا أعرف لها
طولًا من عرض، فأقلني منها. فقال الخليفة: إن مرادي الاجتماع بها حتى أسألها عن
حالها. فقال علاء الدين: سمعًا وطاعة يا أمير المؤمنين. فدخل عليها الخليفة. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 262﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الخليفة دخل على قوت القلوب، فلما رأته قامت وقبَّلت
الأرض بين يديه. فقال لها: هل دخل بكِ علاء الدين؟ فقالت: لا يا أمير المؤمنين،
وقد أرسلت أطلبه للدخول فلم يرضَ، فأمر الخليفة برجوعها إلى السراية، وقال لعلاء
الدين: لا تنقطع عنا. ثم توجَّه الخليفة إلى داره، فبات علاء الدين تلك الليلة، ولما
أصبح ركب وسار إلى الديوان، فجلس في رتبة رئيس الستين، فأمر الخليفة الخازندار أن
يعطي للوزير جعفر عشرة آلاف دينار، فأعطاه ذلك المبلغ، ثم قال الخليفة للوزير:
ألزمتك أن تنزل إلى سوق الجواري، وتشتري لعلاء الدين بالعشرة آلاف دينار جارية.
فامتثل الوزير أمر الخليفة ونزل وأخذ معه علاء الدين، وسار به إلى سوق الجواري،
فاتفق في هذا اليوم أن والي بغداد الذي من طرف الخليفة - وكان اسمه الأمير خالد -
نزل إلى السوق من أجل اشتراء جارية لولده، وسبب ذلك أنه كان له زوجة تُسمَّى
خاتون، وكان رُزِق منها بولد قبيح المنظر يُسمَّى حبظلم بظاظة، وكان بلغ من العمر
عشرين سنة، ولا يعرف أن يركب الحصان، وكان أبوه شجاعًا قرمًا منَّاعًا، وكان يركب
الخيل ويخوض بحار الليل، فنام حبظلم بظاظة في ليلة من الليالي فاحتلم، فأخبر
والدته بذلك، ففرحت وأخبرت والده بذلك، وقالت: مرادي أن نزوِّجه فإنه صار يستحق
الزواج. فقال لها: هذا قبيح المنظر كريه الرائحة، دنس وحش لا تقبله واحدة من
النساء. فقالت: نشتري له جارية. فلأمرٍ قدَّره الله تعالى أن اليوم الذي نزل فيه
الوزير وعلاء الدين إلى السوق، نزل فيه الأمير خالد الوالي هو وولده حبظلم بظاظة.
فبينما
هم في السوق، وإذا بجارية ذات حسن وجمال، وقدٍّ واعتدال، في يد رجل دلَّال، فقال
الوزير: شاور يا دلال عليها بألف دينار. فمر بها على الوالي فرآها حبظلم بظاظة
نظرةً أعقبته النظرة ألف حسرة، وتولَّع بها، وتمكَّن منه حبها، فقال: يا أبتِ
اشترِ لي هذه الجارية. فنادى الدلال وسأل الجارية عن اسمها فقالت له: اسمي ياسمين.
فقال له أبوه: يا ولدي، إن كانت أعجبتك فزِدْ في ثمنها. فقال: يا دلال كم معك من
الثمن؟ قال: ألف دينار. قال: عليَّ بألف دينار ودينار. فجاء لعلاء الدين فعملها
بألفين، فصار كلما يزيد الولد ابن الوالي دينارًا في الثمن يزيد علاء الدين ألف
دينار. فاغتاظ ابن الوالي وقال: يا دلَّال، مَن يزيد عليَّ في ثمن الجارية؟ فقال
له الدلال: إن الوزير جعفر يريد أن يشتريها لعلاء الدين أبي الشامات. فعملها علاء
الدين بعشرة آلاف دينار، فسمح له سيدها وقبض ثمنها، وأخذها علاء الدين وقال لها: أعتقتك
لوجه الله تعالى. ثم إنه كتب كتابه عليها، وتوجَّه بها إلى البيت، ورجع الدلال
ومعه دلالته، فناداه ابن الوالي وقال له: أين الجارية؟ فقال له: اشتراها علاء
الدين بعشرة آلاف دينار وأعتقها، وكتب كتابه عليها. فانكمد الولد وزادت به
الحسرات، ورجع ضعيفًا إلى البيت من محبته لها، وارتمى في الفرش وقطع الزاد، وزاد
به العشق والغرام.
فلما
رأته أمه ضعيفًا قالت له: سلامتك يا ولدي، ما سبب ضعفك؟ فقال لها: اشتري لي ياسمين
يا أمي. فقالت له أمه: لما يفوت صاحب الرياحين أشتري لك جنبة ياسمين. فقال لها:
ليس هو الياسمين الذي ينشم، وإنما هي جارية اسمها ياسمين لم يشترها لي أبي. فقالت
لزوجها: لأي شيء ما اشتريت له هذه الجارية؟ فقال لها: الذي يصلح للمولى لا يصلح
للخدام، وليس لي قدرة على أخذها، فإنه ما اشتراها إلا علاء الدين رئيس الستين.
فزاد الضعف بالولد حتى جفا الرقاد وقطع الزاد، وتعصبت أمه بعصائب الحزن. فبينما هي
جالسة في بيتها حزينة على ولدها، وإذا بعجوز دخلت عليها اسمها أم أحمد قماقم
السراق، وكان هذا السراق ينقب وسطانيًّا، ويلقف فوقانيًّا، ويسرق الكحل من العين،
وكان بهذه الصفات القبيحة في أول أمره، ثم عملوه مقدِّم الدرك فسرق عملة فوقع بها،
وهجم عليه الوالي فأخذه، وعرضه على الخليفة، فأمر بقتله في بقعة الدم، فاستجار
بالوزير، وكان للوزير عند الخليفة شفاعة لا تُرَدُّ فشفع فيه، فقال له الخليفة:
كيف تشفع في آفة تضر الناس؟ فقال له: يا أمير المؤمنين، احبسه فإن الذي بنى السجن
كان حكيمًا؛ لأن السجن قبر الأحياء، وشماتة الأعداء. فأمر الخليفة بوضعه في قيد،
وكتب على قيده: مخلَّد إلى الممات، لا يُفَك إلا على دكة المغسِّل. فوضعوه مقيدًا
في السجن، وكانت أمه تتردد على بيت الأمير خالد الوالي، وتدخل لابنها في السجن،
وتقول له: أَمَا قلتُ لك تُبْ عن الحرام؟ فيقول لها: قدر الله عليَّ ذلك، ولكن يا
أمي إذا دخلتِ على زوجة الوالي فخليها تشفع لي عنده.
فلما
دخلت العجوز على زوجة الوالي وجدتها معصبة بعصائب الحزن، فقالت لها: ما لك حزينة؟
فقالت: على فَقْد ولدي حبظلم بظاظة. فقالت لها: سلامة ولدك، ما الذي أصابه؟ فحكت
لها الحكاية. فقالت العجوز: ما تقولين فيمَن يلعب منصفًا يكون فيه سلامة ولدك؟
فقالت لها: وما الذي تفعلينه؟ فقالت: أنا لي ولد يُسمَّي أحمد قماقم السراق، وهو
مقيَّد في السجن ومكتوب على قيده: مخلَّد إلى الممات. فأنت تقومين وتلبسين أفخر ما
عندك، وتتزيَّنين بأحسن الزينة، وتقابلين زوجك ببشر وبشاشة، فإذا طلب منك ما يطلبه
الرجال من النساء فامتنعي منه، ولا تمكِّنيه، وقولي له: يا لله العجب! إذا كان
للرجل حاجة عند زوجته يلح عليها حتى يقضيها منها، وإذا كان للزوجة عند زوجها حاجة
فإنه لا يقضيها لها. فيقول لك: وما حاجتك؟ فقولي له: حتى تحلف لي. فإذا حلف لك
بحياة رأسه أو بالله، فقولي له: احلف لي بالطلاق مني. ولا تمكنيه إلا إن حلف لك
بالطلاق، فإذا حلف لك بالطلاق فقولي له: عندك في السجن واحد مقدم اسمه أحمد قماقم،
وله أم مسكينة، وقد وقعت عليَّ وساقتني عليك، وقالت لي: خليه يشفع له عند الخليفة
لأجل أن يتوب، ويحصل له الثواب. فقالت لها: سمعًا وطاعة. فلما دخل الوالي على
زوجته. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 263﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الوالي لما دخل على زوجته قالت له ذلك الكلام، وحلف
لها بالطلاق، فمكَّنته وبات عندها، ولما أصبح الصباح اغتسل وصلَّى، وجاء إلى السجن
وقال: يا أحمد قماقم يا سراق، هل تتوب مما أنت فيه؟ فقال: إني تبت إلى الله ورجعت،
وأقول بالقلب واللسان: أستغفر الله. فأطلقه الوالي من السجن، وأخذه معه إلى
الديوان وهو في القيد، ثم تقدَّمَ إلى الخليفة وقبَّل الأرض بين يديه، فقال له: يا
أمير خالد، أي شيء تطلب؟ فقدَّم أحمد قماقم يخطر في القيد قدام الخليفة، فقال له:
يا قماقم، هل أنت حي إلى الآن؟ فقال له: يا أمير المؤمنين، إن عمر الشقي بطيء.
فقال الخليفة: يا أمير خالد، لأي شيء جئتَ به هنا؟ فقال له: إن له أمًّا مسكينة
منقطعة، وليس لها أحد غيره، وقد وقعت على عبدك أن يتشفع عندك يا أمير المؤمنين في
أنك تفكَّه من القيد، وهو يتوب عما كان فيه، وتجعله مقدم الدرك كما كان أولًا.
فقال الخليفة لأحمد قماقم: هل تبتَ عمَّا كنتَ فيه؟ فقال له: تبتَ إلى الله يا
أمير المؤمنين. فأمر بإحضار الحداد وفكَّ قيده على دكة المغتَسَل، وجعله مقدم
الدرك، وأوصاه بالمشي الطيب والاستقامة؛ فقبَّلَ يدي الخليفة، ونزل بخلعة الدرك،
ونادوا له بالتقديم. فمكث مدة من الزمان في منصبه، ثم دخلت أمه على زوجة الوالي
فقالت لها: الحمد لله الذي خلَّص ابنك من السجن، وهو على قيد الصحة والسلامة، فلأي
شيء لم تقولي له أن يدبر أمرًا في مجيئه بالجارية ياسمين إلى ولدي حبظلم بظاظة؟
فقالت: أقول له.
ثم
قامت من عندها ودخلت على ولدها فوجدته سكران، فقالت له: يا ولدي، ما سبب خلاصك من
السجن إلا زوجة الوالي، وتريد منك أن تدبر لها أمرًا في قتل علاء الدين أبي
الشامات، وتجيء بالجارية ياسمين إلى ولدها حبظلم بظاظة. فقال لها: هذا أسهل ما
يكون، ولا بد أن أدبر أمرًا في هذه الليلة. وكانت تلك الليلة أول ليلة في الشهر
الجديد، وعادة أمير المؤمنين أن يبيت فيها عند السيدة زبيدة لعتق جارية أو مملوك
أو نحو ذلك، وكان من عادة الخليفة أنه يقلع بدلة الملك، ويترك السبحة والنمشة
وخاتم الملك، ويضع الجميع فوق الكرسي في قاعة الجلوس، وكان عند الخليفة مصباح من
ذهب، وفيه ثلاث جواهر منظومة في سلك من ذهب، وكان ذلك المصباح عزيزًا عند الخليفة،
ثم إن الخليفة وكَّل الطواشية بالبدلة والمصباح وباقي الأمتعة، ودخل مقصورة السيدة
زبيدة، فصبر أحمد قماقم السراق لما انتصف الليل، وأضاء سهيل، ونامت الخلائق،
وتجلَّى عليهم بالستر الخالق، ثم سحب سيفه في يمينه، وأخذ ملقفه في يساره، وأقبل
على قاعة الجلوس التي للخليفة، ونصب سلَّم التسليك، ورمى ملقفه على قاعة الجلوس
فتعلَّق بها، وطلع على السلَّم إلى السطوح، ورفع طابق القاعة ونزل فيها، فوجد
الطواشية نائمين، فبنَّجهم وأخذ بدلة الخليفة والسبحة والنمشة والمنديل والخاتم
والمصباح الذي بالجواهر، ثم نزل من الموضع الذي طلع منه، وسار إلى بيت علاء الدين
أبي الشامات، وكان علاء الدين في هذه الليلة مشغولًا بفرح الجارية، ودخل عليها
وراحت منه حاملًا. فنزل أحمد قماقم السراق على قاعة علاء الدين، وقلع لوحًا رخامًا
من در قاعة القاعة، وحفر تحته ووضع بعض المصالح، وأبقى بعضها معه، ثم جبس اللوح
الرخام كما كان، ونزل من الموضع الذي طلع منه، وقال في نفسه: أنا أقعد أسكر، وأحط
المصباح قدامي، وأشرب الكأس على نوره. ثم سار إلى بيته.
فلما
أصبح الصباح ذهب الخليفة إلى القاعة فوجد الطواشية مُبنَّجين، فأيقظهم وحط يده فلم
يجد البدلة، ولا الخاتم، ولا السبحة، ولا النمشة، ولا المنديل، ولا المصباح؛
فاغتاظ لذلك غيظًا شديدًا، ولبس بدلة الغضب، وهي بدلة حمراء، وجلس في الديوان،
فتقدَّمَ الوزير وقبَّل الأرض بين يديه، وقال: يكفي الله شرَّ أمير المؤمنين. فقال
له: يا وزير، إن الشر فائض. فقال له الوزير: أي شيء حصل؟ فحكى له جميع ما وقع،
وإذا بالوالي طالع وفي ركابه أحمد قماقم السراق، فوجد الخليفة في غيظ عظيم. فلما
نظر الخليفة إلى الوالي قال له: يا أمير خالد، كيف حال بغداد؟ فقال له: سالمة
أمينة. فقال له: تكذب. فقال له: لأي شيء يا أمير المؤمنين؟ فقصَّ عليه القصة، وقال
له: ألزمتُكَ أن تجيء لي بذلك كله. فقال له: يا أمير المؤمنين، دود الخل منه فيه،
ولا يقدر غريب أن يصل إلى هذا المحل أبدًا. فقال: إن لم تجئ لي بهذه الأمور قتلتك.
فقال له: قبل أن تقتلني اقتل أحمد قماقم السراق، فإنه لا يعرف الحرامي والخائن إلا
مقدم الدرك. فقام أحمد قماقم، وقال للخليفة: شفِّعني في الوالي وأنا أضمن لك عهدة
الذي سرق، وأقص الأثر وراءه حتى أعرفه، ولكن أعطني اثنين من طرف القاضي، واثنين من
طرف الوالي؛ فإن الذي فعل هذا الفعل لا يخشاك، ولا يخشى من الوالي ولا من غيره.
فقال الخليفة: لك ما طلبت، ولكن أول التفتيش يكون في سرايتي، وبعدها في سراية رئيس
الستين. فقال أحمد قماقم: صدقتَ يا أمير المؤمنين، ربما يكون الذي عمل هذه العملة
واحد قد تربَّى في سراية أمير المؤمنين أو في سراية أحدٍ من خواصه. فقال الخليفة:
وحياة رأسي، كلُّ مَن ظهرت عليه هذه العملة لا بد من قتله، ولو كان ولدي. ثم إن أحمد
قماقم أخذ ما أراده، وأخذ فرمانًا بالهجوم على البيوت وتفتيشها. وأدرك شهرزاد
الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 264﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن أحمد قماقم أخذ ما أراده، وأخذ فرمانًا بالهجوم على
البيوت وتفتيشها، ونزل وبيده قضيب ثلثه من الشؤم، وثلثه من النحاس، وثلثه من
الحديد والفولاذ، وفتش سراية الخليفة، وسراية الوزير جعفر، ودار على بيوت الحجَّاب
والنواب إلى أن مر على بيت علاء الدين أبي الشامات؛ فلما سمع الضجة علاء الدين
قدام بيته قام من عند ياسمين زوجته، ونزل وفتح الباب، فوجد الوالي في كركبة، فقال
له: ما الخبر يا أمير خالد؟ فحكى له جميع القضية، فقال علاء الدين: ادخلوا بيتي
وفتشوه. فقال الوالي: العفو يا سيدي، أنت أمين، وحاشا أن يكون الأمين خائنًا. فقال
له: لا بد من تفتيش بيتي. فدخل الوالي والقضاة والشهود، وتقدَّمَ أحمد قماقم إلى
در قاعة القاعة، وجاء إلى الرخامة التي دفن تحتها الأمتعة، وأرخى القضيب على اللوح
الرخام بعزمه فانكسرت الرخامة، وإذا بشيء ينور تحتها، فقال المقدم: باسم الله ما
شاء الله، على بركة قدومنا انفتح كنز، لما أنزل إلى هذا المطلب وأنظر ما فيه. فنظر
القاضي والشهود إلى ذلك المحل فوجدوا الأمتعة بتمامها، فكتبوا ورقةً مضمونها أنهم
وجدوا الأمتعة في بيت علاء الدين، ثم وضعوا في تلك الورقة ختومهم، وأمروا بالقبض على
علاء الدين، وأخذوا عمامته من فوق رأسه، وضبطوا جميع ماله ورزقه في قائمة، وقبض
أحمد قماقم السراق على الجارية ياسمين، وكانت حاملًا من علاء الدين، وأعطاها لأمه
وقال لها: سلِّميها لخاتون امرأة الوالي. فأخذت ياسمين، ودخلت بها على زوجة
الوالي، فلما رآها حبظلم بظاظة جاءت له العافية، وقام من وقته وساعته، وفرح فرحًا
شديدًا، وتقرَّب إليها، فسحبت خنجرًا من حياصتها، وقالت له: ابعد عني وإلا أقتلك
وأقتل نفسي. فقالت لها أمه خاتون: يا عاهرة، خلي ولدي يبلغ منك مراده. فقالت لها:
يا كلبة، في أي مذهب يجوز للمرأة أن تتزوَّج باثنين؟ وأي شيء أوصل الكلاب أن تدخل
في موطن السباع؟ فزاد بالولد الغرام، وأضعفه الوَجْد والهيام، وقطع الزاد ولزم
الوسادة، فقالت لها امرأة الوالي: يا عاهرة، كيف تحسرينني على ولدي؟ لا بد من
تعذيبك، وأما علاء الدين فإنه لا بد من شنقه. فقالت لها: أنا أموت على محبته.
فقامت زوجة الوالي ونزعت عنها ما كان عليها من الصيغة وثياب الحرير، وألبستها
لباسًا من الخيش، وقميصًا من الشعر، وأنزلتها في المطبخ، وعملتها من جواري الخدمة،
وقالت لها: جزاك أنك تكسرين الحطب، وتقشرين البصل، وتحطين النار تحت الحلل. فقالت
لها: أرضى بكل عذاب وخدمة، ولا أرضى برؤية ولدك. فحنَّنَ الله عليها قلوب الجواري،
وصرن يتعاطين الخدمة عنها في المطبخ.
هذا
ما كان من أمر ياسمين، وأما ما كان من أمر علاء الدين أبي الشامات، فإنهم أخذوه هو
وأمتعة الخليفة، وساروا به إلى أن وصلوا إلى الديوان. فبينما الخليفة جالس على
الكرسي، وإذا بهم طالعون بعلاء الدين ومعه الأمتعة، فقال الخليفة: أين وجدتموها؟
فقالوا له: في وسط بيت علاء الدين أبي الشامات. فامتزج الخليفة بالغضب، وأخذ
الأمتعة فلم يجد فيها المصباح، فقال: يا علاء الدين أين المصباح؟ فقال: أنا لا
سرقت، ولا علمت، ولا رأيت، ولا معي خبر. فقال له: يا خائن، كيف أقرِّبك إليَّ
وتبعدني عنك، وأستأمنك وتخونني؟ ثم أمر بشنقه، فنزل به الوالي والمنادي ينادي
عليه: هذا جزاء، وأقل من جزاء مَن يخون الخلفاء الراشدين. فاجتمع الخلائق عند
المشنقة.
هذا
ما كان من أمر علاء الدين، وأما ما كان من أمر أحمد الدنف كبير علاء الدين، فإنه
كان قاعدًا هو وأتباعه في بستان، فبينما هم جالسون في حظ وسرور، وإذا برجل سقاء من
السقائين الذين في الديوان دخل عليهم، وقبَّل يد أحمد الدنف، وقال: يا مقدم أحمد
الدنف، أنت قاعد في صفاء والماء تحت رجليك وما عندك علم بما حصل. فقال له أحمد
الدنف: ما الخبر؟ فقال السقاء: إن ولدك في عهد الله علاء الدين نزلوا به إلى
المشنقة. فقال أحمد الدنف: ما عندك من الحيلة يا حسن يا شومان؟ فقال له: إن علاء
الدين بريء من هذا الأمر، وهذا ملعوب عليه من واحد عدو. فقال له: ما الرأي عندك؟
فقال له: خلاصه علينا إن شاء المولى. ثم إن حسن شومان ذهب إلى السجن، وقال للسجان:
أعطنا واحدًا يكون مستوجبًا للقتل. فأعطاه واحدًا كان أشبه البرايا بعلاء الدين
أبي الشامات، فغطَّى رأسه، وأخذه أحمد الدنف بينه وبين علي الزيبق المصري، وكانوا
قدَّموا علاء الدين إلى الشنق، فتقدَّمَ الدنف وحطَّ رجله على رجل المشاعلي. فقال
له المشاعلي: علي، أعطني الوسع حتى أعمل صنعتي. فقال له: يا لعين، خذ هذا الرجل
واشنقه موضع علاء الدين أبي الشامات، فإنه مظلوم، ونفدي إسماعيل بالكبش. فأخذ
المشاعلي ذلك الرجل وشنقه عوضًا عن علاء الدين، ثم إن أحمد الدنف وعليًّا الزيبق
المصري أخذَا علاء الدين وسارَا به إلى قاعة أحمد، فلما دخلوا عليه قال له علاء
الدين: جزاك الله خيرًا يا كبيري. فقال له: يا علاء الدين، ما هذا الفعل الذي
فعلته؟ وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 265﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن أحمد الدنف قال لعلاء الدين: ما هذا الفعل الذي
فعلته؟ ورحم الله مَن قال: مَن ائتمنك فلا تخنه، ولو كنت خائنًا. والخليفة مكَّنك
عنده وسمَّاك بالثقة الأمين، كيف تفعل معه هكذا وتأخذ أمتعته؟ فقال له علاء الدين:
والاسم الأعظم يا كبيري ما هي عملتي، ولا لي فيها ذنب، ولا أعرف مَن عملها. فقال
أحمد الدنف: إن هذه العملة ما عملها إلا عدو مبين، ومَن فعل شيئًا يُجازَى به،
ولكن يا علاء الدين أنت ما بقي لك إقامة في بغداد، فإن الملوك لا تُعادَى يا ولدي،
ومَن كانت الملوك في طلبه، فيا طول تعبه. فقال علاء الدين: أين أروح يا كبيري؟
فقال له: أنا أوصلك إلى الإسكندرية فإنها مباركة، وعتبتها خضراء، وعيشتها هنية.
فقال: سمعًا وطاعة يا كبيري. فقال أحمد الدنف لحسن شومان: خلِّ بالك، وإذا سأل عني
الخليفة فقل له إنه راح يطوف على البلاد. ثم أخذه وخرج من بغداد، ولم يزالا سائرين
حتى وصلا إلى الكروم والبساتين، فوجدا يهوديين من عمَّال الخليفة راكبين على
بغلتين. فقال أحمد الدنف لليهوديين: هاتا الغفر. فقال اليهوديان: نعطيك الغفر على
أي شيء؟ فقال لهما: أنا غفير هذا الوادي. فأعطاه كل واحد منهما مائة دينار، وبعد
ذلك قتلهما أحمد الدنف وأخذ البغلتين، فركب بغلة، وركب علاء الدين بغلة، وسارا إلى
مدينة أياس، فأدخلا البغلتين في خان وباتا فيه، ولما أصبح الصباح باع علاء الدين
بغلته، وأوصى البواب على بغلة أحمد الدنف، ونزلوا في مركب من مينة أياس حتى وصلوا
إلى الإسكندرية؛ فطلع أحمد الدنف ومعه علاء الدين، ومشيا في السوق، وإذا بدلَّال
يدلل على دكان، ومن داخل الدكان طبقة على تسعمائة وخمسين، فقال علاء الدين: عليَّ
بألف. فسمح له البائع، وكانت لبيت المال؛ فتسلم علاء الدين المفاتيح، وفتح الدكان،
وفتح الطبقة فوجدها مفروشة بالفرش والمساند، ورأى فيها حاصلًا فيه قلاع، وصوارٍ،
وحبال، وصناديق، وأجربة ملآنة خرزًا وودعًا، وركايات، وأطبارًا، ودبابيس، وسكاكين،
ومقصات … وغير ذلك؛ لأن صاحبه كان سقطيًّا.
فقعد
علاء الدين أبو الشامات في الدكان، وقال له أحمد الدنف: يا ولدي، الدكان والطبقة
وما فيهما صارت ملكك فاقعد فيها، وبِعْ واشترِ، ولا تنكَرِ، فإن الله تعالى بارك
في التجارة. وأقام عنده ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع أخذ خاطره، وقال له: استقر
في هذا المكان حتى أروح وأعود إليك بخبرٍ من الخليفة بالأمان عليك، وأنظر الذي عمل
معك هذا الملعوب. ثم توجَّه مسافرًا حتى وصل إلى أياس، فأخذ البغلة من الخان وسار
إلى بغداد، فاجتمع بحسن شومان وأتباعه، وقال له: يا حسن، هل الخليفة سأل عني؟
فقال: لا، ولا خطرتَ على باله. فأقام في خدمة الخليفة، وصار يستنشق الأخبار، فرأى
الخليفة التفت إلى الوزير جعفر يومًا من الأيام، وقال له: انظر يا وزير هذه العملة
التي فعلها معي علاء الدين. فقال له: يا أمير المؤمنين، أنت جازيته بالشنق، وجزاؤه
ما حل به. فقال له: يا وزير، مرادي أن أنزل وأنظره وهو مشنوق. فقال الوزير: افعل
ما شئتَ يا أمير المؤمنين. فنزل الخليفة ومعه الوزير جعفر إلى جهة المشنقة، ثم رفع
طرفه فرأى المشنوق غير علاء الدين أبي الشامات الثقة الأمين، فقال: يا وزير، هذا
ما هو علاء الدين. فقال له: كيف عرفتَ أنه غيره؟ فقال: إن علاء الدين كان قصيرًا،
وهذا طويل. فقال له الوزير: إن المشنوق يطول. فقال له: إن علاء الدين كان أبيض،
وهذا وجهه أسود. فقال له: أَمَا تعلم يا أمير المؤمنين أن الموت له غبرات؟! فأمر
بتنزيله من فوق المشنقة. فلما أنزلوه وجد مكتوبًا على كعبَيْه الاثنين: اسمي
الشيخين. فقال له: يا وزير، إن علاء الدين كان سُنِّيًّا، وهذا رافضي. فقال له:
سبحان الله علَّام الغيوب، ونحن لا نعلم هل هذا علاء الدين أم غيره؟ فأمر الخليفة
بدفنه فدفنوه، وصار علاء الدين نسيًا منسيًّا.
