﴿اللیلة 151﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن الفأرة لما سمعت كلام البرغوث، قالت: إذا كان الكلام
على ما أخبرت، فاطمئن هنا وما عليك بأس، ولا تجد إلا ما يسرُّك، ولا يصيبك إلا ما
يصيبني، وقد بذلت لك مودتي، ولا تندم على ما فاتك من دم التاجر، ولا تأسف على
قُوتِكَ منه، وارضَ بما تيسَّرَ لك من العيش؛ فإن ذلك أسلم لك، وقد سمعت أيها
البرغوث بعض الوعاظ ينشد هذه الأبيات:
سَلَكْتُ
الْقَنَاعَةَ وَالْإِنْفِرَادَ وَقَضَّيْتُ
دَهْرِي بِمَاذَا اتَّفَقْ
بِكِسْرَةِ
خُبْزٍ وَشَرْبَةِ مَاءٍ وَمِلْحٍ جَرِيشٍ وَثَوْبٍ خَلَقْ
فَإِنْ
يَاسَرَ اللهُ فِي عِيشَتِي وَإِلَّا
قَنَعْتُ بِمَا قَدْ رَزَقْ
فلما
سمع البرغوث كلام الفأرة قال: يا أختي، قد سمعت وصيتك، وانقدتُ إلى طاعتك، ولا
قوةَ لي على مخالفتك إلى أن ينقضي العمر بتلك النية الحسنة. فقالت له الفأرة: كفى
بصدق المودة في صلاح النية. ثم انعقد الود بينهما، وكان البرغوث بعد ذلك يأوي إلى
فراش التاجر ولا يتجاوز بلغته، ويأوي بالنهار مع الفأرة في مسكنها، فاتفق أن
التاجر جاء ليلةً إلى منزله بدنانير كثيرة، فجعل يقلِّبها، فلما سمعت الفأرة صوت
الدنانير أطلعت رأسها من جحرها، وجعلت تنظر إليها حتى وضعها التاجر تحت وسادة
ونام، فقالت الفأرة للبرغوث: أَمَا ترى الفرصة والحظ العظيم، فهل عندك حيلة توصلنا
إلى بلوغ الغرض من تلك الدنانير؟ قال البرغوث: إنه لا حسن لمن طلب الغرض إلا أن
يكون قادرًا عليه، فإن كان ضعيفًا عنه وقع فيما يحذره ولم يدرك مراده مع الضعف،
وإن استحكمت قوة المحتال كالعصفور الذي يلتقط الحب فيقع في الشبكة فيقتنصه صائده،
وليس لك قوة على أخذ الدنانير ولا على إخراجها من البيت، وأنا لا طاقة لي على ذلك،
بل ولا على حمل دينار واحد منها، فشأنك والدنانير. فقالت الفأرة: إني أعددت في
جحري هذا سبعين منفذًا أخرج منها متى أردت الخروج، وأعددت للذخائر موضعًا حريزًا،
وإن تحيَّلت أنت على إخراجه من البيت فلست أشك في الظفر إن ساعدني القدر. فقال لها
البرغوث: قد التزمت لك بإخراجه من البيت.
ثم
انطلق البرغوث إلى فراش التاجر ولدغه لدغة قوية لم يكن للتاجر جرى مثلها، ثم تنحى
البرغوث إلى موضع يأمن فيه على نفسه من التاجر، وانتبه التاجر يفتش على البرغوث
فلم يجد شيئًا، فرقد على جنبه الآخر، فلدغه البرغوث لدغة أشد من الأولى، فقلق
التاجر وفارق مضجعه، وخرج إلى مصطبة على باب داره فنام هناك، ولم ينتبه إلى
الصباح، ثم إن الفأرة أقبلت على نقل الدنانير حتى لم تترك منها شيئًا، فلما أصبح
الصباح صار التاجر يتهم الناس ويظن الظنون. ثم قال الثعلب للغراب: واعلم أني لم
أقل لك هذا الكلام أيها الغراب البصير العاقل الخبير، إلا ليصل إليك جزاء إحسانك
إليَّ كما وصل للفأرة جزاء إحسانها إلى البرغوث، فانظر كيف جازاها أحسن المجازاة،
وكافأها أحسن المكافأة. فقال الغراب: إن شاء المحسن يحسن أو لا يحسن، وليس الإحسان
واجبًا لمَن التمس صلةً بقطيعة، وإن أحسنتُ إليك مع كونك عدوي، أكون قد تسبَّبْتُ
في قطيعة نفسي، وأنت أيها الثعلب ذو مكر وخداع، ومَن شيمته المكر والخديعة لا
يُؤمن على عهد، ومَن لا يؤمن على عهد لا أمان له، وقد بلغني من قريب أنك غدرت
بصاحبك الذئب، ومكرت به حتى أهلكته بغدرك وحيلتك، وفعلت به هذه الأمور مع أنه من
جنسك، وقد صحبته مدة مديدة فما أبقيت عليه، فكيف أثق منك بنصيحة؟ وإذا كان هذا
فعلك مع صاحبك الذي من جنسك، فكيف يكون فعلك مع عدوك الذي من غير جنسك؟ وما مثالك
معي إلا مثال الصقر مع ضواري الطير. فقال الثعلب: وما حكاية الصقر مع ضواري الطير؟
فقال الغراب: زعموا أن صقرًا كان جبَّارًا عنيدًا … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ
عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 152﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن الغراب قال: زعموا أن صقرًا كان جبارًا عنيدًا أيام
شبيبته، وكانت سباع البر وسباع الطير تفزع منه، ولا يسلم من شره أحد، وله حكايات
كثيرة في ظلمه وتجبُّره، وكان دأب هذا الصقر الأذى لسائر الطيور، فلما مرت عليه
السنون ضعف وجاع، واشتد جَهده بعد فقد قوته، فأجمع رأيه على أن يأتي مجمع الطير
فيأكل ما يفضل منها، فعند ذلك صار قُوتُه بالحيلة بعد القوة والشدة، وأنت كذلك
أيها الثعلب، إن عدمت قوتك ما عدمت خداعك، ولست أشك في أن ما تطلبه من صحبتي حيلةٌ
على قُوتِك، فلا كنت ممَّن يضع يده في يدك؛ لأن الله أعطاني قوة في جناحي، وحذرًا
في نفسي، وبصرًا في عيني، واعلم أن مَن تشبَّهَ بأقوى منه تعب، وربما هلك، وأنا
أخاف عليك إنْ تشبهت بمَن هو أقوى منك أن يجري لك ما جرى للعصفور. قال الثعلب: وما
جرى للعصفور؟ فبالله عليك أن تخبرني به.
فقال
الغراب: بلغني أن عصفورًا كان طائرًا بمراح غنم، فنظر إلى المراح وإذا بعُقاب كبير
انقضَّ على رميس من صغار أولاد الغنم فاختطفه بمخالبه وطار، فلما رآه العصفور نشر
جناحه وقال: أنا أفعل مثل ما فعل هذا. وأعجبته نفسه وتشبَّه بمَن هو أكبر منه،
فطار لوقته وانقضَّ على كبش سمين له صوف كثير، وقد تلبَّدَ صوفه من رقاده على بوله
وروثه، فصار صوفه مثل البزَّاق؛ فلما انقضَّ على ظهره صفق بجناحَيْه، فاشتبكت
رجلاه في الصوف، فأراد أن يطير فلم يستطع الطيران، وقد حصل كل هذا والراعي ينظر ما
جرى لهما، فرجع إليه الصقر غضبانًا، فقبضه ونتف أجنحته وربط في رجليه خيطًا وأتى
به إلى أولاده ورماه لهم. فقال بعض الأولاد: ما هذا؟ فقال: هذا تشبَّهَ بمَن هو
أعلى منه فهلك. وأنت كذلك أيها الثعلب، أحذرك أن تتشبه بمَن هو أقوى منك فتهلك، هذا
ما عندي من الكلام، واذهب عني بسلام.
فلما
يئس الثعلب من مصادقة الغراب، رجع عن حزنه يئن، وقرع للندامة سنًّا على سن، فلما
سمع الغراب بكاءه وأنَّه، ورأى كآبته وحزنه، قال: أيها الثعلب، ما نابك حتى قرعتَ
نابك؟ قال له الثعلب: إنما قرعت سني لأني رأيتك أخدع مني. ثم إنه ولَّى هاربًا،
ورجع إلى جحره طالبًا.
وهذا
ما كان من حديثهما أيها الملك. فقال الملك: يا شهرزاد، ما أحسن هذه الحكايات! هل
عندك شيء مثلها من الخرافات؟
قالت:
ويُحكَى أن قنفذًا اتخذ مسكنًا بجانب نخلة، وكان الورشان هو وزوجته قد اتخذَا
عشًّا في تلك النخلة، وعاشَا فوقها عيشًا رغدًا، فقال القنفذ في نفسه: إن الورشان
يأكل من ثمر النخلة، وأنا لا أجد إلى ذلك سبيلًا، ولكن لا بد من استعمال الحيلة.
ثم حفر في أسفل النخلة بيتًا واتخذه مسكنًا له ولزوجته، واتخذ جانبه مسجدًا،
وانفرد فيه وأظهَرَ النسكَ والعبادةَ وترْكَ الدنيا، وكان الورشان يراه متعبدًا
مصليًا، فرَقَّ له من شدة زهده، وقال له: كم سنة وأنت هكذا؟ قال: مدة ثلاثين سنة.
قال: ما طعامك؟ قال: ما يسقط من النخلة. قال: ما لباسك؟ قال: شوك أنتفع بخشونته.
فقال: وكيف اخترت مكانك هذا على غيره؟ قال: اخترته على غير طريق لأجل أن أرشد
الضال وأُعلِم الجاهل. فقال له الورشان: كنت أظن أنك على غير هذه الحالة، ولكني
الآن رغبت فيما عندك. فقال القنفذ: إني أخشى أن يكون قولك ضد فعلك، فتكون
كالزرَّاع الذي لما جاء وقت الزرع قصر في بذره وقال: إني أخشى أن يكون أوان الزرع
قد فات؛ فأكون قد أضعتُ المال بسرعة البذر. فلما جاء وقت الحصاد ورأى الناس وهم
يحصدون، ندم على ما فاته من تقصيره ومن تخلُّفه، ومات أسفًا وحزنًا.
فقال
الورشان للقنفذ: وماذا أصنع حتى أتخلص من علائق الدنيا، وأنقطع إلى عبادة ربي؟ قال
له القنفذ: خذ في الاستعداد للمعاد، والقناعة بالكفاف من الزاد. فقال الورشان: كيف
لي بذلك وأنا طائر لا أستطيع أن أتجاوز النخلة التي فيها قوتي، ولو استطعت ذلك ما
عرفت موضعًا أستقر فيه؟ فقال القنفذ: يمكنك أن تنثر من ثمر النخلة ما يكفيك مئونة
عام أنت وزوجتك، وتسكن في وكر تحت النخلة لالتماس حسن إرشادك، ثم مِلْ إلى ما
نثرته من الثمر فانقله جميعه وادَّخره قوتًا للعدم، وإذا فرغتِ الثمار وطال عليك
المطال، صر إلى كفاف من العيش. فقال الورشان: جزاك الله خيرًا حيث ذكَّرتني
بالمعاد، وهديتني إلى الرشاد. ثم تعب الورشان هو وزوجته في طرح الثمر حتى لم يَبْقَ
في النخلة شيء، فوجد القنفذ ما يأكل، وفرح به وملأ مسكنه من الثمر وادَّخره لقوته،
وقال في نفسه: إن الورشان هو وزوجته إذا احتاجَا إلى مئونتهما طلباها مني، وطمعَا
فيما عندي، وركنا إلى تزهُّدي وورعي، فإذا سمعَا نصيحتي ووعظي دنَيَا مني
فأقتنصهما وآكلهما ويخلو لي هذا المكان، وكل ما تساقط من ثمر النخلة يكفيني.
ثم
إن الورشان نزل هو وزوجته من فوق النخلة بعد أن نثرَا ما عليها من الثمر، فوجدَا
القنفذ قد نقل جميع ذلك إلى جحره، فقال له الورشان: أيها القنفذ الصالح والواعظ
الناصح، إنَّا لم نجد للثمر أثرًا، ولا نعرف لقوتنا غيره ثمرًا. فقال: لعله طارت
به الرياح، والإعراض عن الرزق إلى الرازق عين الفلاح؛ فالذي شقَّ الأشداق لا
يتركها بلا أرزاق. وما زال يعظهما بتلك المواعظ ويُظهِر لهما الورعَ بزخرف الملافظ
حتى ركنَا إليه وأقبلَا عليه، ودخلَا باب وكره وأمنَا من مكره، فوثب إلى الباب
وقرع الأنياب، فلما رأى الورشان منه الخديعة لائحة، قال له: أين الليلة من
البارحة؟ أَمَا تعلم أن للمظلومين ناصرًا؟ فإياك والمكر والخديعة؛ لئلا يصيبك ما
أصاب الخداعين الذين مكروا بالتاجر. فقال القنفذ: وكيف ذلك؟ قال: بلغني أن تاجرًا
من مدينة يقال لها «سنده»، كان ذا مال واسع، فشدَّ أحمالًا، وجهز متاعًا، وخرج به
إلى بعض المدن ليبيعه فيها، فتبعه رجلان من المَكَرة، وحملَا شيئًا من مال ومتاع،
وأظهرَا للتاجر أنهما من التجار وسارَا معه، فلما نزلَا أول منزل اتفقَا على المكر
به، وأخذ ما معه، ثم إن كل واحد منهما أضمر المكر لصاحبه، وقال في نفسه: لو مكرت
بصاحبي بعد مكرنا بالتاجر لصفا لي الوقت وأخذت جميع المال. ثم أضمرَا لبعضهما على
نيَّة فاسدة، وأخذ كلٌّ منهما طعامًا وجعل فيه سمًّا وقرَّبه لصاحبه، فقتلَا
بعضهما، وكانا يجلسان مع التاجر ويحدثانه، فلما أبطآ عليه فتَّشَ عليهما ليعرف
خبرهما، فوجدهما ميِّتين، فعلم أنهما كانا محتالين، وأرادَا المكر به، فعاد عليهما
مكرهما، وسَلِم التاجر وأخذ ما كان معهما.
فقال
الملك: نبَّهتِني يا شهرزاد على شيء كنت غافلًا عنه، أفلا تزيديني من هذه الأمثال؟
قالت:
بلغني أيها الملك أن رجلًا كان عنده قرد، وكان ذلك الرجل سارقًا لا يدخل سوقًا من
أسواق المدينة التي هو فيها إلا ويرجع بكسب عظيم، فاتفق أن رجلًا حمل أثوابًا
مقطوعة لبيعها، فذهب بها إلى السوق وصار ينادي عليها فلا يسومه أحد، وكان لا
يعرضها على أحد إلا امتنع من شرائها؛ فاتفق أن السارق الذي معه القرد رأى الشخص
الذي معه الثياب المقطَّعة، وكان قد وضعها في بقجة وجلس يستريح من التعب، فلعب
القرد قدَّامه حتى أشغله بالفرجة عليه، واختلس منه تلك البقجة، ثم أخذ القرد وذهب
إلى مكان خالٍ، وفتح البقجة فرأى تلك الثياب المقطعة، فوضعها في بقجة نفيسة، وذهب
بها إلى سوق آخَر، وعرض البقجة للبيع بما فيها، واشترط ألَّا تُفتَح، ورغب الناس
فيها لقلَّة الثمن، فرآها رجل وأعجبه نفاستها، فاشتراها بهذا الشرط وذهب بها إلى
زوجته، فلما رأت ذلك امرأته قالت: ما هذا؟ قال: متاع نفيس اشتريتُه بدون القيمة
لأبيعه وآخذ فائدته. فقالت: أيها المغبون، أيباع هذا المتاع بأقل من قيمته إلا إذا
كان مسروقًا؟ أَمَا تعلم أن مَن اشترى شيئًا ولم يعاينه كان مخطئًا، وكان مثله مثل
الحايك؟ فقال لها: وكيف كان ذلك؟
فقالت:
بلغني أن حايكًا كان في بعض القرى، وكان يعمل فلا ينال القوت إلا بجهد، فاتفق أن
رجلًا من الأغنياء كان ساكنًا قريبًا منه قد أولم وليمة ودعا الناس إليها، فحضر
الحايك فرأى الناس الذين عليهم الثياب الناعمة يُقدَّم لهم الأطعمة الفاخرة، وصاحب
المنزل يعظِّمهم لما يرى من حسن زيِّهم، فقال في نفسه: لو بدلت تلك الصنعة بصنعة
أخف مئونةً منها وأكثر أجرةً، لَجمعت مالًا كثيرًا، واشتريت ثيابًا فاخرة،
ولَارتفَعَ شأني وعظمتُ في أعين الناس. ثم نظر إلى بعض أهل الملاعب الحاضرين في
الوليمة وقد صعد سورًا شاهقًا، ثم رمى بنفسه إلى الأرض، ونهض قائمًا، فقال في
نفسه: لا بد أن أعمل مثل ما عمل هذا ولا أعجز عنه. ثم صعد إلى السور ورمى نفسه،
فلما وصل إلى الأرض اندقَّت رقبته فمات، وإنما أخبرتك بذلك لئلا يتمكَّن منك الشر
فترغب فيما ليس من شأنك. فقال لها زوجها: ما كل عالم يسلم بعلمه، ولا كل جاهل يعطب
بجهله، وقد رأيت الحاوي الخبير بالأفاعي العالم بها ربما نهشته الحية فقتلته، وقد
يظفر بها الذي لا معرفةَ له بها، ولا علم عنده بأحوالها. ثم خالَفَ زوجته واشترى
المتاع وأخذ في تلك العادة، فصار يشتري من السارقين بدون القيمة إلى أن وقع في
تهمة فهلك فيها. وكان في زمنه عصفور يأتي كل يوم إلى ملك من ملوك الطيور، ولم يزل
غاديًا ورائحًا عنده بحيث كان أول داخل عليه وآخر خارج من عنده، فاتفق أن جماعة من
الطير اجتمعوا في جبل عالٍ من الجبال، فقال بعضهم لبعض: إنا قد كثرنا وكثر
الاختلاف بيننا، ولا بد لنا من ملك ينظر في أمورنا، فتجتمع كلمتنا ويزول الاختلاف
عنَّا. فمرَّ بهم ذلك العصفور، فأشار عليهم بتمليك الطاوس، وهو الملك الذي يتردد
إليه، فاختاروا الطاوس وجعلوه عليهم ملكًا، فأحسن إليهم وجعل ذلك العصفور كاتبه
ووزيره، فكان تارة يترك الملازمة وينظر في الأمور.
ثم
إن العصفور غاب يومًا عن الطاوس فقلق قلقًا عظيمًا، فبينما هو كذلك إذ دخل عليه
العصفور فقال له: ما الذي أخَّرك وأنت أقرب أتباعي إليَّ؟ فقال العصفور: رأيت
أمرًا واشتبه عليَّ فتخوفت منه. فقال له الطاوس: ما الذي رأيت؟ قال العصفور: رأيت
رجلًا معه شبكة قد نصبها عند وكري، وثبَّتَ أوتادها، وبذر في وسطها حبًّا، وقعد
بعيدًا عنها، فجلست أنظر ما يفعل، فبينما أنا كذلك وإذا بكركي هو وزوجته قد ساقهما
القضاء والقدر حتى سقطَا في وسط الشبكة، فصارَا يصرخان، فقام الصياد وأخذهما،
فأزعجني ذلك، وهذا سبب غيابي عنك يا ملك الزمان، وما بقيت أسكن هذا الوكر حذرًا من
الشبكة. فقال له الطاوس: لا ترحل من مكانك؛ لأنه لا ينفع الحذر من القدر. فامتثَلَ
أمره، وقال: سأصبر ولا أرحل طاعةً للملك. ولم يزل العصفور حذرًا على نفسه، وأخذ
الطعام إلى الطاوس فأكل حتى اكتفى، وتناول على الطعام ماء، ثم ذهب العصفور. فبينما
هو في بعض الأيام شاخص، وإذا بعصفورين يقتتلان في الأرض، فقال في نفسه: كيف أكون
وزير الملك وأرى العصافير تقتتل في جواري؟ والله لأصلحن بينهما. ثم ذهب إليهما
ليصلح بينهما، فقلب الصياد الشبكة على الجميع فوقع ذلك العصفور في وسطها، فقام
إليه الصياد وأخذه ودفعه إلى صاحبه، وقال له: استوثق به فإنه سمين لم أرَ أحسن
منه. فقال العصفور في نفسه: قد وقعت فيما كنتُ أخافه، وما كان آمنًا إلا الطاوس،
ولم ينفعني الحذر من نزول القدر، فلا مفرَّ من القضاء لمحاذر، وما أحسن قول
الشاعر:
مَا
لَا يَكُونُ فَلَا يَكُونُ بِحِيلَةٍ أَبَدًا وَمَا هُوَ كَائِنٌ فَيَكُونُ
سَيَكُونُ
مَا هُوَ كَائِنٌ فِي وَقْتِهِ وَأَخُو
الْجَهَالَةِ دَائِمًا مَغْبُونُ
فقال
الملك: يا شهرزاد، زيديني من هذا الحديث. فقالت: الليلة القابلة إن أبقاني الملك
أعزَّه الله. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 153﴾
حكاية علي بن بكار وشمس النهار
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أنه كان في قديم الزمان في خلافة هارون الرشيد، رجل تاجر
له ولد يُسمَّى أبا الحسن علي بن طاهر، وكان كثير المال والنوال، حسن الصورة،
محبوبًا عند كل مَن يراه، وكان يدخل دار الخلافة من غير إذن، ويحبه جميع سراري
الخليفة وجواريه، وكان ينادم الملك وينشد عنده الأشعار، ويحدِّثه بنوادر الأخبار،
إلا أنه كان يبيع ويشتري في سوق التجار، وكان يجلس على دكانه شاب من أولاد ملوك
العجم يقال له علي بن بكار، وكان ذلك الشاب مليح القامة، ظريف الشكل، كامل الصورة،
مورد الخدَّين، مقرون الحاجبين، عذب الكلام، ضاحك السن، يحب البسط والانشراح،
فاتفق أنهما كانا جالسين يتحدثان ويضحكان، وإذا بعشر جوارٍ كأنهن الأقمار، وكلٌّ
منهن ذات حسن وجمال، وقدٍّ واعتدال، وبينهن صبية راكبة بغلة بسرج مزركش له ركاب من
الذهب، وعليها إزار رفيع، وفي وسطها زنَّار من الحرير مطرز بالذهب، كما قال فيها
الشاعر:
لَهَا
بَشَرٌ مِثْلُ الْحَرِيرِ وَمَنْطِقٌ
رَخِيمُ الْحَوَاشِي لَا هُرَاءٌ وَلَا نَذْرُ
وَعَيْنَانِ
قَالَ اللهُ كُونَا فَكَانَتَا فَعُولَانِ
بِالْأَلْبَابِ مَا تَفْعَلُ الْخَمْرُ
فَيَا
حُبَّهَا زِدْنِي جَوًى كُلَّ لَيْلَةٍ
وَيَا سَلْوَةَ الْأَحْبَابِ مَوْعِدُكَ الْحَشْرُ
ولما
وصلوا إلى دكان أبي الحسن نزلت عن البغلة وجلست على دكانه، فسلمت عليه وسلم عليها،
فلما رآها علي بن بكار سلبت عقله وأراد القيام، فقالت له: اجلس مكانك، كيف تذهب
إذا حضرنا؟ هذا ما هو إنصاف. فقال: والله يا سيدتي إني هارب ممَّا رأيتُ، وما أحسن
قول الشاعر:
هِيَ
الشَّمْسُ مَسْكَنُهَا فِي السَّمَا
فَعَزِّ الْفُؤَادَ عَزَاءً جَمِيلَا
فَلَنْ
تَسْتَطِيعَ إِلَيْهَا الصُّعُودَ وَلَنْ
تَسْتَطِيعَ إِلَيْكَ النُّزُولَا
فلما
سمعت ذلك الكلام تبسَّمت، وقالت لأبي الحسن: ما اسم هذا الفتى؟ ومن أين هو؟ فقال
لها: هذا غريب اسمه علي بن بكار ابن ملك العجم، والغريب يجب إكرامه. فقالت له: إذا
جاءتك جاريتي تأتي به عندي. فقال أبو الحسن: على الرأس. ثم قامت وتوجهت إلى حال
سبيلها.
هذا
ما كان من أمرها، وأما ما كان من أمر علي بن بكار، فإنه صار لا يعرف ما يقول، وبعد
ساعة جاءت الجارية إلى أبي الحسن، وقالت له: إن سيدتي تطلبك أنت ورفيقك. فنهض أبو
الحسن وأخذ معه علي بن بكار، وتوجَّها إلى دار هارون الرشيد، فأدخلتهما في مقصورة
وأجلستهما، وإذا بالموائد وُضِعت قدَّامهما، فأكلَا وغسلَا أيديهما، ثم أحضرت لهما
الشراب فسكرَا، ثم أمرتهما بالقيام فقامَا معها وأدخلتهما مقصورةً أخرى مركبة على
أربعة أعمدة، وهي مفروشة بأنواع الفرش، مزيَّنة بأحسن الزينة كأنها من قصور
الجنان، فاندهشا مما عاينا من التحف. فبينما هما يتفرَّجان على هذه الغرائب، وإذا
بعشر جوارٍ أقبلن يتمايلن عجبًا كأنهن الأقمار يدهشن الأبصار ويحيرن الأفكار،
واصطففن كأنهن من حور الجنان، وجاء بعدهن عشر جوارٍ أخرى وبأيديهن العيدان وآلات
اللهو والطرب، فسلمن عليهما وجعلن يضربن العيدان وينشدن الأشعار، وكل واحدة منهن
فتنة للعباد. وأقبل بعدهن عشر جوارٍ مثلهن كواعب أتراب، بعيون سود، وخدود حمر،
مقرونات الحواجب، ناعسات الأطراف، فتنة للعابدين ونزهة للناظرين، وعليهن من أنواع
الحرير الملون ما يحير العقول، ثم وقفن بالباب وجاء من بعدهن عشر جوارٍ أحسن منهن
وعليهن الملبوس الفاخر، فوقفن بالباب أيضًا؛ ثم خرج من الباب عشرون جارية، وبينهن
جارية اسمها شمس النهار كأنها القمر بين النجوم، وهي متوشحة بفاضل شعرها، وعليها
لباس أزرق وإزار من الحرير بطرازات من الذهب، وفي وسطها حياصة مرصَّعة بأنواع الجواهر،
ولم تزل تتبختر حتى جلست على السرير، فلما رآها علي بن بكار أنشد هذه الأشعار:
إِنَّ
هَذِي هِيَ ابْتِدَاءُ سَقَامِي وَتَمَادِي
وَجْدِي وَطُولُ غَرَامِي
عِنْدَهَا
قَدْ رَأَيْتُ نَفْسِيَ ذَابَتْ مِنْ
وُلُوعِي بِهَا وَبَرْيِ عِظَامِي
فلما
فرغ من شعره قال لأبي الحسن: لو عملت معي خيرًا كنتَ أخبرتني بهذه الأمور قبل
الدخول هنا؛ لأجل أن أوطن نفسي وأصبِّرها على ما أصابها. ثم بكى واشتكى، فقال له
أبو الحسن: يا أخي، أنا ما أردت لك إلا الخير، ولكن خشيت أن أُعلِمك بذلك، فيلحقك
من الوجد ما يصدك عن لقائها، ويحيل بينك وبين وصالها، فطِبْ نفسًا وقرَّ عينًا،
فهي بسعدك مقبلة، وللقائك متوصلة. فقال علي بن بكار: ما اسم هذه الصبية؟ فقال له
أبو الحسن: تُسمَّى شمس النهار، وهي من محاظي أمير المؤمنين هارون الرشيد، وهذا
المكان قصر الخلافة. ثم إن شمس النهار جلست وتأمَّلَتْ محاسن علي بن بكار،
وتأمَّلَ هو حسنها، واشتغلَا بحب بعضهما، وقد أمرت الجواري أن تجلس كل واحدة منهن
في مكانها على سرير، فجلست كل واحدة قبال طاقة، وأمرتهن بالغناء، فتسلمت واحدة
منهن العود، وأنشدت تقول:
أَعِدِ
الرِّسَالَةَ ثَانِيَةْ وَخُذِ الْجَوَابَ
عَلَانِيَهْ
وَإِلَيْكَ
يَا مَلِكَ الْمِلَاحِ وَقَفْتُ
أَشْكُو حَالِيَهْ
مَوْلَايَ
يَا قَلْبِي الْعَزِيــزَ وَيَا
حَيَاتِي الْغَالِيَهْ
أَنْعِمْ
عَلَيَّ بِقُبْلَةٍ هِبَةً وَإِلَّا
عَارِيَهْ
وَأَرُدُّهَا
لَكَ لَا عُدِمْــتَ بِعَيْنِهَا
وَكَمَا هِيَهْ
وَإِذَا
أَرَدْتَ زِيَادَةً خُذْهَا
وَنَفْسُكَ رَاضِيَهْ
يَا
مُلْبِسِي ثَوْبَ الضَّنَى يُهْنِيكَ
ثَوْبُ الْعَافِيَهْ
فطرب
علي بن بكار وقال لها: زيديني من مثل هذا الشعر. فحركت الأوتار، وأنشدت هذه الأشعار:
مِنْ
كَثْرَةِ الْبُعْدِ يَا حَبِيبَتِي عَلَّمْتُ
طُولَ الْبُكَا جُفُونِي
يَا
حَظَّ عَيْنِي وَيَا مُنَاهَا وَمُنْتَهَى
غَايَتِي وَدِينِي
إِرْثِي
لِمَنْ طَرْفُهُ غَرِيقٌ فِي
عَبْرَةِ الْوَالِهِ الْحَزِينِ
فلما
فرغت من شعرها قالت شمس النهار لجارية غيرها: أنشدي. فأطربت بالنغمات، وأنشدت هذه
الأبيات:
سَكِرْتُ
مِنْ لَحْظِهِ لَا مِنْ مُدَامَتِهِ
وَمَالَ بِالنَّوْمِ عَنْ عَيْنِي تَمَايُلُهُ
فَمَا
السُّلَافُ سَلَتْنِي بَلْ سَوَالِفُهُ
وَمَا الشَّمُولُ شَلَتْنِي بَلْ شَمَائِلُهُ
لَوَى
بِعَزْمِيَ أَصْدَاغٌ لُوِينَ لَهُ وَغَالَ
عَقْلِي بِمَا تَحْوِي غَلَائِلُهُ
فلما
سمعت شمس النهار إنشاد الجارية، تنهدت وأعجبها الشعر، ثم أمرت جارية أخرى أن تغني،
فأنشدت هذه الأبيات:
وَجْهٌ
لِمِصْبَاحِ السَّمَاءِ مُبَاهِ يَبْدُو
الشَّبَابُ عَلَيْهِ رَشْحُ مِيَاهِ
رَقَمَ
الْعِذَارُ غَلَالَتَيْهِ بِأَحْرُفٍ
مَعْنَى الْهَوَى فِي طَيِّهَا مُتَنَاهِ
نَادَى
عَلَيْهِ الْحُسْنُ حِينَ لَقِيتَهُ
هَذَا الْمُنَمْنَمُ فِي طُرَازِ اللهِ
فلما
فرغت من شعرها، قال علي بن بكار لجارية قريبة منه: أنشدي أنت أيتها الجارية. فأخذت
العود، وأنشدت هذه الأبيات:
زَمَنُ
الْوِصَالِ يَضِيقُ عَنْ هَذَا
التَّمَادِي وَالدَّلَالْ
كَمْ
مِنْ صُدُودٍ مُتْلِفٍ مَا هَكَذَا
أَهْلُ الْجَمَالْ
فَاسْتَغْنِمُوا
وَقْتَ السُّعُودِ بِطِيبِ سَاعَاتِ
الْوِصَالْ
فلما
فرغت من شعرها تنهَّد علي بن بكار، وأرسل دموعه الغزار، فلما رأته شمس النهار قد
بكى وأنَّ وأشتكى، أحرقها الوَجْد والغرام، وأتلفها الوله والهيام، فقامت من فوق
السرير، وجاءت إلى باب القبة، فقام علي بن بكار وتلقَّاها وتعانَقَا ووقعا مغشيًّا
عليهما في باب القبة، فقام الجواري إليهما، وحملنهما وأدخلنهما القبة، ورششن
عليهما ماء الورد، فلما أفاقا لم يجدَا أبا الحسن، وكان قد اختفى في جانب سرير،
فقالت الصبية: أين أبو الحسن؟ فظهر لها من جانب السرير، فسلمت عليه وقالت: أسأل
الله أن يقدرني على مكافأتك يا صاحب المعروف. ثم أقبلت على علي بن بكار وقالت له:
يا سيدي، ما بلغ بك الهوى إلى غاية إلا وعندي أمثالها، وليس لنا إلا الصبر على ما
أصابنا. فقال علي بن بكار: والله يا سيدتي، جمعُ شملي بك يطيب، ولا ينطفئ إليك ما
عندي من اللهيب، ولا يذهب ما تمكن من حبك في قلبي إلا بذهاب روحي. ثم بكى فنزلت
دموعه على خده كأنها المطر، فلما رأته شمس النهار يبكي بكت لبكائه، فقال أبو
الحسن: والله إني عجبتُ من أمركما، واحترتُ في شأنكما، فإن حالكما عجيب، وأمركما
غريب، هذا البكاء وأنتما مجتمعان، فكيف تكون الحال بعد انفصالكما؟ ثم قال: هذا ليس
وقت حزن وبكاء، بل هذا وقت سرور وانشراح. فأشارت شمس النهار إلى جارية، فقامت
وعادت ومعها وصائف حاملات مائدة صحافها من الفضة، وفيها أنواع الطعام، ثم وضعت
المائدة قدَّامهم، وصارت شمس النهار تأكل وتلقِّم علي بن بكار حتى اكتفوا، ثم
رُفِعت المائدة وغسلوا أيديهم، وجاءتهم المباخر بأنواع العود، وجاءت القماقم بماء
الورد، فتبخروا وتطيَّبوا، وقُدِّمت لهم أطباق من الذهب المنقوش فيها من أنواع
الشراب والفواكه والنقل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، ثم جاءت لهم بطشت من العقيق
ملآن من المدام، فاختارت شمس النهار عشر وصائف أوقفتهن عندها، وعشر جوار من
المغنيات، وصرفت باقي الجواري إلى أماكنهن، وأمرت بعض الحاضرات من الجواري أن
يضربن بالعود، ففعلن ما أمرت به، وأنشدت واحدة منهن:
بِنَفْسِيَ
مَنْ رَدَّ التَّحِيةَ ضَاحِكًا فَجَدَّدَ
بَعْدَ الْيَأْسِ فِي الْوَصْلِ مَطْمَعِي
لَقَدْ
أَبْرَزَتْ أَيْدِي الْغَرَامِ سَرَائِرِي
وَأَظْهَرْنَ لِلْعُذَّالِ مَا بَيْنَ أَضْلُعِي
وَحَالَتْ
دُمُوعُ الْعَيْنِ بَيْنِي وَبَيْنَهُ
كَأَنَّ دُمُوعَ الْعَيْنِ تَعْشَقُهُ مَعِي
فلما
فرغت من شعرها قامت شمس النهار وملأت الكأس وشربته، ثم ملأته وأعطته لعلي بن بكار.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 154﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن شمس النهار ملأت الكأس وأعطته لعلي بن بكار، ثم أمرت
جارية أن تغني، فأنشدت هذين البيتين:
تَشَابَهَ
دَمْعِي إِذْ جَرَى وَمُدَامَتِي فَمِنْ
مِثْلِ مَا فِي الْكَأْسِ عَيْنِي تَسْكُبُ
فَوَاللهِ
لَا أَدْرِي أَبِالْخَمْرِ أَسْبَلَتْ
جُفُونِي أَمْ مِنْ أَدْمُعِي كُنْتُ أَشْرَبُ
فلما
فرغت من شعرها، شرب علي بن بكار كأسه، ورده إلى شمس النهار فملأته وناولته لأبي
الحسن فشربه، ثم أخذت العود وقالت: لا يغني على قدحي غيري. ثم شدَّت الأوتار،
وأنشدت هذه الأشعار:
غَرَائِبُ
الدَّمْعِ فِي خَدَّيْهِ تَقْتُلُهُ
وَجْدًا وَنَارُ الْهَوَى فِي صَدْرِهِ تَقِدُ
يَبْكِي
مِنَ الْقُرْبِ خَوْفًا مِنْ تَبَاعُدِهِمْ
فَالدَّمْعُ إِنْ قَرُبُوا جَارٍ وَإِنْ بَعَدُوا
وقول
الشاعر:
نَتَفَدَّاكَ
سَاقِيًا قَدْ كَسَاكَ الْــحُسْنِ
مِنْ فَرْقِكَ الْمُضِيءِ لِسَاقِكْ
تُشْرِقُ
الشَّمْسُ مِنْ يَدَيْكَ وَمِنْ فِيــكَ
الثُّرَيَّا وَالْبَدْرُ مِنْ أَطْوَاقِكْ
إِنَّ
أَقْدَاحَكَ الَّتِي تَرَكَتْنِي غَيْرَ
صَاحٍ تُدَارُ مِنْ أَحْدَاقِكْ
أَوَلَيْسَ
الْعَجِيبُ كَوْنَكَ بَدْرًا كَامِلًا
وَالْمَحَاقُ فِي عُشَّاقِكْ
أَإِلَهٌ
أَنْتَ إِذْ تُمِيتُ وَتُحْيِي بِتَلَاقِيكَ
مَنْ تَشَا وَفِرَاقِكْ
خَلَقَ
اللهُ مِنْ خَلِيقَتِكَ الْحُسْــنَ
وَطِيبَ النَّسِيمِ مِنْ أَخْلَاقِكْ
لَسْتَ
مِنْ هَذِهِ الْبَرِيَّة بَلْ أَنْــتَ
مَلِيكٌ مُتَوَّجٌ مِنْ خَلَاقِكْ
فلما
سمع علي بن بكار وأبو الحسن والحاضرون شِعر شمس النهار، كادوا أن يطيروا من الطرب،
ولعبوا وضحكوا؛ فبينما هم على هذا الحال، وإذا بجارية أقبلت وهي ترتعد من الخوف،
وقالت: يا سيدتي قد وصل أمير المؤمنين، وها هو بالباب، ومعه عفيف ومسرور وغيرهما.
