kurd-partuk

الليالي من--(201← 250)

﴿اللیلة 201

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن قمر الزمان ومرزوان لما استقبلَا البر سارَا أول يوم إلى المساء، ثم نزلَا وأكلَا وشربَا، وأطعمَا دوابهما، واستراحَا ساعة، ثم ركبَا وسارَا، وما زالَا سائرين مدة ثلاثة أيام، وفي رابع يوم بان لهما مكان متَّسع فيه غاب فنزلا فيه، ثم أخذ مرزوان جملًا وفرسًا وذبحهما، وقطع لحمهما قطعًا، ونجر عظمهما، وأخذ من قمر الزمان قميصه ولباسه، وقطَّعهما قطعًا، ولوَّثهما بدم الفرس، وأخذ ملوطة قمر الزمان ومزَّقها ولوَّثها بالدم، ورماها في مفرق الطريق، ثم أكلَا وشربَا وسافرَا، فسأله قمر الزمان عما فعله، فقال له مرزوان: اعلم أن والدك الملك شهرمان إذا غبتَ عنه ليلةً ولم تحضر له ثاني ليلة، يركب ويسافر في إثرنا إلى أن يصل إلى هذا الدم الذي فعلته، ويرى قماشك مقطعًا وعليه الدم، فيظن في نفسه أنه جرى لك شيء من قطاع الطريق أو وحش البر، فينقطع رجاؤه منك ويرجع إلى المدينة، ونبلغ بهذه الحيلة ما نريد. فقال قمر الزمان: نِعْمَ ما فعلتَ. ثم سارَا أيامًا وليالي، كل ذلك وقمر الزمان باكي العين إلى أن استبشر بقُرْب الديار، فأنشد هذه الأشعار:

أَتَجْفُو مُحِبًّا مَا سَلَا عَنْكَ سَاعَةً        وَتَزْهَدُ فِيهِ بَعْدَمَا كُنْتَ رَاغِبَا

حُرِمْتُ الرِّضَا إِنْ كُنْتُ خُنْتُكَ فِي الْهَوَى        وَعُوقِبْتُ بِالْهِجْرَانِ إِنْ كُنْتُ كَاذِبَا

وَمَا كَانَ لِي ذَنْبٌ فَأَسْتَوْجِبُ الْجَفَا        وَإِنْ كَانَ لِي ذَنْبٌ فَقَدْ جِئْتُ تَائِبَا

وَمِنْ عَجَبِ الْأَيَّامِ أَنَّكَ هَاجِرِي        وَمَا زَالَتِ الْأَيَّامُ تُبْدِي الْعَجَائِبَا

فلما فرغ قمر الزمان من شعره، بانت له جزائر الملك الغيور، ففرح قمر الزمان فرحًا شديدًا، وشكر مرزوان على فعله. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 202

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن قمر الزمان لما بانت له جزائر الملك الغيور، فرح فرحًا شديدًا، وشكر مرزوان على فعله، ثم دخلا المدينة، وأنزله مرزوان في خان، واستراحا ثلاثة أيام من السفر، وبعد ذلك دخل بقمر الزمان الحمَّام وألبسه لبس التجار، وعمل له تخت رمل من ذهب، وعمل له عدة، وعمل له أصطرلابًا من الذهب، ثم قال له مرزوان: قُمْ يا مولاي، وقِفْ تحت قصر الملك ونادِ: أنا الحاسب الكاتب المنجِّم، فأين الطالب؟ فإن الملك إذا سمعك يرسل خلفك، ويدخل بك على ابنته محبوبتك، وهي لمَّا تراك يزول ما بها من الجنون، ويفرح أبوها بسلامتها ويزوِّجها لك، ويقاسمك في ملكه؛ لأنه شرط على نفسه هذا الشرط. فقَبِل قمر الزمان ما أشار به مرزوان، وخرج من الخان وهو لابس البدلة، وأخذ معه العدَّة التي ذكرناها، ومشى إلى أن وقف تحت قصر الملك الغيور ونادى: أنا الكاتب الحاسب المنجِّم، أكتب الكتاب، وأُحكِم الحجاب، وأحسب الحساب، وأخطُّ بأقلام المطالب فأين الطالب؟ فلما سمع أهل المدينة هذا الكلام، وكان لهم مدة من الزمان ما رأوا حاسبًا ولا منجِّمًا، وقفوا حوله وتأمَّلوه؛ فتعجَّبوا من حسن صورته ورونق شبابه، وقالوا له: بالله عليك يا مولانا لا تفعل بنفسك هذه الفعال طمعًا في زواج بنت الملك الغيور، وانظر بعينك إلى هذه الرءوس المعلَّقة، فإن أصحابها كلهم قُتِلوا من أجل هذا الحال، فآلَ بهم الطمع إلى الوبال. فلم يلتفت قمر الزمان إلى كلامهم، بل رفع صوته ونادى: أنا كاتب حاسب، أُقرِّب المطالب للطالب. فتداخَلَ عليه الناس. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 203

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن قمر الزمان نهته الناس فلم يسمع كلامهم، بل رفع صوته ونادى: أنا الكاتب الحاسب، أُقرِّب المطالب للطالب. فاغتاظوا منه جميعًا وقالوا له: ما أنت إلا شاب مكابر أحمق، ارحم شبابك وصغر سنك وحسنك وجمالك. فصاح قمر الزمان وقال: أنا المنجم والحاسب، فهل من طالب؟ فبينما الناس تنهى قمر الزمان عن هذه الحالة، إذ سمع الملك الغيور الصياح وضجَّة الناس، فقال للوزير: انزل ائتنا بهذا المنجِّم. فنزل الوزير وأخذ قمر الزمان، فلما دخل قمر الزمان على الملك قبَّلَ الأرض بين يديه، وأنشد هذين البيتين:

ثَمَانِيَةٌ فِي الْمَجْدِ حُزْتَ جَمِيعَهَا        فَلَا زَالَ خَدَّامًا بِهِنَّ لَكَ الدَّهْرُ

يَقِينُكَ وَالتَّقْوَى وَمَجْدُكَ وَالنَّدَى        وَلَفْظُكَ وَالْمَعْنَى وَعِزُّكَ وَالنَّصْرُ

فلما نظر الملك الغيور إليه أجلسه إلى جانبه وأقبل عليه، وقال له: يا ولدي، بالله لا تجعل نفسك منجِّمًا، ولا تدخل على شرطي؛ فإني ألزمت نفسي أن كل مَن دخل على بنتي ولم يُبرئها مما أصابها ضربتُ عنقه، ومَن أبرَأَها زوَّجته بها، فلا يغرَّنك حسنك وجمالك، وقدُّك واعتدالك، والله والله إن لم تُبرِئها لأضربن عنقك. فقال قمر الزمان: قبلت منك هذا الشرط. فأشهد عليه الملكُ الغيور القضاةَ، وسلَّمه إلى الخادم وقال له: أوصل هذا إلى السيدة بدور. فأخذه الخادم من يده ومشى به في الدهليز، فصار قمر الزمان سابقه، وصار الخادم يقول له: ويلك! لا تستعجل على هلاك نفسك، فوالله ما رأيت منجِّمًا يستعجل على هلاك نفسه إلا أنت، ولكنك لم تعرف أي شيء قدَّامك من الدواهي. فأعرَضَ قمر الزمان بوجهه عن الخادم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 204

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن قمر الزمان أعرض بوجهه عن الخادم وأنشد هذه الأبيات:

أَنَا عَارِفٌ بِصِفَاتِ حُسْنِكَ جَاهِلٌ        مُتَحِيِّرٌ لَمْ أَدْرِ مَا أَنَا قَائِلُ

إِنْ قُلْتُ شَمْسًا كَانَ حُسْنُكَ لَمْ يَغِبْ        عَنِّي وَعَهْدِي بِالشُّمُوسِ أَوَافِلُ

كَمُلَتْ مَحَاسِنُكَ الَّتِي فِي وَصْفِهَا        عَجَزَ الْبَلِيغُ وَحَارَ فِيهَا الْقَائِلُ

ثم إن الخادم أوقف قمر الزمان خلف الستارة التي على الباب، فقال له قمر الزمان: أيُّ الحالتين أحبُّ إليك؛ كوني أداوي سيدتك وأبرئها من هنا، أم أدخل إليها فأبرئها من داخل الستارة؟ فتعجَّب الخادم من كلامه وقال له: إن أبرأتها من هنا كان ذلك زيادة في فضلك. فعند ذلك جلس قمر الزمان خلف الستارة، وأطلع الدواة والقلم، وكتب في ورقةٍ هذه الكلمات: «مَن برح به الجفا، فدواؤه الوفا، والبلاء لمَن يئس من حياته، وأيقن بحلول وفاته، وما لقلبه الحزين، من مسعف ولا معين، وما لطرفه الساهر، على الهم ناصر، فنهاره في لهيب، وليله في تعذيب، وقد انبرى جسمه من كثرة النحول، ولم يأته من حبيبه رسول كتب» ثم كتب هذه الأبيات:

كَتَبْتُ وَلِي قَلْبٌ بِذِكْرِكِ مُولَعُ        وَجَفْنٌ قَرِيحٌ مِنْ دِمَائِيَ يَدْمَعُ

وَجِسْمٌ كَسَاهُ لَاعِجُ الشَّوْقِ وَالْأَسَى        قَمِيصُ نُحُولٍ فَهْوَ فِيهِ مُضَعْضَعُ

شَكَوْتُ الْهَوَى لَمَّا أَضَرَّ بِيَ الْهَوَى        وَلَمْ يَبْقَ عِنْدِي لِلتَّصَبُّرِ مَوْضِعُ

إِلَيْكِ فَجُودِي وَارْحَمِي وَتَعَطَّفِي        فَإِنَّ فُؤَادِي بِالْهَوَى يَتَقَطَّعُ

ثم كتب تحت الشعر هذه السجعات: «شفاء القلوب لقاء المحبوب، مَن جفاه حبيبه فالله طبيبه، مَن خان منكم ومنَّا لا نال ما يتمنَّى، ولا أظرف من المحب الوافي إلى الحبيب الجافي». ثم كتب في الإمضاء: «من الهائم الولهان، العاشق الحيران، مَن أقلقه الشوق والغرام، أسير الوَجْد والهيام، قمر الزمان بن شهرمان، إلى فريدة الزمان، ونخبة الحور الحسان، السيدة بدور بنت الملك الغيور، اعلمي أنني في ليلي سهران، وفي نهاري حيران، زائد النحول والأسقام، والعشق والغرام، كثير الزفرات غزير العَبَرات، أسير الهوى قتيل الجوى، غريم الغرام نديم السقام، فأنا السهران الذي لا تهجع مقلته، والمتيم الذي لا ترفأ عبرته، فنارُ قلبي لا تُطفَى، ولهيب شوقي لا يخفَى». ثم كتب في حاشية الكتاب هذا البيت المستطاب:

سَلَامٌ مِنْ خَزَائِنِ لُطْفِ رَبِّي        عَلَى مَنْ عِنْدَهَا رُوحِي وَقَلْبِي

وكتب أيضًا:

هَبُوا لِي حَدِيثًا مِنْ حَدِيثِكُمُ عَسَى        بِهِ تَرْحَمُونِي أَوْ يَقَرُّ جَنَانِي

وَمِنْ شَغَفِي فِيكُمْ وَوَجْدِيَ أَنَّنِي        أُهَوِّنُ مَا أَلْقَاهُ وَهْوَ هَوَانِي

رَعَى اللهُ قَوْمًا شَطَّ عَنِّي مَزَارُهُمْ        وَصُنْتُ لَهُمْ سِرًّا بِأَيِّ مَكَانِ

وَهَا أَنَا قَدْ جَدَّ الزَّمَانُ بِفَضْلِهِ        وَفِي تُرْبِ أَعْتَابِ الْحَبِيبِ رَمَانِي

رَأَيْتُ بُدُورًا فِي الْفِرَاشِ بِجَانِبِي        زَهَا قَمَرِي مِنْ شَمْسِهَا بِزَمَانِي

ثم إن قمر الزمان بعد أن ختم الكتاب، كتب في عنوانه هذه الأبيات:

سَلِي كِتَابِيَ عَمَّا خَطَّهُ قَلَمِي        فَالرَّسْمُ يُخْبِرُ عَنْ وَجْدِي وَعَنْ أَلَمِي

يَدِي تَخُطُّ وَدَمْعُ الْعَيْنِ مُنْهَمِلُ        قَدْ يَشْتَكِي الشَّوْقُ لِلْقِرْطَاسِ مِنْ سَقَمِي

مَا زَالَ دَمْعِي عَلَى الْقِرْطَاسِ مُنْسَكِبًا        إِنِ انْقَضَتْ أَدْمُعِي أَتْبَعْتُهَا بِدَمِي

ثم كتب أيضًا:

أَرْسَلْتُ خَاتِمَكَ الَّذِي اسْتَبْدَلْتُهُ        يَوْمَ التَّوَاصُلِ فَارْسِلِي لِي خَاتَمِي

وكان قد وضع خاتم السيدة بدور في طي الكتاب، ثم ناوَلَ الكتاب للخادم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 205

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن قمر الزمان لما وضع الخاتم في الورقة ناولها للخادم، فأخذها ودخل بها إلى السيدة بدور، فأخذتها من يد الخادم وفتحتها، فوجدت خاتمها بعينه، ثم قرأت الورقة، فلما عرفت المقصود علمت أن معشوقها قمر الزمان، وأنه هو الواقف خلف الستار؛ فطار عقلها من الفرح، واتَّسع صدرها وانشرح، ومن فرط المسرات أنشدت هذه الأبيات:

وَلَقَدْ نَدِمْتُ عَلَى تَفَرُّقِ شَمْلِنَا        دَهْرًا وَفَاضَ الدَّمْعُ مِنْ أَجْفَانِي

وَنَذَرْتُ إِنْ عَادَ الزَّمَانُ يَلُمُّنَا        لَا عُدْتُ أَذْكُرُ فُرْقَةً بِلِسَانِي

هَجَمَ السُّرُورُ عَلَيَّ حَتَّى إِنَّهُ        مِنْ فَرْطِ مَا قَدْ سَرَّنِي أَبْكَانِي

يَا عَيْنُ صَارَ الدَّمْعُ مِنْكِ سَجِيَّةً        تَبْكِينَ فِي فَرَحٍ وَفِي أَحْزَانِ

فلما فرغت السيدة بدور من شعرها قامت من وقتها، وصلبت رجليها في الحائط، واتَّكأت بقوتها على الغل الحديد فقطعته من رقبتها، وقطعت السلاسل، وخرجت من خلف الستارة، ورمت روحها على قمر الزمان، وقبَّلَتْه في فمه مثل زق الحمام، وعانقته من شدة ما بها من الغرام، وقالت له: يا سيدي، هل هذا يقظة أو منام؟ وهل قد مَنَّ الله علينا بجمع شملنا. ثم حمدت الله وشكرته على جمع شملها بعد اليأس، فلما رآها الخادم على تلك الحالة، ذهب يجري حتى وصل إلى الملك الغيور، فقبَّل الأرض بين يديه، وقال له: يا مولاي، اعلم أن هذا المنجم أعلم المنجِّمين كلهم، فإنه داوى ابنتك وهو واقف خلف الستارة، ولم يدخل عليها. فقال الملك للخادم: أصحيح هذا الخبر؟ فقال الخادم: يا سيدي، قُمْ وانظر إليها كيف قطعَتِ السلاسلَ الحديد، وخرجت للمنجم تقبِّله وتعانِقه. فعند ذلك قام الملك الغيور ودخل على ابنته، فلما رأته نهضَتْ قائمة، وغطَّت رأسها، وأنشدت هذين البيتين:

لَا أُحِبُّ السِّوَاكَ مِنْ أَجْلِ أَنِّي        إِنْ ذَكَرْتُ السِّوَاكَ قُلْتُ: سِوَاكَا

وَأُحِبُّ الْأَرَاكَ مِنْ أَجْلِ أَنِّي        إِنْ ذَكَرْتُ الْأَرَاكَ قُلْتُ: أَرَاكَا

ففرح أبوها بسلامتها، وقبَّلها بين عينيها؛ لأنه كان يحبها محبة عظيمة، وأقبل الملك الغيور على قمر الزمان وسأله عن حاله، وقال له: من أي البلاد أنت؟ فأخبره قمر الزمان بشأنه، وأعلمه أن والده الملك شهرمان، ثم إن قمر الزمان قصَّ عليه القصة من أولها إلى آخرها، وأخبره بجميع ما اتفق له مع السيدة، وكيف أخذ الخاتم من إصبعها وألبسها خاتمه، فتعجَّبَ الملك الغيور من ذلك وقال: إن حكايتكما لا بد أن تُؤرَّخ في الكتب وتُقرَأ بعدكما جيلًا بعد جيل. ثم إن الملك الغيور أحضر القضاة والشهود من وقته، وكتب كتاب السيدة بدور على قمر الزمان، وأمر بتزيين المدينة سبعة أيام، ثم مدُّوا السماط والأطعمة، وتزينت المدينة وجميع العساكر، وأقبلت البشائر، ودخل قمر الزمان على السيدة بدور، وفرح بعافيتها وزواجها، وحمدت الله الذي رماها في حب شاب مليح من أبناء الملوك، ثم جلوها عليه، وكانا يشبهان بعضهما في الحسن والجمال، والظرف والدلال، ونام قمر الزمان عندها تلك الليلة، وبلغ أربه منها، وتمتعت هي بحسنه وجماله، وتعانقا إلى الصباح. وفي اليوم الثاني عمل الملك وليمة، وجمع جميع أهل الجزائر الجوَّانية والجزائر البرَّانية، وقدَّم لهم الأسمطة، وامتدت الموائد مدة شهر كامل؛ وبعد ذلك تذكَّرَ قمر الزمان أباه، ورآه في المنام يقول له: يا ولدي، أهكذا تفعل معي هذه الفعال؟ وأنشده في المنام هذين البيتين:

لَقَدْ رَاعَنِي بَدْرُ الدُّجَى بِصُدُودِهِ        وَوَكَّلَ أَجْفَانِي بِرَعْيِ كَوَاكِبِهْ

فَيَا كَبِدِي مَهْلًا عَسَاهُ يَعُودُ لِي        وَيَا مُهْجَتِي صَبْرًا عَلَى مَا كَوَاكِ بِهْ

ثم إن قمر الزمان لما رأى والده في المنام يعاتبه، أصبح حزينًا وأعلم زوجته بذلك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 206

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن قمر الزمان لما رأى والده في المنام يعاتبه، أصبح حزينًا وأخبر زوجته السيدة بدور بذلك، فدخلت هي وإياه على والدها وأعلماه، واستأذناه في السفر، فأذن له في السفر، فقالت السيدة بدور: يا والدي، لا أصبر على فراقه. فقال لها والدها: سافري معه. وأذن لها بالإقامة معه سنة كاملة، وبعد السنة تجيء لتزور والدها في كل عام مرة، فقبَّلت يد أبيها، وكذلك قمر الزمان، ثم شرع الملك الغيور في تجهيز ابنته هي وزوجها، وهيَّأ لهما أدوات السفر، وأخرج لهما الخيول والهجن، وأخرَجَ لابنته محفَّة، وحمَّلَ لهما البغال والهجن، وأخرج لهما ما يحتاجان إليه في السفر. وفي يوم المسير، ودَّع الملك الغيور قمر الزمان، وخلع عليه خلعة سنيَّة من الذهب مرصَّعة بالجواهر، وقدَّم له خزنة مال، وأوصاه على بنته بدور، ثم خرج معهما إلى طرف الجزائر؛ وبعد ذلك ودَّعَ قمر الزمان، ثم دخل على ابنته وهي في المحفة، وصار يعانقها ويبكي، وأنشد هذين البيتين:

يَا طَالِبًا لِلْفِرَاقِ صَبْرًا        فَمُتْعَةُ الْعَاشِقِ الْعِنَاقُ

مَهْلًا فَطَبْعُ الزَّمَانِ غَدْرٌ        وَآخِرُ الْعِشْرَةِ الْفِرَاقُ

ثم خرج من عند ابنته، وأتى إلى زوجها قمر الزمان، فصار يودِّعه ويقبِّله، ثم فارقهما وعاد إلى جزائره بعسكره بعد أن أمرهما بالرحيل؛ فسار قمر الزمان هو وزوجته السيدة بدور ومَن معهم من الأتباع أول يوم، والثاني، والثالث، والرابع، ولم يزالوا مسافرين مدة شهر، ثم نزلوا في مرج واسع كثير الكلأ، وضربوا خيامهم فيه، وأكلوا وشربوا واستراحوا، ونامت السيدة بدور، فدخل عليها قمر الزمان فوجدها نائمة وفوق بدنها قميص مشمشي من الحرير، يَبِين منه كل شيء، وفوق رأسها كوفيَّة من الذهب مرصَّعة بالجواهر، وقد رفع الهواء قميصها فطلع فوق سرَّتها عند نهودها، فبان له بطن أبيض من الثلج، وكل عكنة من عكن طيَّاته تَسَع أوقية من دهن البان؛ فزاد محبةً وهيامًا، وأنشد هذين البيتين:

لَوْ قِيلَ لِي وَزَفِيرُ الْحَرِّ مُتَّقِدُ        وَالنَّارُ فِي الْقَلْبِ وَالْأَحْشَاءِ تَضْطَرِمُ

أَهُمْ تُرِيدُ وَتَهْوَى أَنْ تُشَاهِدَهُمْ        أَوْ شَرْبَةً مِنْ زُلَالِ الْمَاءِ؟ قُلْتُ: هُمُ

فحطَّ قمر الزمان يده في دكَّة لباسها فجذبها، وحلَّها لما اشتهاها خاطره، فرأى فصًّا أحمر مثل العندم مربوطًا على الدكَّة، وعليه أسماء منقوشة سطرين بكتابة لا تُقرأ، فتعجَّب قمر الزمان من تلك القصة، وقال في نفسه: لولا أن هذا الفص أمر عظيم عندها ما ربطته هذه الربطة على دكة لباسها، وما خبَّأته في أعز مكان عندها حتى لا تفارقه، فماذا تصنع بهذا؟ وما السر الذي هو فيه؟ ثم أخذه وخرج من الخيمة ليُبصِره في النور. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 207

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أنه لما أخذ الفصَّ ليُبصِره في النور، صار يتأمَّل فيه، وإذا بطائر انقضَّ عليه، وخطفه من يده وطار به، وحطَّ به على الأرض؛ فخاف قمر الزمان على الفصِّ وجرى خلف الطائر، وصار الطائر يجري على قدر جري قمر الزمان، وصار قمر الزمان خلفه من وادٍ إلى وادٍ، ومن تلٍّ إلى تلٍّ، إلى أن دخل الليل وتغلس الظلام، فنام الطائر على شجرة عالية، فوقف قمر الزمان تحتها، وصار باهتًا، وقد ضعف من الجوع والتعب، وظن أنه هلك، وأراد أن يرجع فما عرف الموضع الذي جاء منه، وهجم عليه الظلام فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ثم نام تحت الشجرة التي فوقها الطائر إلى الصباح، ثم انتبه من نومه فوجد الطائر قد انتبه وطار من فوق الشجرة؛ فمشى قمر الزمان خلفه، وصار ذلك الطائر يطير قليلًا بقدر مشي قمر الزمان؛ فتبسَّمَ قمر الزمان، وقال: يا لله العجب! إن هذا الطائر كان بالأمس يطير بقدر جريتي، وفي هذا اليوم علم أني أصبحت تعبانًا لا أقدر على الجري، فصار يطير على قدر مشيي، إن هذا عجيب! ولكن لا بد أن أتبع هذا الطائر، فإما أن يقودني إلى حياتي أو إلى مماتي، فأنا أتبعه أينما يتوجه؛ لأنه على كل حال لا يقيم إلا في البلاد العمار. ثم إن قمر الزمان جعل يمشي تحت الطائر، والطائر يبيت في كل ليلة على شجرة، ولم يزل تابعه مدة عشرة أيام، وقمر الزمان يتقوَّت من نبات الأرض ويشرب من الأنهار، وبعد العشرة أيام أشرف على مدينة عامرة، فمرق الطائر في تلك المدينة مثل لمح البصر، وغاب عن قمر الزمان، ولم يعرف أين راح، فتعجب قمر الزمان وقال: الحمد لله الذي سلَّمني حتى وصلت إلى هذه المدينة. ثم جلس عند الماء، وغسل يديه ورجليه ووجهه واستراح ساعة، وتذكر ما كان فيه من الراحة، ونظر إلى ما هو فيه من الغربة والجوع والتعب، فأنشد يقول:

أَخْفَيْتُ مَا أَلْقَاهُ مِنْهُ وَقَدْ ظَهَرْ        وَالنَّوْمُ مِنْ عَيْنِي تَبَدَّلَ بِالسَّهَرْ

نَادَيْتُ لَمَّا أَوْهَنَتْ قَلْبِي الْفِكَرْ        يَا دَهْرُ لَا تُبْقِي عَلَيَّ وَلَا تَذَرْ

هَا مُهْجَتِي بَيْنَ الْمَشَقَّةِ وَالْخَطَرْ

لَوْ كَانَ سُلْطَانُ الْمَحَبَّةِ مُنْصِفِي        مَا كَانَ نَوْمِي مِنْ عُيُونِي قَدْ نُفِي

يَا سَادَتِي رِفْقًا بِصَبٍّ مُدْنَفِ        وَتَعَطَّفُوا لِعَزِيزِ قَوْمٍ ذَلَّ فِي

شَرْعِ الْهَوَى وَغَنِيِّ قَوْمٍ افْتَقَرْ

لَحَّ الْعَوَاذِلُ فِيكَ مَا طَاوَعْتُهُمْ        وَسَدَدْتُ كُلَّ مَسَامِعِي وَصَمَمْتُهُمْ

قَالُوا عَشِقْتَ مُهَفْهَفًا فَأَجَبْتُهُمْ        اخْتَرْتُهُ مِنْ بَيْنِهِمْ وَتَرَكْتُهُمْ

كُفُّوا إِذَا وَقَعَ الْقَضَا عَمِيَ الْبَصَرْ

ثم إن قمر الزمان لما فرغ من شعره واستراح، دخل باب المدينة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 208

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن قمر الزمان لما فرغ من شعره واستراح، دخل باب المدينة وهو لا يعلم أين يتوجه، فمشى في المدينة جميعها، وقد كان دخل من باب البر، ولم يزل يمشي إلى أن خرج من باب البحر فلم يقابله أحد من أهلها، وكانت مدينة على جانب البحر، ثم إنه بعد أن خرج من باب البحر مشى، ولم يزل ماشيًا حتى وصل إلى بساتين المدينة، وشقَّ بين الأشجار فأتى إلى بستان ووقف على بابه، فخرج إليه الخولي ورحَّب به، وقال له: الحمد لله أنك أتيتَ سالمًا من أهل هذه المدينة، فادخل هذا البستان سريعًا قبل أن يراك أحد من أهلها. فعند ذلك دخل قمر الزمان ذلك البستان وهو ذاهل العقل، وقال للخولي: ما حكاية أهل هذه المدينة؟ وما خبرهم؟ فقال له: اعلم أن أهل هذه المدينة كلهم مجوس، فبالله عليك أخبرني كيف وصلت إلى هذا المكان؟ وما سبب دخولك في بلادنا؟ فعند ذلك أخبره قمر الزمان بجميع ما جرى له، فتعجب الخولي من ذلك غاية العجب، وقال له: اعلم يا ولدي أن بلاد الإسلام بعيدة من هنا، فبيننا وبينها أربعة أشهر في البحر، وأما في البر فسنة كاملة، وأن عندنا مركبًا تقلع وتسافر كل سنة ببضائع إلى أول بلاد الإسلام، وتسير من هنا إلى بحر جزائر الأبنوس، ومنه إلى جزائر خالدان، وملكها يقال له السلطان شهرمان. فعند ذلك تفكَّرَ قمر الزمان في نفسه ساعةً زمانية، وعلم أنه لا أوفق له من قعوده في البستان عند الخولي، ويعمل عنده مرابعًا، فقال للخولي: هل تقبلني عندك مرابعًا في هذا البستان؟ فقال له الخولي: سمعًا وطاعة. ثم علَّمه تحويل الماء بين الأشجار، فصار قمر الزمان يحول الماء ويقطع الحشيش بالفأس، وألبسه الخولي بشتًا قصيرًا أزرق يصل إلى ركبته، وصار يسقي الأشجار، ويبكي بالدموع الغزار، وينشد الأشعار بالليل والنهار في معشوقته بدور؛ فمن جملة ذلك هذه الأبيات:

لَنَا عِنْدَكُمْ وَعْدٌ فَهَلَّا وَفَيْتُمُ        وَقُلْتُمْ لَنَا قَوْلًا فَهَلَّا فَعَلْتُمُ

سَهِرْنَا عَلَى حُكْمِ الْغَرَامِ وَنِمْتُمُ        وَلَيْسَ سَوَاءً سَاهِرُونَ وَنُوَّمُ

وَكُنَّا عَهِدْنَا أَنَّنَا نَكْتُمُ الْهَوَى        فَأَغْرَاكُمُ الْوَاشِي وَقَالَ وَقُلْتُمُ

فَيَا أَيُّهَا الْأَحْبَابُ فِي السُّخْطِ وَالرِّضَا        عَلَى كُلِّ حَالٍ أَنْتُمُ الْقَصْدُ أَنْتُمُ

وَلِي عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ قَلْبٌ مُعَذَّبٌ        فَيَا لَيْتَهُ يَرْثِي لِحَالِي وَيَرْحَمُ

وَمَا كُلُّ عَيْنٍ مِثْلِ عَيْنِي قَرِيحَةٌ        وَلَا كُلُّ قَلْبٍ مِثْلِ قَلْبِي مُتَيَّمُ

ظَلَمْتُمْ وَقُلْتُمْ إِنَّمَا الْحُبُّ ظَالِمٌ        صَدَقْتُمْ كَذَا كَانَ الْحَدِيثُ صَدَقْتُمُ

سَلُوا مُغْرَمًا لَا يَنْقُضُ الدَّهْرَ عَهْدَهُ        وَلَوْ كَانَ فِي أَحْشَائِهِ النَّارُ تَضْرِمُ

إِذَا كَانَ خَصْمِي فِي الصَّبَابَةِ حَاكِمِي        لِمَنْ أَشْتَكِي خَصْمِي لِمَنْ أَتَظَلَّمُ

وَلَوْلَا افْتِقَارِي فِي الْهَوَى وَصَبَابَتِي        لَمَا كَانَ لِي فِي الْعِشْقِ قَلْبٌ مُتَيَّمُ

هذا ما كان من قمر الزمان ابن الملك شهرمان، وأما ما كان من أمر زوجته السيدة بدور بنت الملك الغيور؛ فإنها لما استيقظت من نومها طلبت زوجها قمر الزمان فلم تجده، ورأت سروالها محلولًا، فافتقدت العقدة فوجدتها محلولة، والفص معدومًا، فقالت في نفسها: يا لله العجب! أين معشوقي؟ كأنه أخذ الفص وراح وهو لا يعلم السر الذي هو فيه، فيا تُرَى أين راح؟ ولكن لا بد له من أمر عجيب اقتضى رواحه؛ فإنه لا يقدر أن يفارقني ساعة، فلعن الله الفص ولعن ساعته. ثم إن السيدة بدور تفكَّرت، وقالت في نفسها: إن خرجت إلى الحاشية وأعلمتهم بفقد زوجي يطمعوا فيَّ، ولكن لا بد من الحيلة. ثم إنها لبست ثياب قمر الزمان، ولبست عمامة كعمامته، وضربت لها لثامًا، وحطَّت في محفتها جارية، وخرجت من خيمتها وصرخت على الغلمان؛ فقدَّموا لها الجواد فركبت، وأمرت بشد الأحمال، فشدوا الأحمال وسافروا، وأخفت أمرها؛ لأنها كانت تشبه قمر الزمان، فما شك أحد أنها قمر الزمان بعينه. وما زالت مسافرة هي وأتباعها أيامًا ولياليَ حتى أشرفت على مدينة مطلَّة على البحر المالح فنزلت بظاهرها، وضربت خيامها في ذلك المكان لأجل الاستراحة، ثم سألت عن هذه المدينة فقيل لها: هذه مدينة الأبنوس، وملكها الملك أرمانوس، وله بنت اسمها حياة النفوس. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 209

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السيدة بدور لما نزلت بظاهر مدينة الأبنوس لأجل الاستراحة، أرسل الملك أرمانوس رسولًا من عنده يكشف له خبر هذا الملك النازل بظاهر المدينة، فلما وصل إليهم الرسول سألهم، فأخبروه أن هذا ابن ملك تائه عن الطريق، وهو قاصد جزائر خالدان والملك شهرمان. فعاد الرسول إلى الملك أرمانوس وأخبره بالخبر، فلما سمع الملك أرمانوس هذا الكلام، نزل هو وأرباب دولته إلى مقابلته، فلما قدم على الخيام ترجَّلت السيدة بدور وترجَّل الملك أرمانوس وسلَّما على بعضهما، وأخذها ودخل بها إلى مدينته، وطلع بها إلى قصره، وأمر بمد السماط وموائد الأطعمة، وأمر بنقل السيدة بدور إلى دار الضيافة، فأقامت هناك ثلاثة أيام، وبعد ذلك أقبل الملك أرمانوس على السيدة بدور، وكانت دخلت في ذلك اليوم الحمام، وأسفرت عن وجهٍ كأنه البدر عند التمام؛ فافتتن بها العالم، وتهتَّكت بها الخلق عند رؤيتها، فعند ذلك أقبل الملك أرمانوس عليها وهي لابسة حلةً من الحرير مطرَّزة بالذهب المرصع بالجواهر، وقال لها: يا ولدي، إني بقيت شيخًا هرمًا، وعمري ما رُزِقت ولدًا غير بنت، وهي على شكلك وقدِّك في الحسن والجمال، وعجزت عن الملك؛ فهل لك يا ولدي أن تقيم بأرضي، وتسكن بلادي، وأزوِّجك ابنتي، وأعطيك مملكة؟ فأطرقت السيدة بدور رأسها، وعرق جبينها من الحياء، وقالت في نفسها: كيف يكون العمل وأنا امرأة؟ فإن خالفت أمره وسرت ربما يرسل خلفي جيشًا يقتلني، وإن أطعته ربما أفتضح، وقد فقدت محبوبي قمر الزمان، ولم أعرف له خبرًا، وما لي خلاص إلا أن أجيبه إلى قصده، وأقيم عنده حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.