هذا
ما كان من أمره، وأما ما كان من أمر حبظلم بظاظة ابن الوالي، فإنه قد طال به العشق
والغرام حتى مات ووارَوْه في التراب.
وأما
ما كان من أمر الجارية ياسمين، فإنها وفت حملها، ولحقها الطلق فوضعت ولدًا ذكرًا
كأنه القمر، فقال لها الجواري: ما تسميه؟ فقالت: لو كان أبوه طيبًا كان سمَّاه،
ولكن أنا أسمِّيه أصلان. ثم إنها أرضعته اللبن عامين متتابعين، وفطمته وحبا ومشى.
فاتفق أن أمه اشتغلت بخدمة المطبخ يومًا من الأيام، فمشى الغلام ورأى سلم المقعد
فطلع عليه، وكان الأمير خالد الوالي جالسًا فأخذه، وأقعده في حجره، وسبَّح مولاه
فيما خلق وصوَّر، وتأمَّلَ وجهه فرآه أشبه البرايا بعلاء الدين أبي الشامات. ثم إن
أمه ياسمين فتَّشَتْ عليه فلم تجده، فطلعت المقعد فرأت الأمير خالدًا جالسًا
والولد في حجره يلعب، وقد ألقى الله محبة الولد في قلب الأمير خالد، فالتفت الولد
فرأى أمه فرمى نفسه عليها، فزنقه الأمير خالد في حضنه، وقال لها: تعالي يا جارية.
فلما جاءت قال لها: هذا الولد ابن مَن؟ فقالت له: هذا ولدي وثمرة فؤادي. فقال لها:
ومَن أبوه؟ فقالت: أبوه علاء الدين أبو الشامات، والآن صار ولدك. فقال لها: إن
علاء الدين كان خائنًا. فقالت: سلامته من الخيانة، حاشا وكلَّا أن يكون الأمين
خائنًا. فقال لها: إذا كبر هذا الولد وانتشأ وقال لك: مَن أبي؟ فقولي له: أنت ابن
الأمير خالد الوالي صاحب الشرطة. فقالت له: سمعًا وطاعة.
ثم
إن الأمير خالد الوالي طاهر الولد، وربَّاه وأحسن تربيته، وجاء له بفقيه خطاط
فعلَّمه الخط والقراءة، فقرأ وعاد وختم، وطلع يقول للأمير خالد: يا والدي. وصار
الوالي يعمل في الميدان، ويجمع الخيل، وينزل يعلِّم الولد أبواب الحرب ومقام الطعن
والضرب، إلى أن انتهى في الفروسية، وتعلَّم الشجاعة، وبلغ من العمر أربع عشرة سنة،
ووصل إلى درجة الإمارة، فاتفق أن أصلان اجتمع مع أحمد قماقم السراق يومًا من
الأيام، وصارا أصحابًا، فتبعه إلى الخمارة، وإذا بأحمد قماقم السراق أطلع المصباح
الجوهر الذي أخذه من أمتعة الخليفة، وحطَّه قدامه، وتناول الكأس على نوره وسكر،
فقال له أصلان: يا مقدم، أعطني هذا المصباح. فقال له: ما أقدر أن أعطيك إياه. فقال
له: لأي شيء؟ فقال: لأنه راحت على شأنه الأرواح. فقال له: أي روح راحت على شأنه؟
فقال له: كان واحد جاءنا هنا، وعمل رئيس الستين يُسمَّى علاء الدين أبا الشامات،
ومات بسبب ذلك. فقال له: وما حكايته؟ وما سبب موته؟ فقال له: كان لك أخ يُسمَّى
حبظلم بظاظة، وبلغ من العمر ستة عشر عامًا حتى استحق الزواج، وطلب أبوه أن يشتري
له جارية … وخبَّره بالقصة من أولها إلى آخرها، وأعلمه بضعف حبظلم بظاظة، وما وقع
لعلاء الدين ظلمًا. فقال أصلان في نفسه: لعل هذه الجارية ياسمين أمي، وما أبي إلا
علاء الدين أبو الشامات. فطلع الولد أصلان من عنده حزينًا، فقابَلَ المقدم أحمد
الدنف، فلما رآه أحمد الدنف قال: سبحان مَن لا شبيهَ له! فقال له حسن شومان: يا
كبيري، من أي شيء تتعجَّب؟ فقال له: من خلقة هذا الولد أصلان؛ فإنه أشبه البرايا
بعلاء الدين أبي الشامات. فنادى أحمد الدنف وقال: يا أصلان. فرَّد عليه، فقال له:
ما اسم أمك؟ فقال له: تُسمَّى الجارية ياسمين. فقال له: يا أصلان، طِبْ نفسًا
وقرَّ عينًا؛ فإنه ما أبوك إلا علاء الدين أبو الشامات، ولكن يا ولدي ادخل على أمك،
واسألها عن أبيك. فقال: سمعًا وطاعة.
ثم
دخل على أمه وسألها، فقالت له: أبوك الأمير خالد. فقال لها: ما أبي إلا علاء الدين
أبو الشامات. فبكت أمه وقالت له: مَن أخبرك بهذا يا ولدي؟ فقال: المقدم أحمد الدنف
أخبرني بذلك. فحكت له جميع ما جرى، وقالت له: يا ولدي، قد ظهر الحق واختفى الباطل،
واعلم أن أباك علاء الدين أبو الشامات، إلا أنه ما ربَّاك إلا الأمير خالد، وجعلك
ولده، فيا ولدي إن اجتمعت بالمقدم أحمد الدنف فقل له: يا كبيري، سألتك بالله أن
تأخذ لي ثأري من قاتل أبي علاء الدين أبي الشامات. فطلع من عندها وسار. وأدرك شهرزاد
الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 266﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن أصلان طلع من عند أمه وسار إلى أن دخل على المقدم
أحمد الدنف وقبَّل يده، فقال له: ما لك يا أصلان؟ فقال له: إني قد عرفت وتحقَّقت
أن أبي علاء الدين أبو الشامات، ومرادي أنك تأخذ لي ثأري من قاتله. فقال له: مَن
الذي قتل أباك؟ فقال له: أحمد قماقم السراق. فقال له: ومَن أعلمك بهذا الخبر.
فقال: رأيت معه المصباح الجوهر الذي ضاع من جملة أمتعة الخليفة، وقلت له: أعطني
هذا المصباح فما رضي، وقال لي: هذا راحت على شأنه الأرواح. وحكى لي أنه هو الذي
نزل وسرق العملة ووضعها في دار أبي. فقال له أحمد الدنف: إذا رأيت الأمير خالدًا
الوالي يلبس لباس الحرب فقل له: ألبسني مثلك. فإذا طلعت معه وأظهرت بابًا من أبواب
الشجاعة قدَّام أمير المؤمنين، فإن الخليفة يقول لك: تمنَّ عليَّ يا أصلان. فقل
له: أتمنى عليك أن تأخذ لي ثأر أبي من قاتله. فيقول لك: إن أباك حي، وهو الأمير
خالد الوالي. فقل له: إن أبي علاء الدين أبو الشامات، وخالد الوالي له عليَّ حق
التربية فقط. وأخبِرْه بجميع ما وقع بينك وبين أحمد قماقم السراق، وقل له: يا أمير
المؤمنين، اؤمر بتفتيشه وأنا أُخرِجه من جيبه. فقال له: سمعًا وطاعة.
ثم
طلع أصلان فوجد الأمير خالدًا يتجهز إلى طلوعه ديوان الخليفة، فقال له: مرادي أن
تلبسني لباس الحرب مثلك، وتأخذني معك إلى ديوان الخليفة. فألبسه وأخذه معه إلى
الديوان، ونزل الخليفة بالعسكر خارج البلد، ونصبوا الصواوين والخيام، واصطفت
الصفوف، وطلعوا بالأكرة والصولجان، فصار الفارس منهم يضرب الأكرة بالصولجان فيردها
عليه الفارس الثاني، وكان بين العسكر واحد جاسوس مُغرًى على قتل الخليفة، فأخذ
الأكرة وضربها بالصولجان، وحرَّرها على وجه الخليفة، وإذا بأصلان استلقاها عن
الخليفة وضرب بها راميها فوقعت بين أكتافه فوقع على الأرض. فقال الخليفة: بارَكَ
الله فيك يا أصلان. ثم نزلوا من على ظهور الخيل، وقعدوا على الكراسي، وأمر الخليفة
بإحضار الذي ضرب الأكرة.
فلما
حضر بين يديه قال له: مَن أغراك على هذا الأمر، وهل أنت عدو أم حبيب؟ فقال له: أنا
عدو، وكنت مُضمِرًا قتلك. فقال له: ما سبب ذلك؟ أَمَا أنت مسلم؟ فقال: لا، وإنما
أنا رافضي. فأمر الخليفة بقتله، وقال لأصلان: تمنَّ عليَّ. فقال له: أتمنى عليك أن
تأخذ لي ثأر أبي من قاتله. فقال له: إن أباك حي، وهو واقف على رجليه. فقال له: مَن
هو أبي؟ فقال له: الأمير خالد الوالي. فقال له: يا أمير المؤمنين، ما هو إلا في
التربية، وما والدي إلا علاء الدين أبو الشامات. فقال له: إن أباك كان خائنًا.
فقال: يا أمير المؤمنين، حاشا أن يكون الأمين خائنًا، وما الذي خانك فيه؟ فقال له:
سرق بدلتي وما معها. فقال: يا أمير المؤمنين، حاشا أن يكون أبي خائنًا، ولكن يا
سيدي لما عدمت بدلتك وعادت إليك، هل رأيت المصباح رجع إليك أيضًا؟ فقال: ما
وجدناه. فقال: أنا رأيته مع أحمد قماقم، وطلبته منه فلم يعطه لي، وقال: هذا راحت
عليه الأرواح. وحكى لي عن ضعف حبظلم بظاظة ابن الأمير خالد، وعشقه للجارية ياسمين،
وخلاصه من القيد، وأنه هو الذي سرق البدلة والمصباح، وأنت يا أمير المؤمنين تأخذ
لي بثأر والدي من قاتله. فقال الخليفة: اقبضوا على أحمد قماقم. فقبضوا عليه، وقال:
أين المقدم أحمد الدنف؟ فحضر بين يديه، فقال له الخليفة: فتِّشْ قماقم. فحط يدَيْه
في جيبه، فأطلع منه المصباح الجوهر. فقال الخليفة: تعال يا خائن، من أين لك هذا
المصباح؟ فقال له: اشتريته يا أمير المؤمنين. فقال له الخليفة: من أين اشتريته؟
ومَن يقدر على مثله حتى يبيعه لك؟ وضربوه فأقرَّ أنه هو الذي سرق البدلة والمصباح.
فقال له الخليفة: لأي شيء تفعل هذه الفعال يا خائن حتى ضيَّعْتَ علاء الدين أبا
الشامات، وهو الثقة الأمين؟
ثم
أمر الخليفة بالقبض عليه وعلى الوالي. فقال الوالي: يا أمير المؤمنين أنا مظلوم،
وأنت أمرتني بشنقه، ولم يكن عندي خبر هذا الملعوب، فإن التدبير كان بين العجوز
وأحمد قماقم وزوجتي، وليس عندي خبر، وأنا في جيرتك يا أصلان. فشفع فيه أصلان عند
الخليفة، ثم قال أمير المؤمنين: ما فعل الله بأم هذا الولد؟ فقال له: عندي. فقال:
أمرتك أن تأمر زوجتك أن تلبسها بدلتها وصيغتها، وتردَّها إلى سيادتها، وأن تفك
الختم الذي على بيت علاء الدين، وتعطي ابنه رزقه وماله. فقال: سمعًا وطاعة. ثم نزل
الوالي وأمر امرأته فألبستها بدلتها، وفك الختم عن بيت علاء الدين، وأعطى أصلان
المفاتيح، ثم قال الخليفة: تمنَّ عليَّ يا أصلان. فقال له: تمنيت عليك أن تجمع
شملي بأبي. فبكى الخليفة وقال: الغالب أن أباك هو الذي شُنِق ومات، ولكن وحياة جدودي
كل مَن بشَّرني بأنه على قيد الحياة أعطيته جميع ما يطلبه. فتقدَّمَ أحمد الدنف
وقبَّل الأرض بين يديه، وقال له: أعطني الأمان يا أمير المؤمنين. فقال له: عليك
الأمان. فقال: أبشِّرك أن علاء الدين أبا الشامات الثقة الأمين طيِّبٌ على قيد
الحياة. فقال له: ما الذي تقول؟ فقال له: وحياة رأسك إن كلامي حق، وفديته بغيره
ممَّن يستحق القتل، وأوصلته إلى الإسكندرية، وفتحت له دكان سقطي. فقال الخليفة:
ألزمتك أن تجيء به. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح
﴿اللیلة 267﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الخليفة قال لأحمد الدنف: ألزمتك أن تجيء به. فقال
له: سمعًا وطاعة. فأمر له الخليفة بعشرة آلاف دينار، وسار متوجهًا إلى الإسكندرية.
هذا
ما كان من أمر أصلان، وأما ما كان من أمر والده علاء الدين أبي الشامات، فإنه باع
ما كان عنده في الدكان جميعه، ولم يبقَ في الدكان إلا القليل وجراب، فنفض الجراب
فنزلت منه خرزة تملأ الكف في سلسلة من الذهب، ولها خمسة وجوه، وعليها أسماء وطلاسم
كدبيب النمل، فدعك الخمسة وجوه فلم يجاوبه أحد، فقال في نفسه: لعلها خرزة من جزع.
ثم علَّقها في الدكان، وإذا بقنصل فائت في الطريق فرفع بصره فرأى الخرزة معلقة،
فقعد على دكان علاء الدين، وقال له: يا سيدي، هل هذه الخرزة للبيع؟ فقال له: جميع
ما عندي للبيع. فقال له: أتبيع لي إياها بثمانين ألف دينار؟ فقال له علاء الدين:
يفتح الله. فقال له: أتبيعها بمائة ألف دينار؟ فقال: بعتها لك بمائة ألف دينار،
فأنقِدْني الدنانير. فقال له القنصل: ما أقدر أن أحمل ثمنها معي، والإسكندرية فيها
حرامية وشرطية، فأنت تروح معي إلى مركبي وأعطي لك الثمن، ورزمة صوف أنجوري، ورزمة
أطلس، ورزمة قطيفة، ورزمة جوخ. فقام علاء الدين وقفل الدكان بعد أن أعطى له
الخرزة، وأعطى المفاتيح لجاره وقال له: خذ هذه المفاتيح عندك أمانةً حتى أروح إلى
المركب مع هذا القنصل وأجيء بثمن خرزتي، فإن عوَّقت عنك وورد عليك المقدم أحمد
الدنف الذي كان وطَّنني في هذا المكان، فأعطه المفاتيح وأخبره بذلك. ثم توجه مع
القنصل إلى المركب، فلما نزل به المركب نصب له كرسيًّا وأجلسه عليه، وقال: هاتوا
المال. فدفع له الثمن، والخمس رزم التي وعده بها، وقال له: يا سيدي، اقصد جبري
بلقمة أو شربة ماء. فقال: إن كان عندك ماء فاسقني. فأمر بالشربات فإذا فيها بِنْج،
فلما شرب انقلب على ظهره، فرفعوا الكراسي وحطوا المداري، وحلوا القلوع، وأسعفتهم الرياح
حتى وصلوا إلى وسط البحر، فأمر القبطان بطلوع علاء الدين من العنبر فطلَّعوه،
وشمموه ضد البنج، ففتح عينيه وقال: أين أنا؟ فقال له: أنت معي مربوط وديعة، ولو
كنت تقول «يفتح الله»، لكنت أزيدك. فقال له علاء الدين: ما صناعتك؟ فقال له: أنا
قبطان، ومرادي أن آخذك إلى حبيبة قلبي.
فبينما
هما في الكلام، وإذا بمركب فيها أربعون من تجار المسلمين، فطلع القبطان بمركبه
عليهم، ووضع الكلاليب في مركبهم، ونزل هو ورجاله فنهبوها وأخذوها، وساروا بها إلى
مدينة جنوة؛ فأقبل القبطان الذي معه علاء الدين إلى باب قيطون قصر، وإذا بصبية
نازلة وهي ضاربة لثامًا، فقالت له: هل جئتَ بالخرزة وصاحبها؟ فقال لها: جئتُ بهما.
فقالت له: هات الخرزة. فأعطاها لها، وتوجه إلى المينة ورمى مدافع السلامة، فعلم
ملك المدينة بوصول ذلك القبطان، فخرج إلى مقابلته وقال له: كيف كانت سفرتك؟ فقال
له: كانت طيبة جدًّا، وقد كسبت فيها مركبًا فيها واحد وأربعون من تجار المسلمين.
فقال له: أخرجهم إلى المينة. فأخرجهم في الحديد، ومن جملتهم علاء الدين، وركب
الملك هو والقبطان، ومشَّوهم قدَّامهم إلى أن وصلوا إلى الديوان، فجلسوا وقدَّموا
أول واحد، فقال له الملك: من أين يا مسلم؟ فقال: من الإسكندرية. فقال: يا سياف
اقتله. فضربه السياف بالسيف فرمى رقبته، والثاني والثالث هكذا إلى تمام الأربعين.
وكان
علاء الدين في آخرهم فشرب حسرتهم، وقال لنفسه: رحمة الله عليك يا علاء الدين! فرغ
عمرك. فقال له الملك: وأنت من أي البلاد؟ فقال: من الإسكندرية. فقال: يا سياف ارمِ
عنقه. فرفع السياف يده بالسيف، وأراد أن يرمي رقبة علاء الدين، وإذا بعجوز ذات
هيبة تقدَّمت بين أيادي الملك، فقام إليها تعظيمًا لها. فقالت: يا ملك، أَمَا قلت
لك لما يجيء القبطان بالأسارى تذكر الدير بأسير أو بأسيرين يخدمان في الكنيسة؟
فقال لها: يا أمي، ليتك سبقت بساعة. ولكن خذي هذا الأسير الذي فضل. فالتفتت إلى
علاء الدين وقالت له: هل أنت تخدم في الكنيسة أو أخلي الملك يقتلك؟ فقال لها: أنا
أخدم في الكنيسة. فأخذته وطلعت به من الديوان، وتوجهت إلى الكنيسة، فقال لها علاء
الدين: ما أعمل من الخدمة؟ فقالت له: تقوم في الصبح وتأخذ خمسة بغال، وتسير بها
إلى الغابة، وتقطع ناشف الحطب وتكسره، وتجيء به إلى مطبخ الدير، وبعد ذلك تلم
البُسُط وتكنس، وتمسح البلاط والرخام، وترد الفرش مثلما كان، وتأخذ نصف أردب قمح
وتغربله وتطحنه وتعجنه، وتعمله منينات للدير، وتأخذ ويبة عدس تغربلها وتدشها
وتطبخها، ثم تملأ الأربع فساقي ماءً، وتحوِّل بالبرميل، وتملأ ثلاثمائة وستة وستين
قصعة، وتفت فيها المنينات وتسقيها من العدس، وتُدخِل لكل راهب أو بطرك قصعته. فقال
لها علاء الدين: ردِّيني إلى الملك وخليه يقتلني أسهل لي من هذه الخدمة. فقالت له:
إن خدمت ووفيت الخدمة التي عليك خلصت من القتل، وإن لم توفِّ خلَّيت الملك يقتلك.
فقعد
علاء الدين حامل الهم، وكان في الكنيسة عشرة عميان مكسحين، فقال له واحد منهم: هات
لي قصرية. فأتى له بها فتغوَّط فيها، وقال له: ارم الغائط. فرماه، فقال له: يبارك
فيك المسيح يا خدام الكنيسة. وإذا بالعجوز أقبلت وقالت له: لأي شيء ما وفيت الخدمة
في الكنيسة؟ فقال لها: أنا لي كم يد حتى أقدر على توفية هذه الخدمة. فقالت له: يا
مجنون، أنا ما جئت بك إلَّا للخدمة.
ثم
قالت له: خذ يا ابني هذا القضيب - وكان من النحاس، وفي رأسه صليب - واخرج إلى
الشارع، فإذا قابلك والي البلد فقل له: إني أدعوك إلى خدمة الكنيسة من أجل السيد
المسيح. فإنه لا يخالفك، فخلِّهِ يأخذ القمح ويغربله ويطحنه وينخله ويعجنه، ويخبزه
منينات، وكلُّ مَن يخالفك اضربه ولا تَخَفْ من أحد. فقال: سمعًا وطاعة. وعمل كما
قالت، ولم يزل يسخِّر الأكابر والأصاغر مدة سبعة عشر عامًا. فبينما هو قاعد في
الكنيسة، وإذا بالعجوز داخلة عليه فقالت له: اطلع إلى خارج الدير. فقال لها: أين
أروح؟ فقالت له: بِت هذه الليلة في خمارة أو عند واحد من أصحابك. فقال لها: لأي
شيء تطردينني من الكنيسة؟ فقالت له: إن حسن مريم بنت الملك يوحنا ملك هذه المدينة
مرادها أن تدخل الكنيسة للزيارة، ولا ينبغي أن يقعد أحد في طريقها. فامتثل كلامها
وقام، وأراها أنه رائح إلى خارج الكنيسة، وقال في نفسه: يا هل ترى بنت الملك مثل
نسواننا أم أحسن منهن؟ فأنا لا أروح حتى أتفرج عليها، فاختفى في مخدع له طاقة
تطلُّ على الكنيسة. فبينما هو ينظر في الكنيسة، وإذا ببنت الملك مُقبِلة، فنظر
إليها نظرةً أعقبته ألف حسرة؛ لأنه وجدها كأنها البدر إذا بزغ من تحت الغمام،
وصحبتها صبية. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 268﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن علاء الدين لما نظر إلى بنت الملك رأى بصحبتها صبية،
وهي تقول لتلك الصبية: آنست يا زبيدة. فأمعن علاء الدين النظر في تلك الصبية فرآها
زوجته زبيدة العودية التي كانت ماتت، ثم إن بنت الملك قالت لزبيدة: قومي اعملي لنا
نوبة على العود. فقالت لها: أنا لا أعمل لك نوبة حتى تبلغيني مرادي، وتفي لي بما
وعدتِني به. فقالت لها: ما الذي وعدتك به؟ قالت لها: وعدتِني بجمع شملي بزوجي علاء
الدين أبي الشامات الثقة الأمين. فقالت لها: يا زبيدة، طيبي نفسًا وقرِّي عينًا،
واعملي لنا نوبة حلاوة اجتماع شملنا بزوجك علاء الدين. فقالت لها: وأين هو؟ فقالت
لها: إنه في هذا المخدع يسمع كلامنا. فعملت نوبة على العود ترقص الحجر الجلمود،
فلما سمع ذلك علاء الدين هاجت بلابله، وخرج من المخدع وهجم عليهما، وأخذ زوجته
زبيدة العودية بالحضن، وعرفته فاعتنق الاثنان بعضهما، ووقعا على الأرض مغشيًّا
عليهما؛ فتقدمت الملكة حسن مريم ورشَّت عليهما ماء الورد وصحتهما وقالت: جمع الله
شملكما. فقال لها علاء الدين: على محبتك يا سيدتي.
ثم
التفت علاء الدين إلى زوجته زبيدة العودية وقال لها: أنت قد مت يا زبيدة، ودفناك
في القبر، فكيف حييت وجئتِ إلى هذا المكان؟ فقالت له: يا سيدي، أنا ما مت، وإنما
اختطفني عون من أعوان الجان، وطار بي إلى هذا المكان، وأما التي دفنتموها فإنها
جنية وتصوَّرت في صورتي، وعملت أنها ميتة، وبعدما دفنتموها شقَّت القبر وخرجت منه،
وراحت إلى خدمة سيدتها حسن مريم بنت الملك، وأما أنا فإني صُرِعت وفتحت عيني فرأيت
نفسي عند حسن مريم بنت الملك، وهي هذه. فقلت لها: لأي شيء جئتِ بي إلى هنا؟ فقالت
لي: أنا موعودة بزواجي بزوجك علاء الدين أبي الشامات، فهل تقبلينني يا زبيدة أن
أكون ضرتك، ويكون لي ليلة ولك ليلة؟ فقالت لها: سمعًا وطاعة يا سيدتي. ولكن أين زوجي؟
فقالت: إنه مكتوب على جبينه ما قدَّره الله عليه، فمتى استوفى ما على جبينه لا بد
أن يجيء إلى هذا المكان، ولكن نتسلى على فراقه بالنغمات، والضرب على الآلات، حتى
يجمعنا الله به. فمكثتُ عندها هذه المدة إلى أن جمع الله شملي بك في هذه الكنيسة.
ثم
إن حسن مريم التفتت إليه، وقالت له: يا سيدي علاء الدين، هل تقبلني أن أكون لك
أهلًا، وتكون لي بعلًا؟ فقال لها: يا سيدتي، أنا مسلم وأنت نصرانية، فكيف أتزوَّج
بك؟ فقالت: حاشا لله أن أكون كافرة، بل أنا مسلمة ولي ثمانية عشر عامًا وأنا
متمسكة بدين الإسلام، وإني بريئة من كل دين يخالف دين الإسلام. فقال لها: يا
سيدتي، مرادي أن أروح بلادي. فقالت له: اعلم أني رأيت مكتوبًا على جبينك أمورًا لا
بد أن تستوفيها، وتبلغ غرضك، ويهنيك يا علاء الدين أنه ظهر لك ولد اسمه أصلان، وهو
الآن جالس في مرتبتك عند الخليفة، وقد بلغ من العمر ثمانية عشر عامًا، واعلم أنه
ظهر الحق واختفى الباطل، وربنا كشف الستر عن الذي سرق أمتعة الخليفة، وهو أحمد
قماقم السراق الخائن، وهو الآن في السجن محبوس ومقيَّد، واعلم أني أنا التي أرسلتُ
إليك الخرزة، ووضعتها لك في داخل الجراب الذي في الدكان، وأنا التي أرسلت القبطان
وجاء بك وبالخرزة، واعلم أن هذا القبطان متعلق بي، ويطلب مني الوصال، فما رضيت أن
أمكِّنه من نفسي، بل قلت له: لا أمكنك من نفسي إلا إذا جئتَ لي بالخرزة وصاحبها.