فلما سمعوا كلام الجارية كادوا أن يهلكوا من الخوف، فضحكت شمس النهار وقالت: لا
تخافوا. ثم قالت للجارية: ردي عليهم الجواب بقدر ما نتحوَّل من هذا المكان. ثم
إنها أمرت بغلق باب القبة، وإرخاء الستور على أبوابها وهم فيها، وأغلقت باب
القاعة، ثم خرجت إلى البستان، وجلست على سريرها، وأمرت جاريةً أن تكبس رجليها،
وأمرت بقية الجواري أن يمضين إلى أماكنهن، وأمرت الجارية أن تدع الباب مفتوحًا
ليدخل الخليفة، فدخل مسرور ومَن معه، وكانوا عشرين وبأيديهم السيوف، فسلَّموا على
شمس النهار، فقالت لهم: لأي شيء جئتم؟ فقالوا: إن أمير المؤمنين يسلِّم عليك، وقد
استوحش لرؤيتك، ويخبرك أنه كان عنده اليوم سرور وحظ زائد، وأحب أن يكون ختام
السرور بوجودك في هذه الساعة، فهل تأتين عنده أو يأتي عندك؟ فقامت وقبَّلت الأرض،
وقالت: سمعًا وطاعة لأمر أمير المؤمنين. ثم أمرت بإحضار القهرمانات والجواري
فحضرن، وأظهرت لهن أنها مقبلة على ما أمر به الخليفة، وكان المكان كاملًا في جميع
أموره، ثم قالت للخدام: امضوا إلى أمير المؤمنين، وأخبروه أنني في انتظاره بعد
قليلٍ إلى أن أهيِّئ له مكانًا بالفرش والأمتعة. فمضى الخدام مسرعين إلى أمير
المؤمنين، ثم إن شمس النهار قلعت ودخلت إلى معشوقها علي بن بكار، وضمَّته إلى
صدرها وودعته، فبكى بكاءً شديدًا، وقال: يا سيدتي، هذا الوداع متِّعيني به لعله
يكون على تلف نفسي وهلاك روحي في هواك، ولكن أسأل الله أن يرزقني الصبر على ما
بلاني به من محبتي. فقالت له شمس النهار: والله ما يصير في التلف إلا أنا؛ فإنك قد
تخرج إلى السوق وتجتمع بمن يسلِّيك فتكون مصونًا، وغرامك مكنونًا، وأما أنا فسوف
أقع في البلاء، خصوصًا وقد وعدت الخليفة بميعاد، فربما يلحقني من ذلك عظيم الخطر
بسبب شوقي إليك، وحبي لك، وتعشُّقي فيك، وتأسُّفي على مفارقتك، فبأي لسان أغني؟
وبأي قلب أحضر عند الخليفة؟ وبأي كلام أنادم أمير المؤمنين؟ وبأي نظر أنظر إلى
مكانٍ ما أنت فيه؟ وكيف أكون في حضرةٍ لم تكن بها؟ وبأي ذوق أشرب مدامًا ما أنت
حاضره؟ فقال لها أبو الحسن: لا تتحيري واصبري، ولا تغفلي عن منادمة أمير المؤمنين
هذه الليلة، ولا تريه تهاونًا.
فبينما
هم في الكلام، وإذا بجارية قدمت وقالت: يا سيدتي، جاء غلمان أمير المؤمنين. فنهضت
قائمة، وقالت للجارية: خذي أبا الحسن ورفيقه، واقصدي بهما أعلى الروشن المطل على
البستان، ودعيهما هناك إلى الظلام، ثم تحيَّلي في خروجهما. فأخذتهما الجارية
وأطلعتهما في الروشن، وأغلقت الباب عليهما، ومضت إلى حال سبيلها، وصارَا ينظران
إلى البستان، وإذا بالخليفة قدم وقدَّامه نحو المائة خادم بأيديهم السيوف، وحواليه
عشرون جارية كأنهن الأقمار، وعليهن أفخر ما يكون من الملبوس، وعلى رأس كل واحدة
تاج مكلل بالجواهر واليواقيت، وفي يد كل واحدة شمعة موقودة، والخليفة يمشي بينهن،
وهن محيطات به من كل ناحية، ومسرور وعفيف ووصيف قدَّامه، وهو يتمايل بينهم. فقامت
له شمس النهار وجميع مَن عندها من الجواري، ولاقينه من باب البستان، وقبَّلن الأرض
بين يديه، ولم يزلن سائرات أمامه إلى أن جلس على السرير، والذين في البستان من
الجواري والخدم وقفوا حوله والشموع موقودة، والآلات تضرب إلى أن أمرهم بالانصراف
والجلوس على الأسرَّة، فجلست شمس النهار على سرير بجانب سرير الخليفة، وصارت
تحدثه؛ كل ذلك وأبو الحسن وعلي بن بكار ينظران ويسمعان، والخليفة لم يرهما.
ثم
إن الخليفة صار يلعب مع شمس النهار، وأمر بفتح القبة ففُتِحت، وشرعوا طيقانها،
وأوقدوا الشموع حتى صار المكان وقت الظلام كالنهار، ثم إن الخدم صاروا ينقلون آلات
المشروب، فقال أبو الحسن: إن هذه الآلات والمشروب والتحف ما رأيت مثلها، وهذا شيء
من أصناف الجواهر ما سمعت بمثله، وقد خُيِّلَ لي أنني في المنام، وقد اندهش عقلي،
وخفق قلبي. وأما علي بن بكار فإنه لما فارقته شمس النهار لم يزل مطروحًا على الأرض
من شدة العشق، فلما أفاق صار ينظر إلى هذه الفعال التي لا يوجد مثلها، فقال لأبي
الحسن: أخي، أخشى أن ينظرنا الخليفة أو يعلم حالنا، وأكثر خوفي عليك، وأما أنا
فإني أعلم أن نفسي من الهالكين، وما سبب موتي إلا العشق والغرام، وفرط الوَجْد
والهيام، ونرجو من الله الخلاص مما بُلِينا به. ولم يزل علي بن بكار وأبو الحسن
ينظران من الروشن إلى الخليفة وما هو فيه، حتى تكاملت الحضرة بين يدي الخليفة، ثم
إن الخليفة التفت إلى جاريةٍ من الجواري وقال: هاتي ما عندك يا غرام من السماع
المطرب. فأطربت بالنغمات، وأنشدت هذه الأبيات:
وَمَا
وَجْدُ أَعْرَابِيَّةٍ بَانَ أَهْلُهَا
فَحَنَّتْ إِلَى بَانِ الْحِجَازِ وَرَنْدِهِ
إِذَا
آنْسَتْ رَكْبًا تَكَفَّلَ شَوْقُهَا
بِنَارِ قِرَاهُ وَالدُّمُوعُ بِوِرْدِهِ
بِأَعْظَمَ
مِنْ وَجْدِي بِحُبِّي وَإِنَّمَا يَرَى
أَنَّنِي أَذْنَبْتُ ذَنْبًا بِوُدِّهِ
فلما
سمعت شمس النهار هذا الشعر وقعت مغشيًّا عليها من فوق الكرسي الذي كانت عليه،
وغابت عن الوجود، فقام الجواري واحتملنها، فلما نظر إليها علي بن بكار من الروشن
وقع مغشيًّا عليه، فقال أبو الحسن: إن القضاء قسم الغرام بينكما بالسوية. فبينما
هما يتحدثان وإذا بالجارية التي أطلعتهما الروشن جاءتهما وقالت: يا أبا الحسن،
انهض أنت ورفيقك وانزلا، فقد ضاقت علينا الدنيا، وأنا خائفة أن يظهر أمرنا، فقوما
في هذه الساعة وإلا متنا. فقال أبو الحسن: فكيف ينهض هذا الغلام معي ولا قدرةَ له
على النهوض؟ فصارت الجارية ترش ماء الورد على وجهه حتى أفاق، فحمله أبو الحسن هو
والجارية ونزلَا به من الروشن، ومشيَا قليلًا، ثم فتحت الجارية بابًا صغيرًا من
حديد، وأخرجت أبا الحسن هو وعلي بن بكار على مصطبة، ثم صفَّقت الجارية بيديها،
فجاء زورق فيه إنسان يجدف، فأطلعتهما الجارية في الزورق، وقالت للذي في الزورق:
أطلعهما في ذلك البر. فلما نزلا في الزورق وفارقا البستان، نظر علي بن بكار إلى
القبة والبستان، وودَّعهما بهذين البيتين:
مَدَدْتُ
إِلَى التَّوْدِيعِ كَفًّا ضَعِيفَةً
وَأُخْرَى عَلَى الرَّمْضَاءِ تَحْتَ فُؤَادِي
فَلَا
كَانَ هَذَا آخِرَ الْعَهْدِ بَيْنَنَا
وَلَا كَانَ هَذَا الزَّادُ آخِرَ زَادِي
ثم
إن الجارية قالت للملاح: أسرع بهما. فصار يجدف لأجل السرعة والجارية معهم. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 155﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الملاح صار يجدف لأجل السرعة والجارية معهم، إلى أن
قطعوا ذلك الجانب، وعدُّوا إلى البر الثاني، ثم انصرفت الجارية وودعتهما، وطلعا
إلى البر، وقالت لهما: كان قصدي ألَّا أفارقكما لكنني لا أقدر أن أسير إلى مكان
غير هذا الموضع. ثم إن الجارية عادت، وصار علي بن بكار مطروحًا بين يدي أبي الحسن
لا يستطيع النهوض، فقال له أبو الحسن: إن هذا المكان غير أمين، ونخشى على أنفسنا
من التلف في هذا المكان بسبب اللصوص وأولاد الحرام. فقام علي بن بكار يتمشى قليلًا
وهو لا يستطيع المشي، وكان أبو الحسن له في ذلك الجانب أصدقاء، فقصد مَن يثق به
ويركن إليه منهم، فدقَّ بابه فخرج إليه مسرعًا، فلما رآهما رحَّبَ بهما، ودخل بهما
إلى منزله، وأجلسهما وتحدث معهما، وسألهما أين كانا. فقال أبو الحسن: قد خرجنا في
هذا الوقت، وأحوجنا إلى هذا الأمر إنسان عاملته في دراهم، وبلغني أنه يريد السفر
بمالي، فخرجت في هذه الليلة وقصدته واستأنست برفيقي هذا علي بن بكار، وجئنا لعلنا
ننظره فتوارى منَّا ولم نره، وعدنا بلا شيء، وشقَّ علينا العود في هذا الليل، ولم
نرَ لنا محلًّا غير محلك، فجئنا إليك على عوائدك الجميلة. فرحَّب بهما، واجتهد في
إكرامهما، وأقاما عنده بقية ليلتهما.
فلما
أصبح الصباح خرجَا من عنده، ولم يزالا يمشيان حتى وصلا إلى المدينة ودخلاها وجازا
على بيت أبي الحسن، فحلف على صاحبه علي بن بكار، وأدخله بيته فاضطجعا على الفراش
قليلًا، ثم أفاقا، فأمر أبو الحسن غلمانه أن يفرشوا البيت فرشًا فاخرًا ففعلوا، ثم
إن أبا الحسن قال في نفسه: لا بد أن أؤانس هذا الغلام وأسليه عمَّا هو فيه، فإني
أدرى بأمره. ثم إن علي بن بكار لما أفاق استدعى بماء، فحضروا له بالماء، فقام
وتوضأ وصلى ما فاته من الفروض في يومه وليلته، وصار يسلي نفسه بالكلام، فلما رأى
منه ذلك أبو الحسن تقدم إليه وقال: يا سيدي علي، الأليق بما أنت فيه أن تقيم عندي
هذه الليلة لينشرح صدرك، وينفرج ما بك من كرب الشوق، وتتلاهى معنا. فقال علي بن
بكار: افعل يا أخي ما بدا لك، فإني على كل حال غير ناجٍ مما أصابني، فاصنع ما أنت
صانع. فقام أبو الحسن واستدعى غلمانه، وأحضر أصحابه، وأرسل إلى أرباب المغاني
والآلات، فحضروا وأقاموا على أكل وشرب وانشراح باقيَ اليوم إلى المساء، ثم أوقدوا
الشموع، ودارت بينهم كئوس المنادمة، وطاب لهم الوقت، فأخذت المغنية العود وجعلت
تقول:
رُمِيتُ
مِنَ الزَّمَانِ بِسَهْمِ لَحْظٍ
فَأَصْمَانِي وَفَارَقْتُ الْحَبَايِبْ
وَعَانَدَنِي
الزَّمَانُ وَقَلَّ صَبْرِي
وَإِنِّي قَبْلَ هَذَا كُنْتُ حَاسِبْ
فلما
سمع علي بن بكار كلامَ المغنية خرَّ مغشيًّا عليه، ولم يزل في غشيته إلى أن طلع
الفجر ويئس منه أبو الحسن، ولما طلع النهار أفاق وطلب الذهاب إلى بيته، فلم يمنعه
أبو الحسن خوفًا من عاقبة أمره، فأتاه غلمانه ببغلة وأركبوه، وسار معه أبو الحسن
إلى أن أدخله منزله. فلما اطمأن في بيته حمد الله أبو الحسن على خلاصه من هذه
الورطة، وصار يسليه، وهو لا يتمالك نفسه من شدة الغرام، ثم إن أبا الحسن ودَّعه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 156﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن أبا الحسن ودَّعه، فقال له علي بن بكار: يا أخي، لا
تقطع عني الأخبار. فقال: سمعًا وطاعة. ثم إن أبا الحسن قام من عنده، وأتى دكانه
وفتحها، وصار يرتقب خبرًا من الصبية فلم يأته أحدٌ بخبر، فبات تلك الليلة في داره،
فلما أصبح الصباح، قام إلى أن أتى دار علي بن بكار ودخل عليه، فوجده ملقًى على
فراشه، وأصحابه حوله، والحكماء عنده، وكل واحد يصف له شيئًا ويجسُّون يده، فلما
دخل أبو الحسن ورآه، تبسَّمَ، ثم إن أبا الحسن سلَّم عليه وسأله عن حاله وجلس عنده
حتى خرج الناس، فقال له: ما هذه الحال؟ فقال علي بن بكار: قد شاع خبري أني مريض
وتسامع بذلك أصحابي، وليس لي قوة أستعين بها على القيام والمشي حتى أكذِّب مَن
جعلني ضعيفًا، ولم أزل ملقًى مكاني كما تراني، وقد أتى أصحابي إلى زيارتي. يا أخي،
هل رأيت الجارية أو سمعت بخبر من عندها؟ فقال: ما جاءتني من يوم فارقتنا على شاطئ
الدجلة. ثم قال أبو الحسن: يا أخي، احذر الفضيحة وتجنَّبْ هذا البكاء. فقال علي بن
بكار: يا أخي، لا أملك نفسي. ثم صعَّد الزفرات، وأنشد هذه الأبيات:
نَالَتْ
عَلَى يَدِهَا مَا لَمْ تَنَلْهُ يَدِي
نَقْشٌ عَلَى مِعْصَمٍ أَوْهَتْ بِهِ جَلَدِي
خَافَتْ
عَلَى يَدِهَا مِنْ نَبْلِ مُقْلَتِهَا
فَأَلْبَسَتْ يَدَهَا دِرْعًا مِنَ الزَّرَدِ
جَسَّ
الطَّبِيبُ يَدِي جَهْلًا فَقُلْتُ لَهُ
إِنَّ التَّأَلُّمَ فِي قَلْبِي فَخَلِّ يَدِي
قَالَتْ
لِطَيْفِ خَيَالٍ زَارَنِي وَمَضَى
بِاللهِ صِفْهُ وَلَا تَنْقِصْ وَلَا تَزِدِ
فَقَالَ
خَلَّفْتُهُ لَوْ مَاتَ مِنْ ظَمَأٍ
وَقُلْتُ قِفْ عَنْ وُرُودِ الْمَاءِ لَمْ يَرِدِ
فَاسْتَمْطَرَتْ
لُؤْلُؤًا مِنْ نَرْجَسٍ وَسَقَتْ
وَرْدًا وَعَضَّتْ عَلَى الْعُنَّابِ بِالْبَرَدِ
فلما
فرغ من شعره قال: قد بُلِيت بمصيبة كنتُ في أمن منها، وليس لي أعظم راحة من الموت.
فقال له أبو الحسن: اصبر لعل الله يشفيك. ثم نزل أبو الحسن من عنده وتوجَّه إلى
دكانه وفتحها، فما جلس غير قليل حتى أقبلت إليه الجارية وسلَّمت، فردَّ عليها
السلام، ونظر إليها فوجدها خافقة القلب يظهر عليها أثر الكآبة، فقال لها: أهلًا
وسهلًا، كيف حال شمس النهار؟ فقالت: سوف أخبرك بحالها، كيف حال علي بن بكار؟
فأخبرها أبو الحسن بجميع ما كان من أمره، فتأسَّفَتْ وتأوَّهَتْ وتعجَّبَتْ من ذلك
الأمر، ثم قالت: إن حال سيدتي أعجب من ذلك، فإنكما لما توجَّهْتُما، رجعت وقلبي
يخفق عليكما، وما صدقت بنجاتكما، فلما رجعتُ وجدتُ سيدتي مطروحة في القبة لا تتكلم
ولا تردُّ على أحد، وأمير المؤمنين جالس عند رأسها لا يجد مَن يخبره بخبرها، ولم
يعلم ما بها، ولم تزل في غشيتها إلى نصف الليل، ثم أفاقت، فقال لها أمير المؤمنين:
ما الذي أصابك يا شمس النهار؟ وما الذي اعتراكِ في هذه الليلة؟ فلما سمعت شمس
النهار كلام الخليفة قبَّلت أقدامه، وقالت له: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك،
إنه خامرني خلط فأضرم النار في جسدي فوقعت مغشيًّا عليَّ من شدة ما بي، ولا أعلم
كيف كانت حالي. فقال لها الخليفة: ما الذي استعملته في نهارك؟ قالت: أفطرت على شيء
لم آكله قطُّ. ثم أظهرَتِ القوة، واستدعت بشيء من الشراب فشربته، وسألت أمير
المؤمنين أن يعود إلى انشراحه، فعاد إلى الجلوس في القبة، فلما جئت إليها سألتني
عن أحوالكما، فأخبرتها بما فعلت معكما، وأخبرتها بما أنشده علي بن بكار فسكتت، ثم
إن أمير المؤمنين جلس وأمر الجارية بالغناء، فأنشدت هذين البيتين:
وَلَمْ
يَصْفُ لِي شَيْءٌ مِنَ الْعَيْشِ بَعْدَكُمُ فَيَا لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ حَالُكُمُ
بَعْدِي
يَحِقُّ
لِدَمْعِي أَنْ يَكُونَ مِنَ الدِّمَا
إِذَا كُنْتُمُ تَبْكُونَ دَمْعًا عَلَى بُعْدِي
فلما
سمعَتْ هذا الشعر وقعت مغشيًّا عليها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام
المباح.
﴿اللیلة 157﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية قالت لأبي الحسن: إن سيدتي لما سمعت هذا
الشعر وقعت مغشيًّا عليها، فأمسكت يدها ورششت ماء الورد على وجهها، فأفاقت، فقلت
لها: يا سيدتي، لا تهتكي نفسك، ومَن يحويه قصرك بحياة محبوبك أن تصبري، فقالت: هل
في الأمر أكثر من الموت؟ فأنا أطلبه لأن فيه راحتي. فبينما نحن في هذا القول إذ
غنَّتْ جارية بقول الشاعر:
وَقَالُوا
لَعَلَّ الصَّبْرَ يَعْقِبُ رَاحَةً
فَقُلْتُ وَأَيْنَ الصَّبْرُ بَعْدَ فِرَاقِهِ
وَقَدْ
أَكَّدَ الْمِيثَاقُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ
بِقَطْعِ حِبَالِ الصَّبْرِ عِنْدَ عِنَاقِهِ
فلما
فرغَتْ من الشعر وقعَتْ مغشيًّا عليها، فنظرها الخليفة فأتى مسرعًا إليها، وأمر
برفع الشراب، وأن تعود كل جارية إلى مقصورتها، وأقام عندها باقي ليلته إلى أن أصبح
الصباح، فاستدعى الأطباء وأمرهم بمعالجتها، ولم يعلم بما هي فيه من العشق والغرام،
وأقمت عندها حتى ظننت أنه قد صلحت حالها، وهذا الذي عاقني عن المجيء إليكما، وقد
خلفت عندها جماعة من خواصها لما أمرتني بالمسير إليكما لآخذ خبر علي بن بكار وأعود
إليها. فلما سمع أبو الحسن كلامها تعجَّبَ وقال لها: والله إني أخبرتك بجميع ما
كان من أمره، فعودي إلى سيدتك، وسلمي عليها، وحثِّيها على الصبر، وقولي لها: اكتمي
السر، وأخبريها أني عرفت أمرها، وهو أمر صعب يحتاج إلى التدبير. فشكرَتْه الجارية،
ثم ودَّعته، وانصرفت إلى سيدتها.
هذا
ما كان من أمرها، وأما ما كان من أمر أبي الحسن، فإنه لم يزل في دكانه إلى آخر
النهار، فلما مضى النهار قام وقفل دكانه، وأتى إلى دار علي بن بكار، فدقَّ الباب
فخرج له بعض غلمانه وأدخله، فلما دخل عليه، تبسَّمَ واستبشر بقدومه، وقال له: يا
أبا الحسن، أوحشتني لتخلُّفِك عني في هذا اليوم، وروحي متعلقة بك باقي عمري. فقال
له أبو الحسن: دَعْ هذا الكلام، فلو أمكن فداك كنت أفديك بروحي، وفي هذا اليوم
جاءت جارية شمس النهار، وأخبرتني أنه ما عاقها عن المجيء إلا جلوس الخليفة عند
سيدتها، وأخبرتني بما كان من أمر سيدتها. وحكى له جميع ما سمعه من الجارية؛
فتأسَّفَ علي بن بكار غاية التأسُّف وبكى، ثم التفت إلى أبي الحسن وقال له: بالله
أن تساعدني على ما بُليت به، وأخبرني ماذا تكون الحيلة؟ وأسألك من فضلك المبيتَ
عندي هذه الليلة لأستأنس بك. فامتثل أبو الحسن أمره، وأجابه إلى المبيت عنده،
وباتا يتحدثان في تلك الليلة، ثم إن علي بن بكار بكى وأرسل العَبَرات، وأنشد هذه
الأبيات:
خَفَرَتْ
بِسَيْفِ اللَّحْظِ ذِمَّةَ مُفْتَرٍ
وَفَرَتْ بِرُمْحِ الْقَدِّ دِرْعَ تَصَبُّرِي
وَجَلَتْ
لَنَا مِنْ تَحْتِ مِسْكَةِ خَالِهَا
كَافُورَ فَجْرٍ شَقَّ لَيْلَ الْعَنْبَرِ
فَزَعَتْ
فَضَرَّسَتِ الْعَقِيقُ بِلُؤْلُؤٍ
سَكَنَتْ فَرَائِدُهُ غَدِيرَ السُّكَّرِ
وَتَنَهَّدَتْ
جَزَعًا فَأَثَّرَ كَفُّهَا فِي
صَدْرِهَا فَنَظَرْتُ مَا لَمْ أَنْظُرِ
أَقْلَامَ
مُرْجَانٍ كَتَبْنَ بِعَنْبَرٍ
بِصَحِيفَةِ الْبِلَّوْرِ خَمْسَةَ أَسْطُرِ
يَا
حَامِلَ السَّيْفِ الصَّفِيحِ إِذَا رَنَتْ
إِيَّاكَ ضَرْبَةَ جَفْنِهَا الْمُتَكَسِّرِ
وَتَوَقَّ
يَا رَبُّ الْقَنَاةِ الطَّعْنَ إِنْ
حَمَلَتْ عَلَيْكَ مِنَ الْقَوَامِ بِأَسْمَرِ
فلما
فرغ علي بن بكار من شعره صرخ صرخة عظيمة، ووقع مغشيًّا عليه، فظن أبو الحسن أن
روحه خرجت من جسده، ولم يزل في غشيته حتى طلع النهار، فأفاق وتحدث مع أبي الحسن،
ولم يزل أبو الحسن جالسًا عند علي بن بكار إلى ضحوة النهار، ثم انصرف من عنده،
وجاء إلى دكانه وفتحها، وإذا بالجارية جاءته، ووقفت عنده، فلما نظر إليها أومأت
إليه بالسلام، فردَّ عليها السلام، وبلَّغته سلامَ سيدتها، وقالت له: كيف حال علي
بن بكار؟ فقال لها: يا جارية لا تسألي عن حاله وما هو فيه من شدة الغرام؛ فإنه لا
ينام الليل، ولا يستريح بالنهار، وقد أنحله السهر، وغلب عليه الضجر، وصار في حال
لا يسرُّ حبيبًا. فقالت له: إن سيدتي تسلِّم عليك وعليه، وقد كتبت له ورقة، وهي في
حال أعظم من حاله، وقد سلَّمَتْني الورقةَ وقالت: لا تأتيني إلا بجوابها، وافعلي
ما أمرتُكِ به. وها هي الورقة معي، فهل لك أن تسير معي إلى علي بن بكار، ونأخذ منه
الجواب؟ فقال لها أبو الحسن: سمعًا وطاعةً. ثم قفل الدكان، وأخذ معه الجارية، وذهب
بها من مكان غير الذي جاء منه، ولم يزالا سائرين حتى وصلَا إلى دار علي بن بكار،
ثم أوقف الجارية على الباب ودخل. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 158﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن أبا الحسن ذهب بالجارية إلى دار علي بن بكار، وأوقفها
على الباب ودخل البيت، فلما رآه علي بن بكار فرح به، فقال له أبو الحسن: سبب مجيئي
أن فلانًا أرسل إليك جاريته برقعة تتضمن سلامه عليك، وذكر فيها أن سبب تأخُّره عنك
عذرٌ حصل له، والجارية واقفة بالباب، فهل تأذن لها بالدخول؟ فقال علي: أدخلوها.