ثم إن السيدة بدور رفعت رأسها، وأذعنت للملك بالسمع والطاعة؛ ففرح الملك بذلك، وأمر المنادي أن ينادي في جزائر الأبنوس بالفرح والزينة، وجمع الحجَّاب والنواب والأمراء والوزراء وأرباب دولته وقضاة مدينته، وعزل نفسه من المُلك، وسلطن السيدة بدور، وألبسها بدلة الملك، ودخلت الأمراء جميعًا على السيدة بدور وهم لا يشكُّون في أنها شاب، وصار كلُّ مَن نظر إليها منهم جميعًا يبل سراويله لفرط حسنها وجمالها، فلما تسلطنت الملكة بدور ودقت لها البشائر بالسرور، شرع الملك أرمانوس في تجهيز ابنته حياة النفوس، وبعد أيام قلائل أدخلوا السيدة بدور على حياة النفوس، فكانتا كأنهما بدران اجتمعا أو شمسان في وقت طلعا، فردوا عليهما الأبواب، وأرخَوا الستائر بعد أن أوقدوا لهما الشموع، وفرشوا لهما الفرش، فعند ذلك جلست السيدة بدور مع السيدة حياة النفوس، فتذكَّرت محبوبها قمر الزمان، واشتدت بها الأحزان؛ فسكبت العَبَرات، وأنشدت هذه الأبيات:

يَا رَاحِلِينَ وَقَلْبِي زَائِدُ الْقَلَقِ        لَمْ يُبْقِ بَيْنُكُمُ فِي الْجِسْمِ مِنْ رَمَقِ

قَدْ كَانَ لِي مُقْلَةٌ تَشْكُو السُّهَادَ وَقَدْ        أَذَابَهَا الدَّمْعُ يَا لَيْتَ السُّهَادَ بَقِي

لَمَّا رَحَلْتُمْ أَقَامَ الصَّبُّ بَعْدَكُمُ        لَكِنْ سَلُوا عَنْهُ مَاذَا فِي الْبِعَادِ لَقِي

لَوْلَا جُفُونِي وَقَدْ فَاضَتْ مَدَامِعُهَا        تَوَقَّدَتْ عَرَصَاتُ الْأَرْضِ مِنْ حُرَقِي

أَشْكُو إِلَى اللهِ أَحْبَابًا عَدَمْتُهُمُ        لَمْ يَرْحَمُوا صَبْوَتِي فِيهِمْ وَلَا قَلَقِي

لَا ذَنْبَ لِي عِنْدَهُمْ إِلَّا الْغَرَامَ بِهِمْ        وَالنَّاسُ بَيْنَ سَعِيدٍ فِي الْهَوَى وَشَقِي

ثم إن السيدة بدور لما فرغت من إنشادها جلست إلى جانب السيدة حياة النفوس، وقبَّلتها في فمها، ونهضت من وقتها وساعتها توضأت، ولم تزل تصلي حتى نامت السيدة حياة النفوس، ثم دخلت السيدة بدور معها في الفرش، وأدارت ظهرها لها إلى الصباح؛ فلما طلع النهار دخل الملك هو وزوجته إلى ابنتهما، وسألاها عن حالها؛ فأخبرتهما بما جرى وما سمعته من الشعر.

هذا ما كان من أمر حياة النفوس وأبويها، وأما ما كان من أمر الملكة بدور، فإنها خرجت وجلست على كرسي المملكة، وطلع إليها الأمراء وأرباب الدولة وجميع الرؤساء والجيوش وهنَّوها بالملك، وقبَّلوا الأرض بين يديها ودعوا لها، فأقبلت عليهم وتبسمت، وخلعت عليهم وزادت في إقطاع الأمراء، فحبَّها العسكر والرعية، ودعوا لها بدوام الملك، وهم يعتقدون أنها ذكر. ثم إنها أمرت ونهت، وحكمت وعدلت، وأطلقت مَن في الحبوس، وأبطلت المكوس، ولم تزل قاعدة في مجلس الحكومة إلى أن دخل الليل، ثم دخلت المكان المعدَّ لها، فوجدت السيدة حياة النفوس جالسة، فجلست بجانبها، وطقطقت على ظهرها، ولاطفتها، وقبَّلتها بين عينيها، وأنشدت هذه الأبيات:

قَدْ صَارَ سِرِّي بِالدُّمُوعِ عَلَانِيَةْ        وَنُحُولُ جِسْمِي فِي الْغَرَامِ عَلَانِيَةْ

أُخْفِي الْهَوَى وَيُذِيعُهُ أَلَمُ النَّوَى        حَالِي عَلَى الْوَاشِينَ لَيْسَتْ خَافِيَةْ

يَا رَاحِلِينَ عَنِ الْحِمَى خَلَّفْتُمُ        جِسْمِي بِكُمْ مُضْنًى وَنَفْسِي بَالِيَةْ

وَسَكَنْتُمُ غَوْرَ الْحَشَا فَنَوَاظِرِي        تَجْرِي مَدَامِعُهَا وَعَيْنِي دَامِيَةْ

وَأَنَا فِدَاءُ الْغَائِبِينَ بِمُهْجَتِي        أَبَدًا وَأَشْوَاقِي إِلَيْهِمْ بَادِيَةْ

لِي مُقْلَةٌ مَقْرُوحَةٌ فِي حُبِّهِمْ        جَفَتِ الْكَرَى وَدُمُوعُهَا مُتَوَالِيَةْ

ظَنَّ الْعِدَا مِنِّي عَلَيْهِ تَجَلُّدًا        هَيْهَاتَ مَا أُذُنِي إِلَيْهِمْ وَاعِيَةْ

خَابَتْ ظُنُونُهُمُ لَدَيَّ وَإِنَّمَا        قَمَرُ الزَّمَانِ بِهِ أَنَالُ أَمَانِيَهْ

جَمَعَ الْفَضَائِلَ مَا حَوَاهَا قَبْلَهُ        أَحَدٌ سِوَاهُ فِي الْعُصُورِ الْخَالِيَةْ

أَنْسَى الْأَنَامَ بِجُودِهِ وَبِعَفْوِهِ        كَرَمَ ابْنِ زَائِدَةٍ وَحِلْمَ مُعَاوِيَةْ

لَوْلَا الْإِطَالَةُ وَالْقَرِيضُ مُقَصِّرٌ        عَنْ حَصْرِ حُسْنِكَ لَمْ أَدَعْ مِنْ قَافِيَةْ

ثم إن الملكة بدور نهضت قائمة على قدميها ومسحت دموعها، وتوضأت وصلت، ولم تزل تصلي إلى أن غلب النوم على السيدة حياة النفوس فنامت، فجاءت الملكة بدور، ورقدت بجانبها إلى الصباح، ثم قامت وصلت الصبح وجلست على كرسي المملكة، وأمرت ونهت، وحكمت وعدلت.

هذا ما كان من أمرها، وأما ما كان من أمر الملك أرمانوس، فإنه دخل على ابنته وسألها عن حالها، فخبَّرته بجميع ما جرى لها، وأنشدته الشعر الذي قالته الملكة بدور، وقالت: يا أبي، ما رأيت أحدًا أكثر عقلًا وحياءً من زوجي، غير أنه يبكي ويتنهد. فقال لها أبوها: يا ابنتي اصبري عليه، فما بقي غير هذه الليلة الثالثة، فإن لم يدخل بك ويزل بكارتك، يكن لنا معه رأي وتدبير، وأخلعه من الملك وأنفيه من بلادنا. فاتفق مع ابنته على هذا الكلام، وأضمر هذا الرأي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 210

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك أرمانوس اتفق مع ابنته على هذا الكلام، وأضمر هذا الرأي، ولما أقبل الليل قامت الملكة بدور من دست المملكة إلى القصر، ودخلت المكان الذي هو مُعَدٌّ لها، فرأت الشمع موقدًا والسيدة حياة النفوس جالسة، فتذكرت زوجها وما جرى بينهما في تلك المدة اليسيرة؛ فبكت ووالت الزفرات، وأنشدت هذه الأبيات:

قَسَمًا لَقَدْ مَلَأَتْ أَحَادِيثِي الْفَضَا        كَالشَّمْسِ مُشْرِقَةٌ عَلَى ذَاتِ الْغَضَا

نَطَقَتْ إِشَارَتُهُ فَأُشْكِلَ فَهْمُهَا        فَلِذَاكَ شَوْقِي فِي الْمَزِيدِ وَمَا انْقَضَى

أَبْغَضْتُ حُسْنَ الصَّبْرِ مُذْ أَحْبَبْتُهُ        أَرَأَيْتَ صَبًّا فِي الصَّبَابَةِ مُبْغَضَا

وَمُمَرَّضُ اللَّحَظَاتِ صَالَ بِفَتْكِهَا        وَاللَّحْظُ أَقْتَلُ مَا يَكُونُ مُمَرَّضَا

أَلْقَى ذَوَائِبَهُ وَحَطَّ لِثَامَهُ        فَرَأَيْتُ مِنْهُ الْحُسْنَ أَسْوَدَ أَبْيَضَا

سَقَمِي وَبُرْئِي فِي يَدَيْهِ وَإِنَّمَا        يَشْفِي سَقَامَ الْحُبِّ مَنْ قَدْ أَمْرَضَا

هَامَ الْوِشَاحُ بِرِقَّةٍ فِي خَصْرِهِ        وَالرِّدْفُ مِنْ حَسَدٍ أَبَى أَنْ يَنْهَضَا

وَكَأَنَّ طُرَّتَهُ وَضَوْءَ جَبِينِهِ        لَيْلٌ دَجَى فَاعْتَاقَهُ صُبْحٌ أَضَا

فلما فرغت من إنشادها أرادت أن تقوم إلى الصلاة، وإذا بحياة النفوس تعلَّقت بذيلها، وقالت لها: يا سيدي، أما تستحي من والدي، وما فعل معك من الجميل، وأنت تتركني إلى هذا الوقت؟ فلما سمعت منها ذلك جلست في مكانها، وقالت لها: يا حبيبتي، ما الذي تقولينه؟ قالت: الذي أقوله أني ما رأيت أحدًا معجبًا بنفسه مثلك، فهل كل مَن كان مليحًا يعجب بحُسْنه هكذا؟ ولكن أنا ما قلت هذا الكلام لأجل أن أرغِّبك فيَّ، وإنما قلته خيفةً عليك من الملك أرمانوس، فإنه أضمر إن لم تدخل بي في هذه الليلة وتُزِلْ بكارتي، أنه ينزعك من المملكة في غد، ويسفِّرك من بلاده، وربما يزداد به الغيظ فيقتلك، وأنا يا سيدي رحمتك ونصحتك، والرأي رأيك. فلما سمعت الملكة بدور منها ذلك الكلام أطرقت برأسها إلى الأرض، وتحيَّرت في أمرها، ثم قالت في نفسها: إن خالفته هلكت، وإن أطعته افتضحت، ولكن أنا في هذه الساعة ملكة على جزائر الأبنوس كلها، وهي تحت حكمي، وما أجتمع أنا وقمر الزمان إلا في هذا المكان؛ لأنه ليس له طريق إلى بلاده إلا من جزائر الأبنوس، وقد فوضت أمري إلى الله، فهو نِعْمَ المدبِّر. ثم إن الملكة بدور قالت لحياة النفوس: يا حبيبتي، إن تركك وامتناعي عنك بالرغم عني. وحكت لها ما جرى من المبتدأ إلى المنتهى، وأرتها نفسها، وقالت لها: سألتك بالله أن تُخفِي أمري وتكتمي سري حتى يجمعني الله بمحبوبي قمر الزمان، وبعد ذلك يكون ما يكون. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 211

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السيدة بدور لما أعلمت حياة النفوس بقصتها، وأمرتها بالكتمان، تعجبت من ذلك غاية العجب، ورقت لها، ودعت لها بجمع شملها على محبوبها قمر الزمان، وقالت لها: يا أختي، لا تخافي ولا تفزعي، واصبري إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا. ثم إن حياة النفوس أنشدت هذين البيتين:

السِّرُّ عِنْدِيَ فِي بَيْتٍ لَهُ غَلَقٌ        قَدْ ضَاعَ مِفْتَاحُهُ وَالْبَيْتُ مَخْتُومُ

مَا يَكْتُمُ السِّرَّ إِلَّا كُلُّ ذِي ثِقَةٍ        وَالسِّرُّ عِنْدَ خِيَارِ النَّاسِ مَكْتُومُ

فلما فرغت من شعرها قالت: يا أختي، إن صدور الأحرار قبور الأسرار، وأنا لا أفشي لك سرًّا. ثم لعبتا وتعانقتا ونامتا إلى قُرَيْب الأذان، ثم قامت حياة النفوس وأخذت دجاجة وذبحتها، وتلطخت بدمها، وقلعت سروالها وصرخت، فدخل عليها أهلها، وزغردت الجواري، ودخلت عليها أمها وسألتها عن حالها، وأقامت عندها إلى المساء. وأما الملكة بدور فإنها لما أصبحت قامت وذهبت إلى الحمام واغتسلت وصلت الصبح، ثم توجهت إلى مجلس الحكومة وجلست على كرسي المملكة وحكمت بين الناس. فلما سمع الملك أرمانوس الزغاريد سأل عن الخبر فأخبروه بافتضاض بكارة ابنته؛ ففرح بذلك واتسع صدره وانشرح، وأولم الولائم، ولم يزالوا على تلك الحالة مدة من الزمان.

هذا ما كان من أمرهما، وأما ما كان من أمر الملك شهرمان؛ فإنه بعد خروج ولده إلى الصيد والقنص هو ومرزوان كما تقدَّم، صبر حتى أقبل عليه الليل فلم يجئ ولده، فتحيَّر عقله ولم ينم تلك الليلة، وقلق غاية القلق، وزاد وَجْدُه واحترق، وما صدق أن الفجر انشقَّ حتى أصبح ينتظر ولده إلى نصف النهار فلم يجئ، فأحس قلبه بالفراق، والتهب على ولده من الإشفاق، ثم بكى حتى بل ثيابه بالدموع، وأنشد من قلب مصدوع:

مَا زِلْتُ مُعْتَرِضًا عَلَى أَهْلِ الْهَوَى        حَتَّى بُلِيتُ بِحُلْوِهِ وَبِمُرِّهِ

وَشَرِبْتُ كَأْسَ مَرَارِهِ مُتَجَرِّعًا        وَذَلَلْتُ فِيهِ لِعَبْدِهِ وَلِحُرِّهِ

نَذَرَ الزَّمَانُ بِأَنْ يُفَرِّقَ شَمْلَنَا        وَالْآنَ قَدْ أَوْفَى الزَّمَانُ بِنَذْرِهِ

فلما فرغ من شعره مسح دموعه، ونادى في عسكره بالرحيل والحث على السفر الطويل، فركب الجيش جميعه، وخرج السلطان وهو محترق القلب على ولده قمر الزمان، وقلبه بالحزن ملآن، ثم فرَّق جيشه يمينًا وشمالًا، وأمامًا وخلفًا؛ ست فرق، وقال لهم: الاجتماع غدًا عند مفرق الطريق. فتفرقت الجيوش والعسكر كما ذكرنا، وسافرت الخيول، ولم يزالوا مسافرين بقية النهار إلى أن جن الليل، فساروا جميع الليل إلى نصف النهار حتى وصلوا إلى مفرق أربع طرق، فلم يعرفوا أي طريق سلكها، ثم رأوا أثر أقمشة مقطعة، ورأوا اللحم مقطعًا، ونظروا أثر الدم باقيًا، وشاهدوا كل قطعة من الثياب واللحم في ناحية؛ فلما رأى الملك شهرمان ذلك صرخ صرخة عظيمة من صميم قلبه، وقال: وا ولداه! ولطم على وجهه، ونتف لحيته، ومزَّق ثوبه، وأيقن بموت ولده، وزاد في البكاء والنحيب، وبكت لبكائه العساكر، وكلهم أيقنوا بهلاك قمر الزمان، وحثوا على رءوسهم التراب، ودخل عليهم الليل وهم في بكاء ونحيب حتى أشرفوا على الهلاك، واحترق قلب الملك بلهيب الزفرات، وأنشد هذه الأبيات:

لَا تَعْذِلُوا الْمَحْزُونَ فِي أَحْزَانِهِ        فَلَقَدْ كَفَاهُ الْوَجْدُ مِنْ أَشْجَانِهِ

يَبْكِي لِفَرْطِ تَأَسُّفٍ وَتَوَجُّعٍ        وَغَرَامُهُ يُنْبِيكَ عَنْ نِيرَانِهِ

يَا سَعْدُ مَنْ لِمُتَيَّمٍ حَلَفَ الضَّنَى        أَلَّا يُزِيلَ الدَّمْعَ مِنْ أَجْفَانِهِ

يُبْدِي الْغَرَامَ لِفَقْدِ بَدْرٍ زَاهِرٍ        بِضِيَائِهِ يَزْهُو عَلَى أَقْرَانِهِ

وَلَقَدْ سَقَاهُ الْمَوْتُ كَأْسًا مُتْرَعًا        يَوْمَ الرَّحِيلِ فَشَطَّ عَنْ أَوْطَانِهِ

تَرَكَ الدِّيَارَ وَسَارَ عَنَّا لِلْبِلَا        لَمْ يَحْظَ بِالتَّوْدِيعِ مِنْ إِخْوَانِهِ

وَلَقَدْ رَمَانِي بِالْبِعَادِ وَبِالْجَفَا        وَالصَّدِّ وَالتَّبْرِيحِ مِنْ هِجْرَانِهِ

وَلَقَدْ مَضَى عَنَّا وَفَارَقَنَا ضُحًى        لَمَّا حَبَاهُ رَبُّهُ بِجِنَانِهِ

فلما فرغ من إنشاده رجع بجيوشه إلى مدينته. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 212

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك شهرمان لما فرغ من إنشاده، رجع بجيوشه إلى مدينته، وأيقن بهلاك ولده، وعلم أنه عدا عليه وافترسه إما وحش وإما قاطع طريق، ثم نادى في جزائر خالدان أن يلبسوا السواد من الأحزان على ولده قمر الزمان، وعمل له بيتًا وسمَّاه بيت الأحزان، وصار كل يوم خميس وإثنين يحكم في مملكته بين عسكره ورعيَّته، وبقية الجمعة يدخل بيت الأحزان، وينعى ولده ويرثيه بالأشعار، فمن ذلك قوله:

فَيَوْمُ الْأَمَانِي يَوْمُ قُرْبِكُمُ مِنِّي        وَيَوْمُ الْمَنَايَا يَوْمُ إِعْرَاضِكُمْ عَنِّي

إِذَا بِتَّ مَرْعُوبًا أُهَدَّدُ بِالرَّدَى        فَوَصْلُكُمُ عِنْدِي أَلَذُّ مِنَ الْأَمْنِ

ومن ذلك قوله:

نَفْسِي الْفِدَاءُ لِظَاعِنِينَ رَحِيلُهُمْ        أَنْكَى وَأَفْسَدَ فِي الْقُلُوبِ وَعَاثَا

فَلْيَقْضِ عِدَّتَهُ السُّرُورُ فَإِنَّنِي        طَلَّقْتُ بَعْدَهُمُ النَّعِيمَ ثَلَاثَا

هذا ما كان من أمر الملك شهرمان، وأما ما كان من أمر الملكة بدور بنت الملك الغيور؛ فإنها صارت ملكة في بلاد الأبنوس، وصار الناس يشيرون إليها بالبنان ويقولون: هذا صهر الملك أرمانوس. وكل ليلة تنام مع السيدة حياة النفوس، وتشتكي وحشة زوجها قمر الزمان، وتصف لها حسنه وجماله، وتتمنى ولو في المنام وصاله.

هذا ما كان من أمر الملكة بدور، وأما ما كان من أمر قمر الزمان، فإنه لم يزل مقيمًا عند الخولي في البستان مدة من الزمان، وهو يبكي بالليل والنهار، ويتحسر وينشد الأشعار على أوقات الهناء والسرور، والخولي يقول له: في آخر السنة تسير المراكب إلى بلاد المسلمين. ولم يزل قمر الزمان على تلك الحالة إلى أن رأى الناس مجتمعين على بعضهم، فتعجَّب من ذلك، فدخل عليه الخولي وقال له: يا ولدي، بطِّل الشغل في هذا اليوم، ولا تحوِّل الماء إلى الأشجار؛ لأن هذا اليوم عيد، والناس فيه يزور بعضهم بعضًا، فاسترِحْ واجعل بالك إلى الغيط، فإني أريد أن أبصر لك مركبًا، فما بقي إلا القليل وأرسلك إلى بلاد المسلمين. ثم إن الخولي خرج من البستان، وبقي قمر الزمان وحده؛ فانكسر خاطره، وجرت دموعه، ولم يزل يبكي حتى غشي عليه، فلما أفاق قام يتمشى في البستان، وهو متفكر فيما فعل به الزمان، وطول البُعْدِ والهجرانِ، وعقلُه ولهان، فعثر ووقع على وجهه، فجاءت جبهته على جذر شجرة فجرى دمه واختلط بدموعه؛ فمسح دمه، ونشَّف دموعه، وشد جبهته بخرقة، وقام يتمشى في ذلك البستان وهو ذاهل العقل؛ فنظر بعينه إلى شجرة فوقها طائران يتخاصمان، فغلب أحدهما على الآخر ونقره في عنقه فخلَّص رقبته من جثته، ثم أخذ رأسه وطار به، ووقع المقتول على الأرض قدَّام قمر الزمان؛ فبينما هو كذلك، وإذا بطائرين كبيرين قد انقضَّا عليه، ووقف واحد منهما عند رأسه، والآخر عند ذَنَبه، ورخَّيا أجنحتهما عليه، ومدَّا أعناقهما إليه وبكيا، فبكى قمر الزمان على فراق زوجته حين رأى الطائرين يبكيان على صاحبهما. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 213

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك قمر الزمان بكى على فراق زوجته لما رأى الطائرين يبكيان على صاحبهما، ثم إن قمر الزمان رأى الطائرين حفرَا حفرة ودفنا الطائر المقتول فيها وطارَا إلى الجو وغابا ساعة، ثم عادا ومعهما الطائر القاتل، فنزلا به على قبر المقتول، وبركا على القاتل حتى قتلاه، وشقَّا جوفه وأخرجا أمعاءه، وأراقا دمه على قبر الطائر المقتول، ثم نثرا لحمه ومزَّقا جلده، وأخرجا ما في جوفه وفرَّقاه إلى أماكن متفرقة. هذا كله جرى وقمر الزمان ينظر ويتعجَّب، فحانت منه التفاتة إلى الموضع الذي قتلَا فيه الطائر، فوجد شيئًا يلمع، فدنا منه فوجده حوصلة الطائر، فأخذها وفتحها؛ فوجد فيها الفص الذي كان سبب فراقه من زوجته، فلما رآه وعرفه وقع على الأرض مغشيًّا عليه من فرحته، فلما أفاق قال في نفسه: هذا علامة الخير، وبشارة الاجتماع بمحبوبتي. ثم تأمله ومر به على عينه، وربطه على ذراعه، واستبشر بالخير، وقام يتمشى لينظر الخولي، ولم يزل يفتش عليه إلى الليل فلم يأتِ، فبات قمر الزمان في موضعه إلى الصباح، ثم قام إلى شغله، وشدَّ وسطه بحبل من الليف، وأخذ الفأس والقفَّة، وشق في البستان، فأتى إلى شجرة خروب وضرب الفأس في جذرها فطنَّت الضربة، فكشف التراب عن موضعها، فوجد طابقًا ففتحه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 214

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن قمر الزمان لما فتح ذلك الطابق وجد بابًا فنزل فيه، فلقي قاعة قديمة من عهد ثمود وعاد، وتلك القاعة واسعة، وهي مملوءة ذهبًا أحمر، فقال في نفسه: لقد ذهب التعب، وجاء الفرح والسرور. ثم إن قمر الزمان طلع من المكان إلى ظاهر البستان، وردَّ الطابق كما كان، ورجع إلى البستان وتحويل الماء على الأشجار، ولم يزل كذلك إلى آخر النهار، فجاء الخولي وقال: يا ولدي، أَبْشِر برجوعك إلى الأوطان؛ فإن التجار تجهَّزوا للسفر، والمركب بعد ثلاثة أيام مسافرة إلى مدينة الأبنوس، وهي أول مدينة من مدائن المسلمين، فإذا وصلتَ إليها تسافر في البر ستة أشهر حتى تصل إلى جزائر خالدان والملك شهرمان. ففرح قمر الزمان بذلك، ثم قبَّل يد الخولي وقال له: يا والدي، كما بشَّرتني فأنا أبشِّرك بشارة. وأخبره بأمر القاعة؛ ففرح الخولي وقال: يا ولدي، أنا لي في هذا البستان ثمانون عامًا ما وقفت على شيء، وأنت لك عندي دون السنة وقد رأيت هذا الأمر؛ فهو رزقك وسبب زوال عكسك، ومعين لك على وصولك إلى أهلك، واجتماع شملك بمن تحب. فقال قمر الزمان: لا بد من القسمة بيني وبينك.

ثم أخذ الخولي، ودخل به إلى تلك القاعة وأراه الذهب، وكان في عشرين خابية؛ فأخذ عشرة والخولي عشرة، فقال له الخولي: يا ولدي، عبِّ لك أمطارًا من الزيتون العصافيري الذي في هذا البستان، فإنه معدوم في غير بلادنا، وتحمله التجار إلى جميع البلاد، واجعل الذهب في الأمطار والزيتون فوق الذهب، ثم سدَّها وخذها في المركب. فقام قمر الزمان من وقته وساعته، وعبَّى خمسين مطرًا، ووضع الذهب فيها، وسد عليه بعد أن جعل الزيتون فوق الذهب، وحطَّ الفص معه في مطر، وجلس هو والخولي يتحدَّثان، وأيقن بجمع شمله وقربه من أهله، وقال في نفسه: إذا وصلت إلى جزيرة الأبنوس أسافر منها إلى بلاد أبي، وأسأل عن محبوبتي بدور، فيا ترى هل رجعت إلى بلادها، أم سافرت إلى بلاد أبي، أم حدث لها حادث في الطريق؟ ثم جلس قمر الزمان ينتظر انقضاء الأيام، وحكى للخولي حكاية الطيور وما وقع بينها، فتعجب الخولي من ذلك، ثم ناما إلى الصباح، فأصبح الخولي ضعيفًا، واستمر على ضعفه يومين، وفي ثالث يوم اشتد به الضعف حتى يئسوا من حياته؛ فحزن قمر الزمان على الخولي. فبينما هو كذلك، وإذا بالريس والبحرية قد أقبلوا وسألوا عن الخولي، فأخبرهم بضعفه فقالوا: أين الشاب الذي يريد السفر معنا إلى جزيرة الأبنوس؟ فقال لهم قمر الزمان: هو المملوك الذي بين أيديكم. ثم أمرهم بتحويل الأمطار إلى المركب، فنقلوها إلى المركب، وقالوا لقمر الزمان: أسرع فإن الريح قد طاب. فقال لهم: سمعًا وطاعة. ثم نقل زوادته إلى المركب، ورجع إلى الخولي يودعه فوجده في النزع؛ فجلس عند رأسه حتى مات، وغمَّضه وجهَّزه وواراه في التراب، ثم توجَّه إلى المركب فوجدها أرخت القلوع وسارت، ولم تزل تشق البحر حتى غابت عن عينه، فصار قمر الزمان مدهوشًا حيران، ثم رجع إلى البستان وهو مهموم مغموم، وحثا التراب على رأسه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 215

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن قمر الزمان رجع إلى البستان وهو مهموم مغموم بعد أن سافرت المركب، واستأجر البستان من صاحبه، وأقام تحت يده رجلًا يعاونه على سقي الشجر، وتوجه إلى الطابق، ونزل إلى القاعة، وعبَّى الذهب الباقي في خمسين مطرًا، ووضع فوقه الزيتون، وسأل عن المركب فقالوا: إنها لا تسافر إلا في كل سنة مرة واحدة. فزاد به الوسواس، وتحسَّر على ما جرى له، لا سيما فَقْد الفص الذي للسيدة بدور، فصار يبكي بالليل والنهار وينشد الأشعار.