وأعطيته مائة كيس، وأرسلته في صفة تاجر وهو قبطان، ولما قدموك إلى القتل بعد قتل
الأربعين الأسارى الذين كنتَ معهم، أرسلتُ إليك هذه العجوز. فقال لها: جزاك الله
عني كل خير.
ثم
إن حسن مريم جددت إسلامها على يديه، ولما عرف صدق كلامها قال لها: أخبريني عن
فضيلة هذه الخرزة ومن أين هي؟ فقالت له: هذه خرزة من كنز، مرصود فيها خمس فضائل
تنفعنا عند الاحتياج إليها، وإن جدتي أم أبي كانت ساحرة تحل الرموز، وتختلس ما في
الكنوز، فوقعت لها هذه الخرزة من كنز، فلما كبرت أنا وبلغتُ من العمر أربعة عشر
عامًا، قرأت الإنجيل وغيره من الكتب، فرأيت اسم محمد ﷺ في الأربعة كتب؛
التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان؛ فآمنت بمحمد ﷺ وأسلمت، وتحقَّقت
بعقلي أنه لا يُعبد بحقٍّ إلا الله تعالى، وأن رب الأنام لا يرضى إلا دين الإسلام،
وكانت جدتي حين ضعفت وهبت لي هذه الخرزة، وعلَّمتني بما فيها من الخمس فضائل، وقبل
أن تموت جدتي قال لها أبي: اضربي لي تخت رمل، وانظري عاقبة أمري وما يحصل لي.
فقالت له: إن البعيد يموت قتيلًا من أسير يجيء من الإسكندرية. فحلف أبي أن يقتل كل
أسير يجيء منها، وأخبر القبطان بذلك وقال له: لا بد أن تهجم على مراكب المسلمين،
وكل مَن رأيته من الإسكندرية تقتله أو تجيء به إليَّ. فامتثل أمره حتى قتل عدد شعر
رأسه، ثم هلكت جدتي فطلعت أنا، وضربت لي تخت رمل، وأضمرت ما في نفسي، وقلت: يا هل
ترى مَن يتزوج بي؟ فظهر لي أنه ما يتزوج بي إلا واحد يُسمَّى علاء الدين أبا
الشامات الثقة الأمين؛ فتعجَّبْتُ من ذلك، وصبرت إلى أنْ آنَ الأوان، واجتمعت بك.
ثم
إنه تزوَّج بها وقال لها: أنا مرادي أن أروح إلى بلادي. فقالت له: إذا كان الأمر
كذلك فتعال معي. ثم أخذته وخبَّأته في مخدع قصرها، ودخلت على أبيها. فقال لها: يا
بنتي، أنا عندي اليوم قبض زائد فاقعدي حتى أسكر معك. فقعدت ودعا بسفرة المدام،
وصارت تملأ وتسقيه حتى غاب عن الوجود، ثم إنها وضعت له البنج في قدح، فشرب القدح
وانقلب على قفاه، ثم جاءت إلى علاء الدين وأخرجته من المخدع، وقالت له: إن خصمك
مطروح على قفاه فافعل به ما شئتَ، فإني أسكرته وبنَّجته. فدخل علاء الدين فرآه
مبنَّجًا، فكتَّفه تكتيفًا وثيقًا وقيَّده، ثم أعطاه ضد البنج فأفاق منه. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 269﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن علاء الدين أعطى الملك أبا حسن مريم ضد البنج فأفاق،
فوجد علاء الدين وابنته راكبَين على صدره. فقال لها: يا بنتي، أتفعلين معي هذه
الفعال؟ فقالت له: إن كنتُ بنتك فأسلم لأنني أسلمت، وقد تبيَّنَ لي الحقُّ
فاتبعته، والباطل فاجتنبته، وقد أسلمت وجهي لله رب العالمين، وإنني بريئة من كل
دين يخالف دين الإسلام في الدنيا والآخرة، فإن أسلمتَ فحبًّا وكرامة، وإلا فقتلك
أولى من حياتك. ثم نصحه علاء الدين فأبى وتمرَّد؛ فسحب علاء الدين خنجرًا ونحره من
الوريد إلى الوريد، وكتب ورقة بصورة الذي جرى، ووضعها على جبهته، وأخذ ما خف حمله
وغلا ثمنه، وطلعا من القصر وتوجَّها إلى الكنيسة؛ فأحضرت الخرزة وحطَّت يدها على
الوجه الذي هو منقوش عليه السرير ودعكته، وإذا بسرير وضع قدَّامها، فركبت هي وعلاء
الدين وزوجته زبيدة العودية على ذلك السرير، وقالت: بحق ما كُتِب على هذه الخرزة
من الأسماء والطلاسم وعلوم الأقلام أن ترتفع بنا يا سرير. فارتفع بهم السرير، وسار
إلى وادٍ لا نباتَ فيه. فقامت الأربعة وجوه الباقية من الخرزة إلى السماء، وقلبت
الوجه المرسوم عليه السرير فنزل إلى الأرض، وقلبت الوجه المرسوم عليه هيئة صيوان
ودعكته، وقالت: لينتصب صيوان في هذا الوادي. فانتصب الصيوان وجلسوا فيه، وكان ذلك
الوادي أقفر لا نباتَ فيه ولا ماء، فقلبت الأربعة وجوه إلى السماء وقالت: بحق
أسماء الله تنبُت هنا أشجار ويجري بجانبها بحر. فنبتت الأشجار في الحال، وجرى
بجانبها بحر عجاج متلاطم بالأمواج، فتوضَّئُوا منه وصلوا وشربوا، وقلبت الثلاثة
وجوه الباقية من الخرزة إلى الوجه الذي على هيئة سفرة الطعام، وقالت: بحق أسماء
الله يُمَد السماط. وإذا بسماط امتد وفيه سائر الأطعمة الفاخرة، فأكلوا وشربوا،
وتلذَّذوا وطربوا.
هذا
ما كان من أمرهم، وأما ما كان من أمر ابن الملك، فإنه دخل ينبِّه أباه فوجده قتيلًا،
ووجد الورقة التي كتبها علاء الدين، فقرأها وعرف ما فيها، ثم فتَّش على أخته فلم
يجدها، فذهب إلى العجوز في الكنيسة وسألها عنها فقالت: من أمس ما رأيتها. فعاد إلى
العسكر وقال لهم: الخيل يا أربابها. وأخبرهم بالذي جرى؛ فركبوا الخيل وسافروا إلى
أن قربوا من الصيوان، فالتفتت حسن مريم فرأت الغبار قد سد الأقطار، وبعد أن علا
وطار انكشف فظهر من تحته أخوها والعسكر وهم ينادون: إلى أين تقصدون ونحن وراءكم؟
فقالت الصبية لعلاء الدين: كيف ثباتك في الحرب والنزال؟ فقال لها: مثل الوتد في
النخال، فإني لا أعرف الحرب والكفاح، ولا السيوف والرماح. فسحبت الخرزة ودعكت
الوجه المرسوم عليه صورة الفرس والفارس، وإذا بفارس ظهر من البر، ولم يزل فيهم
ضربًا بالسيف إلى أن كسرهم وطردهم، ثم قالت له: أتسافر إلى مصر أم إلى الإسكندرية؟
فقال: إلى الإسكندرية. فركبوا على السرير وعزَّمت عليه فسار بهم في لحظة إلى أن
نزلوا في الإسكندرية، فأدخلهم علاء الدين في مغارة وذهب إلى الإسكندرية، فأتاهم
بثياب وألبسهم إياها، وتوجَّه بهم إلى الدكان والطبقة، ثم طلع يجيء لهم بغداء،
وإذا بالمقدم أحمد الدنف قادم من بغداد، فرآه في الطريق فقابله بالعناق، وسلَّم
عليه ورحَّب به.
ثم
إن المقدم أحمد الدنف بشَّره بولده أصلان، وأنه بلغ من العمر عشرين عامًا، وحكى له
علاء الدين جميع ما جرى له من الأول إلى الآخر، وأخذه إلى الدكان والطبقة؛ فتعجب
أحمد الدنف من ذلك غاية العجب، وباتوا تلك الليلة، ولما أصبحوا باع علاء الدين
الدكان، ووضع ثمنه على ما معه، ثم إن أحمد الدنف أخبر علاء الدين بأن الخليفة
يطلبه. فقال له: أنا رائح إلى مصر أسلِّم على أبي وأمي وأهل بيتي. فركبوا السرير
جميعًا، وتوجَّهوا إلى مصر السعيدة، ونزلوا في الدرب الأصفر؛ لأن بيتهم كان في تلك
الحارة، ودق باب بيتهم، فقالت أمه: مَن بالباب بعد فَقْد الأحباب؟ فقال لها: أنا
علاء الدين. فنزلوا وأخذوه بالأحضان، ثم أدخل زوجته وما معه في البيت، وبعد ذلك
دخل وأحمد الدنف صحبته، وأخذوا لهم راحة ثلاثة أيام، ثم طلب السفر إلى بغداد، فقال
له أبوه: يا ولدي، اجلس عندي. فقال: ما أقدر على فراق ولدي أصلان. ثم إنه أخذ أباه
وأمه معه وسافروا إلى بغداد. فدخل أحمد الدنف وبشَّر الخليفة بقدوم علاء الدين،
وحكى له حكايته؛ فطلع الخليفة لملتقاه، وأخذ معه ولده أصلان، وقابلوه بالأحضان،
وأمر الخليفة بإحضار أحمد قماقم السراق، فلما حضر بين يديه قال لعلاء الدين: دونك
وخصمك. فسحب علاء الدين السيف وضرب أحمد قماقم فرمى عنقه، ثم إن الخليفة عمل لعلاء
الدين فرحًا عظيمًا بعد أن أحضر القضاة والشهود، وكتب كتابه على حسن مريم، ولما
دخل عليها وجدها درَّة لم تُثقَب، ثم جعل ولده أصلان رئيس الستين، وخلع عليهم
الخِلَع السنية، وأقاموا في أرغد عيش وأهناه إلى أن أتاهم هادم اللذَّات ومفرِّق
الجماعات.
حكاية حاتم الطائي
وأما
حكايات الكرام فإنها كثيرة جدًّا، منها ما رُوي عن حاتم الطائي أنه لما مات دُفِن
في رأس جبل، وعملوا على قبره حوضين من حجر، وصور بنات محلَّلات الشعور من حجر،
وكان تحت ذلك الجبل نهر جارٍ، فإذا نزلت الوفود يسمعون الصراخ في الليل من العشاء
إلى الصباح، فإذا أصبحوا لم يجدوا أحدًا غير البنات المصورة من الحجر. فلما نزل ذو
الكراع ملك حمير بذلك الوادي خارجًا عن عشيرته، بات تلك الليلة هناك. وأدرك شهرزاد
الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 270﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن ذا الكراع لما نزل بذلك الوادي بات تلك الليلة هناك،
وتقرَّب من ذلك الموضع فسمع الصراخ، فقال: ما هذا العويل الذي فوق هذا الجبل؟
فقالوا له: إن هذا قبر حاتم الطائي، وإن عليه حوضين من حجر وصور بنات من حجر
محلولات الشعور، وكل ليلة يسمع النازلون في هذا المكان هذا العويل والصراخ. فقال
ذو الكراع ملك حمير يهزأ بحاتم الطائي: يا حاتم، نحن الليلة ضيوفك، ونحن خماص.
فغلب عليه النوم، ثم استيقظ وهو مرعوب، وقال: يا عرب الحقوني وأدركوا راحلتي. فلما
جاءوه وجدوا الناقة تضطرب فنحروها، وشوَوْا لحمها وأكلوا، ثم سألوه عن سبب ذلك،
فقال: إني نمت فرأيت حاتمًا الطائي في المنام قد جاءني بسيف، وقال: جئتنا ولم يكن
عندنا شيء، وعقر ناقتي بالسيف، ولو لم تنحروها لماتت. فلما أصبح الصباح ركب ذو
الكراع راحلة واحد من أصحابه، ثم أردفه خلفه، فلما كان وسط النهار رأوا راكبًا على
راحلة، وفي يده راحلة أخرى، فقالوا له: مَن أنت؟ قال: أنا عدي بن حاتم الطائي. ثم
قال: أين ذو الكراع أمير حمير؟ فقالوا له: هذا هو. فقال له: اركب هذه الناقة عوضًا
عن راحلتك، فإن ناقتك قد نحرها أبي لك. قال: ومَن أخبرك؟ قال: أتاني في المنام في
هذه الليلة وقال لي: يا عدي، إن ذا الكراع ملك حمير استضافني، فنحرت له ناقته
فأدركه بناقة يركبها، فإني لم يكن عندي شيء. فأخذها ذو الكراع وتعجَّبَ من كرم
حاتم حيًّا وميتًا.
ومن
حكايات الكرام أيضًا ما يُروى عن معن بن زائدة أنه كان يومًا من الأيام في الصيد
والقنص، فعطش فلم يجد مع غلمانه ماءً، فبينما هو كذلك، وإذا بثلاث جوارٍ قد أقبلن
عليه حاملات ثلاث قِرَب ماء. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 271﴾
حكاية معن بن زائدة
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الجواري أقبلن على معن حاملات ثلاث قِرَب ماء فاستسقاهن
فأسقينه، فطلب شيئًا من غلمانه ليعطيه للجواري فلم يجد معهم مالًا؛ فدفع لكل واحدة
منهن عشرة أسهم من كنانته نصولها من الذهب، فقالت إحداهن لصاحبتيها: لم تكن هذه
الشمائل إلا لمعن بن زائدة، فَلْتَقُلْ كل واحدة منكن شيئًا من الشعر مدحًا فيه،
فقالت الأولى:
يُرَكِّبُ
فِي السِّهَامِ نُصُولَ تِبْرٍ وَيَرْمِي
لِلْعِدَى كَرَمًا وَجُودَا
فَلِلْمَرْضَى
عِلَاجٌ مِنْ جِرَاحٍ وَأَكْفَانٌ
لِمَنْ سَكَنَ اللُّحُودَا
وقالت
الثانية:
وَمُحَارِبٍ
مِنْ فَرْطِ جُودِ بَنَانِهِ عَمَّتْ
مَكَارِمُهُ الْأَحِبَّةَ وَالْعِدَى
صِيغَتْ
نُصُولُ سِهَامِهِ مِنْ عَسْجَدٍ كَيْ
لَا تُعَوِّقُهُ الْحُرُوبُ عَنِ النَّدَى
وقالت
الثالثة:
وَمِنْ
جُودِهِ يَرْمِي الْعِدَاةَ بِأَسْهُمٍ
مِنَ الذَّهَبِ الْإِبْرِيزِ صِيغَتْ نُصُولُهَا
لِيُنْفِقَهَا
الْمَجْرُوحُ عِنْدَ دَوَائِهِ وَيَشْتَرِيَ
الْأَكْفَانَ مِنْهَا قَتِيلُهَا
وقيل
إن معن بن زائدة خرج في جماعته إلى الصيد، فقرب منهم قطيع ظباء فافترقوا في طلبه،
وانفرد معن خلف ظبي، فلما ظفر به نزل فذبحه، فرأى شخصًا مقبلًا من البرية على
حمار، فركب فرسه واستقبله فسلَّم عليه وقال له: من أين أتيت؟ قال له: أتيت من أرض
قضاعة، وإن لها مدة من السنين مجدبة، وقد أخصبت في هذه السنة فزرعت فيها مقاتًا
فطرحت في غير وقتها، فجمعت منها ما استحسنته من القثاء، وقصدتُ الأميرَ معن بن
زائدة لكرمه المشهور، ومعروفه المأثور. فقال له: كم أملت منه؟ قال: ألف دينار.
فقال له: فإن قال لك هذا القدر كثير؟ قال: خمسمائة دينار. قال: فإن قال لك كثير؟
قال: ثلاثمائة دينار. قال: فإن قال لك كثير؟ قال: مائتي دينار. قال: فإن قال لك
كثير؟ قال: مائة دينار. قال: فإن قال لك كثير؟ قال: خمسين دينارًا. قال: فإن قال
لك كثير؟ قال: ثلاثين دينارًا. قال: فإن قال لك كثير؟ قال: أدخلت قوائم حماري في
حرمه ورجعت إلى أهلي صفر اليدين. فضحك معن من كلامه وساق جواده حتى لحق بعسكره،
ونزل في منزله، وقال لحاجبه: إذا أتاك شخص على حمار بقثاء فأدخله عليَّ. فأتى ذلك
الرجل بعد ساعة فأذن له الحاجب بالدخول، فلما دخل على الأمير معن لم يعرف أنه هو
الذي قابله في البرية لهيبته وجلالته وكثرة خدمه وحشمه، وهو متصدِّر في دست
مملكته، والحفدة قيام عن يمينه وعن شماله وبين يديه، فلما سلم عليه قال له الأمير:
ما الذي أتي بك يا أخا العرب؟ قال: أملت الأمير، وأتيت له بقثاء في غير أوانها.
فقال له: كم أملت منَّا؟ قال: ألف دينار. قال: هذا القدر كثير. قال: خمسمائة
دينار. قال: كثير. قال: ثلاثمائة دينار. قال: كثير. قال: مائتي دينار. قال: كثير،
قال: مائة دينار. قال: كثير. قال: خمسين دينارًا. قال: كثير. قال: ثلاثين دينارًا.
قال: كثير. قال: والله لقد كان ذلك الرجل الذي قابلني في البرية مشئومًا، أفلا أقل
من ثلاثين دينارًا؛ فضحك معن وسكت. فعلم الأعرابي أنه هو الرجل الذي قابله في
البرية، فقال له: يا سيدي، إذا لم تجئ بالثلاثين دينارًا فها هو الحمار مربوط بالباب،
وها معن جالس. فضحك معن حتى استلقى على قفاه، ثم استدعى بوكيله وقال: أعطه ألف
دينار، وخمسمائة دينار، وثلاثمائة دينار، ومائتي دينار، ومائة دينار، وخمسين
دينارًا، وثلاثين دينارًا، ودع الحمار مربوطًا مكانه. فبُهت الأعرابي، وتسلَّم
الألفين ومائة دينار وثمانين دينارًا. فرحمة الله عليهم أجمعين.
حكاية بلدة لبطة
وبلغني
أيها الملك السعيد، أن بلدةً يقال لها لبطة، وكانت دار مملكة بالروم، وكان فيها
قصر مقفول دائمًا، وكلما مات ملك وتولى بعده ملك آخَر من الروم رمى عليه قفلًا
محكمًا، فاجتمع على الباب أربعة وعشرون قفلًا، من كل ملك قفل. ثم تولى بعدهم رجل
ليس من أهل بيت المملكة، فأراد فتح تلك الأقفال ليرى ما داخل ذلك القصر، فمنعه من
ذلك أكابر الدولة، وأنكروا عليه وزجروه، فأبى وقال: لا بد من فتح ذلك القصر.
فبذلوا له جميع ما بأيديهم من نفائس الأموال والذخائر على عدم فتحه، فلم يرجع.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 272﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن أهل المملكة بذلوا لذلك الملك جميع ما في أيديهم من
الأموال والذخائر على عدم فتح ذلك القصر فلم يرجع عن فتحه، ثم إنه أزال الأقفال
وفتح الباب، فوجد فيه صور العرب على خيلها وجمالها، وعليهم العمائم المسبلة، وهم
مقلَّدون بالسيوف، وبأيديهم الرماح الطوال، ووجد كتابًا فيه، فأخذ الكتاب وقرأه
فوجد مكتوبًا فيه: إذا فُتِح هذا الباب يغلب على هذه الناحية قوم من العرب، وهم
على هيئة هذه الصورة، فالحذر ثم الحذر من فتحه. وكانت تلك المدينة بالأندلس،
ففتحها طارق بن زياد في تلك السنة في خلافة الوليد بن عبد الملك من بني أمية، وقتل
ذلك الملك أقبح قتلة، ونهب بلاده، وسبى مَن بها من النساء والغلمان، وغنم أموالها،
ووجد فيها ذخائر عظيمة، فيها ما ينوف عن مائة وسبعين تاجًا من الدر والياقوت، ووجد
فيها أحجارًا نفيسة، وإيوانًا ترمح فيه الخيل برماحهم، ووجد بها من أواني الذهب
والفضة ما لا يحيط به وصف، ووجد بها المائدة التي كانت لنبي الله سليمان بن داود
عليهما السلام، وكانت على ما ذكر من زمرد أخضر، وهذه المائدة إلى الآن باقية في
مدينة روما، وأوانيها من الذهب، وصحافها من الزبرجد ونفيس الجواهر، ووجد فيها
الزبور مكتوبًا بخط يوناني في ورق من الذهب مفصَّص بالجواهر، ووجد فيها كتابًا
يُذكَر فيه منافع الأحجار والنبات، والمدائن والقرى، والطلاسم، وعلم الكيمياء من
الذهب والفضة، ووجد كتابًا آخر يُحكى فيه صناعة صياغة اليواقيت والأحجار، وتركيب
السموم والترياقات، وصورة شكل الأرض والبحار والبلدان والمعادن، ووجد فيها قاعة
كبيرة ملآنة من الإكسير الذي الدرهم منه يقلب ألف درهم من الفضة ذهبًا خالصًا،
ووجد بها مرآة كبيرة مستديرة عجيبة مصنوعة من أخلاط صُنِعت لنبي الله سليمان بن
داود عليهما السلام، إذا نظر الناظر فيها رأى الأقاليم السبعة عيانًا، ووجد فيها
ليوانًا فيه من الياقوت البهرماني ما لا يحيط به وصف؛ فحمل ذلك كله إلى الوليد بن
عبد الملك، وتفرَّق العرب في مدنها، وهي من أعظم البلاد.
حكاية الخليفة والأعرابي
ومما
يُحكى أيضًا أن هشام بن عبد الملك بن مروان كان ذهب إلى الصيد في بعض الأيام، فنظر
إلى ظبي فتبعه بالكلاب، فبينما هو خلف الظبي إذ نظر إلى صبي من الأعراب يرعى
غنمًا، فقال هشام لبعض غلمانه: يا غلام، دونك هذا الصبي فَأْتِني به. فرفع رأسه
إليه وقال: يا جاهل بقدر الأخيار، لقد نظرت إليَّ بالاستصغار، وكلَّمتني
بالاحتقار، فكلامك كلام جبار، وفعلك فعل حمار. فقال له هشام: ويلك! أَمَا تعرفني؟
فقال: قد عرَّفني بك سوءُ أدبك؛ إذ بدأتني بكلامك دون سلامك. فقال له: ويلك! أنا
هشام بن عبد الملك. فقال له الأعرابي: لا قرَّبَ الله ديارك، ولا حيَّا مزارك، فما
أكثر كلامك وأقل إكرامك! فما استتم كلامه حتى أحدقت به الجند من كل جانب، وكل واحد
منهم يقول: السلام عليك يا أمير المؤمنين. فقال هشام: أقصروا عن هذا الكلام،
واحفظوا هذا الغلام. فقبضوا عليه، فلما رأى الغلام كثرة الحجَّاب والوزراء وأرباب
الدولة لم يكترث بهم، ولم يسأل عنهم، بل جعل ذقنه على صدره، ونظر حيث يقع قدمه إلى
أن وصل إلى هشام، فوقف بين يديه، ونكس رأسه إلى الأرض، وسكت عن السلام، وامتنع من
الكلام. فقال له بعض الخدام: يا كلب العرب، ما منعك أن تسلم على أمير المؤمنين؟
فالتفت إلى الخادم مغضبًا وقال: يا برذعة الحمار، منعني من ذلك طول الطريق، وصعود
الدرجة والتعريق. فقال هشام وقد تزايد به الغضب: يا صبي، لقد حضرتَ في يوم حضر فيه
أجَلُك، وغاب عنك أملك، وانصرف عمرك. فقال: والله يا هشام، لئن كان في المدة
تأخير، ولم يكن في الأصل تقصير، فما ضرَّني من كلامك لا قليل ولا كثير. فقال له
الحاجب: هل بلغ من مقامك يا أخس العرب أن تخاطب أمير المؤمنين كلمة بكلمة؟ فقال
مسرعًا: لقيتَ الخبل، ولا فارقك الويل والهبل، أَمَا سمعت ما قال الله
تعالى: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا؟ فعند ذلك
اغتاظ هشام غيظًا شديدًا وقال: يا سيَّاف، عليَّ برأس هذا الغلام؛ فإنه أكثر
بالكلام، ولم يخشَ الملام. فأخذ الغلام ونزل به إلى نطع الدم، وسلَّ سيفه على رأسه
وقال: يا أمير المؤمنين، هذا عبدك المدل بنفسه، الصائر إلى رمسه، هل أضرب عنقه
وأنا بريء من دمه؟ قال: نعم. فاستأذن ثانيًا فأذن له، فاستأذن ثالثًا ففهم الفتى
أنه إن أذن له في هذه المرة يقتله؛ فضحك حتى بدت نواجذه، فازداد هشام غضبًا، وقال:
يا صبي، أظنك معتوهًا، أَمَا ترى أنك مفارق الدنيا؟ فكيف تضحك هزءًا بنفسك؟ فقال:
يا أمير المؤمنين، لئن كان في العمر تأخير لا يضرُّني قليل ولا كثير، ولكن حضرتني
أبيات فاسمعها، فإنَّ قتلي لا يفوتك. فقال هشام: هاتِ وأوجز. فأنشد هذه الأبيات:
نُبِّئْتُ
أَنَّ الْبَازَ صَادَفَ مَرَّةً عُصْفُورَ
حَقْلٍ سَاقَهُ الْمَقْدُورُ
فَتَكَلَّمَ
الْعُصْفُورُ فِي أَظْفَارِهِ وَالْبَازُ
مُنْهَمِكٌ عَلَيْهِ يَطِيرُ
مَا
فِيَّ مَا يُغْنِي لِمِثْلِكَ شَبْعَةً
وَلَئِنْ أُكِلْتُ فَإِنَّنِي لَحَقِيرُ
فَتَبَسَّمَ
الْبَازُ الْمُدِلُّ بِنَفْسِهِ عَجَبًا
وَأَفْلَتَ ذَلِكَ الْعُصْفُورُ
فتبسم
هشام وقال: وحق قرابتي من رسول الله ﷺ لو تلفَّظ بهذا اللفظ في أول
كلامه وطلب ما دون الخلافة لأعطيته إياه، يا خادم، احْشُ فاه جوهرًا، وأَحْسِن
جائزته. فأعطاه الخادم صلة عظيمة، فأخذها وانصرف إلى حال سبيله. انتهى.