وأشار له أبو الحسن أنها جارية شمس النهار، ففهم الإشارة، فلما رآها تحرَّكَ وفرح،
وقال لها بالإشارة: كيف حال السيد شفاه الله وعافاه؟ فقالت: بخير. ثم أخرجت الورقة
ودفعتها له، فأخذها وقبَّلها وقرأها، وناولها لأبي الحسن، فوجد مكتوبًا فيها هذه
الأبيات:
يُنْبِيكَ
هَذَا الرَّسُولُ عَنْ خَبْرِي
فَاسْتَغْنِ فِي ذِكْرِهِ عَنِ النَّظَرِ
خَلَّفْتَ
صَبًّا بِحُبِّكُمْ دَنِفًا
وَطَرْفُهُ لَا يَزَالُ بِالسَّهَرِ
أُكَابِدُ
الصَّبْرَ فِي الْبَلَاءِ فَمَا
يَدْفَعُ خَلْقٌ مَوَاقِعَ الْقَدَرِ
وَقَرَّ
عَيْنًا وَلَيْسَ تَغْفَلُ عَنْ
قَلْبِي وَلَا يَوْمَ غِبْتَ عَنْ بَصَرِي
وَانْظُرُ
إِلَى جِسْمِكَ النَّحِيلِ وَمَا
قَدْ حَلَّهُ وَاسْتَدَلَّ بِالْأَثَرِ
وبعدُ؛
فقد كتبت لك كتابًا بغير بنان، ونطقت لك بغير لسان، وجملة شرح حالي إن لي عينًا لا
يفارقها السهر، وقلبًا لا تبرح عنه الفِكَر، فكأنني قطُّ ما عرفت صحة ولا فرحة،
ولا رأيت منظرًا بهيًّا، ولا قطعت عيشًا هنيًّا، وكأنني خُلِقت من الصبابة، ومن
ألم الوَجْد والكآبة، فعليَّ السقام مترادف، والغرام متضاعف، والشوق متكاثر، وصرتُ
كما قال الشاعر:
الْقَلْبُ
مُنْقَبِضٌ وَالْفِكْرُ مُنْبَسِطٌ
وَالْعَيْنُ سَاهِرَةٌ وَالْجِسْمُ مَتْعُوبُ
وَالصَّبْرُ
مُنْفَصِلٌ وَالْهَجْرُ مُتَّصِلٌ
وَالْعَقْلُ مُخْتَبَلٌ وَالْقَلْبُ مَسْلُوبُ
واعلم
أن الشكوى لا تطفئ نار البلوى، لكنها تعلل من أعلَّه الاشتياق، وأتلفه الفراق،
وأتسلى بذكر لفظ الوصال، وما أحسن قول مَن قال:
إِذَا
لَمْ يَكُنْ فِي الْحُبِّ سُخْطٌ وَلَا رِضًا فَأَيْنَ حَلَاوَاتُ الرَّسَائِلِ
وَالْكُتُبِ
قال
أبو الحسن: فلما قرأتُها هيَّجت ألفاظها بلابلي، وأصابت معانيها مقاتلي، ثم دفعتها
إلى الجارية، فلما أخذتها قال لها علي بن بكار: أبلغي سيدتك سلامي، وعرِّفيها
بوَجْدي وغرامي، وامتزاج المحبة بلحمي وعظامي، وأخبريها أنني محتاج إلى مَن ينقذني
من بحر الهلاك، وينجيني من هذا الارتباك. ثم بكى فبكت الجارية لبكائه، وودعته
وخرجت من عنده، وخرج أبو الحسن معها، ثم ودَّعها ومضى إلى دكانه. وأدرك شهرزاد
الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 159﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن أبا الحسن ودَّع الجارية ورجع إلى دكانه، فلما جلس
فيه وجد قلبه انقبض، وضاق صدره، وتحيَّرَ في أمره، ولم يزل في فكرٍ بقيةَ يومه،
وفي اليوم الثاني ذهب إلى علي بن بكار، وجلس عنده حتى ذهبت الناس، وسأله عن حاله
فأخذ في شكوى الغرام، وما به من الوَجْد والهيام، وأنشد قول الشاعر:
شَكَا
أَلَمَ الْغَرَامِ النَّاسُ قَبْلِي
وَرُوِّعَ بِالنَّوَى حَيٌّ وَمَيْتُ
وَأَمَّا
مِثْلُ مَا ضَمَّتْ ضُلُوعِي
فَإِنِّي لَا سَمِعْتُ وَلَا رَأَيْتُ
وقول
الشاعر:
وَلَقِيتَ
مِنْ حُبَّيْكَ مَا لَمْ يَلْقَهُ
فِي حُبِّ لُبْنَى قَيْسُهَا الْمَجْنُونُ
لَكِنَّنِي
لَمْ أَتَّبِعْ وَحْشَ الْفَلَا
كَفِعَالِ قَيْسٍ وَالْجُنُونُ فُنُونُ
فقال
له أبو الحسن: أنا ما رأيت ولا سمعت بمثلك في محبتك، كيف يكون هذا الوَجْد وضعف
الحركة، وقد تعلَّقت بحبيب موافق؟ فكيف إذا تعلَّقت بحبيب مخالف مخادع، فكان أمرك
ينكشف؟ قال أبو الحسن: فركن علي بن بكار إلى كلامي، وشكرني على ذلك، وكان لي صاحب
يطلع على أمري وأمر علي بن بكار، ويعلم أننا متوافقان، ولم يعلم أحدٌ ما بيننا
غيره، وكان يأتيني فيسألني عن حال علي بن بكار، وبعد قليل سألني عن الجارية، فقلت
له: قد دعته إليها، وكان بينه وبينها ما لا مزيد عليه، وهذا آخِر ما انتهى من
أمرهما، ولكني دبرت لنفسي أمرًا أريد إعراضه عليك. فقال له صاحبه: ما هو؟ قال أبو
الحسن: اعلم أني رجل معروف بكثرة المعاملات بين الرجال والنساء، وأخشى أن ينكشف
أمرهما فيكون سببًا لهلاكي وأخذ مالي وهتك عيالي، وقد اقتضى رأيي أن أجمع مالي،
وأجهز حالي، وأتوجه إلى مدينة البصرة، وأقيم بها حتى أنظر ما يكون من أحوالهما
بحيث لا يشعر بي أحد، فإنَّ المحبة قد تمكنت منهما، ودارت المراسلة بينهما؛ والحال
أن الماشي بينهما جارية، وهي كاتمة لأسرارهما، وأخشى أن يغلب عليها الضجر فتبوح
بسرِّهما لأحد فيشيع خبرهما، ويؤدي ذلك إلى الهلاك، ويكون سببًا لتلفي، وليس لي
عذر عند الناس. فقال له صاحبه: قد أخبرتني بخبر خطير يخاف من مثله العاقل الخبير،
كفاك الله شر ما تخافه وتخشاه، ونجَّاك مما تخاف عقباه، وهذا الرأي هو الصواب.
فانصرف
أبو الحسن إلى منزله، وصار يقضي مصالحه، ويتجهز للسفر إلى مدينة البصرة، فما مضى
ثلاثة أيام حتى قضى مصالحه، وسافر إلى البصرة، فجاء صاحبه بعد ثلاثة أيام ليزوره
فلم يجده، فسأل عنه جيرانه فقالوا له: إنه توجه من مدة ثلاثة أيام إلى البصرة؛ لأن
له معاملة عند تجارها، فذهب ليطالب أرباب الديون، وعن قريب يأتي. فاحتار الرجل في
أمره، وصار لا يدري أين يذهب، وقال: يا ليتني لم أفارق أبا الحسن. ثم دبَّر حيلةً
يتوصَّل بها إلى علي بن بكار، فقصد داره وقال لبعض غلمانه: استأذِنْ لي سيدك لأدخل
أسلم عليه. فدخل الغلام وأخبر سيده به، ثم عاد إليه وأذن له في الدخول، فدخل عليه
فوجده ملقًى على الوسادة، فسلَّمَ عليه فردَّ عليه السلام ورحَّب به، ثم إن ذلك
الرجل اعتذر إليه في تخلفه عنه تلك المدة، ثم قال له: يا سيدي، إن بيني وبين أبي الحسن
صداقة، وإني كنت أودعه أسراري، ولا أنقطع عنه ساعة، فغبت في بعض المصالح مع جماعة
من أصحابي مدة ثلاثة أيام، ثم جئت إليه فوجدتُ دكانه مقفولة، فسألت عنه الجيران
فقالوا إنه توجه إلى البصرة، ولم أعلم له صديقًا أوفى منك، فبالله أن تخبرني
بخبره. فلما سمع علي بن بكار كلامه تغيَّر لونه واضطرب، وقال: لم أسمع قبل هذا
اليوم خبرَ سفَرِه، وإنْ كان الأمر كما ذكرتَ فقد حصل لي التعب. ثم أفاض دمع
العين، وأنشد هذين البيتين:
قَدْ
كُنْتُ أَبْكِي عَلَى مَا فَاتَ مِنْ فَرَحٍ وَأَهْلُ وُدِّي جَمِيعًا غَيْرُ
أَشْتَاتِ
وَالْيَوْمَ
فَرَّقَ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُمُ
دَهْرِي فَأَبْكِي عَلَى أَهْلِ الْمَوَدَّاتِ
ثم
إن علي بن بكار أطرق رأسه إلى الأرض يتفكر، وبعد ساعة رفع رأسه إلى خادم له، وقال
له: امضِ إلى دار أبي الحسن، واسأل عنه هل هو مقيم أو مسافر؟ فإن قالوا سافر فاسأل
إلى أي ناحية توجَّه. فمضى الغلام، وغاب ساعة، ثم أقبل إلى سيده وقال: إني لما
سألت عن أبي الحسن أخبرني أتباعه أنه سافر إلى البصرة، ولكن وجدت جارية واقفة على
الباب، فلما رأتني عرفتني ولم أعرفها، وقالت لي: هل أنت غلام علي بن بكار؟ فقلت
لها: نعم. فقالت: إني معي رسالة إليه من عند أعز الناس عليه. فجاءت معي، وهي واقفة
على الباب. فقال علي بن بكار: أدخلها. فطلع الغلام إليها وأدخلها، فنظر الرجل الذي
عند ابن بكار إلى الجارية، فوجدها ظريفة، ثم إن الجارية تقدَّمَتْ إلى علي بن بكار
وسلَّمَتْ عليه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 160﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية لما دخلت على علي بن بكار، تقدَّمَتْ إليه
وسلَّمت عليه، وتحدثت معه سرًّا، وصار يقسم في أثناء الكلام ويحلف أنه لم يتكلم
بذلك، ثم ودَّعته وانصرفت، وكان الرجل صاحب أبي الحسن جوهريًّا، فلما انصرفت
الجارية وجد للكلام محلًّا، فقال لعلي بن بكار: لا شك ولا ريب أن لدار الخلافة
عليك مطالبةً، أو بينك وبينها معاملة. فقال: ومَن أعلمك بذلك؟ فقال: معرفتي بهذه
الجارية؛ لأنها جارية شمس النهار، وكانت جاءتني من مدة برقعة مكتوب فيها أنها
تشتهي عقد جوهر، فأرسلت إليها عقدًا ثمينًا. فلما سمع علي بن بكار كلامه اضطرب حتى
خشي عليه التلف، ثم راجع نفسه وقال: يا أخي، سألتك بالله من أين تعرفها؟ فقال له
الجوهري: دَعِ الإلحاحَ في السؤال. فقال له علي بن بكار: لا أرجع عنك إلا إذا
أخبرتني بالصحيح. فقال له الجوهري: أنا أخبرك بحيث لا يدخلك مني وهم، ولا يعتريك
من كلامي انقباض، ولا أخفي عنك سرًّا، وأبين لك حقيقة الأمر، ولكن بشرط أن تخبرني
بحقيقة حالك، وسبب مرضك. فأخبره بخبره، ثم قال: والله يا أخي ما حملني على كتمان
أمري عن غيرك إلا مخافة أن الناس تكشف أستار بعضها. فقال الجوهري لعلي بن بكار:
وأنا ما أردت اجتماعي بك إلا لشدة محبتي وغيرتي عليك، وشفقتي على قلبك من ألم
الفراق، عسى أكون لك مؤنسًا نيابةً عن صديقي أبي الحسن مدةَ غيبته، فطِبْ نفسًا
وقرَّ عينًا. فشكره علي بن بكار على ذلك، وأنشد هذين البيتين:
وَلَوْ
قُلْتُ إِنِّي صَابِرٌ بَعْدَ بُعْدِهِ
لَكَذَّبَنِي دَمْعِي وَفَرْطُ نَحِيبِي
وَكَيْفَ
أُدَارِي مَدْمَعًا جَرَيَانُهُ
عَلَى صَحْنِ خَدِّي مِنْ فِرَاقِ حَبِيبِي
ثم
إن علي بن بكار سكت ساعة من الزمان، وبعد ذلك قال للجوهري: أتدري ما سرتني به
الجارية؟ فقال: لا والله يا سيدي. فقال: إنها زعمت أني أشرت على أبي الحسن بالمسير
إلى مدينة البصرة، وأنني دبَّرْتُ بذلك حيلةً لأجل عدم المراسلة والمواصلة، فحلفت
لها أن ذلك لم يكن، فلم تصدقني، ومضت إلى سيدتها وهي على ما هي عليه من سوء الظن؛
لأنها كانت تصغي إلى أبي الحسن. فقال الجوهري: يا أخي، إني فهمت من حال هذه الجارية
هذا الأمر، ولكن إن شاء الله تعالى أكون عونًا لك على مرادك. فقال له علي بن بكار:
وكيف تعمل معها وهي تنفر كوحش الفلاة؟ فقال له: لا بد أن أبذل جهدي في مساعدتك،
واحتيالي في التوصُّل إليها من غير كشف ستر ولا مَضَرَّة. ثم استأذن في الانصراف،
فقال له علي بن بكار: يا أخي، عليك بكتمان السر. ثم نظر إليه وبكى، فودَّعه
وانصرف. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 161﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الجوهري ودَّعه وانصرف وهو لا يدري كيف يعمل في إسعاف
علي بن بكار، وما زال ماشيًا وهو متفكر في أمره إذ رأى ورقة مطروحة في الطريق،
فأخذها ونظر عنوانها وقرأه، فإذا هو: «من المحب الأصغر إلى الحبيب الأكبر»، ففتح
الورقة فرأى مكتوبًا فيها هذان البيتان:
جَاءَ
الرَّسُولُ بِوَصْلٍ مِنْكَ يُطْمِعُنِي
وَكَانَ أَكْثَرُ ظَنِّي أَنَّهُ وَهِمَا
فَمَا
فَرِحْتُ وَلَكِنْ زَادَنِي حَزَنًا
عِلْمِي بِأَنَّ رَسُولِي لَمْ يَكُنْ فَهِمَا
وبعدُ؛
فاعلم يا سيدي أنني لم أدرِ سببَ قطع المراسلة بيني وبينك، فإن يكن صدَرَ منك
الجفاء فأنا أقابله بالوفاء، وإن يكن ذهب منك الوداد فأنا أحفظ الودَّ على البعاد،
فأنا معك كما قال الشاعر:
تِهْ
أَحْتَمِلْ وَاسْتَطِلْ أَصْبِرْ وَعِزَّ أَهُنْ وَوَلِّ أَقْبِلْ وَقُلْ أَسْمَعْ وَمُرْ
أُطِعِ
فلما
قرأها، وإذا بالجارية أقبلت وهي تتلفت يمينًا وشمالًا، فرأت الورقة في يده، فقالت
له: يا سيدي، إن هذه الورقة وقعت مني. فلم يردَّ عليها جوابًا ومشى، ومشت الجارية
خلفه إلى أن أقبل على داره ودخل والجارية خلفه، فقالت له: يا سيدي، ردَّ لي هذه
الورقة فإنها سقطت مني. فالتفت إليها وقال: يا جارية لا تخافي ولا تحزني، ولكن
أخبريني بالخبر على وجه الصدق فإني كتوم للأسرار، وأحلِّفك يمينًا أنك لا تخفي عني
شيئًا من أمر سيدتك، فعسى الله أن يعينني على قضاء أغراضها، ويسهل الأمور والصعاب
على يدي. فلما سمعت الجارية كلامه قالت: يا سيدي، ما ضاع سرٌّ أنت حافِظُه، ولا
خابَ أمرٌ أنت تسعى في قضائه، اعلم أن قلبي مال إليك، فأنا أخبرك بحقيقة الأمر
وأعطني الورقة. ثم أخبرته بالخبر كله، وقالت: الله على ما أقول شهيد. فقال لها:
صدقتِ؛ فإن عندي علمًا بأصل الخبر. ثم حدَّثَها بحديث علي بن بكار، وكيف أخذ
ضميره، وأخبرها بالخبر من أوله إلى آخره. فلما سمعت ذلك فرحت، واتفقَا على أنها
تأخذ الورقة وتعطيها لعلي بن بكار، وبجميع ما يحصل ترجع إليه وتخبره، فأعطاها
الورقةَ فأخذتها وختمتها كما كانت، وقالت: إن سيدتي شمس النهار أعطتها لي مختومةً،
فإذا قرأها وردَّ لي جوابها آتيك به. ثم إن الجارية ودَّعَتْه وتوجَّهَتْ إلى علي
بن بكار فوجدته في الانتظار، فأعطته الورقة وقرأها، ثم كتب لها ورقة رد الجواب
وأعطاها لها، فأخذتها ورجعت بها إلى الجوهري حكم الاتفاق، ففضَّ ختمها وقرأها،
فرأى مكتوبًا فيها:
إِنَّ
الرَّسُولَ الَّذِي كَانَتْ رَسَائِلُنَا
مَكْتُومَةً عِنْدَهُ ضَاعَتْ وَقَدْ غَضِبَا
فَاسْتَخْلِصُوا
لِي رَسُولًا مِنْكُمُ ثِقَةً
يَسْتَحْسِنُ الصِّدْقَ لَا يَسْتَحْسِنُ الْكَذِبَا
وبعدُ؛
فإنني لم يصدر مني جفاء، ولا تركت وفاء، ولا نقضت عهدًا، ولا قطعت ودًّا، ولا
فارقت أسفًا، ولا لقيت بعد الفراق إلا تلفًا، ولا علمت أصلًا بما ذكرتم، ولا أحب
غير ما أحببتم، وحقِّ عالم السر والنجوى ما قصدي غير الاجتماع بمَن أهوى، وشأني
كتمان الغرام، وإنْ أمرضني السقام، وهذا شرح حالي، والسلام.
فلما
قرأ الجوهري هذه الورقة وعرف ما فيها، بكى بكاءً شديدًا، ثم إن الجارية قالت له:
لا تخرج من هذا المكان حتى أعود إليك؛ لأنه قد اتهمني بأمر من الأمور، وهو معذور،
وأنا أريد أن أجمع بينك وبين سيدتي شمس النهار بأي حيلة، فإني تركتها مطروحة، وهي
تنتظر مني رد الجواب. ثم إن الجارية مضت إلى سيدتها، وبات الجوهري مشوش الخاطر،
فلما أصبح الصباح، صلى الصبح وقعد ينتظر قدومها، وإذا بها أقبلت وهي فرحانة إلى أن
دخلت عليه، فقال لها: ما الخبر يا جارية؟ فقالت: مضيت من عندك إلى سيدتي ودفعت لها
الورقة التي كتبها علي بن بكار، فلما قرأتها وفهمت معناها، تحيَّر فكرها، فقلت
لها: يا سيدتي، لا تخشي من فساد الأمر بينكما بسبب غياب أبي الحسن؛ فإني وجدتُ مَن
يقوم مقامه، وهو أحسن منه وأعلى مقدارًا وأهلًا لكتمان الأسرار. وقد حدَّثْتُها
بما بينك وبين أبي الحسن، وكيف توصَّلْتَ إليه وإلى علي بن بكار، وكيف سقطت تلك
الرقعة مني ووقعتَ أنت عليها، وأخبرتها بما استقر عليه الأمر بيني وبينك. فتعجَّب
الجوهري غاية العجب، ثم قالت له: إنها تشتهي أن تسمع كلامك لأجل أن تؤكد عليه فيما
بينك وبينه من العهود، فاعزم في هذا الوقت على المسير معي إليها.
فلما
سمع الجوهري كلام الجارية، رأى أن الدخول عليها أمر عظيم وخطر جسيم، لا يمكن
الدخول فيه ولا التهجُّم عليه، فقال الجوهري للجارية: يا أختي، إني من أولاد
العوام ولم أكن كأبي الحسن؛ لأن أبا الحسن كان رفيع المقدار، معروفًا بالاشتهار،
مترددًا على دار الخلافة لاحتياجهم إلى بضاعته، وأما أنا فإن أبا الحسن كان
يحدِّثني وأنا أرتعد بين يديه، وإذا كانت سيدتك رغبت في حديثي لها، فينبغي أن يكون
ذلك في غير دار الخلافة، بعيدًا عن محل أمير المؤمنين؛ لأن جَناني لا يطاوعني على
ما تقولين. ثم امتنع عن المسير معها، وصارت تتضمن له السلامة وتقول له: لا تخشَ
ولا تَخَفْ. فبينما هما في هذا الكلام إذ لعبت رجلاه وارتعشت يداه، فقالت له
الجارية: إن كان يصعب عليك الرواح إلى دار الخلافة، ولا يمكنك المسير معي، فأنا
أجعلها تسير إليك، فلا تبرح من مكانك حتى أرجع إليك بها.
ثم
إن الجارية مضت ولم تغب إلا قليلًا، وعادت إلى الجوهري وقالت له: احذر أن يكون
عندك جارية أو غلام. فقال: ما عندي غير جارية سوداء كبيرة السن تخدمني. فقامت
الجارية وأغلقت الأبواب بين جارية الجوهري وبينه، وصرفت غلمانه إلى خارج الدار، ثم
خرجت الجارية وعادت ومعها جارية خلفها، ودخلت دار الجوهري فأعبقت الدار من الطيب،
فلما رآها الجوهري نهض قائمًا ووضع لها مخدة، وجلس بين يديها، فمكثت ساعة لا تتكلم
حتى استراحت، ثم كشفت وجهها فخُيِّل للجوهري أن الشمس أشرقت في منزله، ثم قالت
لجاريتها: أهذا الرجل الذي قلتِ لي عليه؟ فقالت الجارية: نعم. فالتفتت إلى الجوهري
وقالت له: كيف حالك؟ قال: بخير. ودعا لها، فقالت: إنك حمَّلتنا المسير إليك، وأن
نطلعك على ما يكون من سر نائم. ثم سألته عن أهله وعياله، فأخبرها بجميع أحواله،
وقال لها: إن لي دارًا غير هذه الدار جعلتها للاجتماع بالأصحاب والإخوان، وليس لي
فيها إلا ما ذكرته لجاريتك. ثم سألته عن كيفية اطِّلاعه على أصل القصة، فأخبرها
بما سألَتْه عنه من أول الأمر إلى آخره، فتأوَّهت على فراق أبي الحسن وقالت: يا
فلان، اعلم أن أرواح الناس متلائمة في الشهوات، والناس بالناس، لا يتم عمل إلا
بقول، ولا يتم غرض إلا بسعي، ولا تحصل راحة إلا بعد تعب … وأدرك شهرزاد الصباح
فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 162﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن شمس النهار قالت للجوهري: لا تحصل راحة إلا بعد تعب،
ولا يظهر نجاح إلا من ذوي مروءة، وقد أَطْلَعتك الآن على أمرنا، وصار بيدك هتكنا
وسترنا، ولا زيادة لما أنت عليه من المروءة، فأنت قد علمت أن جاريتي هذه كاتمة
لسري، وبسبب ذلك لها رتبة عظيمة عندي، وقد اختصصتُها لمهمات أموري، فلا يكن عندك
أعز منها، وأطلِعْها على أمرك، وطِبْ نفسًا فأنت آمِن ممَّا تخافه من جهتنا، وما
يسدُّ عليك موضع إلا وتفتحه لك، وهي تأتيك من عندي بأخبار علي بن بكار، وتكون أنت
الواسطة في التبليغ بيني وبينه. ثم إن شمس النهار قامت وهي لا تستطيع القيام، ومشت
فتمشى بين يديها الجوهري حتى وصلت إلى باب الدار، ثم رجع وقعد في موضعه بعد أن نظر
من حسنها ما بهره، وسمع من كلامها ما حيَّر عقله، وشاهد من ظُرفها وأدبها ما
أدهشه، ثم استمر يتفكر في شمائلها حتى سكنت نفسه، وطلب الطعام فأكل ما يمسك رمقه،
ثم غيَّرَ ثيابه وخرج من داره، وتوجَّه إلى علي بن بكار، فلاقاه غلمانه، ومشوا بين
يديه إلى أن أوصلوه إلى سيدهم، فوجده ملقًى على فراشه، فلما رأى الجوهري قال له:
أبطأت عليَّ فزدتني همًّا على همي. ثم صرف غلمانه وأمر بغلق أبوابه وقال له: والله
ما غمضت عيني من يوم فارقتني، فإن الجارية جاءتني بالأمس ومعها رقعة مختومة من عند
سيدتها شمس النهار. وحكى له ابن بكار على جميع ما وقع له معها، ثم قال: لقد
تحيَّرت في أمري، وقلَّ صبري، وكان لي أبو الحسن أنيسًا؛ لأنه يعرف الجارية. فلما
سمع الجوهري كلام ابن بكار ضحك، فقال له ابن بكار: كيف تضحك من كلامي، وقد استبشرت
بك واتَّخذتك عدةً للنائبات؟ ثم بكى، وأنشد هذه الأبيات:
وَضَاحِكٍ
مِنْ بُكَائِي حِينَ أَبْصَرَنِي
لَوْ كَانَ قَاسَى الَّذِي قَاسَيْتُ أَبْكَاهُ
لَمْ
يَرْثِ لِلْمُبْتَلَى مِمَّا يُكَابِدُهُ
إِلَّا شَجٍ مِثْلُهُ قَدْ طَالَ بَلْوَاهُ
وَجْدِي
حَنِينِي أَنِينِي فِكْرَتِي وَلَهِي
إِلَى حَبِيبٍ زَوَايَا الْقَلْبِ مَأْوَاهُ
حَلَّ
الْفُؤَادَ مُقِيمًا لَا يُفَارِقُهُ
وَقْتًا وَلَكِنَّهُ قَدْ عَزَّ لُقْيَاهُ
مَا
لِي سِوَاهُ خَلِيلٌ أَرْتَضِي بَدَلًا
وَمَا اصْطَفَيْتُ حَبِيبًا قَطُّ إِلَّاهُ
فلما
سمع الجوهري منه هذا الكلام، وفهم الشعر والنظام، بكى لبكائه، وأخبره بما جرى له
مع الجارية من حين فارقه، فصار ابن بكار يصغي إلى كلامه، وكلما سمع منه كلمة
يتغيَّر لون وجهه من صفرة إلى احمرار، ويقوى جسمه مرةً ويضعف أخرى، فلما انتهى إلى
آخِر الكلام بكى ابن بكار، وقال له: يا أخي، أنا على كل حال هالك، فليت أجلي قريب!
وأسألك من فضلك أن تكون ملاطفي في جميع أموري إلى أن يريد الله بما يريد، وأنا لا
أخالف لك قولًا. فقال له الجوهري: لا يطفئ عنك هذه النار إلا الاجتماع بمَن شغفتَ
بها، ولكن في غير هذا المكان الخطير، وإنما يكون ذلك عندي في بيت جنب بيتي، جاءتني
إليه الجارية هي وسيدتها، وهو الموضع الذي اختارته لنفسها، والمقصود اجتماعكما
ببعضكما، وفيه تشكوان لبعضكما ما قاسيتما. فقال علي بن بكار: افعل ما تريد، والذي
تراه هو الصواب. قال الجوهري: فأقمتُ عنده تلك الليلة أسامره إلى أن أصبح الصباح.
﴿اللیلة 163﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن الجوهري قال: فأقمت تلك الليلة عند علي بن بكار أسامره
إلى أن أصبح الصباح، ثم صليت الصبح، وخرجت من عنده وذهبت إلى منزلي، فما استقررت
إلا قليلًا حتى جاءت الجارية وسلَّمت عليَّ، فرددتُ عليها السلام، وحدَّثْتُها بما
كان بيني وبين علي بن بكار، فقالت الجارية: اعلم أن الخليفة توجه من عندنا، وأن
مجلسنا لا أحدَ فيه، وهو أستر لنا وأحسن. فقلتُ لها: كلامك صحيح، ولكنه ليس كمنزلي
هذا، فإنه أستر لنا وأليق بنا. فقالت الجارية: إن الرأي ما تراه أنت، وأنا ذاهبة
إلى سيدتي لأخبرها بما ذكرتَ، وأعرض عليها ما قلتَ.