هذا ما كان من أمر قمر الزمان، وأما ما كان من أمر المركب فإنه طاب لها الريح، ووصلت إلى جزيرة الأبنوس، واتفق بالأمر المقدور أن الملكة بدور كانت جالسة في الشباك، فنظرت إلى المركب وقد رست في الساحل، فخفق فؤادها وركبت هي والأمراء والحجَّاب وتوجهت إلى الساحل، ووقفت على المركب وقد دار النقل في البضائع إلى المخازن؛ فأحضرت الريس وسألته عما معه، فقال: أيها الملك، إن معي في هذه المركب من العقاقير، والسفوفات، والأكحال، والمراهم، والأدهان، والأموال، والأقمشة الفاخرة، والبضائع النفيسة، ما يعجز عن حمله الجمال والبغال، وفيها من أصناف العطر والبهار ومن العود القافلي، والتمر الهندي، والزيتون العصافيري، ما يندر وجوده في هذه البلاد. فاشتهت نفسها الزيتون، وقالت لصاحب المركب: ما مقدار الذي معك من الزيتون؟ قال: معي خمسون مطرًا ملآنة، ولكن صاحبها ما حضر معنا، والملك يأخذ ما اشتهاه منها. فقالت: أطلعوها إلى البر لأنظر إليها. فصاح الريس على البحرية، فطلعوا بالخمسين مطرًا، ففتحت واحدًا ونظرت وقالت: أنا آخذ هذه الخمسين مطرًا، وأعطيكم حقَّها مهما كان. فقال الريس: هذا ما له في بلادنا قيمة، ولكن صاحبها تأخَّرَ عنا وهو رجل فقير. فقالت: وما مقدار ثمنها؟ قال: ألف درهم. قالت: أنا آخذها بألف درهم. ثم أمرت بنقلها إلى القصر.

فلما جاء الليل أمرت بإحضار مطر، فكشفته وما في البيت غيرها هي وحياة النفوس، ثم حطَّت بين يديها طبقًا، ووضعت فيه شيئًا من المطر، فنزل في الطبق كوم من الذهب الأحمر، فقالت للسيدة حياة النفوس: ما هذا إلا ذهب! ثم اختبرت الجميع فوجدتها كلها ذهبًا، والزيتون كله يملأ مطرًا واحدًا، وفتَّشت في الذهب فوجدت الفصَّ فيه، فأخذته وتأمَّلته فوجدته الفص الذي كان في دكَّة لباسها وأخذه قمر الزمان؛ فلما تحقَّقته صاحت من فرحتها، وخرَّت مغشيًّا عليها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 216

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملكة بدور لما رأت الفص صاحت من فرحتها، وخرَّت مغشيًّا عليها. فلما أفاقت قالت في نفسها: إن هذا الفص كان سببًا في فراق محبوبي قمر الزمان، ولكنه بشير الخير. ثم أعلمت السيدة حياة النفوس بأن وجوده بشارة الاجتماع. فلما أصبح الصباح جلست على كرسي المملكة، وأحضرت ريس المركب، فلما حضر قبَّل الأرض بين يديها، فقالت: أين خلَّيتم صاحب هذا الزيتون؟ قال: يا ملك الزمان، تركناه في بلاد المجوس، وهو خولي بستان. فقالت له: إن لم تأتِ به فلا تعلم ما يجري عليك، وعلى مركبك من الضرر. ثم أمرت بالختم على مخازن التجار، وقالت لهم: إن صاحب هذا الزيتون غريمي، ولي عليه دين، وإن لم يأتِ لأقتلنَّكم جميعًا وأنهب تجارتكم. فأقبلوا على الريس ووعدوه بأجرة مركبه ويرجع ثاني مرة، وقالوا له: خلِّصنا من هذا الغاشم. فنزل الريس إلى المركب وحلَّ قلوعها، وكتب الله له السلامة حتى دخل الجزيرة في الليل، وطلع إلى البستان، وكان قمر الزمان قد طال عليه الليل، وتذكَّر محبوبته، فقعد يبكي على ما جرى له وهو في البستان، ثم إن الريس دق الباب على قمر الزمان، ففتح الباب وخرج إليه، فحمله البحرية ونزلوا به إلى المركب، وحلوا القلوع وساروا، ولم يزالوا سائرين أيامًا وليالي وقمر الزمان لا يعلم ما يوجب ذلك، فسألهم عن السبب، فقالوا له: أنت غريم الملك صاحب جزائر الأبنوس صهر الملك أرمانوس، وقد سرقتَ ماله يا منحوس. فقال: والله عمري ما دخلت هذه البلاد ولا أعرفها.

ثم إنهم ساروا به حتى أشرفوا على جزائر الأبنوس، وطلعوا به على السيدة بدور؛ فلما رأته عرفته وقالت: دعوه عند الخدام ليدخلوا به الحمام. وأفرجت عن التجار، وخلعت على الريس خلعة تساوي عشرة آلاف دينار، ودخلت على حياة النفوس وأعلمتها بذلك، وقالت لها: اكتمي الخبر حتى أبلغ مرادي، وأعمل عملًا يُؤرَّخ ويُقرَأ بعدنا على الملوك والرعايا. وحين أمرت أن يدخلوا بقمر الزمان الحمام، دخلوا به الحمام وألبسوه لبس الملوك، ولما طلع قمر الزمان من الحمام صار كأنه غصن بان أو كوكب يخجل بطلعته القمران، وردَّت روحه إليه، ثم توجه إليها ودخل القصر، فلما نظرته صبَّرت قلبها حتى يتم مرادها، وأنعمت عليه بمماليك وخدم وجمال وبغال، وأعطته خزانة مال، ولم تزل ترقِّي قمر الزمان من درجة إلى درجة حتى جعلته خازندار، وسلَّمت إليه الأموال، وأقبلت عليه وقرَّبته منها وأعلمت الأمراء بمنزلته، فأحبوه جميعهم، وصارت الملكة بدور كل يوم تزيد له في المرتبات، وقمر الزمان لا يعرف ما سبب تعظيمها له، ومن كثرة الأموال صار يهب ويتكرَّم، ويخدم الملك أرمانوس حتى أحبَّه، وكذلك أحَبَّه الأمراء والخواص والعوام، وصاروا يحلفون بحياته. كل ذلك وقمر الزمان يتعجب من تعظيم الملكة بدور له، ويقول في نفسه: والله إن هذه المحبة لا بد لها من سبب، وربما يكون هذا الملك إنما يكرمني هذا الإكرام الزائد لأجل غرض فاسد، فلا بد أن أستأذنه وأسافر عن بلاده.

ثم إنه توجه إلى الملكة بدور وقال لها: أيها الملك، إنك أكرمتني إكرامًا زائدًا، ومن تمام الإكرام أن تأذن لي في السفر، وتأخذ مني جميع ما أنعمت به عليَّ. فتبسمت الملكة بدور وقالت له: ما حملك على طلب الأسفار، واقتحام الأخطار، وأنت في غاية الإكرام وتزايد الإنعام؟ فقال لها قمر الزمان: أيها الملك، إن هذا الإكرام إذا لم يكن له سبب فإنه من أعجب العجب، خصوصًا وقد أوليتني من المراتب ما حقه أن يكون للأخيار، مع أنني من الأطفال الصغار. فقالت له الملكة بدور: وسبب ذلك أني أحبك لفرط جمالك الفائق، وبديع حسنك الرائق، وإن مكَّنْتَني مما أريده منك أزِدْك إكرامًا وعطاءً وإنعامًا، وأجعلك وزيرًا على صغر سنك كما جعلني الناس سلطانًا عليهم وأنا في هذا السن، ولا عجب اليومَ في رئاسة الأطفال، ولله در مَن قال:

كَأَنَّ زَمَانَنَا مِنْ قَوْمِ لُوطٍ        لَهُ شَغَفٌ بِتَقْدِيمِ الصِّغَارِ

فلما سمع قمر الزمان هذا الكلام خجل واحمرَّت خدوده حتى صارت كالضرام، وقال: لا حاجة لي بهذا الإكرام المؤدي إلى ارتكاب الحرام، بل أعيش فقيرًا من المال غنيًّا بالمروءة والكمال. فقالت له الملكة بدور: أنا لا أغتر بورعك الناشئ عن التيه والدلال، ولله در مَن قال:

ذَاكَرْتُهُ عَهْدَ الْوِصَالِ فَقَالَ لِي        كَمْ ذَا تُطِيلُ مِنَ الْكَلَامِ الْمُؤْلِمِ؟

فَأَرَيْتُهُ الدِّينَارَ أَنْشَدَ قَائِلًا        أَيْنَ الْمَفَرُّ مِنَ الْقَضَاءِ الْمُبْرَمِ؟

فلما سمع قمر الزمان هذا الكلام، وفهم الشعر والنظام، قال: أيها الملك، إنه لا عادة لي بهذه الفعال، ولا طاقة لي على حمل هذه الأثقال، التي يعجز عن حملها أكبر مني، فكيف بي على صغر سني؟ فلما سمعت كلامه الملكة بدور تبسَّمت، وقالت: إن هذا لشيء عجاب، كيف يظهر الخطأ من خلال الصواب إذا كنت صغيرًا؟ فكيف تخشى الحرام وارتكاب الآثام وأنت لم تبلغ حدَّ التكليف، ولا مؤاخذةَ في ذنب الصغير ولا تعنيف؟ فقد ألزمت نفسك الحجَّة بالجدال، وحقت عليك كلمة الوصال، فلا تُظهِر بعد ذلك امتناعًا ولا نفورًا، وكان أمر الله قدرًا مقدورًا، فأنا أحقُّ منك بخشية الوقوع في الضلال، وقد أجاد مَن قال:

أَيْرِي كَبِيرٌ وَالصَّغِيرُ يَقُولُ لِي        اطْعَنْ بِهِ الْأَحْشَا وَكُنْ صِنْدِيدَا

فَأَجَبْتُهُ ذَا لَا يَجُوزُ فَقَالَ لِي        عِنْدِي يَجُوزُ فَنِكْتُهُ تَقْلِيدَا

فلما سمع قمر الزمان هذا الكلام، تبدَّل الضياء في وجهه بالظلام، وقال: أيها الملك، إنه يوجد عندك من النساء والجواري الحسان ما لا يوجد له نظير في هذا الزمان، فهلَّا استغنيتَ بذلك عني؟ فمِلْ إلى ما شئتَ منهنَّ ودعني. فقالت: إن كلامك صحيح، ولكن لا يشتفي بهن من عشقك ألم ولا تبريح، وإذا فسدت الأمزجة والطبيعة فهي لغير النصح سميعة مطيعة، فاترك الجدال واسمع قول مَن قال:

أَمَا تَرَى السُّوقَ قَدْ صُفَّتْ فَوَاكِهُهُ        لِلتِّينِ قَوْمٌ وَلِلْجُمَّيْزِ أَقْوَامُ

وقول الآخر:

وَصَامِتَةِ الْخَلْخَالِ رَنَّ وِشَاحُهَا        فَهَذَا قَدِ اسْتَغْنَى وَذَا يَشْتَكِي الْفَقْرَا

تُرِيدُ سُلُوِّي عَنْكَ جَهْلًا بِحُسْنِهَا        وَمَا كُنْتُ أَرْضَى بَعْدَ إِيمَانِيَ الْكُفْرَا

وَحَقِّ عِذَارٍ يَزْدَرِي بِعِقَاصِهَا        فَلَسْتُ بِعَاطٍ لِلَّتِي تُلْهِنِي الْعُذْرَا

وقول الآخر:

يَا فَرِيدَ الْجَمَالِ حُبُّكَ دِينِي        وَاخْتِيَارِي عَلَى جَمِيعِ الْمَذَاهِبْ

قَدْ تَرَكْتُ النِّسَا لِأَجْلِكَ حَتَّى        زَعَمَ النَّاسُ أَنَّنِي الْيَوْمَ رَاهِبْ

وقول الآخر:

سَلَا خَاطِرِي عَنْ زَيْنَبٍ وَنَوَارِي        بِوَرْدَةِ خَدٍّ فَوْقَ آسِ عِذَارِ

وَأَصْبَحْتُ بِالظَّبْيِ الْمُقَرْطَقِ مُغْرَمًا        وَلَا رَأْيَ لِي فِي عِشْقِ ذَاتِ سِوَارِ

أَنِيسِيَ فِي النَّادِي وَفِي خَلْوَتِي مَعًا        خِلَافَ أَنِيسِي فِي قَرَارَةِ دَارِي

فَيَا لَائِمِي فِي هَجْرِ هِنْدٍ وَزَيْنَبٍ        وَقَدْ لَاحَ عُذْرِي كَالصَّبَاحِ السَّارِي

أَتَرْضَى بِأَنْ أُمْسِي أَسِيرَ أَسِيرَةٍ        مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جِدَارِ

وقول الآخر:

لَا تَقِسْ أَمْرَدًا بِأُنْثَى وَلَا تُصْــغِ        لِوَاشٍ يَقُولُ ذَلِكَ فِسْقُ

بَيْنَ أُنْثَى يُقَبِّلُ الْوَجْهُ رِجْلًا        وَغَزَالٍ يُقَبِّلُ الْأَرْضَ فَرْقُ

وقول الآخر:

فَدَيْتُكَ إِنَّمَا اخْتَرْنَاكَ عَمْدًا        لِأَنَّكَ لَا تَحِيضُ وَلَا تَبِيضُ

وَلَوْ مِلْنَا إِلَى وَصْلِ الْغَوَانِي        لَضَاقَ بِنَسْلِنَا الْبَلَدُ الْعَرِيضُ

وقول الآخر:

تَقُولُ لِي وَهْيَ غَضْبَى مِنْ تَدَلُّلِهَا        وَقَدْ دَعَتْنِي إِلَى شَيْءٍ فَمَا كَانَا

إِنْ لَمْ تَنِكْنِيَ نَيْكَ الْمَرْءِ زَوْجَتَهُ        فَلَا تَلُمْنِي إِذَا أَصْبَحْتَ قَرْنَانَا

كأنَّ أَيْرَكَ مِنْ شَمْعٍ رَخَاوَتُهُ        فَكُلَّمَا عَرَكَتْهُ رَاحَتِي لَانَا

وقول الآخر:

قَالَتْ وَقَدْ أَعْرَضْتُ عَنْ غَشَيَانِهَا        يَا أَحْمَقًا فِي جَهْلِهِ يَتَنَاهَى

لَمْ تَرْضَ مِنْ قَبْلِي لِوَجْهِكَ قُبْلَةً        لَنُوَلِّيَنَّكَ قُبْلَةً تَرْضَاهَا

وقول الآخر:

جَادَتْ بِكسٍّ نَاعِمٍ        فَقُلْتُ إِنِّي لَمْ أَنِكْ

فَانْصَرَفَتْ قَائِلَةً        يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكْ

النَّيْكُ مِنْ قُدَّامِ فِي        هَذَا الزَّمَانِ قَدْ تُرِكْ

وَدَوَّرَتْ لِي فَتْحَةً        مِثْلَ اللُّجَيْنِ الْمُنْسَبِكْ

أَحْسَنْتِ يَا سِيَّدَتِي        أَحْسَنْتِ لَا فُجِّعْتُ بِكْ

أَحْسَنْتِ يَا أَوْسَعَ مِنْ        فُتُوحِ مَوْلَانَا الْمَلِكْ

وقول الآخر:

يَسْتَغْفِرُ النَّاسُ بِأَيْدِيهِمِ        وَهُنَّ يَسْتَغفِرْنَ بِالْأَرْجُلِ

فَيَا لَهُ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ        يَرْفَعُهُ اللهُ إِلَى أَسْفَلِ

فلما سمع قمر الزمان منها هذه الأشعار، وتحقَّق أنه ليس له مما أرادته فرار، قال: يا ملك الزمان، إن كان ولا بد فعاهِدْني على أنك لا تفعل بي هذا الأمر غير مرة واحدة، وإن كان ذلك لا يجدي في إصلاح الطبيعة الفاسدة، وبعد ذلك لا تسألني فيه على الأبد، لعلَّ الله يصلح مني ما فسد. فقالت: عاهدتك على ذلك، راجيًا أن الله علينا يتوب، ويمحو بفضله عنا عظيم الذنوب، فإن نطاق أفلاك المغفرة لا يضيق عن أن يحيط بنا، ويكفِّر عنا ما عَظُم من سيئاتنا، ويخرجنا إلى نور الهدى من ظلام الضلال، وقد أجاد وأحسن مَن قال:

تَوَهَّمَ فِينَا النَّاسُ شَيْئًا وَصَمَّمَتْ        عَلَيْهِ نُفُوسٌ مِنْهُمُ وَقُلُوبُ

تَعَالَ نُحَقِّقْ ظَنَّهُمْ لِنُرِيحَهُمْ        مِنَ الْإِثْمِ فِينَا مَرَّةً وَنَتُوبُ

ثم أعطته المواثيق والعهود، وحلفت له بواجب الوجود، أنه لا يقع بينها وبينه هذا الفعل إلا مرة في الزمان، وإن ألجأها غرامه إلى الموت والخسران، فقام معها على هذا الشرط إلى محل خلوتها لتطفئ نيران لوعتها، وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ذلك تقدير العزيز العليم. ثم حلَّ سراويله وهو في غاية الخجل، وعيونه تسيل من شدة الوجل؛ فتبسمت وأطلعته معها على السرير، وقالت له: لا ترى بعد هذه الليلة من نكير. ومالت عليه بالتقبيل والعناق، والْتِفاف ساقٍ على ساق، ثم قالت له: مدَّ يدك بين فخذيَّ إلى المعهود؛ لعله ينتصب إلى القيام من السجود. فبكى وقال: أنا لا أُحسِنُ شيئًا من ذلك. فقالت: بحياتي تفعل ما أمرتُكَ به مما هنالك. فمدَّ يده وفؤاده في زفير؛ فوجد فخذها ألين من الزبد وأنعم من الحرير؛ فاستلذَّ بلمسها، وجال بيده في جميع الجهات، حتى وصلت إلى قبَّة كثيرة البركات والحركات، فقال في نفسه: لعل هذا الملك خنثى، وليس بذكر ولا أنثى. ثم قال: أيها الملك، إني لم أجد لك آلةً مثل آلات الرجال، فما حملك على هذه الفعال؟ فضحكت الملكة بدور حتى استلقت على قفاها، وقالت له: يا حبيبي، ما أسرع ما نسيت ليالي بِتْناها. وعرَّفته بنفسها، فعرف أنها زوجته الملكة بدور بنت الملك الغيور صاحب الجزائر والبحور؛ فاحتضنها واحتضنته، وقبَّلتها وقبَّلته، ثم اضطجعا على فراش الوصال، وتناشدا قول مَن قال:

لَمَّا دَعَتْهُ إِلَى وِصَالِي عَطْفَةٌ        مِنْ مَعْطَفٍ بِتَعَطُّفٍ مُتَوَاصِ

وَسَقَتْ قَسَاوَةَ قَلْبِهِ مِنْ لِينَهَا        فَأَجَابَ بَعْدَ تَمَنُّعٍ وَتَعَاصِ

خَشِيَ الْعَوَاذِلَ أَنْ تَرَاهُ إِذَا بَدَا        فَأَتَى بِعُدَّةِ آمِنِ الْإِرْهَاصِ

شَكَتِ الْخُصُورُ رَوَادِفًا قَدْ حَمَّلَتْ        أَقْدَامَهُ فِي الْمَشْيِ حِمْلَ قِلَاصِ

مُتَقَلِّدُ الصَّمْصَامِ مِنْ أَلْحَاظِهِ        وَمِنَ الدُّجَى مُتَدَرِّعًا بِدِلَاصِ

وَشَذَاهُ بَشَّرَنِي بِسَعْدِ قُدُومِهِ        فَفَرَرْتُ مِثْلَ الطَّيْرِ مِنْ أَقْفَاصِ

وَفَرَشْتُ خَدِّي فِي الطَّرِيقِ لِنَعْلِهِ        فَشَفَى بإِثْمِدِ تُرْبِهَا أَرْمَاصِي

وَعَقَدْتُ أَلْوَيَةَ الْوِصَالِ مُعَانِقًا        وَفَكَكْتُ عُقْدَةَ حَظِّيَ الْمُتَعَاصِي

وَأَقَمْتُ أَفْرَاحًا أَجَابَ نِدَاءَهَا        طَرَبٌ صَفَا عَنْ شَائِبِ الْإِنْغَاصِ

وَالْبَدْرُ نَقَّطَ بِالنُّجُومِ الثَّغْرَ مِنْ        حَبَبٍ عَلَى وَجْهِ الطَّلَا رَقَّاصِ

وَعَكَفْتُ فِي مِحْرَابِ لَذَّتِهَا عَلَى        مَا مِنْ تَعَاطِيهِ يَتُوبُ الْعَاصِي

قَسَمًا بِآيَاتِ الضُّحَى مِنْ وَجْهِهِ        لَمْ أَنْسَ فِيهِ سُورَةَ الْإِخْلَاصِ

ثم إن الملكة بدور أخبرت قمر الزمان بجميع ما جرى لها من الأول إلى الآخر، وكذلك هو أخبرها بجميع ما جرى له، وبعد ذلك انتقل معها إلى العتاب، وقال لها: ما حملك على ما فعلتِه بي في هذه الليلة؟ فقالت: لا تؤاخذني فإن قصدي بذلك المزاح، ومزيد البسط والانشراح. فلما أصبح الصباح، وأضاء بنوره ولاح، أرسلت الملكة بدور إلى الملك أرمانوس والد الملكة حياة النفوس، وأخبرته بحقيقة أمرها، وأنها زوجة قمر الزمان، وأخبرته بقصتهما وبسبب افتراقهما من بعضهما، وأعلمته أن ابنته حياة النفوس بكر على حالها؛ فلما سمع الملك أرمانوس صاحب جزائر الأبنوس قصة الملكة بدور بنت الملك الغيور، تعجَّب منها غاية العجب، وأمر أن يكتبوها بماء الذهب، ثم التفت إلى قمر الزمان وقال له: يا ابن الملك، هل لك أن تصاهرني وتتزوج بنتي حياة النفوس؟ فقال له: حتى أشاور الملكة بدور، فإن لها عليَّ فضلًا غير محصور. فلما شاورها قالت له: نِعْمَ هذا الرأي! فتزوَّجْها وأكون أنا لها جارية؛ لأن لها عليَّ معروفًا وإحسانًا، وخيرًا وامتنانًا، وخصوصًا ونحن في محلها، وقد غمرنا إحسانُ أبيها. فلما رأى قمر الزمان أن الملكة بدور مائلة إلى ذلك، ولم يكن عندها غيرة من حياة النفوس، اتفق معها على هذا الأمر. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 217

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن قمر الزمان اتفق مع زوجته الملكة بدور على هذا الأمر، وأخبر الملك أرمانوس بما قالته الملكة بدور من أنها تحب ذلك وتكون جارية لحياة النفوس. فلما سمع الملك أرمانوس هذا الكلام من قمر الزمان، فرح فرحًا شديدًا، ثم خرج وجلس على كرسي مملكته، وأحضر جميع الوزراء والأمراء والحجَّاب وأرباب الدولة، وأخبرهم بقصة قمر الزمان وزوجته الملكة بدور من الأول إلى الآخر، وأنه يريد أن يزوِّج ابنته حياة النفوس لقمر الزمان، ويجعله سلطانًا عليهم عوضًا عن زوجته الملكة بدور؛ فقالوا جميعًا: حيث كان قمر الزمان هو زوج الملكة بدور، التي كانت سلطانًا علينا قبله ونحن نظن أنها صهر ملكنا أرمانوس، فكلنا نرضاه سلطانًا علينا ونكون له خدمًا، ولا نخرج عن طاعته. ففرح الملك أرمانوس بذلك فرحًا شديدًا، ثم أحضر القضاة والشهود ورؤساء الدولة، وعقد عقد قمر الزمان على ابنته الملكة حياة النفوس، ثم إنه أقام الأفراح وأولم الولائم الفاخرة، وخلع الخلع السنية على جميع الأمراء ورؤساء العساكر، وتصدَّق على الفقراء والمساكين، وأطلق جميع المحابيس، واستبشر العالَم بسلطنة الملك قمر الزمان، وصاروا يدعون له بدوام العز والإقبال والسعادة والإجلال.

ثم إن قمر الزمان لما صار سلطانًا عليهم أزال المكوس، وأطلق مَن بقي في الحبوس، وسار فيهم سيرة حميدة، وأقام مع زوجتَيْه على هناء وسرور، ووفاء وحبور؛ يبيت عند كل واحدة منهما ليلة، ولم يزل على ذلك مدة من الزمان، وقد انجلت عنه الهموم والأحزان، ونسي أباه الملك شهرمان، وما كان له عنده من عز وسلطان، حتى رزقه الله تعالى من زوجتيه بولدين ذكرين مثل القمرين النَّيِّرين؛ أكبرهما من الملكة بدور، وكان اسمه الملك الأمجد، وأصغرهما من الملكة حياة النفوس، واسمه الملك الأسعد. وكان الأسعد أجمل من أخيه الأمجد، ثم إنهما تربَّيا في العز والدلال، والأدب والكمال، وتعلَّما الخط والسياسة والفروسية حتى صارا في غاية الكمال، ونهاية الحسن والجمال، وافتتن بهما النساء، وصار لهما من العمر نحو سبعة عشر عامًا وهما متلازمان، فيأكلان سواء ويشربان سواء، ولا يفترقان عن بعضهما ساعة من الساعات، ولا وقتًا من الأوقات، وجميع الناس يحسدهما على ذلك، ولما بلغَا مبلغ الرجال، واتَّصفا بالكمال، صار أبوهما إذا سافر يجلسهما على التعاقب في مجلس الحكم؛ فيحكم كل واحد منهما يومًا بين الناس. واتفق بالقدر المبرم والقضاء المحتم، أن محبة الأسعد الذي هو ابن حياة النفوس وقعت في قلب الملكة بدور زوجة أبيه، وأن محبة الأمجد الذي هو ابن الملكة بدور وقعت في قلب حياة النفوس زوجة أبيه؛ فصارت كل واحدة من المرأتين تلاعب ابن ضرَّتها وتقبِّله وتضمه إلى صدرها، وإذا رأت ذلك أمه تظن أنه من الشفقة ومحبة الأمهات لأولادها. وتمكَّن العشق من قلوب المرأتين وافتتنتا بالولدين، فصارت كل واحدة منهما إذا دخل عليها ابن ضرتها تضمه إلى صدرها، وتود أنه لا يفارقها، ولما طال عليهما المطال، ولم يجدَا سبيلًا إلى الوصال، امتنعتا من الشراب والطعام، وهجرتا لذيذ المنام. ثم إن الملك توجه إلى الصيد والقنص، وأمر ولديه أن يجلسا في موضعه للحكم؛ كل واحد منهما يومًا على عادتهما. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 218

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك توجَّه إلى الصيد والقنص، وأمر ولديه أن يجلسا في موضعه للحكم؛ كل واحد يومًا على عادتهما؛ فجلس للحكم في اليوم الأول الأمجد ابن الملكة بدور فأمر ونهى، وولَّى وعزل، وأعطى ومنع. فكتبت له الملكة حياة النفوس أم الأسعد مكتوبًا تستعطفه فيه، وتوضِّح له أنها متعلِّقة به، ومتعشِّقة فيه، وتكشف له الغطاء، وتعلمه أنها تريد وصاله، فأخذت ورقةً وكتبت فيها هذه السجعات: «من المسكينة العاشقة، الحزينة المفارقة، التي ضاع بحبك شبابها، وطال فيك عذابها، ولو وصفت لك طول الأسف، وما أقاسيه من اللهف، وما بقلبي من الشغف، وما أنا فيه من البكاء والأنين، وتقطع القلب الحزين، وتوالي الغموم، وتتابع الهموم، وما أجده من الفراق، والكآبة والاحتراق، لطال شرحه في الكتاب، وعجزت عن حصره الحساب، وقد ضاقت عليَّ الأرض والسماء، ولا لي في غيرك أمل ولا رجاء، فقد أشرفت على الموت، وكابدت أهوال الفوت، وزاد بي الاحتراق، وألم الهجر والفراق، ولو وصفت ما عندي من الأشواق، لضاقت عنه الأوراق». ثم بعد ذلك كتبت هذين البيتين:

لَوْ كُنْتُ أَشْرَحُ مَا أَلْقَاهُ مِنْ حُرَقٍ        وَمِنْ سَقَامٍ وَمِنْ وَجْدٍ وَمِنْ قَلَقِ

لَمْ يَبْقَ فِي الْأَرْضِ قِرْطَاسٌ وَلَا قَلَمٌ        وَلَا مِدَادٌ وَلَا شَيْءٌ مِنَ الْوَرَقِ

ثم إن الملكة حياة النفوس لفَّت تلك الورقة في رقعة من غالي الحرير، مضمَّخة بالمسك والعبير، ووضعت معها جدائل شعرها التي تستغرق الأموال بسعرها، ثم لفَّتها بمنديل، وأعطتها للخادم، وأمرته أن يوصلها إلى الملك الأمجد. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 219

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أنها أعطت ورقة المراسلة للخادم، وأمرته بوصلها إلى الملك الأمجد، فسار ذلك الخادم وهو لا يعلم ما خفي له في الغيب، وعلَّام الغيوب يدبر الأمور كيف يشاء؛ فلما دخل الخادم على الملك الأمجد قبَّلَ الأرض بين يديه، وناوله المنديل وبلَّغه الرسالة؛ فتناوَلَ الملك الأمجد المنديل من الخادم وفتحه، فرأى الورقة ففتحها وقرأها، فلما فهم معناها علم أن امرأة أبيه في عينها الخيانة، وقد خانت أباه الملك قمر الزمان في نفسها؛ فغضب غضبًا شديدًا، وذم النساء على فعلهن، وقال: لعن الله النساء الخائنات الناقصات عقلًا ودينًا. ثم إنه جرَّد سيفه، وقال للخادم: ويلك يا عبد السوء! أتحمل المراسلة المشتملة على الخيانة من زوجة سيدك؟ والله إنه لا خيرَ فيك يا أسود اللون والصحيفة، يا قبيح المنظر والطبيعة السخيفة. ثم ضربه بالسيف على عنقه فعزل رأسه عن جثته، وطوى المنديل على ما فيه ووضعه في جيبه، ثم دخل على أمه وأعلمها بما جرى، وسبَّها وشتمها، وقال: كلكن أنجس من بعضكن، والله العظيم لولا أني أخاف إساءة الأدب في حق والدي قمر الزمان وأخي الملك الأسعد، لأدخلن عليها وأضربن عنقها كما ضربتُ عنق خادمها.