حكاية إبراهيم بن المهدي
ومن
لطيف الحكايات أن إبراهيم بن المهدي أخا هارون الرشيد، لما آل أمر الخلافة إلى
المأمون ابن أخيه هارون الرشيد لم يبايعه، بل ذهب إلى الري وادَّعى الخلافة لنفسه،
وأقام على ذلك سنة واحدة وأحد عشر شهرًا واثني عشر يومًا، وابن أخيه المأمون يتوقع
منه العود إلى الطاعة وانتظامه في سلك الجماعة حتى يئس من عوده، فركب بخيله ورجله
وذهب إلى الري، فلما بلغ إبراهيم الخبرُ، لم يسعه إلا أنه ذهب إلى بغداد واختفى
خوفًا على دمه، فجعل المأمون لمَن يدل عليه مائة ألف دينار، قال إبراهيم: لما
سمعتُ بهذه الجعالة خفتُ على نفسي … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام
المباح.
﴿اللیلة 273﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن إبراهيم قال: لما سمعت بهذه الجعالة خفتُ على نفسي
وتحيَّرت في أمري، فخرجت من داري وقت الظهيرة وأنا لا أدري أين أتوجه، فدخلت
شارعًا غير نافذ، فرأيت في صدر الدرب رجلًا حلاقًا قائمًا على باب داره، فتقدمتُ
إليه وقلت له: هل عندك موضع أختفي فيه ساعة؟ قال: نعم. وفتح الباب فدخلت إلى بيت
نظيف، ثم إنه بعد أن أدخلني، أغلق عليَّ الباب ومضى، فتوهمت أنه سمع بالجعالة،
فقلت في نفسي: إنه خرج يدل عليَّ. فبقيت أغلي مثل القدر على النار وأنا متفكر في
أمري، فبينما أنا كذلك إذ أقبل وصحبته حمال معه كل ما يحتاج إليه، ثم التفت إليَّ
وقال لي: جُعِلت فداك.
قال
إبراهيم: وكان لي حاجة إلى الطعام فطبخت لنفسي قدرًا ما أذكر أني أكلتُ مثلها،
فلما قضيت أربي من الطعام قال: يا سيدي، ليس من قدري أني أحادثك، فإن أردت أن تشرف
عبدك، فلَكَ علوُّ الرأي. فقلت له وما أظن أنه يعرفني: ومن أين لك أني أحسن
المسامرة؟ فقال: سبحان الله، مولانا أشهر من ذلك، أنت سيدي إبراهيم بن المهدي الذي
جعل فيك المأمون لمَن دلَّ عليك مائة ألف دينار. قال إبراهيم: فلما قال ذلك، عظم
في عيني وثبتت مروءته عندي، فوافقته على بغيته، وخطر ببالي ذكر ولدي وعيالي، فجعلت
أقول:
وَعَسَى
الَّذِي أَهْدَى لِيُوسُفَ أَهْلَهُ
وَأَعَزَّهُ فِي السِّجْنِ وَهْوَ أَسِيرُ
أَنْ
يَسْتَجِيبَ لَنَا وَيَجْمَعَ شَمْلَنَا
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَدِيرُ
فلما
سمع ذلك مني قال: يا سيدي، أتأذن لي أن أقول ما سنح بخاطري؟ فقلت له: هات. فأنشد
هذه الأبيات:
شَكَوْنَا
إِلَى أَحْبَابِنَا طُولَ لَيْلِنَا
فَقَالُوا لَنَا: مَا أَقْصَرَ اللَّيْلَ عِنْدَنَا
وَذَاكَ
لِأَنَّ النَّوْمَ يَغْشَى عُيُونَنَا
سَرِيعًا وَلَا يَغْشَى الْهَنَاءُ قُلُوبَنَا
إِذَا
مَا دَنَا اللَّيْلُ الْمُضِرُّ بِذِي الْهَوَى حَزِنَا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ إِذَا
دَنَا
فَلَوْ
أَنَّهُمْ كَانُوا يُلَاقُونَ مِثْلَ مَا
نُلَاقِي لَكَانُوا فِي الْمَضَاجِعِ مِثْلَنَا
قال
إبراهيم: فقلت له: لقد أحسنتَ كلَّ الإحسان، وأذهبتَ عني ألمَ الأحزان، فزدني من
هذه الترهات. فأنشد هذه الأبيات:
تُعَيِّرُنَا
أَنَّا قَلِيلٌ عَدِيدُنَا فَقُلْتُ
لَهَا: إِنَّ الْكِرَامَ قَلِيلُ
وَمَا
ضَرَّنَا أَنَّا قَلِيلٌ وَجَارُنَا
عَزِيزٌ وَجَارُ الْأَكْثَرِينَ ذَلِيلُ
وَإِنَّا
لَقَوْمٌ لَا نَرَى الْقَتْلَ سُنَّةً
إِذَا مَا رَأَتْهُ عَامِرٌ وَسَلُولُ
يُقَرِّبُ
حُبُّ الْمَوْتِ آجَالَنَا لَنَا وَتَكْرَهُهُ
آجَالُهُمْ فَتَطُولُ
وَنُنْكِرُ
إِنْ شِئْنَا عَلَى النَّاسِ قَوْلَهُمْ
وَلَا يُنْكِرُونَ الْقَوْلَ حِينَ نَقُولُ
قال
إبراهيم: فلما سمعتُ منه هذا الشعر، تعجَّبْتُ منه غاية العجب ومال بي عظيم الطرب،
وأخذت خريطة كانت صحبتي فيها دنانير كثيرة، ورميت بها إليه وقلت له: أستودعك الله،
فإني متوجِّه من عندك وأسألك أن تصرف ما في هذه الخريطة في بعض مهماتك، ولك عندي
الجزاء الزائد إذا أمنت من خوفي. فردَّ عليَّ الخريطة وقال: يا سيدي، إن الصعاليك
منَّا لا قدرَ لهم عندكم، ولكن بمقتضى مروءتي كيف آخذ ثمنًا على ما وهبه لي الزمان
من قربك وحلولك عندي؟ واللهِ لئن راجعتني في هذا الكلام ورميت بالخريطة إليَّ مرةً
أخرى لَأقتلن نفسي. قال إبراهيم: فأخذت الخريطة في كمي وقد أثقلني حملها. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 274﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن إبراهيم بن المهدي قال: فأخذت الخريطة في كمي وقد
أثقلني حملها وانصرفت، فلما انتهيت إلى باب داره قال: يا سيدي، هذا المكان أخفي لك
من غيره، وليس عليَّ في مئونتك ثقل، فأَقِمْ عندي إلى أن يفرِّج الله عنك. فقلت
له: بشرط أن تنفق من تلك الخريطة. فأوهمني الرضا بذاك الشرط، ثم أقمتُ عنده أيامًا
على تلك الحالة ولم يصرف من الخريطة شيئًا، ثم تزيَّيْتُ بزيِّ النساء كالخف
والنقاب وخرجت من داره، فلما صرتُ في الطريق داخَلَني من الخوف أمر شديد، وجئتُ
لأعبر الجسر، وإذا أنا بموضع مرشوش، فنظرني جندي ممن كان يخدمني فعرفني وصاح وقال:
هذه حاجة المأمون. ثم تعلَّقَ بي، فدفعته هو وفرسه ورميتهما في ذلك الزلق وصار
عبرةً لمَن اعتبر، وتبادرت الناس إليه، فاجتهدت أنا في مشيتي حتى قطعت الجسر، ثم
دخلتُ شارعًا فوجدت باب دار وامرأة واقفة في دهليز، فقلت: يا سيدتي، احقني دمي
فإني رجل خائف. فقالت: لا بأس عليك. وأطلعتني إلى غرفة وفرشت لي فيها، وقدَّمت لي
طعامًا وقالت لي: ليهدأ روعك. فبينما هي كذلك وإذا بالباب يدق دقًّا عنيفًا، فخرجتُ
وفتحتُ الباب، وإذا بصاحبي الذي دفعته على الجسر مقبل وهو مشدود الرأس ودمه يجري
على ثيابه، وليس معه فرسه، فقالت له: يا هذا ما دهاك؟ فقال: كنتُ ظفرت بالفتى
وانفلت مني. وأخبرها بالحال، فأخرجت خرقة وعصبت بها رأسه وفرشت له ونام عليلًا، ثم
طلعت إليَّ وقالت لي: أظنك صاحب القضية. فقلت لها: نعم. فقالت: لا بأس عليك. ثم
جدَّدَتْ لي الكرامة، فأقمتُ عندها ثلاثةَ أيام، ثم قالت: إني خائفة عليك من هذا
الرجل لئلا يطلع عليك فتقع فيما تخافه، فَانْجُ بنفسك. فسألتها المهلة إلى الليل
فقالت: لا بأس بذلك.
فلما
دخل الليل، لبست زيَّ النساء وخرجتُ من عندها، فأتيت إلى بيت مولاة كانت لنا، فلما
رأتني بكت وتوجعت وحمدت الله تعالى على سلامتي، وخرجت وكأنها تريد السوق للاهتمام
بالضيافة، فما شعرت إلا وإبراهيم الموصلي مقبل في غلمانه وجنده وامرأة قدامهم،
فتأمَّلْتُها فإذا هي المولاة صاحبة الدار التي أنا بها، ولم تزل ماشية قدامهم حتى
سلَّمتني إليهم، وحُمِلت بالزي الذي أنا فيه إلى المأمون، فعقد مجلسًا عامًّا
وأدخلني عليه، فلما دخلت سلَّمت عليه بالخلافة فقال: لا سلَّمَك الله ولا حيَّاك.
فقلت له: على رسلك يا أمير المؤمنين، إنك ولي الأمر فتحكم في القصاص والعفو، ولكن
العفو أقرب للتقوى، وقد جعل الله عفوك فوق كل عفوٍ، كما جعل ذنبي فوق كل ذنب يا
أمير المؤمنين، فإنْ تأخذ فبحقك، وإنْ تعفُ فبفضلك. ثم أنشدت هذه الأبيات:
ذَنْبِي
إِلَيْكَ عَظِيمٌ وَأَنْتَ أَعْظَمُ
مِنْهُ
فَخُذْ
بِحَقِّكَ أَوْ لَا وَاصْفَحْ بِحِلْمِكَ عَنْهُ
إِنْ
لَمْ أَكُنْ فِي فِعَالِي مِنَ
الْكِرَامِ فَكُنْهُ
قال
إبراهيم: فرفع المأمون إليَّ رأسه، فبادرت إليه بإنشاد هذين البيتين:
أَتَيْتُ
ذَنْبًا عَظِيمًا وَأَنْتَ
لِلْعَفْوِ أَهْلُ
فَإِنْ
عَفَوْتَ فَمَنٌّ وَإِنْ جَزَيْتَ فَعَدْلُ
فأطرق
المأمون رأسه وأنشد هذين البيتين:
وَكُنْتُ
إِذَا الصَّدِيقُ أَرَادَ غَيْظِي وَأَشْرَقَنِي
عَلَى حَنَقِي بِرِيقِي
غَفَرْتُ
ذُنُوبَهُ وَعَفَوْتُ عَنْهُ مَخَافَةَ
أَنْ أَعِيشَ بِلَا صَدِيقِ
فلما
سمعت منه هذا الكلام استروحت منه رائحة الرحمة، ثم أقبل على ابن عمه وأخيه أبي
إسحاق وجميع مَن حضر من خاصته وقال لهم: ما ترون في أمره؟ فكلٌّ أشار عليه بقتلي
إلا أنهم اختلفوا في كيفية القتل. فقال المأمون لأحمد بن خالد: ما تقول يا أحمد؟
فقال: يا أمير المؤمنين، إنْ قتلتَه وجدنا مثلك قتَلَ مثلَه، وإنْ عفوتَ عنه فما
وجدنا مثلك عفا عن مثله.
فقالت
دنيازاد لأختها شهرزاد: ما أحسن حديثك وأطيبه وأحلاه وأعذبه! فقالت: وأين هذا مما
أحدِّثكم به الليلة القابلة إنْ عشتُ وأبقاني الملك. فقال الملك في نفسه: والله لا
أقتلها حتى أسمع بقية حديثها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 275﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن شهرزاد قالت: وأين هذا مما أحدثكم به الليلة القابلة؟
فقالت لها أختها: يا أختي، أتممي لنا حديثك. فقالت: حبًّا وكرامة. ثم قالت: بلغني
أيها الملك السعيد، أن أمير المؤمنين المأمون لما سمع كلام أحمد بن خالد، نكس رأسه
وأنشد قول الشاعر:
قُومِي
هُمُ قَتَلُوا أُمَيْمَ أَخِي فَإِذَا
رَمَيْتُ يُصِيبُنِي سَهْمِي
وأنشد
أيضًا قول الشاعر:
سَامِحْ
أَخَاكَ إِذَا خَلَطْ مِنْهُ
الْإِصَابَةَ بِالْغَلَطْ
وَاحْفَظْ
صَنِيعَكَ عِنْدَهُ شَكَرَ
الصَّنِيعَةَ أَمْ غَمَطْ
وَتَجَافَ
عَنْ تَعْنِيفِهِ إِنْ زَاغَ
يَوْمًا أَوْ قَسَطْ
أَوَمَا
تَرَى الْمَحْبُوبَ وَالْــمَكْرُوهَ
لَذَّا فِي نَمَطْ
وَلَذَاذَةُ
الْعُمْرِ الطَّوِيــلِ يَشُوبُهَا
نَغْصُ الشَّمَطْ
وَالْوَرْدُ
يَبْدُو فِي الْغُصُونِ مَعَ
الْجَنِيِّ الْمُلْتَقَطْ
مَنْ
ذَا الَّذِي مَا سَاءَ قَطُّ وَمَنْ
لَهُ الْحُسْنَى فَقَطْ
وَلَوِ
اخْتَبَرْتَ بَنِي الزَّمَانِ وَجَدْتَ
أَكْثَرَهُمْ سَقَطْ
فلما
سمعت منه هذه الأبيات، كشفت المقنعة عن رأسي وكبَّرْتُ تكبيرة عظيمة، وقلت: عفا
الله عنك يا أمير المؤمنين. فقال: لا بأس عليك يا عم. فقلت: ذنبي يا أمير المؤمنين
أعظم من أن أتفوَّه معه بعُذْرٍ، وعفوك أعظم من أن أنطق معه بشكر. وأطربتُ
بالنغمات وأنشدتُ هذه الأبيات:
إِنَّ
الَّذِي خَلَقَ الْمَكَارِمَ حَازَهَا
فِي صُلْبِ آدَمَ لِلْإِمَامِ السَّابِعِ
مُلِئَتْ
قُلُوبُ النَّاسِ مِنْكَ مَهَابَةً وَالْكُلُّ
تَكْلَؤُهُمْ بِقَلْبٍ خَاشِعِ
مَا
إِنْ عَصَيْتُكَ وَالْغِوَايَةُ غَامِرِي
أَسْبَابُهَا إِلَّا بِنِيَّةِ طَامِعِ
فَعَفَوْتُ
عَنْ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ مِثْلَهُ
عَفْوٌ وَلَمْ يَشْفَعْ إِلَيْكَ بِشَافِعِ
وَرَحَمْتَ
أَفْرَاخًا كَأَفْرَاخِ الْقَطَا وَحَنِينَ
وَالِدَةٍ بِقَلْبٍ جَازِعِ
فقال
المأمون: أقول اقتداءً بسيدنا يوسف على نبينا وعليه الصلاة والسلام: لا تثريب
عليكم اليومَ، يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، وقد رددتُ عليك أموالَك وضياعَك
يا عم، ولا بأس عليك. فابتهلْتُ له بصالح الدعوات، وأنشدت هذه الأبيات:
رَدَدْتَ
مَالِي وَلَمْ تَبْخَلْ عَلَيَّ بِهِ
وَقَبْلَ رَدِّكَ مَالِي قَدْ حَقَنْتَ دَمِي
فَلَوْ
بَذَلْتُ دَمِي أَبْغِي رِضَاكَ بِهِ
وَالْمَالَ حَتَّى أَسُلَّ النَّعْلَ مِنْ قَدَمِي
فَإِنْ
جَحَدْتُكَ مَا أَوْلَيْتَ مِنْ نِعَمٍ
إِنِّي إِلَى اللُّؤْمِ أَوْلَى مِنْكَ بِالْكَرَمِ
فأكرمه
المأمون وأنعم عليه وقال له: يا عم، إن أبا إسحاق والعباس أشارَا عليَّ بقتلك.
فقلت: إن أبا إسحاق والعباس نصحاك يا أمير المؤمنين، ولكنك أتيتَ بما أنت أهله،
ودفعت ما خفت بما رجوت. فقال المأمون: إني أمت حقدي بحياتك وقد عفوتُ عنك ولم
أحملك منَّة الشافعين. ثم سجد المأمون طويلًا ورفع رأسه وقال: يا عمي، أتدري لأي
شيء سجدتُ؟ قلت: لعلَّك سجدتَ شكرًا لله الذي ظفرك بعدوك. فقال: ما أردتُ ذلك،
ولكن شكر الله الذي ألهمني العفو عنك. قال إبراهيم: فشرحت له صورة أمري وما جرى لي
مع الحجام، والجندي وزوجته، والمولاة التي غمزت عليَّ، فأمر المأمون بإحضار
المولاة، وهي في دارها تنتظر إرسال الجائزة إليها، فلما حضرت بين يدَيِ المأمون
قال لها: ما حملك على ما فعلتِ مع سيدك؟ قالت: الرغبة في المال. فقال: هل لك ولد
أو زوج؟ فقالت: لا. فأمر بضربها مائة سوط وأن تخلد في السجن، ثم أحضر الجندي
وامرأته والحجام فحضروا جميعًا، فسأل الجندي عن السبب الذي حمله على ما فعل، فقال:
الرغبة في المال. فقال المأمون: يجب أن تكون حجَّامًا، ووكل به مَن يضعه في دكان
حجام ليعلِّمه الحجامة، وأكرم زوجة الجندي وأدخلها القصر وقال: هذه امرأة عاقلة
تصلح للمهمات. ثم قال للحجَّام: قد ظهر من مروءتك ما يُوجِب المبالغة في إكرامك.
وأمر أن يُسلَّم إليه دار الجندي، وأعطاه زيادةً على ذلك خمسة عشر ألف دينار.
حكاية عبد الله بن أبي قلابة وإرم ذات العماد
وحُكِي
أن عبد الله بن أبي قلابة خرج في طلب إبل شردت له، فبينما هو سائر في صحارى أراضي
اليمن وأرض سبأ، إذا به وقع على مدينة عظيمة وحولها حصن عظيم، وحول ذلك الحصن قصور
شاهقة في الجو، فلما دنا منها ظنَّ أن بها سكانًا يسألهم عن إبله فقصدها، فلما وصل
إليها وجدها قفراء ليس فيها أنيس. قال: فنزلت عن ناقتي … وأدرك شهرزاد الصباح
فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 276﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن عبد الله بن أبي قلابة قال: فنزلت عن ناقتي وعقلتها،
ثم سليت نفسي ودخلت البلد ودنوتُ من الحصن، فوجدت له بابين عظيمين لم يَرَ في
الدنيا مثلهما في العِظَم والارتفاع، وهما مرصَّعان بأنواع الجواهر واليواقيت ما
بين أبيض وأحمر وأصفر وأخضر، فلما رأيتُ ذلك تعجَّبْتُ منه غاية العجب، وتعاظمني
ذلك الأمر، فدخلت الحصن وأنا مرعوب ذاهل اللب، فرأيت ذلك الحصن طويلًا مديدًا مثل
المدينة في السعة، وبه قصور شاهقة، في كل قصر منها غُرَف وكلها مبنِيَّة بالذهب
والفضة، ومرصَّعة باليواقيت والزبرجد واللؤلؤ والجواهر الملوَّنة، ومصاريع أبواب
تلك القصور كمصاريع الحصن في الحُسْن، وقد فُرِشت أرضها باللآلئ الكبار، وبنادق
المسك والعنبر والزعفران، فلما انتهيت إلى داخل المدينة لم أَرَ بها مخلوقًا من
بني آدم، فكدت أن أموت من الفزع، ثم نظرت من أعالي الغرف والقصور فرأيت الأنهار
تجري من تحتها، وشوارعها فيها الأشجار المثمرات والنخيل الباسقات، وبناؤها لبنة من
ذهب ولبنة من فضة، فقلت في نفسي: لا شك أن هذه هي الجنة الموعود بها في الآخرة.
فحملت من جواهر حصبائها ومسك ترابها ما أمكنني حمله، وعدتُ إلى بلادي وأعلمت الناس
بذلك، فبلغ الخبر إلى معاوية بن أبي سفيان وهو يؤمئذٍ خليفة بالحجاز، فكتب إلى
عامله بصنعاء اليمن: أن أحضِرْ ذلك الرجل واسأله عن حقيقة الأمر. فأحضرني عامله
واستخبرني عمَّا كان من أمري وما وقع لي، فأخبرته بما رأيته، فأرسلني إلى معاوية
فأخبرته أيضًا بما رأيته، فأنكر ذلك معاوية، فأظهرت له شيئًا من ذلك اللؤلؤ وبنادق
العنبر والمسك والزعفران، وفيها بعض رائحة طيبة، ولكن اللؤلؤ قد اصفرَّ وتغيَّرَ
لونه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 277﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن عبد الله بن أبي قلابة قال: ولكن اللؤلؤ قد اصفرَّ
وتغيَّرَ لونه، فتعجَّبَ من ذلك معاوية بن أبي سفيان لما رأى مع أبي قلابة اللؤلؤ
وبنادق المسك والعنبر، وبعث إلى كعب الأحبار فأحضره وقال له: يا كعب الأحبار، إني
دعوتك لأمر أطلب تحقيقه، وأرجو أن يكون عندك حقيقة خبره. فقال له: ما هو يا أمير المؤمنين؟
قال له معاوية: هل عندك علم بأنه يوجد مدينة مبنِيَّة بالذهب والفضة، عمدانها من
الزبرجد والياقوت، وحصباؤها من اللؤلؤ وبنادق المسك والعنبر والزعفران؟ قال: نعم
يا أمير المؤمنين، هي إرم ذات العماد، التي لم يُخلَق مثلها في البلاد، وقد بناها
شداد بن عاد الأكبر. قال معاوية: حدِّثنا بشيء من حديثها.
قال
كعب الأحبار: إن عاد الأكبر كان له ولدان شديد وشداد، فلما هلك أبوهما، ملك البلاد
بعده شديد وأخوه شداد، ولم يكن أحد من ملوك الأرض إلا تحت طاعتهما، فمات شديد بن
عاد فملك أخوه شداد الأرض من بعده على الانفراد، وكان مولعًا بقراءة الكتب
القديمة، فلما مر به ذِكْرُ الآخرة والجنة، وما فيهما من القصور والغُرَف والأشجار
والثمار وغيرها مما في الجنة، دعته نفسه إلى أن يبني مثلها في الدنيا على هذه
الهيئة المتقدم ذكرها، وكان تحت يه مائة ألف ملك، تحت يد كل ملك مائة ألف قهرمان، تحت
يد كل قهرمان مائة ألف عسكر، فأحضر الجميع بين يديه وقال لهم: إني أسمع في الكتب
القديمة والأخبار بصفة الجنة التي توجد في الآخرة، وأنا أحب أن أجعل مثلها في
الدنيا، فانطلِقوا إلى أطيب فلاة في الأرض وأوسعها، وابنوا لي فيها مدينة من الذهب
والفضة، واجعلوا حصاها الزبرجد والياقوت واللؤلؤ، واجعلوا تحت عقود تلك المدينة
أعمدة من زبرجد واملَئُوها قصورًا، واجعلوا فوق القصور غرفًا، واغرسوا تحت القصور
في أزقتها وشوارعها أصناف الأشجار المختلفة الأثمار اليانعة، وأجروا تحتها الأنهار
في قنوات الذهب والفضة. قالوا جميعهم: كيف نقدر على ما وصفتَ لنا؟ وكيف بالزبرجد
والياقوت واللؤلؤ الذي ذكرتَ؟ قال: ألستم تعلمون أن ملوك الدنيا طوعًا لي وتحت
يدي، وكل مَن فيها لا يخالف أمري؟ قالوا: نِعْمَ ذلك. قال: فانطلِقوا إلى معادن
الزبرجد والياقوت. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 278﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن شداد قال لجماعته: انطلِقوا إلى معادن الزبرجد
والياقوت واللؤلؤ والذهب والفضة، فاستخرجوها واجمعوا ما بها من الأرض ولا تبقوا
مجهودًا مع ذلك، فخذوا ما بأيدي العالم من أصناف ذلك ولا تبقوا ولا تذروا واحذروا
المخالفة. ثم كتب كتابًا إلى كل ملك كان في أقطار الأرض، وأمرهم أن يجمعوا ما كان
عند الناس من أصناف ذلك، وأن يذهبوا إلى معادنها ويستخرجوا ما فيها من الأحجار
النفيسة، ولو من قعور البحار، فجمعوا ذلك في مدة عشرين سنة، وكان عدة الملوك
المتمكنين في الأرض ثلاثمائة وستين ملكًا، ثم أخرج المهندسين والحكماء والفعلاء
والصناع من سائر البلاد والبقاع، وانتشروا في البراري والقفار والجهات والأقطار
حتى وصلوا إلى صحراء فيها فسحة عظيمة نقية خالية من الآكام والجبال، وبها عيون
نافعة وأنهار جارية، فقالوا: هذه صفة الأرض التي أمَرَنا بها الملكُ وندبنا إليها.