ثم
إن الجارية توجَّهَتْ إلى سيدتها، وعرضت عليها الكلام، وعادت إلى منزلي وقالت لي:
إن سيدتي رضيت بما قلته. ثم إن الجارية أخرجت من جيبها كيسًا فيه دنانير، وقالت
لي: إن سيدتي تسلم عليك، وتقول لك: خذ هذا، واقضِ لنا به ما نحتاج إليه. فأقسمت
أني لا أصرف شيئًا منه، فأخذَتْه الجارية وعادت إلى سيدتها، وقالت لها: إنه ما
قَبِل الدراهم بل دفعها إليَّ. وبعد رواح الجارية ذهبتُ إلى داري الثانية،
وحوَّلتُ إليها من الآلات والفرش ما تحتاج إليه الحال، ونقلتُ إليها أواني الفضة
والصيني، وهيأت جميع ما نحتاج إليه من المأكل والمشرب. فلما حضرت الجارية ونظرت ما
فعلتُه أعجبها، وأمرتني بإحضار علي بن بكار، فقلت: ما يحضر به إلا أنتِ. فذهبَتْ
إليه وأحضرَتْه على أتم حال، وقد راقت محاسنه، فلما جاء قابلتُه ورحَّبتُ به،
وأجلستُه على مرتبة تصلح له، ووضعت بين يديه شيئًا من المشموم في بعض الأواني
الصيني والبلَّور، وصرت أتحدث معه نحو ساعة من الزمان، ثم إن الجارية مضت، وغابت
إلى بعد صلاة المغرب، ثم عادت ومعها شمس النهار ووصيفتان لا غير، فلما رأت علي بن
بكار ورآها سقطَا على الأرض مغشيًّا عليهما، واستمرَّا لساعة زمانية، ولما أفاقا
أقبلَا على بعضهما، ثم جلسا يتحدثان بكلام رقيق، وبعد ذلك استعملَا شيئًا من
الطيب، ثم إنهما صارا يشكران صنعي معهما، فقلت لهما: هل لكما في شيء من الطعام؟
فقالا: نعم. فأحضرت شيئًا من الطعام، فأكلا حتى اكتفيا، ثم غسلا أيديهما، ثم
نقلتهما إلى مجلس آخَر، وأحضرت لهما الشراب، فشربَا وسكرَا ومالَا على بعضهما، ثم
إن شمس النهار قالت لي: يا سيدي، كمل جميلك، وأحضر لنا عودًا وشيئًا من آلات
الملاهي حتى إننا نكمل حظنا في هذه الساعة. فقلت: على رأسي وعيني. ثم إني قمتُ
وأحضرتُ عودًا، فأخذته وأصلحته، ثم إنها وضعته في حجرها، وضربت عليه ضربًا جميلًا،
ثم أنشدت هذين البيتين:
أَرِقْتُ
حَتَّى كَأَنِّي أَعْشَقُ الْأَرَقَا
وَذُبْتُ حَتَّى تَرَاءَى السَّقْمُ لِي خُلُقَا
وَفَاضَ
دَمْعِي عَلَى خَدِّي فَأَحْرَقَهُ
يَا لَيْتَ شِعْرِيَ هَلْ بَعْدَ الْفِرَاقِ لِقَا
ثم
إنها أخذت في غناء الأشعار حتى حيَّرت الأفكار، بأصوات مختلفات، وإشارات رائقات،
وكاد المجلس أن يطير من شدة الطرب، بما أتت فيه من مغانيها بالعجب، ثم قال
الجوهري: ولما استقرَّ بنا الجلوس، ودارت بيننا الكئوس، أطربت الجارية بالنغمات،
وأنشدت هذه الأبيات:
وَعَدَ
الْحَبِيبُ بِوَصْلِهِ وَوَفَى لِي
فِي لَيْلَةٍ سَأَعُدُّهَا بِلَيَالِي
يَا
لَيْلَةً سَمَحَ الزَّمَانُ لَنَا بِهَا
فِي غَفْلَةِ الْوَاشِينَ وَالْعُذَّالِ
بَاتَ
الْحَبِيبُ يَضُمُّنِي بِيَمِينِهِ
مِنْ فَرْحَتِي فَضَمَمْتُهُ بِشِمَالِ
عَانَقْتُهُ
وَرَشَفْتُ خَمْرَةَ رِيقِهِ
وَحَظِيتُ بِالْمَعْسُولِ وَالْعَسَّالِ
ثم
إن الجوهري تركهما في تلك الدار وانصرف إلى دار سكناه، وبات فيها إلى الصباح، ولما
أصبح الصبح صلى فرضه، وشرب القهوة، وجلس يفكر في المسير إليهما في داره الثانية؛
فبينما هو جالس إذ دخل عليه جاره وهو مرعوب، وقال: يا أخي، ما هان عليَّ الذي جرى
لك الليلة في دارك الثانية. فقلت له: يا أخي، وأي شيء جرى؟ فأخبرني بما حصل في
داري. فقال له: إن اللصوص الذين جاءوا إلى جيراننا بالأمس وقتلوا فلانًا وأخذوا
ماله، قد رأوك بالأمس وأنت تنقل حوائجك إلى دارك الثانية، فجاءوا إليها ليلًا،
وأخذوا ما عندك، وقتلوا ضيوفك. قال الجوهري: فقمتُ أنا وجاري، وتوجَّهْنا إلى تلك
الدار فوجدناها خاليةً، ولم يَبْقَ فيها شيء، فتحيَّرْتُ في أمري، وقلت: أمَّا
الأمتعة فلا أبالي بضياعها، وإنْ كنتُ استعرتُ بعضَ أمتعة من أصحابي وضاعت فلا بأس
بذلك؛ لأنهم عرفوا عذري بذهاب مالي، ونهب داري، وأما علي بن بكار ومحظية أمير
المؤمنين، فأخشى أن يشتهر الأمر بينهما، فيكون ذلك سبب رواح روحي. ثم إن الجوهري
التفت إلى جاره، وقال له: أنت أخي وجاري، وتستر عورتي، فما الذي تشير به عليَّ من
الأمور؟ فقال الرجل للجوهري: الذي أشير به عليك أن تتربص، فإن الذين دخلوا دارك
وأخذوا متاعك قد قتلوا أحسن جماعة من دار الخليفة، وقتلوا جماعة من دار صاحب
الشرطة، وأعوان الدولة يدوِّرون عليهم في جميع الطرق، فلعلهم يجدونهم فيحصل مرادك
بغير سعي منك. فلما سمع الجوهري هذا الكلام رجع إلى داره التي هو ساكن بها … وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 164﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الجوهري لما سمع هذا الكلام رجع إلى داره التي هو
ساكن بها، وقال في نفسه: إن الذي حصل لي هو الذي خاف منه أبو الحسن وذهب إلى
البصرة، وقد وقعت فيه. ثم إنَّ نهْبَ داره اشتهر عند الناس، فأقبلوا إليه من كل
جانب ومكان، فمنهم مَن هو شامت ومنهم مَن هو حامل همَّه، فصار يشكو لهم، ولم يأكل
طعامًا ولم يشرب شرابًا؛ فبينما هو جالس متندم، وإذا بغلام من غلمانه دخل عليه وقال
له: إن شخصًا بالباب يدعوك لم أعرفه. فخرج إليه الجوهري وسلَّم عليه ووجده إنسانًا
لم يعرفه، فقال له الرجل: إن لي حديثًا بيني وبينك. فأدخله الدار وقال له: ما عندك
من الحديث؟ فقال الرجل: امضِ معي إلى دارك الثانية. فقال الجوهري: وهل تعرف داري
الثانية؟ فقال: إن جميع خبرك عندي، وعندي أيضًا ما يفرج الله به همك. فقلت في
نفسي: أنا أمضي معه حيث أراد. ثم توجهت إلى أن أتينا الدار، فلما رأى الرجل الدار
قال: إنها بغير بواب، ولا يمكن القعود فيها، فامضِ معي إلى غيرها.
فلم
يزل الرجل يدور بي من مكان إلى مكان وأنا معه حتى دخل علينا الليل، ولم أسأله عن
أمر من الأمور، ثم إنه لم يزل يمشي وأنا أمشي معه حتى خرجنا إلى الفضاء وهو يقول:
اتبعني. وصار يهرول في مشيه، وأنا أهرول وراءه حتى وصلنا إلى البحر، فطلع بنا في
زورق وقذف بنا الملاح حتى عدَّانا إلى البر الثاني، فنزل من ذلك الزورق ونزلت
خلفه، ثم إنه أخذ بيدي ونزل بي في درب لم أدخله طول عمري، ولم أعلم هو في أي
ناحية، ثم إن الرجل وقف على باب دار وفتحها ودخل وأدخلني معه، وأغلق بابها بقفل من
حديد، ثم مشى بي في دهليزها حتى دخلنا على عشرة رجال كأنهم رجل واحد، وهم إخوة،
فلما دخلنا عليهم سلَّم عليهم ذلك الرجل، فردوا عليه السلام، ثم أمروني بالجلوس
فجلست، وكنت ضعفت من شدة التعب، فجاءوا إليَّ بماء ورد ورشُّوه على وجهي، وسقوني
شرابًا، وقدموا إليَّ طعامًا، فقلت: لو كان في الطعام شيء مضرٌّ ما أكلوا معي.
فلما غسلنا أيدينا عاد كلٌّ منا إلى مكانه، وقالوا: هل تعرفنا؟ فقلت: لا، ولا عمري
عرفت موضعكم، بل ولا أعرف مَن جاء بي إليكم. فقالوا: أطلِعْنا على خبرك ولا تكذب
في شيء. فقلت لهم: اعلموا أن حالي عجيب، وأمري غريب، فهل عندكم شيء من خبري؟
قالوا: نعم، نحن الذين أخذنا أمتعتك في الليلة الماضية، وأخذنا صديقك والتي كانت
تغني. فقلت لهم: أسبل الله عليكم ستره، أين صديقي هو والتي كانت تغني؟ فأشاروا لي
بأيديهم إلى ناحية، وقالوا: ها هنا، ولكن والله يا أخي ما ظهر على سرِّهما أحدٌ
منَّا، ومن حيث أتينا بهما لم نجتمع بهما، ولم نسألهما عن حالهما؛ لما رأينا
عليهما من الهيبة والوقار، وهذا هو الذي منعنا عن قتلهما، فأخبرنا عن حقيقة
أمرهما، وأنت في أمان على نفسك وعليهما. قال الجوهري: فلما سمعت هذا الكلام كدت أن
أهلك من الخوف والفزع، وقلت لهم: اعلموا أن المروءة إذا ضاعت لا توجد إلا عندكم،
وإذا كان عندي سرٌّ أخاف إفشاءه فلا يخفيه إلا صدوركم. وصرت أبالغ في هذا المعنى،
ثم إن وجدت المبادرة لهم بالحديث أنفع من كتمانه، فحدَّثتهم بجميع ما وقع لي حتى
انتهيت إلى آخر الحديث.
فلما
سمعوا حكايتي قالوا: وهل هذا الفتى علي بن بكار، وهذه شمس النهار؟ فقلت لهم: نعم.
فذهبوا إليهما، واعتذروا لهما، ثم قالوا لي: إن الذي أخذناه من دارك ذهب بعضه،
وهذا ما بقي منه. ثم ردوا إليَّ أكثر الأمتعة، والتزموا أنهم يعيدونها إلى محلها
في داري، ويردُّون لي الباقي، ولكنهم انقسموا نصفين: فصار قسم منهم معي، وقسم منهم
عليَّ، ثم خرجنا من تلك الدار.
هذا
ما كان من أمري، وأما ما كان من أمر علي بن بكار وشمس النهار؛ فإنهما قد أشرفا على
الهلاك من الخوف، ثم تقدَّمت إلى علي بن بكار وشمس النهار، وسلمت عليهما، وقلت
لهما: يا ترى ما جرى للجارية والوصيفتين؟ وأين ذهبن؟ فقالا: لا علم لنا بهن. ولم
نزل سائرين إلى أن انتهينا إلى المكان الذي فيه الزورق، فأطلعونا فيه، وإذا هو
الزورق الذي عدَّينا فيه بالأمس، فقذف بنا الملاح حتى أوصلنا إلى البر الثاني
فأنزلونا، فما استقر بنا الجلوس على جانب البر حتى جاءت خيالة، وأحاطوا بنا من كل
جانب، فوثب الذين معنا عاجلًا كالعقاب، فرجع لهم الزورق فنزلوا فيه وسار بهم في
البحر، وبقيت أنا وعلي بن بكار وشمس النهار على شاطئ البحر لا نستطيع حركة ولا
سكونًا، فقال لنا الخيالة: من أين أنتم؟ فتحيرنا في الجواب، قال الجوهري: فقلت
لهم: إن الذين رأيتموهم معنا لا نعرفهم، وإنما رأيناهم هنا، وأما نحن فمغنيون،
وأرادوا أخذنا لنغني لهم، فما تخلَّصنا منهم إلا بالحيلة ولين الكلام، فأفرجوا عنا
في هذه الساعة، وقد كان منهم ما رأيتم من أمرهم.
فنظر
الخيالة إلى شمس النهار وإلى علي بن بكار، ثم قالوا لي: لستَ صادقًا في كلامك، فإن
كنتَ صادقًا فأخبرنا مَن أنتم؟ ومَن أين أنتم؟ وما موضعكم؟ وفي أي الحارات أنتم
ساكنون؟ قال الجوهري: فلم أدرِ ما أقول. فوثبَتْ شمس النهار، وتقدمت إلى مقدِّم
الخيالة، وتحدثت معه سرًّا، فنزل من فوق جواده وأركبها عليه، وأخذ بزمامها وصار
يقودها، وكذلك فعل بعلي بن بكار، وفعل بي أيضًا، ثم إن مقدم الخيالة لم يزل سائرًا
بنا إلى موضع على جانب البحر، وصاح بالرطانة، فأقبل له جماعة من البرية فطلَّعنا
المقدم في زورق، وطلَّع أصحابه في زورق آخر، وقذفوا بنا إلى أن انتهينا إلى دار
الخلافة، ونحن نكابد الموت من شدة الخوف، ولم نزل سائرين إلى أن انتهينا إلى المحل
الذي نتوصَّل منه إلى موضعنا. فنزلنا إلى البر ومشينا، ومعنا جماعة من خيالة
يؤانسوننا إلى أن دخلنا الدار، وحين دخلناها ودَّعَنا مَن كان معنا من الخيالة،
ومضوا إلى حال سبيلهم، وأما نحن فقد دخلنا مكاننا ونحن لا نقدر أن نتحرك من
مكاننا، ولا ندري الصباح من المساء، ولم نزل على هذه الحالة إلى أن أصبح الصباح،
فلما جاء آخر النهار سقط علي بن بكار مغشيًّا عليه، وبكى عليه النساء والرجال، وهو
مطروح لم يتحرك، فجاءني بعض أهله وقالوا: حدِّثنا بما جرى لولدنا، وأخبرنا بسبب
الحال الذي هو فيه. فقلت لهم: يا قوم اسمعوا كلامي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ
عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 165﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الجوهري قال لهم: يا قوم اسمعوا كلامي ولا تفعلوا بي
مكروهًا، واصبروا وهو يفيق ويخبركم بقصته بنفسه. ثم شددت عليهم وخوَّفتهم من
الفضيحة بيني وبينهم، فبينما نحن كذلك وإذا بعلي بن بكار تحرَّك في فراشه، ففرح
أهله وانصرف الناس عنه، ومنعني أهله من الخروج من عنده، ثم رشوا ماء الورد على
وجهه، فلما أفاق وشمَّ الهواء، صاروا يسألونه عن حاله، فصار يخبرهم ولسانه لا يرد
جوابًا بسرعة، ثم أشار إليهم أن يطلقوني لأذهب إلى منزلي، فأطلقوني فخرجت وأنا لا
أصدق بالخلاص، وأتيت إلى داري وأنا بين رجلين حتى وصلت إلى أهلي، فلما رأوني على
تلك الحالة لطموا على وجوههم، فأومأتُ إليهم بيدي أن اسكتوا، فسكتوا، وانصرف
الرجلان إلى حال سبيلهم، وانقلبت على فراشي بقية ليلتي ولم أفق إلى وقت الضحى،
فوجدت أهلي مجتمعين حولي يقولون: ما الذي دهاك وبشرِّه رماك؟ فقلت: ائتوني بشيء من
الشراب. فجاءوا لي بشراب شربت منه حتى استكفيت، ثم قلت لهم: كان ما كان فانصرفوا
إلى حال سبيلهم. ثم اعتذرت إلى أصحابي وسألتهم عن الذي ذهب من داري، هل عاد شيء
منه؟ فقالوا: عاد البعض، وسببه أنه جاء إنسان ورماه في باب الدار ولم ننظره.
فسليت
نفسي وأقمت في مكاني يومين وأنا لا أقدر على القيام من محلي، ثم قويت نفسي ومشيت
حتى دخلت الحمام وأنا قلبي مشغول من جهة ابن بكار وشمس النهار، ولم أسمع لهما
خبرًا في تلك المدة، ولم أستطع الوصول إلى دار علي بن بكار، ولم يستقر لي قرار في
مكاني خوفًا على نفسي، ثم تبت إلى الله تعالى عما صدر مني وحمدته على سلامتي. وبعد
مدة حدثتني نفسي أن أقصد تلك الناحية وأرجع في ساعة، فلما أردت المسير رأيت امرأة
واقفة، فتأملتها وإذا هي جارية شمس النهار، فلما عرفتها سرت وهرولت في سيري،
فتبعتني فداخلني منها الفزع، وصرت كلما أنظرها يأخذني الرعب منها وهي تقول لي: قف
حتى أحدِّثك بشيء. لم ألتفت إليها، ولم أزل سائرًا إلى مسجد في موضع خالٍ من
الناس، فقالت لي: ادخل هذا المسجد لأقول لك كلمة، ولا تخف من شيء. وحلَّفتني،
فدخلت المسجد ودخلت خلفي، فصليت ركعتين، ثم تقدَّمْتُ إليها وأنا أتأوَّه، وقلت
لها: ما بالك؟ فسألتني عن حالي، فحدَّثتها بما وقع لي، وأخبرتها بما جرى لعلي بن
بكار، وقلت لها: ما خبرك؟ فقالت: اعلم أني لما رأيت الرجال كسروا باب دارك ودخلوا،
خفت منهم وخشيت أن يكونوا من عند الخليفة فيأخذوني أنا وسيدتي فنهلك من وقتنا،
فهربت من السطوح أنا والوصيفتان، ورمينا أنفسنا من مكان عالٍ، ودخلنا على قوم
فهربنا عندهم حتى وصلنا إلى قصر الخلافة، ونحن على أقبح صفة، ثم أخفينا أمرنا،
وصرنا نتقلب على الجمر إلى أن جنَّ الليل، ففتحت باب البحر، واستدعيت الملاح الذي
أخرجنا تلك الليلة، وقلت له: إن سيدتي لم نعلم لها خبرًا، فاحملني في الزورق حتى
أفتش عليها في البحر؛ لعلي أقع على خبرها. فحملني في الزورق وسار بي، ولم أزل
سائرة في البحر حتى انتصف الليل، فرأيت زورقًا أقبل إلى جهة الباب وفيه رجل يجدف،
ومعه رجل آخر، وامرأة مطروحة بينهما، وما زال يجدف حتى وصل إلى البر، فلما نزلت
المرأة تأملتها فإذا هي شمس النهار، فنزلت إليها وقد اندهشت من الفرحة لما رأيتها
بعدما قطعتُ الرجاء منها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 166﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية قالت للجوهري: فنزلت إليها وقد اندهشت من
الفرح بعد أن قطعتُ الرجاء منها، فلما تقدمت بين يديها أمرتني أن أدفع إلى الرجل
الذي جاء بها ألف دينار، ثم حملتها أنا والوصيفتان إلى أن ألقيناها على فراشها،
فأقامت تلك الليلة على حالة مكدرة، فلما أصبح الصباح منعت الجواري والخدم من
الدخول عليها والوصول إليها ذلك اليوم، وفي ثاني يوم أفاقت مما كان بها، فوجدتها
كأنها قد خرجت من مقبرة، فرششت على وجهها ماء الورد، وغيرت ثيابها، وغسلت يديها
ورجليها، ولم أزل ألاطفها حتى أطعمتها شيئًا من الطعام، وأسقيتها شيئًا من
الأشربة، وهي ليس لها قابلية في شيء من ذلك، فلما شمت الهواء وتوجهت إليها
العافية، قلت لها: يا سيدتي، ارفقي بنفسك فقد حصل لك من المشقة ما فيه الكفاية؛
فإنك قد أشرفت على الهلاك. فقالت: والله يا جارية الخير، إن الموت عندي أهون مما
جرى لي، فإني كنت مقتولة لا محالة؛ لأن اللصوص لما خرجوا بنا من دار الجوهري
سألوني وقالوا: من أنتِ؟ وما شأنك؟ فقلت: أنا جارية من المغنيات. فصدقوني، ثم
سألوا علي بن بكار عن نفسه، وقالوا: مَن أنتَ؟ وما شأنك؟ فقال: أنا من عوام الناس.
فأخذونا
وسرنا معهم إلى أن انتهوا بنا إلى موضعهم، ونحن نسرع في السير معهم من شدة الخوف،
فلما استقروا بنا في أماكنهم، تأملوني ونظروا ما عليَّ من الملبوس والعقود
والجواهر، فأنكروا أمري وقالوا: إن هذه العقود لا تكن لواحدة من المغنيات. ثم
قالوا لي: اصدقينا وقولي لنا الحق، ما قضيتك؟ فلم أرد عليهم جوابًا بشيء، وقلت في
نفسي: الآن يقتلونني لأجل ما عليَّ من الحلي والحلل. فلم أنطق بكلمة.
ثم
التفتوا إلى علي بن بكار وقالوا له: من أين أنتَ، فإن رؤيتك غير رؤية العوام؟
فسكت، وصرنا نكتم أمرنا ونبكي، فحنن الله علينا قلوب اللصوص، فقالوا لنا: مَن صاحب
الدار التي كنتما فيها؟ فقلنا لهم: صاحبها فلان الجوهري. فقال واحد منهم: أنا
أعرفه حق المعرفة، وأعرف أنه ساكن في داره الثانية، وعليَّ أن آتيكم به في هذه
الساعة. واتفقوا على أن يجعلوني في موضع وحدي، وعلي بن بكار في موضع وحده، وقالوا
لنا: استريحَا ولا تخافَا أن ينكشف خبركما، وأنتما في أمان. ثم إن صاحبهما مضى إلى
الجوهري، وأتى به، وكشف أمرنا لهم، واجتمعنا عليه. ثم إن رجلًا منهم أحضر لنا
زورقًا وأطلعونا فيه، وعدَّوا بنا إلى الجانب الثاني، ورمونا إلى البر وذهبوا؛
فأتت خيالة من أصحاب العسس وقالوا: مَن تكونون؟ فتكلمت مع مقدم العسس، وقلت له:
أنا شمس النهار محظية الخليفة، فإني سكرت وخرجت لبعض معارفي من نساء الوزراء،
فجاءني اللصوص وأخذوني وأوصلوني إلى هذا المكان، فلما رأوكم فرُّوا هاربين، وأنا
قادرة على مكافأتك. فلما سمع كلامي مقدم الخيالة عرفني، ونزل عن مركوبه وأركبني،
وفعل كذلك مع علي بن بكار والجوهري، وفي كبدي الآن من أجلهما لهيب النار، لا سيما
الجوهري رفيق ابن بكار، فامضي إليه وسلمي عليه، واستخبريه عن علي بن بكار، فلمتها
على ما وقع وحذَّرتها وقلت لها: يا سيدتي، خافي على نفسك. فصاحت عليَّ وغضبت من
كلامي، ثم قمت من عندها وجئت إليك فلم أجدك، وخشيت من الرواح إلى ابن بكار، فصرت
واقفة أرتقبك حتى أسألك عنه، وأعلم ما هو فيه، فأسألك من فضلك أن تأخذ مني شيئًا
من المال، فإنك ربما استعرت أمتعة من أصحابك، وضاعت عليك، فتحتاج أن تعوض على
الناس ما ذهب لهم من الأمتعة عندك. قال الجوهري: فقلت سمعًا وطاعة، ثم مشيت معها
إلى أن أتينا إلى قرب محلي، فقالت لي: قف هنا حتى أعود إليك. وأدرك شهرزاد الصباح
فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 167﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية قالت للجوهري: قف هنا حتى أعود إليك. ومضت ثم
عادت وهي حاملة المال، فأعطته للجوهري وقالت له: يا سيدي، نجتمع بك في أي محل؟ قال
الجوهري: فقلت لها أتوجه إلى داري في هذه الساعة، ونتحمَّل الصعوبة لأجل خاطرك،
وأتدبر فيما يوصلك إليه، فإنه يتعذر الوصول إليه في هذا الوقت. ثم ودعتني ومضت،
فحملت المال وأتيت به إلى منزلي، وعددت المال فوجدته خمسة آلاف دينار، فأعطيت أهلي
منه شيئًا، ومَن كان له عندي شيء أعطيته عوضًا عنه، ثم إني أخذت غلماني وذهبت إلى
الدار التي ضاعت منها الأمتعة، وجئت بالنجارين والبنائين فأعادوها إلى ما كانت
عليه، وجعلت جاريتي فيها، ونسيت ما جرى لي، ثم تمشيت وأتيت إلى دار علي بن بكار،
فلما وصلت إليها أقبل غلمانه عليَّ، وقال لي واحد منهم: إن غلمان سيدي في طلبك
ليلًا ونهارًا، ووعدهم أن كلَّ مَن أتاه بك يعتقه، فهم يفتشون عليك، ولم يعرفوا لك
موضعًا، وقد رجعَتْ إلى سيدي عافيته، وهو تارةً يفيق وتارةً يستغرق، فلما يفيق
يذكرك، ويقول: لا بد أن تحضروه لي لحظة ويعود إلى حال سبيله. قال الجوهري: فمضيت
مع الغلام إلى سيده، فوجدته لا يستطيع الكلام، فلما رأيته جلست عند رأسه ففتح
عينيه، فلما رآني بكى وقال لي: أهلًا ومرحبًا. ثم سندته وأجلسته وضممته إلى صدري،
فقال لي: اعلم يا أخي أني من حين رقدت ما جلست إلا في هذه الساعة، فالحمد لله على
مشاهدتك. قال الجوهري: فلم أزل أسنده حتى أوقفته على رجلَيْه، ومشَّيته خطوات،
وغيَّرت أثوابه وشرب شرابًا، فلما رأيت عليه علامة العافية، حدَّثته بما كان من
الجارية ولم يسمعني أحد. ثم قلت له: شد حيلك فأنا أعرف ما بك. فتبسم، فقلت له: إنك
لا تجد إلا ما يسرك ويداويك.
ثم
إن علي بن بكار أمر بإحضار الطعام فأحضروه، وأشار إلى غلمانه فتفرقوا، ثم قال لي:
يا أخي، هل رأيت ما أصابنا؟ واعتذر لي وسألني عن حالي في هذه المدة، فأخبرته بجميع
ما جرى لي من الأول إلى الآخر، فتعجب ثم قال للخدم: ائتوني بكذا. فأتوه بفرش نفيس،
وغير ذلك من تعاليق الذهب والفضة أكثر من الذي ضاع لي، وأعطاني جميع ذلك، فأرسلته
إلى منزلي وأقمت عنده ليلتي. فلما أسفر الصبح قال لي: اعلم أن لكل شيء نهاية،
ونهاية الهوى الموت والوصال، وأنا إلى الموت أقرب، فيا ليتني مت قبل الذي جرى،
ولولا أن الله لطف بنا لافتضحنا، ولا أدري ما الذي يوصلني إلى الخلاص مما أنا فيه،
ولولا خوفي من الله لعجلت على نفسي بالهلاك، واعلم يا أخي أنني كالطير في القفص،
وأن نفسي هالكة من الغصص، ولكن لها وقت معلوم، وأجل محتوم. ثم أفاض دمع العين،
وأنشد هذين البيتين:
شَكَا
أَلَمَ الْفِرَاقِ النَّاسُ قَبْلِي
وَرُوِّعَ بِالنَّوَى حَيٌّ وَمَيْتُ
وَأَمَّا
مِثْلُ مَا ضَمَّتْ ضُلُوعِي
فَإِنِّي مَا سَمِعْتُ وَلَا رَأَيْتُ
فلما
فرغ من شعره قال له الجوهري: يا سيدي، اعلم أني عزمت على الذهاب إلى داري، فلعل
الجارية ترجع إليَّ بخبر. فقال علي بن بكار: لا بأس بذلك، ولكن أسرع بالعود لعندنا
لأجل أن تخبرني. قال الجوهري: فودعته وانصرفت إلى داري، فلم يستقر بي الجلوس حتى
رأيت الجارية أقبلت، وهي في بكاء ونحيب، فقلت لها: ما سبب ذلك؟ فقالت: يا سيدي،
اعلم أنه حل بنا ما حل من أمرٍ نخافه، فإني لما مضيت من عندك بالأمس وجدت سيدتي
مغتاظة على وصيفة من الوصيفتين اللتين كانتا معنا تلك الليلة، وأمرت بضربها، فخافت
من سيدتها وهربت، فلاقاها بعض الموكلين بالباب، فأخذها وأراد ردَّها إلى سيدتها،
فلوحت له بالكلام، فلاطفها واستنطقها عن حالها، فأخبرته بما كنا فيه، فبلغ الخبر
إلى الخليفة فأمر بنقل سيدتي شمس النهار وجميع ما لها إلى دار الخلافة، ووكَّل بها
عشرين خادمًا، ولم أجتمع بها إلى الآن، ولم أُعلِمها بالسبب، وتوهمت أنه بسبب ذلك،
فخشيت على نفسي واحترت، ولم أدرِ كيف أحتال في أمري وأمرها، ولم يكن عندها أحفظ
لكتمان السر مني. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 168﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية قالت للجوهري: إن سيدتي لم يكن عندها أحفظ
لكتمان السر مني، فتوجه يا سيدي إلى علي بن بكار سريعًا، وأخبره بذلك؛ لأجل أن
يكون على أهبة، فإذا انكشف الأمر نتدبر في شيء نفعله لنجاة أنفسنا. قال الجوهري:
فأخذني من ذلك همٌّ عظيم، وصار الكون في وجهي ظلامًا من كلام الجارية، وهمَّت
الجارية بالانصراف، فقلت لها: وما الرأي؟ فقالت لي: الرأي أن تبادر إلى علي بن
بكار إنْ كان صديقك وتريد له النجاة، وأنت عليك تبليغ هذا الخبر له بسرعة، وأنا
عليَّ أن أتقيد باستنشاق الأخبار. ثم ودعتني وخرجت. فلما خرجت الجارية قمت وخرجت
في إثرها، وتوجَّهت إلى علي بن بكار فوجدته يحدِّث نفسه بالوصال، ويعلِّلها
بالمحال، فلما رآني رجعت إليه عاجلًا قال لي: إني أراك رجعت إليَّ في الحال. فقلت
له: أقصر من التعلق المطال، ودَعْ ما أنت فيه من الاشتغال، فقد حدث حادث يفضي إلى
تلف نفسك ومالك. فلما سمع هذا الكلام تغيَّر حاله، وانزعج وقال للجوهري: يا أخي،
أخبرني بما وقع. فقال له الجوهري: يا سيدي، اعلم أنه قد جرى ما هو كذا وكذا، وأنك
إن أقمت في دارك هذه إلى آخر النهار فأنت تالف ولا محالة. فبُهت علي بن بكار،
وكادت روحه أن تفارق جسده، ثم استرجع بعد ذلك، وقال له: ماذا أفعل يا أخي، وما
عندك من الرأي؟ قال الجوهري: فقلت له: الرأي أن تأخذ معك من مالك ما تقدر عليه،
ومن غلمانك مَن تثق به، وأن تمضي بنا إلى ديار غير هذه قبل أن ينقضي هذا النهار.
فقال لي: سمعًا وطاعة.
ثم
وثب وهو متحيِّر في أمره، فتارةً يمشي وتارةً يقع، وأخذ ما قدر عليه واعتذر إلى
أهله وأوصاهم بمقصوده، وأخذ معه ثلاثة جمال محملة وركب دابته، وقد فعلت أنا كما
فعل، ثم خرجنا خفية وسرنا، ولم نزل سائرين باقي يومنا وليلتنا، فلما كان آخر الليل
حططنا حمولنا، وعَقَلنا جمالنا ونمنا، فحلَّ علينا التعب، وغفلنا عن أنفسنا، وإذا
باللصوص أحاطوا بنا، وأخذوا جميع ما كان معنا، وقتلوا الغلمان لما أرادوا أن
يمنعوا عنَّا، ثم تركونا مكاننا، ونحن في أقبح حال بعد أن أخذوا المال وساروا،
فلما قمنا مشينا إلى أن أصبح الصباح، فوصلنا إلى بلد فدخلناه وقصدنا مسجده ونحن
عرايا، وجلسنا في جنب المسجد باقي يومنا، فلما جاء الليل بتنا في المسجد تلك
الليلة، ونحن من غير أكل ولا شرب، فلما أصبح الصباح صلينا الصبح وجلسنا، وإذا برجل
داخل فسلم علينا، وصلى ركعتين ثم التفت إلينا وقال: يا جماعة، هل أنتم غرباء؟
قلنا: نعم، وقطع اللصوص علينا الطريق وعرَّونا، ودخلنا هذا البلد ولا نعرف فيه
أحدًا نأوي عنده. فقال لنا الرجل: هل لكم أن تقوموا معي إلى داري؟ قال الجوهري:
فقلت لعلي بن بكار: قم بنا معه فننجو من أمرين؛ الأول: أننا نخشى أن يدخل علينا
أحد يعرفنا في هذا المسجد فنفتضح، والثاني: أننا ناس غرباء، وليس لنا مكان نأوي
إليه. فقال علي بن بكار: افعل ما تريد. ثم إن الرجل قال لنا ثاني مرة: يا فقراء
أطيعوني وسيروا معي إلى مكاني. قال الجوهري: فقلت له: سمعًا وطاعة.