ثم إنه خرج من عند أمه الملكة بدور وهو في غاية الغيظ، فلما بلغ الملكة حياة النفوس زوجة أبيه ما فعل بخادمها، سبَّتْه ودعت عليه، وأضمرت له المكر؛ فبات الملك الأمجد في تلك الليلة ضعيفًا من الغيظ والقهر والفكر، ولم يلذ له أكل ولا شرب ولا منام. فلما أصبح الصباح خرج أخوه الملك الأسعد، وجلس في مجلس أبيه الملك قمر الزمان ليحكم بين الناس، وقد أصبحت أمه حياة النفوس ضعيفة بسبب ما سمعته عن الملك الأمجد من قتله للخادم. ثم إن الملك الأسعد لما جلس للحكم في ذلك اليوم، حكم وعدل، وولَّى وعزل، وأمر ونهى، وأعطى ووهب، ولم يزل جالسًا في مجلس الحكم إلى قرب العصر. ثم إن الملكة بدور أم الملك الأمجد أرسلت إلى عجوز من العجائز الماكرات، وأظهرتها على ما في قلبها، وأخذت ورقةً لتكتب فيها مراسلةً للملك الأسعد ابن زوجها، وتشكو إليه كثرة محبتها ووجدها به؛ فكتبت له هذه السجعات: «ممَّن تلفت وَجْدًا وشوقًا، إلى أحسن الناس خُلُقًا وخَلْقًا، المعجب بجماله، التائه بدلاله، المُعرِض عن طلب وصاله، الزاهد في القرب ممَّن خضع وذلَّ، إلى مَن جفا وملَّ، الملك الأسعد صاحب الحسن الفائق، والجمال الرائق، والوجه الأقمر، والجبين الأزهر، والضياء الأبهر، هذا كتابي إلى من حبُّه أذاب جسمي، ومزَّق جلدي وعظمي، اعلم أنه قد عيل صبري، وتحيَّرتُ في أمري، وأقلقني الشوق والسهاد، وجفاني الصبر والرقاد، ولازمني الحزن والسهاد، وبرح بي الوَجْد والغرام، وحلول الضنى والسِّقام، فالروح تفديك، وإن كان قتلُ الصبِّ يرضيك، والله يبقيك، ومن كل سوء يقيك». ثم بعد تلك السجعات كتبت هذه الأبيات:

حَكَمَ الزَّمَانُ بِأَنَّنِي لَكَ عَاشِقٌ        يَا مَنْ مَحَاسِنُهُ كَبَدْرٍ يُشْرِقُ

حُزْتَ الْمَلَاحَةَ وَالْفَصَاحَةَ كُلَّهَا        وَعَلَيْكَ مِنْ دُونِ الْبَرِيَّةِ رَوْنَقُ

وَلَقَدْ رَضِيتَ بِأَنْ تَكُونَ مُعَذِّبِي        فَعَسَى عَلَيَّ بِنَظْرَةٍ تَتَصَدَّقُ

مَنْ مَاتَ فِيكَ صَبَابَةً فَلَهُ الْهَنَا        لَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يُحِبُّ وَيَعْشَقُ

ثم كتبت أيضًا هذه الأبيات:

إِلَيْكَ أَسْعَدُ أَشْكُو مِنْ لَهِيبِ جَوًى        فَارْحَمْ مُتَيَّمَةً بِالشَّوْقِ تَلْتَهِبُ

إِلَى مَتَى وَأَيَادِي الْوَجْدِ تَلْعَبُ بِي        وَالْعِشْقُ وَالْفِكْرُ وَالتَّسْهِيدُ وَالنَّصَبُ

طَوْرًا بِبَحْرٍ وَطَوْرًا أَشْتَكِي لَهَبًا        فِي مُهْجَتِي إِنَّ ذَا يَا مُنْيَتِي عَجَبُ

يَا لَائِمِي خَلِّ لَوْمِي وَالْتَمِسْ هَرَبًا        مِنَ الْهَوَى فَدُمُوعُ الْعَيْنِ تَنْسَكِبُ

كَمْ صِحْتُ وَجْدًا مِنَ الْهِجْرَانِ وَا حَرَبَا!        فَلَمْ يُفِدْنِي بِذَاكَ الْوَيْلُ وَالْحَرَبُ

أَمْرَضْتَنِي بِصُدُودٍ لَسْتُ أَحْمِلُهُ        أَنْتَ الطَّبِيبُ فَأَسْعِفْنِي بِمَا يَجِبُ

يَا عَاذِلِي كُفَّ عَنْ عَذْلِي مُحَاذَرَةً        كَيْ لَا يُصِيبَكَ مِنْ دَاءِ الْهَوَى عَطَبُ

ثم إن الملكة بدور ضمَّخت ورقة الرسالة بالمسك الأذفر، ولفَّتها في جدائل شعرها، وهي من الحرير العراقي، وشراريبها من قضبان الزمرد الأخضر مرصَّعة بالدر والجوهر، ثم سلَّمتها إلى العجوز، وأمرتها أن تعطيها للملك الأسعد ابن زوجها الملك قمر الزمان؛ فراحت العجوز من أجل خاطرها، ودخلت على الملك الأسعد من وقتها وساعتها، وكان في خلوة عند دخولها، فناولَتْه الورقةَ بما فيها، وقد وقفت ساعة زمانية تنتظر ردَّ الجواب؛ فعند ذلك قرأ الملك الأسعد الورقة وفهم ما فيها، ثم بعد ذلك لفَّ الورقة في الجدائل، ووضعها في جيبه، وغضب غضبًا شديدًا ما عليه من مزيد، ولعن النساء الخائنات.

ثم إنه نهض، وسحب السيف من غمده، وضرب رقبة العجوز فعزل رأسها عن جثتها، وبعد ذلك قام وتمشى حتى دخل على أمه حياة النفوس، فوجدها راقدة في الفرش ضعيفة بسبب ما جرى لها من الملك الأمجد؛ فشتمها الملك الأسعد ولعنها، ثم خرج من عندها؛ فاجتمع بأخيه الملك الأمجد، وحكى له جميع ما جرى له مع الملكة بدور، وأخبره بأنه قتل العجوز التي جاءت له بالرسالة، ثم قال له: والله يا أخي، لولا حيائي منك لَكنتُ دخلت في هذه الساعة إليها وقطعت رأسها من بين كتفيها. فقال له أخوه الملك الأمجد: والله يا أخي، إنه قد جرى لي بالأمس لما جلست على كرسي المملكة مثل ما جرى لك في هذا اليوم، فإن أمك أرسلَتْ إليَّ رسالةً بمثل مضمون هذا الكلام. ثم أخبره بجميع ما جرى له مع أمه الملكة حياة النفوس، وقال له: والله يا أخي، لولا حيائي منك لَدخلتُ إليها، وفعلت بها ما فعلتُ بالخادم.

ثم إنهما باتا يتحدَّثان بقية تلك الليلة، ويلعنان النساء الخائنات، ثم تواصَيَا بكتمان هذا الأمر لئلا يسمع به أبوهما الملك قمر الزمان فيقتل المرأتين، ولم يزالا في غمٍّ تلك الليلةَ إلى الصباح. فلما أصبح الصباح أقبل الملك بجيشه من الصيد، وطلع إلى قصره، ثم صرف الأمراء إلى حال سبيلهم، وقام ودخل القصر فوجد زوجتيه راقدتين على الفراش، وهما في غاية الضعف، وقد عملتا لولديهما مكيدة، واتفقتا على تضييع أرواحهما؛ لأنهما قد فضحتا أنفسهما معهما، وقد خشيتا أن تصيرا تحت ذِلتهما، فلما رآهما الملك على تلك الحالة قال لهما: ما لكما؟ فقامتا إليه وقبَّلتا يديه، وعكستا عليه المسألة، وقالتا له: اعلم أيها الملك أن ولديك اللذين قد تربيَّا في نعمتك قد خاناك في زوجتَيْك وأركباك العار. فلما سمع قمر الزمان من نسائه هذا الكلام، صار الضياء في وجهه ظلامًا، واغتاظ غيظًا شديدًا حتى طار عقله من شدة الغيظ، وقال لنسائه: أوضحَا لي هذه القضية. فقالت له الملكة بدور: اعلم يا ملك الزمان أن ولدك الأسعد ابن حياة النفوس له مدة من الأيام وهو يراسلني ويكاتبني ويراودني على الزنا، وأنا أنهاه عن ذلك ولم ينتهِ، فلما سافرتَ أنت هجم عليَّ وهو سكران والسيف في يده، فخفت أن يقتلني إذا مانعته كما قتل خادمي، فقضى أربه مني غصبًا، وإن لم تخلِّص حقي منه أيها الملك قتلتُ نفسي بيدي، وليس لي حاجة بالحياة في الدنيا بعد هذا الفعل القبيح. وأخبرَتْه حياة النفوس أيضًا بمثل ما أخبرته به ضرتها بدور. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 220

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملكة حياة النفوس أخبرت زوجها الملك قمر الزمان بمثل ما أخبرته به الملكة بدور، وقالت له: أنا الأخرى جرى لي مع ولدك الأمجد كذلك. ثم إنها أخذت في البكاء والنحيب، وقالت له: إن لم تخلِّص لي حقي منه أعلمت أبي الملك أرمانوس بذلك. ثم إن المرأتين بكتَا قدَّام زوجهما الملك قمر الزمان بكاءً شديدًا، فلما رأى الملك بكاء زوجتيه الاثنتين وسمع كلامهما، اعتقد أنه حق، فغضب غضبًا شديدًا ما عليه من مزيد، فقام وأراد أن يهجم على ولدَيْه الاثنين ليقتلهما، فلقيه صهره الملك أرمانوس، وقد كان داخلًا في تلك الساعة ليسلِّم عليه لما علم أنه قد أتى من الصيد، فرآه والسيف مشهور في يده، والدم يقطر من مناخيره من شدة غيظه، فسأله عما به، فأخبره بجميع ما جرى من ولديه الأمجد والأسعد، ثم قال له: وها أنا داخل إليهما لأقتلهما أقبح قتلة، وأمثِّل بهما أقبح مثلة. فقال له صهره الملك أرمانوس، وقد اغتاظ منهما أيضًا: ونِعم ما تفعل يا ولدي، فلا بارَكَ الله فيهما، ولا في أولاد تفعل هذه الفعال في حق أبيهما، ولكن يا ولدي صاحب المثل يقول: «من لم ينظر في العواقب، ما الدهر له بصاحب» وهما ولداك على كل حال، وينبغي ألَّا تقتلهما بيدك فتشرب غُصَّتهما، وتندم بعد ذلك على قتلهما حيث لا ينفعك الندم، ولكن أرسلهما مع أحد من المماليك ليقتلهما في البرية وهما غائبان عن عينك.

فلما سمع الملك قمر الزمان من صهره الملك أرمانوس هذا الكلام رآه صوابًا، فأغمد سيفه ورجع وجلس على سرير مملكته ودعا خازنداره، وكان شيخًا كبيرًا عارفًا بالأمور وتقلُّبات الدهور، وقال له: أدخل إلى ولديَّ الأمجد والأسعد، وكتِّفهما كتافًا جيدًا، واجعلهما في صندوقين، واحملهما على بغل، واركب أنت واخرج بهما إلى وسط البرية واذبحهما، واملأ لي قنِّينتين من دمهما، وائتني بهما عاجلًا. فقال له الخازندار: سمعًا وطاعة. ثم نهض من وقته وساعته، وتوجَّه إلى الأمجد والأسعد فصادفهما في الطريق وهما خارجان في دهليز القصر، وقد لبسا قماشهما وأفخر ثيابهما، وأرادا التوجُّه إلى والدهما الملك قمر الزمان ليسلِّما عليه، ويهنِّئاه بالسلامة عند قدومه من السفر إلى الصيد؛ فلما رآهما الخازندار قبض عليهما، وقال لهما: يا ولديَّ، اعلما أنني عبدٌ مأمور، وأن أباكما أمرني بأمر، فهل أنتما طائعان لأمره؟ قالا: نعم. فعند ذلك تقدَّمَ إليهما الخازندار وكتَّفهما، ووضعهما في صندوقين، وحملهما على ظهر بغل، وخرج بهما من المدينة، ولم يزل سائرًا بهما في البرية إلى قريب الظُّهْر، فأنزلهما في مكان قفر موحش، ونزل عن فرسه وحطَّ الصندوقين عن ظهر البغل وفتحهما، وأخرج الأمجد والأسعد منهما. فلما نظر إليهما بكى بكاءً شديدًا على حسنهما وجمالهما، وبعد ذلك جرَّد سيفه وقال لهما: والله يا سيديَّ إنه يعزُّ عليَّ أن أفعل بكما فعلًا قبيحًا، ولكن أنا معذور في هذه الأمور؛ لأنني عبد مأمور، وقد أمرني والدكما الملك قمر الزمان بضرب رقابكما. فقالا له: أيها الأمير، افعل ما أمرك به الملك، فنحن صابرون على ما قدَّره الله عز وجل علينا، وأنت في حِلٍّ من دمائنا.

ثم إنهما تعانقَا وودَّعَا بعضهما، وقال الأسعد للخازندار: بالله عليك يا عم إنك لا تجرِّعني غصة أخي، ولا تسقني حسرته، بل اقتلني أنا قبله ليكون ذلك أهون عليَّ. وقال الأمجد للخازندار مثل ما قال الأسعد، واستعطف الخازندار بقتله قبل أخيه، وقال له: إن أخي أصغر مني فلا تُذِقني لوعته. ثم بكى كلٌّ منهما بكاءً شديدًا ما عليه من مزيد، وبكى الخازندار لبكائهما. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 221

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الخازندار بكى لبكائهما، ثم إن الأخوين تعانقَا وودَّعا بعضهما، وقال أحدهما للآخر: إن هذا كله من كيد الخائنتين أمي وأمك، وهذا جزاء ما جرى مني في حق أمك، وجزاء ما جرى منك في حقِّ أمي، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون. ثم إن الأسعد اعتنق أخاه، وصعَّد الزفرات، وأنشد هذه الأبيات:

يَا مَنْ إِلَيْهِ الْمُشْتَكَى وَالْمَفْزَعُ        أَنْتَ الْمُعَدُّ لِكُلِّ مَا يُتَوَقَّعُ

مَا لِي سِوَى قَرْعِي لِبَابِكَ حِيلَةٌ        وَلَئِنْ رُدِدْتُ فَأَيَّ بَابٍ أَقْرَعُ

يَا مَنْ خَزَائِنُ فَضْلِهِ فِي قَوْلِ كُنْ        امْنُنْ فَإِنَّ الْخَيْرَ عِنْدَكَ أَجْمَعُ

فلما سمع الأمجد بكاء أخيه بكى، وضمَّه إلى صدره، وأنشد هذين البيتين:

يَا مَنْ أَيَادِيهِ عِنْدِي غَيْرُ وَاحِدَةٍ        وَمَنْ مَوَاهِبُهُ تَنْمُو عَنِ الْعَدَدِ

مَا نَابَنِي مِنْ زَمَانِي قَطُّ نَائِبَةٌ        إِلَّا وَجَدْتُكَ فِيهَا آخِذًا بِيَدِي

ثم قال الأمجد للخازندار: سألتك بالواحد القهار الملك الستار أن تقتلني قبل أخي الأسعد، لعل نار قلبي تخمد، ولا تدعها تتوقد. فبكى الأسعد وقال: ما يُقتَل قبلُ إلا أنا. فقال الأمجد: الرأي أن تعتنقني وأعتنقك حتى ينزل السيف علينا فيقتلنا دفعة واحدة. فلما اعتنق الاثنان وجهًا لوجه والتزمَا ببعضهما، شدَّهما الخازندار وربطهما بالحبال وهو يبكي، ثم جرَّد سيفه وقال: والله يا سيديَّ إنه يعزُّ عليَّ قتلكما، فهل لكما من حاجة فأقضيها، أو وصيَّة فأنفِّذها، أو رسالة فأبلِّغها؟ فقال الأمجد: ما لنا حاجة، وأما من جهة الوصية فإني أوصيك أن تجعل أخي الأسعد من تحت وأنا من فوق؛ لأجل أن تقع عليَّ الضربة أولًا، فإذا فرغتَ من قتلنا ووصلتَ إلى الملك وقال لك: ما سمعت منهما قبل موتهما؟ فقل له: إن ولدَيْك يُقْرِآنك السلام ويقولان لك: إنك لا تعلم هل هما بريئان أم مذنبان؟ وقد قتلتهما وما تحقَّقْتَ ذنبهما، وما نظرت في حالهما. ثم أنشده هذين البيتين:

إِنَّ النِّسَاءَ شَيَاطِينٌ خُلِقْنَ لَنَا        أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ كَيْدِ الشَّيَاطِينِ

فَهُنَّ أَصْلُ الْبَلِيَّاتِ الَّتِي ظَهَرَتْ        بَيْنَ الْبَرِيَّةِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الدِّينِ

ثم قال الأمجد: ما نريد منك إلا أن تبلغه هذين البيتين اللذين سمعتهما. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 222

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الأمجد قال للخازندار: ما نريد منك إلا أن تبلغه هذين البيتين اللذين سمعتهما، وأسألك بالله أن تطوِّل بالك علينا حتى أنشد لأخي هذين البيتين الآخَرين. ثم بكى بكاءً شديدًا، وجعل يقول:

فِي الذَّاهِبِينَ الْأَوَّلِيــنَ        مِنَ الْمُلُوكِ لَنَا بَصَائِرْ

كَمْ قَدْ مَضَى فِي ذَا الطَّرِيــقِ        مِنَ الْأَكَابِرِ وَالْأَصَاغِرْ

فلما سمع الخازندار من الأمجد هذا الكلام بكى بكاءً شديدًا حتى بلَّ لحيته، وأما الأسعد فإنه قد ترغرغت عيناه بالعَبَرات، وأنشد هذه الأبيات:

الدَّهْرُ يَفْجَعُ بَعْدَ الْعَيْنِ بِالْأَثَرِ        فَمَا الْبُكَاءُ عَلَى الْأَشْبَاحِ وَالصُّوَرِ

مَا لِلَيَالِي أَقَالَ اللهُ عَثْرَتَنَا        مِنَ اللَّيَالِي وَخَانَتْهَا يَدُ الْغِيَرِ

فَقَدْ أَضْرَمَتْ كَيْدَهَا لِابْنِ الزُّبَيْرِ وَمَا        رَعَتْ لِيَاذَتَهُ بِالْبَيْتِ وَالْحَجَرِ

وَلَيْتَهَا إِذْ فَدَتْ عَمْرًا بِخَارِجَةٍ        فَدَتْ عَلِيًّا بِمَنْ شَاءَتْ مِنَ الْبَشَرِ

ثم خضب خذه بدمعه المدرار، وأنشد هذه الأشعار:

إِنَّ اللَّيَالِيَ وَالْأَيَّامَ قَدْ طُبِعَتْ        عَلَى الْخِدَاعِ وَفِيهَا الْمُكْرُ وَالْحِيَلُ

سَرَابُ كُلِّ يَبَابٍ عِنْدَهَا شَنِبٌ        وَهَوْلُ كُلِّ ظَلَامٍ عِنْدَهَا كَحَلُ

ذَنْبِي إِلَى الدَّهْرِ فَلْيَكْرَهْ سَجِيَّتَهُ        ذَنْبَ الْحِمَامِ إِذَا مَا أَحْجَمَ الْبَطَلُ

ثم صعَّد الزفرات، وأنشد هذه الأبيات:

يَا طَالِبَ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ إِنَّهَا        شَرَكُ الرَّدَى وَقَرَارَةُ الْأَكْدَارِ

دَارٌ مَتَّى مَا أَضْحَكَتْ فِي يَوْمِهَا        أَبْكَتْ غَدًا تَبًّا لَهَا مِنْ دَارِ

غَارَاتُهَا لَا تَنْقَضِي وَأَسِيرُهَا        لَا يُفْتَدَى بِجَلَائِلِ الْأَخْطَارِ

كَمْ مُزْدَهٍ بِغُرُورِهَا حَتَّى بَدَا        مُتَمَرِّدًا مُتَجَاوِزَ الْمِقْدَارِ

قَلَبَتْ لَهُ ظَهْرَ الْمِجَنِّ وَأَوْغَلَتْ        فِيهِ الْمُدَى وَتَرَتْ لِأَخْذِ الثَّارِ

وَاعْلَمْ بِأَنَّ خُطُوبَهَا تَفْجِي وَلَوْ        طَالَ الْمَدَى وَوَنَتْ سُرَى الْأَقْدَارِ

فَارْبَأْ بِعُمْرِكَ أَنْ يَمُرَّ مُضَيَّعًا        فِيهَا سُدًى مِنْ غَيْرِ مَا اسْتِظْهَارِ

وَاقْطَعْ عَلَائِقَ حُبِّهَا وَطِلَابِهَا        تَلْقَ الْهُدَى وَرَفَاهَةَ الْأَسْرَارِ

فلما فرغ الأسعد من شعره اعتنق أخاه الأمجد حتى صارا كأنهما شخص واحد، وسلَّ الخازندار سيفه وأراد أن يضربهما، وإذا بفرسه جفل في البر، وكان يساوي ألف دينار، وعليه سرج عظيم يساوي جملة من المال؛ فألقى السيف من يده وذهب وراء فرسه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 223

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الخازندار ذهب وراء فرسه، وقد التهب فؤاده، وما زال يجري خلفه ليمسكه حتى دخل في غابة، فدخل وراءه في تلك الغابة، فشقَّ الجواد في وسط الغابة ودقَّ الأرض برجلَيْه فعَلَا الغبار وارتفع وثار، وأما الفرس فإنه شخر ونخر، وصهل وازمهر. وكان في تلك الغابة أسد عظيم الخطر قبيح المنظر، عيونه ترمي بالشرر، له وجه عبوس، وشكل يهول النفوس؛ فالتفت الخازندار فرأى ذلك الأسد قاصدًا إليه، فلم يجد له مهربًا من يديه، ولم يكن معه سيف، فقال في نفسه: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ما حصل لي هذا الضيق إلا بذنب الأمجد والأسعد، وإن هذه السفرة مشئومة من أولها. ثم إن الأمجد والأسعد قد حمي عليهما الحرُّ، فعطشا عطشًا شديدًا حتى نزلت ألسنتهما، واستغاثا من العطش فلم يغثهما أحد، فقالا: يا ليتنا كنَّا قُتِلنا واسترحنا من هذا، ولكن ما ندري أين جفل الحصان حتى ذهب الخازندار وراءه وخلَّانا مكتَّفين، فلو جاءنا وقتلنا كان أريح لنا من مقاساة هذا العذاب. فقال الأسعد: يا أخي اصبر فسوف يأتينا فرجُ الله سبحانه وتعالى، فإن الحصان ما جفل إلا لأجل لطف الله بنا، وما ضرَّنا غير هذا العطش.

ثم هزَّ نفسه وتحرَّكَ يمينًا وشمالًا فانحلَّ كتافه، فقام وحلَّ كتاف أخيه، ثم أخذ سيف الأمير وقال لأخيه: والله لا نروح من ها هنا حتى نكشف خبره، ونعرف ما جرى له. وشرعا يقتصَّان الأثر فدلَّهما على الغابة، فقالا لبعضهما: إن الحصان والخازندار ما تجاوزَا هذه الغابة. فقال الأسعد لأخيه: قف هنا حتى أدخل الغابة وأنظرها. فقال له الأمجد: ما أخليك تدخل فيها وحدك، وما ندخل إلا جميعًا، فإن سلمنا سلمنا سواء، وإن عطبنا عطبنا سواء. فدخل الاثنان فوجدا الأسد قد هجم على الخازندار، وهو تحته كأنه عصفور، ولكنه صار يبتهل إلى الله ويشير إلى نحو السماء، فلما رآه الأمجد أخذ السيف وهجم على الأسد، وضربه بالسيف بين عينيه فقتله، ووقع الأسد مطروحًا على الأرض، فنهض الخازندار وهو متعجِّب من هذا الأمر، فرأى الأمجد والأسعد ولدَيْ سيده واقفَيْن، فترامى على أقدامهما وقال لهما: والله يا سيديَّ ما يصلح أن أفرِّط فيكما بقتلكما، فلا كان مَن يقتلكما، فبروحي أفديكما. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 224

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الخازندار قال للأمجد والأسعد: بروحي أفديكما. ثم نهض من وقته وساعته واعتنقهما، وسألهما عن سبب فك وثاقهما وقدومهما، فأخبراه أنهما عطشا وانحلَّ الوثاق من أحدهما ففكَّ الآخَر بسبب خلوص نيَّتهما، ثم إنهما اقتصَّا الأثر حتى وصلا إليه، فلما سمع كلامهما شكرهما على فعلهما، وخرج معهما إلى ظاهر الغابة، فلما صاروا في ظاهر الغابة قالا له: يا عم افعل ما أمرك به أبونا. فقال: حاشا لله أن أقربكما بضرر، ولكن اعلما أني أريد أن أنزع ثيابكما وألبسكما ثيابي، وأملأ قنِّينتين من دم الأسد، ثم أروح إلى الملك، وأقول له: إني قتلتهما. وأما أنتما فسيحا في البلاد، وأرض الله واسعة، واعلما يا سيديَّ أن فراقكما يعزُّ عليَّ. ثم بكى كلٌّ من الخازندار والغلامين، وقد قلعا ثيابهما، وألبسهما ثيابه، وراح إلى الملك، وقد أخذ ذلك وربط قماش كل واحد منهما في بقجة معه، وملأ القنينتين من دم الأسد، وجعل البقجتين قدَّامه على ظهر الجواد، ثم ودَّعهما وسار متوجِّهًا إلى المدينة، ولم يزل سائرًا حتى دخل على الملك وقبَّل الأرض بين يديه؛ فرآه الملك متغير الوجه، وذلك مما جرى له من الأسد، فظن أن ذلك من قتل أولاده، ففرح وقال له: هل قضيت الشغل؟ قال: نعم يا مولانا. ثم ناوله البقجتين اللتين فيهما الثياب، والقنينتين الممتلئتين بالدم، فقال له الملك: ماذا رأيت منهما، وهل أوصياك بشيء؟ قال: وجدتهما صابرين محتسبين لما نزل بهما، وقد قالَا لي: إن أبانا معذور فأقرئه منَّا السلام. وقالا لي: أنت في حِلٍّ من قتلنا ومن دمائنا، ولكن نوصيك أن تبلغه هذين البيتين، وهما:

إِنَّ النِّسَاءَ شَيَاطِينٌ خُلِقْنَ لَنَا        أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ كَيْدِ الشَّيَاطِينِ

فَهُنَّ أَصْلُ الْبَلِيَّاتِ الَّتِي ظَهَرَتْ        بَيْنَ الْبَرِيَّةِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الدِّينِ

فلما سمع الملك من الخازندار هذا الكلام، أطرق برأسه إلى الأرض مليًّا، وعلم أن كلام ولديه هذا يدل على أنهما قد قُتِلَا ظلمًا، ثم تفكَّرَ في مكر النساء ودواهيهن، وأخذ البقجتين وفتحهما، وصار يقلِّب ثياب أولاده ويبكي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 225

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك قمر الزمان لما فتح البقجتين صار يقلِّب ثياب أولاده ويبكي، فلما فتح ثياب ولده الأسعد وجد في جيبه ورقة مكتوبة بخط زوجته بدور، ومعها جدائل شعرها، ففتح الورقة وقرأها وفهم معناها، فعلم أن ولده الأسعد مظلوم. ولما قلَّبَ في ثياب الأمجد وجد في جيبه ورقةً مكتوبة بخط زوجته حياة النفوس، وفيها جدائل شعرها، ففتح الورقة وقرأها فعلم أنه مظلوم. فدقَّ يدًا على يد، وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، قد قتلت ولديَّ ظلمًا. ثم صار يلطم على وجهه ويقول: وا ولداه! وا طول حزناه! وأمر ببناء قبرين في بيت وسمَّاه بيتَ الأحزان، وقد كتب على القبرين اسمَيْ ولديه، وترامى على قبر الأمجد وبكى، وأنَّ واشتكى، وأنشد هذه الأبيات:

يَا قَمَرًا قَدْ غَابَ تَحْتَ الثَّرَى        بَكَتْ عَلَيْهِ الْأَنْجُمُ الزَّاهِرَةْ

وَيَا قَضِيبًا لَمْ يَمِسْ بَعْدَهُ        مَعَاطِفٌ لِلْأَعْيُنِ النَّاظِرَةْ

مَنَعْتُ عَيْنِي عَنْكَ مِنْ غِيرَتِي        عَلَيْكَ لَا أَرَاكَ لِلْآخِرَةْ

وَأُغْرِقَتْ بِالسُّهْدِ فِي دَمْعِهَا        فَمَنْ لِعَيْنٍ أَصْبَحَتْ سَاهِرَةْ

ثم ترامى على قبر الأسعد وبكى، وأنَّ واشتكى، وأفاض العَبَرات، وأنشد هذه الأبيات:

قَدْ كُنْتُ أَهْوَى أَنْ أُشَاطِرَكَ الرَّدَى        لَكِنْ أَرَادَ اللهُ غَيْرَ مُرَادِي

سَوَّدْتَ مَا بَيْنَ الْفَضَاءِ وَنَاظِرِي        وَمَحَوْتَ مِنْ عَيْنَيَّ كُلَّ سَوَادِ

لَا يَنْفَدُ الدَّمْعُ الَّذِي أَبْكِي بِهِ        إنَّ الْفُؤَادَ لَهُ مِنَ الْأَمْدَادِ

أَعْزِزْ عَلَيَّ بِأَنْ أَرَاكَ بِمَوْضِعٍ        مُتَشَابِهِ الْأَوْغَادِ وَالْأَمْجَادِ

ولما فرغ الملك من شعره، هجر الأحباب والخلَّان، وانقطع في البيت الذي سمَّاه بيت الأحزان، وصار يبكي على أولاده، وقد هجر نساءه وأصحابه وأصدقاءه.

هذا ما كان من أمره، وأما ما كان من أمر الأمجد والأسعد، فإنهما لم يزالا سائرين في البرية، وهما يأكلان من نبات الأرض، ويشربان من متحصِّلات الأمطار مدة شهر كامل حتى انتهى بهما المسير إلى جبل من الصوَّان الأسود لا يُعلَم أين منتهاه، والطريق افترقت عند ذلك الجبل طريقين؛ طريق تشقُّه من وسطه، وطريق صاعدة إلى أعلاه، فسلكَا الطريق التي في أعلى الجبل، واستمرَّا سائرَيْن فيها خمسة أيام فلم يريَا له منتهًى، وقد حصل لهما الإعياء من التعب، وليسا معتادين على المشي في جبلٍ ولا في غيره، ولما يئسَا من الوصول إلى منتهاه رجعَا وسلكَا الطريق التي في وسط الجبل. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 226

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الأمجد والأسعد وَلَدَيِ الملك قمر الزمان لما عادَا من الطريق الصاعدة في الجبل إلى الطريق المسلوكة في وسطه، مشيَا فيها طول ذلك النهار إلى الليل، وقد تعب الأسعد من كثرة السير، فقال لأخيه: يا أخي، أنا ما بقيت أقدر على المشي، فإني ضعفت جدًّا.