ثم اشتغلوا ببنائها على قدر ما أمرهم به الملك شداد ملك الأرض في الطول والعرض،
وأجروا بها قنوات الأنهار، ووضعوا الأساسات على المقدار المذكور، وأرسل إليها
ملوكُ الأقطارِ الجواهرَ والأحجار، واللآلئ الكبار والصغار، والعتيق والنضار على
الجمال في البراري والقفار، وأرسلوا بها السفن الكبار في البحار، ووصل إلى العمال
من تلك الأصناف ما لا يُوصَف ولا يُحصَى ولا يُكيَّف، فأقاموا في عمل ذلك ثلاثمائة
سنة، فلما فرغوا من ذلك أتوا إلى الملك وأخبروه بالإتمام، فقال لهم: انطلِقوا
فاجعلوا عليها حصنًا منيعًا شاهقًا رفيعًا، واجعلوا حول الحصن ألف قصر، تحت كل قصر
ألف علم، ليكون في كل قصر منها وزير. فمضوا من وقتهم وفعلوا في عشرين سنة، ثم
حضروا بين يدَيْ شداد وأخبروه بحصول الغرض، فأمر وزراءه وهم ألف، وكذلك أمر خاصته
ومَن يثق به من الجنود وغيرهم؛ أن يستعِدُّوا للرحلة ويتهيَّئُوا للنقلة إلى إرم
ذات العماد، تحت ركاب ملك الدنيا شداد بن عاد، وأمَرَ مَن أراد من نسائه وحريمه
كجواريه وخدمه أن يأخذوا في التهجير، فأقاموا في أخذ الأهبة عشرين سنة، ثم سار
شداد ومَن معه من الجيوش … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 279﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن شدادًا بن عاد سار هو ومَن معه من الجيوش مسرورًا
ببلوغ المرام، حتى بقي بينه وبين إرم ذات العماد مرحلة، فأرسل الله عليه وعلى مَن
معه من الكفرة الجاحدين صيحةً من سماء قدرته، فأهلكتهم جميعًا بصوت عظيم، ولم يصل
شداد ولا أحد ممَّن كان معه إليها ولم يشرف عليها، ومحا الله آثار محجتها فهي
باقية على حالها في مكانها إلى قيام الساعة. فتعجَّبَ معاوية من أخبار كعب الأحبار
بهذا الخبر، وقال له: هل يصل أحد إلى تلك المدينة من البشر؟ قال: نعم. رجل من
أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام، وهو بصفة هذا الرجل الجالس بلا شك ولا إيهام.
وقال الشعبي: حُكِي عن علماء حمير من اليمن أنه لما هلك شداد ومَن معه من الصيحة،
ملك بعده ابنه شداد الأصغر، وكان أبوه شداد الأكبر خلفه على ملكه بأرض حضرموت
وسبأ، بعد أن ارتحل بمَن معه من العساكر إلى إرم ذات العماد، فلما بلغه خبر موت
أبيه في الطريق قبل وصوله إلى مدينة إرم، أمر بحمل أبيه من تلك المفاوز إلى
حضرموت، وأمر أن يُحفَر له حفيرة في مغارة، فلما حفروا تلك الحفيرة وضعه فيها على
سرير من الذهب، وألقى عليه سبعين حلة منسوجة بالذهب مرصَّعة بنفيس الجواهر، ووضع
عند رأسه لوحًا من الذهب مكتوبًا فيه هذا الشعر:
اعْتَبِرْ
يَا أَيُّهَا الْمَغْـ ـرُورُ
بِالْعُمْرِ الْمَدِيدِ
أَنَّ
شَدَّادُ بْنُ عَادٍ صَاحِبُ
الْحِصْنِ الْعَمِيدِ
صَاحِبُ
الْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ وَالْبَأْسِ
الشَّدِيدِ
كَانَ
أَهْلُ الْأَرْضِ طَوْعِي خَوْفَ
قَهْرِي وَوَعِيدِي
وَمَلَكْتُ
الشَّرْقَ وَالْغَرْبَ بِسُلْطَانٍ
شَدِيدِ
فَدَعَانَا
لِلْهُدَى مَنْ جَاءَ بِالْأَمْرِ
الرَّشِيدِ
فَعَصَيْنَاهُ
وَقُلْنَا لَيْسَ عَنْهُ مِنْ
مَحِيدِ
فَأَتَتْنَا
صَيْحَةٌ مِنْ جَانِبِ الْأُفْقِ
الْبَعِيدِ
فَتَرَامَيْنَا
كَزَرْعٍ وَسْطَ بَيْدَا فِي
الْحَصِيدِ
وَانْتَظَرْنَا
تَحْتَ أَطْبَاقِ الثَّرَى يَوْمَ
الْوَعِيدِ
قال
الثعالبي: واتفق أن رجلين دخلا هذه المغارة فوجدَا في صدرها دَرَجًا فنزلا، فوجدا حفيرة
طولها مقدار مائة ذراع، وعرضها أربعون ذراعًا، وارتفاعها مائة ذراع، وفي وسط تلك
الحفيرة سرير من الذهب، وعليه رجل عظيم الجسم قد أخذ طول السرير وعرضه، وعليه
الحلي والحلل المنسوجة بالذهب والفضة، وعلى رأسه لوح من ذهب فيه كتابة؛ فأخذَا ذلك
اللوح وحملا من ذلك الموضع ما أطاقا حمله من قضبان الذهب والفضة وغير ذلك.
زواج المأمون
ومما
يُحكَى أن إسحاق الموصلي قال: خرجت ليلة من عند المأمون متوجِّهًا إلى بيتي
فضايقني حصر البول، فعمدت إلى زقاق وقمت أبول خوفًا أن يضرَّ بي شيء، إذ جلست في
جانب الحيطان فرأيت شيئًا معلَّقًا من تلك الدور، فلمسته لأعرف ما هو فوجدته
زنبيلًا كبيرًا بأربعة آذان ملبسًا ديباجًا، فقلت في نفسي: لا بد لهذا من سبب.
وصرت متحيرًا في أمري، فحملني السُّكْر على أن أجلس فيه، فجلستُ فيه وإذا بأصحاب
الدار جذبوه بي، وظنوا أنني الذي كانوا يرتقبونه، ثم رفعوا الزنبيل إلى رأس
الحائط، وإذا بأربع جوارٍ يقلن لي: انزل على الرحب والسعة. ومشت بين يدي جارية
بشمعة حتى نزلت إلى دار فيها مجالس مفروشة لم أَرَ مثلها إلا في دار الخلافة،
فجلست فما شعرت بعد ساعة إلا بستور قد رُفِعت في ناحية من الجدار، وإذا بوصائف
يتماشين وفي أيديهن الشموع ومجامر البخور من العود القاقلي، وبينهن جارية كأنها
البدر الطالع، فنهضَتْ وقالت: مرحبًا بك من زائر! ثم أجلستني وسألتني عن خبري،
فقلت لها: إني انصرفت من عند بعض إخواني، وغرَّ بي الوقت، وحصرني البول في الطريق،
فملت إلى هذا الزقاق فوجدتُ زنبيلًا مُلقًى فأجلسني النبيذ في الزنبيل، ورُفِع بي
الزنبيل إلى هذه الدار، هذا ما كان من أمري. فقالت: لا ضير عليك، وأرجو أن تحمد
عاقبة أمرك. ثم قالت لي: فما صناعتك؟ فقلت: تاجر في سوق بغداد. فقالت: هل تروي من
الأشعار شيئًا؟ قلتُ: أروي شيئًا ضعيفًا. قالت: فذاكِرْنا فيه، وأنشدنا شيئًا منه.
فقلت: إن للداخل دهشة، ولكن تبدئين أنتِ. قالت: صدقتَ. ثم أنشدت شعرًا رقيقًا من
كلام القدماء والمحدثين، وهو من أجود أقاويلهم، وأنا أسمع ولا أدري أأعجب من
حُسْنها وجمالها أم من حُسْن روايتها؟ ثم قالت: هل ذهب ما كان عندك من الدهشة؟
قلت: إي والله. قالت: إنْ شئتَ فأنشدنا شيئًا من روايتك. فأنشدتها لجماعة من
القدماء ما فيه الكفاية، فاستحسنت ذلك، ثم قالت: والله ما ظننتُ أن يوجد في أبناء
السوقة مثل هذا. ثم أمرَتْ بالطعام.
فقالت
لها أختها دنيازاد: ما أحلى حديثك، وأحسنه، وأطيبه، وأعذبه! فقالت: وأين هذا ممَّا
أحدِّثكم به الليلة القابلة إنْ عشتُ وأبقاني الملك؟ وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ
عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 280﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن إسحاق الموصلي قال: ثم إن الجارية أمرَتْ بإحضار
الطعام فحضر؛ فجعلت تأخذ وتضع قدَّامي، وكان في المجلس من أصناف الرياحين وغريب
الفواكه ما لا يكون إلا عند الملوك، ثم دعت بالشراب فشربت قدحًا، ثم ناولتني قدحًا
وقالت: هذا أوان المذاكرة والأخبار. فاندفعتُ أذاكرها وقلت: بلغني أنه كان كذا
وكذا، وكان رجل يقول كذا، حتى حكيت لها عدة أخبار حسان، فانسرَّتْ بذلك وقالت: إني
لَأعجب كيف يكون أحد من التجار يحفظ مثل هذه الأخبار، وإنما هي أحاديث ملوك. فقلت:
كان لي جار يحادث الملوك وينادمهم، وإذا تعطَّلَ حضرتُ بيته، فربما حدَّث بما
سمعت. فقالت: لعمري لقد أحسنتَ الحفظ.
ثم
أخذنا في المذاكرة، وكلما أسكت ابتدأت هي حتى قطعنا أكثر الليل، وبخور العود يعبق،
وأنا في حالةٍ لو توهَّمَها المأمون لَطار شوقًا إليها، فقالت لي: إنك من ألطف
الرجال وأظرفهم؛ لأنك ذو أدب بارع، وما بقي إلا شيء واحد. فقلت لها: وما هو؟ قالت:
لو كنتَ تترنم بالأشعار على العود. فقلت لها: إني كنتُ تعلَّقت بهذا قديمًا، ولكن
لمَّا لم أُرزَق حظًّا فيه أعرضتُ عنه وفي قلبي منه حرارة، وكنت أحب في هذا المجلس
أن أُحسِن شيئًا منه لتكمل ليلتي. قالت: كأنك عرضت بإحضار العود. فقلت: الرأي لك،
وأنت صاحبة الفضل، ولك المنة في ذلك. فأمرت بعود فحضر، وغنَّت بصوت ما سمعتُ بمثل
حُسْنه مع حُسْن الأدب وجودة الضرب والكمال الراجح، ثم قالت: هل تعرف هذا الصوت
لمَن؟ وهل تعرف الشعر لمَن؟ قلتُ: لا. قالت: الشعر لفلان، والمغنى لإسحاق. قلت:
وهل إسحاق - جُعِلتُ فداكِ - بهذه الصفة؟ قالت: بخٍ بخٍ! إسحاق بارع في
هذا الشأن. فقلت: سبحان الله الذي أعطى هذا الرجل ما لم يُعْطِه أحدًا سواه! قالت:
فكيف لو سمعتَ هذا الصوت منه! ثم لم نزل على ذلك حتى إذا كان انشقاق الفجر أقبلَتْ
عليها عجوز كأنها داية لها، وقالت: إن الوقت قد حضر. فنهضت عند قولها، وقالت:
لتستر ما كان منَّا، فإن المجالس بالأمانات. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن
الكلام المباح.
﴿اللیلة 281﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية قالت: لتستر ما كان منَّا، فإن المجالس
بالأمانات. فقلتُ لها: جُعِلت فداكِ، لم أكن محتاجًا إلى وصية في ذلك. ثم
ودَّعْتُها وأرسلت جارية تمشي بين يدي إلى باب الدار، ففتحت لي وخرجت متوجِّهًا
إلى داري، فصلَّيْتُ الصبح ونمت، فأتاني رسول المأمون فسرت إليه، وأقمت نهاري
عنده، فلما كان وقت العشاء تفكَّرت ما كنتُ فيه البارحة، وهو شيء لا يصبر عنه إلا
جاهل؛ فخرجتُ وجئتُ إلى الزنبيل وجلست فيه، ورُفِعت إلى موضعي الذي كنتُ فيه
البارحة، فقالت لي الجارية: لقد عاودت. فقلت: لا أظن، إلا أنني قد غفلت. ثم أخذنا
في المحادثة على عادتنا في الليلة السالفة من المذاكرة والمناشدة وغريب الحكايات
منها ومني إلى الفجر، ثم انصرفت إلى منزلي، وصلَّيت الصبح ونمت، فأتى رسول المأمون
فمضيتُ إليه، وأقمتُ نهاري عنده. فلما كان وقت العشاء قال لي أمير المؤمنين:
أقسمتُ عليك أن تجلس حتى أذهب إلى غرضٍ وأحضر. فلما ذهب الخليفة وغاب عني، جالت
وساوسي، وتذكَّرت ما كنت فيه، فهان عليَّ ما يحصل لي من أمير المؤمنين؛ فوثبت
مدبرًا وخرجت جاريًا حتى وصلت إلى الزنبيل فجلست فيه، ورُفِع بي إلى مجلسي، فقالت:
لعلك صديقنا. قلت: إي والله. قالت: أجعلتنا دارَ إقامةٍ؟ قلت: جُعِلتُ فداكِ! حقُّ
الضيافة ثلاثة أيام، فإن رجعت بعد ذلك فأنتم في حِلٍّ من دمي. ثم جلسنا على تلك
الحالة، فلما قرب الوقت علمت أن المأمون لا بد أن يسألني فلا يقنع إلا بشرح القصة.
فقلت لها: أراك ممَّن يعجب بالغناء، ولي ابن عم أحسن مني وجهًا، وأشرف قدرًا،
وأكثر أدبًا، وهو أعرف خلق الله تعالى بإسحاق. قالت: أطفيليٌّ وتقترح؟ قلت لها:
أنت المحكَّمة في الأمر. فقالت: إن كان ابن عمك على ما تصفه فما نكره معرفته. ثم
جاء الوقت فنهضت، وقمت متوجهًا إلى داري، فلم أصل إلى داري إلا ورُسُل المأمون قد
هجموا عليَّ وحملوني حملًا عنيفًا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 282﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن إسحاق الموصلي قال: فلم أصل إلى داري إلا ورُسُل
المأمون قد هجموا عليَّ وحملوني حملًا عنيفًا، وذهبوا بي إليه، فوجدته قاعدًا على
كرسي وهو مغتاظ مني، فقال: يا إسحاق، أخروجًا عن الطاعة؟ فقلت: لا والله يا أمير
المؤمنين. قال: فما قصتك؟ اصدُقني الخبر. فقلت: نعم، ولكن في خلوة. فأومأ إلى مَن
بين يدَيْه فتنحَّوْا، فحدَّثته الحديث وقلت له: إني وعدتها بحضورك. قال: أحسنتَ.
ثم أخذنا في لذتنا ذلك اليوم، والمأمون متعلق القلب بها، فما صدقنا بمجيء الوقت،
وسرنا وأنا أوصيه وأقول له: تجنَّبْ أن تناديني باسمي قدَّامها، بل أنا لك تبع في
حضرتها. واتفقنا على ذلك، ثم سرنا إلى أن أتينا مكانَ الزنبيل، فوجدنا زنبيلين
فقعدنا فيهما، ورُفِعا بنا إلى الموضع المعهود، فأقبلَتْ وسلَّمَتْ علينا، فلما
رآها المأمون تحيَّرَ من حُسْنها وجمالها، وأخذت تذاكره الأخبار، وتناشده الأشعار،
ثم أحضرت النبيذ فشربنا وهي مقبلة عليه مسرورة به، وهو أيضًا مقبل عليها مسرور
بها، ثم أخذَتِ العود وغنَّت طريقة، وبعد ذلك قالت لي: وهل ابن عمك من التجار
(وأشارت إلى المأمون)؟ قلت: نعم. قالت: إنكما لَقريبَا الشبه من بعضكما. قلت: نعم.
فلما شرب المأمون ثلاثة أرطال داخَلَه الفرحُ والطربُ، فصاح وقال: يا إسحاق. قلت:
لبيك يا أمير المؤمنين. قال: غنِّ بهذه الطريقة. فلما علمَتْ أنه الخليفة مضت إلى
مكان ودخلت فيه، فلما فرغتُ من الغناء، قال لي المأمون: انظر مَن ربُّ هذه الدار.
فبادرَتْ عجوز بالجواب وقالت: هي للحسن بن سهل. فقال: عليَّ به. فغابت العجوز
ساعة، وإذا بالحسن قد حضر. فقال له المأمون: ألك بنت؟ قال: نعم، اسمها خديجة. قال
له: هل هي متزوجة؟ قال: لا والله. قال: فإني أخطبها منك. قال: هي جاريتك، وأمرها
إليك يا أمير المؤمنين. قال الخليفة: قد تزوَّجْتُها على نقد ثلاثين ألف دينار
تُحمَل إليك صبيحة يومنا هذا، فإذا قبضت المال فاحملها إلينا من ليلتها. قال:
سمعًا وطاعة. ثم خرجنا فقال: يا إسحاق، لا تقصَّ هذا الحديث على أحدٍ. فسترتُه إلى
أن مات المأمون، فما اجتمع لأحد مثل ما اجتمع لي هذه الأربعة أيام: مجالسة المأمون
بالنهار، ومجالسة خديجة بالليل، والله ما رأيت أحدًا من الرجال مثل المأمون، ولا
شاهدتُ امرأة من النساء مثل خديجة، بل ولا تُقارِب خديجة فهمًا، ولا عقلًا، ولا
لفظًا. والله أعلم.
حكاية الحشاش والسيدة النبيلة
ومما
يُحكَى أنه كان أوان الحج والناس في الطواف، فبينما المطاف مزدحم بالناس وإذا
بإنسان متعلق بأستار الكعبة وهو يقول من صميم قلبه: أسألك يا ألله أنها تغضب على زوجها
وأجامعها. قال: فسمعه جماعة من الحجاج فقبضوا عليه وأتوا به إلى أمير الحاج بعد أن
أشبعوه ضربًا، وقالوا له: أيها الأمير، إنا وجدنا هذا في الأماكن الشريفة يقول كذا
وكذا. فأمر أمير الحاج بشنقه، فقال له: أيها الأمير، بحق رسول الله ﷺ أن
تسمع قصتي وحديثي، وبعد ذلك فافعل بي ما تريد. قال: تحدَّثْ. قال: اعلم أيها
الأمير أنني رجل حشاش أعمل في مسالخ الغنم، فأحمل الدم والوسخ إلى الكيمان، فاتفق
أنني رائح بحماري يومًا من الأيام وهو محمَّل، فوجدت الناس هاربين، فقال واحد
منهم: ادخل هذا الزقاق لئلا يقتلوك. فقلت: ما للناس هاربين؟ فقال لي واحد خدام:
هذا حريم لبعض الأكابر. وصار الخدم يُنحُّون الناس من الطريق قدَّامها، ويضربون
جميع الناس، ولا يبالون بأحد، فدخلت بالحمار عطفة … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ
عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 283﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الرجل قال: فدخلت بالحمار عطفة، ووقفت أنتظر انفضاض
الزحمة، فرأيت الخدم وبأيديهم العصي، ومعهم نحو ثلاثين امرأة وبينهم واحدة كأنها
قضيب بان، كاملة الحسن والظرف والدلال، والجميع في خدمتها. فلما وصلت إلى باب
العطفة التي أنا واقف بها التفتَتْ يمينًا وشمالًا، ثم دعت بطواشي فحضر بين يديها
فسارَّتْه في أذنه، وإذا بالطواشي جاء إليَّ وقبض عليَّ، فتهاربت الناس، وإذا
بطواشي آخَر أخذ حماري ومضى به، ثم جاء الطواشي وربطني بحبل وجرَّني خلفه، وأنا لم
أعرف ما الخبر، والناس من خلفنا يصيحون ويقولون: ما يحل من الله، هذا رجل حشاش
فقير الحال، ما سبب ربطه بالحبال؟ ويقولون للطواشية: ارحموه يرحمكم الله تعالى،
وأطلقوه. فقلت أنا في نفسي: ما أخذني الطواشية إلا لأن سيدتهم شمت رائحة الوسخ
فاشمأزت من ذلك، أو تكون حبلى أو حصل لها ضرر، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم. وما زلتُ ماشيًا خلفهم إلى أن وصلوا إلى باب دار كبيرة فدخلوا وأنا خلفهم،
واستمروا داخلين بي حتى وصلت إلى قاعة كبيرة ما أعرف كيف أصف محاسنها، وهي مفروشة
بفرش عظيم. ثم دخلت النساء تلك القاعة وأنا مربوط مع الطواشي، فقلت في نفسي: لا بد
أنهم يعاقبونني في هذا البيت حتى أموت، ولا يدري بموتي أحد. ثم بعد ذلك أدخلوني
حمَّامًا لطيفًا من داخل القاعة، فبينما أنا في الحمام، وإذا بثلاث جوارٍ دخلن
وقعدن حولي، وقلن لي: اقلع شراميطك. فقلعت ما عليَّ من الخلقان، وصارت واحدة منهن
تحُكُّ رجلي، وواحدة منهن تغسل رأسي، وواحدة تكبسني، فلما فرغن من ذلك حطوا لي
بقجة قماش، وقالوا لي: البس هذه. فقلت، والله ما أعرف كيف ألبس. فتقدَّمْنَ إليَّ
وألبسنني وهنَّ يتضاحكن عليَّ، ثم جئن بقماقم مملوءة بماء الورد ورششن عليَّ،
وخرجتُ معهن إلى قاعة أخرى، والله ما أعرف كيف أصف محاسنها من كثرة ما فيها من
النقش والفرش؛ فلما دخلت تلك القاعة وجدت واحدة قاعدة على تخت من الخيزران. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 284﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الرجل قال: لما دخلت تلك القاعة وجدت واحدة قاعدة على
تخت من الخيزران، قوائمه من عاج، وبين يديها جملة جوارٍ، فلما رأتني قامت إليَّ
ونادتني فجئتُ عندها، فأمرتني بالجلوس فجلست إلى جانبها، وأمرت الجواري أن يقدِّمن
الطعام، فقدمن لي طعامًا فاخرًا من سائر الألوان ما أعرف اسمه، ولا أعرف صفته في
عمري، فأكلت منه على قدر كفايتي، وبعد رفع الزبادي وغسل الأيادي أمرَتْ بإحضار
الفواكه، فحضرت بين يديها في الحال، فأمرتني بالأكل فأكلت، فلما فرغنا من الأكل
أمرَتْ بعض الجواري بإحضار سلاحيات الشراب، فأحضرن شيئًا مختلف الألوان، ثم أطلقن
المباخر من جميع البخور، وقامت جارية مثل القمر تسقينا على نغمات الأوتار، فسكرت
أنا وتلك السيدة الجالسة. كل ذلك جرى وأنا أعتقد أنه حلم في المنام، ثم بعد ذلك
أشارت إلى بعض الجواري أن يفرشن لنا في مكان، ففرشن في المكان الذي أمرَتْ به، ثم
قامت وأخذت بيدي إلى ذلك المكان المفروش، ونامت ونمت معها إلى الصباح، وكنت كلما
ضممتها إلى صدري أشم منها رائحة المسك والطيب، وما أعتقد إلا أني في الجنة أو أنني
أحلم في المنام. فلما أصبحت سألتني عن مكاني فقلت: في المحل الفلاني. فأمرت
بخروجي، وأعطتني منديلًا مطرزًا بالذهب والفضة، وعليه شيء مربوط، فقالت لي: ادخل
الحمام بهذا. ففرحت وقلت في نفسي: إن كان ما عليه خمسة فلوس فهي غدائي في هذا
اليوم. ثم خرجت من عندها كأني خارج من الجنة، وجئت إلى المخزن الذي أنا فيه، ففتحت
المنديل فوجدتُ فيه خمسين مثقالًا من الذهب، فدفنْتُها وقعدتُ عند الباب بعد أن
اشتريت بفلسين خبزًا وأُدمًا وتغدَّيت، ثم صرت متفكرًا في أمري.
فبينما
أنا كذلك إلى وقت العصر، وإذا بجارية قد أتت وقالت لي: إن سيدتي تطلبك. فخرجت معها
إلى باب الدار واستأذنت لي، فدخلت وقبَّلت الأرض بين يديها فأمرتني بالجلوس، وأمرت
بإحضار الطعام والشراب على العادة، ثم نمت معها على جري العادة التي تقدَّمت أول
ليلة. فلما أصبحت ناولتني منديلًا ثانيًا فيه خمسون مثقالًا من الذهب، فأخذتها
وخرجت وجئتُ إلى المخزن ودفنتها، ومكثتُ على هذه الحالة مدة ثمانية أيام، أدخل
عندها في كلِّ يومٍ العصرَ، وأخرج من عندها في أول النهار. فبينما أنا نائم عندها
ليلة ثامن يوم، وإذا بجارية دخلت وهي تجري، وقالت لي: قم اطلع إلى هذه الطبقة.
فطلعت إلى تلك الطبقة فوجدتها تشرف على وجه الطريق، فبينما أنا جالس، وإذا بضجة
عظيمة، ودربكة خيل في الزقاق، وكان في الطبقة طاقة تشرف على الباب، فنظرت منها
فرأيت شابًّا راكبًا كأنه القمر الطالع ليلة تمامه، وبين يدَيْه مماليك وجند يمشون
في خدمته، فتقدَّم إلى الباب وترجَّل ودخل القاعة، فرآها قاعدة على السرير، فقبَّل
الأرض بين يديها، ثم تقدَّمَ وقبَّل يدها فلم تكلِّمه، فما برح يتخضَّع لها حتى
صالحها ونام عندها تلك الليلة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 285﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الصبية لما صالحها زوجها نام عندها تلك الليلة، فلما
أصبح الصباح أتته الجنود، وركب وخرج من الباب، فطلعت عندي وقالت لي: أرأيت هذا؟
قلت لها: نعم. قالت: هو زوجي، وأحكي لك ما جرى لي معه؛ اتفق أنني كنتُ أنا وإياه
يومًا قاعدين في الجنينة داخل البيت، وإذا هو قد قام من جانبي وغاب عني ساعة
طويلة، فاستبطأته فقلت في نفسي: لعله يكون في بيت الخلاء. فنهضت إلى بيت الخلاء
فلم أجده، فدخلت المطبخ فرأيت جارية فسألتها عنه فأرتني إياه وهو راقد مع جارية من
جواري المطبخ، فعند ذلك حلفت يمينًا عظيمةً إنني لا بد أن أزني مع أوسخ الناس
وأقذرهم، ويوم قبض عليك الطواشي كان لي أربعة أيام وأنا أدوِّر في البلد على واحد
يكون بهذه الصفة، فما وجدتُ أحدًا أوسخ ولا أقذر منك؛ فطلبتُك، وقد كان ما كان من
قضاء الله علينا، وقد خلصت من اليمين التي حلفتها. ثم قالت: فمتى وقع زوجي على
الجارية ورقَدَ معها مرةً أخرى أعدْتُك إلى ما كنتَ عليه معي. فلما سمعتُ منها هذا
الكلام، ورمَتْ قلبي من لحاظها بالسهام، جرت دموعي حتى قرحت المحاجر، وأنشدتُ قول
الشاعر:
مَكِّنِينِي
مِنْ بَوْسِ يُسْرَاكِ عَشْرًا وَاعْرِفِي
فَضْلَهَا عَلَى يُمْنَاكِ
إِنَّ
يُسْرَاكِ لَهْيَ أَقْرَبُ عَهْدًا وَقْتَ
غَسْلِ الْخَرَا بِمُسْتَنْجَاكِ
ثم
إنها أمرت بخروجي من عندها، وقد تحصَّل لي منها أربعمائة مثقال من الذهب، فأنا
أصرف منها، وجئت إلى ها هنا أدعو الله سبحانه وتعالى أنَّ زوجها يعود إلى الجارية
مرةً أخرى، لعلِّي أعود إلى ما كنتُ عليه. فلما سمع أمير الحاج قصة الرجل أطلقه،
وقال للحاضرين: بالله عليكم أن تدعوا له فإنه معذور.