ثم
إن الرجل خلع لنا شيئًا من ثيابه وألبسنا ولاطفنا، فقمنا معه إلى داره فطرق الباب
فخرج إلينا خادم صغير وفتح الباب، فدخل الرجل صاحب المنزل ودخلنا خلفه، ثم إن
الرجل أمر بإحضار بقجة فيها أثواب وشاشات، فألبسنا حلَّتين وأعطانا شاشين،
فتعمَّمنا وجلسنا، وإذا بجارية أقبلت إلينا بمائدة، ووضعتها بين أيدينا فأكلنا شيئًا
يسيرًا، ورفعت المائدة، ثم أقمنا عنده إلى أن دخل الليل فتأوَّه علي بن بكار، وقال
للجوهري: يا أخي، اعلم أنني هالك لا محالة، وأريد أن أوصيك وصية، وهي أنك إذا
رأيتني مت تذهب إلى والدتي، وتخبرها أن تأتي إلى هذا المكان؛ لأجل أن تأخذ عزائي،
وتحضر غسلي، وأوصها أن تكون صابرة على فراقي. ثم وقع مغشيًّا عليه، فلما أفاق سمع
جارية تغني من بعيد وتنشد الأشعار، فصار يصغي إليها ويسمع صوتها، وهو تارةً يسكر،
وتارةً يصحو، وتارةً يبكي شجنًا وحزنًا مما أصابه، فسمع الجارية تطرب بالنغمات،
وتنشد هذه الأبيات:
عَجَّلَ
الْبَيْنُ بَيْنَنَا بِالْفِرَاقِ
بَعْدَ إِلْفٍ وَجِيرَةٍ وَاتِّفَاقِ
فَرَّقَتْ
بَيْنَنَا صُرُوفُ اللَّيَالِي
لَيْتَ شِعْرِي مَتَى يَكُونُ التَّلَاقِي
مَا
أَمَرَّ الْفِرَاقَ بَعْدَ اجْتِمَاعٍ
لَيْتَهُ مَا أَضَرَّ بِالْعُشَّاقِ
غَصَّةُ
الْمَوْتِ سَاعَةً ثُمَّ تَقْضِي
وَفِرَاقُ الْحَبِيبِ فِي الْقَلْبِ بَاقِ
لَوْ
وَجَدْنَا إِلَى الْفِرَاقِ سَبِيلًا
لَأَذَقْنَا الْفِرَاقَ طَعْمَ الْفِرَاقِ
فلما
سمع ابن بكار الجارية شهق شهقة ففارقت روحه جسده، قال الجوهري: فلما رأيته مات
أوصيت عليه صاحب الدار، وقلت له: اعلم أنني متوجه إلى بغداد لأخبر والدته وأقاربه
حتى يأتوا ليجهِّزوه. ثم إني توجهت إلى بغداد ودخلت داري وغيَّرت ثيابي، وبعد ذلك
ذهبت إلى دار علي بن بكار، فلما رآني غلمانه أتوا إليَّ وسألوني عنه، وسألتهم أن
يستأذنوا والدته في الدخول عليها، فأذنت لي بالدخول، فدخلت وسلمت عليها، وقلت: إن
الله إذا قضى أمرًا لا مفر من قضائه، وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابًا
مؤجلًا. فتوهَّمَتْ أمُّ علي بن بكار من هذا الكلام أن ابنها قد مات، فبكت بكاءً
شديدًا، ثم قالت: بالله عليك أن تخبرني، هل توفي ولدي؟ فلم أقدر أن أرد عليها
جوابًا من كثرة الجزع، فلما رأتني على تلك الحالة انخنقت بالبكاء، ثم وقعت على
الأرض مغشيًّا عليها، فلما أفاقت من غشيتها قالت: ما كان من أمر ولدي؟ فقلت لها:
أعظم الله أجرك فيه. ثم إني حدثتها بما كان من أمره من المبتدأ إلى المنتهى، قالت:
هل أوصاك بشيء؟ فقلت لها: نعم. وأخبرتها بما أوصاني به، وقلت لها: أسرعي في
تجهيزه. فلما سمعت أم علي بن بكار كلامي سقطت مغشيًّا عليها، فلما أفاقت عزمت على
ما أوصيتها به. ثم إني رجعت إلى داري، وصرت في الطريق أتفكر في حسن شبابه؛ فبينما
أنا كذلك، وإذا بامرأة قد قبضت على يدي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام
المباح.
﴿اللیلة 169﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الجوهري قال: وإذا بامرأة قد قبضت على يدي، فتأملتها
فرأيتها الجارية التي كانت تأتي من عند شمس النهار، وقد علاها الانكسار، فلما
تعارفنا بكينا جميعًا حتى أتينا إلى تلك الدار، فقلت لها: هل علمت بخبر علي بن
بكار؟ فقالت: لا والله. فأخبرتها بخبره وما كان من أمره، ثم إني قلت لها: فكيف حال
سيدتك؟ فقالت: لم يقبل فيها أمير المؤمنين قول أحد لشدة محبته لها، وقد حمل جميع
أمورها على المحامل الحسنة، وقال لها: يا شمس النهار، أنت عندي عزيزة، وأنا
أتحمَّلك على رغم أعدائك. ثم أمر لها بفرش مقصورة مذهبة وحجرة مليحة، وصارت عنده
من ذلك في قبول عظيم، فاتفق أنه جلس يومًا من الأيام على جري عادته للشراب، وحضرت
المحاظي بين يديه فأجلسهن في مراتبهن، وأجلسها بجانبه، وقد عدمت صبرها وزاد أمرها،
فعند ذلك أمَرَ جاريةً من الجواري أن تغني، فأخذت العود وضربت به وجعلت تقول:
وَدَاعٍ
دَعَانِي لِلْهَوَى فَأَجَبْتُهُ
وَدَمْعِي يَخُطُّ الْوَجْدَ خَطًّا عَلَى خَدِّي
كَأَنَّ
دُمُوعَ الْعَيْنِ تُخْبِرُ حَالَنَا
فَتُبْدِي الَّذِي أُخْفِي وَتُخْفِي الَّذِي أُبْدِي
فَكَيْفَ
أَرُومُ السِّرَّ أَوْ أَكْتُمُ الْهَوَى
وَفَرْطُ غَرَامِي فِيكَ يُظْهِرُ مَا عِنْدِي
وَقَدْ
طَابَ مَوْتِي عِنْدَ فَقْدِ أَحِبَّتِي
فَيَا لَيْتَ شِعْرِي مَا يَطِيبُ لَهُمْ بُعْدِي
فلما
سمعت شمس النهار إنشاد تلك الجارية لم تستطع الجلوس، ثم سقطت مغشيًّا عليها، فرمى
الخليفة القدح، وجذبها عنده وصاح، وضجت الجواري، وقلبها أمير المؤمنين فوجدها
ميتة، فحزن أمير المؤمنين لموتها، وأمر أن يُكسَر ما كان في الحضرة من الآلات
والقوانين، وحملها في حجرة بعد موتها، ومكث عندها باقي ليلته، فلما طلع النهار
جهَّزها وأمر بغسلها وتكفينها ودفنها، وحزن عليها حزنًا كثيرًا، ولم يسأل عن
حالها، ولا عن الأمر الذي كانت فيه. ثم قالت الجارية للجوهري: سألتك بالله أن
تعلمني بوقت خروج جنازة علي بن بكار، وأن تحضرني دفنه. فقال لها: أما أنا ففي أي
محل شئت تجديني، وأما أنت فمَن يستطيع الوصول إليك في المحل الذي أنت فيه؟ فقالت
له: إن أمير المؤمنين لما ماتت شمس النهار، أعتق جواريها من يوم موتها، وأنا من
جملتهن، ونحن مقيمات على تربتها في المحل الفلاني. فقمت معها وأتيت إلى المقبرة،
وزُرت شمس النهار، ثم مضيت إلى حالي، ولم أزل أنتظر جنازة علي بن بكار إلى أن
جاءت، فخرجت له أهل بغداد، وخرجت معهم، فوجدت الجارية بين النساء، وهي أشدهن
حزنًا، ولم أرَ جنازة ببغداد أعظم من هذه الجنازة، وما زلنا في ازدحام عظيم إلى أن
انتهينا إلى قبره ودفناه، وصرت لا أنقطع عن زيارته، ولا عن زيارة شمس النهار. هذا
ما كان من حديثهما، وليس هذا بأعجب من حديث الملك شهرمان. وأدرك شهرزاد الصباح
فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 170﴾
حكاية قمر الزمان مع الملكة بدور
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أنه كان في قديم الزمان ملك يُسمَّى شهرمان، صاحب عسكر
وخدم وأعوان، إلا أنه كَبُرت سنُّه، ورقَّ عظمه، ولم يُرزَق بولد، فتفكَّر في نفسه
وحزن وقلق، وشكا ذلك لبعض وزرائه، وقال: إني أخاف إذا مت ضاع الملك؛ لأنه ليس لي
ولد يتولاه بعدي. فقال له ذلك الوزير: لعل الله يُحدِث بعد ذلك أمرًا، فتوكل على
الله أيها الملك وتوضأ وصلِّ ركعتين، ثم جامِعْ زوجتك لعلك تبلغ مطلوبك. فجامَعَ
زوجته فحملت في تلك الساعة، ولما كملت أشهرها وضعت ولدًا ذكرًا كأنه البدر السافر
في الليل العاكر، فسماه قمر الزمان، وفرح به غاية الفرح، وزيَّنوا المدينة سبعة
أيام، ودقت الطبول، وأقبلت البشائر، وحملته المراضع والدايات، وتربَّى في العز
والدلال حتى صار له من العمر خمس عشرة سنة، وكان فائقًا في الحسن والجمال، والقد
والاعتدال، وكان أبوه يحبه، ولا يقدر أن يفارقه ليلًا ولا نهارًا، فشكا الملك
شهرمان لأحد وزرائه فرط محبته لولده، وقال: أيها الوزير، إني خائف على ولدي قمر
الزمان من طوارق الدهر والحدثان، وأريد أن أزوِّجه في حياتي. فقال له الوزير: اعلم
أيها الملك أن الزواج من مكارم الأخلاق، ولا بأس أن تزوِّج ولدك في حياتك. فعند
ذلك قال الملك شهرمان: إليَّ بولدي قمر الزمان. فحضر وأطرق رأسه إلى الأرض حياءً
من أبيه، فقال له أبوه: يا قمر الزمان، اعلم أني أريد أن أزوِّجك وأفرح بك في
حياتي. فقال له: اعلم يا أبي أنني ما لي في الزواج أرب، وليست نفسي تميل إلى
النساء؛ لأني وجدت في مكرهن كتبًا بالروايات، وبكيدهن وردت الآيات، وقال الشاعر:
فَإِنْ
تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي
خَبِيرٌ بِأَحْوَالِ النِّسَاءِ طَبِيبُ
إِذَا
شَابَ رَأْسُ الْمَرْءِ أَوْ قَلَّ مَالُهُ
فَلَيْسَ لَهُ مِنْ وُدِّهِنَّ نَصِيبُ
وقال
الآخر:
اعص
النساء فتلك الطاعة الحسنه ولن يسود
فتى أعطى النساء رسنه
تعوقه
عن كمال في فضائله ولو سعى طالبا
للعلم ألف سنه
ولما
فرغ من شعره قال: يا أبي، إن الزواج شيء لا أفعله أبدًا ولو سُقِيت كأس الردى.
فلما سمع السلطان شهرمان من ولده هذا الكلام، صار الضياء في وجهه ظلامًا، واغتم
غمًّا شديدًا على عدم مطاوعة ولده قمر الزمان له. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن
الكلام المباح.
﴿اللیلة 171﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك شهرمان لما سمع من ولده هذا الكلام، صار الضياء
في وجهه ظلامًا، واغتمَّ على عدم مطاوعة ولده قمر الزمان له، ومن محبته له لم
يكرِّر عليه الكلام في ذلك ولم يغضبه، بل أقبل عليه وأكرمه ولاطفه بكل ما يجلب
المحبة إلى القلب، كل ذلك وقمر الزمان يزداد كل يوم حسنًا وجمالًا، وظرفًا
ودلالًا، فصبر الملك شهرمان على ولده سنة كاملة حتى صار كامل الفصاحة والملاحة،
وتهتَّكت في حسنه الورى، ويروي لطفه كلَّ نسيم سرى، وصار فتنةً للعشاق، وروضةً
للمشتاق، عذب الكلام يُخجِل وجهه بدر التمام، صاحب قدٍّ واعتدال، وظُرف ودلال،
كأنه غصن بان، أو قضيب خيزران، ينوب خده عن شقائق النعمان، وقدُّه عن غصن البان،
ظريف الشمائل كما قال فيه القائل:
بَدَا
فَقَالُوا تَبَارَكَ اللهُ جَلَّ
الَّذِي صَاغَهُ وَسَوَّاهُ
مَلِيكُ
كُلِّ الْمِلَاحِ قَاطِبَةً فَكُلُّهُمْ
أَصْبَحُوا رَعَايَاهُ
فِي
رِيقِهِ شَهْدَةٌ مُذَوَّبَةٌ
وَانْعَقَدَ الدُّرُّ فِي ثَنَايَاهُ
مُكَمَّلًا
بِالْجَمَالِ مُنْفَرِدًا كُلُّ
الْوَرَى فِي جَمَالِهِ تَاهُوا
قَدْ
كَتَبَ الْحُسْنَ فَوْقَ وَجْنَتِهِ
أَشْهَدُ أَنْ لَا مَلِيحَ إِلَّا هُوْ
فلما
تكاملت سنة أخرى لقمر الزمان ابن الملك شهرمان، دعاه والده إليه وقال له: يا ولدي،
أَمَا تسمع مني؟ فوقع قمر الزمان على الأرض بين يدي أبيه هيبةً واستحى منه، وقال
له: يا أبي، كيف لا أسمع منك، وقد أمرني الله بطاعتك وعدم مخالفتك؟ فقال له الملك
شهرمان: اعلم يا ولدي أني أريد أن أزوِّجك وأفرح بك في حياتي، وأسلطنك في مملكتي
قبل مماتي. فلما سمع قمر الزمان من أبيه هذا الكلام أطرق رأسه ساعة، وبعد ذلك رفع
رأسه وقال: يا أبي، هذا شيء لا أفعله أبدًا ولو سُقيت كأس الردى، وأنا أعلم أن
الله فرض عليَّ طاعتك، فبحق الله عليك لا تكلِّفني أمرَ الزواج، ولا تظن أني
أتزوَّج طول عمري؛ لأنني قرأت في كتب المتقدمين والمتأخرين، وعرفت جميع ما جرى لهم
من المصائب والآفات بسبب فتن النساء ومكرهن غير المتناهي، وما يحدث عنهن من
الدواهي، وما أحسن قول الشاعر:
مَنْ
كَادَهُ الْعَاهِرَاتُ فَلَا يَرَى
مِنْ خَلَاصِ
وَلَوْ
بَنَى أَلْفَ حِصْنٍ مُشَيَّدَةً
بِالرَّصَاصِ
فَلَيْسَ
يُجْدِي بِنَاهَا وَلَا تُفِيدُ
الصَّيَاصِي
إِنَّ
النِّسَا خَائِنَاتٌ لِكُلِّ دَانٍ
وَقَاصِ
مُخَضِّبَاتُ
بَنَانٍ مُضَفِّرَاتُ عِقَاصِ
مُكَحِّلَاتُ
جُفُونٍ مُجَرِّعَاتُ غُصَاصِ
وما
أحسن قول الآخر:
إِنَّ
النِّسَاءَ وَإِنْ دُعِينَ لِعَفَّةٍ
رِمَمٌ تُقَلِّبُهَا النُّسُورُ الْحُوَّمُ
فِي
اللَّيْلِ عِنْدَكَ سِرُّهَا وَحَدِيثُهَا
وَغَدًا لِغَيْرِكَ سَاقُهَا وَالْمِعْصَمُ
كَالْخَانِ
تَسْكُنُهُ وَتُصْبِحُ رَاحِلًا
فَيَحُلُّ بَعْدَكَ فِيهِ مَنْ لَا تَعْلَمُ
فلما
سمع الملك شهرمان من ولده قمر الزمان هذا الكلام، وفهم الشعر والنظام، لم يردَّ
عليه جوابًا من فرط محبته له، وزادَه من إنعامه وإكرامه، وانفضَّ ذلك المجلس من
تلك الساعة، وبعد انفضاض ذلك المجلس طلب الملك شهرمان وزيره واختلى به، وقال له:
أيها الوزير … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 172﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك شهرمان طلب وزيره واختلى به، وقال له: أيها
الوزير، قل لي ما الذي أفعله في قضية ولدي قمر الزمان، فإني استشرتك في زواجه قبل
أن أسلطنه فأشرت عليَّ بذلك، وأشرت عليَّ أيضًا أن أذكر له أمر الزواج فذكرته له
فخالفني، فَشِرْ عليَّ الآن بما تراه حسنًا. فقال له الوزير: الذي أشور به عليك
الآن أيها الملك أن تصبر عليه سنة أخرى، فإذا أردتَ أن تكلِّمه بعدها في أمر
الزواج فلا تكلمه سرًّا، ولكن حدِّثه في يوم حكومة، ويكون جميع الأمراء والوزراء
حاضرين، وجميع العساكر واقفين، فإذا اجتمع هؤلاء فأرسل إلى ولدك قمر الزمان في تلك
الساعة وأحضره، فإذا حضر فخاطبه في أمر الزواج بحضرة جميع الأمراء والوزراء،
والحُجَّاب والنواب، وأرباب الدولة، والعساكر، وأصحاب الصولة، فإنه يستحي منهم،
وما يقدر أن يخالفك بحضرتهم. فلما سمع الملك شهرمان من وزيره هذا الكلام، فرح
فرحًا شديدًا واستصوب رأي الوزير في ذلك، وخلع عليه خلعة سنيَّة. وصبر الملك
شهرمان على ولده قمر الزمان سنة، وكلما مضى عليه يوم من الأيام يزداد حسنًا
وجمالًا، وبهجةً وكمالًا، حتى بلغ من العمر قريبًا من عشرين عامًا، وألبسه الله
حلل الجمال، وتوَّجه بتاج الكمال، وصار طرفه أسحر من هاروت، وغنج ألحاظه أضل من
الطاغوت، وأشرقت خدوده بالاحمرار، وازدرت جفونه بالصارم البتار، وبياض غرته حكى
القمر الزاهر، وسواد شعره كأنه الليل العاكر، وخصره أرق من خيط هميان، وردفه أثقل
من الكثبان، تهيج البلابل على أعطافه، ويشتكي خصره من ثقل أردافه، ومحاسنه حيَّرت
الورى، كما قال فيه بعض الشعراء:
قَسَمًا
بِوَجْنَتِهِ وَبَاسِمِ ثَغْرِهِ
وَبِأَسْهُمٍ قَدْ رَاشَهَا مِنْ سِحْرِهِ
وَبِلِينِ
عِطْفَيْهِ وَمُرْهَفِ لَحْظِهِ
وَبَيَاضِ غُرَّتِهِ وَأَسْوَدِ شَعْرِهِ
وَبِحَاجِبٍ
حَجَبَ الْكَرَى عَنْ صَبِّهِ
وَسَطَا عَلَيْهِ بِنَهْيِهِ وَبِأَمْرِهِ
وَعَقَارِبَ
قَدْ أُرْسِلَتْ مِنْ صُدْغِهِ
وَسَعَتْ لِقَتْلِ الْعَاشِقِينَ بِهَجْرِهِ
وَبِوَرْدِ
خَدَّيْهِ وَآسِ عِذَارِهِ
وَعَقِيقِ مَبْسَمِهِ وَلُؤْلُؤِ ثَغْرِهِ
وَبِطِيبِ
نَكْهَتِهِ وَسَلْسَالٍ جَرَى فِي
فِيهِ يُزْرِي بِالرَّحِيقِ وَعَصْرِهِ
وَبِرَدْفِهِ
الْمُرْتَجِّ فِي حَرَكَاتِهِ
وَسُكُونِهِ وَبِرَقَّةٍ فِي خَصْرِهِ
وَبِجُودِ
رَاحَتِهِ وَصِدْقِ لِسَانِهِ
وَبِطِيبِ عُنْصُرِهِ وَعَالِي قَدْرِهِ
مَا
الْمِسْكُ إِلَّا مِنْ فُضَالَةِ خَالِهِ
وَالطِّيبُ يَرْوِي رِيحَهُ عَنْ نَشْرِهِ
وَكَذَلِكَ
الشَّمْسُ الْمُنِيرَةُ دُونَهُ
وَأَرَى الْهِلَالَ قُلَامَةً مِنْ ظُفْرِهِ
ثم
إن الملك شهرمان سمع كلام الوزير، وصبر سنة أخرى حتى حصل يوم موسم. وأدرك شهرزاد
الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 173﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك شهرمان سمع كلام الوزير وصبر سنة أخرى حتى حصل
يوم موسم، تكامل فيه مجلس الملك بالأمراء والوزراء والحجَّاب وأرباب الدولة
والعساكر وأصحاب الصولة، ثم إن الملك أرسل خلف ولده قمر الزمان، فلما حضر قبَّل
الأرض بين يديه ثلاث مرات، ووقف مكتِّفًا يديه وراء ظهره قدام أبيه، فقال له أبوه:
اعلم يا ولدي أني ما أحضرتك هذه المرة قدام هذا المجلس، وجميع العساكر حاضرون بين
أيدينا، إلا لأجل أن آمرك بأمر فلا تخالفني فيه، وذلك أن تتزوج؛ لأني أشتهي أن
أزوِّجك بنت ملك من الملوك، وأفرح بك قبل موتي. فلما سمع قمر الزمان من أبيه هذا
الكلام، أطرق برأسه إلى الأرض ساعة، ثم رفع رأسه إلى أبيه، ولحقه في تلك الساعة
جنون الصبا وجهل الشبيبة، وقال له: أما أنا فلا أتزوَّج أبدًا، ولو سُقِيت كئوسَ
الردى، وأما أنت فرجل كبير السن صغير العقل، أليس أنك سألتني قبل هذا اليوم مرتين
غير هذه المرة في شأن الزواج، وأنا لا أجيبك إلى ذلك! ثم إن قمر الزمان فكَّ كتاف
يديه، وشمَّر عن ذراعيه قدَّام أبيه وهو في غيظه، فخجل أبوه واستحى حيث حصل ذلك
قدَّام أرباب دولته والعساكر الحاضرين في الموسم، ثم إن الملك شهرمان لحقته شهامة
المُلك، فصرخ على ولده فأرعبه، وصرخ على المماليك وأمرهم بمسكه فمسكوه، وأمرهم أن
يكتِّفوه فكتَّفوه، وقدَّموه بين يدي الملك وهو مطرق رأسه من الخوف والوجل،
وتكلَّل وجهه وجبينه بالعرق، واشتدَّ به الحياء والخجل، فعند ذلك شتمه أبوه
وسبَّه، وقال له: ويلك يا ولد الزنا، وتربية الخنا! كيف يكون هذا جوابك لي بين
عساكري وجيوشي؟ ولكن أنت إلى الآن ما أدَّبك أحد. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن
الكلام المباح.
﴿اللیلة 174﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك شهرمان قال لولده قمر الزمان: ولكن أنت إلى
الآن ما أدَّبك أحد، أَمَا تعلم أن هذا الأمر الذي صدر منك، لو صدر من عامِّي من
العوام لكان ذلك قبيحًا منه. ثم إن الملك أمر المماليك أن يحلُّوا كتافه ويحبسوه
في برج من أبراج القلعة، فعند ذلك دخل الفرَّاشون القاعة التي في البرج فكنسوها
ومسحوا بلاطها، ونصبوا فيها سريرًا لقمر الزمان، وفرشوا له على السرير طرَّاحة
ونطعًا، ووضعوا له مخدة وفانوسًا كبيرًا وشمعة؛ لأن ذلك المكان كان مظلمًا في
النهار، ثم إن المماليك أدخلوا قمر الزمان في تلك القاعة، وجعلوا على باب القاعة
خادمًا، فعند ذلك طلع قمر الزمان فوق ذلك السرير وهو منكسر الخاطر حزين الفؤاد، قد
عاتب نفسه وندم على ما جرى منه في حق أبيه حيث لا ينفعه الندم، وقال: خيَّب الله
الزواج والبنات والنساء الخائنات، فيا ليتني سمعت من والدي وتزوَّجت، فلو فعلت ذلك
كان أحسن لي من هذا السجن.
هذا
ما كان من أمر قمر الزمان، وأما ما كان من أمر أبيه، فإنه أقام على كرسي مملكته
بقية اليوم إلى وقت الغروب، ثم خلا بالوزير، وقال له: اعلم أيها الوزير أنك كنت
السبب في هذا الذي جرى بيني وبين ولدي كله؛ حيث أشرتَ عليَّ بما أشرتَ، فما الذي
تشور به عليَّ الآن؟ فقال له الوزير: أيها الملك، دَعْ ولدك في السجن مدة خمسة عشر
يومًا، ثم أحضره بين يديك وَأْمُره بالزواج فإنه لا يخالفك أبدًا. وأدرك شهرزاد
الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 175﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الوزير قال للملك شهرمان: دَعْ ولدك في السجن مدة
خمسة عشر يومًا، ثم أحضره بين يديك وَأْمُره بالزواج فإنه لا يخالفك أبدًا. فقَبِل
الملك رأي الوزير في ذلك، ونام تلك الليلة وهو مشتغل القلب على ولده؛ لأنه كان
يحبه محبة عظيمة، حيث لم يكن له ولد سواه، وكان الملك شهرمان كل ليلة لا يجيئه نوم
حتى يجعل ذراعه تحت رقبة قمر الزمان وينام، فبات الملك تلك الليلة وهو متشوش
الخاطر من أجله، وصار يتقلب من جنب إلى جنب كأنه نائم على جمر اللظى، ولحقه
الوسواس ولم يأخذه نوم في تلك الليلة بطولها، وذرفت عيناه بالدموع، وأنشد قول الشاعر:
لَقَدْ
طَالَ لَيْلِي وَالْوُشَاةُ هُجُوعُ
وَنَاهِيكَ قَلْبًا بِالْفِرَاقِ مَرُوعُ
أَقُولُ
وَلَيْلِي زَادَ بِالْهَمِّ طُولُهُ
أَمَا لَكَ يَا ضَوْءَ الصَّبَاحِ رُجُوعُ
وقول
الآخَر:
لَمَّا
رَأَيْتُ النَّجْمَ سَاهِيَ طَرْفُهُ
وَالْقُطْبُ قَدْ أَلْقَى عَلَيْهِ سُبَاتَا
وَبَنَاتُ
نَعْشٍ فِي الْحِدَادِ سَوَافِرَ
أَيْقَنْتُ أَنَّ صَبَاحَهُمْ قَدْ مَاتَا
هذا
ما كان من أمر الملك شهرمان، وأما ما كان من أمر قمر الزمان؛ فإنه لما قدم عليه
الليل قدَّم له الخادم الفانوس، وأوقد له شمعة وجعلها في شمعدان، وقدَّم له شيئًا
من المأكل فأكل قليلًا، وصار يعاتب نفسه حيث أساء الأدب في حق أبيه الملك شهرمان،
وقال لنفسه: أَلَمْ تعلم أن ابن آدم رهين لسانه، وأن لسان الآدمي هو الذي يُوقِعه
في المهالك؟! ولم يزل يعاتب نفسه ويلومها حتى غلبت عليه الدموع، واحترق قلبه
المصدوع، وندم على ما خرج من لسانه في حق الملك غاية الندم، وأنشد هذين البيتين:
يَمُوتُ
الْفَتَى مِنْ عَثْرَةٍ مِنْ لِسَانِهِ
وَلَيْسَ يَمُوتُ الْمَرْءُ مِنْ عَثْرَةِ الرِّجْلِ
فَعَثْرَتُهُ
مِنْ فِيهِ تَقْضِي بِحَتْفِهِ وَعَثْرَتُهُ
بِالرِّجْلِ تَبْرَى عَلَى مَهْلِ
ثم
إن قمر الزمان لما فرغ من الأكل طلب أن يغسل يديه، فغسل يديه من الطعام وتوضأ
وصلَّى المغرب والعشاء وجلس … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 176﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن قمر الزمان ابن الملك شهرمان صلَّى المغرب والعشاء،
وجلس على السرير يقرأ القرآن، فقرأ البقرة، وآل عمران، ويس، والرحمن، وتبارك
الملك، والمعوذتين، وختم بالدعاء، واستعاذ بالله، ونام على السرير فوق طرَّاحة من
الأطلس المعدني لها وجهان، وهي محشوة بريش النعام، وحين أراد النومَ تجرَّدَ من
ثيابه، وخلع لباسه، ونام في قميص مشمع رفيع، وكان على رأسه مقنع مروزي أزرق، فصار
قمر الزمان في تلك الليلة كأنه البدر في الليلة الرابعة عشرة، ثم تغطى بملاءة من
حرير ونام، والفانوس موقود تحت رجليه، والشمعة موقودة فوق رأسه، ولم يزل نائمًا إلى
ثلث الليل الأول، ولم يعلم ما خُبِّئ له في الغيب، وما قدره عليه علام الغيوب.
واتفق أن القاعة والبرج كانَا عتيقين مهجورين مدة سنين كثيرة، وكان في تلك القاعة
بئر روماني معمور بجنِّيَّة ساكنة فيه، وهي من ذرية إبليس اللعين، واسم تلك الجنية
ميمونة بنة الدمرياط أحد ملوك الجان المشهورين. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن
الكلام المباح.
﴿اللیلة 177﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن اسم تلك الجنية ميمونة بنة الدمرياط أحد ملوك الجان
المشهورين، فلما استمر قمر الزمان نائمًا إلى ثلث الليل الأول، طلعت تلك العفريتة
من البئر الروماني، وقصدت السماء لاستراق السمع، فلما صارت في أعلى البئر رأت
نورًا مضيئًا في البرج على خلاف العادة، وكانت العفريتة مقيمة في ذلك المكان مدة
مديدة من السنين، فقالت في نفسها: أنا ما عهدت هنا شيئًا من ذلك، وتعجبت من هذا
الأمر غاية العجب، وخطر ببالها أنه لا بد لذلك من سبب، ثم قصدت ناحية ذلك النور
فوجدته خارجًا من القاعة، فدخلتها ووجدت الخادم نائمًا على بابها، ولما دخلت
القاعة، وجدت سريرًا منصوبًا، وعليه هيئة إنسان نائم، وشمعة مضيئة عند رأسه،
وفانوس مضيء عند رجليه؛ فتعجبت العفريتة ميمونة من ذلك النور، وتقدمت إليه قليلًا
قليلًا، وأرخت أجنحتها، ووقفت على السرير، وكشفت الملاءة عن وجهه ونظرت إليه،
واستمرت باهتة في حسنه وجماله ساعة زمانية، وقد وجدت ضوء وجهه غالبًا على نور
الشمعة، وصار وجهه يتلألأ نورًا، وقد غازلت عيناه، واسودَّت مقلتاه، واحمرَّ
خدَّاه، وفتر جفناه، وتقوَّس حاجباه، وفاح مسكه العاطر، كما قال فيه الشاعر:
قَبَّلْتُهُ
فَاسْوَدَّتِ الْمُقَلُ الَّتِي
هِيَ فِتْنَتِي وَاحْمَرَّتِ الْوَجَنَاتُ
يَا
قَلْبُ إِنْ زَعَمَ الْعَوَاذِلُ أَنَّهُ
فِي الْحُسْنِ يُوجَدُ مِثْلُهُ قُلْ هَاتُوا
فلما
رأته العفريتة ميمونة بنت الدمرياط، سبَّحت الله وقالت: تبارك الله أحسن الخالقين.