فقال له الأمجد: يا أخي، شدَّ حيلك لعل الله يفرِّج عنَّا. ثم إنهما مشيا ساعة من الليل، وقد تعب الأسعد تعبًا شديدًا ما عليه من مزيد، وقال: يا أخي، إني تعبت وكَلَلْتُ من المشي. ثم وقع في الأرض وبكى، فحمله أخوه الأمجد ومشى به، وصار ساعة يمشي، وساعة يقعد ويستريح، إلى أن لاح الفجر حتى استراح أخوه؛ فطلع هو وإياه فوق الجبل فوجدَا عينًا نابعة يجري منها الماء، وعندها شجرة رمان ومحراب، فما صدَّقا أنهما يريان ذلك، ثم جلسا عند تلك العين وشربا من مائها، وأكلا من رمان تلك الشجرة، وناما في ذلك الموضع حتى طلعت الشمس، ثم جلسا واغتسلا من العين، وأكلا من ذلك الرمان الذي في الشجرة وناما إلى العصر، وأرادا أن يسيرا فما قدر الأسعد على السير، وقد ورمت رجلاه، فأقاما هناك ثلاثة أيام حتى استراحا، ثم صارا في الجبل مدة أيام وهما سائران فوق الجبل، وقد تعبا من العطش، إلى أن لاحت لهما مدينة من بعيد، ففرحا وسارا حتى وصلا إليها، فلما قربا منها شكرا الله تعالى، وقال الأمجد للأسعد: يا أخي، اجلس هنا وأنا أسير إلى هذه المدينة، وأنظر ما شأنها وأسأل عن أحوالها؛ لأجل أن نعرف أين نحن من أرض الله الواسعة، ونعرف الذي قطعناه من البلاد في عرض هذا الجبل، ولولا أننا مشينا في وسطه ما كنا نصل إلى هذه المدينة في سنة كاملة، فالحمد لله على السلامة. فقال له الأسعد: والله يا أخي ما يذهب إلى المدينة غيري وأنا فداك، فإنك إن تركتني ونزلت وغبت عني تستغرقني الأفكار من أجلك، وليس لي قدرة على بُعدك عني. فقال له الأمجد: توجَّهْ ولا تُبطِئ.

فنزل الأسعد من الجبل، وأخذ معه دنانير، وخلَّى أخاه ينتظره وسار، ولم يزل ماشيًا في أسفل الجبل حتى دخل المدينة، وشق في أزقَّتها، فلقيه في طريقه رجل، وهو شيخ كبير طاعن في السن، وقد نزلت لحيته على صدره، وافترقت فرقتين، وبيده عكاز، وعليه ثياب فاخرة، وعلى رأسه عمامة كبيرة حمراء، فلما رآه الأسعد تعجَّبَ من لبسه وهيئته، وتقدَّم إليه وسلم عليه، وقال له: أين طريق السوق يا سيدي؟ فلما سمع الشيخ كلامه تبسَّمَ في وجهه وقال له: يا ولدي، كأنك غريب! فقال له الأسعد: نعم، أنا غريب يا عم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 227

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشيخ الذي لقي الأسعد تبسَّم في وجهه، وقال له: يا ولدي، كأنك غريب! فقال له الأسعد: نعم أنا غريب. فقال له الشيخ: قد آنست ديارنا يا ولدي، وأوحشت ديار أهلك، فما الذي تريده من السوق؟ فقال الأسعد: يا عم، إن لي أخًا تركته في الجبل، ونحن مسافران من بلاد بعيدة، ولنا في السفر مدة ثلاثة شهور، وقد أشرفنا على هذه المدينة، فجئت إلى ها هنا لأشتري طعامًا وأعود به إلى أخي من أجل أن نقتات به. فقال له الشيخ: يا ولدي، أَبْشِر بكل خير، واعلم أنني عملت وليمة، وعندي ضيوف كثيرة، وجمعت فيها من أطيب الطعام وأحسن ما تشتهيه النفوس، فهل لك أن تسير معي إلى مكاني فأعطيك ما تريد ولا آخذ منك ثمنًا، وأخبرك بأحوال هذه المدينة؟ والحمد لله يا ولدي حيث وقعت بك ولم يقع بك أحد غيري. فقال الأسعد: افعل ما أنت أهله، وعجِّلْ فإن أخي ينتظرني وخاطره عندي. فأخذ الشيخ بيد الأسعد، ورجع به إلى زقاق ضيق، وصار يتبسَّم في وجهه ويقول له: سبحان مَن نجَّاك من أهل هذه المدينة. ولم يزل ماشيًا به حتى دخل دارًا واسعة وفيها قاعة، وجالس في تلك القاعة أربعون شيخًا طاعنون في السن، وهم مصطفُّون حلقة، وفي وسطهم نار موقدة، والمشايخ جالسون حولها يعبدونها ويسجدون لها، فلما رأى ذلك الأسعد اقشعرَّ بدنه، ولم يعلم ما خبرهم.

ثم إن الشيخ قال لهؤلاء الجماعة: يا مشايخ النار، ما أبركه من نهار! ثم نادى قائلًا: يا غضبان. فخرج له عبد أسود بوجه أعبس، وأنف أفطس، وقامة مائلة، وصورة هائلة، ثم أشار إلى العبد فشدَّ وثاق الأسعد، وبعد ذلك قال الشيخ: انزل به إلى القاعة التي تحت الأرض واتركه هناك، وقل للجارية الفلانية تتولَّى عذابه بالليل والنهار. فأخذه العبد وأنزله تلك القاعة وسلَّمه إلى الجارية، فصارت تتولَّى عذابه وتعطيه رغيفًا واحدًا في أول النهار، ورغيفًا واحدًا في أول الليل، وكوز ماء مالح في الغداة، ومثله في العشيِّ. ثم إن المشايخ قالوا لبعضهم: لمَّا يأتي أوان عيد النار نذبحه على الجبل، ونتقرَّب به إلى النار. ثم إن الجارية نزلت إليه وضربته ضربًا وجيعًا حتى سالت الدماء من أعضائه وغُشِي عليه، ثم حطَّت عند رأسه رغيفًا وكوز ماء مالح وراحت وخلَّته، فاستفاق الأسعد في نصف الليل فوجد نفسه مقيَّدًا وقد آلمه الضرب؛ فبكى بكاء شديدًا، وتذكَّرَ ما كان فيه من العز والسعادة، والمُلك والسيادة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 228

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الأسعد لما رأى نفسه مقيَّدًا وقد آلمه الضرب، تذكَّر ما كان فيه من العز والسعادة، والمُلك والسيادة، فبكى وصعَّد الزفرات، وأنشد هذه الأبيات:

قِفُوا بِرُسُومِ الدَّارِ وَاسْتَخْبِرُوا عَنَّا        وَلَا تَحْسِبُونَا فِي الدِّيَارِ كَمَا كُنَّا

لَقَدْ فَرَّقَ الدَّهْرُ الْمُشَتِّتُ شَمْلَنَا        وَمَا تَشْتَفِي أَكْبَادُ حُسَّادِنَا مِنَّا

تَوَلَّتْ عَذَابِي بِالسِّيَاطِ لَئِيمَةٌ        وَقَدْ مَلَأَتْ مِنِّي جَوَانِحَهَا ضِغْنَا

عَسَى وَلَعَلَّ اللهَ يَجْمَعُ شَمْلَنَا        وَيَدْفَعُ بِالتَّنْكِيلِ أَعْدَاءَنَا عَنَّا

فلما فرغ الأسعد من شعره مدَّ يده عند رأسه فوجد رغيفًا وكوز ماء مالح، فأكل قليلًا ليسد رمقه، وشرب قليلًا من الماء، ولم يزل ساهرًا إلى الصباح من كثرة البق والقمل. فلما أصبح الصباح نزلت إليه الجارية ونزعت عنه ثيابه، وكانت قد غُمِرت بالدم والتصقت بجلده، فطلع جلده مع القميص، فصرَخَ وتأوَّه وقال: يا مولاي، إن كان في هذا رضاك فزدني منه، يا رب إنك لستَ غافلًا عمَّن ظلمني، فخذ حقي منه. ثم صعَّد الزفرات، وأنشد هذه الأبيات:

كُنْ عَنْ أُمُورِكَ مُعْرِضَا        وَكِلِ الْأُمُورَ إِلَى الْقَضَا

فَلَرُبَّ أَمْرٍ مُسْخِطٍ        لَكَ فِي عَوَاقِبِهِ رِضَا

وَلَرُبَّما اتَّسَعَ الْمَضِيقُ        وَرُبَّما ضَاقَ الْفَضَا

اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ        فَلَا تَكُنْ مُتَعَرِّضَا

وَابْشِرْ بِخَيْرٍ عَاجِلٍ        تَنْسَى بِهِ مَا قَدْ مَضَى

فلما فرغ من شعره نزلت عليه الجارية بالضرب حتى غُشِي عليه، ورمت له رغيفًا وكوز ماء مالح، وطلعت من عنده وخلَّته وحيدًا فريدًا حزينًا والدماء تسيل من أعضائه، وهو مقيَّد في الحديد بعيد عن الأحباب، فتذكَّرَ أخاه والعزَّ الذي كان فيه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 229

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الأسعد تذكَّرَ أخاه والعزَّ الذي كان فيه، فحنَّ وبكى، وأنَّ واشتكى، وسكب العَبَرات، وأنشد هذه الأبيات:

يَا دَهْرُ مَهْلًا كَمْ تَجُورُ وَتَعْتَدِي        وَلَكَمْ بِأَحْبَابِي تَرُوحُ وَتَغْتَدِي

مَا آنَ أَنْ تَرْثِي لِطُولِ تَشَتُّتِي        وَتَرِقَّ يَا مَنْ قَلْبُهُ كَالْجَلْمَدِ

وَأَسَأْتَ أَحْبَابِي بِمَا أَشْمَتَّ بِي        كُلَّ الْعِدَاةِ بِمَا صَنَعْتَ مِنَ الرَّدِي

وَقَدِ اشْتَفَى قَلْبُ الْعَدُوِّ بِمَا رَأَى        مِنْ غُرْبَتِي وَصَبَابَتِي وَتَوَحُّدِي

لَمْ يَكْفِهِ مَا حَلَّ بِي مِنْ كُرْبَةٍ        وَفِرَاقِ أَحْبَابٍ وَطَرْفٍ أَرْمَدِ

حَتَّى بُلِيتُ بِضِيقِ سِجْنٍ لَيْسَ لِي        فِيهِ أَنِيسٌ غَيْرُ عَضٍّ بِالْيَدِ

وَمَدامِعٍ تَهْمِي كَفَيْضِ سَحَائِبٍ        وَغَلِيلِ شَوْقٍ نَارُهُ لَمْ تَخْمُدِ

وَكَآبَةٍ وَصَبَابَةٍ وَتَذَكُّرٍ        وَتَحَسُّرٍ وَتَنَفُّسٍ وَتَنَهُّدِ

شَوْقٌ أُكَابِدُهُ وَحُزْنٌ مُتْلِفٌ        وَوَقَعْتُ فِي وَجْدٍ مُقِيمٍ مُقْعِدِ

لَمْ أَلْقَ لِي مِنْ عَاطِفٍ ذِي رَحْمَةٍ        يَحْنُو عَلَيَّ بِزَوْرَةِ الْمُتَرَدِّدِ

هَلْ مِنْ صَدِيقٍ ذِي وِدَادٍ صَادِقٍ        يَرْثِي لِأَسْقَامِي وَطُولِ تَسَهُّدِي

أَشْكُو إِلَيْهِ مَا أُكَابِدُهُ أَسًى        وَالطَّرْفُ مِنِّي سَاهِرٌ لَمْ يَرْقُدِ

وَيَطُولُ لَيْلِي فِي الْعَذَابِ لِأَنَّنِي        أُصْلَى بِنَارِ الْهَمِّ ذَاتِ تَوَقُّدِ

وَالْبَقُّ وَالْبَرْغُوثُ قَدْ شَرِبَا دَمِي        شُرْبَ الطِّلَا مِنْ كَفِّ أَلْمًى أَغْيَدِ

وَالْجِسْمُ بَيْنَ الْقَمْلِ مِنِّي قَدْ حَكَى        مَالَ الْيَتِيمِ بِكَفِّ قَاضٍ مُلْحِدِ

وَسَكَنْتُ فِي سِجْنٍ ثَلَاثَةَ أَذْرُعٍ        وَغَدَوْتُ بَيْنَ مُقَيَّدٍ وَمُصَفَّدِ

فَمُدَامَتِي دَمْعِي وَقَيْدِي مُطْرِبِي        وَالْفِكْرُ نَقْلِي وَالْهُمُومُ تَنَهُّدِي

فلما فرغ من نظمه ونثره، حنَّ وبكى، وأنَّ واشتكى، وتذكَّر ما كان فيه، وما حصل له من فراق أخيه.

هذا ما كان من أمره، وأما ما كان من أمر أخيه الأمجد، فإنه مكث ينتظر أخاه الأسعد إلى نصف النهار، فلم يَعُدْ إليه، فخفق فؤاده واشتد به ألم الفراق، وأفاض دمعه المهراق. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 230

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الأمجد لما مكث ينتظر أخاه الأسعد إلى نصف النهار فلم يَعُدْ إليه، فخفق فؤاده واشتدَّ به ألم الفراق، وأفاض دمعه المهراق، وصاح: وا حسرتاه! ما كان أخوفني من الفراق! ثم نزل من فوق الجبل ودمعه سائل على خدَّيه ودخل المدينة، ولم يزل ماشيًا فيها حتى وصل إلى السوق، وسأل الناس عن اسم المدينة وعن أهلها، فقالوا له: هذه تُسمَّى مدينة المجوس، وأهلها يعبدون النار دون الملك الجبار. ثم سأل عن مدينة الأبنوس فقالوا له: إن المسافة التي بيننا وبينها من البر سنة، ومن البحر ستة أشهر، وملكها يقال له أرمانوس، وقد صاهَرَ اليومَ ملكًا وجعله مكانه، وذلك الملك يقال له قمر الزمان، وهو صاحب عدل وإحسان، وجُودٍ وأمان. فلما سمع الأمجد ذِكْرَ أبيه حنَّ وبكى، وأنَّ واشتكى، وصار لا يعلم أين يتوجه، وقد اشترى معه شيئًا للأكل، وذهب إلى موضع يتوارى فيه، ثم قعد وأراد أن يأكل فتذكر أخاه، فبكى ولم يأكل إلا قدرَ سدِّ الرمق، ثم قام ومشى في المدينة ليعلم خبر أخيه، فوجد رجلًا مسلمًا خيَّاطًا في دكانٍ، فجلس عنده، وقد حكى للخياط قصته، فقال له الخياط: إنْ كان وقع في يد أحدٍ من المجوس، فما بقيت تراه إلا بعسر، ولعل الله يجمع بينك وبينه. ثم قال له: هل لك يا أخي أن تنزل عندي؟ قال: نعم. ففرح الخياط بذلك، وأقام عنده أيامًا وهو يسلِّيه ويصبِّره ويعلِّمه الخياطة حتى صار ماهرًا، ثم خرج يومًا إلى شاطئ البحر وغسل أثوابه، ودخل الحمام ولبس ثيابًا نظيفة، ثم خرج من الحمام يتفرج في المدينة، فصادَفَ في طريقه امرأة ذات حسن وجمال، وقدٍّ واعتدال، ليس لها في الحسن مثال، فلما رأته رفعت القناع عن وجهها، وغمزته بحواجبها وعيونها، وغازلته باللحظات، وأنشدت هذه الأبيات:

رَأَيْتُكَ مُقْبِلًا فَغَضَضْتُ طَرْفِي        كَأَنَّكَ يَا مُهَفْهَفُ عَيْنُ شَمْسِ

فَإِنَّكَ أَنْتَ أَحْسَنُ مَنْ تَبَدَّى        وَأَنْتَ الْيَوْمَ أَحْسَنُ مِنْكَ أَمْسِ

وَلَوْ قُسِمَ الْجَمَالُ لَكَانَ خَمْسٌ        لِيُوسُفَ وَاحِدٌ أَوْ بَعْضُ خُمْسِ

وَبَاقِيهِ لِذَاتِكَ بِاخْتِصَاصٍ        فَكَانَ فِدًى لِنَفْسِكَ كُلُّ نَفْسِ

فلما سمع الأمجد كلامها، ارتاح خاطره لديها، وحنَّت جوارحه إليها، وقد لعبت به أيدي الصبابات، فأشار لها وأنشد هذه الأبيات:

وَرْدُ الْخُدُودِ وَدُونَهُ شَوْكُ الْقَنَا        فَمَنِ الْمُحَدِّثُ نَفْسَهُ أَنْ يُجْتَنَى

لَا تَمْدُدِ الْأَيْدِي إِلَيْهِ فَطَالَمَا        شَنُّوا الْحُرُوبَ لِأَنْ مَدَدْنَا الْأَعْيُنَا

قُلْ لِلَّتِي ظَلَمَتْ وَكَانَتْ فِتْنَةً        وَلَوَ انَّهَا عَدَلَتْ لَكَانَتْ أَفْتَنَا

لَيُزَادُ وَجْهُكِ بِالتَّبَرْقُعِ ضِلَّةً        وَأَرَى السُّفُورَ لِمِثْلِ حُسْنِكِ أَصْوَنَا

كَالشَّمْسِ يَمْتَنِعُ اجْتِلَاؤُكِ وَجْهَهَا        وَإِنِ اكْتَسَتْ بِرَقِيقِ غَيْمٍ أَمْكَنَا

غَدَتِ النَّحِيلَةُ فِي حِمًى مِنْ نَحْلِهَا        فَسَلُوا حُمَاةَ الْحَيِّ عَمَّا صَدُّنَا

إِنْ كَانَ قَتْلِي قَصْدَهُمْ فَلْيَرْفَعُوا        تِلْكَ الضَّغَائِنَ وَلْيُخَلُّوا بَيْنَنَا

مَا هُمْ بِأَعْظَمِ فَتْكَةٍ لَوْ بَارَزُوا        مِنْ طَرْفِ ذَاتِ الْخَالِ إِذْ بَرَزَتْ لَنَا

فلما سمعت من الأمجد هذا الشعر تنهَّدت بصاعد الزفرات، وأشارت إليه وأنشدت هذه الأبيات:

أَنْتَ الَّذِي سَلَكَ الْإِعْرَاضَ لَسْتُ أَنَا        جُدْ بِالْوِصَالِ إِذَا كَانَ الْوَفَاءُ أَنَا

يَا فَالِقَ الصُّبْحِ مِنْ لَأْلَاءِ غُرَّتِهِ        وَجَاعِلَ اللَّيْلِ مِنْ أَصْدَاغِهِ سَكَنَا

بِصُورَةِ الْوَثَنِ اسْتَعْبَدْتَنِي وَبِهَا        فَتَنْتَنِي وَقَدِيمًا هِجْتَ لِي فِتَنَا

لَا غَرْوَ إِنْ أَحْرَقَتْ نَارُ الْهَوَى كَبِدِي        فَالنَّارُ حَقٌّ عَلَى مَنْ يَعْبُدُ الْوَثَنَا

تَبِيعَ مِثْلِيَ مَجَّانًا بِلَا ثَمَنٍ        إِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنْ بَيْعٍ فَخُذْ ثَمَنَا

فلما سمع الأمجد منها هذا الكلام قال لها: أتجيئين عندي أو أجيء عندك؟ فأطرقت برأسها حياءً إلى الأرض، وتلت قوله تعالىالرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ؛ ففهم الأمجد إشارتها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 231

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الأمجد فهم إشارة المرأة، وعرف أنها تريد الذهاب معه حيث يذهب، فالتزم لها بالمكان، وقد استحى أن يروح بها عند الخياط الذي هو عنده، فمشى قدَّامها ومشت خلفه، ولم يزل ماشيًا بها من زقاق إلى زقاق، ومن موضع إلى موضع حتى تعبت الصبية، فقالت له: يا سيدي، أين دارك؟ فقال لها: قدَّام، وما بقي عليها إلا شيء يسير. ثم انعطف بها في زقاق مليح، ولم يزل ماشيًا فيه وهي خلفه حتى وصل إلى آخره، فوجده غير نافذ، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ثم التفت بعينه فرأى في صدر الزقاق بابًا كبيرًا بمصطبتين، ولكنه مغلوق، فجلس الأمجد على مصطبة، وجلست المرأة على مصطبة، ثم قالت له: يا سيدي، ما الذي تنتظره؟ فأطرق برأسه إلى الأرض مليًّا، ثم رفع رأسه وقال لها: أنتظر مملوكي، فإن المفتاح معه، وكنت قد قلتُ له: هيِّء لنا المأكول والمشروب وصحبة المدام حتى أخرج من الحمام. ثم قال في نفسه: ربما يطول عليها المطال فتروح إلى حال سبيلها، وتخلِّيني في هذا المكان. فلما طال عليها الوقت قالت له: يا سيدي، إن المملوك قد أبطأ علينا، ونحن قاعدون في الزقاق. ثم قامت الصبية إلى الضبَّة بحجر، فقال لها الأمجد: لا تعجلي، واصبري حتى يجيء المملوك. فلم تسمع كلامه، بل ضربت الضبَّة بالحجر فقسمتها نصفين فانفتح الباب، فقال لها: وأي شيء خطر لك حتى تفعلي هكذا؟ فقالت له: يا سيدي، أي شيء جرى؟ أَمَا هو بيتك؟ فقال: نعم، ولكن لا يحتاج إلى كسر الضبَّة.

ثم إن الصبية دخلت البيت، فصار الأمجد متحيِّرًا في نفسه خوفًا من أصحاب المنزل، ولم يدرِ ماذا يصنع، فقالت له الصبية: لِمَ لَمْ تدخل يا سيدي يا نور عيني وحشاشة قلبي؟ قال لها: سمعًا وطاعة، ولكن قد أبطأ عليَّ المملوك، وما أدري هل فعل شيئًا مما أمرته به أم لا؟ ثم إنه دخل معها وهو في غاية ما يكون من الهم خوفًا من أصحاب المنزل، ولما دخل البيت وجد فيه قاعة مليحة بأربعة لواوين متقابلة، وفيها خزائن وسدلات مفروشات بالفرش الحرير والديباج، وفي وسط القاعة فسقية مثمَّنة مرصوص عليها أطباق مرصَّعة بفصوص الجواهر، وهي مملوءة فاكهةً ومشمومًا، وفي جانبها أواني الشراب، وهناك شمعدان فيه شمعة مركبة، والمكان ملآن بنفيس القماش، وفيه صناديق وكراسيُّ منصوبة، وعلى كل كرسي بقجة وفوقها كيس ملآن دنانير، والدار تشهد لصاحبها بالسعادة؛ لأنَّ أرضها مفروشة بالرخام. فلما رأى الأمجد ذلك تحيَّر في أمره، وقال في نفسه: قد راحت روحي، إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون. وأما الصبية فإنها لما رأت ذلك المكان، فرحت فرحًا شديدًا ما عليه من مزيد، وقالت: والله يا سيدي ما قصَّر مملوكك، فإنه مسح المكان وطبخ الطعام وهيَّأ الفاكهة، وقد جئتُ أنا في أحسن الأوقات. فلم يلتفت إليها الأمجد لاشتغال قلبه بالخوف من أصحاب المكان، فقالت: يا سيدي، ما لك واقفًا هكذا؟ ثم شهقت شهقة، وأعطت الأمجد قُبلة مثل كسر الجوز، وقالت له: يا سيدي، إنْ كنتَ مواعِدًا غيري فأنا أشد ظهري وأخدمها. فضحك الأمجد عن قلب مملوء بالغيظ، ثم طلع وجلس وهو ينفخ، وقال في نفسه: يا قتلة الشؤم إذا جاء صاحب المنزل، وقد جلست الصبية في جانبه وصارت تلعب وتضحك، والأمجد مهموم معبس يحسب في نفسه ألف حساب ويقول: لا بد أن يجيء صاحب هذه القاعة، فأي شيء أقول له؟ ولا بد أنه يقتلني بلا شك.

ثم إن الصبية قامت وتشمَّرت وأخذت خوانًا وقد حطَّت عليه السفرة وأكلت، وقالت للأمجد: كُلْ يا سيدي. فتقدَّم الأمجد ليأكل فلم يَطِبْ له الأكل، بل صار ينظر إلى ناحية الباب حتى أكلت الصبية وشبعت، وقد رفعت الخوان وقدَّمت طبق الفاكهة وشرعت تتنقَّل، ثم قدَّمت المشروب وفتحت الجرَّة وملأت قدحًا وناولته للأمجد، فأخذه منها وقال في نفسه: آه آه من صاحب هذه الدار إذا جاء ورآني. وقد صارت عينه صوب الدهليز والقدح في يده. فبينما هو كذلك وإذا بصاحب الدار قد جاء، وكان مملوكًا من أكابر المدينة؛ لأنه كان أمير ياخور عند الملك، وقد جعل تلك القاعة مُعَدَّة لحظِّه لينشرح فيها صدره، ويختلي فيها بمَن يريده، وكان في ذلك اليوم قد أرسل إلى معشوق يجيء له وقد جهَّزَ له ذلك المكان، وكان اسم ذلك المملوك بهادر، وكان سخي اليد صاحب جُودٍ وإحسان، وصدقات وامتنان، فلما وصل إلى قريب القاعة … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 232

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن بهادر صاحب القاعة لما وصل إلى قُرَيْب القاعة، وجد الباب مفتوحًا، فدخل قليلًا قليلًا وطلَّ برأسه فنظر الأمجد والصبية، وقدَّامهما طبق الفاكهة وآلة المدام، وفي ذلك الوقت كان الأمجد ماسك القدح وعينه إلى الباب، فلما صارت عينه في عين صاحب الدار اصفرَّ لونه وارتعدت فرائصه؛ فلما رآه بهادر قد اصفرَّ لونه وتغيَّر حاله، غمزه بإصبعه على فمه، يعني: اسكت، وتعال عندي. فحطَّ الأمجد الكأس من يده وقام إليه، فقالت الصبية: إلى أين؟ فحرَّكَ رأسه، وأشار لها أنه يريق الماء، ثم خرج إلى الدهليز حافيًا، فلما رأى بهادر علم أنه صاحب الدار، فأسرع إليه وقبَّل يديه، ثم قال له: بالله عليك يا سيدي قبل أن تؤذيني أن تسمع مني مقالي. ثم حدَّثه بحديثه من أوله إلى آخره، وأخبره بسبب خروجه من أرضه ومملكته، وأنه ما دخل القاعة باختياره، ولكن الصبية هي التي كسرت الضبة وفتحت الباب وفعلت هذه الفعائل؛ فلما سمع بهادر كلام الأمجد وعرف أنه ابن ملك حنَّ عليه ورحمه، ثم قال: اسمع يا أمجد كلامي، وأَطِعْني وأنا أتكفَّل لك بالأمان مما تخاف، وإن خالفتني قتلتك. فقال الأمجد: اؤمرني بما شئتَ، فأنا لا أخالفك أبدًا؛ لأنني عتيق مروءتك.

فقال له بهادر: ادخل هذه القاعة، واجلس في المكان الذي كنتَ فيه واطمئنَّ، وها أنا داخل إليك واسمي بهادر، فإذا دخلت إليك فاشتمني وانهرني، وقل لي: ما سبب تأخُّرك إلى هذا الوقت؟ ولا تقبل لي عذرًا، بل قم اضربني، وإن شفقتَ عليَّ أعدمتُك حياتك، فادخل وانبسط، ومهما طلبته مني تجده حاضرًا بين يديك في الوقت، وبت كما تحب في هذه الليلة، وفي غدٍ توجَّه إلى حال سبيلك إكرامًا لغربتك، فإني أحب الغريب وواجبٌ عليَّ إكرامه. فقبَّلَ الأمجد يده ودخل، وقد اكتسى وجهه حمرةً وبياضًا، فأول ما دخل قال للصبية: يا سيدتي، آنستِ موضعك وهذه ليلة مباركة. فقالت له الصبية: إن هذا عجيب منك حيث بسطت لي الأنس. فقال الأمجد: والله يا سيدتي إني كنت أعتقد أن مملوكي بهادر أخذ لي عقود جواهر، كل عقد يساوي عشرة آلاف دينار، ثم إنني خرجت الآن وأنا متفكِّر في ذلك ففتشت عليها فوجدتها في موضعها، ولم أدرِ ما سبب تأخُّر المملوك إلى هذا الوقت، ولا بد لي من عقوبته.

فاستراحت الصبية بكلام الأمجد، ولعبا وشربا وانشرحا، ولم يزالا في حظٍّ إلى قُرَيْب المغرب، ثم دخل عليهما بهادر وقد غيَّرَ لبسه وشدَّ وسطه، وجعل في رجليه زربونًا على عادة المماليك، ثم سلَّم وقبَّل الأرض، وكتَّف يديه وأطرق برأسه إلى الأرض كالمعترف بذنبه، فنظر إليه الأمجد بعين الغضب وقال له: ما سبب تأخُّرك يا أنحس المماليك؟ فقال له: يا سيدي إني اشتغلت بغسل أثوابي، وما علمت أنك ها هنا، فإن ميعادي وميعادك العشاء لا بالنهار. فصرخ عليه الأمجد وقال له: تكذب يا أنحس المماليك، والله لا بد من ضربك. ثم قام الأمجد وسطَّح بهادر على الأرض وأخذ عصا وضربه برفق، فقامت الصبية وخلصت العصا من يده، ونزلت بها على بهادر بضرب وجيع حتى جرت دموعه واستغاث، وصار يكزُّ على أسنانه، والأمجد يصيح على الصبية: لا تفعلي هكذا. وهي تقول: دعني أشفي غيظي منه. ثم إن الأمجد خطف العصا من يدها ودفعها، فقام بهادر ومسح دموعه عن وجهه، ووقف في خدمتهما ساعة، ثم مسح القاعة وأوقد القناديل، وصارت الصبية كلما دخل بهادر أو خرج تشتمه وتلعنه، والأمجد يغضب منها ويقول لها: بحق الله تعالى أن تتركي مملوكي، فإنه غير معود بهذا.