حكاية الخليفة المزور
ومما
يُحكَى أن الخليفة هارون الرشيد قلق ليلة من الليالي قلقًا شديدًا، فاستدعى وزيره
جعفر البرمكي وقال له: إن صدري ضيِّق، ومرادي في هذه الليلة أن أتفرَّج في شوارع
بغداد، وأنظر في مصالح العباد، بشرط أننا نتزيَّا بزيِّ التجار حتى لا يعرفنا أحد
من الناس. فقال له الوزير: سمعًا وطاعة. ثم قاموا في الوقت والساعة، ونزعوا ما
عليهم من ثياب الافتخار، ولبسوا ثياب التجار، وكانوا ثلاثة: الخليفة، وجعفر،
ومسرور السيَّاف، وتمشوا من مكان إلى مكان حتى وصلوا إلى الدجلة، فرأوا شيخًا
قاعدًا في زورق، فتقدَّموا إليه وسلَّموا عليه، وقالوا له: يا شيخ، إنا نشتهي من
فضلك وإحسانك أن تفرجنا في مركبك هذه، وخذ هذا الدينار في أجرتك. وأدرك شهرزاد
الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 286﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أنهم لما قالوا للشيخ: إنا نشتهي أن تفرجنا في مركبك،
وخذ هذا الدينار. قال لهم: مَن ذا الذي يقدر على الفرجة، والخليفة هارون الرشيد
ينزل في كل ليلة بحر الدجلة في زورق صغير، ومعه منادٍ ينادي ويقول: يا معشر الناس
كافة من كبير وصغير، وخاص وعام، وصبي وغلام، كل مَن نزل في مركب وشق في الدجلة،
ضربت عنقه أو شنقته على صاري مركبه؟ وكأنكم به في هذه الساعة وزورقه مقبل. فقال
الخليفة وجعفر: يا شيخ، خذ هذين الدينارين، وادخل بنا قبة من هذه القباب إلى أن
يروح زورق الخليفة. فقال لهم الشيخ: هاتوا الذهب، والتوكل على الله تعالى. فأخذ
الذهب وعوَّم بهم قليلًا، وإذا بالزورق قد أقبل من كبد الدجلة، وفيه الشموع
والمشاعل مضيئة، فقال لهم الشيخ: أَمَا قلتُ لكم إن الخليفة يشق في كل ليلة؟ ثم إن
الشيخ صار يقول: يا ستار لا تكشف الأستار. ودخل بهم في قبة، ووضع عليهم ميزرًا
أسود، وصاروا يتفرجون من تحت الميزر، فرأوا في مقدم الزورق رجلًا بيده مشعل من
الذهب الأحمر، وهو يشعل فيه بالعود القاقلي، وعلى ذلك قباء من الأطلس الأحمر، وعلى
كتفه مزركش أصفر، وعلى رأسه شاش موصلي، وعلى كتفه الآخَر مخلاة من الحرير الأخضر
ملآنة بالعود القاقلي يوقد منها المشعل عوضًا عن الحطب، ورأوا رجلًا آخَر في مؤخر
الزورق لابسًا مثل لبسه، وبيده مشعل مثل المشعل الذي معه، ورأوا في الزورق مائتَيْ
مملوك واقفين يمينًا ويسارًا، ووجد كرسيًّا من الذهب الأحمر منصوبًا، وعليه شاب
حسن جالس كالقمر، وعليه خلعة سوداء بطرازات من الذهب الأصفر، وبين يديه إنسان كأنه
الوزير جعفر، وعلى رأسه خادم واقف كأنه مسرور، وبيده سيف مشهور، ورأوا عشرين
نديمًا؛ فلما رأى الخليفة ذلك قال: يا جعفر. فقال: لبيك يا أمير المؤمنين. قال:
لعل هذا واحد من أولادي؛ إما المأمون وإما الأمين. ثم تأمل الشاب وهو جالس على
الكرسي، فرآه كامل الحسن والجمال، والقدِّ والاعتدال، فلما تأمله التفت إلى الوزير
وقال: يا وزير. قال: لبيك. قال: والله إن هذا الجالس لم يترك شيئًا من شكل
الخلافة، والذي بين يدَيْه كأنه أنت يا جعفر، والخادم الذي واقف على رأسه كأنه
مسرور، وهؤلاء الندماء كأنهم ندمائي، وقد حار عقلي في هذا الأمر.
فقالت
لها أختها دنيازاد: ما أحسن حديثك، وأطيبه، وأحلاه، وأعذبه! فقالت: وأين هذا مما
أحدثكم به الليلة القابلة إن عشتُ وأبقاني الملك. فقال الملك في نفسه: والله لا
أقتلها حتى أسمع بقية حديثها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 287﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الخليفة لما رأى هذا الأمر تحيَّرَ في عقله وقال:
والله إني تعجَّبْتُ من هذا الأمر يا جعفر. فقال له جعفر: وأنا والله يا أمير
المؤمنين. ثم ذهب الزورق حتى غاب عن العين، فعند ذلك خرج الشيخ بزورقه وقال: الحمد
لله على السلامة حيث لم يصادفنا أحد. فقال الخليفة: يا شيخ، وهل الخليفة في كل ليلة
ينزل الدجلة؟ قال: نعم يا سيدي، وله على هذه الحالة سنة كاملة. فقال: يا شيخ،
نشتهي من فضلك أن تقف لنا هنا الليلة القابلة، ونحن نعطيك خمسة دنانير ذهبًا،
فإننا قوم غرباء وقصدنا النزهة، ونحن نازلون في الخندق. فقال له الشيخ: حبًّا
وكرامة. ثم إن الخليفة وجعفرًا ومسرورًا توجَّهوا من عند الشيخ إلى القصر، وقلعوا
ما كان عليهم من لبس التجار، ولبسوا ثياب الملك، وجلس كل واحد في مرتبته، ودخل
الأمراء والوزراء والحجَّاب والنوَّاب، وانعقد المجلس بالناس. فلما انقضى النهار
وتفرَّقت أجناس الناس، وراح كل واحد إلى حال سبيله، قال الخليفة هارون الرشيد: يا
جعفر، انهض بنا للفرجة على الخليفة الثاني. فضحك جعفر ومسرور، ولبسوا لبس التجار،
وخرجوا يشقون وهم في غاية الانشراح، وكان خروجهم من باب السر، فلما وصلوا إلى
الدجلة وجدوا الشيخ صاحب الزورق قاعدًا لهم في الانتظار، فنزلوا عنده في المركب،
فما استقر بهم الجلوس مع الشيخ ساعةً حتى جاء زورق الخليفة الثاني وأقبل عليهم؛
فالتفتوا إليه وأمعنوا فيه النظر فوجدوا فيه مائتَيْ مملوك غير المماليك الأُوَل،
والمشاعلية ينادون على عادتهم، فقال الخليفة: يا وزير، هذا شيء لو سمعتُ به ما
كنتُ أصدِّقه، ولكنني رأيت ذلك عيانًا. ثم إن الخليفة قال لصاحب الزورق الذي هم
فيه: خذ يا شيخ هذه العشرة دنانير، وسِر بنا في محاذاتهم، فإنهم في النور ونحن في
الظلام، فننظرهم ونتفرَّج عليهم وهم لا ينظروننا. فأخذ الشيخ العشرة دنانير ومشى
بزورقه في محاذاتهم، وسار في ظلام زورقهم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام
المباح.
﴿اللیلة 288﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الخليفة هارون الرشيد قال للشيخ: خذ هذه العشرة
دنانير، وسر بنا في محاذاتهم. فقال: سمعًا وطاعة. ثم أخذ الدنانير وسار بهم، وما
زالوا سائرين في ظلام الزورق إلى البساتين، فلما وصلوا إلى البساتين رأوا زربية
فرسى عليها الزورق، وإذا بغلمان واقفين ومعهم بغلة مسرجة ملجمة، فطلع الخليفة
الثاني وركب البغلة، وسار بين الندماء، وصاحت المشاعلية، واشتغلت الغاشية بشأن
الخليفة الثاني، فطلع هارون الرشيد هو وجعفر ومسرور إلى البر، وشقُّوا بين
المماليك، وساروا قدَّامهم، فلاحت من المشاعلية التفاتة فرأوا ثلاثة أشخاص لبسهم
لبس تجار، وهم غرباء الديار، فأنكروا عليهم، وغمزوا عليهم، وأحضروهم بين يدي
الخليفة الثاني، فلما نظرهم قال لهم: كيف وصلتم إلى هذا المكان؟ وما الذي جاء بكم
في هذا الوقت؟ قالوا: يا مولانا، نحن قوم من التجار غرباء الديار، وقدمنا في هذا
اليوم، وخرجنا نتمشى الليلة، وإذا بكم قد أقبلتم فجاء هؤلاء وقبضوا علينا،
وأوقفونا بين يديك، وهذا خبرنا. فقال الخليفة الثاني: لا بأس عليكم، لأنكم قوم
غرباء، ولو كنتم من بغداد ضربت أعناقكم. ثم التفت إلى وزيره وقال له: خذ هؤلاء
صحبتك فإنهم ضيوفنا في هذه الليلة. فقال: سمعًا وطاعةً لك يا مولانا. ثم سار وهم
معه إلى أن وصلوا إلى قصر عالٍ عظيم الشأن، محكم البنيان، ما حواه سلطان قام من
التراب، وتعلق بأكتاف السحاب، وبابه من خشب الساج، مرصَّع بالذهب الوهَّاج، يصل
منه الداخل إلى إيوان بفسقية وشاذروان، وبسط ومخدَّات من الديباج، ونمارق وطوالات،
وهناك ستر مسبول، وفرش يذهل العقول، ويعجز مَن يقول، وعلى الباب مكتوب هذان
البيتان:
قَصْرٌ
عَلَيْهِ تَحِيَّةٌ وَسَلَامٌ خَلَعَتْ
عَلَيْهِ جَمَالَهَا الْأَيَّامُ
فِيهِ
الْعَجَائِبُ وَالْغَرَائِبُ نُوِّعَتْ
فَتَحَيَّرَتْ فِي فَنِّهَا الْأَقْلَامُ
ثم
دخل الخليفة الثاني والجماعة صحبته إلى أن جلس على كرسي من الذهب مرصَّع بالجواهر،
وعلى الكرسي سجادة من الحرير الأصفر، وقد جلست الندماء، ووقف سيَّاف النقمة بين
يديه، فمدوا السماط وأكلوا، ورُفِعت الأواني، وغُسِلت الأيادي، وأحضروا آلة
المدام، واصطفَّت القناني والكاسات، ودار الدور إلى أن وصل إلى الخليفة هارون
الرشيد فامتنع من الشراب، فقال الخليفة الثاني لجعفر: ما بال صاحبك لا يشرب؟ فقال:
يا مولاي، إن له مدة ما شرب من هذا. فقال الخليفة الثاني: عندي مشروب غير هذا يصلح
لصاحبك، وهو من شراب التفاح. ثم أمر به فأحضروه في الحال، فتقدَّم الخليفة الثاني
بين يدي هارون الرشيد وقال له: كلما وصل
إليك الدور فاشرب من هذا الشراب. وما زالوا في انشراح وتعاطي أقداح الراح إلى أن
تمكَّنَ الشراب من رءوسهم، واستولى
على عقولهم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 289﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الخليفة الثاني هو وجلساءه ما زالوا يشربون حتى تمكن
الشراب من رءوسهم، واستولى على عقولهم، فقال الخليفة هارون الرشيد لوزيره: يا
جعفر، والله ما عندنا آنية مثل هذه الآنية، فيا ليت شعري ما شأن هذا الشاب؟ فبينما
هما يتحدثان سرًّا إذ لاحت من الشاب التفاتة فوجد الوزير يتسارر مع الخليفة، فقال:
إن المساررة عربدة. فقال الوزير: ما ثمَّ عربدة، إلا أن رفيقي هذا يقول إني سافرت
إلى غالب البلاد، ونادمت أكابر الملوك وعاشرت الأجناد، فما رأيتُ أحسن من هذا
النظام، ولا أبهج من هذه الليلة، غير أن أهل بغداد يقولون: الشراب بلا سماع ربما
أورث الصداع. فلما سمع الخليفة الثاني ذلك الكلام تبسَّم وانشرح، وكان بيده قضيب
فضرب به على مدورة، وإذا بباب فُتِح وخرج منه خادم يحمل كرسيًّا من العاج مصفَّحًا
بالذهب الوهَّاج، وخلفه جارية بارعة في الحسن والجمال، والبهاء والكمال، فنصب
الخادم الكرسي، وجلست عليه الجارية، وهي كالشمس الضاحية في السماء الصاحية، وبيدها
عود عمل صناع الهنود، فوضعته في حجرها وانحنت عليه انحناء الوالدة على ولدها،
وغنَّت عليه بعد أن طربت، وقلبت أربعًا وعشرين طريقة حتى أذهلت العقول، ثم عادت
إلى طريقتها الأولى، وأطربت بالنغمات، وأنشدت هذه الأبيات:
لِسَانُ
الْهَوَى فِي مُهْجَتِي لَكَ نَاطِقُ
يُخَبِّرُ عَنِّي أَنَّنِي لَكَ عَاشِقُ
وَلِي
شَاهِدٌ مِنْ حَرِّ قَلْبٍ مُعَذَّبٍ
وَطَرْفٍ قَرِيحٍ وَالدُّمُوعُ سَوَابِقُ
وَمَا
كُنْتُ أَدْرِي قَبْلَ حُبِّكَ مَا الْهَوَى وَلَكِنْ قَضَاءُ اللهِ فِي الْخَلْقِ
سَابِقُ
فلما
سمع الخليفة الثاني هذا الشعر من الجارية صرخ صرخة عظيمة، وشقَّ البدلة التي كانت
عليه إلى الذيل، وسبلت عليه الستارة، وأتوه ببدلة غيرها أحسن منها فلبسها، ثم جلس
على عادته، فلما وصل إليه القدح ضرب بالقضيب على المدورة، وإذا بباب قد فُتِح وخرج
منه خادم يحمل كرسيًّا من الذهب، وخلفه جارية أحسن من الجارية الأولى، فجلست على
ذلك الكرسي وبيدها عود يكمد قلب الحسود، فغنَّتْ عليه بهذين البيتين:
كَيْفَ
اصْطِبَارِي وَنَارُ الشَّوْقِ فِي كَبِدِي
وَالدَّمْعُ مِنْ مُقْلَتِي طُوفَانُ لِلْأَبَدِ
وَاللهِ
مَا طَابَ لِي عَيْشٌ أُسَرُّ بِهِ فَكَيْفَ
يَفْرَحُ قَلْبٌ حَشْوُهُ كَمَدِي
فلما
سمع الشاب هذا الشعر صرخ صرخة عظيمة، وشق ما عليه من الثياب إلى الذيل، وانسبلت
عليه الستارة، وأتوه ببدلةٍ أخرى فلبسها، واستوى جالسًا ورجع إلى حالته الأولى،
وانبسط في الكلام، فلما وصل القدح إليه ضرب على المدورة، فخرج خادم ووراءه جارية
أحسن من التي قبلها، ومعه كرسي، فجلست الجارية على الكرسي وبيدها عود، فغنت عليه
بهذه الأبيات:
اقْصُرُوا
هَجْرَكُمْ وَقِلُّوا جَفَاكُمْ فَفُؤَادِي
وَحَقِّكُمْ مَا سَلَاكُمْ
وَارْحَمُوا
مُدْنَفًا كَئِيبًا حَزِينًا ذَا
غَرَامٍ مُتَيَّمًا فِي هَوَاكُمْ
قَدْ
بَرَتْهُ السِّقَامُ مِنْ فَرْطِ وَجْدٍ
فَتَمَنَّى مِنَ الْإِلَهِ رِضَاكُمْ
يَا
بُدُورًا مَحَلُّهُمْ فِي فُؤَادِي كَيْفَ
أَخْتَارُ فِي الْأَنَامِ سِوَاكُمْ
فلما
سمع الشاب هذه الأبيات صرخ صرخة عظيمة، وشق ما كان عليه من الثياب، فأرخوا عليه
الستارة، وأتوه بثياب غيرها، ثم عاد إلى حالته مع ندمائه، ودارت الأقداح، فلما وصل
القدح إليه ضرب على المدورة، فانفتح الباب وخرج منه غلام معه كرسي، وخلفه جارية
فنصب لها الكرسي وجلست عليه، وأخذت العود وأصلحته، وغنَّت عليه بهذه الأبيات:
حَتَّى
مَتَى يَمْضِي التَّهَاجُرُ وَالْقِلَى وَيَعُودُ لِي مَا قَدْ مَضَى لِي أَوَّلَا
مِنْ
أَمْسِ كُنَّا وَالدِّيَارُ تَلُمُّنَا
فِي أُنْسِنَا وَنَرَى الْحَوَاسِدَ غُفَّلَا
غَدَرَ
الزَّمَانُ بِنَا وَفَرَّقَ شَمْلَنَا
مِنْ بَعْدِ مَا تَرَكَ الْمَنَازِلَ كَالْخَلَا
أَتَرُومُ
مِنِّي يَا عَذَولِي سَلْوَةً وَأَرَى
فُؤَادِي لَا يُطِيعُ الْعُذَّلَا
فَدَعِ
الْمَلَامَ وَخَلِّنِي بِصَبَابَتِي
فَالْقَلْبُ مِنْ أُنْسِ الْأَحِبَّةِ مَا خَلَا
يَا
سَادَةً نَقَضُوا الْعُهُودَ وَبَدَّلُوا
لَا تَحْسَبُوا قَلْبِي الْمُتَيَّمَ قَدْ سَلَا
فلما
سمع الخليفة الثاني إنشاد الجارية صرخ صرخة عظيمة، وشق ما عليه. وأدرك شهرزاد
الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 290﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الخليفة الثاني لما سمع شعر الجارية صرخ صرخة عظيمة،
وشقَّ ما عليه من الثياب، وخرَّ مغشيًّا عليه، فأرادوا أن يرخوا عليه الستارة بحسب
العادة فتوقفت حبالها، فلاحت من هارون الرشيد التفاتة إليه، فنظر على بدنه آثار
ضرب مقارع، فقال الرشيد بعد النظر والتأكيد: يا جعفر، والله إنه شاب مليح إلا أنه
لص قبيح. فقال جعفر: من أين عرفت ذلك يا أمير المؤمنين؟ فقال: أَمَا رأيتَ ما على
جنبَيْه من أثر السياط؟ ثم أسبلوا عليه الستارة، وأتوه ببدلة غير التي كانت عليه
فلبسها واستوى جالسًا على حالته الأولى مع الندماء، فلاحت منه التفاتة فوجد
الخليفة وجعفرًا يتحدثان سرًّا، فقال لهما: ما الخبر يا فتيان؟
فقال
جعفر: يا مولانا خير، غير أنه لا خفاء عليك أن رفيقي هذا من التجار، وقد سافر جميع
الأمصار والأقطار، وصحب الملوك والأخيار، وهو يقول لي: إن الذي حصل من مولانا
الخليفة في هذه الليلة إسراف عظيم، ولم أَرَ أحدًا فعل مثل فعله في سائر الأقاليم؛
لأنه شقَّ كذا وكذا بدلة، كل بدلة بألف دينار، وهذا إسراف زائد. فقال الخليفة
الثاني: يا هذا، إن المال مالي، والقماش قماشي، وهذا من بعض الأنعام على الخدام
والحواشي، فإن كل بدلة شققتها لواحد من الندماء الحضار، وقد رسمت لهم مع كل بدلة
خمسمائة دينار. فقال الوزير جعفر: نِعْمَ ما فعلتَ يا مولانا. ثم أنشد هذين
البيتين:
بَنَتِ
الْمَكَارِمُ وَسْطَ كَفِّكَ مَنْزِلًا
وَجَعَلْتَ مَا لَكَ لِلْأَنَامِ مُبَاحَا
فَإِذَا
الْمَكَارِمُ أَغْلَقَتْ أَبْوَابَهَا
كَانَتْ يَدَاكَ لِقُفْلِهَا مِفْتَاحَا
فلما
سمع الشاب هذا الشعر من الوزير جعفر رسم له ألف دينار وبدلة، ثم دارت بينهم
الأقداح، وطاب لهم الراح، فقال الرشيد: يا جعفر، اسأله عن الضرب الذي على جنبَيْه
حتى ننظر ما يقول في جوابه. فقال: لا تعجل يا مولانا، وترفَّق بنفسك، فإن الصبر
أجمل. فقال: وحياة رأسي، وتربة العباس إن لم تسأله لأخمدنَّ منك الأنفاس. فعند ذلك
التفت الشاب إلى الوزير، وقال له: ما لك مع رفيقك تتسارران؟ فأخبرني بشأنكما.
فقال: خير. فقال الشاب: سألتك بالله أن تخبرني بخبركم، ولا تكتم عني شيئًا من
أمركم. فقال: يا مولاي، إنه أبصر على جنبَيْك ضربًا، وأثر سياط ومقارع، فتعجَّبَ
من ذلك غاية العجب، وقال: كيف يُضرَب الخليفة؟ وقصدُه أن يعلم ما السبب. فلما سمع
الشاب ذلك تبسَّمَ وقال: اعلموا أن حديثي غريب، وأمري عجيب، لو كُتِب بالإبر على آماق
البصر لَكان عبرة لمَن اعتبر. ثم صعَّد الزفرات، وأنشد هذه الأبيات:
حَدِيثِي
عَجِيبٌ فَاقَ كُلَّ الْعَجَائِبِ وَحَقِّ
الْهَوَى ضَاقَتْ عَلَيَّ مَذَاهِبِي
إِذَا
مَا أَرَدْتُمْ أَنْ أَقُولَ فَأَنْصِتُوا
وَيَسْكُتُ هَذَا الْجَمْعُ مِنْ كُلِّ جَانِبِ
وَأَصْغُوا
إِلَى قَوْلِي فَفِيهِ إِشَارَةٌ وَإِنَّ
كَلَامِي صَادِقٌ غَيْرُ كَاذِبِ
فَإِنِّي
قَتِيلٌ مِنْ غَرَامٍ وَلَوْعَةٍ وَقَاتِلَتِي
فَاقَتْ جَمِيعَ الْكَوَاعِبِ
لَهَا
مُقْلَةٌ كَحْلَاءُ مِثْلُ مُهَنَّدٍ
وَتَرْمِي سِهَامًا مِنْ قِسِيِّ الْحَوَاجِبِ
وَقَدْ
حَسَّ قَلْبِي أَنَّ فِيكُمْ إِمَامَنَا
خَلِيفَةَ هَذَا الْوَقْتِ وَابْنَ الْأَطَايِبِ
وَثَانِيكُمُ
وَهْوَ الْمُنَادَى بِجَعْفَرٍ لَدَيْهِ
وَزِيرٌ صَاحِبٌ وَابْنُ صَاحِبِ
وَثَالِثَكُمْ
مَسْرُورُ سَيَّافُ نِقْمَةٍ فَإِنْ
كَانَ هَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ بِكَاذِبِ
لَقَدْ
نُلْتُ مَا أَرْجُو مِنَ الْأَمْرِ كُلِّهِ
وَجَاءَ سُرُورُ الْقَلْبِ مِنْ كُلِّ جَانِبِ
فلما
سمعوا منه هذا الكلام، حلف له جعفر وورى في يمينه أنهم لم يكونوا المذكورين؛ فضحك
الشاب وقال: اعلموا يا سادتي أنني لست أمير المؤمنين، وإنما سميتُ نفسي بهذا الاسم
لأبلغ ما أريد من أولاد المدينة، وإنما اسمي محمد علي بن علي الجوهري، وكان أبي من
الأعيان فمات، وخلَّف لي مالًا كثيرًا من ذهب، وفضة، ولؤلؤ، ومرجان، وياقوت،
وزبرجد، وجواهر، وعقارات، وحمامات، وغيطان، وبساتين، ودكاكين، وطوابين، وعبيد،
وجوارٍ، وغلمان؛ فاتفق في بعض الأيام أنني كنت جالسًا في دكاني، وحولي الخدم
والحشم، وإذا بجارية قد أقبلت راكبة على بغلة، وفي خدمتها ثلاث جوارٍ كأنهن
الأقمار، فلما قربت مني نزلت على دكاني وجلست عندي، وقالت لي: هل أنت محمد
الجوهري؟ فقلت لها: نعم هو، أنا مملوكك وعبدك. فقالت: هل عندك عقد جوهر يصلح لي؟
فقلت: يا سيدتي، الذي عندي أعرضه عليك، وأحضره بين يديك، فإن أعجبك منه شيء كان
يسعد المملوك، وإن لم يعجبك شيء فبسوء حظي. وكان عندي مائة عقد من الجوهر فعرضت
عليها الجميع، فلم يعجبها شيء من ذلك، وقالت: أريد أحسن مما رأيت. وكان عندي عقد
صغير اشتراه والدي بمائة ألف دينار، ولم يوجد مثله عند أحد من السلاطين الكبار،
فقلت لها: يا سيدتي، بقي عندي عقد الفصوص والجواهر، الذي لا يملك مثله أحد من
الأكابر والأصاغر. فقالت لي: أرني إياه. فلما رأته قالت: هذا مطلوبي، وهو الذي طول
عمري أتمناه. ثم قالت لي: كم ثمنه؟ فقلت لها: ثمنه على والدي مائة ألف دينار.