وكانت تلك العفريتة من الجن المؤمنين؛ فاستمرت ساعة وهي تنظر إلى وجه قمر الزمان
وتوحد الله، وتغبطه على حسنه وجماله، وقالت في نفسها: والله إني لا أضره، ولا أترك
أحدًا يؤذيه، ومن كل سوء أفديه، فإن هذا الوجه المليح لا يستحق إلا النظر إليه
والتسبيح، ولكن كيف هان على أهله حتى نسوه في هذا المكان الخرب؟ فلو طلع له أحد من
مَرَدتنا في هذه الساعة لعطبه. ثم إن تلك العفريتة مالت عليه وقبَّلته بين عينيه،
وبعد ذلك أرخت الملاءة على وجهه وغطَّته بها، وفتحت أجنحتها وطارت ناحية السماء،
وطلعت من دور تلك القاعة وصعدت، ولم تزل صاعدة في الجو إلى أن قربت من سماء
الدنيا، وإذا بها سمعت خفق أجنحة طائرة في الهواء، فقصدت ناحية تلك الأجنحة، فلما
قربت من صاحبها وجدته عفريتًا يقال له دهنش، فانقضَّت عليه انقضاض الباشق، فلما
أحسَّ بها دهنش وعرف أنها ميمونة بنت ملك الجن، خاف منها وارتعدت فرائصه، واستجار
بها وقال لها: أقسم عليك بالاسم الأعظم، والطِّلَّسم الأكرم، المنقوش على خاتم
سليمان، أن ترفقي بي ولا تؤذيني.
فلما
سمعت ميمونة من دهنش هذا الكلام، حنَّ قلبها عليه وقالت له: إنك أقسمت عليَّ بقسم
عظيم، ولكن لا أعتقك حتى تخبرني من أين مجيئك في هذه الساعة؟ فقال لها: أيتها
السيدة، اعلمي أن مجيئي من آخر بلاد الصين، ومن داخل الجزائر، وأخبرك بأعجوبة
رأيتها في هذه الليلة، فإن وجدتِ كلامي صحيحًا فاتركيني أروح إلى حال سبيلي،
واكتبي لي بخطك في هذه الساعة أني عتيقك؛ حتى لا يعارضني أحد من أرهاط الجن
الطيَّارة العلوية والسفلية والغواصة. قالت له ميمونة: فما الذي رأيته في هذه
الليلة يا دهنش؟ فأخبرني ولا تكذب عليَّ، وتريد بكذبك أن تنفلت من يدي، وأنا أقسم
بحق النقش المكتوب على فص خاتم سليمان بن داود عليهما السلام إن لم يكن كلامك
صحيحًا نتفت ريشك بيدي، ومزَّقت جلدك، وكسرت عظمك. فقال لها العفريت دهنش بن
شمهورش الطيار: إن لم يكن كلامي صحيحًا فافعلي بي ما شئتِ يا سيدتي. وأدرك شهرزاد
الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 178﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن دهنشًا قال: إني خرجت في هذه الليلة من الجزائر
الداخلة في بلاد الصين، وهي بلاد الملك الغيور، صاحب الجزائر والبحور والسبعة
قصور، فرأيت لذلك الملك بنتًا لم يخلق الله في زمانها أحسن منها، ولا أعرف كيف
أَصِفها لك، ويعجز لساني عن وصفها كما ينبغي، ولكن أذكر لك شيئًا من صفاتها على
سبيل التقريب؛ أمَّا شعرها فكليالي الهجر والانفصال، وأما وجهها فكأيام الوصال،
وقد أحسن في وصفها مَن قال:
نَشَرَتْ
ثَلَاثَ ذَوَائِبٍ مِنْ شَعْرِهَا
فِي لَيْلَةٍ فَأَرَتْ لَيَالِي أَرْبَعَا
وَاسْتَقْبَلَتْ
قَمَرَ السَّمَاءِ بِوَجْهِهَا
فَأَرَتْنِيَ الْقَمَرَيْنِ فِي وَقْتٍ مَعَا
ولها
أنف كحد السيف المصقول، ولها وجنتان كرحيق الأرجوان، ولها خد كشقائق النعمان،
وشفتاها كالمرجان والعقيق، وريقها أشهى من الرحيق، يطفئ مذاقه عذاب الحريق،
ولسانها يحركه عقل وافر، وجواب حاضر، ولها صدر فتنةٌ لمَن يراه، فسبحان مَن خلقه
وسوَّاه! ومتصل بذلك الصدر عضدان مدملجان، كما قال فيهما الشاعر الولهان:
وَزَنْدَانِ
لَوْلَا أَمْسَكَا بِأَسَاوِرَ
لَسَالَا مِنَ الْأَكْمَامِ سَيْلَ الْجَدَاوِلِ
ولها
نهدان كأنهما من العاج، حقَّان يستمد من إشراقهما القمران، ولها بطن بأعكان مطوية
كطي القباطي المصرية، وينتهي ذلك إلى خصر مختصر من وهم الخيال، فوق ردف ككثيب من
رمال، يُقعِدها إذا قامت، ويوقظها إذا نامت، كما قال فيه بعض واصفيه:
لَهَا
كَفَلٌ تَعَلَّقَ فِي ضَعِيفٍ
وَذَاكَ الرِّدْفُ لِي وَلَهَا ظَلُومُ
فَيُوقِفُنِي
إِذَا فَكَّرْتُ فِيهِ
وَيُقْعِدُهَا إِذَا هَمَّتْ تَقُومُ
يحمل
ذلك الكفل فخذان كأنهما من الدر عمودان، وعلى حمله ما أقدرهما إلا بركة الشيخ الذي
بينهما، وأما غير ذلك من الأوصاف فلا يحصيه ناعت ولا وصَّاف، ويحمل ذلك كله قدمان
لطيفتان صنعة المهيمن الديان، فعجبت منهما كيف يحملان ما فوقهما. وأدرك شهرزاد
الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 179﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن العفريت دهنش بن شمهورش قال للعفريتة ميمونة: وأما ما
وراء ذلك فإني تركته؛ لأنه تقصُر عنه العبارة، ولا تفي به إشارة، وأبو تلك الصبية
ملك جبار فارس كرَّار، يخوض بحار الأقطار في الليل والنهار، لا يهاب الموت، ولا
يخاف الفوت؛ لأنه جائر ظلوم، وقاهر غشوم، وهو صاحب جيوش وعساكر، وأقاليم وجزائر،
ومدن ودُور، واسمه الملك الغيور، صاحب الجزائر والبحور والسبعة قصور، وكان يحب
ابنته هذه التي وصفتها لك حبًّا شديدًا، ومن محبته لها جلب أموال سائر الملوك،
وبنى لها بذلك سبعة قصور، كل قصر من جنس مخصوص؛ القصر الأول من البلَّور، والقصر
الثاني من الرخام، والقصر الثالث من الحديد الصيني، والقصر الرابع من الجزع
والفصوص، والقصر الخامس من الفضة، والقصر السادس من الذهب، والقصر السابع من
الجواهر، وملأ السبعة قصور من أنواع الفرش الفاخر، وأواني الذهب والفضة، وجميع
الآلات من كل ما تحتاج إليه الملوك، وأمر ابنته أن تسكن في كل قصر مدة من السنة،
ثم تنتقل منه إلى قصرٍ غيره، واسمها الملكة بدور.
فلما
اشتهر حسنها، وشاع في البلاد ذكرها، أرسل سائر الملوك إلى أبيها يخطبونها منه،
فراودها في أمر الزواج فكرهت ذلك، وقالت لأبيها: يا والدي، ليس لي غرض في الزواج
أبدًا، فإني سيدة وملكة، أحكم على الناس ولا أريد رجلًا يحكم عليَّ. وكلما امتنعت
من الزواج زادت رغبة الخُطَّاب فيها، ثم إن جميع ملوك جزائر الصين الجوانية أرسلوا
إلى أبيها الهدايا والتحف، وكاتبوه في أمر زواجها، فكرَّر عليها أبوها المشاورة في
أمر الزواج مرارًا عديدة، فخالفته وغضبت منه، وقالت له: يا أبي، إن ذكرت لي الزواج
مرة أخرى، أخذت السيف ووضعتُ قائمَه في الأرض وذبابته في بطني، واتكأت عليه حتى
يطلع من ظهري وأقتل نفسي. فلما سمع أبوها منها هذا الكلام، صار الضياء في وجهه
ظلامًا، واحترق قلبه عليها غاية الاحتراق، وخشي أن تقتل نفسها، وتحيَّر في أمرها
وفي أمر الملوك الذين خطبوها منه، فقال لها: إن كان لا بد من عدم زواجك، فامتنعي
من الدخول والخروج. ثم إن أباها أدخلها البيت وحجبها فيه، واستحفظ عليها عشر عجائز
قهرمانات، ومنعها من أن تظهر إلى السبعة قصور، وأظهر أنه غضبان عليها، وأرسل
كاتَبَ الملوك جميعهم وأعلمهم أنها أُصِيبت بجنون في عقلها، ولها الآن سنة وهي
محجوبة.
ثم
قال العفريت دهنش للعفريتة: وأنا يا سيدتي أتوجه إليها في كل ليلة فأنظرها وأتملى
بوجهها، وأقبِّلها وهي نائمة بين عينيها، ومن محبتي فيها لا أضرها ولا أركبها؛ لأن
جمالها بارع، وكل مَن رآها يغار عليها من نفسه، وأقسمتُ عليكِ يا سيدتي أن ترجعي
معي وتنظري حسنها وجمالها، وقدَّها واعتدالها، وبعد هذا إنْ شئتِ أن تعاقبيني أو
تأسريني فافعلي، فإن الأمر أمرك والنهي نهيك. ثم إن العفريت دهنشًا أطرق رأسه إلى
الأرض، وخفض أجنحته إلى الأرض. فقالت له العفريتة ميمونة بعد أن ضحكت من كلامه،
وبصقت في وجهه: أي شيء هذه البنت التي تقول عنها؟ فما هي إلا قوارة بول، فكيف لو
رأيتَ معشوقي؟ والله إني حسبتُ أن معك أمرًا عجيبًا أو خبرًا غريبًا يا ملعون، إني
رأيت إنسانًا في هذه الليلة، لو رأيته ولو في المنام لانفلجت عليه وسالت ريالتك.
فقال لها دهنش: وما حكاية هذا الغلام؟ فقالت له: اعلم يا دهنش أن هذا الغلام قد
جرى له مثل ما جرى لمعشوقتك التي ذكرتها، وأمره أبوه بالزواج مرارًا عديدة فأبى،
فلما خالَفَ أباه غضب عليه وسجنه في البرج الذي أنا ساكنة فيه، فطلعت في هذه
الليلة فرأيته. فقال لها دهنش: يا سيدتي، أريني هذا الغلام لأنظر هل هو أحسن من
معشوقتي الملكة بدور أم لا؛ لأني ما أظن أن يوجد في الزمان مثل معشوقتي. فقالت له
العفريتة: تكذب يا ملعون، يا أنحس المَرَدة وأحقر الشياطين، فأنا أتحقق أنه لا
يوجد لمعشوقي مثيل في هذه الديار. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 180﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن العفريتة ميمونة قالت للعفريت دهنش: أنا أتحقق أنه لا
يوجد لمعشوقي مثيل في هذه الديار، فهل أنت مجنون حتى تقيس معشوقتك بمعشوقي؟ فقال
لها: بالله عليك يا سيدتي أن تذهبي معي وتنظري معشوقتي، وأرجع معك وأنظر معشوقك.
فقالت له ميمونة: لا بد من ذلك يا ملعون؛ لأنك شيطان مكار، ولكن لا أجيء معك ولا
تجيء معي إلا برهن؛ فإن طلعت معشوقتك التي أنت تحبها وتتغالى فيها، أحسن من معشوقي
الذي أنا أحبه وأتغالى فيه، فإن ذلك الرهن يكون لك عليَّ، وإن طلع معشوقي أحسن فإن
ذلك الرهن يكون لي عليك. فقال لها العفريت دهنش: يا سيدتي، قبلت منك هذا الشرط
ورضيت به، تعالي معي إلى الجزائر. فقالت له ميمونة: فإن موضع معشوقي أقرب من موضع
معشوقتك، وها هو تحتنا، فانزل معي لننظر معشوقي ونروح بعد ذلك إلى معشوقتك. فقال
لها دهنش: سمعًا وطاعة. ثم انحدرَا إلى أسفل ونزلَا في دور القاعة التي في البرج،
وأوقفت ميمونة دهنشًا بجنب السرير، ومدت يدها ورفعت الملاءة عن وجه قمر الزمان ابن
الملك شهرمان؛ فسطع وجهه وأشرق ولمع وزها، فنظرته ميمونة والتفتت من وقتها إلى
دهنش وقالت له: انظر يا ملعون ولا تكن أقبح مجنون، فنحن بنات وبه مفتونات. فعند
ذلك التفت إليه دهنش واستمرَّ يتأمل فيه ساعة، ثم حرك رأسه وقال لميمونة: والله يا
سيدتي إنك معذورة، ولكن بقي شيء آخَر، وهو أن حال الأنثى غير حال الذكر، وحق الله
إن معشوقك هذا أشبه الناس بمعشوقتي في الحسن والجمال، والبهجة والكمال، وهما
الاثنان كأنهما قد أُفرِغَا في قالب الحسن سواء.
فلما
سمعت ميمونة من دهنش هذا الكلام، صار الضياء في وجهها ظلامًا، ولطمته بجناحها على
رأسه لطمة قوية كادت أن تقضي عليه من شدتها، وقالت له: قسمًا بنور وجه جلاله أن
تروح يا ملعون في هذه الساعة وتحمل معشوقتك التي تحبها وتجيء بها سريعًا إلى هذا
المكان، حتى نجمع بين الاثنين، وننظرهما وهما نائمان بالقرب من بعضهما، فيظهر لنا
أيهما أملح، وإن لم تفعل ما أمرتُكَ به في هذه الساعة يا ملعون، أحرقتك بناري،
ورميتك بشرر أشراري، ومزَّقتك قطعًا في البراري، وجعلتك عبرة للمقيم والساري. فقال
لها دهنش: يا سيدتي لكِ عليَّ ذلك، وأنا أعرف أن محبوبتي أحسن وأحلى. ثم إن
العفريت دهنشًا طار من وقته وساعته، وطارت ميمونة معه من أجل المحافظة عليه،
فغابَا ساعة زمانية، ثم أقبل الاثنان بعد ذلك وهما حاملان تلك الصبية، وعليها قميص
بندقي رفيع بطرازين من الذهب، وهو مزركش ببدائع التطريزات، ومكتوب على رأسه كمية
هذه الأبيات:
ثَلَاثَةٌ
مَنَعَتْهَا عَنْ زِيَارَتِنَا
خَوْفُ الرَّقِيبِ وَخَوْفُ الْحَاسِدِ الْحَنِقِ
ضَوْءُ
الْجَبِينِ وَوَسْوَاسِ الْحُلِيِّ وَمَا
حَوَتْ مَعَاطِفُهَا مِنْ عَنْبَرٍ عَبِقِ
هَبِ
الْجَبِينَ بِفَضْلِ الْكُمِّ تَسْتُرُهُ
وَالْحَلْيَ تَنْزَعُهُ مَا حِيلَة الْعَرِقِ
ثم
إنهما نزلا بتلك الصبية ومدَّدَاها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 181﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن العفريت والعفريتة نزلَا بتلك الصبية ومدَّدَاها
بجانب الغلام وكشفَا عن وجْهَي الاثنين، فكانَا أشبه الناس ببعضهما، فكأنهما
توءمان أو أخوان منفردان، وهما فتنة للمتقين، كما قال فيهما الشاعر المبين:
يَا
قَلْبُ لَا تَعْشَقْ مَلِيحًا وَاحِدًا
تَحْتَارُ فِيهِ تَدَلُّلًا وَتَذَلُّلَا
وَاهْوَ
الْمِلَاحَ جَمِيعَهُمْ تَلْقَاهُمُ
إِنْ صَدَّ هَذَا كَانَ هَذَا مُقْبِلَا
وصار
دهنش وميمونة ينظران إليهما، فقال دهنش: إن معشوقتي أحسن. قالت له ميمونة: بل
معشوقي أحسن، ويلك يا دهنش! هل أنت أعمى؟ أَمَا تنظر إلى حسنه وجماله، وقدِّه
واعتداله؟ فاسمع ما أقوله في محبوبي، وإن كنتَ محبًّا صادقًا لمَن تعشقها، فقُلْ
فيها مثل ما أقول في محبوبي. ثم إن ميمونة قبَّلَتْ قمر الزمان قُبُلًا عديدة،
وأنشدت هذه القصيدة:
مَا
لِي وَلِلَّاحِي عَلَيْكَ يَعْنُفُ
كَيْفَ السُّلُوُّ وَأَنْتَ غُصْنٌ أَهْيَفُ
لَكَ
مُقْلَةٌ كَحْلَاءُ تَنْفُثُ سِحْرَهَا
مَا لِلْهَوَى الْعُذْرِيِّ عَنْهَا مَصْرِفُ
تُرْكِيَّةُ
الْأَلْحَاظِ تَفْعَلُ بِالْحَشَا
مَا لَيْسَ يَفْعَلُهُ الصَّقِيلُ الْمُرْهَفُ
حَمَّلَتْنِي
ثِقْلَ الْغَرَامِ وَإِنَّنِي
بِالْعَجْزِ عَنْ حَمْلِ الْقَمِيصِ لَأَضْعَفُ
وَجْدِي
عَلَيْكَ كَمَا عَلِمْتَ وَلَوْعَتِي
طَبْعٌ وَعِشْقِي فِي سِوَاكَ تَكَلُّفُ
لَوْ
أَنَّ قَلْبِي مِثْلُ قَلْبِكَ لَمْ أَبِتْ
وَالْجِسْمُ مِنِّي مِثْلُ خَصْرِكَ مُنْحَفُ
وَيْلَاهُ
مِنْ قَمَرٍ بِكُلِّ مَلَاحَةٍ
بَيْنَ الْأَنَامِ وَكُلِّ حُسْنٍ يُوصَفُ
قَالَ
الْعَوَاذِلُ فِي الْهَوَى مَنْ ذَا الَّذِي أَنْتَ الْكَئِيبُ بِهِ فَقُلْتُ لَهُمْ
صِفُوا
يَا
قَلْبَهُ الْقَاسِي تَعَلَّمْ عَطْفَةً
مِنْ قَدِّهِ فَعَسَى يَرِقُّ وَيَعْطِفُ
لَكَ
يَا أَمِيرِي فِي الْمَلَاحَةِ نَاظِرٌ
يَسْطُو عَلَيَّ وَحَاجِبٌ لَا يُنْصِفُ
كَذَبَ
الَّذِي ظَنَّ الْمَلَاحَةَ كُلَّهَا
فِي يُوسُفٍ كَمْ فِي جَمَالِكَ يُوسُفُ
الْجِنُّ
تَخْشَانِي إِذَا قَابَلْتُهَا
وَأَنَا إِذَا أَلْقَاكَ قَلْبِي يَرْجُفُ
أَتَكَلَّفُ
الْإِعْرَاضَ عَنْكَ مَهَابَةً
وَإِلَيْكَ أَصْبُو جَهْدَ مَا أَتَكَلَّفُ
وَالشَّعْرُ
أَسْوَدُ وَالْجَبِينُ مُشَعْشِعٌ
وَالطَّرْفُ أَحْوَرُ وَالْقَوَامُ مُهَفْهَفُ
فلما
سمع دهنش شعر ميمونة في معشوقها، طرب غاية الطرب وتعجَّب. وأدرك شهرزاد الصباح
فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 182﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن دهنشًا لما سمع شعر ميمونة في معشوقها أطرب غاية
الطرب وقال: إنك أنشدتِني فيمَن تعشقينه هذا الشعر الرقيق، مع أن بالك مشغول به،
ولكن أنا أبذل الجهد في إنشاد الشعر على قدر فكرتي. ثم إن دهنشًا قام إلى معشوقته
بدور، وقبَّلها بين عينيها، ونظر إلى العفريتة ميمونة وإلى معشوقته بدور، وجعل
ينشد هذه القصيدة وهو بلا شعور:
أَقْوَتْ
مَعَاهِدُهُمْ بِشَطِّ الْوَادِي
فَبَقِيتُ مَقْتُولًا وَشَطَّ الْوَادِي
وَسَكِرْتُ
مِنْ خَمْرِ الْغَرَامِ وَرُقِّصَتْ
عَيْنُ الدُّمُوعِ عَلَى غِنَاءِ الْحَادِي
أَسْعَى
لِأَسْعَدَ بِالْوِصَالِ وَحَقَّ لِي
إِنَّ السَّعَادَةَ فِي بُدُورِ سُعَادِ
لَمْ
أَدْرِ مِنْ أَيِّ الثَّلَاثَةِ أَشْتَكِي
وَلَقَدْ عَدَدْتُ فَأَصْغِ لِلْأَعْدَادِ
مِنْ
لَحْظِهَا السَّيَّافِ أَمْ مِنْ قَدِّهَا
الرَّمَّاحِ أَمْ مِنْ صُدْغِهَا الزَّرَّادِ
قَالَتْ
وَقَدْ فَتَّشْتُ عَنْهَا كُلَّ مَنْ
لَاقَيْتُهُ مِنْ حَاضِرٍ أَوْ بَادِ
أَنَا
فِي فُؤَادِكَ فَارْمِ طَرْفَكَ نَحْوَهُ
تَرَنِي، فَقُلْتُ لَهَا: وَأَيْنَ فُؤَادِي؟
فلما
فرغ من شعره قالت العفريتة: أحسنت يا دهنش، ولكن أي هذين الاثنين أحسن؟ فقال لها:
محبوبتي بدور أحسن من محبوبك. فقالت له: كذبت يا ملعون، بل معشوقي أحسن من
معشوقتك. ثم إنهما لم يزالَا يعارضان بعضهما في الكلام حتى صرخت ميمونة على دهنش،
وأرادت أن تبطش به فذلَّ لها ورقق كلامه، وقال لها: لا يصعب عليك الحق فأبطلي قولك
وقولي، فإن كلًّا منا يشهد لمعشوقه أنه أحسن، فنُعرض عن كلام كل واحد منا، ونطلب
مَن يفصل الحكم بيننا بالإنصاف، ونعتمد على قوله. فقالت له ميمونة: وهو كذلك. ثم
ضربت الأرض برجلها فطلع لها من الأرض عفريت أعور أجرب، وعيناه مشقوقتان في وجهه
بالطول، وفي رأسه سبعة قرون، وله أربع ذوائب من الشعر مسترسلة إلى الأرض، ويداه
مثل يدي القطرب، وله أظفار كأظفار الأسد، ورجلان كرجلَيِ الفيل، وحوافر كحوافر
الحمار؛ فلما طلع ذلك العفريت ورأى ميمونة، قبَّل الأرض بين يديها، وتكتف وقال
لها: ما حاجتك يا سيدتي يا بنت الملك؟ فقالت له: يا قشقش، إني أريد أن تحكم بيني
وبين هذا الملعون دهنش. ثم إنها أخبرته بالقصة من أولها إلى آخرها، فعندها نظر
العفريت قشقش إلى وجه ذلك الصبي ووجه تلك الصبية، فرآهما متعانقين وهما نائمان،
ومعصم كلٍّ منهما تحت عنق الآخر، وهما في الحسن والجمال متشابهان، وفي الملاحة
متساويان، فنظر وتعجب المارد قشقش من حسنهما وجمالهما، والتفت إلى ميمونة ودهنش
بعد أن أطال إلى الصبي والصبية الالتفات، وأنشد هذه الأبيات:
زُرْ
مَنْ تُحِبُّ وَدَعْ مَقَالَةَ حَاسِدِ
لَيْسَ الْحَسُودُ عَلَى الْهَوَى بِمُسَاعِدِ
لَمْ
يَخْلِقِ الرَّحْمَنُ أَحْسَنَ مَنْظَرًا
مِنْ عَاشِقَيْنِ عَلَى فِرَاشٍ وَاحِدِ
مُتَعَانِقَيْنِ
عَلَيْهِمَا حُلَلُ الرِّضَى
مُتَوَسِّدَيْنِ بِمِعْصَمٍ وَبِسَاعِدِ
وَإِذَا
صَفَا لَكَ مِنْ زَمَانِكَ وَاحِدٌ
فَهْوَ الْمُرَادُ وَعِشْ بِذَاكَ الْوَاحِدِ
وَإِذَا
تَأَلَّفَتِ الْقُلُوبُ عَلَى الْهَوَى
فَالنَّاسُ تَضْرِبُ فِي حَدِيدٍ بَارِدِ
يَا
مَنْ يَلُومُ عَلَى الْهَوَى أَهْلَ الْهَوَى هَلْ يُسْتَطَاعُ صَلَاحُ قَلْبٍ فَاسِدِ
يَا
رَبُّ يَا رَحْمَنُ تُحْسِنُ خَتْمَنَا
قَبْلَ الْمَمَاتِ وَلَوْ بِيَوْمٍ وَاحِدِ
ثم
إن العفريت قشقش التفت إلى ميمونة وإلى دهنش وقال لهما: والله ما فيهما أحد أحسن
من الآخر، ولا دون الآخر؛ بل هما أشبه الناس ببعضهما في الحسن والجمال، والبهجة
والكمال، ولا يُفرَّق بينهما إلا بالتذكير والتأنيث، وعندي حكم آخر؛ وهو أن ننبِّه
كلَّ واحد منهما من غير علم الآخر، وكلُّ مَن التَهَبَ على رفيقه فهو دونه في
الحسن والجمال. فقالت ميمونة: نِعْمَ هذا الرأي الذي قلتَه، فأنا رضيتُه. وقال
دهنش: وأنا أيضًا رضيتُه. فعند ذلك انقلب دهنش في صورة برغوثة ولدغ قمر الزمان.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 183﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن دهنشًا انقلب في صورة برغوثة ولدغ قمر الزمان في
رقبته في موضع ناعم؛ فمد قمر الزمان يده على رقبته وهرش موضع القرصة من شدة ما
أحرقته؛ فتحرَّك بجنبه، فوجد شيئًا نائمًا بجنبه، ونفسه أزكى من المسك، وجسمه ألين
من الزبد؛ فتعجب قمر الزمان من ذلك غاية العجب، ثم قام من وقته قاعدًا، ونظر إلى
ذلك الشخص الراقد بجانبه، فوجدها صبية كالدرَّة السنيَّة، أو القبَّة المبنية
بقامة ألفيَّة، خماسية القدِّ، بارزة النهد، موردة الخد، كما قال فيها بعض واصفيها:
بَدَتْ
قَمَرًا وَمَالَتْ غُصْنَ بَانٍ
وَفَاحَتْ عَنْبَرًا وَرَنَتْ غَزَالَا
كَأَنَّ
الْحُزْنَ مَشْغُوفٌ بِقَلْبِي
فَسَاعَةَ هَجْرِهَا يَجِدُ الْوِصَالَا
فلما
رأى قمر الزمان السيدة بدور بنت الملك الغيور، وشاهد حسنها وجمالها وهي نائمة في
طوله، وجد فوق بدنها قميصًا بندقيًّا وهي بلا سروال، وعليها كوفية من ذهب مرصعة
بالجواهر، وفي عنقها قلادة من الفصوص المثمَّنة لا يقدر عليها أحد من الملوك؛ فصار
مدهوش العقل من ذلك، ثم إنه حين شاهَدَ حُسْنَها تحرَّكت فيه الحرارة الغريزية،
وألقى الله عليه شهوة الجماع، وقال في نفسه: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
ثم قلَّبها بيده ثاني مرة، وفتح طوق قميصها فبان له بطنها، ونظر إليه وإلى نهودها
فازداد فيها محبة ورغبة، فصار ينبِّهها وهي لا تنتبه؛ لأن دهنشًا ثقَّل نومها،
فصار قمر الزمان يهزُّها ويحرِّكها ويقول: يا حبيبتي استيقظي وانظري مَن أنا، فأنا
قمر الزمان. فلم تستيقظ، ولم تحرِّك رأسها، فعند ذلك تفكَّرَ في أمرها ساعة
زمانية، وقال في نفسه: إن صدق حَزْري فهذه الصبية هي التي يريد والدي زواجي بها،
ومضى لي ثلاث سنين وأنا أمتنع من ذلك، فإن شاء الله إذا جاء الصبح أقول لأبي:
زوِّجني بها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 184﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن قمر الزمان قال في نفسه: إن شاء الله إذا جاء الصبح
أقول لأبي: زوِّجني بها. ولا أترك نصف النهار يفوت حتى أفوز بوصلها، وأتملَّى
بحسنها وجمالها. ثم إن قمر الزمان مال إلى بدور ليقبِّلها، فارتعدت ميمونة الجنية
وخجلت، وأما العفريت دهنش فإنه طار من الفرح. ثم إن قمر الزمان لما أراد أن
يقبِّلها في فمها استحى من الله، ولفت وجهه وقال في نفسه: أنا أصبر لئلا يكون
والدي لما غضب عليَّ وحبسني في هذا الموضع، جاء لي بهذه العروسة وأمرها بالنيام
جنبي ليمتحنني بها، وأوصاها أني إذا نبَّهتها لا تستيقظ، وقال لها: أي شيء فعل بك
قمر الزمان فأعلميني به.
وربما
يكون والدي واقفًا مستخفيًا في مكان بحيث يطلع عليَّ وأنا لا أنظره، فينظر جميع ما
أفعله بهذه الصبية، وإذا أصبح يوبِّخني ويقول لي: كيف تقول ما لي أرب في الزواج،
وأنت قبَّلت تلك الصبية وعانقتها؟ فأنا أكفُّ نفسي عنها لئلا ينكشف أمري مع والدي،
فأنا لا ألمس هذه الصبية من تلك الساعة ولا ألتفت لها، غير أني آخذ لي منها شيئًا
يكون أمارة عندي وتذكرة لها، حتى يبقى بيني وبينها إشارة. ثم إن قمر الزمان رفع كف
الصبية، وأخذ خاتمها من خنصرها، وهو يساوي جملةً من المال؛ لأن فصَّه من نفيس
الجواهر، ومنقوش في دائرته هذه الأبيات:
لَا
تَحْسَبُوا أَنِّي نَسِيتُ عُهُودَكُمْ
مَهْمَا أَطَلْتُمْ فِي الزَّمَانِ صُدُودَكُمْ
يَا
سَادَتِي جُودُوا عَلَيَّ وَأَعْطِفُوا
فَعَسَى أُقَبِّلُ ثَغْرَكُمْ وَخُدُودَكُمْ
وَاللهِ
إِنِّي لَسْتُ أَبْرَحُ عَنْكُمُ
مَهْمَا عَدَيْتُمْ فِي الْغَرَامِ حُدُودَكُمْ
ثم
إن قمر الزمان نزع ذلك الخاتم من خنصر الملكة بدور، ولبسه في خنصره، وأدار ظهره
إليها ونام. ففرحت ميمونة الجنية لما رأت ذلك، وقالت لدهنش وقشقش: هل رأيتما
محبوبي قمر الزمان، وما فعله من العفة عن هذه الصبية؟ فهذا من كمال محاسنه،
فانظرَا كيف رأى هذه الصبية وحسنها وجمالها ولم يعانقها، ولم يملِّس بيده عليها،
بل أدار ظهره إليها ونام. فقالَا لها: قد رأينا ما صنع من الكمال. فعند ذلك انقلبت
ميمونة وجعلت نفسها برغوثًا، ودخلت ثياب بدور محبوبة دهنش، ومشت على ساقها، وطلعت
على فخذها، ومشت تحت سُرَّتها مقدار أربعة قراريط ولدغتها، ففتحت عينيها، واستوت
قاعدة، فرأت شابًّا نائمًا بجانبها وهو يغطُّ في نومه، وله خدود كشقائق النعمان،
ولواحظ تُخجِل الحورَ الحسان، وفم كأنه خاتم سليمان، وريقه حلو المذاق، وأنفع من
الترياق، كما قال فيه بعض واصفيه:
سَلِي
خَاطِرِي عَنْ زَيْنَبٍ وَنَوَارِي
بِوَرْدَةِ خَدٍّ فَوْقَ آسِ عِذَارِ
وَأَصْبَحْتُ
بِالظَّبْيِ الْمُقَرْطَقِ مُغْرَمًا
وَلَا رَأْيَ لِي فِي عِشْقِ ذَاتِ سِوَارِ
أَنِيسِيَ
فِي النَّادِي وَفِي خَلْوَتِي مَعًا
خِلَافُ أَنِيسِي فِي قَرَارَةِ دَارِي
فَيَا
لَائِمِي فِي هَجْرِ هِنْدٍ وَزَيْنَبٍ
وَقَدْ لَاحَ عُذْرِي كَالصَّبَاحِ لِسَارِ
أَتَرْضَى
بِأَنْ أُمْسِي أَسِيرَ أَسِيرَةٍ
مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جِدَارِ
ثم
إن الملكة بدور لما رأت قمر الزمان، أخذها الهيام، والوجد والغرام. وأدرك شهرزاد
الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 185﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الملكة بدور لما رأت قمر الزمان أخذها الهيام، والوجد
والغرام، وقالت في نفسها: وا فضيحتاه! إن هذا شاب غريب لا أعرفه، ما باله راقدًا
بجانبي في فراش واحد؟ ثم نظرت إليه بعيونها، وحقَّقت النظر فيه وفي ظُرفه ودلاله،
وحسنه وجماله، ثم قالت: وحق الله إنه شاب مليح مثل القمر، إلا أن كبدي تكاد أن
تتمزق وجدًا عليه، وشغفًا بحسنه وجماله، فيا فضيحتي منه، والله لو علمت أن هذا
الشاب هو الذي خطبني من أبي ما رددتُه، بل كنت أتزوَّجه وأتملَّى بجماله.