وما زالا يأكلان ويشربان، وبهادر في خدمتهما إلى نصف الليل حتى تعب من الخدمة والضرب، فنام في وسط القاعة وشخر، فسكرت الصبية وقالت للأمجد: قم خذ هذا السيف المعلَّق واضرب رقبة هذا المملوك، وإنْ لم تفعل ذلك عملت على هلاك روحك. فقال الأمجد: وأي شيء خطر لك في قتل مملوكي؟ قالت: لا يكمل الحظ إلا بقتله، وإن لم تقم قمتُ أنا وقتلته. فقال الأمجد: بحق الله عليك لا تفعلي. فقالت: لا بد من هذا. وأخذت السيف وجرَّدته وهمَّت بقتله، فقال الأمجد في نفسه: هذا رجل عمل معنا خيرًا، وسترنا وأحسن إلينا، وجعل نفسه مملوكي، كيف نجازيه بالقتل؟ لا كان ذلك أبدًا. ثم قال للصبية: إنْ لم يكن من قتل مملوكي بدٌّ، فأنا أحقُّ بقتله منك. ثم أخذ السيف من يدها ورفع يده وضرب الصبية في عنقها، فأطاح رأسها عن جثتها، فوقع رأسها على صاحب الدار فاستيقظ، وجلس وفتح عينيه فوجد الأمجد واقفًا والسيف في يده مخضَّبًا بالدم، ثم نظر إلى الصبية فوجدها مقتولة، فاستخبره عن أمرها فأعاد عليه حديثها، وقال له: إنها أَبَتْ إلا أن تقتلك، وهذا جزاؤها. فقام بهادر وقبَّل رأس الأمجد وقال له: يا سيدي، ليتك عفوتَ عنها، وما بقي في الأمر إلا إخراجها في هذا الوقت قبل الصباح.

ثم إن بهادر شد وسطه وأخذ الصبية ولفها في عباءة، ووضعها في فرد وحملها وقال للأمجد: أنت غريب، ولا تعرف أحدًا، فاجلس في مكانك وانتظرني عند طلوع الشمس، فإن عدتُ إليك لا بد أن أفعل معك خيرًا كثيرًا، وأجتهد في كشف خبر أخيك، وإنْ طلعت الشمس ولم أَعُدْ إليك، فاعلم أنه قد قُضِي عليَّ، والسلام عليك، وهذه الدار لك بما فيها من الأموال والقماش. ثم إنه حمل الفرد وخرج من القاعة، وشقَّ بها الأسواق وقصد بها طريق البحر المالح ليرميها فيه، فلما صار قريبًا من البحر التفت فرأى الوالي والمقدِّمين قد أحاطوا به، ولما عرفوه تعجَّبوا وفتحوا الفرد فوجدوا فيه قتيلة، فقبضوا عليه وبيَّتوه في الحديد إلى الصباح، ثم طلعوا به هو والفرد إلى الملك وأعلموه بالخبر، فلما رأى الملك ذلك، غضب غضبًا شديدًا وقال له: ويلك! إنك تفعل هكذا دائمًا، فتقتل القتلى وترميهم في البحر، وتأخذ جميع ما لهم، وكم فعلتَ قبل ذلك من قتل؟ فأطرق بهادر رأسه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 233

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن بهادر أطرق برأسه إلى الأرض قدَّام الملك، فصرخ الملك عليه وقال له: ويلك! مَن قتل هذه الصبية؟ فقال له: يا سيدي، أنا قتلتها، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فغضب الملك وأمر بشنقه، فنزل به السياف حين أمره الملك، ونزل الوالي بالمنادي ينادي في أزقة المدينة بالفرجة على بهادر أمير ياخور الملك، ودار به في الأزقة والأسواق.

هذا ما كان من أمر بهادر، وأما ما كان من أمر الأمجد، فإنه لما طلع عليه النهار، وارتفعت الشمس، ولم يَعُدْ إليه بهادر قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أي شيء جرى له؟ فبينما هو يتفكَّر وإذا بالمنادي ينادي بالفرجة على بهادر، فإنهم يشنقونه في وسط النهار، فلما سمع الأمجد ذلك بكى، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، قد أراد هلاك نفسه من أجلي، وأنا الذي قتلتها، والله لا كان هذا أبدًا. ثم خرج من القاعة وقفلها وشقَّ في وسط المدينة حتى أتى إلى بهادر، ووقف قدَّام الوالي، وقال له: يا سيدي، لا تقتل بهادر فإنه بريء، والله ما قتلها إلا أنا. فلما سمع الوالي كلامه أخذه هو وبهادر، وطلع بهما إلى الملك وأعلمه بما سمعه من الأمجد، فنظر الملك إلى الأمجد وقال له: أأنت قتلتَ الصبية؟ قال: نعم. فقال له الملك: احكِ لي ما سبب قتلك إياها واصدقني. قال له: أيها الملك، إنه جرى لي حديث عجيب، وأمر غريب، لو كُتِب بالإبر على آماق البصر لكان عبرة لمن اعتبر. ثم حكى للملك حديثه، وأخبره بما جرى له ولأخيه من المبتدأ إلى المنتهى، فتعجَّب الملك من ذلك غاية العجب، وقال له: إني قد علمت أنك معذور، ولكن يا فتى هل لك أن تكون عندي وزيرًا؟ فقال له: سمعًا وطاعة. فخلع عليه الملك وعلى بهادر خلعًا سنية، وأعطاه دارًا حسنة وخدمًا وحشمًا، وأنعم عليه بجميع ما يحتاج إليه، ورتَّب له الرواتب والجرايات، وأمره أن يبحث عن أخيه الأسعد. فجلس الأمجد في مرتبة الوزير، وحكم وعدل، وولَّى وعزل، وأخذ وأعطى، وأرسل المنادي في أزقة المدينة ينادي على أخيه الأسعد، فمكث مدة أيام ينادي في الشوارع والأسواق، فلم يسمع له بخبر، ولم يقع له على أثر.

هذا ما كان من أمر الأمجد، وأما ما كان من أمر الأسعد؛ فإن المجوس لا زالوا يعاقبونه بالليل والنهار، وفي العشي والإبكار مدة سنة كاملة، حتى قرب عيد المجوس، فتجهَّزَ بهرام المجوسي إلى السفر، وهيَّأ له مركبًا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 234

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن بهرام المجوسي جهَّزَ مركبًا للسفر، ثم حطَّ الأسعد في صندوقٍ وقفله عليه، ونقله إلى المركب، وفي تلك الساعة التي حول فيها بهرام الصندوق الذي فيه الأسعد، كان الأمجد بالقضاء والقدر واقفًا يتفرج على البحر، فنظر إلى الحوائج وهم ينقلونها إلى المركب، فخفق فؤاده وأمر غلمانه أن يقدِّموا له فرسه، ثم ركب في جملة من جماعته وتوجَّه إلى البحر، ووقف على مركب المجوسي، وأمر مَن معه أن ينزلوا المركب ويفتِّشوها، فنزلت الرجال وفتَّشوا المركب جميعها فلم يجدوا فيها شيئًا، فطلعوا وأعلموا الأمجد بذلك، فركب وتوجَّهَ إلى بيته، فلما وصل إلى منزله ودخل القصر انقبَضَ صدره، فنظر بعينه في الدار فرأى سطرين مكتوبين على حائط، وهما هذان البيتان:

أَحْبَابَنَا إِنْ غِبْتُمُ عَنْ نَاظِرِي        فَعَنِ الْفُؤَادِ وَخَاطِرِي مَا غِبْتُمُ

لَكِنَّكُمْ خَلَّفْتُمُونِي مُدْنَفًا        وَمَنَعْتُمُ جَفْنِي الرُّقَادَ وَنِمْتُمُ

فلما قرأهما الأمجد تذكَّرَ أخاه وبكى.

هذا ما كان من أمره، وأما ما كان من أمر بهرام المجوسي، فإنه نزل المركب وصاح على البحرية وأمرهم أن يعجلوا بحلِّ القلوع، فحلوا القلوع وسافروا، ولم يزالوا مسافرين أيامًا وليالي، وكل يومين يُخرِج الأسعد ويُطعِمه قليلًا من الزاد ويسقيه قليلًا من الماء، إلى أن قربوا من جبل النار؛ فخرج عليهم ريح وهاج بهم البحر حتى تاهت المركب عن الطريق، وسلكوا طريقًا غير طريقهم، ووصلوا إلى مدينة مبنية على شاطئ البحر، ولها قلعة بشبابيك تطل على البحر، والحاكمة على تلك المدينة امرأة يقال لها الملكة مرجانة، فقال الريس لبهرام: يا سيدي، إننا تهنا عن الطريق، ولا بد لنا من دخول هذه المدينة لأجل الراحة، وبعد ذلك يفعل الله ما يشاء. فقال له بهرام: نِعْمَ ما رأيتَ! والذي تراه افعله. فقال له الريس: إذا أرسلت لنا الملكة تسألنا، فماذا يكون جوابنا لها؟ فقال له بهرام: أنا عندي هذا المسلم الذي معنا، فنلبسه لبس المماليك ونخرجه معنا، وإذا رأته الملكة تظن أنه مملوك، فأقول لها: إني جلاب مماليك أبيع وأشتري فيهم، وقد كان عندي مماليك كثيرة فبعتهم، ولم يبقَ غير هذا المملوك. فقال له الريس: هذا كلام مليح.

ثم إنهم وصلوا إلى المدينة وأرخوا القلوع ودقوا المراسي ووقفت المركب، وإذا بالملكة مرجانة نزلت إليهم ومعها عسكرها، ووقفت على المركب ونادت على الريس، فطلع عندها وقبَّل الأرض بين يديها، فقالت له: أي شيء في مركبك هذه؟ ومَن معك؟ فقال لها: يا ملكة الزمان، معي رجل تاجر يبيع المماليك. فقالت: عليَّ به. وإذا ببهرام طلع ومعه الأسعد ماشٍ وراءه في صفة مملوك، فلما وصل إليها بهرام قبَّل الأرض بين يديها، فقالت له: ما شأنك؟ فقال لها: أنا تاجر رقيق. فنظرت إلى الأسعد وقد ظنَّت أنه مملوك، فقالت له: ما اسمك؟ فخنقه البكاء، وقال لها: اسمي الأسعد. فحنَّ قلبها عليه وقالت: أتعرف الكتابة؟ قال: نعم. فناولَتْه دواة وقلمًا وقرطاسًا وقالت له: اكتب شيئًا حتى أراه. فكتب هذين البيتين:

مَا حِيلَةُ الْعَبْدِ وَالْأَقْدَارُ جَارِيَةٌ        عَلَيْهِ فِي كُلِّ حَالٍ أَيُّهَا الرَّائِي

أَلْقَاهُ فِي الْيَمِّ مَكْتُوفًا وَقَالَ لَهُ        إِيَّاكَ إِيَّاكَ أَنْ تَبْتَلَّ بِالْمَاءِ

فلما رأت الورقة رحمته، ثم قالت لبهرام: بعني هذا المملوك. فقال لها: يا سيدتي، لا يمكنني بيعه؛ لأني بعت جميع مماليكي، ولم يَبْقَ عندي غير هذا. فقالت الملكة مرجانة: لا بد من أخذه منك، إما ببيع وأما بهبة. فقال لها: لا أبيعه ولا أهبه. فقبضت على الأسعد وأخذته، وطلعت به القلعة، وأرسلت تقول له: إن لم تقلع في هذه الليلة عن بلدنا، أخذتُ جميعَ مالك وكسرت مركبك. فلما وصلت إليه الرسالة اغتمَّ غمًّا شديدًا وقال: إن هذه سفرة غير محمودة. ثم قام وتجهَّزَ وأخذ جميع ما يريده، وانتظر الليل ليسافر فيه، وقال للبحرية: خذوا أهبتكم، واملئوا قِرَبكم من الماء، وأقلعوا بنا في آخر الليل. فصار البحرية يقضون أشغالهم.

هذا ما كان من أمرهم، وأما ما كان من أمر الملكة مرجانة، فإنها أخذت الأسعد ودخلت به القلعة وفتحت الشبابيك المطلة على البحر، وأمرت الجواري أن يقدِّمن الطعام، فقدَّمن لهما الطعام فأكلا، ثم أمرتهن أن يقدِّمن المدام. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 235

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملكة مرجانة أمرت الجواري أن يقدِّمن المُدام فقدَّمنه، فشربت مع الأسعد، وألقى الله سبحانه وتعالى محبة الأسعد في قلبها، وصارت تملأ القدح وتسقيه حتى غاب عقله، فقام يريد قضاء حاجة ونزل من القاعة، فرأى بابًا مفتوحًا فدخل فيه وتمشى، فانتهى به السير إلى بستان عظيم فيه جميع الفواكه والأزهار، فجلس تحت شجرة وقضى حاجته، وقام إلى الفسقية التي في البستان فاستلقى على قفاه ولباسه محلول، فضربه الهواء فنام ودخل عليه الليل.

هذا ما كان من أمره، وأما ما كان من أمر بهرام، فإنه لما دخل عليه الليل صاح على بحرية المركب، وقال لهم: حلوا قلوعكم وسافروا بنا. فقالوا له: سمعًا وطاعة، ولكن اصبر علينا حتى نملأ قربنا ونحل. ثم طلع البحرية بالقِرَب وداروا حول القلعة، فلم يجدوا غير حيطان البستان، فتعلقوا بها ونزلوا البستان، وتتبعوا أثر الأقدام الموصلة إلى الفسقية، فلما وصلوا إليها وجدوا الأسعد مستلقيًا على قفاه، فعرفوه وفرحوا به وحملوه بعد أن ملئوا قِرَبهم ونطوا من الحائط، وأتوا به مُسرِعين إلى بهرام المجوسي، وقالوا له: أَبْشِر بحصول المراد وشفاء الأكباد؛ فقد طبل طبلك وزمر زمرك، فإن أسيرك الذي أخذته الملكة مرجانة منك غصبًا قد وجدناه وأتينا به معنا. ثم رموه قدَّامه، فلما نظره بهرام طار قلبه من الفرح، واتسع صدره وانشرح، ثم خلع عليهم وأمرهم أن يحلوا القلوع بسرعة، فحلوا قلوعهم وسافروا قاصدين جبل النار، ولم يزالوا مسافرين إلى الصباح.

هذا ما كان من أمرهم، وأما ما كان من أمر الملكة مرجانة، فإنها بعد نزول الأسعد من عندها مكثت تنتظره ساعة فلم يَعُدْ إليها، فقامت وفتَّشت عليه فما وجدته، فأوقدت الشموع وأمرت الجواري أن يفتشن عليه، ثم نزلت هي بنفسها فرأت البستان مفتوحًا فعلمت أنه دخله، فدخلت البستان فوجدت نعله بجانب الفسقية، فصارت تفتش عليه في جميع البستان، فلم تَرَ له خبرًا، ولم تزل تفتش عليه في جوانب البستان إلى الصباح، ثم سألت عن المركب، فقالوا لها: قد سافرت في ثلث الليل. فعلمت أنهم أخذوه معهم، فصعب عليها واغتاظت غيظًا شديدًا، ثم أمرت بتجهيز عشر مراكب كبار في الوقت، وتجهزت للحرب، ونزلت في مركب من العشر مراكب، ونزل معها عسكرها مُهيَّئين بالعدة الفاخرة وآلات الحرب، وحلوا القلوع، وقالت للرؤساء: متى لحقتم مركب المجوسي فلكم عندي الخِلَع والأموال، وإن لم تلحقوها قتلتكم عن آخركم. فحصل للبحرية خوف ورجاء عظيم، ثم سافروا بالمراكب ذلك النهار وتلك الليلة، وثاني يوم، وثالث يوم، وفي اليوم الرابع لاحت لهم مركب بهرام المجوسي، ولم ينقضِ النهار حتى أحاطت المراكب بمركب المجوسي، وكان بهرام في ذلك الوقت قد أخرج الأسعد وضربه وصار يعاقبه، والأسعد يستغيث ويستجير فلم يجد مغيثًا ولا مجيرًا من الخلق، وقد آلمه الضرب الشديد. فبينما هو يعاقبه؛ إذ لاحت منه نظرة، فوجد المراكب قد أحاطت بمركبه ودارت حولها كما يدور بياض العين بسوادها، فتيقن أنه هالك لا محالة، فتحسَّرَ بهرام وقال: ويلك يا أسعد! هذا كله من تحت رأسك. ثم أخذه من يده وأمر البحرية أن يرموه في البحر، وقال: والله لأقتلك قبل موتي. فاحتملته البحرية من يديه ورجليه ورموه في وسط البحر، فأذن الله سبحانه وتعالى لما يريد من سلامته وبقية أجله، أنه غطس ثم طلع وخبط بيديه ورجليه إلى أن سهَّل الله عليه وأتاه الفرج، وضربه الموج وقذفه بعيدًا عن مركب المجوسي، ووصل إلى البر، فطلع وهو لم يصدق بالنجاة، ولما صار في البر قلع أثوابه وعصرها ونشرها، وقعد عريانًا يبكي على ما جرى له من المصائب والأسر، ثم أنشد هذين البيتين:

إِلَهِي قَلَّ صَبْرِي وَاحْتِيَالِي        وَضَاقَ الصَّدْرُ وَانْصَرَمَتْ حِبَالِي

إِلَى مَنْ يَشْتَكِي الْمِسْكِينُ إِلَّا        إِلَى مَوْلَاهُ يَا مَوْلَى الْمَوَالِي

فلما فرغ من شعره قام ولبس ثيابه، ولم يعلم أين يروح ولا أين يجيء، فصار يأكل من نبات الأرض وفواكه الأشجار، ويشرب من ماء الأنهار، وسافَرَ بالليل والنهار حتى أشرف على مدينة، ففرح وأسرع في مشيه نحو المدينة، فلما وصل إليها أدركه المساء. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 236

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الأسعد لما وصل إلى المدينة أدركه المساء، وقد قُفِل بابها، وكانت المدينة هي التي كان أسيرًا فيها وأخوه الأمجد وزير ملكها، فلما رآها الأسعد مقفلةً رجع إلى جهة المقابر، فلما وصل إلى المقابر وجد تربة بلا باب فدخلها ونام فيها، وحطَّ وجهه في عبِّه. وكان بهرام المجوسي لما وصلت إليه الملكة مرجانة بالمراكب كسرها بمكره وسحره، ورجع سالمًا نحو مدينته، وسار من وقته وساعته وهو فرحان، فلما جاز على المقابر طلع من المركب بالقضاء والقدر، ومشى بين المقابر فرأى التربة التي فيها الأسعد مفتوحة؛ فتعجَّبَ وقال: لا بد أن أنظر في هذه التربة. فلما نظر فيها رأى الأسعد وهو نائم ورأسه في عبِّه، فطلَّ في وجهه فعرفه، فقال له: هل أنت تعيش إلى الآن؟ ثم أخذه وذهب به إلى بيته، وكان له في بيته طابق تحت الأرض مُعَدٌّ لعذاب المسلمين، وكان له بنت تُسمَّى بستان، فوضع في رجلَي الأسعد قيدًا ثقيلًا، وأنزله في ذلك الطابق، ووكَّلَ بنته بتعذيبه ليلًا ونهارًا إلى أن يموت، ثم إنه ضربه الضرب الوجيع، وقفل عليه الطابق، وأعطى المفاتيح لبنته.

ثم إن بنته بستان نزلت لتضربه فوجدته شابًّا ظريف الشمائل، حلو المنظر، مقوَّس الحاجبين، كحيل المقلتين، فوقعت محبته في قلبها، فقالت له: ما اسمك؟ قال لها: اسمي الأسعد. فقالت له: سعدت وسعدت أيامك، أنت ما تستاهل العذاب، وقد علمت أنك مظلوم. وصارت تؤانسه بالكلام، وفكَّتْ قيوده، ثم إنها سألته عن دين الإسلام، فأخبرها أنه هو الدين الحق القويم، وأن سيدنا محمدًا صاحب المعجزات الباهرة والآيات الظاهرة، وأن النار تضر ولا تنفع، وعرَّفَها قواعد الإسلام فأذعنت إليه، ودخل حب الإيمان في قلبها، ومزج الله تعالى محبة الأسعد بفؤادها؛ فنطقت بالشهادتين، وصارت من أهل السعادة، وصارت تطعمه وتسقيه، وتتحدث معه، وتصلي هي وإياه، وتصنع له المساليق بالدجاج حتى اشتدَّ وزال ما به من الأمراض، ورجع إلى ما كان عليه من الصحة. ثم إن بنت بهرام خرجت من عند الأسعد، ووقفت على الباب، وإذ بالمنادي ينادي ويقول: كل مَن كان عنده شاب مليح صفته كذا وكذا وأظهره، فله جميع ما طلب من الأموال، ومَن كان عنده وأنكره فإنه يُشنَق على باب داره، ويُنهَب ماله ويُهدَر دمه. وكان الأسعد قد أخبر بستان بنت بهرام بجميع ما جرى له، فلما سمعت ذلك عرفت أنه هو المطلوب، فدخلت عليه وأخبرته بالخبر، فخرج وتوجَّه إلى دار الوزير، فلما رأى الوزير قال: والله إن هذا الوزير هو أخي الأمجد. ثم طلع وطلعت الصبية وراءه إلى القصر، فرأى أخاه الأمجد فألقى نفسه عليه، ثم إن الأمجد عرفه فألقى نفسه عليه وتعانقا، واحتاطت بهما المماليك، وغُشِي على الأسعد والأمجد ساعة، فلما أفاقا من غشيتهما أخذه الأمجد وطلع به إلى السلطان وأخبره بقصته؛ فأمر السلطان بنهب بيت بهرام. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 237

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السلطان أمر الأمجد بنهب دار بهرام، فأرسل الوزير جماعة لذلك فتوجَّهوا إلى بيت بهرام ونهبوه، وطلعوا بابنته إلى الوزير فأكرمها، وحدَّث الأسعد أخاه بكل ما جرى له من العذاب، وما عملت معه بنت بهرام من الإحسان، فزاد الأمجد في إكرامها، ثم حكى الأمجد للأسعد جميع ما جرى له مع الصبيَّة، وكيف سلم من الشنق وقد صار وزيرًا، وصار يشكو أحدهما للآخر ما وجد من فرقة أخيه. ثم إن السلطان أحضر المجوسي وأمر بضرب عنقه، فقال بهرام: أيها الملك الأعظم، هل صمَّمت على قتلي؟ قال: نعم. فقال بهرام: اصبر عليَّ أيها الملك قليلًا. ثم إنه أطرق برأسه إلى الأرض، وبعد ذلك رفع رأسه وتشهَّدَ وأسلَمَ على يد السلطان ففرحوا بإسلامه، ثم حكى له الأمجد والأسعد جميع ما جرى لهما، فقال لهما: يا سيديَّ تجهَّزَا للسفر، وأنا أسافر بكما. ففرحَا بذلك وبإسلامه، وبكيَا بكاءً شديدًا، فقال لهما بهرام: يا سيديَّ لا تبكيَا، فمصيركما تجتمعان كما اجتمع نعمة ونِعَم. فقالا له: وما جرى لنعمة ونِعَم؟

 

حكاية نعمة ونعم

قال بهرام: ذكروا والله أعلم أنه كان بمدينة الكوفة رجل من وجوه أهلها، يقال له: الربيع بن حاتم، وكان كثير المال مُرفَّه الحال، وكان قد رُزِق ولدًا فسمَّاه نعمة الله، فبينما هو ذات يوم بدكة النخاسين إذ نظر جارية تُعرض للبيع، وعلى يدها وصيفة صغيرة بديعة في الحسن والجمال، فأشار الربيع إلى النخاس وقال له: بكم هذه الجارية وابنتها؟ فقال: بخمسين دينارًا. فقال الربيع: اكتب العهد وخذ المال سلِّمه لمولاها. ثم دفع للنخاس ثمن الجارية وأعطاه دلالته، وتسلَّم الجارية وابنتها ومضى بهما إلى بيته، فلما نظرت ابنة عمه إلى الجارية قالت له: يا ابن العم، ما هذه الجارية؟ قال: اشتريتها رغبةً في هذه الصغيرة التي على يديها، واعلمي أنها إذا كبرت ما يكون في بلاد العرب والعجم مثلها ولا أجمل منها. فقالت لها ابنة عمه: ما اسمك يا جارية؟ فقالت: يا سيدتي، اسمي توفيق. قالت: وما اسم ابنتك؟ قالت: سعد. قالت: صدقت، لقد سعدتِ وسعد مَن اشتراكِ. ثم قالت: يا ابن عمي، ما تسميها؟ قال: ما تختارينه أنت. قالت: نسميها نِعَم. قال الربيع: لا بأس بذلك.

ثم إن الصغيرة نِعَم تربَّت مع نعمة بن الربيع في مهد واحد إلى حين بلغا من العمر عشر سنين، وكان كل شخص منهما أحسن من صاحبه، وصار الغلام يقول لها يا أختي، وهي تقول له يا أخي، ثم أقبل الربيع على ولده نعمة حين بلغا هذا السن، وقال له: يا ولدي، ليست نِعَم أختك بل هي جاريتك، وقد اشتريتها على اسمك وأنت في المهد، فلا تَدْعُها بأختك من هذا اليوم. قال نعمة لأبيه: فإذا كان كذلك فأنا أتزوجها. ثم إنه دخل على والدته، وأعلمها بذلك، فقالت: يا ولدي، هي جاريتك. فدخل نعمة بن الربيع بتلك الجارية وأحَبَّها، ومضى عليهما تسع سنين وهما على تلك الحالة، ولم يكن بالكوفة جارية أحسن من نِعَم، ولا أحلى ولا أظرف منها، وقد كبرت وقرأت القرآن والعلوم، وعرفت أنواع اللعب والآلات، وبرعت في المغنى وآلات الملاهي، حتى إنها فاقت جميع أهل عصرها. فبينما هي جالسة ذات يوم من الأيام مع زوجها نعمة بن الربيع في مجلس الشراب، أخذت العود وشدت أوتاره وأنشدت هذين البيتين:

إِذَا كُنْتَ لِي مَوْلًى أَعِيشُ بِفَضْلِهِ        وَسَيْفًا بِهِ أَفْنِي رِقَابَ النَّوَائِبِ

فَمَا لِي إِلَى زَيْدٍ وَعَمْرٍو شَفَاعَةٌ        سِوَاكَ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيَّ مَذَاهِبِي

فطرب نعمة طربًا عظيمًا ثم قال لها: بحياتي يا نِعَم أن تغنِّي لنا على الدف وآلات الطرب. فأطربت بالنغمات وغنَّت بهذه الأبيات:

وَحَيَاةِ مَنْ مَلَكَتْ يَدَاهُ قِيَادِي        لَأُخَالِفَنَّ عَلَى الْهَوَى حُسَّادِي

وَلَأُغْضِبَنَّ عَوَاذِلِي وَأُطِيعُكُمْ        وَلَأَهْجُرَنَّ تَلَذُّذِي وَرُقَادِي

وَلَأَجْعَلَنَّ لَكَمْ بِأَكْتَافِ الْحَشَى        قَبْرًا وَلَمْ يَشْعُرْ بِذَاكَ فُؤَادِي

فقال الغلام: لله درُّكِ يا نِعم. فبينما هما في أطيب عيش وإذا بالحجاج في دار نيابته يقول: لا بد لي أن أحتال على أخذ هذه الجارية التي اسمها نِعَم، وأرسلها إلى أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان؛ لأنه لا يوجد في قصره مثلها ولا أطيب من غناها. ثم إنه استدعى بعجوز قهرمانة وقال لها: امضي إلى دار الربيع واجتمعي بالجارية نِعم وتسبَّبي في أخذها؛ لأنه لم يوجد على وجه الأرض مثلها. فقبِلت العجوز من الحجاج ما قاله، ولما أصبحت لبست أثوابها الصوف، وحطَّت في رقبتها سبحة حبَّاتها ألوف. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 238

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن العجوز قبلت ما قاله الحجاج، ولما أصبحت لبست أثوابها الصوف، ووضعت في رقبتها سبحة عدد حبَّاتها ألوف، وأخذت بيدها عكازًا وركوة يمانية وسارت وهي تقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ولم تزل في تسبيح وابتهال وقلبها ملآن بالمكر والمحال حتى وصلت إلى دار نعمة بن الربيع عند صلاة الظهر، فقرعت الباب ففتح لها البواب وقال: ما تريدين؟ قالت: أنا فقيرة من العابدات، وأدركتني صلاة الظهر، وأريد أن أصلي في هذا المكان المبارك. فقال لها البواب: يا عجوز، إن هذه دار نعمة بن الربيع، وليست بجامع ولا مسجد. فقالت: أنا أعرف أنه لا جامعَ ولا مسجدَ مثل دار نعمة بن الربيع، وأنا قهرمانة من قصر أمير المؤمنين خرجت طالبة العبادة والسياحة. فقال لها البواب: لا أمكِّنك من أن تدخلي. وكثُر بينهما الكلام فتعلَّقت به العجوز وقالت له: هل يُمنَع مثلي من دخول دار نعمة بن الربيع وأنا أعبر إلى ديار الأمراء والأكابر؟ فخرج نعمة وسمع كلامها فضحك، وأمرها أن تدخل خلفه، فدخل نعمة وسارت العجوز خلفه حتى دخل بها على نِعَم، فسلَّمت عليها العجوز بأحسن سلام، ولما نظرت إلى نِعم تعجَّبت من فرط جمالها، ثم قالت لها: يا سيدتي، أعيذك بالله الذي ألَّفَ بينك وبين مولاك في الحسن والجمال.

ثم انتصبت العجوز في المحراب، وأقبلت على الركوع والسجود والدعاء إلى أن مضى النهار وأقبل الليل بالاعتكار، فقالت الجارية: يا أمي، أريحي قدمَيْك ساعةً. فقالت العجوز: يا سيدتي، مَن طلب الآخرة أتعب نفسه في الدنيا، ومَن لم يُتعِب نفسه في الدنيا لم ينل منازل الأبرار في الآخرة. ثم إن نِعم قدَّمت الطعام للعجوز، وقالت لها: كلي من طعامي، وادعي لي بالتوبة والرحمة. فقالت العجوز: يا سيدتي إني صائمة، وأما أنت فصبية يصلح لك الأكل والشرب والطرب، والله يتوب عليك، وقد قال الله تعالىإِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا. ولم تزل الجارية جالسة مع العجوز ساعة تحدثها، ثم قالت لسيدها: يا سيدي، احلف على هذه العجوز أن تقيم عندنا مدةً، فإن على وجهها أثر العبادة. فقال: أخلي لها مجلسًا للعبادة، ولا تخلِّي أحدًا يدخل عليها، فلعل الله سبحانه وتعالى ينفعنا ببركتها، ولا يفرق بيننا.

ثم باتت العجوز ليلتها تصلي وتقرأ إلى الصباح، فلما أصبح الصباح جاءت إلى نعمة ونِعم وصبَّحت عليهما، وقالت لهما: استودعتكما الله. فقالت لها نِعم: إلى أين تمضين يا أمي وقد أمرني سيدي أن أخلي لك مجلسًا تعتكفين فيه للعبادة؟ فقالت العجوز: الله يبقيه، ويديم نعمته عليكما، ولكن أريد منكما أن توصوا البواب أنه لا يمنعني من الدخول إليكما، وإن شاء الله تعالى أدور في الأماكن الطاهرة، وأدعو لكما عقب الصلاة والعبادة في كل يوم وليلة. ثم خرجت من الدار والجارية نِعم تبكي على فراقها، وما تعلم السبب الذي أتت إليها من أجله، ثم إن العجوز توجَّهت إلى الحجاج، فقال لها: ما وراءك؟ فقالت له: إني نظرت إلى الجارية فرأيتها لم تلد النساءُ أحسنَ منها في زمانها. فقال لها الحجاج: إنْ فعلت ما أمرتك به يصل إليك مني خير جزيل. فقالت له: أريد منك المهلة شهرًا كاملًا. فقال لها: أمهلتُك شهرًا.