فقالت: ولك خمسة آلاف دينار فائدة. فقلت: يا سيدتي، العقد وصاحبه بين يديك، ولا
خلاف عندي. فقالت: لا بد من الفائدة، ولك المنة الزائدة. ثم قامت من وقتها وركبت
البغلة بسرعة، وقالت لي: يا سيدي، باسم الله تفضل صحبتنا لتأخذ الثمن، فإن نهارك
اليوم بنا مثل اللبن. فقمت وقفلت الدكان وسرت معها في أمان إلى أن وصلنا الدار،
فوجدتها دارًا عليها آثار السعادة لائحة، وبابها مزركش بالذهب والفضة واللازورد،
ومكتوب عليه هذان البيتان:
أَلَا
يَا دَارُ لَا يَدْخُلْكِ حُزْنُ وَلَا
يَغْدُرْ بِصَاحِبِكِ الزَّمَانُ
فَنِعْمَ
الدَّارُ أَنْتِ لِكُلِّ ضَيْفٍ إِذَا
مَا ضَاقَ بِالضَّيْفِ الْمَكَانُ
فنزلت
الجارية ودخلت الدار، وأمرتني بالجلوس على مصطبة الباب إلى أن يأتي الصيرفي،
فجلستُ على باب الدار ساعة، وإذا بجارية خرجت إليَّ وقالت: يا سيدي، ادخل الدهليز
فإن جلوسك على الباب قبيح. فقمت ودخلت الدهليز، وجلست على الدكة، فبينما أنا جالس،
وإذا بجارية خرجت إليَّ وقالت لي: يا سيدي، إن سيدتي تقول لك: ادخل واجلس على باب
الإيوان حتى تقبض مالك. فقمت ودخلت البيت وجلست لحظة، وإذا بكرسي من الذهب وعليه
ستارة من الحرير، وإذا بتلك الستارة قد رُفِعت، فبان من تحتها تلك الجارية التي
اشترت مني ذلك العقد، وقد أسفرت عن وجهٍ كأنه دائرة القمر، والعقد في عنقها، فطاش
عقلي واندهش لُبِّي من رؤية تلك الجارية لفرط حُسْنها وجمالها، فلما رأتني قامت من
فوق الكرسي وسعت إلى نحوي، وقالت لي: يا نور عيني، هل كل مَن كان مليحًا مثلك ما
يرثي لمحبوبته؟ فقلت: يا سيدتي، الحسن كله فيكِ، وهو من بعض معانيكِ. فقالت: يا
جوهري، اعلم أني أحبك، وما صدقت أني أجيء بك عندي. ثم إنها مالت عليَّ فقبَّلتُها
وقبَّلتني، وإلى جهتها جذبتني، وعلى صدرها رمتني. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن
الكلام المباح.
﴿اللیلة 291﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الجوهري قال: ثم إنها مالت عليَّ وقبَّلتني، وإلى
جهتها جذبتني، وعلى صدرها رمتني، وعلمت من حالي أني أريد وصالها، فقالت: يا سيدي،
أتريد أن تجتمع بي في الحرام؟ والله لا كان مَن يفعل مثل هذه الآثام، ويرضى بقبيح
الكلام، فإني بكر عذراء ما دَنَا مني أحد، ولست مجهولة في البلد، أتعلم مَن أنا؟
فقلت: لا والله يا سيدتي. فقالت: أنا السيدة دنيا بنت يحيى بن خالد البرمكي، وأخي
جعفر وزير الخليفة. فلما سمعت ذلك منها أحجمت بخاطري عنها، وقلت لها: يا سيدتي، ما
لي ذنب في التهجُّم عليكِ، أنتِ التي أطمعتِني في وصالك بالوصول إليك. فقالت: لا
بأس عليك، ولا بد من بلوغك المراد بما يُرضِي الله، فإن أمري بيدي، والقاضي ولي
عقدي، والقصد أن أكون لك أهلًا، وتكون لي بعلًا. ثم إنها دعت بالقاضي والشهود،
وبذلت المجهود؛ فلما حضروا قالت لهم: محمد علي بن علي الجوهري قد طلب زواجي، ودفع
لي هذا العقد في مهري، وأنا قبلت ورضيت. فكتبوا كتابي عليها ودخلت بها، وأُحضرت
آلات الراح، ودارت الأقداح بأحسن نظام وأتم إحكام، ولما شعشعت الخمرة في رءوسنا
أمرت جارية عوَّادة أن تغني، فأخذت العود وأطربت بالنغمات، وأنشدت هذه الأبيات:
بَدَا
فَأَرَانِي الظَّبْيَ وَالْغُصْنَ وَالْبَدْرَا فَتَبًّا لِقَلْبٍ لَا يَبِيتُ بِهِ
مُغْرَى
مَلِيحٌ
أَرَادَ اللهُ إِطْفَاءَ فِتْنَةٍ بِعَارِضِهِ
فَاسْتَأْنَفَتْ فِتْنَةٌ أُخْرَى
أُغَالِطُ
عُذَّالِي إِذَا ذَكَرُوا لَهُ حَدِيثًا
كَأَنِّي لَا أُحِبُّ لَهُ ذِكْرَا
وَأُصْغِي
إِذَا ذَكَرُوا لِغَيْرِ حَدِيثِهِ بِسَمْعِي
وَلَكِنِّي أَذُوبُ بِهِ فِكْرَا
نَبِيُّ
جَمَالٍ كُلُّ مَا فِيهِ مُعْجِزٌ مِنَ
الْحُسْنِ لَكِنْ وَجْهُهُ الْآيَةُ الْكُبْرَى
أَقَامَ
هِلَالُ الْخَالِ فِي صَحْنِ خَدِّهِ
يُرَاقِبُ مِنْ لَأْلَاءِ غُرَّتِهِ الْفَجْرَا
يُرِيدُ
سُلُوِّي الْعَاذِلُونَ جَهَالَةً وَمَا
كُنْتُ أَرْضَى بَعْدَ إِيمَانِيَ الْكُفْرَا
فأطربت
الجارية بما أبدته من نغمات الأوتار ورقيق الأشعار، ولم تزل الجواري تغني جارية
بعد جارية، وينشدن الأشعار إلى أن غنَّتْ عشرُ جوارٍ، وبعد ذلك أخذت السيدة دنيا
العود وأطربت بالنغمات وأنشدت هذه الأبيات:
قَسَمًا
بِلِينِ قَوَامِكَ الْمَيَّاسِ إِنِّي
لَنَارُ الْهَجْرِ مِنْكَ أُقَاسِي
فَارْحَمْ
حَشًا بِلَظَى هَوَاكَ تَسَعَّرَتْ يَا
بَدْرُ تِمٍّ فِي دُجَى الْأَغْلَاسِ
أَنْعِمْ
بِوَصْلِكَ لِي فَإِنِّي لَمْ أَزَلْ
أَجْلُو جَمَالَكَ فِي ضِيَاءِ الْكَاسِ
مَا
بَيْنَ وَرْدٍ نُوِّعَتْ أَلْوَانُهُ
وَزَهَتْ مَحَاسِنُهُ خَلَالَ الْآسِ
فلما
فرغت من شعرها أخذتُ العود منها وضربتُ عليه غريب الضربات وغنَّيتُ بهذه الأبيات:
سُبْحَانَ
رَبِّ جَمِيعَ الْحُسْنِ أَعْطَاكِ حَتَّى
بَقِيتُ أَنَا مِنْ بَعْضِ أَسْرَاكِ
يَا
مَنْ لَهَا نَاظِرٌ تَسْبِي الْأَنَامَ بِهِ سَلِي الْأَمَانَ لَنَا مِنْ سَهْمِ
مَرْمَاكِ
ضِدَّانِ
مَاءٌ وَنَارٌ فِي سَنَا لَهَبٍ حَوَتْهُمَا
بِغَرِيبِ الشَّكْلِ خَدَّاكِ
أَنْتِ
السَّعِيرُ بِقَلْبِي وَالنَّعِيمُ لَهُ
فَمَا أَمَرَّكِ فِي قَلْبِي وَأَحْلَاكِ
فلما
سمعت مني هذا المعنى فرحت فرحًا شديدًا، ثم إنها صرفت الجواري، وقمنا إلى أحسن
مكان قد فُرِش لنا فيه فرش من سائر الألوان، ونزعت ما عليها من الثياب، وخلوت بها
خلوة الأحباب؛ فوجدتها درَّة لم تُثقَب، ومُهْرَة لم تُركَب، ففرحت بها، ولم أَرَ
في عمري ليلة أطيب من تلك الليلة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 292﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن محمد بن علي الجوهري قال: لما دخلت بالسيدة دنيا بنت
يحيى بن خالد البرمكي رأيتها درَّة لم تُثقَب، ومُهْرَة لم تُركَب، فأنشدتُ هذين
البيتين:
طَوَّقْتُهُ
طَوْقَ الْحَمَامِ بِسَاعِدِي وَجَعَلْتُ
كَفِّي لِلِّثَامِ مُبَاحَا
هَذَا
هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَلَمْ نَزَلْ
مُتَعَانِقَيْنِ فَلَا نُرِيدُ بَرَاحَا
ثم
أقمت عندها شهرًا كاملًا، وقد تركت الدكان، والأهل والأوطان، فقالت لي يومًا من
الأيام: يا نور العين يا سيدي محمد، إني قد عزمت اليومَ على المسير إلى الحمام،
فاستقر أنت على هذا السرير، ولا تنتقل من مكانك إلى أن أرجع إليك. وحلَّفتني على
ذلك، فقلت لها: سمعًا وطاعة. ثم إنها حلَّفتني أني لا أنتقل من موضعي، وأخذت
جواريها وذهبت إلى الحمام، فوالله يا إخواني ما لحقت أن تصل إلى رأس الزقاق إلا
والباب قد فُتِح، ودخلَتْ منه عجوز، وقالت: يا سيدي محمد، إن السيدة زبيدة تدعوك،
فإنها سمعت بأدبك وظرفك وحسن غنائك. فقلت لها: والله ما أقوم من مكاني حتى تأتي
السيدة دنيا. فقالت العجوز: يا سيدي، لا تخلِّ السيدة زبيدة تغضب عليك وتبقى
عدوتك، فقُمْ كلِّمها وارجع إلى مكانك. فقمتُ من وقتي وتوجَّهت إليها، والعجوز
أمامي إلى أن وصَّلتني إلى السيدة زبيدة، فلما وصلت إليها قالت لي: يا نور العين،
هل أنت معشوق السيدة دنيا؟ فقلت: أنا مملوكك وعبدك. فقالت: صدق الذي وصفك بالحُسْن
والجمال، والأدب والكمال؛ فإنك فوق الوصف والمقال، ولكن غنِّ لي حتى أسمعك. فقلت
لها: سمعًا وطاعة. فأتتني بعود فغنَّيت عليه بهذه الأبيات:
قَلْبُ
الْمُحِبِّ مَعَ الْأَحْبَابِ مَتْعُوبُ
وَجِسْمُهُ بِيَدِ الْأَسْقَامِ مَنْهُوبُ
مَا
فِي الرِّحَالِ وَقَدْ زُمَّتْ رَكَائِبُهُمْ إِلَّا مُحِبٌّ لَهُ فِي الرَّكْبِ
مَحْبُوبُ
أَسْتَوْدِعُ
اللهَ فِي إِطْنَابِكُمْ قَمَرًا يَهْوَاهُ
قَلْبِي وَعَنْ عَيْنَيَّ مَحْجُوبُ
يَرْضَى
وَيَغْضَبُ مَا أَحْلَى تَدَلُّـلَهُ
وَكُلُّ مَا يَفْعَلُ الْمَحْبُوبُ مَحْبُوبُ
فلما
فرغتُ من المغنى قالت لي: أصح الله بدنك، وطيَّب أنفاسك، فلقد كملت في الحُسْن والأدب
والمغنى، فقم وامضِ إلى مكانك قبل أن تجيء السيدة دنيا فلا تجدك فتغضب عليك.
فقبَّلتُ الأرضَ بين يدَيْها وخرجت والعجوز أمامي إلى أن وصلت إلى الباب الذي
خرجتُ منه، فدخلتُ وجئتُ إلى السرير فوجدتها قد جاءت من الحمام، وهي نائمة على
السرير، فقعدت عند رجليها وكبستهما، ففتحت عينَيْها فرأتني، فجمعت رجليها ورفصتني
فرمتني من فوق السرير، وقالت لي: يا خائن! خنت اليمين وحنثت فيه، ووعدتني أنك لا
تنتقل من مكانك وأخلفت الوعد، وذهبت إلى السيدة زبيدة، والله لولا خوفي من الفضيحة
لَهدمتُ قصرها على رأسها. ثم قالت لعبدها: يا صواب، قم اضرب رقبة الكذَّاب، فلا
حاجةَ لنا به. فتقدَّمَ العبدُ وشرط من ذيله رقعة وعصب بها عينيَّ، وأراد أن يضرب
عنقي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 293﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن محمدًا الجوهري قال: فتقدَّمَ العبد وشرط من ذيله
رقعة وعصب بها عينيَّ، وأراد أن يضرب عنقي، فقامت إليها الجواري الكبار والصغار
وقلن لها: يا سيدتنا، ليس هذا أول مَن أخطأ، وهو لا يعرف خلقك، وما فعل ذنبًا يوجب
القتل. فقالت: والله لا بد أن أعمل فيه أثرًا. ثم أمرت بضربي، فضربوني على أضلاعي،
وهذا الذي رأيتموه أثر ذلك الضرب، وبعد ذلك أمرت بإخراجي، فأخرجوني وأبعدوني عن
القصر ورموني، فحملتُ نفسي ومشيت قليلًا قليلًا حتى وصلت إلى منزلي، وأحضرت
جراحيًّا وأريته الضرب، فلاطفني وسعى في مداواتي. فلما شفيت ودخلت الحمام، وزالت
عني الأوجاع والأسقام، جئت إلى الدكان وأخذت جميع ما فيها وبعته، وجمعت ثمنه
واشتريت لي أربعمائة مملوك ما جمعهم أحد من الملوك، وصار يركب معي منهم في كل يوم
مائتان، وعملت هذا الزورق، وصرفت عليه خمسة آلاف دينار من الذهب، وسمَّيتُ نفسي
بالخليفة، ورتَّبتُ مَن معي من الخدم كل واحد في وظيفة واحد من أتباع الخليفة،
وهيَّأتُه بهيئته، وناديت: كلُّ مَن تفرَّجَ في الدجلة ضربتُ عنقه بلا مهلة. ولي
على هذا الحال سنة كاملة، وأنا لم أسمع لها خبرًا، ولم أقف لها على أثر. ثم إنه
بكى وأفاض العبرات، وأنشد هذه الأبيات:
وَاللهِ
مَا كُنْتُ طُولَ الدَّهْرِ نَاسِيهَا
وَلَا دَنَوْتُ إِلَى مَنْ لَيْسَ يُدْنِيهَا
كَأَنَّهَا
الْبَدْرُ فِي تَكْوِينِ خِلْقَتِهَا
سُبْحَانَ خَالِقِهَا سُبْحَانَ بَارِيهَا
قَدْ
صَيَّرَتْنِي حَزِينًا سَاهِرًا دَنِفًا
وَالْقَلْبُ قَدْ حَارَ مِنِّي فِي مَعَانِيهَا
فلما
سمع هارون الرشيد كلامه، وعرف وَجْده ولوعته وغرامه، تدلَّهَ ولهًا، وتحيَّر
عجبًا، وقال: سبحان الله الذي جعل لكل شيء سببًا! ثم إنهم استأذنوا الشاب في
الانصراف فأذن لهم، وأضمر له الرشيد على الإنصاف، وأن يتحفه غاية الإتحاف، ثم
انصرفوا من عنده سائرين وإلى محل الخلافة متوجِّهين، فلما استقر بهم الجلوس،
وغيَّروا ما عليهم من الملبوس، ولبسوا أثواب المواكب، ووقف بين أيديهم مسرور
سيَّاف النقمة، فقال الخليفة لجعفر: يا وزير، عليَّ بالشاب. وأدرك شهرزاد الصباح
فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 294﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الخليفة قال للوزير: عليَّ بالشاب الذي كنَّا عنده في
الليلة الماضية. فقال: سمعًا وطاعة. ثم توجَّه إليه وسلَّم عليه، وقال له: أجب
أمير المؤمنين الخليفة هارون الرشيد. فسار معه إلى القصر وهو من الترسيم عليه في
حصر، فلما دخل على الخليفة قبَّل الأرض بين يديه، ودعا له بدوام العز والإقبال
وبلوغ الآمال، ودوام النِّعَم وإزالة البؤس والنقم، وقد أحسن ما به تكلَّمَ حيث
قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، وحامي حومة الدين. ثم أنشد هذين البيتين:
لَا
زَالَ بَابُكَ كَعْبَةً مَقْصُودَةً
وَتُرَابُهَا فَوْقَ الْجِبَاهِ رُسُومُ
حَتَّى
يُنَادَى فِي الْبِلَادِ بِأَسْرِهَا
هَذَا الْمَقَامُ وَأَنْتَ إِبْرَاهِيمُ
فتبسَّم
الخليفة في وجهه وردَّ عليه السلام، والتفت إليه بعين الإكرام، وقرَّبه وأجلسه بين
يديه، وقال له: يا محمد علي، أريد منك أن تحدِّثني بما وقع في هذه الليلة، فإنه من
العجائب وبديع الغرائب. فقال الشاب: العفو يا أمير المؤمنين، أعطني منديل الأمان
ليسكن روعي ويطمئن قلبي. فقال له الخليفة: لك الأمان من الخوف والأحزان. فشرع
الشاب يحدِّثه بالذي حصل له من أوله إلى آخِره. فعلم الخليفة أن الصبي عاشق،
وللمعشوق مفارق، فقال له: أتحب أن أردَّها عليك؟ قال: هذا من فضل أمير المؤمنين.
ثم أنشد هذين البيتين:
الْثَمْ
أَنَامِلَهُ فَلَسْنَ أَنَامِلًا لَكِنَّهُنَّ
مَفَاتِحُ الْأَرْزَاقِ
وَاشْكُرْ
صَنَائِعَهُ فَلَسْنَ صَنَائِعًا لَكِنَّهُنَّ
قَلَائِدُ الْأَعْنَاقِ
فعند
ذلك التفت الخليفة إلى الوزير وقال له: يا جعفر، أحضر لي أختك السيدة دنيا بنت
الوزير يحيى بن خالد. فقال: سمعًا وطاعة يا أمير المؤمنين. ثم أحضرها في الوقت
والساعة، فلما تمثَّلت بين يديه قال لها الخليفة: أتعرفين مَن هذا؟ قالت: يا أمير
المؤمنين، من أين للنساء معرفة الرجال؟ فتبسَّمَ الخليفة وقال لها: يا دنيا، هذا
حبيبك محمد علي بن الجوهري، وقد عرفنا الحال، وسمعنا الحكاية من أولها إلى آخِرها،
وفهمنا ظاهرها وباطنها، والأمر لا يخفى وإنْ كان مستورًا. فقالت: يا أمير
المؤمنين، كان ذلك في الكتاب مسطورًا، وأنا أستغفر الله العظيم ممَّا جرى مني،
وأسألك من فضلك العفو عني. فضحك الخليفة هارون الرشيد، وأحضر القاضي والشهود،
وجدَّدَ عقدها على زوجها محمد علي بن الجوهري، وحصل لها وله سعد السعود، وإكماد
الحسود، وجعله من جملة ندمائه، واستمروا في سرور ولذة وحبور، إلى أن أتاهم هادم
اللذات ومفرِّق الجماعات.
حكاية علي العجمي
ومما
يُحكَى أيضًا أن الخليفة هارون الرشيد قلق ليلة من الليالي فاستدعى وزيره، فلما
حضر بين يدَيْه قال له: يا جعفر، إني قلقت الليلة قلقًا عظيمًا وضاق صدري، وأريد
منك شيئًا يسرُّ خاطري، وينشرح به صدري. فقال له جعفر: يا أمير المؤمنين، إن لي
صديقًا اسمه علي العجمي، وعنده من الحكايات والأخبار المطربة ما يسرُّ النفوس،
ويزيل عن القلب البؤس. فقال: عليَّ به. فقال: سمعًا وطاعة. ثم إن جعفرًا خرج من عند
الخليفة في طلب العجمي فأرسل خلفه، فلما حضر قال له: أجِبْ أمير المؤمنين. فقال:
سمعًا وطاعة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 295﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن العجمي قال: سمعًا وطاعة. ثم توجَّهَ معه إلى
الخليفة، فلما تمثَّلَ بين يدَيْه أذن له بالجلوس فجلس، فقال له الخليفة: يا علي،
إنه ضاق صدري في هذه الليلة، وقد سمعت عنك أنك تحفظ حكايات وأخبارًا، وأريد منك أن
تُسمعني ما يزيل همي، ويصقل فكري. فقال: يا أمير المؤمنين، هل أحدثك بالذي رأيته
بعيني أم بالذي سمعته بأذني؟ فقال: إن كنتَ رأيتَ شيئًا فاحكِهِ. فقال: سمعًا
وطاعة، اعلم يا أمير المؤمنين أني سافرت في بعض السنين من بلدي هذه، وهي مدينة
بغداد، وصحبتي غلام، ومعه جراب لطيف، ودخلنا مدينة، فبينما أنا أبيع وأشتري وإذا
برجل كردي ظالم متعدٍّ قد هجم عليَّ وأخذ مني الجراب، وقال: هذا جرابي، وكل ما فيه
متاعي. فقلت: يا معشر المسلمين، خلصوني من يد أفجر الظالمين. فقال الناس جميعًا:
اذهبا إلى القاضي، واقبلا حكمه بالتراضي. فتوجَّهنا إلى القاضي وأنا بحكمه راضٍ،
فلما دخلنا عليه وتمثَّلنا بين يديه، قال القاضي: في أي شيء جئتما؟ وما قضية
خبركما؟ فقلت: نحن خصمان إليك تداعينا، وبحكمك تراضينا. فقال: أيكما المدَّعِي؟
فتقدَّمَ الكردي وقال: أيَّدَ الله مولانا القاضي، إن هذا الجراب جرابي، وكل ما
فيه متاعي، وقد ضاع مني، ووجدته مع هذا الرجل. فقال القاضي: ومتى ضاع منك؟ فقال
الكردي: من أمس هذا اليوم، وبتُّ لفقده بلا نوم. فقال القاضي: إن كنت عرفته فصِفْ
لي ما فيه؟ فقال الكردي: في جرابي هذا مِرْودان من لُجين، وفيه أكحال للعين،
ومنديل لليدين، ووضعت فيه شربتين مذهَّبتين، وشمعدانين، وهو مشتمل على بيتين،
وطبقين، ومعلقتين، ومخدة، ونطعين، وإبريقين، وصينية وطشتين، وقدرة وزلعتين، ومغرفة
ومسلَّة ومِزْوَدين، وهرة وكلبتين، وقصعة وقعيدتين، وجبَّة وفروتين، وبقرة وعجلين،
وعنز وشاتين، ونعجة وسخلين، وصيوانين أخضرين، وجمل وناقتين، وجاموسة وثورين، ولبوة
وسَبْعَين، ودبَّة وثعلبين، ومرتبة وسريرين، وقصر وقاعتين، ورواق ومقعدين، ومطبخ
ببابين، وجماعة أكراد يشهدون أن الجراب جرابي.
فقال
القاضي: ما تقول أنت يا هذا؟ فتقدَّمت إليه يا أمير المؤمنين، وقد أبهتني الكردي
بكلامه، فقلت: أعز الله مولانا القاضي، أنا ما في جرابي هذا إلا دويرة خراب، وأخرى
بلا باب، ومقصورة للكلاب، وفيه للصبيان كتاب، وشباب يلعبون بالكعاب، وفيه خيام
وأطناب، ومدينة البصرة وبغداد، وقصر شدَّاد بن عاد، وكور حداد، وشبكة صياد، وعصيٌّ
وأوتاد، وبنات وأولاد، وألف قوَّاد يشهدون أن الجراب جرابي.
فلما
سمع الكردي هذا الكلام بكى وانتحب، وقال: يا مولانا القاضي، إن جرابي هذا معروف،
وكل ما فيه موصوف؛ في جرابي هذا حصون وقلاع، وكراكي وسباع، ورجال يلعبون بالشطرنج
والرقاع، وفي جرابي هذا حجرة ومُهْران، وفحل وحصانان، ورمحان طويلان، وهو مشتمل
على سبع وأرنبَيْن، ومدينة وقريتين، وقحبة وقوَّادين شاطرين، ومخنَّث وعلقين،
وأعمى وبصيرين، وأعرج ومكسحين، وشماسين، وبطرك وراهبين، وقاضٍ وشاهدين، وهم يشهدون
أن الجراب جرابي. فقال القاضي: ما تقول يا علي؟ فامتلأت غيظًا يا أمير المؤمنين،
وتقدمت إليه وقلت: أيَّد لله مولانا القاضي … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن
الكلام المباح.
﴿اللیلة 296﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن العجمي قال: فامتلأتُ غيظًا يا أمير المؤمنين،
وتقدَّمْتُ إليه وقلت: أيَّد الله مولانا القاضي، أنا في جرابي هذا زرد وصفاح،
وخزائن سلاح، وألف كبش نطاح، وفيه للغنم مراح، وألف كلب نبَّاح، وبساتين وكروم،
وأزهار ومشموم، وتين وتفاح وأشباح، وقناني وأقداح، وعرايس ملاح، ومغانٍ وأفراح،
وهرج وصياح، وأقطار فساح، وإخوة نجاح، ورفقة صباح، ومعهم سيوف ورماح، وقسيٌّ
ونشَّاب، وأصدقاء وأحباب، وخلان وأصحاب، ومحابس للعقاب، وندماء للشراب، وطنبور
ونايات، وأعلام ورايات، وصبيان وبنات، وعرائس مجليات، وجوارٍ مغنيات، وخمس حبشيات،
وثلاث هنديات، وأربع مدنيات، وعشرون روميات، وخمسون تركيات، وسبعون عجميات،
وثمانون كرديات، وتسعون جرجيات، والدجلة والفرات، وشبكة صياد، وقدَّاحة وزناد،
وإرم ذات العماد، وألف علق وقوَّاد، وميادين وإصطبلات، ومساجد وحمامات، وبناء
وتجار، وخشبة ومسمار، وعبد أسود بمزمار، ومقدم وراكبدار، ومدن وأمصار، ومائة ألف
دينار، والكوفة مع الأنبار، وعشرون صندوقًا ملآنة بالقماش، وخمسون حاصلًا للمعاش،
وغزة وعسقلان، ومن دمياط إلى أصوان، وإيوان كسرى أنوشروان، وملك سليمان، ومن وادي
نعمان إلى أرض خراسان، وبلخ وأصبهان، ومن الهند إلى بلاد السودان، وفيه - أطال الله عمر مولانا القاضي - غلائل وعراضي، وألف موسى ماضٍ تحلق ذقن
القاضي إن لم يخشَ عقابي، ولم يحكم بأن الجراب جرابي.