ثم
إن الملكة بدور تطلعت من وقتها وساعتها في وجه قمر الزمان، وقالت له: يا سيدي،
وحبيب قلبي، ونور عيني، انتبه من منامك، وتمتع بحسني وجمالي. ثم حرَّكته بيدها،
فأرخت عليه ميمونة الجنية النوم، وثقَّلت على رأسه بجناحها، فلم يستيقظ قمر
الزمان، فهزَّته الملكة بدور بيديها، وقالت له: بحياتي عليك أن تطيعني، فانتبه من
منامك، وانظر النرجس والخضرة، وتمتَّعْ ببطني والسرَّة، وهارِشْني وناغِشْني من
هذا الوقت إلى بكرة، قم يا سيدي، واتَّكئ على المخدة ولا تنم. فلم يجبها قمر
الزمان بجواب، ولم يرد عليها خطابًا، بل غط في النوم، فقالت الملكة بدور: ما لك
تائهًا بحسنك وجمالك، وظرفك ودلالك؟ فكما أنت مليح أنا الأخرى مليحة، فما هذا الذي
تفعله؟ هل هم علَّموك الصدَّ عني، أو أبي الشيخ النحس منعك من أن تكلمني في هذه
الليلة؟ ففتح قمر الزمان عينيه فازدادت فيه محبة، وألقى الله محبته في قلبها،
ونظرته نظرة أعقبتها ألف حسرة، فخفق فؤادها، وتقلقلت أحشاؤها، واضطربت جوارحها،
وقالت لقمر الزمان: يا سيدي كلِّمني، يا حبيبي حدِّثني، يا معشوقي ردَّ عليَّ
الجواب، وقل لي ما اسمك؛ فإنك سلبت عقلي.
كل
ذلك وقمر الزمان مستغرق في النوم، ولم يرد عليها بكلمة، فتأوَّهت الملكة بدور، وقالت:
ما لك معجبًا بنفسك؟ ثم هزَّته وقبَّلت يده، فرأت خاتمها في إصبعه الخنصر، فشهقت
شهقة واتبعتها بغنجة، وقالت: أوَّه أوَّه! والله أنت حبيبي وتحبني، ولكن كأنك
تُعرِض عني دلالًا مع أنك جئتني وأنا نائمة، وما أعرف كيف عملت أنت معي، ولكن ما
أنا قالعة خاتمي من خنصرك. ثم فتحت جيب قميصه ومالت عليه، وقبَّلت رقبته، وفتَّشت
على شيء تأخذه منه فلم تجد معه شيئًا، ورأته بغير سروال، فمدت يدها من تحت ذيل
قميصه، وجست سيقانه فزلقت يدها من نعومة جسمه، وسقطت على أيره، فانصدع قلبها
وارتجف فؤادها؛ لأن شهوة النساء أقوى من شهوة الرجال، وخجلت، ثم نزعت خاتمه من
إصبعه، ووضعته في إصبعها عوضًا عن خاتمها، وقبَّلته في ثغره، وقبَّلت كفَّيه، ولم
تترك فيه موضعًا إلا قبَّلته، وبعد ذلك أخذته في حضنها وعانقته، ووضعت إحدى يديها
تحت رقبته، والأخرى من تحت إبطه، ونامت بجانبه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن
الكلام المباح.
﴿اللیلة 186﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الملكة بدور نامت بجانب قمر الزمان، وجرى منها ما
جرى. فلما رأت ذلك ميمونة فرحت غاية الفرح، وقالت لدهنش: هل رأيت يا ملعون كيف
فعلت معشوقتك من الوله بمعشوقي؟ وكيف فعل معشوقي من التيه والدلال؟ فلا شك أن
معشوقي أحسن من معشوقتك، ولكن عفوت عنك. ثم كتبت له ورقةً بالعتق، والتفتت إلى
قشقش وقالت له: ادخل معه، واحمل معشوقته، وساعده على وصولها إلى مكانها؛ لأن الليل
مضى، وفاتني مطلوبي. فتقدَّمَ دهنش وقشقش إلى الملكة بدور، ودخلَا تحتها وحملاها،
وطارَا بها وأوصلاها إلى مكانها، وأعاداها إلى فراشها، واختلت ميمونة بالنظر إلى
قمر الزمان وهو نائم، حتى لم يبقَ من الليل إلا القليل، ثم توجَّهت إلى حال سبيلها.
فلما
انشقَّ الفجر انتبه قمر الزمان من منامه، والتفت يمينًا وشمالًا فلم يجد الصبية
عنده، فقال في نفسه: ما هذا الأمر؟ كأن أبي يرغِّبني في الزواج بالصبية التي كانت
عندي، ثم أخذها سرًّا لأجل أن تزداد رغبتي في الزواج. ثم صرخ على الخادم الذي هو
نائم على الباب، وقال له: ويلك يا ملعون قم! فقام الخادم وهو طائش العقل من النوم،
ثم قدم له الطشت والإبريق، فقام قمر الزمان ودخل المستراح، وقضى حاجته وخرج، فتوضأ
وصلى الصبح، وجلس يسبح الله، ثم نظر إلى الخادم فوجده واقفًا في خدمته بين يديه،
فقال له: ويلك يا صواب! من جاء هنا وأخذ الصبية من جنبي وأنا نائم؟ فقال له
الخادم: يا سيدي، أي شيء الصبية؟ فقال قمر الزمان: الصبية التي كانت نائمة عندي في
هذه الليلة. فانزعج الخادم من كلام قمر الزمان، وقال له: لم يكن عندك صبية ولا
غيرها، ومن أين دخلت الصبية وأنا نائم وراء الباب وهو مقفول؟ والله يا سيدي ما دخل
عليك ذكر ولا أنثى. فقال له قمر الزمان: تكذب يا عبد النحس، وهل وصل من قدرك أنت
الآخر أنك تخادعني ولا تخبرني أين راحت هذه الصبية التي كانت نائمة عندي في هذه
الليلة، ولم تخبرني بالذي أخذها من عندي؟ فقال الطواشي وقد انزعج منه: والله يا
سيدي ما رأيت صبية ولا صبيًّا. فغضب قمر الزمان من كلام الخادم وقال له: إنهم
علَّموك الخداع يا ملعون، فتعال عندي. فتقدَّمَ الخادم إلى قمر الزمان فأخذ
بأطواقه، وضرب به الأرض فضرط، ثم برك عليه قمر الزمان ورفصه برجله، وخنقه حتى غشي
عليه، ثم بعد ذلك ربطه في سلبة البئر وأدلاه فيه إلى أن وصل إلى الماء وأرخاه،
وكانت تلك الأيام أيام برد وشتاء قاطع، فغطس الخادم في الماء، ثم نشله قمر الزمان
وأرخاه، وما زال يغطِّس ذلك الخادم في الماء وينشله منه، والخادم يستغيث ويصرخ
ويصيح، وقمر الزمان يقول له: والله يا ملعون، ما أطلعك من هذه البئر حتى تخبرني
بخبر هذه الصبية وقضيتها، ومَن الذي أخذها وأنا نائم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ
عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 187﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الخادم قال لقمر الزمان: أنقذني من البئر يا سيدي،
وأنا أخبرك بالصحيح. فجذبه من البئر وأطلعه وهو غائب عن الوجود من شدة ما قاساه من
الغرق والغطاس، والبرد والضرب والعذاب، وصار يرتعد مثل القصبة في الريح العاصف،
واشتبكت أسنانه في بعضها، وابتلَّتْ ثيابه بالماء، فلما رأى الخادم نفسه على وجه
الأرض قال له: دعني يا سيدي أروح وأقلع ثيابي وأعصرها وأنشرها في الشمس وألبس
غيرها، ثم أحضر إليك سريعًا وأخبرك بأمر تلك الصبية، وأحكي لك حكايتها. فقال له
قمر الزمان: والله يا عبد النحس، لولا أنك عاينت الموت ما أقررت بالحق، فاخرج
لقضاء أغراضك وعُد إليَّ بسرعة، واحكِ لي حكاية الصبية وقصَّتها.
فعند
ذلك خرج الخادم وهو لا يصدق بالنجاة، ولم يزل يجري إلى أن دخل على الملك شهرمان
أبي قمر الزمان، فوجد الوزير بجانبه، وهما يتحدثان في أمر قمر الزمان، فسمع الملك
يقول للوزير: إني ما نمت في هذه الليلة من اشتغال قلبي بولدي قمر الزمان، وأخشى أن
يجري له شيء من هذا البرج العتيق، وما كان في سجنه شيء من المصلحة. فقال له
الوزير: لا تَخَفْ عليه، والله لا يصيبه شيء، ودعه مسجونًا شهر زمان حتى تلين عريكته.
فبينما هما في الكلام، وإذا بالخادم دخل عليهما وهو في تلك الحالة، وقال له: يا
مولانا السلطان، إن ولدك حصل له جنون، وقد فعل بي هذه الفعال، وقال لي: إن صبية
باتت عندي في هذه الليلة، وذهبت بخفية فأخبِرْني بخبرها. وأنا لا أعرف ما شأن هذه
الصبية. فلما سمع السلطان شهرمان هذا الكلام عن ولده قمر الزمان، صرخ قائلًا: وا
ولداه! وغضب على الوزير الذي كان سببًا في هذه الأمور غضبًا شديدًا، وقال له: قم
اكشف لي خبر ولدي قمر الزمان. فخرج الوزير وهو يتعثر في أذياله من خوفه من الملك،
وراح مع الخادم إلى البرج، وكانت الشمس قد طلعت، فدخل الوزير على قمر الزمان فوجده
جالسًا على السرير يقرأ القرآن، فسلَّم عليه الوزير وجلس إلى جانبه، وقال له: يا
سيدي، إن هذا العبد النحس أخبرنا بخبر شوَّش علينا وأزعجنا، فاغتاظ الملك من ذلك.
فقال له قمر الزمان: أيها الوزير، وما الذي قاله لكم عني حتى شوَّش على أبي، وفي
الحقيقة هو ما شوش إلا عليَّ؟ فقال له الوزير: إنه جاءنا بحالة منكرة، وقال لنا
قولًا حاشاك منه، وكذب علينا بما لا ينبغي أن يُذكَر في شأنك، فسلامة شبابك، وعقلك
الرجيح، ولسانك الفصيح، وحاشا أن يصدر منك شيء قبيح. فقال له قمر الزمان: فأيُّ شيء
قال هذا العبد النحس؟ فقال له الوزير: إنه أخبرنا أنك جُنِنت وقلتَ له: كان عندي
صبية في الليلة الماضية. فهل قلت للخادم هذا الكلام؟ فلما سمع قمر الزمان هذا
الكلام اغتاظ غيظًا شديدًا، وقال للوزير: تبيَّنَ لي أنكم علَّمتم الخادمَ الفعل
الذي صدر منه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 188﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن قمر الزمان بن الملك شهرمان قال للوزير: تبيَّنَ لي
أنكم علَّمتم الخادم الفعل الذي صدر منه، ومنعتموه من أن يخبرني بأمر الصبية التي
كانت نائمة عندي في هذه الليلة، وأنت أيها الوزير أعقل من الخادم، فأخبرني في هذه
الساعة أين ذهبت الصبية المليحة التي كانت نائمة في حضني تلك الليلة؟ فأنتم الذين
أرسلتموها عندي، وأمرتموها أن تبيت في حضني، ونمت معها إلى الصباح، فلما انتبهت ما
وجدتها، فأين هي الآن؟ فقال الوزير: يا سيدي قمر الزمان، اسم الله حواليك، والله
ما أرسلنا لك في هذه الليلة أحدًا، وقد نمت وحدك، والباب مقفول عليك، والخادم نائم
من خلف الباب، وما أتى إليك صبية ولا غيرها، فارجع إلى عقلك يا سيدي، ولا تشغل
خاطرك. فقال له قمر الزمان وقد اغتاظ من كلامه: أيها الوزير، إن تلك الصبية
معشوقتي، وهي المليحة صاحبة العيون السود والخدود الحمر التي عانقتها في هذه
الليلة.
فتعجَّبَ
الوزير من كلام قمر الزمان، وقال له: هل رأيتَ تلك الصبية في هذه الليلة بعينك في
اليقظة أم في المنام؟ فقال له قمر الزمان: يا أيها الشيخ النحس، أتظن أني رأيتها
بأُذُني؟! إنما رأيتها بعيوني في اليقظة، وقلَّبتها بيدي، وسهرت معها نصف ليلة
كاملة، وأنا أتفرج على حسنها وجمالها، وظرفها ودلالها، وإنما أنتم أوصيتموها أنها
لا تكلِّمني، فجعلت نفسها نائمة، فنمت بجانبها إلى الصباح، ثم استيقظت من منامي
فلم أجدها. فقال له الوزير: يا سيدي قمر الزمان، ربما تكون رأيت هذا الأمر في
المنام، فيكون أضغاث أحلام أو تخيُّلات من أكل مختلف الطعام، أو وسوسة من الشياطين
اللئام. فقال له قمر الزمان: يا أيها الشيخ النحس، كيف تهزأ بي أنت الآخر وتقول لي
لعلَّ هذا أضغاث أحلام، مع أن الخادم قد أقرَّ لي بتلك الصبية، وقال لي: في هذه
الساعة أعود إليك وأخبرك بقصتها؟
ثم
إن قمر الزمان قام من وقته، وتقدَّم إلى الوزير، وقبض لحيته في يده، وكانت لحيته
طويلة، فأخذها قمر الزمان ولفَّها على يده وجذبه منها، فرماه من فوق السرير وألقاه
على الأرض؛ فحسَّ الوزير أن روحه طلعت من شدة نتف لحيته، وما زال قمر الزمان يرفص
الوزير برجليه ويصفعه على قفاه بيديه حتى كاد أن يُهلِكه، فقال الوزير في نفسه:
إذا كان العبد الخادم خلَّص نفسه من هذا الصبي المجنون بكذبة، فأنا أولى بذلك منه،
وأخلص نفسي أنا الآخر بكذبة، وإلا يهلكني، فها أنا أكذب وأخلِّص روحي منه، فإنه
مجنون لا شك في جنونه. ثم إن الوزير التفت إلى قمر الزمان وقال له: يا سيدي لا
تؤاخذني، فإن والدك أوصاني أن أكتم عنك خبر هذه الصبية، وأنا الآن عجزت وكلَّيت من
الضرب؛ لأني بقيت رجلًا كبيرًا، وليس لي قوة على تحمُّل الضرب، فتمهَّل عليَّ
قليلًا حتى أحدثك بقصة الصبية. فعند ذلك منع عنه الضرب وقال له: لأي شيء لم تخبرني
بخبر تلك الصبية إلا بعد الضرب والإهانة؟ فقُمْ يا أيها الشيخ النحس، واحكِ لي
خبرها. فقال له الوزير: هل أنت تسأل عن تلك الصبية صاحبة الوجه المليح والقد
الرجيح؟ فقال له قمر الزمان: نعم، أخبرني أيها الوزير مَن الذي جاء بها إليَّ
وأنامها عندي؟ وأين هي في هذه الساعة حتى أروح أنا إليها بنفسي؟ فإن كان أبي الملك
شهرمان فعل معي هذه الفعال، وامتحنني بتلك الصبية المليحة من أجل زواجها، فأنا
رضيت أن أتزوَّج بها، فإنه ما فعل معي هذا الأمر كله وولع خاطري بتلك الصبية وبعد
ذلك حجبها عني، إلا من أجل امتناعي من الزواج، فها أنا رضيت بالزواج، ثم رضيت
بالزواج، فأَعْلِمْ والدي بذلك أيها الوزير، وأشر إليه أن يزوِّجني بتلك الصبية،
فإني لا أريد سواها، وقلبي لم يعشق إلا إياها، فقُمْ وأسرِعْ إلى أبي، وأشِرْ إليه
بتعجيل زواجي، ثم عُدْ إليَّ قريبًا في هذه ساعة. فما صدق الوزير بالخلاص من قمر
الزمان حتى خرج من البرج وهو يجري إلى أن دخل على الملك شهرمان. وأدرك شهرزاد
الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 189﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الوزير خرج يجري من البرج إلى أن دخل على الملك
شهرمان، فلما دخل عليه قال له الملك: أيها الوزير، ما لي أراك في ارتباك؟ ومَن
الذي بشرِّه رماك حتى جئتَ مرعوبًا؟ فقال للملك: إني قد جئتك ببشارة. قال له
الملك: وما تلك البشارة؟ قال له: اعلم أن ولدك قمر الزمان قد حصل له جنون. فلما
سمع الملك كلام الوزير، صار الضياء في وجهه ظلامًا، وقال له: أيها الوزير، أوضح لي
صفة جنون ولدي. قال له الوزير: سمعًا وطاعة. ثم أخبره بما صدر من ولده، فقال له
الملك: أبشِرْ أيها الوزير، إني أعطيتك في نظير بشارتك إياي بجنون ولدي ضربَ
رقبتك، وزوال النِّعَم عنك، يا أنحس الوزراء وأخبث الأمراء؛ لأني أعلم أنك سبب
جنون ولدي بمشورتك ورأيك التعيس الذي أشرتَ به عليَّ في الأول والآخر، والله إن
كان يأتي على ولدي شيء من الضرر أو الجنون؛ لَأسمِّرنك على القبة، وأُذِيقك
النكبة. ثم إن الملك نهض قائمًا على قدمَيْه، وأخذ الوزير معه ودخل به البرج الذي
فيه قمر الزمان، فلما وصلَا إليه قام قمر الزمان على قدمَيْه لوالده، ونزل سريعًا
من فوق السرير الذي هو جالس عليه، وقبَّلَ يدَيْه، ثم تأخَّر وراءه وأطرق رأسه إلى
الأرض وهو مكتَّف اليدين قدَّام أبيه، ولم يزل كذلك ساعة زمانية، وبعد ذلك رفع
رأسه إلى والده، وفرَّت الدموع من عينَيْه، وسالت على خدِّه، وأنشد قول الشاعر:
إِنْ
كُنْتُ قَدْ أَذْنَبْتُ ذَنْبًا سَالِفًا
فِي حَقِّكُمْ وَأَتَيْتُ شَيْئًا مُنْكَرَا
أَنَا
تَائِبٌ عَمَّا جَنَيْتُ وَعَفْوُكُمْ
يَسَعُ الْمُسِيءَ إِذَا أَتَى مُسْتَغْفِرَا
فعند
ذلك قام الملك وعانَقَ ولده قمر الزمان، وقبَّله بين عينيه، وأجلسه إلى جانبه فوق
السرير، ثم التفت إلى الوزير بعين الغضب وقال له: يا كلب الوزراء، كيف تقول على
ولدي قمر الزمان ما هو كذا وكذا وترعب قلبي عليه؟ ثم التفت إلى ولده وقال له: يا
ولدي، ما اسم هذا اليوم؟ فقال له: يا والدي هذا يوم السبت، وغدًا يوم الأحد، وبعده
يوم الإثنين، وبعده الثلاثاء، وبعده الأربعاء، وبعده الخميس، وبعده الجمعة. فقال
له الملك: يا ولدي قمر الزمان، الحمد لله على سلامتك، ما اسم هذا الشهر الذي علينا
بالعربي؟ فقال: اسمه ذو القعدة، ويليه ذو الحجة، وبعده المحرم، وبعده صفر، وبعده
ربيع الأول، وبعده ربيع الثاني، وبعده جمادى الأولى، وبعده جمادى الثانية، وبعده
رجب، وبعده شعبان، وبعده رمضان، وبعده شوَّال. ففرح بذلك الملك فرحًا شديدًا، وبصق
في وجه الوزير وقال له: يا شيخ السوء، كيف تزعم أن ولدي قمر الزمان قد جُنَّ،
والحال أنه ما جُنَّ إلا أنت؟ فعند ذلك حرَّك الوزير رأسه، وأراد أن يتكلم، ثم خطر
بباله أن يتمهل قليلًا لينظر ماذا يكون.
ثم
إن الملك قال لولده: يا ولدي، أي شيء هذا الكلام الذي تكلَّمتَ به للخادم والوزير
حيث قلتَ لهما: إني كنت نائمًا أنا وصبية مليحة في هذه الليلة. فما شأن هذه الصبية
التي ذكرتَها؟ فضحك قمر الزمان من كلام أبيه، وقال له: يا والدي، اعلم أنه ما بقي
لي قوة تتحمَّل السخرية، فلا تزيدوا عليَّ شيئًا ولا بكلمة واحدة، فقد ضاق خلقي
مما تفعلونه معي، واعلم يا والدي أني رضيت بالزواج، ولكن بشرط أن تزوِّجني تلك
الصبية التي كانت نائمة عندي في هذه الليلة؛ فإني أتحقَّق أنك أنت الذي أرسلتها
إليَّ، وشوَّقتني إليها، وبعد ذلك أرسلتَ إليها قبل الصبح، وأخذتها من عندي. فقال
الملك: اسم الله حواليك يا ولدي، سلامة عقلك من الجنون. وأدرك شهرزاد الصباح
فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 190﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك شهرمان قال لولده قمر الزمان: اسم الله حواليك
يا ولدي، سلامة عقلك من الجنون، فأي شيء هذه الصبية التي تزعم أني أرسلتها إليك في
هذه الليلة، ثم أرسلت آخذها من عندك قبل الصباح؟ فوالله يا ولدي ليس لي علم بهذا
الأمر، فبالله عليك أن تخبرني هل ذلك أضغاث أحلام أم تخيُّلات طعام؟ فإنك بتَّ في
هذه الليلة وأنت مشغول الخاطر بالزواج، وموسوس بذكره، قبَّحَ الله الزواج وساعته،
وقبَّحَ مَن أشار به، ولا شك أنك متكدِّر المزاج من جهة الزواج، فرأيتَ في المنام
أن صبية مليحة تُعانِقك، وأنت تعتقد في بالك أنك رأيتها في اليقظة، وهذا كله يا
ولدي أضغاث أحلام. فقال قمر الزمان: دَعْ عنك هذا الكلام، واحلف لي بالله الخالق
العلام قاصم الجبابرة، ومبيد الأكاسرة، أنه لم يكن عندك خبر بالصبية ومحلها. فقال
الملك: وحق الله العظيم إله موسى وإبراهيم، إنه لم يكن لي علم بذلك، ولعله أضغاث
أحلام رأيتَه في المنام. فقال قمر الزمان لوالده: أنا أضرب لك مثلًا يبيِّن لك أن
هذا كان في اليقظة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 191﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن قمر الزمان قال لوالده: أنا أضرب لك مثلًا يبيِّن لك
أن هذا كان في اليقظة؛ وهو أني أسألك: هل اتفق لأحد أنه رأى نفسه في المنام يقاتل،
وقد قاتَلَ قتالًا شديدًا، وبعد ذلك استيقظ من منامه فوجد في يده سيفًا ملوَّثًا
بالدم؟ فقال له والده: لا والله يا ولدي، لم يتفق هذا. فقال له قمر الزمان: أخبرك
بما حصل لي؛ وهو أني رأيت في هذه الليلة كأني استيقظت من منامي نصف الليل، فوجدتُ
بنتًا نائمة بجانبي، وقدُّها كقدِّي، وشكلها كشكلي، فعانقتها ومسكتها بيدي، وأخذت
خاتمها ووضعته في إصبعي، وقلعت خاتمي ووضعته في إصبعها، وامتنعت عنها حياءً منك،
وظننتُ أنك أرسلتها واستخفيت في موضعٍ لتنظر ما أفعل، واستحييتُ من أجل ذلك أن
أقبِّلها في فمها حياءً منك، وخطر ببالي أنك تمتحنني بها حتى ترغِّبني في الزواج،
وبعد ذلك انتبهتُ من منامي في وجه الصبح، فلم أجد للصبية أثرًا، ولا وقفت لها على
خبر، وجرى لي مع الخادم والوزير ما جرى، فكيف يكون هذا الأمر كذبًا وأمرُ الخاتم
صحيحٌ؟ ولولا الخاتم كنتُ أظنُّ أنه منام، وهذا خاتمها الذي في خنصري في هذه
الساعة، فانظر أيها الملكُ الخاتمَ، ثم كم يساوي؟ ثم إن قمر الزمان ناوَلَ الخاتمَ
لأبيه، فأخذه وقلَّبَه ثم التفت إلى ولده وقال له: إن لهذا الخاتم نبأً عظيمًا
وخبرًا جسيمًا، وإن الذي اتفق لك في هذه الليلة مع تلك الصبية أمر مُشكل، ولا أعلم
من أين دخل علينا هذا الدخيل، وما تسبَّب في هذا كله إلا الوزير، فبالله عليك يا
ولدي أن تصبر، لعل الله يفرِّج عنك هذه الكربة، ويأتيك بالفرج العظيم، كما قال
الشاعر:
عَسَى
وَلَعَلَّ الدَّهْرَ يَلْوِي عِنَانَهُ
وَيَأْتِي بِخُبْرٍ فَالزَّمَانُ غَيُورُ
وَتَسْعَدُ
آمَالِي وَتُقْضَى حَوَائِجِي
وَتَحْدُثُ مِنْ بَعْدِ الْأُمُورِ أُمُورُ
فيا
ولدي قد تحقَّقْتُ في هذه الساعة أنه ليس بك جنون، ولكن قضيتك ما يُجلِيها عنك إلا
الله. فقال قمر الزمان لوالده: بالله يا والدي، إنك تفحص لي عن هذه الصبية،
وتعجِّل بقدومها، وإلا مت كمدًا. ثم إن قمر الزمان أظهَرَ الوَجْد، والتفت إلى
أبيه، وأنشد هذين البيتين:
إِنْ
كَانَ وَعْدُكُمُ بِالْوَصْلِ تَزْوِيرُ
فَفِي الْكَرَى وَاصِلُوا الْمُشْتَاقَ أَوْ زُورُوا
قَالُوا:
وَكَيْفَ يَزُورُ الطَّيْفُ جَفْنَ فَتًى
مَنَامُهُ عَنْهُ مَمْنُوعٌ وَمَحْجُورُ؟
ثم
إن قمر الزمان بعد إنشاد هذه الأشعار، التفت إلى أبيه بخضوع وإنكار، وأفاض
العَبَرات، وأنشد هذه الأبيات … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 192﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان أفاض العبرات وأنشد هذه الأبيات:
خُذُوا
حِذْرَكُمْ مِنْ طَرْفِهَا فَهْوَ سَاحِرُ
وَلَيْسَ بِنَاجٍ مَنْ رَمَتْهُ الْمَحَاجِرُ
وَلَا
تُخْدَعُوا مِنْ رِقَّةٍ فِي كَلَامِهَا
فَإِنَّ الْحُمَيَّا لِلْعُقُولِ تُخَامِرُ
مُنَعَّمَةٌ
لَوْ لَامَسَ الْوَرْدُ خَدَّهَا
بَكَتْ وَبَدَتْ مِنْ مُقْلَتَيْهَا الْبَوَاتِرُ
فَلَوْ
فِي الْكَرَى مَرَّ النَّسِيمُ بِأَرْضِهَا
سَرَى أَبَدًا مِنْ أَرْضِهَا وَهْوَ عَاطِرُ
قَلَائِدُهَا
تَشْكُو رَنِينَ وِشَاحِهَا وَقَدْ
خَرِسَتْ مِنْ مِعْصَمَيْهَا الْأَسَاوِرُ
إِذَا
مَا اشْتَهَى الْخَلْخَالَ تَقْبِيلَ قُرْطِهَا بَدَتْ لِعُيُونِ الْوَصْلِ مِنْهَا
الضَّمَائِرُ
وَلِي
عَاذِلٌ فِي حُبِّهَا غَيْرُ عَاذِرٍ
وَمَا تَنْفَعُ الْأَبْصَارُ لَوْلَا الْبَصَائِرُ
عُذُولِي
لَحَاكَ اللهُ مَا أَنْتَ مُنْصِفٌ
إِلَى مِثْلِ هَذَا الْحُسْنِ تُثْنَى النَّوَاظِرُ
فلما
فرغ من شعره، قال الوزير للملك: يا ملك الزمان، إلى متى وأنت محجوب عن العسكر عند
ولدك قمر الزمان؟ فربما ينفسد عليك نظامُ المملكة بسبب بُعْدك عن أرباب دولتك،
والعاقل إذا ألَمَّتْ بجسمه أمراض مختلفة يجب عليه أن يبدأ بمداواة أعظمها، والرأي
عندي أن تنقل ولدك من هذا المكان إلى القصر الذي في السراية المطل على البحر،
وتنقطع عند ولدك فيه، وتجعل للموكب والديوان في كل جمعة يومين؛ الخميس والإثنين،
فيدخل عليك فيهما الأمراء والوزراء، والحجَّاب والنوَّاب، وأرباب الدولة، وخواص
المملكة، وأصحاب الصولة، وبقية العساكر والرعية، ويعرضون عليك أحوالهم، فاقضِ
حوائجهم واحكم بينهم، وخذ وأعطِ معهم، وَأْمُر وَانْهَ بينهم، وبقية الجمعة تكون
عند ولدك قمر الزمان، ولا تزال على تلك الحالة حتى يفرِّج الله عنك وعنه، ولا تأمن
أيها الملك من نوائب الزمان، وطوارق الحدثان؛ فإن العاقل دائمًا محاذر، وما أحسن
قول الشاعر:
حَسَّنْتَ
ظَنَّكَ بِالْأَيَّامِ إِذْ حَسَنَتْ
وَلَمْ تَخَفْ سُوءَ مَا يَأْتِي بِهِ الْقَدَرُ
وَسَالَمَتْكَ
اللَّيَالِي فَاغْتَرَرْتَ بِهَا
وَعِنْدَ صَفْوِ اللَّيَالِي يَحْدُثُ الْكَدَرُ
يَا
مَعْشَرَ النَّاسِ مَنْ كَانَ الزَّمَانُ لَهُ مُسَاعِدًا فَلْيَكُنْ مِنْ رَأْيِهِ
الْحَذَرُ
فلما
سمع السلطان من الوزير هذا الكلام، رآه صوابًا ونصيحةً في مصلحته، فأثَّر عنده
وخاف أن ينفسد عليه نظام الملك، فنهض من وقته وساعته، وأمر بتحويل ولده من ذلك
المكان إلى القصر الذي في السراية المطل على البحر، ويمشون إليه على ممشاة في وسط
البحر عرضها عشرون ذراعًا، وبدائر القصر شبابيك مطلة على البحر، وأرض ذلك القصر
مفروشة بالرخام الملون، وسقفه مدهون بأفخر الدهان من سائر الألوان، ومنقوش بالذهب
واللَّازورد؛ ففرشوا لقمر الزمان فيه البُسُط الحرير، وألبسوا حيطانه الديباج،
وأَرْخَوْا عليه الستارات المكلَّلة بالجواهر، ودخل فيه قمر الزمان، وصار من شدة
العشق كثير السهر، فاشتغل خاطره، واصفرَّ لونه، وانتحل جسمه، وجلس والده الملك
شهرمان عند رأسه وحزن عليه، وصار الملك في كل يوم إثنين ويوم خميس يأذن في أن يدخل
عليه مَن شاء الدخول من الأمراء والوزراء، والحجَّاب والنواب، وأرباب الدولة،
وسائر العساكر والرعية في ذلك القصر؛ فيدخلون عليه ويؤدُّون وظائفَ الخدمة،
ويقيمون عنده إلى آخر النهار، ثم ينصرفون بعد ذلك إلى حال سبيلهم، وبعد ذلك يدخل
الملك عند ولده قمر الزمان في ذلك المكان، ولا يفارقه ليلًا ولا نهارًا، ولم يزل
على تلك الحالة مدة أيام وليالٍ من الزمان.