ثم إن العجوز جعلت تتردد إلى دار نعمة وجاريته نِعم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 239

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن العجوز صارت تتردد إلى دار نعمة ونِعم، وهما يزيدان في إكرامها، وما زالت العجوز تمسي وتصبح عندهما، ويرحب بها كلُّ مَن في الدار، حتى إن العجوز اختَلَتْ بالجارية يومًا من الأيام، وقالت: يا سيدتي، والله إني حضرت الأماكن الطاهرة ودعوت لك، وأتمنى أن تكوني معي حتى تَرَي المشايخ الواصلين، ويدعون لك بما تختارين. فقالت لها الجارية نِعم: بالله يا أمي أن تأخذيني معك. فقالت لها: استأذني حماتك وأنا آخذك معي. فقالت الجارية لحماتها أم نعمة: يا سيدتي، اسألي سيدي أن يخلِّيني أخرج أنا وأنت يومًا من الأيام مع أمي العجوز إلى الصلاة والدعاء مع الفقراء في الأماكن الشريفة. فلما أتى نعمة وجلس، تقدَّمت إليه العجوز وقبَّلت يديه، فمنعها من ذلك، ودعت له وخرجت من الدار.

فلما كان ثاني يوم جاءت العجوز ولم يكن نعمة في الدار، فأقبلت على الجارية نعم وقالت لها: قد دعونا لكم البارحة، ولكن قُومي في هذه الساعة تفرَّجي، وعودي قبل أن يجيء سيدك. فقالت الجارية لحماتها: سألتك بالله أن تأذني لي في الخروج مع هذه المرأة الصالحة لأتفرج على أولياء الله في الأماكن الشريفة، وأعود بسرعة قبل مجيء سيدي. فقالت أم نعمة: أخشى أن يعلم سيدك. فقالت العجوز: والله لا أدعها تجلس على الأرض، بل تنظر وهي واقفة على أقدامها ولا تبطئ. ثم أخذت الجارية بالحيلة وتوجهت بها إلى قصر الحجاج، وعرَّفته بمجيئها بعد أن حطَّتها في مقصورة، فأتى الحجاج ونظر إليها، فرآها أجمل أهل زمانها، ولم يرَ مثلها، فلما رأته نِعَم سترت وجهها، فلم يفارقها حتى استدعى بحاجبه، وأركب معه خمسين فارسًا، وأمره أن يأخذ الجارية على نجيب سابق، ويتوجه بها إلى دمشق، ويسلِّمها إلى أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، وكتب له كتابًا، وقال له: أعطِه هذا الكتاب وخذ منه الجواب، وأسرع إليَّ بالرجوع. فتوجه الحاجب وأخذ الجارية على هجين وسافر بها وهي باكية العين من أجل فراق سيدها، حتى وصلوا إلى دمشق، واستأذن على أمير المؤمنين فأذن له، فدخل الحاجب عليه وأخبره بخبر الجارية، فأخلى لها مقصورة، ثم دخل الخليفة على حريمه فرأى زوجته، فقال لها: إن الحجاج قد اشترى لي جارية من بنات ملوك الكوفة بعشرة آلاف دينار، وأرسل إليَّ هذا الكتاب، وهي صحبة الكتاب. فقالت له زوجته: … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 240

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الخليفة لما أخبر زوجته بقصة الجارية، قالت له زوجته: زادك الله من فضله. ثم دخلت أخت الخليفة على الجارية، فلما رأتها قالت: والله ما خاب مَن أنت في منزله، ولو كان ثمنك مائة ألف دينار. فقالت لها الجارية نِعَم: يا صبيحة الوجه، هذا قصر مَن مِن الملوك؟ وأي مدينة هذه المدينة؟ قالت لها: هذه مدينة دمشق، وهذا قصر أخي أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان. ثم قالت للجارية: كأنك ما علمت هذا. قالت: والله يا سيدتي لا علمَ لي بهذا. قالت: والذي باعك وقبض ثمنك ما أعلمك بأن الخليفة قد اشتراك؟ فلما سمعت الجارية ذلك الكلام سكبت دموعها وبكت، وقالت في نفسها: لقد تمَّتِ الحيلة عليَّ. ثم قالت في نفسها: إن تكلَّمْتُ فما يصدقني أحد، ولكن أسكت وأصبر لعلمي أن فرج الله قريب. ثم إنها أطرقت رأسها حياءً، وقد احمرَّت خدودها من أثر السفر والشمس، فتركتها أخت الخليفة في ذلك اليوم، وجاءتها في اليوم الثاني بقماش وقلائد من الجواهر وألبستها، فدخل عليها أمير المؤمنين، وجلس إلى جانبها، فقالت له أخته: انظر إلى هذه الجارية التي قد كمَّل الله فيها الحسن والجمال. فقال الخليفة لنِعَم: أزيحي القناع عن وجهك. فلم تُزِح القناع عن وجهها، فلم يرَ وجهها وإنما رأى معاصمها، فوقعت محبتها في قلبه، وقال لأخته: لا أدخل عليها إلا بعد ثلاثة أيام حتى تستأنس بك. ثم قام وخرج من عندها، فصارت الجارية متفكِّرة في أمرها، ومتحسِّرة على افتراقها من سيدها نعمة. فلما أتى الليل ضعفت الجارية بالحمى، ولم تأكل ولم تشرب، وتغيَّرَ وجهها ومحاسنها، فعرَّفوا الخليفة بذلك فشقَّ عليه أمرها، ودخل عليها بالأطباء وأهل البصائر؛ فلم يقف لها أحدٌ على طبٍّ.

هذا ما كان من أمرها، وأما ما كان من أمر سيدها نعمة، فإنه أتى إلى داره وجلس على فراشه، ونادى: يا نِعَم. فلم تجبه، فقام مسرعًا ونادى، فلم يدخل عليه أحد، وكل جارية في البيت اختفت خوفًا منه، فخرج نعمة إلى والدته فوجدها جالسة ويدها على خدها، فقال لها: يا أمي، أين نِعَم؟ فقالت له: يا ولدي، مع مَن هي أوثق مني عليها، وهي العجوز الصالحة، فإنها خرجت معها لتزور الفقراء وتعود. فقال: ومتى كان لها عادة بذلك؟ وفي أي وقت خرجت؟ قالت: خرجت بكرة النهار. قال: وكيف أذِنْتِ لها بذلك؟ فقالت: يا ولدي، هي التي أشارت عليَّ بذلك. فقال نعمة: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ثم خرج من بيته وهو غائب عن الوجود، ثم توجه إلى صاحب الشرطة فقال له: أتحتال عليَّ وتأخذ جاريتي من داري؟ فلا بد لي أن أسافر وأشتكيك إلى أمير المؤمنين. فقال صاحب الشرطة: ومَن أخذها؟ فقال: عجوز صفتها كذا وكذا، وعليها ملبوس من الصوف، وبيدها سبحة عدد حبَّاتها ألوف. فقال له صاحب الشرطة: أوقفني على العجوز وأنا أخلِّص لك جاريتك. فقال: ومَن يعرف العجوز؟ فقال له صاحب الشرطة: ومَن يعلم الغيب إلا الله سبحانه وتعالى؟! وقد علم صاحب الشرطة أنها محتالة الحجاج، فقال له نعمة: ما أعرف جاريتي إلا منك، وبيني وبينك الحجاج. فقال له: امضِ إلى مَن شئتَ. فتوجَّه نعمة إلى قصر الحجاج، وكان والده من أكابر أهل الكوفة، فلما وصل إلى بيت الحجاج دخل حاجب الحجاج عليه، وأعلمه بالقضية، فقال له: عليَّ به. فلما وقف بين يديه قال له الحجاج: ما بالك؟ فقال له نعمة: كان من أمري ما هو كذا وكذا. فقال: هاتوا صاحب الشرطة ونأمره أن يفتش على العجوز. فلما حضر صاحب الشرطة قال له: أريد منك أن تفتش على جارية نعمة بن الربيع. فقال له صاحب الشرطة: لا يعلم الغيب إلا الله تعالى. فقال له الحجاج: لا بد أن تركب الخيل وتبصر الجارية في الطرقات وتنظر في البلدان. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 241

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الحجاج قال لصاحب الشرطة: لا بد أن تركب الخيل، وتنظر في البلدان والطرقات، وتفتش على الجارية. ثم التفت إلى نعمة وقال له: إن لم ترجع جاريتك دفعتُ لك عشرَ جوارٍ من داري، وعشرَ جوارٍ من دار صاحب الشرطة. ثم قال لصاحب الشرطة: اخرج في طلب الجارية. فخرج صاحب الشرطة، ونعمة مغموم، وقد يئس من الحياة، وكان قد بلغ من العمر أربع عشرة سنة، ولا نبات بعارضيه، فجعل يبكي وينتحب، وانعزل عن داره، ولم يزل يبكي إلى الصباح، فأقبل والده عليه، وقال له: يا ولدي، إن الحجاج قد احتال على الجارية وأخذها، ومن ساعة إلى ساعة يأتي الله بالفرج من عنده. فتزايدت الهموم على نعمة، وصار لا يعلم ما يقول، ولا يعرف مَن يدخل عليه، وأقام ضعيفًا ثلاثة أشهر حتى تغيَّرت أحواله ويئس منه أبوه، ودخلت عليه الأطباء فقالوا: ما له دواء إلا الجارية.

فبينما والده جالس يومًا من الأيام إذ سمع بطبيب ماهر أعجمي، وقد وصفه الناس بإتقان الطب والتنجيم وضرب الرمل؛ فدعا به الربيع، فلما حضر أجلسه الربيع إلى جانبه وأكرمه، وقال له: انظر حال ولدي. فقال لنعمة: هات يدك. فأعطاه يده فجسَّ مفاصله، ونظر في وجهه وضحك، والتفت إلى أبيه وقال: ليس بولدك غير مرض في قلبه. فقال: صدقتَ يا حكيم، فانظر في شأن ولدي بمعرفتك، وأخبرني بجميع أحواله، ولا تكتم عني شيئًا من أمره. فقال الأعجمي: إنه متعلق بجارية، وهذه الجارية في البصرة أو في دمشق، وما دواء ولدك غير اجتماعه بها. فقال الربيع: إن جمعتَ بينهما فلك عندي ما يسرك، وتعيش عمرك كله في المال والنعمة. فقال له العجمي: إن هذا الأمر قريب وسهل. ثم التفت إلى نعمة وقال له: لا بأس عليك، فطب نفسًا وقر عينًا. ثم قال للربيع: أَخْرِج من مالك أربعة آلاف دينار. فأخرجها وسلَّمها للأعجمي، فقال له الأعجمي: أريد أن ولدك يسافر معي إلى دمشق، وإن شاء الله تعالى لا أرجع إلا بالجارية. ثم التفت العجمي إلى الشاب وقال له: ما اسمك؟ قال: نعمة. قال: نعمة اجلس وكن في أمان الله تعالى، لقد جمع الله بينك وبين جاريتك. فاستوى جالسًا، فقال له: ثبِّت قلبك فنحن نسافر مثل هذا اليوم، فكُلْ واشرب وانبسط لتقوى على السفر. ثم إن العجمي أخذ في قضاء حوائجه من جميع ما يحتاج إليه، واستكمل من والد نعمة عشرة آلاف دينار، وأخذ منه الخيل والجمال وغير ذلك مما يُحتاج لحمل الأثقال في الطريق.

ثم إن نعمة ودَّع والده وسافر مع الحكيم إلى حلب، فلم يقع على خبر الجارية، ثم إنهما وصلا إلى دمشق وأقاما فيها ثلاثة أيام، وبعد ذلك أخذ الأعجمي دكانًا وملأ رفوفها بالصيني النفيس والأغطية، وزركش الرفوف بالذهب والقطع المثمنة، وحطَّ قدَّامه أواني من القناني فيها سائر الأدهان، وسائر الأشربة، ووضع حول القناني أقداحًا من البلور، وحطَّ الأصطرلاب قدَّامه، ولبس أثواب الحكمة والطب، وأوقف بين يديه نعمة وألبسه قميصًا وملوطة من الحرير، وفوَّطه في وسطه بفوطة من الحرير مزركشة بالذهب، ثم قال العجمي لنعمة: يا نعمة، أنت من اليوم ولدي فلا تدعُني إلا بأبيك، وأنا لا أدعوك إلا بالولد. فقال نعمة: سمعًا وطاعة.

ثم إن أهل دمشق اجتمعوا على دكان العجمي ينظرون إلى حسن نعمة، وإلى حسن الدكان والبضائع التي فيها، والعجمي يكلِّم نعمة بالفارسية ونعمة يكلِّمه كذلك بتلك اللغة؛ لأنه كان يعرفها على عادة أولاد الأكابر، واشتهر ذلك الأعجمي عند أهل دمشق، وجعلوا يصفون له الأوجاع وهو يعطيهم الأدوية، ويأتونه بالقوارير المملوءة ببول المرضى فيبصرها ويقول: إن مرض صاحب البول الذي في هذه القارورة كذا وكذا. فيقول صاحب المرض: إن هذا الطبيب صادق. ثم صار يقضي حاجة الناس، واجتمعت عليه أهل دمشق وشاع خبره في المدينة وفي بيوت الأكابر. فبينما هو ذات يوم جالس إذ أقبلت عليه عجوز راكبة على حمار، برذعته من الديباج المرصَّع بالجواهر، فوقفت على دكان العجمي وشدَّت لجام الحمار، وأشارت للعجمي وقالت له: أمسك يدي. فأخذ يدها فنزلت من فوق الحمار وقالت: أأنت الطبيب العجمي الذي جئت من العراق؟ قال: نعم. قالت: اعلم أن لي بنتًا وبها مرض. وأخرجت له قارورة، فلما نظر العجمي إلى ما في القارورة قال لها: يا سيدتي، ما اسم هذه الجارية حتى أحسب نجمها، وأعرف أي ساعة يوافقها فيها شرب الدواء؟ فقالت: يا أخا الفرس، اسمها نِعَم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 242

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن العجمي لما سمع اسم نِعَم، جعل يحسب ويكتب على يده، وقال لها: يا سيدتي، ما أصف لها دواء حتى أعرف من أي أرض هي لأجل اختلاف الهواء، فعرِّفيني في أي أرض تربَّت، وكم سنة سنُّها؟ فقالت العجوز: سنُّها أربع عشرة سنة، ومرباها بأرض الكوفة من العراق. فقال: وكم شهرًا لها في هذه الديار؟ فقالت له: أقامت في هذه الديار شهورًا قليلة.

فلما سمع نعمة كلام العجوز وعرف اسم جاريته خفق قلبه، فقال لها الأعجمي: يوافقها من الأدوية كذا وكذا. فقالت له العجوز: أعطني ما وصفت على بركة الله تعالى. ورمت له عشرة دنانير على الدكان، فنظر الحكيم إلى نعمة، وأمره أن يهيئ لها عقاقير الدواء، وصارت العجوز تنظر إلى نعمة وتقول: أعيذك بالله يا ولدي، إن شكلها مثل شكلك. ثم قالت العجوز للعجمي: يا أخا الفرس، هل هذا مملوكك أم ولدك؟ فقال لها العجمي: إنه ولدي. ثم إن نعمة وضع لها الحوائج في علبة، وأخذ ورقة وكتب فيها هذين البيتين:

إِذَا أَنْعَمَتْ نُعْمٌ عَلَيَّ بِنَظْرَةٍ        فَلَا أَسْعَدَتْ سَعْدَى وَلَا أَجْمَلَتْ جُمْلُ

وَقَالُوا اسْلُ عَنْهَا تُعْطَ عِشْرِينَ مِثْلَهَا        وَلَيْسَ لَهَا مِثْلٌ وَلَسْتُ لَهَا أَسْلُو

ثم دسَّ الورقة في داخل العلبة وختمها، وكتب على غطاء العلبة بالخط الكوفي: أنا نعمة بن الربيع الكوفي. ثم وضع العلبة قدَّام العجوز، فأخذتها وودَّعتهما وانصرفت متوجِّهة إلى قصر الخليفة، فلما طلعت العجوز بالحوائج إلى الجارية، وضعت الدواء قدامها، ثم قالت لها: يا سيدتي، اعلمي أنه قد أتى إلى مدينتنا طبيب عجمي ما رأيت أحدًا أعرف بأمور الأمراض منه، فذكرتُ له اسمك بعد أن رأى القارورة فعرف مرضك ووصف دواءك، ثم أمر ولده فشد لك هذا الدواء، وليس في دمشق أجمل ولا أظرف من ولده، ولا أحسن ثيابًا منه، ولا يوجد لأحد دكان مثل دكانه. فأخذَتِ العلبةَ فرأت مكتوبًا على غطائها اسم سيدها واسم أبيه، فلما رأت ذلك تغيَّرَ لونها وقالت: لا شك أن صاحب الدكان أتى في شأني.

ثم قالت للعجوز: صفي لي هذا الصبي. فقالت: اسمه نعمة، وعلى حاجبه الأيمن أثر، وعليه ملابس فاخرة، وله حسن كامل. فقالت الجارية: ناوليني الدواء على بركة الله تعالى وعونه. فأخذت الدواء وشربته وهي تضحك، وقالت لها: إنه دواء مبارك. ثم فتَّشت في العلبة فرأت الورقة ففتحتها وقرأتها، فلما فهمت معناها تحقَّقت أنه سيدها، فطابت نفسها وفرحت.

فلما رأتها العجوز قد ضحكت، قالت لها: إن هذا اليوم يوم مبارك. فقالت نِعَم: يا قهرمانة أريد الطعام والشراب. فقالت العجوز للجواري: قدِّمن الموائد والأطعمة الفاخرة لسيدتكن. فقدَّمن إليها الأطعمة، وجلست للأكل، وإذا بعبد الملك بن مروان قد دخل عليهن، ونظر الجارية جالسة وهي تأكل الطعام ففرح، ثم قالت القهرمانة: يا أمير المؤمنين، يهنيك عافية جاريتك نعم، وذلك أنه وصل إلى هذه المدينة رجل طبيب ما رأيت أعرف منه بالأمراض ودوائها، فأتيت لها منه بدواء فتعاطت منه مرة واحدة فحصلت لها العافية يا أمير المؤمنين. فقال أمير المؤمنين: خذي ألف دينار وقومي بإبرائها. ثم خرج وهو فرحان بعافية الجارية، وراحت العجوز إلى دكان العجمي بالألف دينار وأعطته إياها، وأعلمته أنها جارية الخليفة، وناولته ورقة كانت نِعَم قد كتبتها، فأخذها العجمي وناولها لنعمة، فلما رآها عرف خطها فوقع مغشيًّا عليه، فلما أفاق فتح الورقة فوجد مكتوبًا فيها: من الجارية المسلوبة من نعمتها، المخدوعة في عقلها، المفارقة لحبيب قلبها، أما بعدُ؛ فإنه قد ورد كتابكم عليَّ فشرح الصدر وسرَّ الخاطر، وكان كقول الشاعر:

وَرَدَ الْكِتَابُ فَلَا عُدِمْتَ أَنَامِلًا        كَتَبَتْ بِهِ حَتَّى تَضَمَّخَ طِيبَا

فَكَأَنَّ مُوسَى قَدْ أُعِيدَ لِأُمِّهِ        أَوْ ثَوْبَ يُوسُفَ قَدْ أَتَى يَعْقُوبَا

فلما قرأ نعمة هذا الشعر هملت عيناه بالدموع، فقالت له القهرمانة: ما الذي يبكيك يا ولدي، لا أبكى الله لك عينًا؟ فقال العجمي: يا سيدتي، كيف لا يبكي ولدي وهذه جاريته وهو سيدها نعمة بن الربيع الكوفي؟ وعافية هذه الجارية مرهونة برؤيته، وليس بها علة إلا هواه … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 243

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن العجمي قال للعجوز: كيف لا يبكي ولدي وهذه جاريته وهو سيدها نعمة بن الربيع الكوفي؟ وعافية هذه الجارية مرهونة برؤيته، وليس لها علة إلا هواه، فخذي أنت يا سيدتي هذه الألف دينار لك، ولك عندي أكثر من ذلك، وانظري لنا بعين الرحمة، ولا نعرف إصلاحَ هذا الأمر إلا منك. فقالت العجوز لنعمة: هل أنت مولاها؟ فقال: نعم. قالت: صدقت، فإنها لا تفتر عن ذكرك. فأخبرها نعمة بما قد جرى له من الأول إلى الآخر، فقالت العجوز: يا غلام، لا تعرف اجتماعك بها إلا مني. ثم ركبت وعادت من وقتها ودخلت على الجارية، فنظرت في وجهها وضحكت وقالت لها: يحق لك يا بنتي أن تبكي وتمرضي من أجل فراق سيدك نعمة بن الربيع الكوفي. فقالت نِعَم: قد انكشف لك الغطاء وظهر لك الحق. فقالت لها العجوز: طيبي نفسًا وانشرحي صدرًا، فوالله لأجمعن بينكما ولو كان في ذلك ذهاب روحي. ثم إنها رجعت إلى نعمة وقالت له: إني رجعت لجاريتك واجتمعت بها، فوجدت عندها من الشوق إليك أكثر مما عندك لها، وذلك أن أمير المؤمنين يريد أن يجتمع بها وهي تمتنع منه، فإن كان لك جنان ثابت وقوة قلب، فأنا أجمع بينكما وأخاطر بنفسي معكما، وأدبِّر حيلة وأعمل مكيدة في دخولك قصر أمير المؤمنين حتى تجتمع بالجارية، فإنها ما تقدر أن تخرج. فقال لها نعمة: جزاكِ الله خيرًا.

ثم ودَّعته وذهبت إلى الجارية، وقالت لها: إن سيدك قد ذهبت روحه في هواك، وهو يريد الاجتماع بك، فما تقولين في ذلك؟ فقالت نِعَم: وأنا كذلك قد ذهبت روحي، وأريد الاجتماع به. فعند ذلك أخذت العجوز بقجة فيها حلي ومصاغ وبدلة من ثياب النساء، وتوجَّهت إلى نعمة، وقالت له: ادخل بنا مكانًا وحدنا. فدخل معها قاعة خلف الدكان، ونقشته وزيَّنت معاصمه، وزوَّقت شعره، وألبسته لباس جارية، وزيَّنته بأحسن ما تتزين به الجواري؛ فصار كأنه من حور الجنان، فلما رأته القهرمانة في تلك الصفة قالت: تبارك الله أحسن الخالقين، والله إنك لأحسن من الجارية. ثم قالت له: امشِ وقدِّم الشمال وأخِّر اليمين، وهزَّ أردافك. فمشى قدَّامها كما أمرته، فلما رأته قد عرف مشي النساء، قالت له: امكث حتى آتيك ليلة غد إن شاء الله تعالى فآخذك وأدخل بك القصر، وإذا نظرت الحجَّاب والخدامين فقوِّ عزمك، وطأطئ رأسك، ولا تتكلم مع أحد، وأنا أكفيك كلامهم، وبالله التوفيق.

فلما أصبح الصباح أتته القهرمانة في ثاني يوم، وأخذته وطلعت به القصر ودخلت قدامه، ودخل هو وراءها في إثرها، فأراد الحاجب أن يمنعه من الدخول فقالت له: يا أنحس العبيد، إنها جارية نِعَم محظية أمير المؤمنين، فكيف تمنعها من الدخول؟ ثم قالت: ادخلي يا جارية. فدخل مع العجوز، ولم يزالا داخلين إلى الباب الذي يُتوصَّل منه إلى صحن القصر، فقالت له العجوز: يا نعمة، قوِّ نفسك وثبِّت قلبك، وادخل القصر، وخذ على شمالك، وعد خمسة أبواب، وادخل الباب السادس، فإنه باب المكان المعد لك، ولا تَخَفْ، وإذا كلَّمك أحد فلا تتكلم معه. ثم سارت به حتى وصلت إلى الأبواب، فقابَلَها الحاجبُ المعدُّ لتلك الأبواب، وقال لها: ما هذه الجارية؟ وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 244

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الحاجب قابل العجوز وقال لها: ما هذه الجارية؟ فقالت له العجوز: إن سيدتنا تريد اشتراءها. فقال الخادم: ما يدخل أحد إلا بإذن أمير المؤمنين، فارجعي فإني لا أخلِّيها تدخل؛ لأنني أُمِرت بهذا. فقالت له القهرمانة: أيها الحاجب الكبير، أين عقلك؟ إن نِعَم جارية الخليفة الذي قلبه متعلِّق بها قد توجَّهت إليها العافية، وما صدق أمير المؤمنين بعافيتها، وتريد اشتراء هذه الجارية فلا تمنعها من الدخول لئلا يبلغها أنك منعتها فتغضب عليك، وإنْ غضبَتْ عليك تسبَّبت في قطع رأسك.

ثم قالت: ادخلي يا جارية، ولا تسمعي كلامه، ولا تخبري سيدتك أن الحاجب منعك من الدخول. فطأطأ نعمة رأسه ودخل القصر، وأراد أن يمشي إلى جهة يساره فغلط ومشى إلى جهة يمينه، وأراد أن يعد خمسة أبواب ويدخل السادس، فعدَّ ستة ودخل السابع. فلما دخل في ذلك الباب رأى موضعًا مفروشًا بالديباج، وحيطانه عليها ستائر الحرير المرقومة بالذهب، وفيه مباخر العود والعنبر والمسك الأذفر، ورأى سريرًا في الصدر مفروشًا بالديباج، فجلس عليه نعمة ولم يعلم بما كُتِب له في الغيب.

فبينما هو جالس متفكر في أمره، إذ دخلت عليه أخت أمير المؤمنين ومعها جاريتها، فلما رأت الغلام جالسًا ظنَّتْه جارية، فتقدَّمت إليه وقالت له: مَن تكونين يا جارية؟ وما خبرك؟ وما سبب دخولك هذا المكان؟ فلم يتكلم نعمة، ولم يردَّ عليها جوابًا، فقالت: يا جارية، إنْ كنتِ من محاظي أخي وقد غضب عليك، فأنا أستعطفه عليك. فلم يرد نعمة عليها جوابًا؛ فعند ذلك قالت لجاريتها: قفي على باب المجلس ولا تدعي أحدًا يدخل. ثم تقدَّمت إليه ونظرت إلى جماله، وقالت: يا صبية، عرِّفيني مَن تكونين؟ وما اسمك؟ وما سبب دخولك هنا؟ فإني لم أنظرك في قصرنا. فلم يرد نعمة عليها جوابًا، فعند ذلك غضبت أخت الملك ووضعت يدها على صدر نعمة فلم تجد له نهودًا، فأرادت أن تكشف ثيابه لتعلم خبره، فقال لها نعمة: يا سيدتي، أنا مملوك فاشتريني، وأنا مستجير بك فأجيريني. فقالت له: لا بأس عليك، فمَن أنت؟ ومَن أدخلك مجلسي هذا؟ فقال لها نعمة: أنا أيتها الملكة أُعرَف بنعمة بن الربيع الكوفي، وقد خاطرت بروحي لأجل جاريتي نِعَم التي احتال عليها الحجاج وأخذها وأرسلها إلى هنا. فقالت له: لا بأس عليك. ثم صاحت على جاريتها، وقالت لها: امضي إلى مقصورة نِعَم. وقد كانت القهرمانة أتت إلى مقصورة نِعَم، وقالت لها: هل وصل إليك سيدك؟ فقالت: لا والله. فقالت القهرمانة: لعله غلط فدخل مقصورة غير مقصورتك، وتاه عن مكانك. فقالت نِعَم: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، قد فرغ أجلنا وهلكنا. وجلستا متفكرتين.