فلما
سمع القاضي كلام الكردي تحيَّر عقله من ذلك، وقال: ما أراكما إلا شخصين نحسين، أو
رجلين زنديقين، تلعبان بالقضاة والحكام، ولا تخشيان من الملام؛ لأنه ما وصف
الواصفون، ولا سمع السامعون بأعجب مما وصفتما، ولا تكلم بمثل ما تكلمتما، والله إن
من الصين إلى شجرة أم غيلان، ومن بلاد فارس إلى أرض السودان، ومن وادي نعمان إلى
أرض خراسان لا يسع ما ذكرتماه، ولا يُصدَّق ما ادَّعيتماه، فهل هذا الجراب بحر ليس
له قرار، ويوم العرض الذي يجمع الأبرار والفجار؟ ثم إن القاضي أمر بفتح الجراب
ففتحه، وإذا فيه خبز وليمون، وجبن وزيتون، ثم رميتُ الجراب قدَّام الكردي ومضيت.
فلما سمع الخليفة هذه الحكاية من علي العجمي استلقى على قفاه من الضحك، وأحسن
جائزته.
حكاية هارون الرشيد وأبي يوسف
ومما
يُحكَى أن جعفر البرمكي نادم الرشيد ليلةً، فقال الرشيد: يا جعفر، بلغني أنك
اشتريت الجارية الفلانية، ولي مدة أتطلبها؛ فإنها على غاية من الجمال، وقلبي بحبها
في اشتغال، فبعها لي. فقال: لا أبيعها يا أمير المؤمنين. فقال: هبها لي. فقال: لا
أهبها. فقال الرشيد: زبيدة طالق ثلاثًا إن لم تبعها لي أو تهبها لي. قال جعفر:
زوجتي طالق ثلاثًا إن بعتها أو وهبتها لك. ثم أفاقا من نشوتهما، وعلما أنهما وقعَا
في أمر عظيم، وعجزَا عن تدبير الحيلة، فقال الرشيد: هذه واقعة ليس لها غير أبي
يوسف. فطلبوه، وكان ذلك في نصف الليل، فلما جاء الرسول قام فزعًا وقال في نفسه: ما
طُلِبت في هذا الوقت إلا لأمر حدث في الإسلام. ثم خرج مسرعًا وركب بغلته، وقال
لغلامه: خذ معك مخلاة البغلة لعلها لم تستوف عليقها، فإذا دخلنا دار الخلافة فضع
لها المخلاة حتى تأكل ما بقي من عليقها إلى حين خروجي إذا لم تستوفِ عليقها في هذه
الليلة. فقال الغلام: سمعًا وطاعة. فلما دخل على الرشيد قام له، وأجلسه على سريره
بجانبه، وكان لا يُجلِس معه أحدًا غيره، وقال له: ما طلبناك في هذا الوقت إلا لأمر
مهم وهو كذا وكذا، وقد عجزنا في تدبير الحيلة. فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا
الأمر أسهل ما يكون. ثم قال: يا جعفر، بِعْ لأمير المؤمنين نصفها، وهَبْ له نصفها،
وتبرآن في يمينكما بذلك. فانسرَّ أمير المؤمنين بذلك، وفعلَا ما أمرهما به. ثم قال
الرشيد: أحضروا الجارية في هذا الوقت … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 297﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الخليفة هارون الرشيد قال: أحضروا الجارية في هذا
الوقت؛ فإني شديد الشوق إليها. فأحضروها، وقال للقاضي أبي يوسف: أريد وطأها في هذا
الوقت؛ فإني لا أطيق الصبر عنها إلى مضي مدة الاستبراء، وما الحيلة في ذلك؟ فقال
أبو يوسف: ائتوني بمملوك من مماليك أمير المؤمنين الذين لم يجر عليهم العتق.
فأحضروا مملوكًا، فقال أبو يوسف: ائذن لي أن أزوجها منه، ثم يطلقها قبل الدخول،
فيحل وطؤها في هذا الوقت من غير استبراء. فأعجب الرشيد ذلك أكثر من الأول، فلما
حضر المملوك قال الخليفة للقاضي: أذنت لك في العقد. فأوجب القاضي النكاح، ثم قبله
المملوك، وبعد ذلك قال له القاضي: طلقها ولك مائة دينار. فقال: لا أفعل. ولم يزل
يزيده وهو يمتنع إلى أن عرض عليه ألف دينار، ثم قال للقاضي: هل الطلاق بيدي أم
بيدك أم بيد أمير المؤمنين؟ قال: بل بيدك. قال: والله لا أفعل أبدًا. فاشتدَّ غضب
أمير المؤمنين، وقال: ما الحيلة يا أبا يوسف؟ قال القاضي أبو يوسف: يا أمير
المؤمنين لا تجزع؛ فإن الأمر هيِّن، ملِّك هذا المملوك للجارية. قال: ملَّكته لها.
قال لها القاضي: قولي قبلت. فقالت: قبلت. فقال القاضي: حكمتُ بينهما بالتفريق؛
لأنه دخل في ملكها فانفسخ النكاح. فقام أمير المؤمنين على قدمَيْه وقال: مثلك مَن
يكون قاضيًا في زماني. واستدعى أطباق الذهب فأُفرِغت بين يدَيْه، وقال للقاضي: هل
معك شيء تضعه فيه؟ فتذكَّرَ مخلاة البغلة فاستدعاها، فمُلِئت له ذهبًا، فأخذها
وانصرف إلى بيته. فلما أصبح الصباح قال لأصحابه: لا طريق إلى الدين والدنيا أسهل
وأقرب من طريق العلم؛ فإني أُعطِيت هذا المال العظيم في مسألتين أو ثلاث. فانظر
أيها المتأدب إلى لطف هذه الواقعة؛ فإنها اشتملت على محاسن، منها: دلال الوزير على
الرشيد، وعلم الخليفة، وزيادة علم القاضي، فرحم الله تعالى أرواحهم أجمعين.
حكاية خالد بن عبد الله مع السارق المزيف
ومما
يُحكَى أن خالد بن عبد الله القسري كان أمير البصرة، فجاء إليه جماعة متعلقون بشاب
ذي جمال باهر، وأدب ظاهر، وعقل وافر، وهو حسن الصورة طيب الرائحة، وعليه سكينة
ووقار، فقدَّموه إلى خالد، فسألهم عن قصته، فقالوا: هذا لص أصبناه البارحة في
منزلنا. فنظر إليه خالد فأعجبه حسن هيئته ونظافته، فقال: اخلوا عنه. ثم دَنَا منه
وسأله عن قصته فقال: إن القوم صادقون فيما قالوه، والأمر على ما ذكروا. فقال له
خالد: ما حملك على ذلك وأنت في هيئة جميلة وصورة حسنة؟ قال: حملني على ذلك الطمع
في الدنيا، وقضاء الله سبحانه وتعالى. فقال له خالد: ثكلتك أمك! أَمَا كان لك في
جمال وجهك وكمال عقلك وحُسْن أدبك، زاجرٌ يزجرك عن السرقة؟ قال: دَعْ عنك هذا أيها
الأمير، وامض إلى ما أمر الله تعالى، فذلك بما كسبَتْ يداي، وما الله بظلَّام
للعبيد. فسكت خالد ساعة يفكِّر في أمر الفتى، ثم أدناه منه وقال له: إن اعترافك
على رءوس الأشهاد قد رابني، وأنا ما أظنك سارقًا، ولعل لك قصة غير السرقة فأخبرني
بها. قال: أيها الأمير، لا يقع في نفسك شيء سوى ما اعترفتُ به عندك، وليس لي قصة
أشرحها إلا أني دخلت دار هؤلاء فسرقت ما أمكنني فأدركوني، وأخذوه مني، وحملوني
إليك. فأمر خالد بحبسه، وأمر مناديًا ينادي بالبصرة: أَلَا مَن أحَبَّ أن ينظر إلى
عقوبة فلان اللص وقطع يده، فَلْيحضر من الغداة إلى المحل الفلاني. فلما استقرَّ
الفتى في الحبس، ووضعوا في رجليه الحديد، تنفَّسَ الصعداء وأفاض العَبَرات، وأنشد
هذه الأبيات:
هَدَّدَنِي
خَالِدٌ بِقَطْعِ يَدِي إِذْ لَمْ
أَبُحْ عِنْدَهُ بِقِصَّتِهَا
فَقُلْتُ
هَيْهَاتَ أَنْ أَبُوحَ بِمَا تَضَمَّنَ
الْقَلْبُ مِنْ مَحَبَّتِهَا
قَطْعُ
يَدِي بِالَّذِي اعْتَرَفْتُ بِهِ أَهْوَنُ
لِلْقَلْبِ مِنْ فَضِيحَتِهَا
فسمع
ذلك الموكلون به، فأتوا خالدًا وأخبروه بما حصل منه؛ فلما جنَّ الليل أمَرَ
بإحضاره عنده، فلما حضر استنطقه فرآه عاقلًا أديبًا فَطِنًا ظريفًا لبيبًا، فأمر
له بطعام فأكل، وتحدَّثَ معه ساعةً، ثم قال له خالد: قد علمتُ أن لك قصة غير
السرقة، فإذا كان الصباح وحضر الناس وحضر القاضي، وسألك عن السرقة فأنكرها، واذكر
ما يدرأ عنك حدَّ القطع، فقد قال رسول الله ﷺ: «ادرءُوا الحدودَ بالشبهات» ثم
أمر به إلى السجن. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 298﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن خالدًا بعد أن تحدَّثَ مع الشاب، أمر به إلى السجن
فمكث فيه ليلته، فلما أصبح الصباح حضر الناس ينظرون قطْعَ يد الشاب، ولم يَبْقَ
أحد في البصرة من رجل ولا امرأة إلا وقد حضر ليرى عقوبة ذلك الفتى، وركب خالد ومعه
وجوه أهل البصرة وغيرهم، ثم استدعى القضاء، وأمر بإحضار الفتى، فأقبل يحجل في قيوده،
ولم يره أحد من الناس إلا بكى عليه، وارتفعت أصوات النساء بالنحيب؛ فأمر القاضي
بتسكيت النساء، ثم قال له: إن هؤلاء القوم يزعمون أنك دخلت دارهم، وسرقت مالهم،
لعلك سرقت دون النصاب. قال: بل سرقت نصابًا كاملًا. قال: لعلك شريك القوم في شيء
منه. قال: بل هو جميعه لهم لا حقَّ لي فيه. فغضب خالد، وقام إليه بنفسه وضربه على
وجهه بالسوط، وقال متمثِّلًا بهذا البيت:
يُرِيدُ
الْمَرْءُ أَنْ يُعْطَى مُنَاهُ وَيَأْبَى
اللهُ إِلَّا مَا يُرِيدُ
ثم
دعا بالجزار ليقطع يده، فحضر وأخرج السكين ومد يده ووضع عليها السكين؛ فبادرت
جارية من وسط النساء عليها أطمار وسخة، فصرخت ورمت نفسها عليه، ثم أسفرت عن وجه
كأنه القمر، وارتفعت في الناس ضجة عظيمة، وكاد أن يقع بسبب ذلك فتنة طائرة الشرر،
ثم نادت تلك الجارية بأعلى صوتها: ناشدتك الله أيها الأمير، لا تعجِّلْ بالقطع حتى
تقرأ هذه الرقعة. ثم دفعت إليه رقعة؛ ففتحها خالد وقرأها، فإذا مكتوب فيها هذه
الأبيات:
أَخَالِدُ
هَذَا مُسْتَهَامٌ مُتَيَّمٌ رَمَتْهُ
لِحَاظِي عَنْ قَسِيِّ الْحَمَالِقِ
فَأَصْمَاهُ
سَهْمُ اللَّحْظِ مِنِّي لِأَنَّهُ حَلِيفُ
جَوًى مِنْ دَائِهِ غَيْرُ فَائِقِ
أَقَرَّ
بِمَا لَمْ يَقْتَرِفْهُ كَأَنَّهُ رَأَى
ذَاكَ خَيْرًا مِنْ هَتِيكَةِ عَاشِقِ
فَمَهْلًا
عَنِ الصَّبِّ الْكَئِيبِ فَإِنَّهُ
كَرِيمُ السَّجَايَا فِي الْوَرَى غَيْرُ سَارِقِ
فلما
قرأ خالد الأبيات تنحَّى، وانفرد عن الناس، وأحضر المرأة، ثم سألها عن القصة؛
فأخبرته بأن هذا الفتى عاشق لها، وهي عاشقة له، وإنما أراد زيارتها فتوجَّه إلى
دار أهلها، ورمى حجرًا في الدار ليُعلِمها بمجيئه، فسمع أبوها وإخوتها صوت الحجر
فصعدوا إليه، فلما أحسَّ بهم جمع قماش البيت كله وأراهم أنه سارق سترًا على معشوقته،
فلما رأوه على هذه الحالة أخذوه وقالوا: هذا سارق. وأتوا به إليك فاعترف بالسرقة،
وأصرَّ على ذلك حتى لا يفضحني، وقد ارتكب هذه الأمور مَن رمى نفسه بالسرقة لفرْطِ
مروءته وكرم نفسه. فقال خالد: إنه لَخليق بأن يُسعَف بمراده. ثم استدعى الفتى إليه
فقبَّله بين عينيه، وأمر بإحضار أبي الجارية، وقال له: يا شيخ، إنَّا كنا عزمنا
على إنفاذ الحكم في هذا الفتى بالقطع، ولكن الله عز وجل قد حفظه من ذلك، وقد أمرت
له بعشرة آلاف درهم لبذله يده حفظًا لعرضك وعرض بنتك، وصيانتكما من العار، وقد
أمرت لابنتك بعشرة آلاف درهم حيث أخبرتني بحقيقة الأمر، وأنا أسألك أن تأذن لي في
تزويجها منه. فقال الشيخ: أيها الأمير، قد أذنت لك في ذلك. فحمد اللهَ خالدٌ وأثنى
عليه، وخطب خطبة حسنة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 299﴾
حكاية جعفر البرمكي والفوال
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن خالدًا حمد الله وأثنى عليه، وخطب خطبة حسنة، وقال
للفتى: قد زوَّجتك هذه الجارية فلانة الحاضرة بإذنها ورضائها وإذن أبيها على هذا
المال، وقدره عشرة آلاف درهم. فقال الفتى: قبلت منك هذا التزويج. ثم إن خالدًا أمر
بحمل المال إلى دار الفتى مزفوفًا في الصواني، وانصرف الناس وهم مسرورون، فما رأيت
يومًا أعجب من ذلك اليوم، أوله بكاء وشرور، وآخِره فرح وسرور.
ومما
يُحكَى أن جعفر البرمكي لما صلبه هارون الرشيد، أمر بصلب كلِّ مَن نعاه أو رثاه،
فكفَّ الناس عن ذلك، فاتفق أن أعرابيًّا كان ببادية بعيدة، وفي كل سنة يأتي بقصيدة
إلى جعفر البرمكي المذكور، فيعطيه ألف دينار جائزة على تلك القصيدة، فيأخذها
وينصرف ويستمر ينفق منها على عياله إلى آخِر العام، فجاءه ذلك الأعرابي بالقصيدة
على عادته، فلما جاء وجد جعفر مصلوبًا، فجاء إلى المحل الذي هو مصلوب به وأناخ
راحلته وبكى بكاءً شديدًا، وحزن حزنًا عظيمًا، وأنشد القصيدة ونام، فرأى جعفر
البرمكي في المنام يقول له: إنك قد أتعبت نفسك وجئتنا فوجدتنا على ما رأيت، ولكن
توجَّهْ إلى البصرة واسأل عن رجلٍ اسمه كذا وكذا من تجار البصرة وقل له: إن جعفر
البرمكي يُقرِئك السلام ويقول لك: أعطني ألف دينار بأمارة الفولة.
فلما
انتبه الأعرابي من نومه توجَّهَ إلى البصرة، فسأل عن ذلك التاجر واجتمع به وبلغه
ما قاله جعفر في المنام، فبكى التاجر بكاءً شديدًا حتى كاد أن يفارق الدنيا، ثم
إنه أكرم الأعرابي وأجلسه عنده وأحسن مثواه، ومكث عنده ثلاثة أيام مكرمًا، ولما
أراد الانصراف أعطاه ألفًا وخمسمائة دينار، وقال له: الألف هي المأمور لك بها،
والخمسمائة إكرام مني إليك، ولك في كل سنة ألف دينار. وعند انصرافه قال للتاجر:
بالله عليك أن تخبرني بخبر الفولة حتى أعرف أصلها. فقال له: أنا كنت في ابتداء
الأمر فقير الحال أطوف بالفول الحار في شوارع بغداد وأبيعه حيلة على المعاش، فخرجت
في يوم بارد ماطر وليس على بدني ما يقيني من البرد، فتارةً أرتعد من شدة البرد،
وتارةً أقع في ماء المطر وأنا في حالة كريهة تقشعر منها الجلود، وكان جعفر في ذلك
اليوم جالسًا في قصر مشرف على الشارع، وعنده خواصه ومحاظيه، فوقع نظره عليَّ
فرَقَّ لحالي وأرسَلَ إليَّ بعضَ أتباعه، فأخذني إليه وأدخلني عليه، فلما رآني قال
لي: بِعْ ما معك من الفول على طائفتي. فأخذت أكيله بمكيال كان معي، فكلُّ مَن أخذ
كيلة فول يملؤها ذهبًا حتى فرغ جميع ما معي ولم يَبْقَ في القفة شيء، ثم جمعت
الذهب الذي حصل لي على بعضه، فقال لي: هل بقي معك شيء من الفول؟ قلت: لا أدري، ثم
فتشت القفة فلم أجد فيها سوى فولة واحدة، فأخذها مني جعفر وفلقها نصفين: فأخذ
نصفها وأعطى النصف الثاني لإحدى محاظيه وقال: بكَمْ تشترين نصفَ هذه الفولة؟
فقالت: بقدر هذا الذهب مرتين. فصرتُ متحيِّرًا في أمري وقلت في نفسي: هذا محال.
فبينما أنا متعجِّب وإذا بالمحظية أمرت بعض جواريها فأحضرت ذهبًا قدر الذهب
المجتمع مرتين، فقال جعفر: وأنا أشتري النصف الذي أخذتُه بقدر الجميع مرتين. ثم
قال لي جعفر: خذ ثمن فولك. وأمر بعض خدَّامه فجمع المال كله ووضعه في قفتي، فأخذته
وانصرفت، ثم جئتُ إلى البصرة واتجرت بما معي من المال، فوسَّعَ الله عليَّ ولله
الحمد والمنة، فإذا أعطيتُكَ في كل سنة ألف دينار من بعض إحسان جعفر، ما ضَرَّني
شيء. فانظر مكارم أخلاق جعفر، والثناء عليه حيًّا وميتًا رحمة الله تعالى عليه.
حكاية أبي محمد الكسلان
ومما
يُحكَى أن هارون الرشيد كان جالسًا ذات يوم في تخت الخلافة، إذ دخل عليه غلام من
الطواشية، ومعه تاج من الذهب الأحمر مرصَّع بالدر والجوهر، وفيه من سائر اليواقيت
والجواهر ما لا يفي به مال، ثم إن ذلك الرجل قبَّل الأرض بين يدي الخليفة وقال له:
يا أمير المؤمنين، إن السيدة زبيدة … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام
المباح.
فقالت
لها أختها: ما أحسن حديثك، وأطيبه، وأحلاه، وأعذبه! فقالت: وأين هذا مما أحدثكم به
الليلة القابلة إن عشت وأبقاني الملك! فقال الملك في نفسه: والله لا أقتلها حتى
أسمع بقية حديثها.
﴿اللیلة 300﴾
قالت
لها أختها: يا أختي أتممي لنا حديثك. قالت: حبًّا وكرامة إن أذن لي الملك. فقال
الملك: احكي يا شهرزاد.
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن الغلام قال للخليفة: إن السيدة زبيدة تقبِّل الأرض بين
يديك، وتقول لك: أنت تعرف أنها قد عملت هذا التاج، وأنه محتاج إلى جوهرة كبيرة
تكون في رأسه، وفتشت دخائرها فلم تجد فيها جوهرة كبيرة على غرضها. فقال الخليفة
للحجَّاب والنوَّاب: فتشوا على جوهرة كبيرة على غرض زبيدة. ففتشوا فلم يجدوا شيئًا
يوافقها، فأعلموا الخليفة بذلك، فضاق صدره وقال: كيف أكون خليفة وملك الأرض وأعجز
عن جوهرة؟! ويلكم! فاسألوا التجار. فسألوا التجار فقالوا لهم: لا يجد مولانا
الخليفة الجوهرة إلا عند رجل من البصرة يُسمَّى أبا محمد الكسلان. فأخبروا الخليفة
بذلك، فأمر وزيره جعفرًا أن يرسل بطاقة إلى الأمير محمد الزبيدي المتولِّي على
البصرة أن يجهِّز أبا محمد الكسلان، ويحضر به بين يدي أمير المؤمنين، فكتب الوزير
بطاقة بمضمون ذلك، وأرسلها مع مسرور.
ثم
توجَّه مسرور بالبطاقة إلى مدينة البصرة، ودخل على الأمير محمد الزبيدي ففرح به،
وأكرمه غاية الإكرام، ثم قرأ عليه بطاقة أمير المؤمنين هارون الرشيد فقال: سمعًا
وطاعة. ثم أرسل مسرورًا مع جماعة من أتباعه إلى أبي محمد الكسلان، فتوجهوا إليه
وطرقوا عليه الباب، فخرج لهم أحد الغلمان، فقال له مسرور: قل لسيدك إن أمير
المؤمنين يطلبك. فدخل الغلام وأخبره بذلك، فخرج فوجده مسرورًا حاجب الخليفة، ومعه
أتباع الأمير محمد الزبيدي، فقبَّل الأرض بين يديه، وقال: سمعًا وطاعة لأمير
المؤمنين، ولكن ادخلوا عندنا. فقالوا: ما نقدر على ذلك إلا على عجل كما أمرنا أمير
المؤمنين، فإنه ينتظر قدومك. فقال: اصبروا عليَّ يسيرًا حتى أجهِّز أمري. ثم دخلوا
معه إلى الدار بعد استعطاف زائد، فرأوا في الدهليز ستورًا من الديباج الأزرق
المطرز بالذهب الأحمر. ثم إن أبا محمد الكسلان أمر بعض غلمانه أن يدخلوا مع مسرور
الحمام الذي في الدار ففعلوا، فرأى حيطانه ورخامه من الغرائب، وهو مزركش بالذهب
والفضة، وماؤه ممزوج بماء الورد، واحتفل الغلمان بمسرور ومَن معه وخدموهم أتمَّ
الخدمة، ولما خرجوا من الحمام ألبسوهم خلعًا من الديباج منسوجة بالذهب، ثم دخل
مسرور وأصحابه فوجدوا أبا محمد الكسلان جالسًا في قصره، وقد عُلِّقت على رأسه ستور
من الديباج المنسوج بالذهب المرصع بالدر والجوهر، والقصر مفروش بمساند مزركشة
بالذهب الأحمر، وهو جالس على مرتبته، والمرتبة على سرير مرصع بالجواهر.
فلما
دخل عليه مسرور رحَّبَ به وتلقَّاه وأجلسه بجانبه، ثم أمر بإحضار السماط، فلما رأى
مسرور ذلك السماط قال: والله ما رأيت عند أمير المؤمنين مثل ذلك السماط أبدًا.
وكان في ذلك السماط أنواع الأطعمة، وكلها موضوعة في أطباق صيني مذهبة، قال مسرور:
فأكلنا وشربنا، وفرحنا إلى آخر النهار، ثم أعطانا كل واحد خمسة آلاف دينار، ولما
كان اليوم الثاني ألبسونا خلعًا خضراء مذهبة، وأكرمونا غاية الإكرام، ثم قال له
مسرور: لا يمكننا أن نقعد زيادة على تلك المدة خوفًا من الخليفة. فقال له أبو محمد
الكسلان: يا مولانا، اصبر علينا إلى غدٍ حتى نتجهَّزَ ونسير معكم. فقعدوا ذلك
اليوم وباتوا إلى الصباح، ثم إن الغلمان شدوا لأبي محمد الكسلان بغلة بسرج من
الذهب مرصَّع بأنواع الدر والجواهر، فقال مسرور في نفسه: يا ترى إذا حضر أبو محمد
بين يدي الخليفة بتلك الصفة، هل يسأله عن سبب تلك الأموال؟ ثم بعد ذلك ودَّعوا أبا
محمد الزبيدي، وطلعوا من البصرة وساروا، ولم يزالوا سائرين حتى وصلوا إلى مدينة
بغداد، فلما دخلوا على الخليفة ووقفوا بين يديه أمره بالجلوس فجلس، ثم تكلم بأدب
وقال: يا أمير المؤمنين، إني جئت معي بهدية على وجه الخدمة، فهل أحضرها عن إذنك؟
قال الرشيد: لا بأس بذلك. فأمر بصندوق وفتحه وأخرج منه تحفًا، من جملتها أشجار من
الذهب، وأوراقها من الزمرد الأبيض، وثمارها ياقوت أحمر وأصفر ولؤلؤ أبيض. فتعجَّبَ
الخليفة من ذلك، ثم أحضر صندوقًا ثانيًا وأخرج منه خيمة من الديباج مكللة باللؤلؤ
والياقوت والزمرد والزبرجد وأنواع الجواهر، وقوائمها من عود هندي رطب، وأذيال تلك
الخيمة مرصعة بالزمرد الأخضر، وفيها تصوير كل الصور من سائر الحيوانات والطيور
والوحوش، وتلك الصور مكللة بالجواهر واليواقيت والزمرد والزبرجد والبلخش وسائر المعادن.
فلما
رأى الرشيد ذلك فرح فرحًا شديدًا، ثم قال أبو محمد الكسلان: يا أمير المؤمنين، لا
تظن أني حملت لك هذا فزعًا من شيء، ولا طمعًا في شيء، وإنما رأيت نفسي رجلًا
عاميًّا، ورأيت هذا لا يصلح إلا لأمير المؤمنين، وإن أذنت لي فرجتك على بعض ما
أقدر عليه. فقال الرشيد: افعل ما شئت حتى ننظر. فقال: سمعًا وطاعة. ثم حرَّك شفتيه
وأومأ إلى شراريف القصر فمالت إليه، ثم أشار إليها فرجعت إلى موضعها، ثم أشار
بعينه فظهرت إليه مقاصير مقفلة الأبواب، ثم تكلم عليها وإذا بأصوات طيور تجاوبه؛
فتعجَّبَ الرشيد من ذلك غاية العجب وقال له: من أين لك هذا كله، وأنت ما تُعرَف
إلا بأبي محمد الكسلان، وأخبروني أن أباك كان حجَّامًا يخدم في حمام، وما خلَّف لك
شيئًا. فقال: يا أمير المؤمنين اسمع حديثي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام
المباح.