هذا
ما كان من أمر قمر الزمان ابن الملك شهرمان، وأما ما كان من أمر الملكة بدور بنت
الملك الغيور صاحب الجزائر والسبعة قصور، فإن الجن لما حملوها ونيَّموها في
فراشها، لم يَبْقَ من الليل إلا ثلاث ساعات، ثم طلع الفجر فاستيقظت من منامها،
وجلست والتفتت يمينًا وشمالًا فلم تَرَ معشوقها الذي كان في حضنها؛ فارتجف فؤادها،
وزلَّ عقلها، وصرخت صرخةً عظيمة، فاستيقظ جميع جواريها والدَّايات والقهرمانات
ودخلن عليها، فتقدَّمَتْ إليها كبيرتهن وقالت لها: يا سيدتي، ما الذي أصابك؟ فقالت
لها: أيتها العجوز النحس، أين معشوقي الشاب المليح الذي كان نائمًا هذه الليلة في
حضني؟ فأخبريني أين راح. فلما سمعت منها القهرمانة هذا الكلام، صار الضياء في
وجهها ظلامًا، وخافت من بأسها خوفًا عظيمًا، وقالت: يا سيدتي بدور، أي شيء هذا
الكلام القبيح؟ فقالت السيدة بدور: ويلك يا عجوز النحس! أين معشوقي الشاب المليح،
صاحب الوجه الصبيح، والعيون السود، والحواجب المقرونة، الذي كان بائتًا عندي من
العشاء إلى قرب طلوع الفجر؟ فقالت: والله ما رأيت شابًّا ولا غيره، فبالله يا
سيدتي لا تمزحي هذا المزاح الخارج عن الحد، فتروح أرواحنا، وربما بلغ أباك هذا
المزاح، فمَن يخلِّصنا من يده؟ وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 193﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن القهرمانة قالت للسيدة بدور: بالله عليك لا تمزحي هذا
المزاح الخارج عن الحد، فإنه ربما بلغ أباك هذا المزاح، فمَن يخلِّصنا من يده؟
فقالت لها الملكة بدور: إنه كان غلام بائتًا عندي في هذه الليلة، وهو من أحسن
الناس وجهًا. فقالت لها القهرمانة: سلامة عقلك، ما كان أحد بائتًا عندك في هذه
الليلة. فعند ذلك نظرت بدور إلى يدها فوجدَتْ خاتمَ قمر الزمان في إصبعها، ولم تجد
خاتمها، فقالت للقهرمانة: ويلك يا خائنة! أتكذبين عليَّ وتقولين ما كان أحد بائتًا
عندي، وتحلفين لي بالله باطلًا؟ فقالت القهرمانة: والله ما كذبت عليك، ولا حلفت
باطلًا. فاغتاظت منها السيدة بدور، وسحبت سيفًا كان عندها، وضربت القهرمانة
فقتلتها، فعند ذلك صاح الخدم والجواري والسراري عليها، وراحوا إلى أبيها وأعلموه
بحالها؛ فأتى الملك إلى ابنته السيدة بدور من وقته وساعته، وقال لها: يا بنتي ما
خبرك؟ فقالت: يا أبي، أين الشاب الذي كان نائمًا بجانبي في هذه الليلة؟ وطار عقلها
من رأسها، وصارت تلتفت بعينيها يمينًا وشمالًا، ثم شقَّت ثوبها إلى ذيلها، فلما
رأى أبوها تلك الفعال، أمر الجواري والخدم أن يمسكوها، فقبضوا عليها وقيَّدوها،
وجعلوا في رقبتها سلسلة من حديد، وربطوها في الشباك الذي في القصر.
هذا
ما كان من أمر الملكة بدور، وأما ما كان من أمر أبيها الملك الغيور، فإنه لما رأى
ما جرى من ابنته السيدة بدور، وضاقت عليه الدنيا؛ لأنه كان يحبها، فلم يهُنْ عليه
أمرها، فعند ذلك أحضر المنجمين والحكماء وأصحاب الأقلام، وقال لهم: مَن أبرأ بنتي
مما هي فيه زوَّجتُه بها، وأعطيتُه نصفَ مملكتي، ومَنْ لم يُبرِئها ضربت عنقَه،
وعلَّقْتُ رأسه على باب قصرها، وصار كلُّ مَن دخل عليها ولم يبرئها يضرب عنقه
ويعلق رأسه على باب القصر، ولم يزل يفعل ذلك إلى أن قطع من أجلها أربعين رأسًا؛
فطلب
سائر الحكماء فتوقَّفَ جميع الناس عنها، وعجزت جميع الحكماء عن دوائها، وأشكلت
قضيتها على أهل العلوم وأرباب الأقلام، ثم إن السيدة بدور لما زاد بها الوَجْد
والغرام، وأضرَّ بها العشق والهيام، أجرت العَبَرات، وأنشدت هذه الأبيات:
غَرَامِي
فِيكَ يَا قَمَرِي غَرِيمِي
وَذِكْرُكَ فِي دُجَى لَيْلِي نَدِيمِي
أَبِيتُ
وَأَضْلُعِي فِيهَا لَهِيبٌ
يُحَاكِي حَرُّهُ نَارَ الْجَحِيمِ
بُلِيتُ
بِفَرْطِ وَجْدٍ وَاحْتِرَاقٍ
عَذَابِي مِنْهُمَا أَضْحَى أَلِيمِي
ثم
أنشدَتْ أيضًا:
سَلَامِي
عَلَى الْأَحْبَابِ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ
فَإِنِّي إِلَى نَحْوِ الْحَبِيبِ أُرِيدُ
سَلَامِي
عَلَيْكُمْ لَا سَلَامَ مُوَدِّعٍ
سَلَامٌ كَثِيرٌ لَا يَزَالُ يَزِيدُ
وَإِنِّي
لَأَهْوَاكُمْ وَأَهْوَى دِيَارَكُمْ
وَلَكِنَّنِي عَمَّا أُرِيدُ بَعِيدُ
فلما
فرغَتِ السيدة بدور من إنشاد هذه الأشعار، بكت حتى مرضت جفونها، وتذبَّلت وجناتها،
ثم إنها استمرت على هذا الحال ثلاث سنين، وكان لها أخ من الرَّضَاع يُسمَّى
مرزوان، وكان سافَرَ إلى أقصى البلاد، وغاب عنها تلك المدة بطولها، وكان يحبها
محبةً زيادة على محبة الأخوَّة، فلما حضر دخل على والدته، وسألها عن أخته السيدة
بدور، فقالت له: يا ولدي، إن أختك حصل لها جنون، ومضى لها ثلاث سنين، وفي رقبتها
سلسلة من حديد، وعجزت الأطباء عن دوائها. فلما سمع مرزوان هذا الكلام قال: لا بد
من دخولي عليها لعلي أعرف ما بها، وأقدر على دوائها. فلما سمعت كلامه قالت: لا بد
من دخولك عليها، ولكن اصبر إلى غدٍ حتى أتحيَّلَ في أمرك.
ثم
إن أمه ترجَّلت إلى قصر السيدة بدور، واجتمعت بالخادم الموكل بالباب، وأهدت له
هدية وقالت له: إن لي بنتًا، وقد تربَّتْ مع السيدة بدور، وقد زوَّجتها، ولما جرى
لسيدتك ما جرى صار قلبها متعلقًا بها، وأقصد فضلك في أن بنتي تأتي عندها ساعة
لتنظرها، ثم ترجع من حيث جاءت، ولا يعلم بها أحد. فقال الخادم: لا يمكن ذلك إلا في
الليل، فبعد أن يأتي السلطان ينظر ابنته ويخرج، ادخلي أنت وابنتك. فقبَّلَتِ
العجوز يد الخادم وخرجت إلى بيتها، فلما جاء وقت العشاء في الليلة القابلة قامت من
وقتها وساعتها، وأخذت ولدها مرزوان، وألبسته بدلة من ثياب النساء، وجعلت يده في
يدها وأدخلته القصر، ولا زالت تمشي به حتى أوصلته إلى الخادم بعد انصراف السلطان
من عند بنته، فلما رآها الخادم قام واقفًا، وقال لها: ادخلي ولا تطيلي القعود.
فلما دخلت العجوز بولدها مرزوان، رأى السيدة بدور في تلك الحالة، فسلَّمَ عليها
بعد أن كشفت عنه أمُّه ثيابَ النساء، فأخرج مرزوان الكتب التي معه وأوقد شمعةً،
فنظرت إليه السيدة بدور فعرفته، وقالت له: يا أخي، أنت كنتَ سافرت وانقطعَتْ
أخبارك عنَّا. فقال لها: صحيح، ولكن ردَّني الله بالسلامة، وأردت السفر ثانيًا،
فما ردَّني عنه إلا هذا الخبر الذي سمعته عنك؛ فاحترق فؤادي عليك، وجئت إليك لعلي
أعرف داءك، وأقدر على دوائك. فقالت له: يا أخي، هل تحسب أن الذي اعتراني جنون. ثم
أشارَتْ إليه وأنشدَتْ هذين البيتين:
قَالُوا
جُنِنْتَ بِمَنْ تَهْوَى فَقُلْتُ لَهُمْ
مَا لَذَّةُ الْعَيْشِ إِلَّا لِلْمَجَانِينِ
نَعَمْ
جُنِنْتُ فَهَاتُوا مَنْ جُنِنْتُ بِهِ
إِنْ كَانَ يَشْفِي جُنُونِي لَا تَلُومُونِي
فعلم
مرزوان أنها عاشقة، فقال لها: أخبريني بقصتك وما اتفق لك، لعلَّ الله أن يُطلِعني
على ما فيه خلاصك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 194﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن مرزوان قال للسيدة بدور: لعلَّ الله أن يُطلِعني على
ما فيه خلاصك. فقالت له السيدة بدور: يا أخي اسمع قصتي، وذلك أني استيقظت من منامي
ليلةً في الثلث الأخير من الليل وجلست، فنظرتُ إلى جانبي شابًّا أحسن ما يكون من
الشباب، يكلُّ عن وصفه اللسان كأنه غصن بان أو قضيب خيزران، فظننتُ أن أبي هو الذي
أمره بهذا الأمر ليمتحنني به؛ لأنه راوَدَني عن الزواج لما خطبني منه الملوك
فأبيتُ، فهذا الظن هو الذي منعني من أن أنبِّهه، وخشيتُ أني إذا عانقتُه ربما يُخبِر
أبي بذلك، فلما أصبحتُ رأيتُ بيدي خاتمَه عوضًا عن خاتمي؛ فهذه حكايتي، وأنا يا
أخي قد تعلَّقَ قلبي به من حين رؤيته، ومن كثرة عشقي والغرام لم أذُقْ طعمَ
المنام، وما لي شغل غير بكائي بالدموع الغزار، وإنشاد الأشعار بالليل والنهار. ثم
أفاضت العَبَرات، وأنشدت هذه الأبيات:
أَبَعْدَ
الْحُبِّ لَذَّاتِي تَطِيبُ وَذَاكَ
الظَّبْيُ مَرْتَعُهُ الْقُلُوبُ
دَمُ
الْعُشَّاقِ أَهْوَنُ مَا عَلَيْهِ
وَفِيهِ مُهْجَةُ الْمُضْنَى تَذُوبُ
أَغَارُ
عَلَيْهِ مِنْ نَظَرِي وَفِكْرِي
فَمِنْ بَعْضِي عَلَى بَعْضِي رَقِيبُ
وَأَجْفَانٌ
لَهُ تَرْمِي سِهَامًا فَوَاتِكَ
فِي الْقُلُوبِ لَنَا تَصِيبُ
فَهَلْ
لِي أَنْ أَرَاهُ قَبْلَ مَوْتِي
إِذَا مَا كَانَ فِي الدُّنْيَا نَصِيبُ
وَأَكْتُمُ
سِرَّهُ فَيَنِمُّ دَمْعِي بِمَا
عِنْدِي وَيَعْلَمُهُ الرَّقِيبُ
قَرِيبٌ
وَصْلُهُ مِنِّي بَعِيدٌ بَعِيدٌ
ذِكْرُهُ مِنِّي قَرِيبُ
ثم
إن السيدة بدور قالت لمرزوان: انظر يا أخي ما الذي تعمل معي في الذي اعتراني.
فأطرق مرزوان رأسه إلى الأرض ساعةً وهو يتعجَّب، وما يدري ما يفعل، ثم رفع رأسه
وقال لها: جميع ما جرى لك صحيح، وإن حكاية هذا الشاب أعيت فكري، ولكن أدور في جميع
البلاد، وأفتِّش على دوائك؛ لعلَّ الله يجعله على يدي، فاصبري ولا تقلقي. ثم إن
مرزوان ودَّعَها ودعا لها بالثبات، وخرج من عندها وهي تنشد هذه الأبيات:
وَيَخْطُو
لِي خَيَالُكَ فِي ضَمِيرِي عَلَى
بُعْدِ الْمَكَانِ خُطَى مَزُورِ
وَتُدْنِيكَ
الْأَمَانِي مِنْ فُؤَادِي وَأَيْنَ
الْبَرْقُ مِنْ لَمْحِ الْبَصِيرِ
فَلَا
تَبْعُدْ لِأَنَّكَ نُورُ عَيْنِي
إِذَا مَا غِبْتَ لَمْ تُكْحَلْ بِنُورِ
ثم
إن مرزوان تمشَّى إلى بيت والدته فنام تلك الليلة، ولما أصبح الصباح تجهَّز للسفر
فسافر، ولم يزل مسافرًا من مدينة إلى مدينة، ومن جزيرة إلى جزيرة مدة شهر كامل، ثم
دخل مدينةً يقال لها الطيرب، واستنشق الأخبار من الناس لعله يجد دواء الملكة بدور،
وكان كلما يدخل من مدينة أو يمر بها، يسمع أن الملكة بدور بنت الملك الغيور قد حصل
لها جنون، ولم يزل يستنشق الأخبار حتى وصل إلى مدينة الطيرب، فسمع أن قمر الزمان
ابن الملك شهرمان مريض، وأنه اعتراه وسواس وجنون، فلما سمع مرزوان بخبره سأل بعض
أهل تلك المدينة عن بلاده ومحل تخته، فقالوا له: جزائر خالدان، وبيننا وبينها
مسيرة شهر كامل في البحر، وأما في البر فستة أشهر. فنزل مرزوان في مركب إلى جزائر
خالدان، وكانت المركب مجهَّزةً للسفر، وطاب لها الريح مدة شهر فبانت لهم المدينة،
ولما أشرفوا عليها، ولم يَبْقَ لهم إلا الوصول إلى الساحل، خرج عليهم ريح عاصف
فرمى القرية، ووقعت القلوع في البحر، وانقلبت المركب بجميع ما فيها. وأدرك شهرزاد
الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 195﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد أن المركب انقلبت بجميع ما فيها، واشتغل كل واحد بنفسه،
وأما مرزوان فإنه جذبته قوة التيار جذبةً حتى أوصلته تحت قصر الملك الذي فيه قمر
الزمان، وكان بالأمر المقدور قد اجتمع الأمراء والوزراء عنده للخدمة، والملك
شهرمان جالس ورأس ولده قمر الزمان في حجره، وخادم ينش عليه. وكان قمر الزمان مضى
له يومان وهو لم يأكل ولم يشرب ولم يتكلم، وصار الوزير واقفًا عند رجلَيْه قُريب
الشباك المطل على البحر، فرفع الوزير بصره فرأى مرزوان قد أشرف على الهلاك من
التيار، وبقي على آخِر نفس، فرَقَّ قلبُ الوزير إليه فتقرَّبَ إلى السلطان، ومدَّ
رأسه إليه، وقال له: أستأذنك في أن أنزل إلى ساحة القصر وأفتح بابها لأنقذ إنسانًا
قد أشرف على الغرق في البحر، وأطلعه من الضيق إلى الفرج، لعل الله بسبب ذلك يخلص
ولدك مما هو فيه. فقال السلطان: كل ما جرى على ولدي بسببك، وربما أنك إذا أطلعت
هذا الغريق، يطَّلِع على أحوالنا وينظر إلى ولدي وهو في هذه الحالة فيشمت بي، ولكن
أقسم بالله إن طلع هذا الغريق ونظر إلى ولدي وخرج يتحدَّث مع أحد بأسرارنا،
لَأضربن رقبتك قبله؛ لأنك أيها الوزير سبب ما جرى لنا أولًا وآخرًا، فافعل ما
بَدَا لك. فنهض الوزير، وفتح باب الساحة، ونزل في الممشاة عشرين خطوة، ثم خرج إلى
البحر فرأى مرزوان مشرفًا على الموت، فمدَّ الوزير يده إليه ومسكه من شعر رأسه
وجذبه منه، فخرج من البحر وهو في حال العدم، وقد امتلأ بطنه ماءً وبرزت عيناه،
فصبر الوزير عليه حتى رُدَّتْ روحه إليه، ثم نزع عنه ثيابه وألبسه ثيابًا غيرها،
وعمَّمه بعمامة من عمائم غلمانه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 196﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الوزير لما فعل مع مرزوان ما فعل قال له: اعلم أني
كنت سببًا لنجاتك من الغرق، فلا تكن سببًا لموتي وموتك. فقال مرزوان: وكيف ذلك؟
قال الوزير: لأنك في هذه الساعة تطلع وتشق بين أمراء ووزراء، والكل ساكتون لا يتكلمون
من أجل قمر الزمان ابن السلطان. فلما سمع مرزوان ذِكْر قمر الزمان عرفه؛ لأنه كان
يسمع بحديثه في البلاد، فقال مرزوان: ومَن قمر الزمان؟ فقال الوزير: هو ابن
السلطان شهرمان، وهو ضعيف ملقًى على الفراش لا يقرُّ له قرار، ولا يعرف ليلًا من
نهار، وكاد أن يفارق الحياة من نحول جسمه ويصير من الأموات؛ فنهاره في لهيب، وليله
في تعذيب، وقد يئسنا من حياته، وأيقنَّا بوفاته، وإياك أن تُطِيل النظرَ إليه أو
تنظر إلى غير الموضع الذي تحط فيه رجلك، وإلا تروح روحك وروحي. فقال له: بالله
تخبرني عن الشاب الذي وصفته لي، ما سبب هذا الأمر الذي هو فيه؟ فقال له الوزير: لا
أعلم سببًا، إلا أن والده من منذ ثلاث سنين كان يراوده عن أمر الزواج وهو يأبى،
فأصبح يزعم أنه كان نائمًا فرأى بجنبه صبية بارعة الجمال، وجمالها يحيِّر العقول،
ويعجز عنه الوصف، وذكر لنا أنه نزع خاتمًا من إصبعها ولبسه، وألبسها خاتمه، ونحن
لا نعرف باطن هذه القضية؛ فبالله يا ولدي اطلع معي القصر، ولا تنظر إلى ابن الملك،
بعد ذلك رُح إلى حال سبيلك؛ فإن السلطان قلبه ملآن عليَّ غيظًا. فقال مرزوان في
نفسه: والله إن هذا هو المطلوب. ثم طلع مرزوان خلف الوزير إلى أن وصل إلى القصر،
ثم جلس الوزير تحت رجلَيْ قمر الزمان، وأما مرزوان فإنه لم يكن له دأب إلا أنه مشى
حتى وقف قدَّام قمر الزمان ونظر إليه، فمات الوزير في جلده، وصار ينظر إلى مرزوان
ويغمزه ليروح إلى حال سبيله، ومرزوان يتغافل وينظر إلى قمر الزمان، وعلم أنه هو
المطلوب. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 197﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن مرزوان لما نظر إلى قمر الزمان وعلم أنه هو المطلوب
قال: سبحان الله الذي جعل قدَّه مثل قدِّها، وخدَّه مثل خدِّها، ولونه مثل لونها.
ففتح قمر الزمان عينَيْه، وصغى بأذنَيْه، فلما رآه مرزوان صاغيًا إلى ما يُلقِيه
من الكلمات، أنشد هذه الأبيات:
أَرَاكَ
طَرُوبًا ذَا شَجًى وَتَرَنُّمِ
تَمِيلُ إِلَى ذِكْرِ الْمَحَاسِنِ بِالْفَمِ
أَصَابَكَ
عِشْقٌ أَمْ رُمِيتَ بِأَسْهُمٍ
فَمَا هَذِهِ إِلَّا سَجِيَّةُ مَنْ رُمِي
أَلَا
فَاسْقِنِي كَاسَاتِ خَمْرٍ وَغَنِّ لِي
بِذِكْرِ سُلَيْمَى وَالرَّبَابِ وَتَنْعَمِ
أَغَارُ
عَلَى أَعْطَافِهَا مِنْ ثِيَابِهَا
إِذَا لَبِسَتْهَا فَوْقَ جِسْمٍ مُنَعَّمِ
وَأَحْسِدُ
كَاسَاتٍ تُقَبِّلُ ثَغْرَهَا إِذَا
وَضَعَتْهَا مَوْضِعَ اللَّثْمِ فِي الْفَمِ
فَلَا
تَحْسَبُوا أَنِّي قُتِلْتُ بِصَارِمٍ
وَلَكِنْ لِحَاظٌ قَدْ رَمَتْنِي بِأَسْهُمِ
وَلَمَّا
تَلَاقَيْنَا وَجَدْتُ بَنَانَهَا
مُخَضَّبَةً تَحْكِي عُصَارَةَ عَنْدَمِ
فَقَالَتْ
وَأَلْقَتْ فِي الْحَشَا لَاعِجَ الْجَوَى
مَقَالَةَ مَنْ لِلْحُبِّ لَمْ يَتَكَتَّمِ
رُوَيْدَكَ
مَا هَذَا خِضَابٌ خَضِبْتُهُ فَلَا
تَكُ بِالْبُهْتَانِ وَالزُّورِ مُتْهِمِي
وَلَكِنَّنَي
لَمَّا رَأَيْتُكَ نَائِمًا وَقَدْ
كُشِّفَتْ كَفِّي وَزَنْدِي وَمِعْصَمِي
بَكَيْتُ
دَمًا يَوْمَ النَّوَى فَمَسَحْتُهُ
بِكَفَّيَّ فَابْتَلَّتْ بَنَانِيَ مِنْ دَمِي
فَلَوْ
قَبْلَ مَبْكَاهَا بَكَيْتُ صَبَابَةً
لَكُنْتُ شَفَيْتُ النَّفْسَ قَبْلَ التَّنَدُّمِ
وَلَكِنْ
بَكَتْ قَبْلِي فَهَيَّجَنِي الْبُكَا
بُكَاهَا فَقُلْتُ: الْفَضْلُ لِلْمُتَقَدِّمِ
فَلَا
تَعْذُلُونِي فِي هَوَاهَا لِأَنَّنِي
وَحَقِّ الْهَوَى فِيهَا كَثِيرُ التَّأَلُّمِ
بَكَيْتُ
عَلَى مَنْ زَيَّنَ الْحُسْنَ وَجْهُهَا
وَلَيْسَ لَهَا مِثْلٌ بِعُرْبٍ وَأَعْجَمِ
لَهَا
عِلْمُ لُقْمَانَ وَصُورَةُ يُوسُفَ
وَنَغْمَةُ دَاوُدَ وَعِفَّةُ مَرْيَمِ
وَلِي
حِزْنُ يَعْقُوبَ وَحَسْرَةُ يُونُسَ
وَبَلْوَةُ أَيُّوبَ وَقِصَّةُ آدَمِ
فَلَا
تَقْتُلُوهَا إِنْ قُتِلْتُ بِهَا جَوًى
بَلَى فَاسْأَلُوهَا كَيْفَ حُلَّ لَهَا دَمِي
فلما
أنشد مرزوان هذا الشعر، نزل على قلب قمر الزمان بردًا وسلامًا. وأدرك شهرزاد
الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 198﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن مرزوان لما أنشد هذا الشعر، نزل على قلب قمر الزمان
بردًا وسلامًا، ودار لسانه في فمه، وأشار إلى السلطان بيده: دَعْ هذا الشاب يجلس
في جانبي. فلما سمع السلطان من ولده قمر الزمان هذا الكلام، فرح فرحًا شديدًا بعد
أن غضب على الشاب، وأضمر في نفسه أنه يرمي رقبته، ثم قام الملك وأجلس مرزوان إلى
جانب ولده، وأقبَلَ عليه وقال له: من أي البلاد أنت؟ قال من الجزائر الجوَّانية،
من بلاد الملك الغيور صاحب الجزائر والبحور والسبعة قصور. فقال له الملك شهرمان:
عسى أن يكون الفرج على يدك لولدي قمر الزمان. ثم إن مرزوان أقبل على قمر الزمان،
وقال له في أذنه: ثبِّتْ قلبك، وطِبْ نفسًا، وقرَّ عينًا؛ فإن التي صرتَ من أجلها
هكذا لا تسأل عمَّا هي فيه من أجلك، ولكنك كتمت أمرك فضعفت، وأما هي فإنها أظهرَتْ
ما بها فجُنَّت، وهي الآن مسجونة بأسوأ حال، وفي رقبتها غلٌّ من حديد، وإن شاء
الله تعالى يكون دواؤكما على يدي. فلما سمع قمر الزمان هذا الكلام، رُدَّتْ روحه
إليه واستفاق، وأشار إلى الملك والده أن يُجلِسه، ففرح فرحًا زائدًا وأجلس ولده،
ثم أخرج جميع الوزراء والأمراء، واتَّكأ قمر الزمان بين مخدتين، وأمر الملك أن
يطيِّبوا القصر بالزعفران، ثم أمر بزينة المدينة، وقال لمرزوان: والله يا ولدي إن
هذه طلعة مباركة. ثم أكرمه غاية الإكرام، وطلب لمرزوان الطعام فقدَّموا له، فأكل
وأكل معه قمر الزمان، وبات عنده تلك الليلة، وبات الملك عندهما من فرحته. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 199﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن السلطان شهرمان بات تلك الليلة عندهما من شدة فرحته
بشفاء ولده، فلما أصبح الصباح، صار مرزوان يحدِّث قمر الزمان بالقصة، وقال له:
اعلم أنني أعرف التي اجتمعتَ بها، واسمها السيدة بدور بنت الملك الغيور. ثم حدَّثه
بما جرى للسيدة بدور من الأول إلى الآخِر، وأخبره بفرط محبتها له، وقال له: جميع
ما جرى لك مع والدك، جرى لها مع والدها، وأنت من غير شكٍّ حبيبُها وهي حبيبتُك؛
فثبِّتْ قلبك، وقوِّ عزيمتك، فها أنا أوصلك إليها، وأجمع بينك وبينها، وأعمل معكما
كما قال بعض الشعراء:
إِذَا
حَبِيبٌ صَدَّ عَنْ صَبِّهِ وَلَمْ
يَزَلْ فِي فَرْطِ إِعْرَاضِ
أَلَّفْتُ
وَصْلًا بَيْنَ شَخْصَيْهِمَا
كَأَنَّنِي مِسْمَارُ مِقْرَاضِ
ولم
يزل مرزوان يشجِّع قمر الزمان حتى أكل الطعام وشرب الشراب، ورُدَّت روحه إليه،
ونَصَل مما كان فيه، ولم يزل مرزوان يحدِّثه وينادمه ويسلِّيه وينشد له الأشعار
حتى دخل الحمام، وأمر والده بزينة المدينة فرحًا بذلك. وأدرك شهرزاد الصباح
فسكتَتْ عن الكلام المباح.
﴿اللیلة 200﴾
قالت:
بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك شهرمان لما دخل ولده قمر الزمان الحمَّام، أمر
بزينة المدينة فرحًا بذلك، وخلع الخِلَع وتصدَّقَ، وأطلق مَن في الحبوس، ثم إن
مرزوان قال لقمر الزمان: اعلم أنني ما جئتُ من عند السيدة بدور إلا لهذا الأمر،
وهو سبب سفري؛ لأجل أن أخلِّصها مما هي فيه، وما بقي لنا إلا الحيلة في رواحنا
إليها؛ لأن والدك لا يقدر على فراقك، ولكن في غدٍ استأذِنْ والدك في أنك تخرج إلى
الصيد في البرية، وخذ معك خرجًا ملآنًا من المال، واركب جوادًا من الخيل، وخذ معك
جنيبًا، وأنا الآخَر مثلك، وقُلْ لوالدك: إني أريد أن أتفرج في البرية وأتصيَّد،
وأنظر الفضاء، وأبيت هناك ليلة واحدة، فلا تشغل قلبك عليَّ بشيء. ففرح قمر الزمان
بما قاله مرزوان، ودخل على والده واستأذنه في الخروج إلى الصيد، وقال له الكلام
الذي أوصاه به مرزوان، فأذن له والده في الخروج إلى الصيد، وقال له: لا تبت غير
ليلة واحدة، وفي غد تحضر؛ فإنك تعلم أنه ما يطيب لي عيش إلا بك، وإنني ما صدقت أنك
خلصت مما كنتَ فيه. ثم إن الملك شهرمان أنشد لولده هذين البيتين:
وَلَوْ
أَنَّنِي أَصْبَحْتُ فِي كُلِّ نِعْمَةٍ
وَكَانَتْ لِي الدُّنْيَا وَمُلْكُ الْأَكَاسِرَهْ
لَمَا
وَازَنَتْ عِنْدِي جَنَاحَ بَعُوضَةٍ
إِذَا لَمْ تَكُنْ عَيْنِي لِشَخْصِكَ نَاظِرَهْ
ثم
إن الملك جهَّز ولده قمر الزمان هو ومرزوان، وأمر أن يُهيَّأ لهما ستة من الخيل،
وهجين برسم المال، وجمل يحمل الماء والزاد، ومنع قمر الزمان أن يخرج معه أحد في
خدمته، فودَّعه أبوه وضمه إلى صدره وقال له: سألتك بالله لا تَغِبْ عني إلا ليلة
واحدة، وحرام عليَّ المنام فيها. وأنشد يقول:
وِصَالُكَ
عِنْدِي أَلَذُّ نَعِيمْ وَصَبْرِي
عَنْكَ أَضَرُّ أَلِيمْ
فَدَيْتُكَ
إِنْ كَانَ ذَنْبِي الْهَوَى
إِلَيْكَ فَذَنْبِي أَجَلُّ عَظِيمْ
أَعِنْدَكَ
مِثْلِي نَارُ الْجَوَى فَأُصْلَى
بِذَاكَ عَذَابُ الْجَحِيمْ
ثم
خرج قمر الزمان ومرزوان وركبَا فرسين، ومعهما الهجين عليه المال، والجمل عليه
الماء والزاد، واستقبلا البر. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.