فبينما هما كذلك إذ دخلت عليهما جارية أخت الخليفة، فسلمت على نِعَم وقالت لها: إن مولاتي تدعوك إلى ضيافتها. فقالت: سمعًا وطاعة. فقالت القهرمانة: لعل سيدك عند أخت الخليفة، وقد انكشف الغطاء. فنهضت نِعَم من وقتها وساعتها حتى دخلت على أخت الخليفة، فقالت لها: هذا مولاك جالس عندي، وكأنه غلط في المكان، وليس عليك ولا عليه خوف إن شاء الله تعالى. فلما سمعت نِعَم هذا الكلام من أخت الخليفة اطمأنت نفسها، وتقدَّمت إلى مولاها نعمة، فلما نظرها قام إليها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 245

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن نعمة لما نظر إلى جاريته نعم قام إليها، وضمَّ كلُّ واحد منهما صاحبه إلى صدره، ثم وقعا على الأرض مغشيًّا عليهما. فلما أفاقا قالت لهما أخت الخليفة: اجلسا حتى نتدبر في الخلاص من الأمر الذي وقعنا فيه. فقالا لها: سمعًا وطاعة، والأمر لك. فقالت: والله ما ينالكما منا سوء أبدًا. ثم قالت لجاريتها: أحضري الطعام والشراب. فأحضرت ذلك فأكلوا بحسب الكفاية، ثم جلسوا يشربون، فدارت عليهم الأقداح، وزالت عنهم الأتراح، فقال نعمة: ليت شعري بعد ذلك ما يكون. فقالت له أخت الخليفة: نعمة، هل تحب نِعم جاريتك؟ فقال لها: يا سيدتي، إن هواها هو الذي حملني على ما أنا فيه من المخاطرة بروحي. ثم قالت لنِعم: يا نِعم هل تحبين سيدك نعمة؟ قالت: يا سيدتي، إن هواه هو الذي أذاب جسمي وغيَّر حالي. فقالت: والله إنكما متحابان، فلا كان مَن يفرِّق بينكما، فقرَّا عينًا وطيبَا نفسًا. ففرحا بذلك، وطلبت نِعم عودًا فأحضروه لها، فأخذته وأصلحته، وأطربت بالنغمات وأنشدت هذه الأبيات:

وَلَمَّا أَبَى الْوَاشُونَ إِلَّا فِرَاقَنَا        وَلَيْسَ لَهُمْ عِنْدِي وَعِنْدَكَ مِنْ ثَارِ

وَشَنُّوا عَلَى أَسْمَاعِنَا كُلَّ غَارَةٍ        وَقَلَّ حُمَاتِي عِنْدَ ذَاكَ وَأَنْصَارِي

غَزَوْتُهُمُ مِنْ مُقْلَتَيْكَ وَأَدْمُعِي        وَمِنْ نَفَسِي بِالسَّيْفِ وَالسَّيْلِ وَالنَّارِ

ثم إن نِعمًا أعطت العود لسيدها نعمة وقالت له: غنِّ لنا شعرًا. فأخذه وأصلحه، وأطرب بالنغمات، ثم أنشد هذه الأبيات:

الْبَدْرُ يَحْكِيكِ لَوْلَا أَنَّهُ كَلَفٌ        وَالشَّمْسُ مِثْلُكِ لَوْلَا الشَّمْسُ تَنْكَسِفُ

إِنِّي عَجِبْتُ وَكَمْ فِي الْحُبِّ مِنْ عَجَبٍ        فِيهِ الْهُمُومُ وَفِيهِ الْوَجْدُ وَالْكَلَفُ

أَرَى الطَّرِيقَ قَرِيبًا حِينَ أَسْلُكُهُ        إِلَى الْحَبِيبِ بَعِيدًا حِينَ أَنْصَرِفُ

فلما فرغ من شعره ملأت له قدحًا وناولته إياه، فأخذه وشربه، ثم ملأت قدحًا آخر وناولته لأخت الخليفة فشربته، وأخذت العود وأصلحته وشدت أوتاره، وأنشدت هذين البيتين:

غَمٌّ وَحُزْنٌ فِي الْفُؤَادِ مُقِيمُ        وَجَوًى تَرَدَّدَ فِي حَشَايَ عَظِيمُ

وَنُحُولُ جِسْمٍ قَدْ تَبَدَّى ظَاهِرًا        فَالْجِسْمُ مِنِّي بِالْغَرَامِ سَقِيمُ

ثم ناولت العود لنعمة بن الربيع، فأخذه وأصلح أوتاره، وأنشد هذين البيتين:

يَا مَنْ وَهَبْتُ لَهُ رُوحِي فَعَذَّبَهَا        وَرُمْتُ تَخْلِيصَهَا مِنْهُ فَلَمْ أُطِقِ

دَارِكْ مُحِبًّا بِمَا يُنْجِيهِ مِنْ تَلَفٍ        قَبْلَ الْمَمَاتِ فَهَذَا آخِرُ الرَّمَقِ

ولم يزالوا ينشدون الأشعار ويشربون على نغمات الأوتار، وهم في لذة وحبور وفرح وسرور. فبينما هم كذلك إذ دخل عليهم أمير المؤمنين، فلما نظروه قاموا إليه وقبَّلوا الأرض بين يديه، فنظر إلى نِعم والعود معها، فقال: يا نِعم، الحمد لله الذي أذهب عنك البأس والوجع. ثم التفت إلى نعمة وهو على تلك الحالة، وقال: يا أختي، مَن هذه الجارية التي في جانب نِعم؟ فقالت له أخته: يا أمير المؤمنين، إن هذه جارية من المحاظي أنيسة، لا تأكل نِعم ولا تشرب إلا وهي معها. ثم أنشدت قول الشاعر:

ضِدَّانِ وَاجْتَمَعَا افْتِرَاقًا فِي الْبَهَا        وَالضِّدُّ يَظْهَرُ حُسْنُهُ بِالضِّدِّ

فقال الخليفة: والله العظيم إنها مليحة مثلها، وفي غد أخلي لها مجلسًا بجانب مجلسها، وأُخرِج لها الفرش والقماش، وأنقل إليها جميع ما يصلح لها إكرامًا لنِعم. واستدعت أخت الخليفة بالطعام فقدَّمته لأخيها، فأكل وجلس معهم في تلك الحضرة، ثم ملأ قدحًا وأومأ إلى نِعم أن تنشد له شيئًا من الشعر، فأخذت العود بعد أن شربت قدحين، وأنشدت هذين البيتين:

إِذَا مَا نَدِيمِي عَلَّنِي ثُمَّ عَلَّنِي        ثَلَاثَةَ أَقْدَاحٍ لَهُنَّ هَدِيرُ

أَبِيتُ أَجُرُّ الذَّيْلَ تِيهًا كَأَنَّنِي        عَلَيْكَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمِيرُ

فطرب أمير المؤمنين، وملأ قدحًا آخر وناوله إلى نِعم، وأمرها أن تغني، فبعد أن شربت القدح جست الأوتار، وأنشدت هذه الأبيات:

يَا أَشْرَفَ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَمَا        لَهُ مَثِيلٌ بِهَذَا الْأَمْرِ يَفْتَخِرُ

يَا وَاحِدًا فِي الْعُلَا وَالْجُودِ مَنْصِبُهُ        يَا سَيِّدًا مَلِكًا فِي الْكُلِّ مُشْتَهَرُ

يَا مَالِكًا لِمُلُوكِ الْأَرْضِ قَاطِبَةً        تُعْطِي الْجَزِيلَ وَلَا مَنٌّ وَلَا ضَجَرُ

أَبْقَاكَ رَبِّي عَلَى رَغْمِ الْعِدَا كَمَدًا        وَزَانَ طَالِعَكَ الْإِقْبَالُ وَالظَّفْرُ

فلما سمع الخليفة من نِعم هذه الأبيات قال لها: لله درك يا نِعم! ما أفصح لسانك وأوضح بيانك! ولم يزالوا في فرح وسرور إلى نصف الليل، ثم قالت أخت الخليفة: اسمع يا أمير المؤمنين، إني رأيت حكاية في الكتب عن بعض أرباب المراتب. قال الخليفة: وما تلك الحكاية؟ فقالت له أخته: اعلم يا أمير المؤمنين أنه كان بمدينة الكوفة صبي يُسمَّى نعمة بن الربيع، وكان له جارية يحبها وتحبه، وكانت قد تربت معه في فراش واحد، فلما بلغا وتمكَّن حبهما من بعضهما رماهما الدهر بنكباته، وجار عليهما الزمان بآفاته، وحكم عليهما بالفراق، وتحيَّلت عليهما الوشاة حتى خرجت من داره، وأخذوها سرقةً من مكانه، ثم إن سارِقَها باعَهَا لبعض الملوك بعشرة آلاف دينار، وكان عند الجارية لمولاها من المحبة مثل ما عنده لها؛ ففارق أهله وداره وسافر في طلبها، وتسبَّب في اجتماعه بها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 246

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن نعمة لم يزل مفارقًا لأهله ووطنه، وخاطر بنفسه، وبذل مهجته حتى توصَّل إلى اجتماعه بجاريته، وكان يقال لها نِعم، فلما اجتمع بها لم يستقر بهما الجلوس حتى دخل عليهما الملك الذي كان اشتراها من الذي سرقها؛ فعجل عليهما وأمر بقتلهما، ولم ينصف من نفسه، ولم يمهل عليهما في حكمه؛ فما تقول يا أمير المؤمنين في قلة إنصاف هذا الملك؟ فقال أمير المؤمنين: إن هذا الشيء عجاب، فكان ينبغي لذلك الملك العفو عند المقدرة؛ لأنه يجب عليه أن يحفظ لهما ثلاثة أشياء؛ الأول: أنهما متحابان، والثاني: أنهما في منزله وتحت قبضته، والثالث: أن الملك ينبغي له التأني في الحكم بين الناس، فكيف بالأمر الذي يتعلق به؟ فهذا الملك قد فعل فعلًا لا يشبه فعل الملوك. فقالت له أخته: يا أخي، بحق ملك السموات والأرض أن تأمر نِعمًا بالغناء وتسمع ما تغني به. فقال: يا نِعم، غنِّ لي. فأطربت بالنغمات، وأنشدت هذه الأبيات:

غَدَرَ الزَّمَانُ وَلَمْ يَزَلْ غَدَّارَا        يُصْحِي الْقُلُوبَ وَيُورِثُ الْأَفْكَارَا

وَيُفَرِّقُ الْأَحْبَابَ بَعْدَ تَجَمُّعٍ        فَتَرَى الدُّمُوعَ عَلَى الْخُدُودِ غِزَارَا

كَانُوا وَكُنْتُ وَكَانَ عَيْشِي نَاعِمًا        وَالدَّهْرُ يَجْمَعُ شَمْلَنَا مِدْرَارَا

فَلَأَبْكِيَنَّ دَمًا وَدَمْعًا سَاجِمًا        أَسَفًا عَلَيْكَ لَيَالِيًا وَنَهَارَا

فلما سمع أمير المؤمنين هذا الشعر طرب طربًا عظيمًا، فقالت له أخته: يا أخي، مَن حكم على نفسه بشيء لزمه القيام به، والعمل بقوله، وأنت قد حكمت على نفسك بهذا الحكم. ثم قالت: يا نعمة، قف على قدميك، وكذا قفي أنت يا نِعم. فوقفَا، فقالت أخت الخليفة: يا أمير المؤمنين، إن هذه الواقفة هي نِعم المسروقة، سرقها الحجاج بن يوسف الثقفي وأوصلها لك، وكذب فيما ادَّعاه من كتابه من أنه اشتراها بعشرة آلاف دينار، وهذا الواقف هو نعمة بن الربيع سيدها، وأنا أسألك بحرمة آبائك الطاهرين أن تعفو عنهما، وتهبهما لبعضهما؛ لتغنم أجرهما، فإنهما في قبضتك، وقد أكلا من طعامك وشربَا من شرابك، وأنا الشفيعة فيهما المستوهبة دمهما. فعند ذلك قال الخليفة: صدقتِ، أنا حكمت بذلك، وما أحكم بشيء وأرجع فيه. ثم قال: يا نِعم، هل هذا مولاكِ؟ قالت له: نَعَم يا أمير المؤمنين. فقال: لا بأس عليكما، فقد وهبتكما لبعضكما. ثم قال: يا نعمة، وكيف عرفتَ بمكانها؟ ومَن وصف لك هذا المكان؟ فقال: يا أمير المؤمنين، اسمع خبري وأنصت إلى حديثي، فوحق آبائك وأجدادك الطاهرين لا أكتم عنك شيئًا. ثم حدثه بجميع ما كان من أمره، وما فعله معه الحكيم العجمي، وما فعلته القهرمانة، وكيف دخلت به القصر وغلط في الأبواب؛ فتعجب الخليفة من ذلك غاية العجب، ثم قال: عليَّ بالعجمي. فأحضروه بين يديه فجعله من جملة خواصه، وخلع عليه خلعة، وأمر له بجائزة مليحة، وقال: مَن يكون هذا تدبيره يجب أن نجعله من خواصنا.

ثم إن الخليفة أحسن إلى نعمة ونِعم وأنعم عليهما، وأنعم على القهرمانة، وقعدا عنده سبعة أيام في سرور وحظ وأرغد عيش، ثم طلب نعمة منه الإذن بالسفر هو وجاريته، فأذن لهما بالسفر إلى الكوفة. فسافرَا واجتمع بوالده ووالدته، وأقاموا في أطيب عيش إلى أن أتاهم هادم اللذات ومفرِّق الجماعات. فلما سمع الأمجد والأسعد هذا الحديث من بهرام، تعجَّبَا منه غاية العجب، وقالا: إن هذا لشيء عجيب. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 247

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الأمجد والأسعد لما سمعا من بهرام المجوسي الذي أسلم هذه الحكاية، تعجَّبَا منها غاية العجب، وباتا تلك الليلة، ولما أصبح الصباح ركب الأمجد والأسعد، وأرادا أن يدخلا على الملك فاستأذنا في الدخول فأذن لهما، فلما دخلا أكرمهما، وجلسوا يتحدثون. فبينما هم كذلك، وإذا بأهل المدينة يصيحون ويتصارخون ويستغيثون، فدخل الحاجب على الملك وقال له: إن ملكًا من الملوك نزل بعساكره على المدينة وهم شاهرون السلاح، وما ندري ما مرادهم. فأخبر الملك وزيره الأمجد وأخاه الأسعد بما سمعه من الحاجب، فقال الأمجد: أنا أخرج إليه وأكشف خبره. فخرج الأمجد إلى ظاهر المدينة فوجد الملك ومعه عسكر كثير ومماليك راكبة، فلما نظروا إلى الأمجد عرفوا أنه رسول من عند ملك المدينة، فأخذوه وأحضروه قدَّام السلطان، فلما صار قدامه قبَّل الأرض بين يديه، وإذا بالملك امرأة ضاربة لها لثامًا، فقالت: اعلم أنه ما لي عندكم غرض في هذه المدينة إلا مملوك أمرد، فإن وجدتُه عندكم فلا بأس عليكم، وإن لم أجده وقع بيني وبينكم القتال الشديد؛ لأنني ما جئت إلا في طلبه. فقال الأمجد: أيتها الملكة، ما صفة هذا المملوك؟ وما خبره؟ وما اسمه؟ فقالت: اسمه الأسعد، وأنا اسمي مرجانة، وهذا المملوك جاءني صحبة بهرام المجوسي، وما رضي أن يبيعه، فأخذته منه غصبًا فعدا عليه وأخذه من عندي بالليل سرقةً، وأما أوصافه فإنها كذا وكذا.

فلما سمع الأمجد ذلك علم أنه أخوه الأسعد، فقال لها: يا ملكة الزمان، الحمد لله الذي جاءنا بالفرج، إن هذا المملوك هو أخي. ثم حكى لها حكايته وما جرى لهما في بلاد الغربة، وأخبرها بسبب خروجهما من جزائر الأبنوس، فتعجَّبت الملكة مرجانة من ذلك، وفرحت بلقاء الأسعد، وخلعت على أخيه الأمجد. ثم بعد ذلك عاد الأمجد إلى الملك وأعلمه بما جرى؛ ففرحوا بذلك، ونزل الملك هو والأمجد والأسعد قاصدين الملكة، فلما دخلوا عليها جلسوا يتحدثون.

فبينما هم كذلك، وإذا بغبار طار حتى سدَّ الأقطار، وبعد ساعة انكشف ذلك الغبار عن عسكر جرَّار، مثل البحر الزخَّار، وهم مُهيَّئون بالعُدد والسلاح، فقصدوا المدينة، ثم داروا بها كما يدور الخاتم بالخنصر، وشهروا سيوفهم، فقال الأمجد والأسعد: إنا لله وإنا إليه راجعون، ما هذا الجيش الكبير؟ إن هذه أعداء لا محالة، وإن لم نتفق مع هذه الملكة مرجانة على قتالهم أخذوا منا المدينة وقتلونا، وليس لنا حيلة إلا أننا نخرج إليهم ونكشف خبرهم. ثم قام الأمجد وخرج من باب المدينة، وتجاوز جيش الملكة مرجانة، فلما وصل إلى العسكر وجده عسكر جدِّه الملك الغيور أبي أمه الملكة بدور. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 248

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الأمجد لما وصل إلى العسكر وجده عسكر جدِّه الملك الغيور، صاحب الجزائر والبحور والسبعة قصور، فلما صار قدَّامه قبَّل الأرض بين يديه وبلَّغه الرسالة. قال الملك: أنا اسمي الملك الغيور، وقد جئت عابر سبيل؛ لأن الزمان قد فجعني في ابنتي بدور، فإنها فارقتني وما رجعت إليَّ، وما سمعت لها ولا لزوجها قمر الزمان خبرًا، فهل عندكم خبر بهما؟ فلما سمع الأمجد ذلك أطرق إلى الأرض ساعة يتفكر حتى تحقق أنه جده أبو أمه، ثم رفع رأسه، وقبَّل الأرض بين يديه، وأخبره أنه ابن بنته بدور؛ فلما سمع الملك أنه ابن بنته بدور، رمى نفسه عليه وصارا يبكيان، ثم قال الملك الغيور: الحمد لله يا ولدي على السلامة حيث اجتمعتُ بك. ثم حكى له الأمجد أن ابنته بدور في عافية، وكذلك أبوه قمر الزمان، وأخبره أنهما في مدينة يقال لها جزيرة الأبنوس، وحكى له أن قمر الزمان والده غضب عليه وعلى أخيه وأمر بقتلهما، وأن الخازندار رقَّ لهما وتركهما بلا قتل، فقال الملك الغيور: أنا أرجع بك وبأخيك إلى والدك وأصلح بينكم وأقيم عندكم. فقبَّل الأرض بين يديه، ثم خلع الملك الغيور على الأمجد ابن بنته، ورجع مبتسمًا إلى الملك وأعلمه بقصة الملك الغيور، فتعجب منها غاية العجب، ثم أرسل له آلات الضيافة من الخيل والجمال والغنم والعليق وغير ذلك، وأخرج للملكة مرجانة كذلك، وأعلموها بما جرى، فقالت: أنا اذهب معكم بعسكري وأكون ساعية في الصلح.

فبينما هم كذلك، وإذا بغبار قد ثار حتى سدَّ الأقطار، واسودَّ منه النهار، وسمعوا من تحته صياحًا وصراخًا وصهيل الخيل، ورأوا سيوفًا تلمع ورماحًا تشرع، فلما قربوا من المدينة ورأوا العسكرين دقوا الطبول، فلما رأى الملك ذلك قال: ما هذا النهار إلا نهار مبارك، الحمد لله الذي أصلحنا مع هذين العسكرين، وإن شاء الله تعالى يصلحنا مع هذا العسكر أيضًا. ثم قال: يا أمجد، اخرج أنت وأخوك الأسعد، واكشفا لنا خبر هذه العساكر، فإنه جيش ثقيل ما رأيت أثقل منه. فخرج الاثنان الأمجد وأخوه الأسعد بعد أن أغلق الملك باب المدينة خوفًا من العسكر المحيط بها، ففتحا الأبواب وسارا حتى وصلا إلى العسكر الذي وصل؛ فوجداه عسكر ملك جزائر الأبنوس، وفيه والدهما قمر الزمان، فلما نظراه قبَّلا الأرض بين يديه وبكيا، فلما رآهما قمر الزمان رمى روحه عليهما، وبكى بكاءً شديدًا، واعتذر لهما وضمَّهما إلى صدره، ثم أخبرهما بما قاساه بعدهما من الوحشة الشديدة لفراقهما. ثم إن الأمجد والأسعد ذكرَا له عن الملك الغيور أنه وصل إليهم، فركب قمر الزمان في خواصه، وأخذ ولديه الأمجد والأسعد معه، وساروا حتى وصلوا إلى قرب عسكر الملك الغيور، فسبق واحد منهم إلى الملك الغيور وأخبره أن قمر الزمان وصل، فطلع إلى ملاقاته، فاجتمعوا ببعضهم وتعجَّبوا من هذه الأمور، وكيف اجتمعوا في هذا المكان، وصنع أهل المدينة الولائم وأنواع الأطعمة والحلويات، وقدَّموا الخيول والجمال، والضيافات والعليق، وما تحتاج إليه العساكر.

فبينما هم كذلك، وإذا بغبار قد ثار حتى سدَّ الأقطار، وارتجَّت الأرض من الخيول، وصارت الطبول كعواصف الرياح، والجيش جميعه بالعدد والأزراد، وكلهم لابسون السواد، وفي وسطهم شيخ كبير، وذقنه واصلة إلى صدره، وعليه ملابس سود، فلما نظر أهل المدينة هذه العساكر العظيمة، قال صاحب المدينة للملوك: الحمد لله الذي اجتمعتم بإذنه تعالى في يوم واحد، وطلعتم كلكم معارف، فما هذا العسكر الجرار الذي قد سدَّ الأقطار؟ فقال له الملوك: لا تخف منه، فنحن ثلاثة ملوك، وكل ملك له عساكر كثيرة، فإن كانوا أعداء نقاتلهم معك، ولو زادوا ثلاثة أمثالهم.

فبينما هم كذلك وإذا برسول من تلك العساكر قد أقبل متوجهًا إلى هذه المدينة، فقدَّموه بين يدي قمر الزمان والملك الغيور والملكة مرجانة والملك صاحب المدينة؛ فقبل الأرض وقال: إن هذا الملك من بلاد العجم، وقد فقد ولده من مدة سنين، وهو دائر يفتش عليه في الأقطار، فإن وجده عندكم فلا بأس عليكم، وإن لم يجده وقع الحرب بينه وبينكم، وأخرب مدينتكم. فقال له قمر الزمان: ما يصل إلى هذا، ولكن ما يقال له في بلاد العجم؟ فقال الرسول: يقال له الملك شهرمان صاحب جزائر خالدان، وقد جمع هذه العساكر من الأقطار التي مر بها وهو دائر يفتش على ولده.

فلما سمع قمر الزمان كلام الرسول صرخ صرخة عظيمة، وخرَّ مغشيًّا عليه، واستمر في غشيته ساعة، ثم أفاق وبكى بكاءً شديدًا، وقال للأمجد والأسعد وخواصهما: امشوا يا أولادي مع الرسول، وسلِّموا على جدِّكم والدي الملك شهرمان، وبشرِّوه بي؛ فإنه حزين على فَقْدي، وهو إلى الآن لابس الملابس السود من أجلي. ثم حكى للملوك الحاضرين جميع ما جرى له في أيام صباه؛ فتعجب جميع الملوك من ذلك، ثم نزلوا هم وقمر الزمان وتوجَّهوا إلى والده، فسلم قمر الزمان على والده وعانقا بعضهما ووقعا مغشيًّا عليهما من شدة الفرح، فلما أفاقا حكى لابنه جميع ما جرى له، ثم سلَّم عليه بقية الملوك، وردُّوا مرجانة إلى بلادها بعد أن زوَّجوها للأسعد، ووصوها أنها لا تقطع عنهم مراسلتها، ثم زوَّجوا الأمجد بستان بنت بهرام، وسافروا كلهم إلى مدينة الأبنوس، وخلا قمر الزمان بصهره، وأعلمه بجميع ما جرى له، وكيف اجتمع بأولاده، ففرح وهنَّأه بالسلامة. ثم دخل الملك الغيور أبو الملكة بدور على بنته وسلَّم عليها، وبلَّ شوقه منها، وقعدوا في مدينة الأبنوس شهرًا كاملًا، ثم سافر الملك الغيور بابنته إلى بلده. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 249

 

حكاية علاء الدين أبي الشامات

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك الغيور سافر بابنته وجماعته إلى بلده، وأخذ الأمجد معهم، فلما استقر في مملكته أجلس الأمجد يحكم مكان جده، وأما قمر الزمان فإنه أجلس ابنه الأسعد يحكم مكانه في مدينة جده أرمانوس، ورضي به جدُّه، ثم تجهز قمر الزمان وسافر مع أبيه الملك شهرمان إلى أن وصل إلى جزائر خالدان، فزُيِّنت له المدينة واستمرت البشائر تدق شهرًا كاملًا، وجلس قمر الزمان يحكم مكان أبيه إلى أن أتاهم هادم اللذات ومفرِّق الجماعات، والله أعلم.

فقال الملك: يا شهرزاد، إن هذه الحكاية عجيبة جدًّا. قالت: أيها الملك، ليست هذه الحكاية بأعجب من حكاية علاء الدين أبي الشامات. قال: وما حكاية علاء الدين أبي الشامات؟

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أنه كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان رجل تاجر بمصر يقال له شمس الدين، وكان من أحسن التجار، وأصدقهم مقالًا، وهو صاحب خدم وحشم، وعبيد وجوارٍ ومماليك ومال كثير، وكان شاه بندر التجار بمصر، وكان معه زوجة يحبها وتحبه، إلا أنه عاش معها أربعين عامًا ولم يُرزَق منها ببنت ولا ولد، فقعد يومًا من الأيام في دكانه فرأى التجار وكل واحد منهم له ولد أو ولدان أو أكثر، وهم قاعدون في دكاكين مثل آبائهم، وكان ذلك اليوم يوم جمعة، فدخل ذلك التاجر الحمام واغتسل غسل الجمعة، ولما طلع أخذ مرآة المزين فرأى وجهه فيها، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله. ثم نظر إلى لحيته فرأى البياض غطَّى السواد، وتذكر أن الشيب نذير الموت، وكانت زوجته تعرف ميعاد مجيئه، فتغتسل وتصلح شأنها له، فدخل عليها، فقالت له: مساء الخير. فقال لها: أنا ما رأيت الخير. وكانت قالت للجارية: هاتي سفرة العشاء. فأحضرت الطعام وقالت له: تعشَّ يا سيدي. فقال لها: ما آكل شيئًا. وأعرض عن السفرة بوجهه، فقالت له: ما سبب ذلك؟ وأي شيء أحزنك؟ فقال لها: أنتِ سبب حزني. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

﴿اللیلة 250

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن شمس الدين قال لزوجته: أنتِ سبب حزني. فقالت له: لأي شيء؟ فقال لها: إني لما فتحت دكاني في هذا اليوم، رأيت كل واحد من التجار له ولد أو ولدان أو أكثر، وهم قاعدون في الدكاكين مثل آبائهم، فقلت لنفسي: إن الذي أخذ أباك ما يخليك، وليلةَ دخلتُ بكِ حلَّفتِني أنني ما أتزوج عليك، ولا أتسرى بجارية حبشية ولا رومية ولا غير ذلك من الجواري، ولا أبيت ليلة بعيدًا عنك، والحال أنك عاقر، والنكاح فيك كالنحت في الحجر. فقالت: اسم الله عليَّ، إن العاقة منك ما هي مني؛ لأن بيضك رائق. فقال لها: وما شأن الذي بيضه رائق؟ فقالت: هو الذي لا يحبل النساء، ولا يجيء بأولاد. فقال لها: وأين معكِّر البيض وأنا أشتريه لعله يعكِّر بيضي؟ فقالت له: فتِّش عليه عند العطارين.

فبات التاجر وأصبح متندمًا حيث عاير زوجته، وندمت هي حيث عايرته. ثم توجَّهَ إلى السوق فوجد رجلًا عطارًا، فقال له: السلام عليكم. فردَّ عليه السلام، فقال له: هل يوجد عندك معكِّر البيض؟ فقال له: كان عندي وجبر، ولكن اسأل جاري. فدار يسأل حتى سأل جميع العطارين، وهم يضحكون عليه، وبعد ذلك رجع إلى دكانه وقعد، فكان في السوق نقيب الدلالين، وكان رجلًا حشاشًا يتعاطى الأفيون والبرش، ويستعمل الحشيش الأخضر، وكان ذلك النقيب يُسمَّى الشيخ محمد سمسم، وكان فقير الحال، وكان من عادته أن يصبِّح على التاجر في كل يوم، فجاءه على عادته وقال له: السلام عليكم. فردَّ عليه السلام وهو مغتاظ، فقال له: يا سيدي ما لك مغتاظًا؟ فحكى له جميع ما جرى بينه وبين زوجته، وقال له: إن لي أربعين سنة وأنا متزوج بها، ولم تحبل مني بولد ولا ببنت، وقالوا لي: سبب عدم حبلها منك أن بيضك رائق، ففتشت على شيء أعكِّر به بيضي فلم أجده. فقال له: يا سيدي، أنا عندي معكِّر البيض، فما تقول فيمَن يجعل زوجتك تحبل منك بعد هذه الأربعين سنة التي مضت؟ قال له التاجر: إن فعلتَ ذلك فأنا أُحْسِنُ إليك وأُنعِم عليك. فقال له: هاتِ لي دينارًا. فقال له: خذ هذين الدينارين. فأخذهما وقال له: هاتِ هذه السلطانية الصيني. فأعطاه السلطانية فأخذها وتوجَّه إلى بيَّاع الحشيش، وأخذ منه من المكركر الرومي قدر أوقيتين، وأخذ جانبًا من الكبابة الصيني، والقرفة، والقرنفل، والحبهان، والزنجبيل، والفلفل الأبيض، والسقنقور الجبلي، ودق الجميع وغلاها في الزيت الطيب، وأخذ ثلاث أواقي حصى لبان ذكر، وأخذ مقدار قدح من الحبة السوداء ونقعه، وعمل جميع ذلك معجونًا بالعسل النحلي، وحطَّه في السلطانية ورجع بها إلى التاجر وأعطاها له، وقال له: هذا معكِّر البيض، فينبغي أن تأخذ منه على رأس الملوق بعد أن تأكل اللحم الضاني، والحمام البيتي، وتكثر له الحرارات والبهارات، وتتعشى وتشرب السكر المكرر.

فأحضر التاجر جميع ذلك، وأرسله إلى زوجته، وقال لها: اطبخي ذلك طبخًا جيدًا، وخذي معكر البيض، واحفظيه عندك حتى أطلبه. ففعلت ما أمرها به، ووضعت له الطعام فتعشى، ثم إنه طلب السلطانية فأكل منها فأعجبته، فأكل بقيتها وواقَعَ زوجته؛ فعلقت منه تلك الليلة، ففات عليها أول شهر والثاني والثالث ولم ينزل عليها الدم؛ فعلمت أنها حملت، ثم وفت أيام حملها ولحقها الطلق، وقامت الأفراح، فقامت الداية المشقة في الخلاص، ورقته باسمي محمد وعلي، وكبَّرت وأذَّنت في أذنه، ولفته وأعطته لأمه، فأعطته ثديها وأرضعته فشرب وشبع ونام، وأقامت الداية عندهم ثلاثة أيام حتى عملوا الحلاوة ليفرِّقوها في اليوم السابع، ثم رشُّوا ملحه، ودخل التاجر وهنَّأ زوجته بالسلامة، وقال لها: أين وديعة الله؟ فقدَّمت له مولودًا بديع الجمال صُنع المدبر الموجود، وهو ابن سبعة أيام، ولكن الذي ينظره يقول عليه إنه ابن عام، فنظر التاجر في وجهه فرآه بدرًا مشرقًا، وله شامات على الخدين، فقال لها: ما سمَّيتِه؟ فقالت له: لو كان بنتًا كنتُ سمَّيتها، وهذا ولد فلا يسميه إلا أنت.

وكان أهل ذلك الزمن يسمون أولادهم بالفأل، فبينما هم يتشاورون في الاسم، وإذا بواحد يقول: يا سيدي علاء الدين. فقال لها: نسميه بعلاء الدين أبي الشامات. ووكَّل به المراضع والدايات، فشرب اللبن عامين وفطموه، فكبر وانتشى، وعلى الأرض مشى، فلما بلغ من العمر سبع سنين أدخلوه تحت طابق خوفًا عليه من العين، وقال: هذا لا يخرج من الطابق حتى تطلع لحيته. ووكَّل به جارية وعبدًا، فصارت الجارية تهيِّئ له السفرة والعبد يحملها إليه، ثم إنه طهَّره، وعمل له وليمة عظيمة، ثم بعد ذلك أحضر له فقيهًا يعلمه؛ فعلَّمه الخط والقرآن والعلم إلى أن صار ماهرًا وصاحب معرفة. فاتفق أن العبد أوصل إليه السفرة في بعض الأيام ونسي الطابق مفتوحًا، فطلع علاء الدين من الطابق، ودخل على أمه، وكان عندها محضر من أكابر النساء. فبينما النساء يتحدثن مع أمه، وإذا هو داخل عليهن كالمملوك السكران من فرط جماله، فحين رآه النسوة غطَّين وجوههن وقُلن لأمه: الله يجازيكِ يا فلانة، كيف تُدخِلين علينا هذا المملوك الأجنبي؟ أَمَا تعلمين أن الحياء من الإيمان؟ فقالت لهن: سمِّين الله، إن هذا ولدي وثمرة فؤادي، وابن شاه بندر التجار شمس الدين ابن الدادة والقلادة والقشفة واللبابة. فقلن لها: عمرنا ما رأينا لك ولدًا. فقالت: إن أباه خاف عليه من العين، فجعل مرباه في طابق تحت الأرض. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

 

 

 

السابق                                                                     التــــالي←

 

Read our comment Policy to know your rights & responsibilities before actually leaving a comment for this article.

Post a Comment (0)